نقد وخواطر وتعليقات على كتب وكتابات

القمامة ؟ ومتى ظهرت المراحيض داخل البيوت في فرنسا
قال ديورانت عن فترة ماقبل منتصف القرن الثامن عشر ، وكان يتكلم عن دول اوروبا :" القمامة كانت لا تزال في أكثر الحالات تفرغ في الشوارع. وظهرت المراحيض في باريس في مطلع القرن، ولكن في بعض البيوت فقط، ولم تكن توجد إطلاقاً في غير باريس من أوربا. وكانت الحمامات ترفاً يختص به الأغنياء."(قصة الحضارة ج37 ص 271) وذلك بعد ان قال (ج37 ص268-269 ):"لقد قدر فولتير متوسط عمر الإنسان في عصره باثنتين وعشرين سنة وكان من أثر الأحياء الفقيرة المزدحمة في المدن النامية ارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، حتى بلغت أحياناً خمسين في المائة. وفي لندن كان ثمانية وخمسون في المائة من جميع الأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة...وكانت الأوبئة الآن، بصفة عامة، أخف وطأة منها في القرون السابقة، ولكنها ظلت أحد الأخطار التي تهدد الحياة. وكانت أشد هولا في الريف منها في المدن، رغم ما في هذه من أحياء فقيرة مزدحمة، لأن الفلاحين كانوا أعجز من أن يدفعوا ثمن الرعاية الطبية. وقد قتلت أوبئة التيفوس، وحمى التيفود، واجدري، ثمانين ألف شخص في برتني في سنة واحدة (سنة 1741) ... وفي باريس تلقى أكبر مستشفياتها المسمى الأوتيل ديو 251,178 مريضاً في السنوات الإحدى عشرة بين 1737 و 1748، مات منهم 61.091. وقد أفضى التهافت على "منزل الله" هذا-كما سموه- إلى حشد ثلاثة أشخاص أو أربعة أو خمسة أو حتى ستة في فراش واحد، "فكان المحتضرون والناقهون يرقدون جنبا إلى جنب... وكان الهواء ملوثاً بالإفرازات المنبعثة من هذا العدد العديد من الأجساد المريضة"(23). وكان من بين الأعمال الخيرة الكثيرة التي قام بها لويس السادس عشر في 1781 أمره بأن "يخصص سرير مستقل لكل من 2.500 مريض، وأن ينام خمسمائة مريض على أسرة مزدوجة يفصلها حاجز"
 
ايطاليا قبل وبعد زمن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقذارتها وأوحالها ووصول العلم الاسلامي اليها
قال ديورانت في قصة الحضارة المجلد 14 ص218،219)(موثقة) :" ولم تكن في روما في عهد من العهود مدينة تجارية، ولذلك ظلت آخذة في الضعف، فقد اندثر مجلس شيوخها في حروب القوط، وأضحت وأضحت نظم بلدياتها القديمة بعد سبعمائة عام من نشأتها أدوات جوفاء وأحلاماً تناقض روح الزمان، ولم يكن في وسع عامتها المؤلفين من خليط من الأجناس، والذين يعيشون عيشة قذرة يخفف من قذارتها بعض الشيء الإباحية الجنسية والصدقات البابوية، لم يكن في وسعها هؤلاء العامة أن يعبروا عن عواطفهم السياسية إلا بالثورات المتكررة على السادة الأجانب أو البابوات البغيضين. وكانت الأسر الأرستقراطية القديمة لا شغل لها إلا التنافس للسيطرة على البابوية أو التنازع مع البابوية للسيطرة على روما. وبينما كان التربيونون- محامو الشعب- والقناصل وأعضاء مجالس الشيوخ هم الذين ينفذون القانون بالعصا والحراب، أضحى النظام الاجتماعي يقوم الآن على أساس مزعزع من قرارات المجالس الكنسية ومواعظ الأساقفة، ووكلائهم، والمثل المريبة يضربها آلاف الرهبان المختلفي الأمم، وهم طائفة قلّما كانت غير متعطلة، ولم تكن على الدوام عازبة. وكانت الكنيسة قد شنت الغارة على الاختلاط الجنسي في الحمامات العامة وهجر الناس الأبهاء العظمى وحمامات السباحة الساخنة، وزال من الوجود فن الطهارة الوثني. وخُربت قنوات الشرب الإمبراطورية من جرّاء الإهمال أو الحروب فأخذ الناس يشربون مياه التيبر(11)؛ وعطلت حلبة مكسيموس Circus Maxtmus والكلسيوم Collosseum ذواتا الذكريات الدموية، وأخذت السوق العامة تعود في القرن السابع مراعي للبقر كما بدأت، وغطى الوحل أرض الكبتول، وهدمت الهياكل القديمة والمباني العامة ليأخذ من أنقاضها ما تحتاجه الكنائس المسيحية والقصور من مواد، وعانت رومة من أبنائها أكثر مما عانته من الوندال والقوط(12)، وملاك القول إن روما يوليوس قيصر قد ماتت، وإن روما ليو العاشر لم تكن قد ولدت بعد.
وتشتت محتويات دور الكتب القديمة وتلفت، وكادت الحياة الذهنية أن تنحصر في الكنيسة. وهوى العلم تحت أقدام الخرافات التي تهب الفقر خيالاً ورواء؛ وظل الطب وحده يرفع رأسه عالياً تحتفظ منه الأديرة بما ورثته عن جالينوس. ولعل مدرسة طبية علمانية قد نشأت من دير للبندكتيين في سلرنو في القرن التاسع الميلادي، فكانت هي التي سدت الثغرة القائمة بين طب الأقدمين وطب العصور الوسطى، كما سدت إيطاليا الجنوبية الهنستية الثغرة التي قامت بين ثقافة هذه العصور وثقافة اليونان: وكانت سلرنو مصحة منذ أكثر من ألف عام، وقد وصفت الرواية المحلية المأثورة كلية أبقراط التي كانت بها؛ فقالت إنها تتألف من عشرة معلمين أطباء منهم واحد يوناني وآخر مسلم، وثالث يهودي(13). وجاء قسطنطين "الأفريقي" وهو مواطن يوناني درس الطب في مدارس المسلمين بأفريقية وبغداد-إلى مونتي كسينو Monte Gassino (التي أصبح فيها راهباً)، وإلى سلرنو القريبة منها، جاء إليهما ببضاعة عجيبة مثيرة من المعارف الطبية الإسلامية. وأسهمت تراجمه للكتب اليونانية والعربية في الطب وغيره من الميادين في إحياء العلم بإيطاليا، حتى كانت مدرسة سلرنو حين وفاته حاملة لواء العلوم الطبية في بلاد الغرب المسيحية.
 
قال ويل ديورانت في قصة الحضارة المجلد 14،ص222)(موثقة):" أسبانيا المسيحية
(711-1095 ) ليس تاريخ أسبانيا المسيحية في هذه الفترة إلا حرباً صليبية طويلة الأمد منشأها تصميمها المتزايد على إخراج المسلمين منها. وكان هؤلاء المسلمون قوماً أغنياء أقوياء، يمتلكون معظم الأراضي الخصبة، وتسيطر عليهم خير الحكومات؛ أما المسيحيون فكانوا فقراء ضعفاء، وتربة بلادهم ضنينة، وتفصلهم سلاسل الجبال عن سائر بلاد أوربا، وتقسمهم إلى ممالك صغيرة، وتشجع النعرة القومية الإقليمية، والتطاحن بين الأخوة، حتى لقد أريق من دماء المسيحيين على أيدي أهلها المسيحيين ذوي العواطف الثائرة أكثر مما أريق منها على أيدي المسلمين.
 
فتح العرب مصر وفتح الاتراك قبرص وفتح الامازيغ الاندلس وفتح جميعهم كمسلمين "محررين" نفس المساحة التي شاهدها النبي والحجر على بطنه (من الجوع) في الحديبية، فتحققت أخبار ماشاهده ووعد به في المشهد وكبر -من التكبير-فرحا به، كبر مما شاهد من الفتوحات التي اخبر حدوثها على يد اصحابه في سرعة مدهشة
فشبع الناس من نعم الإسلام وطبه ونظافته وحيويته وتنعموا وأمنوا-من الأمن- ، كل الناس حتى المجوس والمسيحيين واليهود.
وانتشرت العلوم وصنعت الحضارة وبدأ العالم يتمدن، وبدأت العبودية تتفكك بالنشاط الموار المتحرك داخل النفس والخارج من نصوص المساواة الإسلامية، وكان من آليات التفكيك والزحزحة أن جعل الثواب والأجر في تحرير العبيد.. والتكفير عن الذنب المعين بتحريرهم! ، وقد خرجت الحرية من بين سطور الكتاب ..تنقل الإنسان رويدا رويدا من عالم السلعة الى عالم الانسان(المكرم ربانيا) ..انبثق العلم والعقل والحركة العلمية الموجهة من معين مخالف لما عليه الاديان والفلسفات ,اخذت أوروبا بعد قرون من الانتاج الشامل في الاسلام، وعقلت ما أخذت ، وسلكت نفس مسلك العقل الذي أنشأه القرآن في العلوم الكونية والطبيعية ، واستخدمت جميع المختبرات والآلات التي اخترعتها "ذهنية التفكير " الذهنية السببية"بمقومات الكتاب المنزل، المحرض على العلم، ووصلت للرفاهية الى الحد الذي نرى انتشاره من الآلات والمخترعات
هل تذكرون اسم نبيكم
هل تعرفون معناه؟
انه المحمود!
علم من علم وجهل من جهل
حتى الثلاجة والمكنسة الكهربائية والأفران والتلفونات والقطارات والطائرات لولا
الإسلام ولولا بعثة محمد ماكان ذلك كله، فالتوجه نحو العلوم بصورة شمولية وعامة وفي المجتمعات الفاتحة والمفتوحة بدأ بالتنزيل وتحرك
بالفتوحات و الانتشار الواسع للعلم ولتقدمه المدهش بل ونشأته من توجه واضح
للنظر في الكون والاسباب والعلل وابتكار الاجهزة والمراصد والادوات في الفلك والطب والكيمياء والصيدلة وغيرها
ان الاسلام ليس دين بالمعنى التقليدي(العلماني أو غيره مما يتخيلون أو يُخيلون!) وإنما هو توجه عقلي وروحي وعلمي وعملي تجاه الكون للاستفادة منه لصالح الانسان والمجتمع في عبودية خالصة لمن دعاهم الى الاستفادة من الكون المخلوق وتسبيحه اثناء ذلك وقبله وبعده
 
من هو هشام جعيط
باختصار انه كاتب تونسي، علماني حتى النخاح اتهم النبي بأخذ القرآن الأولي من سوريا، في حلقات تعليم لاهوتية، كان قد تسلح لها بتعلم لغات في مكة، أخذ جعيط مادته عن المستشرقين لكن هذا المحور(الذهاب الى سوريا والتعلم هناك في زيارات طويلة وقصيرة، اخترعه هو، ولم يأت عليه بدليل واحد، وكتب في ذلك كتابين كلها خيالات المستشرقين وزبالات عقولهم، وهو في هذا المقال قال انه كتب جزء ثالث، وتكلم عن المستشرقين في غفلة من علم القارئ بما اخذه هو عنهم وعموما هذا الرجل من عتاولة الجهلة الكبار وقد كتب عنه الدكتور الغالي إبراهيم عوض، وقد كتبت عنه اكثر من مقال في سلسلة انهيار الاستشراق كما اني انتهيت تماما من كتابة فصل كامل عنه في كتابي اقطاب العلمانية3(مخطوط)
هؤلاء لايتكلمون في الحركة الاسلامية فقط وانما يتكلمون بالقدح في النبوة ويزعم هذا العلماني ان الرسول تعلم اللغات وسافر الى سوريا لترجمة اسفار مسيحية من كنيسة معرفة
المقال او الحوار المشار اليه كان مع جعيط بتاريخ 22 يونيو 2015 تحت عنوان المفكر هشام جعيط: الحركات الإسلامية الراهنة تنظيمات إيديولوجية - موقع العربي الجديد
 
اصيبت قريش واصيب النبي
حتى دخل مكة بعد مايقارب ال20 عاما منتصرا ومحررا ورحيما وفاتحا
وبعدها تغير العالم وتغيرت وجهته وجغرافيته وتاريخه
فانطلق الناس من جبال مكة الى جبال البرانس
وانضمت غطفان الى البربر
وقريش الى الكرد
والاندلسيين الى العرب
فصغرت المحنة
وصارت الملايين تؤمن بالنبي وعاشت ملايين في ظلها في حرية في كفرها لايكرهون على امر من امور الناس
بل حمدوا للاسلام والمسلمين بذلهم وشهداءهم وعلمهم وطبهم ودواءهم وجناتهم وتنويرهم وحماماتهم وزروعهم وفلكهم وهندستهم وتشريحهم وعملياتهم وشعرهم وحريتهم وتسامحهم وفروسيتهم
فصار محمد الرسول محمودا على كل حال فلله الحمد والمنة على رسول رسمه في اسمه صلى الله عليه وسلم
 
حدث في هولندا منذ سنوات(6 مايو 2002م)
كان بم فورتاون -مواليد 1948،-يستعد ويعد الناس انه سيكون رئيس وزراء هولندا
وكان شديد البغي على الاسلام فيرميه بأنه " ديانة حمقاء"
وكان يشتم في الحجاب ليل نهار
كنت انظر اليه في كل حلقة تلفزيونه يصعدونه فيها وارى أنه لن يبقى طويلا وأن إمهال مثله لم تذكره السنن التاريخية.
(اتذكر تماما الآن منظره وهو في غاية الشياكة، كارفاته حمراء وبدلة رائعة ..يشعر بالعلو والزهو والتمكين، ساعتها دارت في رأسي خواطر ربانية كثيرة عن السنن القرآنية )
كان من الشواذ-هذا معروف وله صديق يظهر في التلفزيون احيانا ومعه كلبه الصغير!
كان الجو ملبدا بالغيوم ومكفهرا جد جدا
وبدأ كثيرون يميلون إلى آراءه.
والمسلمون يحاولون التعايش والصبر والنفس الطويل كما أن غيره من السياسيين الهولنديين لايعرفون ماذا يفعلون فقد كان الرجل في غاية النشاط والحيوية والعناد
وفجأة وبعد خروجه من باب مكتب برنامج راديو الذي ، كان قد انتهى للتو من عمل لقاء معه، ووقد أكد منذ دقائق مضت :(سأكون رئيس وزراء هولندا القادم) أُوردي قتيلا في الحال!!
في خلال ساعات والجو مكهرب والمسلمون يستعدون لتلقي التهمة كالعادة
تم القاء القبض على مرتكب الحدث
انه شاب هولندي أشقر " ملحد" ينتمي الى منظمات الدفاع عن " الحيوان!!!!"
من عجائب التصاريف!!!!
بعد فورتاون جاءت ايشي علي وجاء فيلدرز وفعلوا نفس فعلته.
 
منذ اسبوعين تكلمت مع رجل هولندي وزوجته عاصرا احداث الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن الرجل فظ غليظ على زوجه (أحيانا ينهرها ويجذبها بعنف أمام الناس) الا أنها لو غضبت لذلك وتخلفت عنه في مرافقته لوجبة الطعام فإن الرجل يدور حول نفسه ويسأل هل وصل لها الطعام؟
ليس هذا هو غرض حكايتي عنهما اليوم وإنما ماحكياه لي عن الحالة للسكان الهولنديين في الحرب العالمية الثانية حتى عام 1945، فكما قال ردا على سؤالي: في بداية الحرب كانت الأمور على مايرام لكن عام ٤٤ بدأت الأمور تسوء
حتى إن الآلاف المؤلفة من الهولنديين ماتوا من الجوع
ماكنا متوقعين ان تنتهي الحرب
قال لو استمرت الحرب عاما اخر لهلك الناس كلهم وماتوا
طال الحديث وكانت المرأة العجوز تهز رأسها كلما حكى زوجها شئ من الوقائع المؤلمة وكانت تردد : كانت اياما عنيفة وأتمنى الا تعود
ثم أشارت على قدميها أو رجليها وقالت إن فيها علامة أو " أثر" من تأثير المجاعة (ما أثار دهشتي)
أمن تأثير الجوع..
قالت نعم، ماكان يوجد طعام!.(كانت يومذاك طفلة في التاسعة من العمر)
ورغم حكاياته عن وحشية الألمان إلا أنها قالت فجأة: كان من بينهم من هو إنسان فمرة جاء احدهم وفي يده قطعة خبز كبيرة وطرق بابنا وأعطاها لنا
أضافت :وكان بعضهم يحكي انه مكره على الحرب
هز صاحبنا رأسه على الموافقة: نعم كان منهم من هو إنسان حقا.
حكي لي ، أيضاً، عن معسكرات الإعتقال في سيبيريا وكيف مات هناك الآلاف
ذكرتني هذه القصة بالمرأة الهولندية،التي حكت لي ان آخر ماأكلته كان تلك القطة الأليفة التي لي-قالت-
كما ذكرتني بااخرى حكت لي كيف ان أباها كان يأوي ثوار ضد الألمان في مخابئ أسفل البيت وأنها كادت وهي طفلة ان تدل عليهم ببراءتها الطفولية كما عبرت عن ذلك بكلماتها.
كما ذكرني ذلك بالرجل الهولندي الذي بلغ ال90 عاما وكنت أسامره كثيراً واستمع لحكاياته ، ماأتذكره الآن هو ماحكاه من أنه كيف كان يتسلل الناس -من الجوع- الى حديقته ويسرقون منها الفواكه
 
قال ويل ديورانت من كتابه الموسوعي قصة الحضارة ج30 ص43) :" فإن ضراوة دوق ألفا ومحاكم التفتيش أخرجت الصناع الهرة والتجار البروتستانت إلى هولندة ألمانيا وإنجلترا، وصرامة الكلفنية أتلفت الكنائس، وعنف الأسبان نهب البيوت وأحرق القصور، كما أن ضراوة فرنسا أفرغت عجزها في الدماء، والحصار الذي ضربه فانز لمدة أربعة عشر شهراً أمات الكاثوليك والبروتستانت جوعاً على حد سواء. وأخيراً انضم الكاثوليك إلى البروتستانت في الخروج من المدينة، وانتقلت تجارة أنتورب إلى أمستردام وروتردام وهارلم وهمبرج ولندن وروان.
ولكن وحشية الإنسان متقطعة، وسهلة التكيف عنده باقية. وقد يكون لنا بعض السلوى في أن نتبع كيف أن بعض الأمم والمدن استطاعت بسرعة أن تنهض من دمار الحرب ووبالاتها."
 
" فما أسخف أن يعاقب الناس في الدنمرك لأنهم غير لوثريين، أو في جنيف لأنهم لا يتبعون مذهب كلفن، أو في فيينا لأنهم لا يعتنقون المذهب الكاثوليكي. وفوق كل شيء، أي فرد أو أية جماعة أتيح لها إدراك الحقيقة كاملة عن حياة البشر ومصير الإنسان؟ ولحظ لوك أن معظم الديانات تنادي بالتسامح في أيان ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها.. ورأى أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة، والحقد المقنع في ثياب الغيرة الدينية. والاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق، وكيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب
والإساءة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالبر والإحسان ومحبة الناس؟"(قصة الحضارة لديورانت ج34 ص 62)
وقال ج34 ص61-62 ):" ومهما يكن من أمر، فإن لوك ألح على أن تتمتع بالحرية الكاملة في إنجلترا كل المذاهب المسيحية فيما خلا الكثلكة
 
يقول ديورانت في قصة الحضارة عن الفيلسوف بيير بيل ابو التنويريين في اوروبا وهو الذي سكن مدينة روتردام الهولندية " واتخذ بيل نفس الحيطة حين افتتح واحدة من أكبر الدوريات في ذلك العصر: "أنباء جمهورية الأدب". وظهر العدد الأول منها في مائة وأربع صفحات، في أمستردام في مارس 1684 وعرضت المجلة أن تزود قراءها بكل التطورات الهامة في الأدب والعلوم والفلسفة والبحوث والكشوف والتاريخ الرسمي. ومبلغ علمنا أن بيل نفسه كتب محتويات المجلة شهراً بعد شهر لمدة ثلاثة أعوام. وقد ندرك مبلغ الجهد الذي استلزمه هذا العمل. وسرعان ما أصبح استعراضه للكتب ذخيرة قوية في دنيا الأدب. وفي 1685 جمع أطراف شجاعته وأعلن أنه المؤلف"
وقال ديورانت ج34 ص 84:"وعرض بيل كتاب ميمبورج في مجلد من الرسائل ظهر في
1682. وعجب كيف يتسنى لرجل التزم التزاماً قوياً بمذهب معين، أن يكتب تاريخاً صادقاً نزيهاً غير متحيز. كيف يمكن أن يوثق في مؤرخ مثل ميمبورج نعت معاملة لويس الرابع عشر لهيجونوت (قبل 1682) بأنها معاملة "عادلة رقيقة كريمة؟" ووجه الخطاب إلى لويس الرابع عشر، فكتب من هولندا التي كانت فرنسا قد اجتاحتها حديثاً بشكل وحشي أثيم، متسائلاً: أي حق لملك في فرض مذهبه الديني على رعاياه؟ وإذا كان له هذا الحق، لكان للأباطرة الرومان ما يبرر اضطهادهم المسيحية. وذهب بيل إلى أن الضمير هو وحده الذي يحكم عقيدة المرء. ورد ميمبورج على ذلك رداً حاسماً بالحصول على أمر من لويس الرابع عشر بإحراق أية نسخة توجد في فرنسا من كتاب بيل بواسطة السلطات المختصة".
النصوص موثقة
 
وعن حرب الثمانين عاما والتي قتل فيها قساوسة ، ونهبت كنائس ، واحرقت مدن وفعل البروتستانت مافعله الكاثوليك بهم، يقول ويل ديورانت ج30 ص21) :" كلفنيين متحمسين أبدوا ضد الكاثوليك من ضروب الوحشية والضراوة ما أبدته محاكم التفتيش ومجلس الدم نحو الثوار والهراطقة. وفي كثير من الحالات لم يتركوا للأسرى الكاثوليكية إلا الخيار بين الكلفنية أو الموت، وكانوا يقتلون دون تردد، وفي بعض الأحيان بعد تعذيب لا يصدق، كل من تمسك بأهداب العقيدة القديمة(31). وأعدم كل ن طرفي النزاع كثيراً من أسرى الحرب. وكتب مؤرخ بروتستاني يقول:
في أكثر من مناسبة رئي الرجال يشنقون...اخوتهم هم أنفسهم الذين وقعوا أسرى في صفوف الأعداء... ووجد سكان الجزر لذة وحشية في ضروب القسوة هذه، ولم يعد الأسباني في نظرهم فرداً من بني الإنسان. وذات مرة انتزع أحد الجراحين قلب سجين أسباني، وثبته بالمسامير في مقدم السفينة ودعا الأهالي ليغرسوا أسنانهم فيه، وفعل كثير منهم هذا في ارتياح وحشي" وقام دوق فدريجو ألفارث دي توليدو باستعادة (ج30 ص21) :" ومعاقبة المدن التي كانت قد أعلنت تأييدها لوليم أو استسلمت له. فبدأ ألفارث بمدينة مكلين التي أبدت أقل مقاومة، حيث خرج القساوسة والأهالي في موكب نادمين، يرجون الصفح والإبقاء على المدينة، ولكن ألفا كان قد أمر بانتقام تكون فيه موعظة وعبرة. فظل جنود فدريجو لمدة أيام ثلاثة ينهبون البيوت والأديار والكنائس، ويسرقون الحلي والأردية الثمينة من التماثيل المقدسة. ويطأون الفطائر المقدسة تحت الأقدام، ويذبحون الرجال ويستحيون النساء، كاثوليك أو بروتستانت على حد سواء وفي طريق تقدمه إلى جلدرلند، تغلب جيشه على الدفاعات الهزلية في زوتفن، وقتل كل رجال المدينة تقريباً. وعلق بعضهم من الأقدام، وأغرق خمسمائة منهم يربطون زوجاً زوجاً، ظهراً لظهر، والإلقاء بهم في نهر ايسل. واستسلمت بلدة ناردن الصغيرة بعد مقاومة قصيرة، وحيت الأسبان الغزاة بموائد زخرت"
وكانت معارك(في حرب الثمانين عاما) تمت بوحشية كبيرة وفي ذلك يقول ويل ديورانت ج30 ص25) :" ودعم المتمردون مرة أخرى من حجج وليم، ذلك أنهم في 4 نوفمبر 1576 استولوا على أنتورب، وأعملوا فيها السلب والنهب، على أسوأ شكل عرفه تاريخ الأراضي الوطيئة. وقاوم المواطنون ولكنهم غلبوا على أمرهم، وقتل منهم سبعة آلاف، وأحرق ألف مبنى كان بعضها من روائع العمارة. وذبح الرجال والنساء والأطفال في طوفان من الدماء بأيدي الجنود وهم يرددون الصيحات: "سان جيمس، أسبانيا، الدم، الموت، النار، السلب، النهب" وطوال تلك الليلة عاث الجنود في المدينة الغنية، وسلبوا كل بيت فيها تقريباً، ورغبة في انتزاع الاعتراف بالذخائر المخبأة، أصيلة أو زائفة، عذبوا الآباء على مرأى من أطفالهم، وذبحوا الصبية وهم في أحضان أمهاتهم، وضربوا الزوجات بالسياط حتى الموت أمام أعين أزواجهن. واستمر هذا العنف "العنف الأسباني" يومين حتى أتخم الجنود بالذهب والحلي والملابس الثمينة، وبدأ الواحد منهم يقامر الآخر بغنائمه في الشوارع المكتظة بجثث الموتى.
، وقال عن هولندا(اثناء حرب الثمانين عاما) ج30 ص26-28) :" وكان يمكن للتسامح المتبادل في الخلافات الدينية وحده يبقى على هذا الاتحاد أو الترابط، ولكن التعصب مزقه. فإن الكلفنيين في هولندا والكاثوليك في أسبانيا اعتقدوا جميعاً بأن الكفار وحدهم الذين يستطيعون أن يبدوا تسامحاً. وقال كثير منهم صراحة بأن وليم أورنج ملحد(38)، واتهمه الواعظ الكلفني بيتر داتينوس، بأنه جعل من السلطة معبوده الوحيد، وأنه يغير عقيدته كما يغير الناس ملابسهم(39). وكان المكلفنيون (وظلوا
حتى 1587) يشكلون عشر السكان فقط في مقاطعة هولندا، ولكنهم كانوا نشيطين طموحين ومسلحين. وكانت لهم السيطرة على الجمعيات السياسية، فأحلوا حكاماً وقضاة بروتستانت محل الكاثوليك، وفي 1573 حظر مجلس المقاطعة العبادة الكاثوليكية في هولندا(40)، على أساس أن أي فرد كاثوليكي يحتمل أن يكون خادماً لأسبانيا. ولن تأت 1578. إلا وقد عمت الكلفنية زيلندة تقريباً، وكانت م الوجهة السياسية-لا العددية-متسلطة في فريزلند واكتسحت موجات تحطيم الصور المقدسة هولندا وزيلندة 1572، ومقاطعات أخرى، حتى الفلاندرز وبرابانت ، بعد 1576. وأنكروا أي ربط بين الدين والفن باعتباره عملاً وثنياً دنساً. وجردت الكنائس من الصور والتماثيل والصلبان والزخارف، وصهرت الأواني الذهبية والفضية، ولم يبق إلا الجدران العارية، وعذب "المتسولون" القساوسة الكاثوليك، وأعدموا نفراً منهم(41).
واستنكر وليم كل هذه التصرفات، ولكنه تغاضي(42) عن استيلاء الأقليات الكلفنية المسلحة السياسية في بروكسل وايبر وبروجز وكل شمال الفلاندرز(43). وفي غنت سجن الكلفنيون أعضاء المجلس، ونهبوا الكنائس والأديار وأتلفوا أجزاءها الداخلية، وصادروا أملاك الكنيسة، وحرموا إقامة الطقوس الكاثوليكية، وأحرقوا الرهبان في ساحة السوق(44)، وأقاموا جمهورية ثورية (1577). وفي امستردام اقتحم الكلفنيون المسلحون دار البلدية (24 مايو 1578)، وطردوا القضاة والموظفين، وأحلوا محلهم كلفنيين، وخصصوا الكنائس التي جردوها لمذهب الصلاح. وفي اليوم التالي قامت ثورة مماثلة بمثل هذا العمل في هارلم. وفي أنتورب التي كانت آنذاك مقر قيادة وليم أخرج البروتستانت القساوسة والرهبان من المدينة (28 مايو)، وأنب الأمير أتباعه تأنيباً شديداً على هذا العنف. وخصهم على السماح باستثناء الطقوس الكلثوليكية. ولكن في 1581 حرمت كل عبادة كاثوليكية في أنتورب وأوترخت. واتهم الكلفنيون القساوسة بأنهم كانوا يخدعون الناس بالمخالفات الزائفة والكرامات التي يفتعلونها-وعرض قطع من "الصليب الحقيقي، وعظام قديمة للتعبد على أنها رفات القديسين، وإخفاء الزيت في رؤوس التماثيل حتى ترشح في الوقت المناسب"
وقال عن الكاثوليك وقتلهم لنساء واطفال البروتستانت ج30 ص29-30) :" وفي 5 يناير 1579 شكل جماعة من النبلاء الكاثوليك، من هينوت ودوا وأرتوا وليل، بإيحاء من أسقف آراس، شكلوا عصبة آراس لحماية عقيدتهم وممتلكاتهم وفي 29 يناير شكلت مقاطعات هولندا وزيلندة وجروننجن وأوترخت وجلدرلند، "اتحاد أوترخت، للدفاع عن عقيدتهم وحرياتهم. وسرعان ما انضم إليها فريزلند، وأوفريسل. ومن هذه "المقاطعات المتحدة" السبع تتكون اليوم الأراضي الوطيئة الهولندية، وأصبحت المقاطعات الباقية هي "الأراضي الوطيئة الأسبانية"، وصارت في القرن التاسع عشر بلجيكا وحدد تقسيم المقاطعات السبع عشرة إلى أمتين على هذا النحو. سيطرة الكاثوليكية في الجنوب والبروتستانتية في الشمال...وفي 12 مارس 1579 قاد بارما جيشاً كبيراً ضد ماسترخت الواقعة في موقع حصين على النهر المسمى باسمها. وأتى الفريقان كلاهما بالأعاجيب من أعمال البطولة وضروب الوحشية وحفر المهاجمون أميالاً من الممرات تحت الأرض ليبثوا الألغام ويفتحوا المدينة، كما حفر المدافعون-النساء والرجال جنباً إلى جنب-ممرات ليقابلوهم؛ ودارت رحى القتال حتى الموت في باطن الأرض. وصب الماء المغلي في الأنفاق، وأشعلت الحرائق لتملأها بالدخان. واحترق مئات المحاصرين المهاجرين أو اختنقوا حتى الموت. وانفجر أحد الألغام قبل أوانه فأودى بحياة خمسمائة من رجال بارما. وعندما حاول جنوده تسلق السور قابلتهم الجمرات المحترقة، وقذفت حول أعناقهم النار الملتهبة. وبعد أربعة أشهر من الجهد المضني والضراوة والعنف، أحدث المحاصرون ثغرة في السور، نفذوا منها خفية في الليل، وفاجأوا المدافعين المنهوكين وهم نيام وذبحوا منهم ستة آلاف من الرجال والأطفال والنساء ولم يبقَ من سكان المدينة البالغ عددهم ثلاثين ألفاً، على قيد الحياة آنذاك سوى أربعمائة. وعمرها بارما من بعدهم بالموالون الكاثوليك. تلك كانت كارثة عظمى حلت بالبروتستانت".
 
قال ديورانت في قصة الحضارة المجلد 34 ص 87(موثق):"وفي تلك الأثناء وقع أربعة من أسرة بيل فريسة اضطهاد الهيجونوت في فرنسا. وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعنف اضطهاد القوات الفرنسية للبروتستانت، ماتت أمه في 1681، ومات أبوه في 1685، وفي نفس العام سجن أخوه ثم قضى نحبه نتيجة للتعذيب والقسوة. وبعد ذلك بستة أيام ألغى مرسوم نانت. وصعق بيل لهذه التطورات، ولم يكن له ، مثل فولتير، من سلاح غير قلمه، وفي 1686 تحدى الطغاة المستبدين بإحدى الروائع في أدب التسامح الديني.
وكان عنوان هذه الرسالة "تعليق فلسفي على كلمات يسوع المسيح": أخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول. (لوقا 14-23).
وكان هؤلاء الطغاة الوحشيون قد التمسوا سنداً لإجراءاتهم التعسفية في القصة التي رواها المسيح عن الرجل الذي قال لعهده، حين لم تلب ضيوفه دعوته إلى عشاء عظيم أعده لهم "أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل إلى هنا المساكين والجدع. والعرج والعمي.... وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي(18)" (إنجيل لوقا-14: 16-23). .......
 
قال ويل ديورانت عن بيل في قصة الحضارة ج34 ص 88:" واستنكر بيل اضطهاد البروتستانت للكاثوليك، والمسيحيين لغير المسيحيين، والعكس بالعكس سواء بسواء. وعلى النقيض من لوك، اقترح بيل أن تمتد حرية العبادة أو اللاعبادة إلى اليهود والمسلمين والمفكرين الأحرار.
 
" ولم تكن هولندا رغم التسامح الذي سبقت به غيرها من بلاد اوروبا متسامحة للدرجة التي نتصور فهذا صديق لاسبينوزا يحاكم على نقد المسيحية: وثمة صديق آخر من رايزنبرج أورليان كورباج، استدعي للمثول أمام إحدى محاكم أمستردام (1668) بتهمة دأبه على معارضة اللاهوت السائد، وسعى أحد القضاة إلى توريط سبينوزا في القضية باعتباره مصدر هرطقة كورباج، ولكن هذا أنكر أية علاقة لسبينوزا بالأمر، فأنقذ الفيلسوف. ولكن حكم على المهرطق الشاب بالسجن عشر سنين، حيث قضى نحبه بعد أن أمضى فيه خمسة عشر شهراً. ومن هنا ندرك لماذا لم يتعجل سبينوزا طبع مؤلفاته.
وفي يونيه 1663 انتقل إلى فوربورج قرب لاهاي. وأقام لمدة ستة أعوام في بيت أحد الفنانين يصقل العدسات، ويؤلف "الأخلاق". وكانت المقاطعات المتحدة في حرب دفاعية مستميتة ضد لويس الرابع عشر، وقد أزعج هذا الحكومة الهولندية ودعاها إلى فرض قيود أشد صرامة على حرية التعبير عن الآراء. ومع ذلك نشر سبينوزا في 1670، دون أن يفصح عن اسمه "رسالة اللاهوت والسياسة" أصبحت حدثاً أو معلماً هاماً من معالم نقد الأسفار المقدسة. وأوضحت صحيفة العنوان في رسالة اللاهوت والسياسة "الغرض منها": وهو إيضاح أنه يمكن منح حرية الفكر والكلام دون تحيز للدين والسلام العام، كما أنه يمكن كذلك عدم كبت هذه الحرية دون تعريض الدين والسلام العام للخطر". وتنصل سبينوزا من الإلحاد وأنكره، وأيد أساسيات العقيدة الدينية. ولكنه أخذ على عاتقه إظهار قابلية الإنسان للخطأ في هذه الأسفار المقدسة، وهي ما بنى عليه رجال الدين الكلفنيون لاهوتهم تعصبهم، وكان رجال الدين في هولندا يستخدمون نفوذهم ونصوص الكتب المقدسة لمناهضة الجماعة التي تزعمها "دي ويت" والتي أيدت الفكر المتحرر ومفاوضات السلام، وكان سبينوزا مخلصاً أشد الإخلاص لهذه الجماعة ولجان دي ويت"(قصة الحضارة ج34 ص 112)
 
في سياق الاوضاع التي كان يعيش فيها اسبينوزا فانه:""أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية(174)" واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم(175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا "أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح(176)". وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره"(قصة الحضارة ج34،ص151)
 
عن الفليسوف هوبز يقول ديورانت ح34 ص 22:"ولم يتزوج الفيلسوف قط، ولكن يبدو أنه كان له ابنة غير شرعية وفر لها سبل العيش الكريم بسخاء"
 
قال ديورانت:" كان علم النفس الذي جاء به هوبز رائعة الاستنتاج من مقدمات غير وافية، وقد يبدو منطقياً لأول وهلة، ولكنه مفكك الأوصال مهلهل بما فيه من فروض غير دقيقة وبما صوب منها مزيد من التحقيق والتمحيص والحتمية منطقية، ولكن قد يحددها طراز منطقناً ويشكلها معالجتنا للأشياء لا الأفكار. ووجد هوبز مشقة في أن يتصور أن أي شيء غير مادي" ج34 ص23قال ج34 ص24:" ويفضل أبحاث علم النفس هذه، طور لوك كتابه الأكثر دقة وتفصيلاً "رسالة في العقل البشري". وفي الرد على هوبز، (لافلمر)، كان تطوير لوك لرسالته عن الحكومة. وأعادت فلسفة هوبز السياسية صياغة ميكيافللي بلغة شارل الأول، ونبعث هذه الفلسفة من الاستبدادية المطلقة الموفقة التي انتهجها هنري الثامن وإليزابث في إنجلترا، وهنري الرابع وريشيليو في فرنسا، كما أنه لا ريب في أنها استمدت بعض القوة من مخالطته لأصدقائه الأدواق والملكيين المهاجرين. ومن حيث الأثر المباشر بدا أن لهذه الفلسفة ما يبررها، في العودة السعيدة لملك من آل ستيوارت ما زال يدعى ويطالب بسلطان مطلق غير محدود، وينهي فترة من الفوضى المدمرة. ولكن بعض الإنجليز النابهين أحسوا بأنه إذا كانت موافق الهمجيين "القذرين المتوحشين" كافية لإقامة حكومة، فإنه موافقة الناس، وهم في حالة يفترض أنها أكثر تقدماً ورقياً، قد يكون من شانها أن تكبح جماح هذه الحكومة أو تطيح بها. وهكذا نجد في الثورة الجليلة 1688 أن فلسفة الحكم الاستبدادي المطلق سقطت أمام إعادة البرلمان توكيد سيادته، وسرعان ما حل مكانها تحررية "ليبرالية" لوك التي تدعو إلى تحديد السلطات والفصل بينها. وبعد ديمقراطية القرن التاسع عشر النسبية، التي نمت في إنجلترا التي يحرسها القنال، وفي أمريكا التي تحميها البحار، عادت استبدادية مطلقة معدلة في دول دكتاتورية تمارس رقابة حكومية على الحياة والممتلكات والصناعة والدين والتعليم والمطبوعات والفكر. وتخطت الاختراعات الجبال والخنادق، واختفت الحدود، وتلاشت العزلة القومية والأمن القومي. إن نظام الحكم المطلق ابن الحرب، والديمقراطية ترف السلم".
تحت عنوان اصطياد الدب ويقصد الفيلسوف هوبز قال ديورانت، في قصة الحضارة ج34 ص21:" وهك الملك الذي أستعاد عرشه لإنقاذ الفيلسوف. ذلك أن شارل الثاني بعد وصوله إلى لندن بزمن قصير، رأى هوبز في الشارع، وعرف فيه معلمه السابق، ورحب به في البلاط. وكان بلاط عودة الملكية ينزع بالفعل إلى شيء من التشكك الديني ويدافع عن الملكية المطلقة، ومن ثم وجد في فلسفة هوبز بعض العناصر التي تتمشى مع الأفكار السائدة في هذا البلاط. ولكن رأسه الأصلع وشعره الأشيب وزيه الشبيه بزي اللبيوريتانيين، كل أولئك مدعاة للسخرية. وأطلق عليه الملك شارل نفسه أسم الدب، وكلما اقترب منه قال: "ها قد جاء الدب لنقدم له الطعم ونغويه(61)". ومع ذلك استساغ الملك إجاباته البارعة وسرعة بديهيته، وأمر برسم صورة للفيلسوف العجوز، وتعليقها في حجراته الخاصة، وخصص له معاشاً سنوياً قدره مائة جنيه، ولم يكن الراتب يدفع بانتظام، ولكنه مع ذلك، بالإضافة إلى خمسين جنيهاً أخرى في السنة من أسرى كافندش، كان كافياً لسد حاجيات الفيلسوف البسيطة"
هوبز- ولد في 5 إبريل 1588(بداية المجلد34) من قصة الحضارة(ص5) لويل ديورانت
وفي 1629 نشر ترجمة لتيوكيديدس (المؤرخ اليوناني في القرن الرابع ق.م) وكان غرضه السافر المزعوم من ذلك هو أن يحذر إنجلترا من أخطار الديموقراطية. وفي تلك السنة أستأنف رحلاته، معلماً آنذاك لأبن أول تلاميذه، أرل ديفونشير الثالث. وربما قوت زيارته لجاليليو (1636) من نزوعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية.
وعاد إلى إنجلترا في 1637، ولما أشتد الصراع بين البرلمان والملك شارل الأول، كتب رسالة بعنوان "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي"، دافع فيها عن السلطة المطلقة للملك، بوصفها أمراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وجرى تداول هذه الرسالة مخطوطة، وربما- كانت تؤدي إلى القبض على المؤلف لولا أن شارل حل البرلمان...وفي باريس كسب صداقة مرسن وجاسندي، ولكن جلب على نفسه عداوة ديكارت. فإن مرسن دعاه إلى تدوين بعض التعليقات على "تأملات" ديكارت، فاستجاب هوبز في شيء من الكياسة ولكن في كثير من الحدة، ولم يغتفر له ديكارت هذا قط
 
"وبرز أقوى تأثير لفلسفة هوبز في "ماديته". وسرت "أفكار هوبز" من الجماعات المفكرة إلى طبقات المهنيين ورجال الأعمال. وفي هذا قال بنتلي الغضوب 1693 "لقد زخرت بها الحانات والمقاهي بل وستمنسر هول (البرلمان) والكنائس ذاتها كذلك(64)". وتقبلها كثير من رجال الحكومة فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم في العلن حجبوها باحترام أبدوه للكنيسة الرسمية على أنها شكل مفيد للانضباط الاجتماعي لا يقوم على تدميره إلا الحمقى والأغبياء. وأثرت هذه الفلسفة المادية في فرنسا في تشكك بيل، وأتت عليها تطورات أشد جرأة عند لامتري ودي هولباخ وديدرو" (قصة الحضارة-ويل ديورانت ج34 ص25)
كل ماتقدم موثق من المرجع المطبوع
 
قال ديورانت في قصة الحضارة ج34 ص 25:"في الوقت الذي دافع فيه هوبز عن ملكية مزعجة موجعة، اقترح جيمس هارنجتون يوتوبيا ديموقراطية، والآن وقد كانت الكشوف الجغرافية والتجارة تفتح آفاقاً سحيقة من الكرة الأرضية، وجاءت الأساطير إلى أوربا مع كل بضاعة من وراء البحار، فقد كان من اليسير على أرباب الخيال والقلم أن يسبحوا في الخيال إلى ركن سعيد على الخريطة-إلى القمر أو إلى الشمس مثل سيرانو دي برجراك وتوماسو كمانللا-ركن قد تخزي أعرافه السياسية والاجتماعية طغيان الناس الذين تظلهم "المدنية" وبؤسهم...وهكذا قدم هارنجتون في 1656 إلى مقاهي لندن "الاقيانوسة". ولد هارنجتون في بيت كريم، وكان طبيعياً أن ينحاز إلى فلسفة سياسية تناصر صغار مالكي الأرض في إنجلترا. وبعد تخرجه في أكسفورد طاف بإرجاء القارة، وأعجب بجمهورية الأراضي الوطيئة، وخدم في جيشها، وزار البندقية، وتأثر بنظمها الجمهورية، ورأى البابا وأبى أن يقبل إصبع قدمه، ولما عاد إلى إنجلترا اغتفرت له كل خطاياه حين ذكر لشارل الأول إنه لم يستطع أن يفكر تقبيل قدم أي سيد أجنبي بعد أن سبق له تقبيل يد ملك إنجلترا. وعندما اعتقل شارل عين البارلمان هارنجتون لملازمته. فأحب السجين البائس، ولكنه أوضح له أن "الجمهورية" أمر مرغوب فيه. ولازمه حتى النهاية، وكان على المنصة ساعة إعدام شارل، ويقولون أنه كاد يموت جزعاً وحزناً). وهدأ من روعه مولد "الجمهورية الإنجليزية"، فأنصرف إلى شرح آرائه الجمهورية في شكل روائي.
 
لم تكن الديمقراطية المزعومة كما يوحون لنا اليوم وهذا مثال، وكان قبله ماهو شنيع، وها يعني أن العالم الحديث لم ينزل مرة واحدة من السماء كما أن اجياله القديمة عانت وتحت ظل فلسفات ليست نهائية بل فيها من الظلم والعنت مافيها
يقول ديورانت في قصة الحضارة ج34 ص 26-28:" ويقول هرنجتون بأن السيطرة السياسية تتبع، بشكل طبيعي وبحق، السيطرة الاقتصادية، وبهذا الانسجام وحده يمكن لأية دولة أن تنعم بالاستقرار. "على قدر ما يكون التناسب في ملكية الأرض تكون طبيعة الإمبراطورية- أي الحكومة(67)". فإذا امتلك فرد واحد الأرض كلها (كما هو أقلية لأصبحت الحكومة "ملكية مختلطة" تؤيدها كما تحد من سلطانها الأرستقراطية. "وإذا كان كل الناس ملاكاً للأرض، أو إذا وزعت الأرض بينهم، بحيث لا يطغى فرد أو مجموعة أفراد، فإن الإمبراطورية أي الحكومة (دون فرض بالقوة) تكون دولة جمهورية(68)" ورد هانجتون على هوبز الذي ذهب إلى أن كل الحكومات تستند إلى القوة، رد عليه بأنه لا بد من إطعام الجيوش وتسليحها، ومن ثم تنتقل السلطة إلى أولئك الذين يوفرون المال اللازم لهذا وذاك(69). أن أي تغيير في توزيع الملكية. وعلى هذا الأساس فسر هارنجتون انتصار البرلمان الطويل، حيث كان يمثل صغار الملاك على الملك الذي كان يمثل كبارهم.
وللحيلولة دون أن تصبح الحكومة أوليجاركية من ذوي الضياع الكبير، اقترح هارنجتون قانوناً "لإعادة توزيع الأراضي توزيعاً عادلاً" يحدد للفرد الواحد أرضاً لا تدر أكثر من ألفي جنيه في العام. إن الديموقراطية الفعلية تتطلب التوسع في توزيع الملكية، وخير ديموقراطية هي التي يكون فيها لكل مالك أرض دورة عمل في الحكومة وفي الجمهورية الإنجليزية الحقة يمكن للمواطنين أن يرسلوا ملاك الأراضي ليعملوا في جمعية شعبية وسناتو (مجلس الشيوخ). والسناتو وحده يقترح القوانين، والجمعية وحدها تقرها أو ترفضها. ويسمى أعضاء السناتو المرشحين للوظائف العامة، وينتخب المواطنون من هذه القائمة الحكام بالاقتراع السري(70). وفي كل عام يحل محل ثلث أعضاء الجمعية والسناتو والحكام أفراد آخرون في انتخاب جديد. وفي هذه الدورة يتسنى لكل ملاك الأرض أن يكون لهم في النهاية دور للعمل في الحكومة. أن هذا الانتخاب الشعبي يحمي المجتمع من المحامين الذين يخدمون المصالح الخاصة، ومن رجال الدين-"وهم الأعداء السافرون الألداء لسلطة الشعب(71)". ولسوف يكون هناك تعليم عام شامل وفي مدارس وكليات وطنية، وحرية تامة مطلقة في العقيدة الدينية. "وكانت النظرية أخاذة جذابة جداً. "كما قال أوبري. وسرعان ما وجدت مؤيدون متحمسين لها. وجمع هارنجتون بعضهم (ومن بينهم أوبري) في أحد نوادي "روتا" Rota (1659) حيث أهاجوا الشعور العام للمطالبة بتشريع برلماني يقر هذه الجمهورية الدورية التي أقترحها هارنجتون الذي نسب الانهيار الذي أصاب الدولة آنذاك إلى عجزها عن مصادرة الضياع الكبيرة وإعادة توزيع الأرض على بمساحات أصغر، وكان هذا سبباً في احتفاظ النبلاء بقوتهم وسلطانهم. وبقاء الشعب على حاله من الفقر والضعف، على أساس أن ملكية الأرض هي التي تفرض الحكومة، وأن عودة الملكية الأوليجاركية أمر لا مفر منه إذا لم يقر البرلمان قانون "إعادة توزيع الأراضي". ويقول أوبري: "ولكن القسم الأكبر من رجال البرلمان كانوا يمقتون كل المقت مشروع "دورة العمل بالاقتراع العام، لأنهم كانوا طغاة ملعونين مولعين بسلطتهم وقوتهم(72)"، وآثروا أن يستدعوا شارل الثاني. وحيث استمر هارنجتون بنشر دعوته، حتى بعد عودة الملكية، فإن الملك أمر بإيداعه برج لندن (السجن) بتهمة التآمر (1661). ولما بذلت المساعي لإخلاء سبيله بمقتضى "التحقيق في قانونية حبس المتهم"، نقلوه إلى معتقل أكثر تضييقاً وأحكاماً في جزيرة بعيدة عن بليموث، وهناك أصابته نوبات من الجنون. وأطلق سراحه ولكنه لم يسترد صحته قط.
وكانت "اليوتوبيا" التي نادى بها هارنجتون عملية أكثر من معظم "المدن الفاضلة المثالية"، وتحقق قدر كبير منها. وربما كانت إحدى نقاط الضعف فيها أنها افترضت أن الأرض هي الشكل الوحيد للثروة. إن هارنجتون ذكر سلطان المال في التجارة والصناعة، ولكنه لم يتوقع أو لم ينبأ بتبوئه السلطة السياسية، وربما كان قد أحس بأنه حتى الثروة التجارية والصناعية لا بد خاضعة في خاتمة المطاف لملاك الأرض. وكان التوسع في حق الانتخاب وفي الاقتراع السري يتفق مع آماله المرجوة، وعلى الرغم من أن بريطانيا رفضت فكرته في "دورة العمل والوظائف"، على أنها تبديد سنوي للخبرة والتجربة فإن الولايات المتحدة أخذت في التجديد الدوري لجزء من الكونجرس الأمريكي، ووافق لوك ومنتسكيو وأمريكا على نظريته في الفصل بين السلطات في الحكومة. فلا تيأسوا أيها الحالمون، فلعل الزمان يفاجئكم بتحقيق أحلامكم ويحول شعركم إلى نثر، أو وهمكم إلى واقع ملموس.
 
قال ديورانت عن اللقاء بين العلماء والحضارات الأخرى وموقفهم من المسيحية الدموية:" وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.
وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية وانتشارها إلى ارتفاع موجة التشكك. وفي كل يوم، كان أحد السائحين أو المؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر أن كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية"(قصة الحضارة ج34 ص 29)
ويمكنك من هذا النص أن ترى تنامي الفلسفات العلمانية الإلحاية وسيطرها على الحياة الاجتماعية خصوصا في العالم الفوقي ومن ثم محاولة التغيير في ظل انعدام دين صحيح، وقد كانوا يرون الإسلام في فعاليته العلمية ماجعلهم يستفيدون لكن ليعرضون!
 
نعيد النص الفائت مرة اخرى مع الاضافة المهمة، ليتبين تفسيري الذي علقت به أسفل النص السابق
قال ديورانت في قصة الحضارة ج34 ص 29-30:" وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.
وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية وانتشارها إلى ارتفاع موجة التشكك. وفي كل يوم، كان أحد السائحين أو المؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر أن كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية. كما بدا أن النظرة الميكانيكية إلى العالم التي رسمها ديكارت التقي الورع، ونيوتن العالم البصير، نقول بدا أن هذه النظرة تصرف النظر عن دور العناية الإلهية" في تسيير الكون، وكان اكتشاف القانون في الطبيعة يجعل من المعجزات أمراً غير مستساغ غير مقبول. وأسهم الانتصار البطيء الذي أحرزه كوبرنيكس، والمحاكمة المثير التي عانى منها جاليليو، في تزعزع الإيمان وتقويض أركانه. بل أن المحاولة الجريئة التي قام بها كثير من رجال اللاهوت المسيحيين لشرح العقيدة على أساس من العقل، أضعفت العقيدة. ويقول أنطوني كولنز: لم يكن ثمة أحد يشك في وجود الله، حتى جاءت "محاضرات بويل" وأخذت على عاتقها إثبات وجوده وبين الطبقات المتعلمة التمس الشك حلاً وسطاً في التوحيد-الدين الطبيعي-والربوبية. وأرتاب التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب، ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس
نصوصاً إلهية. وآثر المدافعون عن الدين الطبيعي عقيدة مستقلة عن الأسفار المقدسة ومحصورة في المعتقدات التي رأوا أنها شاملة كلية-في الله وفي الخلود. أما الربوبيون، الذين قاموا بحركتهم أساساً في إنجلترا، فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله الذي اعتبره أحياناً مفهوماً تجريدياً غير مشخص، مرادفاً للطبيعة، أو "الدافع الأصلي" لإله الدنيا التي قال بها ديكارت ونيوتن. وبرزت لفظة "ربوبي" Deist في 1627 في "رسالة إلى ربوبي" لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت، ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت لورد هربرت شربري "الحقيقة" 1624...اقترح بلونت ديانة خالية من أي عبادة أو طقوس، اللهم إلا عبادة الله بحياة فاضلة قائمة على الأخلاق". وفي "وحي العقل"(1693) أوضح بلونت أن اللاهوت المسيحي قام أول الأمر على توقيع خاطئ لانتهاء العالم في وقت قريب أو مبكر، وسخر من قصص الكتاب المقدس عن الخليقة، ومن مولد حواء من ضلع آدم، ومن الخطيئة الأصلية، ومن إيقاف يشوع الشمس، على أنها جميعاً سخافات صبيانية. وأومأ إلى أن "الاعتقاد بأن أرضنا الحديثة (جسم مظلم تافه في الكون، أصغر شأناً من النجوم الثابتة في الحجم والمنزلة معاً) هي قلب هذا الكون الشاسع الهائل وأعظم أجزائه سمواً وحيوية، إنما هو اعتقاد غير منطقي وغير عقلاني، يتعارض مع طبيعة الأشياء"
 
كل العلمانيين الغربيين، من الفلاسفة القدماء، درسوا علوم المسلمين بطريقة أو بأخرى، وتتبع هذا يعني امكانية الوصول الى بحث هائل ومثير وخطير وكابح للعلمانية نفسها، مع التمسك بما كانت عليه حضارتنا لا بتشنجات ارهابية معاصرة!
وكأن حالنا اليوم هو حال اجدادنا
لقد كان عندهم توازن في القتل والقتال والحرب والسلم والتعايش
اما نحن فقلبنا التعايش الشرعي حرب شرعية وجعلنا الحرب تقصف بالاخوة الاسلامية المجاهدة
 
جون لوك نفسه درس العربية ودرس الطب(ومن الذي جلب لهم الطب)
جون لوك (1632 - 1704 )
ولد أعظم فلاسفة العصر أثراً في رنجتون بالقرب من برستول، في نفس العام الذي ولد في سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها... وفي مدرسة وستمنستر أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام شارل الأول (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة تركت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وهناك درس أرسطو مصوغاً في قوالب سكولاسية باللاتينية، كما درس مزيداً من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيراً من المنطق وعلم الأخلاق... ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وأحس بسحر الفلسفة حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج العلمي. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر أكستر ليكون طبيباً خاصاً لأنطوني آشيلي كوبر الذي سرعان ما أصبح أرل شافتسبري الأول، وعضو الوزارة أيام شارل الثاني، ومنذ هذا التاريخ إلى ما بعده، وعلى الرغم من احتفاظه رسمياً بمنصبه في أكسفورد حتى 1683، وجد لوك نفسه غارقاً في خضم السياسة الإنجليزية حيث شكلت أحداثها ورجالاتها أفكاره"(قصة الحضارة ج34 ص 42-43).
 
من اين جاء لوك وهو الذي درس العربية في صغره ودرس في أكسفورد بعد ذلك ودرس النقد الفلسفي للمسيحية من اين جاء بان المسيح رسول وهو الذي عاش في الثالوث وغيره
قال ديورانت في قصة الحضارة ج34 ص 61:"واقتبس من الإنجيل فقرة بعد فقرة، لا تطلب كلها من المسيحي إلا أن يؤمن بالله وبأن المسيح رسول من عند الله. وهنا- كما يقول لوك ديانة بسيطة صريحة واضحة، صالحة لكل إنسان، لا تعتمد على أي فقه أو لاهوت
 
تحت عنوان الملك المجنون، (1380-1422 ) وهو عنوان وضعه ديورانت قبل أن يذكر الحالة العامة في البلاد تحت عنوان (الحياة بين الأطلال) قال ديورانت(ج22،ص131-134) :" وفي عام 1378 أنشأ الكيومين في فلورنسا، ديكتاتورية الكادحين. وفي عام 1379 بدأ الفلاحون الجائعون في لانجدوك- جنوبي فرنسا- حرب عصابات، استمرت ست سنوات، ضد النبلاء ورجال الدين، تحت لواء قائد أمرهم قائلاً "اقتلوا جميع أصحاب الأيدي الناعمة" وثار العمال في ستراسبورج عام 1380، وفي لندن عام 1381، وفي كلونيا عام 1396. وقامت في جنت، حكومة ثورية من عام 1379 إلى عام 1382. وتوجت ثورة من عمال مدينة روين، بزازاً قوياً وقتل الشعب في باريس، جباة الضرائب التابعين للملك بمطارق من الرصاص (1382)... ولقد أبـحر هنري الخامس من إنجلترا في الحادي من أغسطس عام 1415، في ألف وثلاثمائة سفينة، وإحدى عشر ألف رجل. فوضعوا مراسيهم في الرابع عشر بالقرب من هارفلير، عند مصب نهر السين. وقاومت هارفلير ببسالة، ولكن بلا جدوى. وسار الإنجليز، تغمرهم العزة بالنصر، ويسرع بهم داء الزرب إلى كاليه. والتقى بهم فرسان فرنسا في اجنكورت، بجوار كريسي (25 أكتوبر). وكأنما لم يتعلم الفرنسيون شيئاً من معركتي كريسي، وبواتييه، إذ ظلوا يعتمدون على الفرسان. ولم يستطع أكثر أفراسهم الحركة بسبب الأحوال، أما الذين استطاعوا التقدم، فقد واجهوا الأوتاد المسننة، التي غرسها الإنجليز، على زاوية الأرض، حول حملة القسى. فارتدت الخيل المتحيرة، وحملت على جيشها، ونزل الإنجليز على هذا الحشد المضطرب، بالقضبان الفؤوس، والسيوف، وقادهم مليكهم هال، ببسالة، وتوتر شديد من الخوف، وكان انتصارهم مذهلاً. ويقدر المؤرخون الفرنسيون، خسائر الإنجليز بألف وستمائة رجل، وخسائر الفرنسيين بعشرة آلاف رجل. وعاد هنري إلى فرنسا عام 1417، وحاصر روين وأكل المواطنون ما ادخروه من طعام، ثم التهموا جيادهم، وكلابهم وقططهم. وألقى بالنساء والأطفال والطاعنين بالسن، خارج أسوار المدينة، توفيراً للطعام، فبحثوا عن معبر في خطوط الإنجليز، فلم يسمح لهم بالمرور، وظلوا كذلك بلا طعام ولا مأوى بين أقربائهم وأعدائهم، فهلكوا جوعاً، ومات خمسون ألف فرنسي من الجوع، في هذا الحصار الذي لم يرحم. ولما استسلمت المدينة، كبح هنري جماح جيشه من تقتيل الذين بقوا على قيد الحياة، ولكنه فرض عليهم غرامة مقدارها ثلثمائة ألف كراون، ووضعهم في السجن حتى يتسلم حصيلة المبلغ وفي عام 1419، تقدم نحو باريس التي لم يبقَ منها سوى الفساد، والانحلال، والتوحش، وحرب الطبقات. وتجاوز لإذلال ما حدث عام 1360 فقد سلمت فرنسا، بمقتضى معاهدة ترويس (1420)، كل شيء حتى الشرف. وقدم شارل السادس ابنته كاترين، زوجة لهنري الخامس، وتعهد بأن يورثه العرش الفرنسي، ونقل إليه قيادة فرنسا، ولإزالة كل التباس لم يقر ببنوة ولي العهد. ولم تدافع الملكة ايزابيل عن هذا الاتهام بالفسق في مقابل أربعة وعشرين ألف فرنك كل سنة، والواقع أنه لم يكن من السهل على المرأة في البلاط الملكي، لذلك الزمان، أن تعترف من هو والد ابنها على التحقيق. وأنكر ولي العهد المعاهدة، وكان يبسط نفوذه على جنوب فرنسا، ونظم فرق جاسكونيا وأرمانياك امواصلة الحرب. بيد أن ملك إنجلترا بدأ يحكم من اللوفر.
وبعد سنتين مات هنري الخامس بداء الزرب (الدوسنطاريا)، فإن الميكروبات لم توقع المعاهدة، ولما لحق به شارل السادس (1422) توج هنري السادس ملك إنجلترا على فرنسا، وكان دون السنة الأولى من عمره، فحكم دوق بدفورد وصياً عليه. وكان قاسياً في حكمهِ، ولكنه عادل مثل كل إنجليزي، يقدر له أن يحكم فرنسا. فأمن السفر بأن شنق عشرة آلاف رجل من قطاع الطريق في سنة واحدة، وأخذ يراقب منذ ذلك أحوال البلاد. وعاث الجنود المسرحون بالطرق الرئيسية فساداً، وأفزعوا حتى المدن الكبيرة مثل باريس، وديجون. واكتسحت الحرب، نورمانديا بالخراب، من الأمام ومن الخلف، كتيار قاتل خبيث، بل هلك ثلث سكان لانجدوك، وهي تعد أحسن حظاً، وهرب الفلاحون إلى المدن، واعتصموا بالكهوف، أو تحصنوا بالكنائس، كلما اقتربت الجيوش أو أحزاب الإقطاع أو عصابات اللصوص. ولم يعد الكثيرون من الفلاحين إلى ممتلكاتهم المضطربة وإنما عاشوا بالتكفف والسرقة، أو هلكوا من الجوع أو الطاعون. وأقفرت الكنائس، والمزارع ومدن بأسرها وتركت للبلي. وقد كان في باريس وحدها عام 1422، أربعة وعشرون ألف بيت مقفر، وثمانون ألف متسول من مجموع السكان الذي يبلغ عددهم ثلثمائة ألف نسمة. وأكل الناس لحم الكلاب وامعائها. وملأت الطرقات صيحات الأطفال المشرقين على الموت جوعاً.
 
عبنه شارل الخامس في فرنسا
قال ديورانت:" رجلاً بريتانياً اسمه برتراند دي جويسكلين. وهو رجل أسمر، أفطس الأنف، غليظ العنق، ضخم الرأس. ولقد ساعد الاعتقاد، في تفوق هذا "النسر البريتاني" على جميع القادة الإنجليز، على تصميم الملك، استرداد فرنسا من الحكم الإنجليزي. فأرسل عام 1369، إلى إدوارد الثالث إعلاناً رسمياً بالحرب.
وكان رد الأمير الأسود، أن أخضع ليموج، وأعمل السيف في ثلاثة آلاف بين رجل وامرأة وطفل، وهذا هو مذهبه في التربية السياسية. وثبت أنه لم يكن موفقاً فقد تحصنت كل مدينة في طريقه، وتزودت بالجند، واختزنت المؤن للمقاومة الناجحة، واضطر الأمير إلى أن يقنع، بتخريب الريف، وإحراق المحاصيل، واقتلاع منازل الفلاحين الخاوية، ولم يشأ دي جويسكلان أن يخوض معركة، ولكنه ناوش مؤخرة الأمير، وأسر العلافين، وانتظر أن تشرف القوات الفرنسية على الموت جوعاً. وحدث ما توقعه فانسحبت، وتقدم دي جويسكلان، وأخذت الولايات تعلن تخلصها الواحدة بعد الأخرى من التبعية، وبعد عامين من القيادة الممتازة، والولاء المشترك بين القائد والملك، طرد الإنجليز من فرنسا بأسرها باستثناء بوردو وبرست وشرير، وكاليه، وبلغت فرنسا لأول مرة جبال البرانس. ومات الملك وقائده في العام نفسه (1380) في ذروة النصر"(قصة الحضارة المجلد 22 ص 130) النص موثق
 
قال ديورانت في قصة الحضارة (المجلد 22 ص208-211):" وطالب أساقفة إنجلترا عام 1397، الملك بإعدام الهراطقة المتعمدين "أسوة بجميع الممالك الخاضعة للدين المسيحي.ولكن رتشارد الثاني، كره أن يسايرهم إلى هذا المدى، ومع ذلك فقد أصدر هنري الرابع وبرلمانه عام 1401 المرسوم المشهور بحرق جميع الأشخاص الذين تحكم عليهم إحدى المحاكم الدينية بأهم هراطقة بالإصرار، وتباد جميع كتب الهرطقة. وفي العام نفسه، أحرق وليام سوتري، وهو قسيس على مذهب اللولارد، بعد أن شد إلى القائمة الخاصة بالإحراق. وقبض على غيره من أنصار المذهب نفسه، وأجبروا على تغيير آرائهم وعوملوا برفق. وقدم أمير ويلز، إلى هنري الرابع عام 1406، عريضة تقضي بأن دعوة اللولارد، وهجومهم على أملاك الأديرة يهددان كيان المجتمع بأسره. وأمر الملك بزيادة التشدد في محاكمة الهراطقة. ولكن انغماس الأساقفة في سياسة البابوية، جرف نشاطهم، عن الهرطقة والهراطقة إلى حين. وفي عام 1410 أدانت الكنيسة جون بادبي، وهو خياط لولاردي، وأحرق في سوق سمثفيلد. وقبل أن تشعل المحرقة، رجا الأمير هال، بادبي، أن يرجع عن آرائه، وأن يمنح في مقابل ذلك الحياة والمال، فأبى الرجل، وارتقى المحرقة حيث لقي الموت.
وجلس الأمير على العرش عام 1413 باسم هنري الخامس ومنح تأييده الكامل لسياسة القمع. وكان أحد أصدقائه هو سير جون ألد كاسل لورد كوبهام، وهو الذي رأى نظارة مسرحيات شكسبير، بعد ذلك، أنه عين فلستاف. ولقد أبلى ألد كاسل البلاء الحسن في الحرب في سبيل الأمة، ولكنه تسامح مع دعاة اللولارد، وبسط عليهم حمايته في ضياعه بهير فوردشاير وكنت. وطالب الأساقفة بمحاكمته ثلاث مرات، وأبى حضور المحاكمة ثلاثاً، ولكنه استسلم بناءً على دعوة مكتوبة من الملك، وقتل أمام الأساقفة (1413) في نفس الموضع من كنيسة سانت بول، حيث حوكم، ويكلف قبل ذلك بست وثلاثين سنة. وأكد اعتقاده السابق في المسيحية، ولكنه لم يقبل التخلي عن آراء اللولارد في الاعتراف أو القربان. فأدين بالهرطقة، وسجن في برج لندن، وأعطي مهلة أربعين يوماً، على أن يعود عن هذه الآراء، ولكنه بدلاً من ذلك، فر هارباً. وما أن بلغ اللولارد الذين كانوا حول لندن، خبر فراره، حتى جهروا بالثورة، وحاولوا أن يقبضوا على الملك (1414). وفشلت المحاولة، وقبض على بعض الزعماء وأعدموا. واختفى الكاسل، ثلاث سنوات في جبال هيرفورشاير وويلز، ثم قبض علي ونحن إذا قسنا اضطهاد اللولارد إلى غيرهم، نرى أنه كان معتدلاً، وبلغ عدد الذين أعدموا أحد عشر رجلاً بين عامي 1400، 1485. ولقد سمعنا عن طوائف من اللولارد عاشت إلى عام 1521، وفي سنة متأخرة هي سنة 1518، قتل توماس جان على المحرقة، وهو الذي زعم أنه حول سبعمائة شخص إلى المذهب اللولاردي، وأحرق ستة آخرون عام 1521. وأما فصل هنري الثامن إنجلترا عن روما، وقابلت الأمة هذا التحويل بلا ثورة، فإن اللولارد من حقهم، أن يزعموا، أنهم مهدوا الطريق إلى هذا التحول إلى حد ما. ونشر ريجفالد تيلوك، أقف تشيشستر عام 1450 كتاباً، اتخذ له عنواناً، على طريقة العصر المقبلة، كبح جماح اللوم الزائد عن الحد لرجال الدين. كان رداً صريحاً على المذهب اللولاردي، وقد افترض وجود نزعة قوية ضد رجال الدين بين الناس. واقترح القضاء على هذه الآراء، لا بالسجن في المحرقة، ولكن بالاحتكام إلى العقل فحسب. وأمعن الأسقف المتمحس في الاحتكام إلى العقل، حتى أغرم بالعقل ذاته، وأوقعه ذلك في الهرطقة، وألفى نفسه، بفند بالعقل بعض حجج اللولارد، من الكتاب المقدس. ووضع العقل فوق الكتاب المقدس بصورة قاطعة كميزان للحقيقة، في "رسالة من الاعتقاد"-وهو موقف احتاجت أوربا فيه إلى مائتي سنة لاستعادته. وأضاف مؤلف "كبح جماح اللوم الذي لم يكبح جماحه" أن آباء الكنيسة لا يوثق بهم دائماً، وأن أرسطو ليس ثقة لا يناقش، وأن الرسل، لا يد لهم في العقيدة، وأن هبة قسطنطين كانت انتحالاً. وطالب الأساقفة الإنجليز بيكوك المعجب بنفسه بالمثول أمام محكمتهم (1457)، وخيروه بين الرجوع عن آرائه أو الإعدام حرقاً. وكان يكره الإحراق، وقرأ ه آخر الأمر، وأعدم بتهمة الخيانة، ثم أحرق بتهمة الهرطقة (1417)، لأن الدولة والكنيسة طالبت كل منهما بحقها. علانية بالرجوع عن أقواله، وشلح عن رتبته الكنسية، واعتزل الناس في دير كنيسة تورني إلى آخر حياته (1460).
 
يقول ويل ديورانت تحت عنوان(مسرح الأحداث) في المجلد 30 ص 1-3:" في يوم 25 أكتوبر 1555 نقل الإمبراطور شارل الخامس مقاليد الحكم في الأراضي الوطيئة إلى ابنه فيليب، وفي السادس والعشرين، وأمام الجمعية التشريعية في بروكسل، تلقى فيليب أيمان الولاء، وأقسم بدوره أن يحافظ على حقوق المقاطعات السبعة عشر وامتيازاتها، وفق ما تقضي به التقاليد والمعاهدة والقانون ولقد هيأت هذه العهود والمواثيق المتبادلة المسرح لإحدى المسرحيات الكبرى في تاريخ الحرية. وكان المشهد معقداً. كانت الأراضي الواطئة آنذاك تضم بلجيكا الحالية ومملكة هولندا القائمة الآن. ولم تكن الهولندية- وهي أصلاً إحدى اللهجات الألمانية السائدة في وهاد شمال ألمانيا والأراضي الواطئة- وهي اللغة التي تتحدث بها المقاطعات السبع الشمالية (وهي هولندا، زيلندة، أوترخت، فريزلند، جروننجن، أوفريجسل، جلالند، فحسب، بل كانت كذلك لغة أربع مقاطعات أخرى (هي فلاندرز، برابانت، مكلين، لمبرج) في شمالي "بلجيكا"، على حين كانت "الوالون"- وهي إحدى اللهجات الفرنسية- هي اللغة لتي يتحدث بها الأهالي في ست مقاطعات جنوبية (هي أرتوا، وألون، فلاندرز، كمبراي، تورني، اينو، نامور). وكانت هذه المقاطعات كلها، بالإضافة إلى دوقية لكسمبرج المجاورة، تحت حكم آل هبسبرج. وكانت الكاثوليكية(1) هي ديانة الأغلبية الساحقة من الأهالي في 1555 ولكن- كاثوليكيتهم- كانت من النوع العطوف الموسوم بالروح الإنسانية الذي نادى به أرزم قبل ذلك بنصف قرن من الزمان، والذي كانت تدين به روما في عصر النهضة بصفة عامة، وليست من ذلك النوع الكئيب المتشدد من الكاثوليكية الذي ساد في أسبانيا لعدة قرون كانت تحارب فيها المسلمين "الكفار". وبعد 1520 تسربت اللوثرية ومذهب القائلين بتجديد عماد البالغين ورفض عماد الأطفال من ألمانيا، تسربت بعد ذلك بشكل أكبر الكلفنية من ألمانيا وسويسرا وفرنسا. وحاول شارل الخامس أن يقضي على غارات هذه المذاهب الغربية التي أقحمت عليه كاثوليكيته، بإدخال محاكم التفتيش البابوية أو الأسقفية، وبنشر إعلانات تتوعد بأشد العقوبة أي انحراف خطير عن الكاثوليكية الصحيحة. ولكن قلَّ أن نُفِذت هذه العقوبات بعد أن أضعف صلح باسو 1552 من قوته. وفي روتردام 1558 تمكن حشد من الأهالي من إنقاذ عدد من أنصار تجديد العماد من الإعدام حرقاً. فجزع فيليب لتفاقم الهرطقة وجدد نشر الإعلان عن العقوبات..وساد الخوف من أنه يعتز إدخال محاكم التفتيش الأسبانية بكل ما فيها من قسوة ونكال"(قصة الحضارة ، المجلد 30،ص1-3).
من ناحية أخرى كانت البروتستانتية تمتد من ألمانيا إلى تلك الأراضي التي تحتلها القوات الأسبانية، وكانت تسيطر على عالم التجارة بشكل كبير، و"كان مذهب كلفن يلتئم كل الالتئام مع عنصر الروح التجارية "المركنتلية" في النظام الاقتصادي وكان ثغرا أنتورب وأمستردام هما المركز الرئيسي لتجارة شمال أوربا، وكانا ينبضان بالحياة بفضل التصدير والاستيراد والمضاربة وسائر ألوان المعاملات المالية، حتى أن التأمين وجده عاد بأوفر الثراء على 600 من وكلائه(2). وجرت في انهار الراين وماسي وأيسل- وشلدت ووال وليس إلى جانب مئات من القنوات- جرت في هذه
كلها مجموعة متنوعة كبيرة من سفن النقل، وأذكت التجارة روح البراعة من المهن والصناعات في بروكسل وغنت واييرس وتورني وفالنسين ونامور ومكلين وليدن وأوترخت وهارلم. ونظر رجال الأعمال الذين تحكموا في هذه المدن بعين الإجلال والإكبار إلى الكاثوليكية على أنها ركيزة دعمتها التقاليد للاستقرار السياسي والاجتماعي والروحي، ولكنهم لم يسيغوا سلطانها الكهنوتي بأبهته وفخامته. كما أحبوا "(قصة الحضارة ج30،ص2)
أما ابن الملك شارل الخامس فقد كان يتحكم من مدريد في المقاطعات الهولندية وغيرها مما ذكرناها، وقد عين ابنه
فيليب ، الذي تربى في أسبانيا فلم يتكلم الفرنسية ولا الهولندية، وهو الإبن الذي كان ولعاً بمحاكم التفتيش، و"كان فيليب قد عين مرجريت دوقة بارما نائبة له. وهي ابنة شرعية لشارل الخامس من أم فلمنكية. وكانت قد نشأت وترعرعت في الأراضي الوطيئة"
 
أما جو المعارك فنسرده لفيلدرز الهولندي الذي زيف لقومه حقائق الإسلام وواقعه المحسوس، يقول ديورانت " ولحظت الأقلية البروتستانتية في استياء وغضب أن الأساقفة الجدد ينشرون محاكم التفتيش البابوية ويتشددون في إجراءاتها... وانتشرت محاكم التفتيش، وكان فيليب يراقبها وهو في أسبانيا، ويشجع على استمرارها، ويبعث إلى مرجريت بأسماء الهراطقة المشتبه فيهم. وما كاد يمر يوم دون إعدام. وفي ؤ1561 أحرق جلين دي مولر في أودينارد، وأحرق توماس كولبرج في تورني، وقطع أحد أنصار تجديد العماد أرباً حتى الموت بسبع ضربات من سيف عتيق صدئ، في حضور زوجته التي قضت نحبها فزعاً من هول المنظر(10) وأثارت هذه الأعمال الوحشية حفيظة برتران لبلاس فهاجم كاتدرائية تورفي، أثناء قداس عيد الميلاد واندفع إلى المذبح وانتزع القربان المقدس من يد القسيس ووطئه بقدميه، وصاح في جمهور المصلين "أيها المضللون، هل تظنون أن هذا هو المسيح إلهكم ومخلصكم؟ " وعذب الرجل فأحرقت يده اليمنى وقدميه حتى لم يبق منها إلا العظام، وقطع لسانه، وعلق فوق نار وشوي على محصل حتى لفظ أنفاسه، وفي ليل أحرق روبرت أو جيبه وزوجته وأبناؤه لأنهم قالوا بأن عبادة القربان المقدس ليست إلا تجديفاً وثنياً (1). أما توركيادا الأراضي الوطيئة أول قاض للتحقيق وعضو في محكمة التفتيش في أسبانيا "يضرب به المثل في القسوة والتعصب الذميم. فهو بيتر تيتلمان الذي بلغت أعماله من التعسف والوحشية حداً اتهمه معه مجلس مدينة بريجز-وكله من الكاثوليك-لدى مرجريت، بأنه متوحش انتزع الناس من بيوتهم وحاكمهم دون أية ضوابط قانونية، وأجبرهم على أن ينطقوا بما يريده هو، وحكم عليهم بالإعدام، كما أن القضاة في الفلاندز وجهوا إلى الملك فيليب كتاباً مثيراً يرجون فيه وضع حد لهذه الأعمال الشائنة. وطلبت مرجريت في شيء من الجبن إلى هذا المحقق أن يتذرع "بالحزم والاعتدال"، ولكن الإعدام لم يتوقف. وأيد فيليب تيتلمان، وأمر مرجريت أن تنفذ دون رحمة ولا إبطاء القرارات التي أصدرها مجمع ترنت (1564). واحتج مجلس الدولة بأن عدداً من هذه القرارات انتهك حرمة الامتيازات المعترف بها للمقاطعات، وأوقف نشرها. وكان وليم أورانج تواقاً إلى الإبقاء على الأرض الوطيئة متحدة في سبيل المحافظة على حريتها السياسية التقليدية، فاقترح انتهاج سياسة التسامح سابقة كثيراً لعصره وأوانه. فأعلن في مجلس الدولة "أن الملك يخطئ إذا ظن أن الأراضي الوطيئة سوف تحتمل وتساند هذه المراسيم الدموية بلا حدود. ومهما كنت شديد التمسك بعقيدتي الكاثوليكية، فأني لا أقر محاولة الأمراء أن يتحكموا في ضمائر رعاياهم، ورغبتهم في أن يسلبهم حرية العقيدة(11) "وأنظم الكاثوليك إلى البروتستانت دمغ هذه المراسيم بالظلم والطغيان(12) وأرسل أجمونت إلى مدريد ليلتمس التخفيف من شدة هذه المراسيم، وعززت مرجريت هذا المطلب سراً. ووجه أساقفة ايبرس ونامور وغنت وسانت أومر ملتمساً إلى فيليب (يونية 1565) يرجون فيه أن يخفف الملك المراسيم "وأن يوجه النصح إلى الشعب في شيء من الرفق والحب الأبوي، لا بالقساوة الشرعية(13)، ورد فيليب على كل هذه الاحتجاجات بأنه يؤثر أن يضحي بمائة ألف من الأرواح على أن يغير سياسته(14). وفي أكتوبر 1565 أرسل توجيهاته الصريحة إلى وكلاء محكمة التفتيش: أريد فيما يتعلق بمحكمة التفتيش أن تطبق إجراءاتها وأحكامها...كما كان الحال من قبل، وكما تقتضيه كل القوانين وضعية كانت أو إلهية. أن هذا يقع من نفس أحسن موقع. أريد منكم أن تنفذوا أوامري. أعدموا كل المسجونين، ولا تتركوا لهم بعد اليوم فرصة للإفلات نتيجة تقصير القضاة وضعفهم وعقيدتهم الفاسدة، وإذا قعد الجبن ببعضهم عن تنفيذ المراسيم فإني استبدل بهم رجالاً أكثر جرأة وحماسة(15). وأذعنت مرجريت لفيليب وأصدرت أوامرها بتطبيق المراسيم تطبيقاً كاملاً (14 نوفمبر 1565). وانسحب أورانج واجمونت ثانية من مجلسها. ورفض أورانج وغيره من النبلاء وكثير من القضاة تطبيق المراسيم: وانهالت نشرات البروتستانت وإعلاناتهم التي يستنكرون فيها الاضطهاد. واشتم التجار الأجانب رائحة الثورة في الجو. فبدءوا ينزحون من الأراضي الوطيئة، وأغلقت المخازن وكسدت التجارة، وخيم شبح الموت على أنتبورب وفر كثير من البروتستانت من الأراضي الوطيئة إلى إنجلترا وألمانيا. وفي إنجلترا ساعدوا على النهوض بصناعات النسيج التي نافست "المقاطعات المتحدة" في القرن السابع عشر، وقادت الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر... وفي إبريل 1566 سار 400 من صغار النبلاء إلى قصر مرجريت وقدموا لها "ملتمساً" بأن تطلب إلى الملك أن يضع حداً لمحاكم التفتيش والمراسيم في الأراضي الوطيئة، وأن توقف تطبيق المراسيم حتى يصل جواب الملك. وأجابت مرجريت بأنها سترسل ظلامتهم إلى الملك، ولكن ليس من سلطتها أن توقف المراسيم، وأنها ستبذل كل ما في مقدورها للتخفيف من مفعولها. ولما رأى أحد أعضاء مجلسها شدة فزعها من عدد مقدمي الظلامة وقوة عزيمتهم طمأنها بقوله "عجباً يا سيدتي" هل تخشين يا صاحبة العظمة المتسولين؟ وتقبل المتحالفون هذا اللقب تحدياً. وارتدى كثير منهم البدلة الرمادية الخشنة، وحملوا الحقيبة والطاس اللذين تميز بهما المتسولين آنذاك. وأصبحت عبارة "فليحي المتسولين" صيحة الحرب في الثورة. ولمدة عام كان هؤلاء النبلاء الصغار هم الذين قادوا الثورة وأذكوا نارها... وفي 31 يولية كتب إليها بموافقته على إلغاء محاكم التفتيش الأسقفية في الأراضي الوطيئة، وبأنه يصدر عفواً عاماً عمن توصي هي بالعفو عنهم. وانتهز الكلفنيون واللوثريون وأنصار تجديد العماد في الأراضي الوطيئة فرصة هذا الهدوء في العاصفة ليجهروا بعبادتهم، وعاد اللاجئون البروتستانت أفواجاً من إنجلترا وألمانيا وسويسرا، وقام الوعاظ من مختلف الطبقات-الرهبان السابقون، علماء اللاهوت، صانعو القبعات، ممشطو شعر الخيل، دباغو الجلود-يخطبون في الجموع الغفيرة من النساء والرجال، وكثير منهم مسلحون، وكلهم يرتلون المزامير ويهتفون "فليحي المتسولون". وبالقرب من ثورني، ألقى أمبروزويل الذي كان قد درس مع كلفن-ألقى موعظة في ستة آلاف شخص (28 يونيه 1566)، وبعد ذلك بيومين وفي نفس المكان، خطب قسيس آخر في عشرة آلاف، وبعد أسبوع واحد استمع لموعظته عشرون ألفا(16). وبدا أن نصف سكان الفلاندرز أصبحوا بروتستانت. وكادت الكنائس والمدن أن تخلو من الناس في أيام الآحاد لأنهم هرعوا إلى جماعات البروتستانت. وإذا سمع الناس في مقاطعة هولندا بأن بيتر جبرييل الخطيب المفوه سوف يلقي موعظة في أوفرين بالقرب من هارلم، وهرع آلاف البروتستانت إليه، وهزوا أجواء الفضاء في الحقول بمزاميرهم. وبلغت جموع البروتستانت بالقرب من أنتورب خمسة عشر ألفاً، وقال بعضهم ثلاثين ألفاً، وكان كل الرجال مسلحين تقريباً. وأمرت مرجريت حكام أنتورب بمنع هذه التجمعات لأنها خطر على البلاد... وفي الشهر نفسه (يوليه 1566) اجتمع كونت لويس ناسوا ألفان من "المتسولين" في سانت تروند، في أسقفية لييج، وسط هذا الصخب البهيج، وضعوا الخطط للمضي قدماً في قضيتهم. وقرروا الاتصال بالبروتستانت الألمان ليشكلوا بينهم جيشاً يهب لنجدة البروتستانت في الأراضي الوطيئة إذا هوجموا. ليها، ولم يكن تحت تصرف مرجريت نفسها قوات منذ رحيل الحاميات الأسبانية ح. وبلغ الاضطراب في أنتورب حداً ... وفي 9 أغسطس وقع فيليب وثيقة رسمية يعلن فيها أن العرض الذي قدمه للعفو العام قد انتزع منه رغم إرادته، وأنه لا يلزمه بشيء، وفي 12 أغسطس أكد للبابا أن إيقاف محاكم التفتيش مرهون بموافقة البابا(18). وفي 14 أغسطس اقتحمت جمهرة من البروتستانت بتحريض من الوعاظ الذين استنكروا الصور الدينية، كنائس سانت أومر الواحدة بعد الأخرى فحطموا الصور والمذابح ودمروا كل الزخارف. وفي نفس الأسبوع قامت جموع شبيهة بمثل هذه الأعمال في ايبز وكورتراي وأودينارد وفالنسيان. وفي يومي السادس عشر والسابع عشر دخلت الجماهير الكاتدرائية الكبرى في أنتورب وحطموا المذبح والزجاج الملون والصلبان وغيرها من الصور، ودمروا الآلات الموسيقية والزخارف وكؤوس القربان والأوعية المقدسة، وفتحوا الأضرحة وجردوا الجثث من حليها، وشربوا النبيذ المقدس، وأحرقوا كتب القداس الثمينة، ووطئوا بأقدامهم التحف الفنية. وأرسلوا في طلب السلام والجبال، فتسلقوا وجذبوا التماثيل من أماكنها وهشموها بالمطارق الثقيلة، وأخترق الجمع أنتروب وهم يهتفون منتصرين، وحطموا الصور والزخارف في ثلاثين كنيسة وديراً، وأحرقوا مكتبات الرهبان، وأخرجوا الرهبان والراهبات من الأديار(19) ولما ترامت أنباء هذه "الضراوة الكلفنية" إلى تورني انطلقت نشوة تحطيم الصور المقدسة من عقالها هناك، وأعمال السلب والنهب في كل الكنائس. وفي الفلاندرز وحدها جردت 400 كنيسة من الصور. وفي كولمبرج أشرف الكونت المبتهج المرح على أعمال التخريب وأطعم ببغاواته على القرابين المقدسة(20). وفي جهات أخرى قام بعض الكهنة السابقين بتحميص رقائق الخبز على شوكات(21). ومن الفلاندرز أمتد الهياج إلى المقاطعات الشمالية، وإلى امستردام وليدن ودلفت وأوترخت، ثم جروننجن وفريزلند. واستنكر معظم زعماء البروتستانت أعمال التخريب هذه، ولكن بعضهم ممن رأوا أن الأفراد لم يلحق بهم أيسر الأذى والضرر. ذهبوا إلى تحطيم التماثيل والصور أقل إجراماً من إحراق الأحياء "الهراطقة".
وخارت قوى مرجريت بارما أمام العاصفة. فكتبت إلى فيليب تقول "أن أي شيء وكل شيء مختل في هذا البلد عدا العقيدة الكاثوليكية"(22). وبات فيليب يتحين الفرصة للانتقام. ولكن مرجريت التي تواجه الجماهير المسلحة والزعماء المغامرين أحست بأنها مرغمة على بعض التنازلات. فوقعت في 23 أغسطس، مع ممثلي المتسولين، اتفاقاً تباح بمقتضاه العبادة الكلفنية في الأماكن التي كانت تمارس فيها بالفعل، بشرط عدم التعرض للطقوس الكاثوليكية، وألا يحمل البروتستانت سلاحاً خرج بيوتهم. ووافق ممثلو المتحالفين على حل "عصبتهم" إذا أوفت الحكومة بهذا الاتفاق. وتوقف الاضطهاد وساد السلام لبعض الوقت. ولكن أياً من وليم أورانج وملك أسبانيا لم يقنع بهدوء الحال. فإن وليم كان يرى في البروتستانتية الثائرة أداة لتحقيق استقلال الأراضي الوطيئة، وعلى الرغم من أنه كان لا يزال كاثوليكياً اسما فإنه تخلى عن كل مناصبه الحكومية، ونظم وسائله الخاصة للتجسس، وقصد (22 أبريل 1567) إلى ألمانيا يلتمس المدد من الرجال والمال. وبعد ذلك بخمسة أيام غادر دوق ألفا أسبانيا، مفوضاً من الملك فيليب، في جمع ما يلزم من القوات لاستخدامها في الانتقام من المشاغبين الكلفنيين، والقضاء بلا وهادة على أية حال هرطقة وثورة وحرية في الأراضي الوطيئة. "(قصة الحضارة لويل ديورانت ج30 ص7-14)
هذه كلها كانت بدايات في المسيحية نفسها، وفي هولندا بالذات، كما يرويه التاريخ.
 
يقول ديورانت تحت عنوان (شارل الجسور 1465 - 1477 ):" (شارل المتهور، الملقب خطأ بالجسور). وهو الذي صوره روجيه فان درويدن، في صورة كونت شاروليه الفتى الجميل الحاد ذي الشعر الأسود، الذي قاد جيوش أبيه، في انتصارات دامية، وعرك سلطان أبيه منتظراً وفاته. ففي عام 1465 أحش فيليب الطيب بنفاذ صبره، فسلم إليه مقاليد الحكم، وأشبع بذلك طموح الشاب ونشاطه"0قصة الحضارة ج 22 ص238).
وقال :"وأبى شارل تقسيم دوقيته إلى ولايات شمالية وأخرى جنوبية تتفرق مكاناً... ولقد نظم، تحقيقاً لهذه الأحلام، أحسن جيش عامل في أوربا، وفرض على رعاياه من الضرائب ما لا نظير له في الماضي، وكيف نفسه لمكابدة كل عناء وتجربة، ولم يمنح عقله وجسمه، ولا أصدقاءه وأعداءه، فترة من الراحة والسلام.
ومع ذلك: فقد فكر لويس الحادي عشر، في برجنديا باعتبارها إقطاعية من ملك فرنسا، وحارب تابعه الغني متفوقاً في الخطط والدسائس-فانضم شارل إلى النبلاء الفرنسيين ضد لويس، وغنم مدناً أخرى، والعداوة الدائمة لملك عنيد. وفي هذا الصراع انتقضت دينان ولييج على برجنديا، وأعلنا ولاءهما لفرنسا، كتب بعض المتحمسين في دينان Dinant، على صورة معلقة لشارل، إنه ابن سفاح لقسيس لمستهتر. فهدم شارل أسوار المدينة بالمدافع، وأباحا لجنوده ثلاثة أيام ينهبونها، واسترق جميع رجالها، وشرد كل نسائها وأطفالها، وأحرق جميع مبانيها حتى أصبحت أثراً بعد عين، وألقى بثمانمائة من الثائرين مقيدة أيديهم وأرجلهم من خلاف في نهر الموز (1466) ومات فيليب في شهر يونيو التالي، وأصبح كونت شاروليه، شارل الجسور. فأعاد الحرب مع لويس، وأجبر لييج التي ثارت مراراً بمحاصرتها، على أن تؤيده وتعاونه في هذه الحرب. وقدم سكان المدينة المتضرعون جوعاً، جميع ما يمتلكون ثمناً لحياتهم..فرفض العرض، وأباح المدينة، ولم ينج من النهب بيت أو كنيسة، وانتزعت كؤوس القربان من أيدي القساوسة وهم يقومون بالصلاة، وأغرق جميع الأسرى الذين عجزوا عن دفع الدية الباهظة (1468).
والعالم، وإن تردى، طويلاً في أعمال العنف، لا يستطيع أن يغتفر لشارل قسوته، وخروجه على تقاليد الإقطاع في حبس مليكه وإذلاله. فلما غزا جلدرلاند، وحصل على الألزاس، وتقدم بخطى إمبراطور ليتدخل في كولونيا ومحاصرة نيس Neuss. بادر جميع جيرانه إلى الوقوف بوجهه. وأسخط بيتر فان هاجنباك، الذي عينه والياً على الألزاس، الناس لفظاظته وجوره وقسوته، فشنقوه، وأعلن الاتحاد السويسري محاربة شارل إلى الموت (1474) ذلك لأن التجار السويسريين كانوا من ضحايا بيتر، والذهب الفرنسي كان يوزع من الناحية العسكرية في سويسرا، والولايات السويسرية، كانت تحس بأن اتساع سلطان شارل خطر يهدد حريتها. فترك نيس، واتجه ناحية الجنوب، فغزا اللورين-موحداً لأول مرة طرفي دوقيته-وسير جيشه عبر جورا، إلى فود. وكان السويسريون أشجع الجنود في عصرهم، فهزموا شارل بالقرب من جرانسن Granson، ثم دحروه بالقرب من مورات (1476) وهكذا اكتُسح البرجنديون، وبلغ الحزن بشارل أن أشرف على الجنون. فاغتنمت اللورين الفرصة ولانتقضت عليه، وأرسل السويسريون الرجال وبعث لويس الذهب لمعاونة الثورة. وألف شارل جيشاً جديداً، وحارب الحلفاء بالقرب من نانس، وهزم في المعركة ولقي الموت (1477). وفي الغداء التهمت الغيلان قطعاً من لحمه العاري، ووجد غارقاً إلى النصف في مستنقع، ووجهه متجمد ملتصق بالجليد. وكان الأربعة والأربعين من عمره. وهكذا اندمجت برجنديا في فرنسا"0قصة الحضارة ج22 ص239-240)
 
ويقول ديورانت في قصة الحضارة ج14 ص 380-381):" واختارت كرسنتيوس Crescentius قنصلاً. فانقض أتو الثالث على روما بجيش قوي لا تستطيع مقاومته، وبتفويض من رجال الدين الألمان، ليقضي على الفوضى بتنصيب راعي كنيسته الخاصة بابا باسم جريجوري الخامس (996-999). وقضى الإمبراطور الشاب على الجمهورية، وعفا عن كرسنتيوس، وعاد إلى ألمانيا. وما كاد يعود حتى أعاد كرسنتيوس الجمهورية، وخلع جريجوري (997). فما كان من جريجوري إلا أن أصدر قراراً بحرمانه، ولكن كرسنتيوس سخر منه، وعمل على أن يختار يوحنا السادس عشر بابا. فعاد أتو مرة أخرى، وخلع يوحنا، وسمل عينيه، وقطع لسانه، وجدع أنفه، أمر أن يطاف به في شوارع روما على ظهر حمار ووجهه نحو ذنبه. ثم قطعت رؤوس كرسنتيوس واثني عشر من الزعماء الجمهوريين، وعلقت أجسادهم على أسوار سانت أنجليو (998)(53). وعاد جريجوري إلى كرسي البابوية، وظل جالساً عليه حتى مات مسموماً، في أغلب الظن، عام 998. وأجلس أتو في مكانه رجلاً أصبح من أنبه البابوات جميعاً.
جريجوري الخامس (996-999).
 
بعد النص بعنوان الرجل المجنون سقناه منذ ساعة
نذكر النص الذي كتبه ديورانت بعده حتى تكتمل الصورة
فتحت عنوان(الحياة بين الأطلال) عام 1372، قال ديورانت، في قصة الحضارة ج22 ص135- :" وفشا اللواط، وشاعت الدعارة، وكاد المجون يصبح عاماً. ودعت فرقة "الآدميين" في القرن الرابع عشر، إلى مذهب العري، وظلت تمارسه علناً إلى أن منعته محاكم التفتيش. وكانت الصور الفاحشة المخلة بالآداب، رائجة كما هي الآن، ويروي جرسون، أنها كانت تباع حتى في الكنائس وأيام الأعياد الدينية... ووصف نيقولا دي كليمانج كبير شماسة باييه، دير منطقته بأنه معبد مخصص للقيام بشعائر فينوس. وكان من المألوف أن يتخذ الملوك والأمراء، خليلات لهم، وكان الكثير من الزيجات الملكية-وزيجات النبلاء ينطوي على أغراض سياسية، ولذلك لم تكن هذه الزيجات جديرة بالحب. واستمرت السيدات، ذوات الحسب والنسب، في مناظرات رسمية، حول جواز العلاقات الجنسية، وأنشأ فيليب الجسور ، صاحب برجنديا، في باريس محكمة حب عام 1401. ولقد وجدت وسط هذا الخضم من الاستهتار أو في كنفهِ سيدات فضليات، ورجال شرفاء
وأضيف إلى صور هذا العصر اضطهادات اليهود (1306، 1384، 1396) والمجذومين (1321)، ومحاكمة الحيوانات وإعدامها، لإيذاء الناس وتسافدها معهم، والشنق علناً، الذي يدعو إلى حشد متطلع. وكانت الناس تنبش القبور في جبانة الأبرياء في باريس، كلما سقط لحم الميت عن عظمهِ، لإفساح المجال لأموات جدد، وتجمع العظام في غير نظام، في مدافن خاصة بها، على طول الأروقة، التي كانت مع ذلك، أماكن مألوفة، للقاء العاشقين، فأنشئت هناك الدكاكين، ودعت البغايا الزبائن. ورسم أحد الفنانين، مدة شهور على حائط الدير، صورة لرقصة الموت عام 1424، تبدو الشياطين وهي تدور حول نفسها مع الرجال والنساء والأطفال المسوقين في خطوات مرحة متعاقبة إلى الجحيم. وأصبحت هذه الصورة مضموناً رمزياً لعصر يائس، ومثلته إحدى المسرحيات في بروجس عام1449، وصوره ديرل، وهلبين، وبوش في آثارهم الفنية. وغلب التشاؤم على نصف شعر هذا العصر. وهجا ديشان الحياة في كل جوانبها تقريباً، وبدت الدنيا له، كشيخ واهن جشع، مضطرب منحل ولقد ختم كلامه بقولهِ "إن كل شيء سيئ السيرة". ووافقه جرسن قائلاً: "إننا نعيش في شيخوخة الدنيا"، وإن يوم القيامة لقريب. واعتقدت امرأة عجوز، أن كل وخزة ألم في أصابع قدميها، تعلن ذهاب إحدى الأرواح إلى الجحيم، وكان تقديرها معتدلاً، فإن الاعتقاد الشائع وقتذاك أنه لم يدخل الجنة أحد من الناس في الثلاثين سنة الماضية. وماذا عسى أن يصنع الدين، في تصدع أمة مغلوبة على أمرها؟ لقد كان الباباوات الحبيسون في افنيون يتلقون حماية الملوك الفرنسيين، وأوامرهم في السنوات الأربعين الأول من حرب المائة عام، وكانت معظم الموارد، التي يجمعها ألئك الباباوات من أوربا، تذهب إلى هؤلاء الملوك، تمويلاً لحرب الحياة أو الموت مع بريطانيا، واستطاعت الكنيسة أن تجمع للملكية في إحدى عشر سنة (1345-1355) مبلغ 3.392.000 فلورن (84.800.000 دولار؟) وحاول الباباوات مراراً أن يضعوا حداً للحرب ولكنهم فشلوا. وعانت الكنيسة مشقة مضنية، من جراء الخراب الطويل الذي منيت به فرنسا قرناً من الزمان، فأفقرت مئات الكنائس والأديرة أو خربت، وشاركت الطبقة الدنيا من رجال الدين فيما اتسم به العصر من انحلال الأخلاق. وتجاهل الفرسان والمشاة الدين لا يذكرونه إلا عند المعركة أو الوفاء، ولا بد أنهم ارتابوا، في العقيدة بسبب عدم اكتراث السماء، الذي يدعو إلى الجنون، واعتصم الناس في عصيانهم أوامر الدين بالكنيسة والعقيدة مفزعين، وجملوا أمولهم وهمومهم إلى مزارات العذراء تسكيناً لروعهم، وكانوا يصابون في القداس، بوجد ديني، عندما يستمعون إلى العظات المخلصة للراهب رتشارد أو القديس فنسانت فرر. وابتدعت في بعض البيوت، تماثيل صغيرة تفتح بطونها بلمسة من اليد، فينكشف الثالوث.
 
يقول ديورانت ملخصاً لما كان قد أصاب المسيحية في القرن السادس عشر، وكلفها ارواحاً وأموالاً طائلة وحياة تعيسة بائسة، وفي افتتاح حرب الثمانين عاما:" فإن ضراوة دوق ألفا ومحاكم التفتيش أخرجت الصناع الهرة والتجار البروتستانت إلى هولندة ألمانيا وإنجلترا، وصرامة الكلفنية أتلفت الكنائس، وعنف الأسبان نهب البيوت وأحرق القصور، كما أن ضراوة فرنسا أفرغت عجزها في الدماء، والحصار الذي ضربه فانز لمدة أربعة عشر شهراً أمات الكاثوليك والبروتستانت جوعاً على حد سواء. وأخيراً انضم الكاثوليك إلى البروتستانت في الخروج من المدينة، وانتقلت تجارة أنتورب إلى أمستردام وروتردام وهارلم وهمبرج ولندن وروان"(قصة الحضارة لويل ديورانت ج30 ص43).
 
يقول ديورانت ملخصاً لما كان قد أصاب المسيحية في القرن السادس عشر، وكلفها ارواحاً وأموالاً طائلة وحياة تعيسة بائسة، وفي افتتاح حرب الثمانين عاما:" فإن ضراوة دوق ألفا ومحاكم التفتيش أخرجت الصناع الهرة والتجار البروتستانت إلى هولندة ألمانيا وإنجلترا، وصرامة الكلفنية أتلفت الكنائس، وعنف الأسبان نهب البيوت وأحرق القصور، كما أن ضراوة فرنسا أفرغت عجزها في الدماء، والحصار الذي ضربه فانز لمدة أربعة عشر شهراً أمات الكاثوليك والبروتستانت جوعاً على حد سواء. وأخيراً انضم الكاثوليك إلى البروتستانت في الخروج من المدينة، وانتقلت تجارة أنتورب إلى أمستردام وروتردام وهارلم وهمبرج ولندن وروان"(قصة الحضارة لويل ديورانت ج30 ص43).
 
في أكثر من مناسبة رئي الرجال يشنقون...اخوتهم هم أنفسهم الذين وقعوا أسرى في صفوف الأعداء... ووجد سكان الجزر لذة وحشية في ضروب القسوة هذه، ولم يعد الأسباني في نظرهم فرداً من بني الإنسان. وذات مرة انتزع أحد الجراحين قلب سجين أسباني، وثبته بالمسامير في مقدم السفينة ودعا الأهالي ليغرسوا أسنانهم فيه، وفعل كثير منهم هذا في ارتياح وحشي أن هؤلاء "المتسولين" القساة القلوب هم الذين هزموا دون ألفا... وورث أبنه دوق فدريجو ألفارث دي توليدو مهمة استعادة ومعاقبة المدن التي كانت قد أعلنت تأييدها لوليم أو استسلمت له. فبدأ ألفارث بمدينة مكلين التي أبدت أقل مقاومة، حيث خرج القساوسة والأهالي في موكب نادمين، يرجون الصفح والإبقاء على المدينة، ولكن ألفا كان قد أمر بانتقام تكون فيه موعظة وعبرة. فظل جنود فدريجو لمدة أيام ثلاثة ينهبون البيوت والأديار والكنائس، ويسرقون الحلي والأردية الثمينة من التماثيل المقدسة. ويطأون الفطائر المقدسة تحت الأقدام، ويذبحون الرجال ويستحيون النساء، كاثوليك أو بروتستانت على حد سواء وفي طريق تقدمه إلى جلدرلند، تغلب جيشه على الدفاعات الهزلية في زوتفن، وقتل كل رجال المدينة تقريباً. وعلق بعضهم من الأقدام، وأغرق خمسمائة منهم يربطون زوجاً زوجاً، ظهراً لظهر، والإلقاء بهم في نهر ايسل. واستسلمت بلدة ناردن الصغيرة بعد مقاومة قصيرة، وحيت الأسبان الغزاة بموائد زخرت بألوان الطعام، فأكل الجنود وشربوا ثم اعملوا القتل في كل الأهالي في المدينة وتقدموا إلى هارلم، وهي مركز كلفني أبدى حماساً خاصاً للثورة. وقد دافعت حامية قوامها أربعة آلاف رجل عن المدينة دفاعاً مجيداً، إلى حد أن دوق فدريجو اقترح الانسحاب منها، ولكن ألفا هدد بأن يتبرأ منه إذا لم يستمر في الحصار، فتصاعدت أعمال العنف، وعلق كل من الطرفين أسراه على أعواد المشانق في مواجهة عدوه. وأثار المدافعون حنق المحاصرين بأن مثلوا على الأسوار الطقوس الكاثوليكية بطريقة تدعو إلى السخرية والضحك. وأرسل وليم ثلاثة آلاف جندي لمهاجمة جيش دوق فدريجو، ولكنهم أبيدوا وأخفقت كل محاولة لتخليص هارلم بعد ذلك. وفي 11 يولية 1573، بعد حصار دام سبعة أشهر اقتات فيها الناس على الأعشاب والجلود، استسلمت المدينة. ولم يبق على قيد الحياة سوى 1600 رجل أعدم معظمهم. كما أعدم 400 من المواطنين المتزعمون، أما بقية الأهالي فقد على حياتهم بعد موافقتهم على دفع غرامة قدرها مائتان وخمسون ألف جلدر.
وكان هذا آخر انتصارات حكومة دوق ألفا وأبهظها تكلفة. وهلك أكثر من اثني عشر ألفا من أفراد الجيش الذي تولى الحصار متأثرين بالجراح أو بالمرض. واستنزفت الحرب كل ما حصل من ضرائب بغيضة... وقبلت استقالة ألفا وغادر الأراضي الوطيئة (18 ديسمبر 1573) وأستقبله الملك فيليب استقبالاً حسناً. وقاد، وهو في سن الثانية والسبعين الجيوش الأسبانية لغزو البرتغال (1580). ولدى عودته من هذه الحملة انتابته حمى متقطعة، ولم يحفظ عليه حياته إلا إرضاعه اللبن من ثدي امرأة. وفاضت روحه في 12 ديسمبر 1582، بعد أن عاش عاماً على اللبن. ونصف قرن على الدم."
اما بعد ألفا فقد تطورت الأوضاع بين الكاثوليك والبروتستانت إلى أسوأ فقد:" أرسل فيليب دون لويس دي ركويسانس ليحل محل ألفا، وهو الذي كان منذ عهد قريب نائب الملك في ميلان. ودهش الحاكم الجديد لعدد الثوار والروح التي سادتهم، فكتب إلى الملك: "لم أكن أدرك قبل وصولي كيف استطاعوا الاحتفاظ بمثل هذه الأساطيل الضخمة، على حين أن جلالتكم لم تستطيع الإنفاق على أسطول واحد فقط. ومهما يكن من أمره، فإنه يبدو أن الرجال الذين يقاتلون من أجل حياتهم وديارهم وأملاكهم وعقيدتهم الزائفة، وجملة القول عن قضيتهم-يقنعون بالطعام دون أجور(37). ورجا فيليب في أن يرخص له في إصدار عفو عام عن الجميع باستثناء الهراطقة العنيدين، مع السماح لهم بالهجرة، وإلغاء ضريبة العشرة في المائة على البيوع. ولم ير وليم أورانج في هذه المقترحات إلا لعبة لكسب الوقت، ووسيلة جديدة لاستئصال البروتستانتية من الأراضي الوطيئة، ولم يكن يقبل السلام إلا على أساس الحرية الكاملة للعبادة، واستعادة امتيازات المقاطعات، وانسحاب الأسبان من الوظائف المدنية والعسكرية. واستمرت الحرب. وفي معركة (13 أبريل 1577) قضى نحبه كل من أخوي وليم: لويس في سن السادسة والثلاثين، وهنري في سن الرابعة والعشرين"(قصة الحضارة ج30 ص23-24)
 
ومات ركويسانس في أثناء حصار زيركزي (5 مارس 1576) و:"عين الملك أخاه غير الشقيق، دون جوان النمسوي، في هذا المنصب البغيض. ولكنه لم يصل إلى لكسمبرج إلا في نوفمبر. وفي هذه الأثناء وقع ممثلو هولندا وزيلندة، وفي دلفت (25 إبريل) "قانون التهدئة" الذي خول وليم السلطة العليا في البر والبحر، وحق التعيين في الوظائف السياسية. وعند الضرورة حق العهد بحماية الاتحاد إلى أمير أجنبي. وأهاب وليم، من مركز السلطان الجديد، بسائر المقاطعات أن تشارك في طرد الأسبان من الأراضي الوطيئة. ووعد بحرية الفكر والعقيدة للكاثوليك وللبروتستان على حد سواء... ولكن في 20 أكتوبر اجتاح المتمردون ما سترخت، وفي 28 منه، وقع المجتمعون للبحث والتشاور رغبة في حماية قوات وليم لهم، "قانون التهدئة" الذي صدر في غنت، والذي اعترف بوليم حاكماً على هولندا وزيلندة، وأوقفوا كل اضطهاد للهرطقة، واتفقوا على التعاون في طرد الجنود الأسبان من مقاطعاتهم. ورفضت الجمعية العمومية للمقاطعات الجنوبية التي انعقدت في بروكسل، التوقيع على "قانون التهدئة"، حيث اعتبرته إعلاناً للحرب ضد الملك. ودعم المتمردون مرة أخرى من حجج وليم، ذلك أنهم في 4 نوفمبر 1576 استولوا على أنتورب، وأعملوا فيها السلب والنهب، على أسوأ شكل عرفه تاريخ الأراضي الوطيئة. وقاوم المواطنون ولكنهم غلبوا على أمرهم، وقتل منهم سبعة آلاف، وأحرق ألف مبنى كان بعضها من روائع العمارة. وذبح الرجال والنساء والأطفال في طوفان من الدماء بأيدي الجنود وهم يرددون الصيحات: "سان جيمس، أسبانيا، الدم، الموت، النار، السلب، النهب" وطوال تلك الليلة عاث الجنود في المدينة الغنية، وسلبوا كل بيت فيها تقريباً، ورغبة في انتزاع الاعتراف بالذخائر المخبأة، أصيلة أو زائفة، عذبوا الآباء على مرأى من أطفالهم، وذبحوا الصبية وهم في أحضان أمهاتهم، وضربوا الزوجات بالسياط حتى الموت أمام أعين أزواجهن. واستمر هذا العنف "العنف الأسباني" يومين حتى أتخم الجنود بالذهب والحلي والملابس الثمينة، وبدأ الواحد منهم يقامر الآخر بغنائمه في الشوارع المكتظة بجثث الموتى. وفي 28 نوفمبر صدقت الجمعية العمومية على "قانون التهدئة" الذي وضع في غنت.
وكان هذا نصراً مبيناً أحرزه الأمير في الوقت المناسب. وعندما أرسل دون جوان من لكسمبرج يقول أنه على وشك أن يدخل بروكسل، أجابت الجمعية العمومية بأنها لن تستقبله بوصفه حاكماً إلا إذا وافق على "قانون التهدئة" وأعاد امتيازات المقاطعات، وطرد كل القوات الأسبانية من الأراضي الوطيئة. وقضى دون جوان، الباسل في ميدان المعركة، القليل الخبرة بالسياسة والذي أعوزه الرجال والمال، شتاءه متلكئاً في لكسمبرج، ثم وقع في 12 فبراير 1577 "المرسوم الدائم" الذي أدى به إلى التهدئة وحريات المقاطعات. وفي أول مارس دخل دون جوان بروكسل في احتفال رسمي، واغتبطت المدينة إذ رأت مثل هذا الحاكم الوسيم الأعزل الضعيف. ورحلت القوات الأسبانية. وساد السلام لفترة وجيزة ربوع البلاد المخربة"(قصة الحضارة ج30 ص24-25)
 
القتل المتبادل بين الكاثوليك والبروتستانت
ورغم محاولات التهدئة –الملتوية-الا أن الوضع انفجر بين الهولنديين ، من الكاثوليك والبروتستانت :" وفي 10 ديسمبر 1577 انضمت المقاطعات كلها-عدا نامور-إلى "اتحاد بروكسل". وطلب الأعضاء الكاثوليك في الجمعية العمومية، الذين كانوا يخشون كلفنية وليم، إلى ماتياس أرشيدوق النمسا أن يكون حاكماً على الأراضي الوطيئة. وقدم الشاب ابن العشرين وتقلد المنصب (18 يناير 1578) ولكن أنصار وليم أعزوا الحاكم الجديد بتعيين وليم نائباً له-ومن الوجهة الفعلية صاحب الأمر والنهي في الإدارة والسياسة.
وكان يمكن للتسامح المتبادل في الخلافات الدينية وحده يبقى على هذا الاتحاد أو الترابط، ولكن التعصب مزقه. فإن الكلفنيين في هولندا والكاثوليك في أسبانيا اعتقدوا جميعاً بأن الكفار وحدهم الذين يستطيعون أن يبدوا تسامحاً. وقال كثير منهم صراحة بأن وليم أورنج ملحد(38)، واتهمه الواعظ الكلفني بيتر داتينوس، بأنه جعل من السلطة معبوده الوحيد، وأنه يغير عقيدته كما يغير الناس ملابسهم(39). وكان المكلفنيون (وظلوا حتى 1587) يشكلون عشر السكان فقط في مقاطعة هولندا، ولكنهم كانوا نشيطين طموحين ومسلحين. وكانت لهم السيطرة على الجمعيات السياسية، فأحلوا حكاماً وقضاة بروتستانت محل الكاثوليك، وفي 1573 حظر مجلس المقاطعة العبادة الكاثوليكية في هولندا(40)، على أساس أن أي فرد كاثوليكي يحتمل أن يكون خادماً لأسبانيا. ولن تأت 1578. إلا وقد عمت الكلفنية زيلندة تقريباً، وكانت م الوجهة السياسية-لا العددية-متسلطة في فريزلند واكتسحت موجات تحطيم الصور المقدسة هولندا وزيلندة 1572، ومقاطعات أخرى، حتى الفلاندرز وبرابانت ، بعد 1576. وأنكروا أي ربط بين الدين والفن باعتباره عملاً وثنياً دنساً. وجردت الكنائس من الصور والتماثيل والصلبان والزخارف، وصهرت الأواني الذهبية والفضية، ولم يبق إلا الجدران العارية، وعذب "المتسولون" القساوسة الكاثوليك، وأعدموا نفراً منهم(41).
واستنكر وليم كل هذه التصرفات، ولكنه تغاضي(42) عن استيلاء الأقليات الكلفنية المسلحة السياسية في بروكسل وايبر وبروجز وكل شمال الفلاندرز(43). وفي غنت سجن الكلفنيون أعضاء المجلس، ونهبوا الكنائس والأديار وأتلفوا أجزاءها الداخلية، وصادروا أملاك الكنيسة، وحرموا إقامة الطقوس الكاثوليكية، وأحرقوا الرهبان في ساحة السوق(44)، وأقاموا جمهورية ثورية (1577). وفي امستردام اقتحم الكلفنيون المسلحون دار البلدية (24 مايو 1578)، وطردوا القضاة والموظفين، وأحلوا محلهم كلفنيين، وخصصوا الكنائس التي جردوها لمذهب الصلاح. وفي اليوم التالي قامت ثورة مماثلة بمثل هذا العمل في هارلم. وفي أنتورب التي كانت آنذاك مقر قيادة وليم أخرج البروتستانت القساوسة والرهبان من المدينة (28 مايو)، وأنب الأمير أتباعه تأنيباً شديداً على هذا العنف. وخصهم على السماح باستثناء الطقوس الكلثوليكية. ولكن في 1581 حرمت كل عبادة كاثوليكية في أنتورب وأوترخت. واتهم الكلفنيون القساوسة بأنهم كانوا يخدعون الناس بالمخالفات الزائفة والكرامات التي يفتعلونها-وعرض قطع من "الصليب الحقيقي، وعظام قديمة للتعبد على أنها رفات القديسين، وإخفاء الزيت في رؤوس التماثيل حتى ترشح في الوقت المناسب(45). على أن وليم تولاه الحزن والأسى حين رأى سنوات كفاحه من أجل الوحدة تختتم بالفرقة والفوضى والبغضاء. وإن الديمقراطية الكلفنية التي كانت قد استولت على جملة مدن الآن في وهدة من الفوضى، بدأ معها الملاك البروتستانت والكاثوليك على حد سواء يتساءلون هل كان المذهب الجديد وكل ما يتصل به من دعايات أشد وبالاً عليهم من الديانة القديمة. وسرى شعور الاستياء وواجه وليم هذه الرغبة المتزايدة في إعادة النظام بالتفاوض مع فرنسوا دوق أنجو ليتولى منصب الحاكم العام بدلاً من ماتياس الماجز التافه. ولكن اتضح أن أنجو خائن حقير... وعين فيليب دوق بارما حاكماً عاماً مكانه، وبدأ فصل جديد"(قصة الحضارة ج30 ص 26-28).
 
يتبع
بدأ الفضل الجديد ب (بارما وأورانج 1578 – 1584)
:" الساندرو فارنيزي، الذي يبلغ الثالثة والثلاثين، هو ابن نائبة الملك السابقة مرجريت بارما. تربي في أسبانيا وأقسم يمين الولاء لفيليب، وحارب في ليبنتو وقضى الأربعة عشر عاماً الأخيرة من حياته في الإبقاء على الأراضي الوطيئة الجنوبية في حوزة الملك فيليب... وجمع بين كل الفن العسكري الذي امتاز به دوق ألفا، مع إثارة من قسوته، وقدراً أكبر بكثير من المهارة في المفاوضة والحديث. وبات القتال من أجل الأراضي الوطيئة، آنذاك، صراعاً بين دبلوماسية بارما وأسلحته تسانده أموال الكاثوليك وآمالهم، بين صمود أمير أورانج البطولي، يموله التجار الهولنديون ويشدون أزره. ويعرقل جهوده، في وقت معاً، تعصب أصدقائه.
وفي 5 يناير 1579 شكل جماعة من النبلاء الكاثوليك، من هينوت ودوا وأرتوا وليل، بإيحاء من أسقف آراس، شكلوا عصبة آراس لحماية عقيدتهم وممتلكاتهم وفي 29 يناير شكلت مقاطعات هولندا وزيلندة وجروننجن وأوترخت وجلدرلند، "اتحاد أوترخت، للدفاع عن عقيدتهم وحرياتهم. وسرعان ما انضم إليها فريزلند، وأوفريسل. ومن هذه "المقاطعات المتحدة" السبع تتكون اليوم الأراضي الوطيئة الهولندية، وأصبحت المقاطعات الباقية هي "الأراضي الوطيئة الأسبانية"، وصارت في القرن التاسع عشر بلجيكا وحدد تقسيم المقاطعات السبع عشرة إلى أمتين على هذا النحو. سيطرة الكاثوليكية في الجنوب والبروتستانتية في الشمال، من ناحية. إلى جانب الفصل الجغرافي بينهما، لوجود الخلجان والأنهار الكبيرة التي هيأ اتساعها وسدودها التي يسهل التحكم فيها، ثغوراً يمكن الدفاع عنها، وتأوي إليها الأساطيل والأسلحة الأسبانية.
وفي 19 مايو وقعت عصبة آراسي مع بارما اتفاقاً، التزمت فيه بألا تقبل غير الكاثوليكية مذهباً، وارتضت بمقتضاه السيادة الأسبانية شريطة استعادة امتيازات المقاطعات والوحدات الإدارية الصغيرة (الكوميونات) وسرعان ما أعاد الدوق، بالإغراء أو الرشوة أو القوة، كل المقاطعات الجنوبية تقريباً إلى حضيرة أسبانيا، وتخلى الزعماء الكلفنيون في بروكسل وغنت وإيبر عن فتوحاتهم وولوا الأدبار إلى الشمال البروتستانتي. وفي 12 مارس 1579 قاد بارما جيشاً كبيراً ضد ماسترخت الواقعة في موقع حصين على النهر المسمى باسمها. وأتى الفريقان كلاهما بالأعاجيب من أعمال البطولة وضروب الوحشية وحفر المهاجمون أميالاً من الممرات تحت الأرض ليبثوا الألغام ويفتحوا المدينة، كما حفر المدافعون-النساء والرجال جنباً إلى جنب-ممرات ليقابلوهم؛ ودارت رحى القتال حتى الموت في باطن الأرض. وصب الماء المغلي في الأنفاق، وأشعلت الحرائق لتملأها بالدخان. واحترق مئات المحاصرين المهاجرين أو اختنقوا حتى الموت. وانفجر أحد الألغام قبل أوانه فأودى بحياة خمسمائة من رجال بارما. وعندما حاول جنوده تسلق السور قابلتهم الجمرات المحترقة، وقذفت حول أعناقهم النار الملتهبة. وبعد أربعة أشهر من الجهد المضني والضراوة والعنف، أحدث المحاصرون ثغرة في السور، نفذوا منها خفية في الليل، وفاجأوا المدافعين المنهوكين وهم نيام وذبحوا منهم ستة آلاف من الرجال والأطفال والنساء ولم يبقَ من سكان المدينة البالغ عددهم ثلاثين ألفاً، على قيد الحياة آنذاك سوى أربعمائة. وعمرها بارما من بعدهم بالموالون الكاثوليك.
تلك كانت كارثة عظمى حلت بالبروتستانت. ووجه اللوم فيها بحق إلى حد ما، إلى وليم الذي حاول عبثاً إنقاذ المدينة، لعجزه وإبطائه. واتهمه الآن نفس المتطرفين الذين أحبطوا سياسة التوحيد التي انتهجها، بتعصبهم وعنفهم-اتهموه بخيانة قضيتهم مع دوق أنجو الكاثوليكي، وأشاروا إلى أنه لم يؤدِ الشعائر الدينية طوال العام الماضي، وانتهز الملك فيليب هذه الفرصة ليصب اللعنة على أورانج (15مارس 1581). وبعد أن أسهب فيليب في بيان عقوق الأمير وخيانته وزيجاته وجرائمه، استرسل يقول:
ومن ثم... بسببه الأعمال السيئة الشريرة التي رتبها وأنه يعكر صفو السلام العام، وأنه شخص بغيض، فإننا نحرمه من حماية القانون، ونحظر على كل رعايانا أن يتعاملوا معه أو يتصلوا به في السر أو العلن، أو أن يزودوه بالطعام أو الشراب أو الوقود أو غيرها من الحاجيات الضرورية. أننا نعلن على الملأ أنه عدو للجنس البشري . ونبيح ممتلكاته لمن يضع يده عليها. ورغبة في الإسراع في تخليص شعبنا من طغيانه وظلمه، فإننا نعد، وعد ملك خادم للرب، أي فرد من رعايانا، وأتى من النخوة والشهامة ما يستطيع معه أن يجد الوسيلة لتنفيذ هذا المرسوم، وتخليصنا من هذا الإنسان البغيض، سواء بتسليمه لنا حياً أو ميتاً، أو بإزهاق روحه على الفور، نعد بأن نمنحه هو أو ورثته من الأرض أو المال، وفق مشيئته، ما قيمته خمسة وعشرون ألف كراون ذهباً. ولسوف نصدر العفو عن أية جريمة ارتكبها أياً كان نوعها، ونرفعه إلى مرتبة النبلاء إذا لم يكن نبيلاً(46).
وكان جواب مجلس المقاطعات على هذا "الجرم"، تعيين وليم حاكماً عاماً على هولندا وزيلنده (24 يولية 1581) وبعد ذلك بيومين وقع ممثلو هولندا وزيلندرز وجلدرلند وأوترخت وفلاندرز وبرابانت، في لاهاي "قرار الاستنكار الذي طرحوا فيه بشكل مهيب ولاءهم لملك أسبانيا. وفي وثيقة مشهورة في التاريخ الهولندي، شهرة وثيقة "إعلان الحقوق" التي أصدرها برلمان إنجلترا 1689 في التاريخ الإنجليزي، أعلنوا أن الحاكم الذي يعامل رعاياه معاملة العبيد ويقضي على حرياتهم، يجب ألا يعتبر بعد اليوم مليكهم الشرعي ويحق قانوناً
عزله(47). وكان رد وليم على هذا الحرمان في صيغة دفاع حرره له قسيسه، أرسل إلى الجمعية العمومية وإلى كل بلاط في أوربا، ورحب بالحرمان على أنه وسام شرف له. واتهم فيليب بسفاح ذوي القربى والزنى وقتل زوجته وابنه. وأبدى استعداده للتخلي عن كل مناصبه ومغادرة الأرضي الوطيئة بل حتى للتضحية بحياته، إذا كان هذا في مصلحة بلده، ومهر الوثيقة بشعاره "سوف أتشبث".
ولم يلبث فيليب طويلاً حتى جنى ثمار "الحرمان" الذي أصدره (18 مارس 1582)، فإن جين جوريجي أغرته الجائزة الموعودة، فتسلح بمسدس واستعان بالله، ونذر للعذراء بعض الغنيمة. واتخذ سبيله إلى وليم أورانج في أنتورب. وأطلق الرصاص على رأسه، فدخلت الرصاصة تحت الأذن اليمنى ونفذت إلى الفم، ثم إلى الخد الأيسر. ولقي القاتل على الفور حتفه بيد أتباع وليم، ولكن بدا أن المهمة قد نفذت. ولعدة أسابيع بدا أن الأمير على شفا الموت. ودعا فارنيزي المقاطعات الثائرة، وقد مات زعيمها العنيد، إلى المصالحة مع مليكهم الرحيم. ولكن وليم تماثل للشفاء في بطء بفضل سهر زوجته شارلوت على العناية به. وهي التي قضت نحبها في 5 يونية بسبب الإرهاق والحمى. وفي يولية وضع متآمران مغموران خطة لدس السم لأمير أورانج ودوق أنجلو كليهما. واكتشفت المؤامرة واعتقل المجرمان وانتحر أحدهما في السجن، وأرسل الثاني إلى باريس وحوكم وأدين، ومزق إرباً بربطه في أربعة خيول، تتجاذبه في كل اتجاه.
وفي أثناء عام 1582 جمع أنجو حوله بعض قوات فرنسية في أنتورب. ولم يكن الدوق ليقنع بلقبه، وداعبه الحلم بأن ينصب نفسه ملكاً. وهب أتباعه فجأة في 17 يناير 1583، وهم يهتفون "فليحيا القداس" وحاولوا أن يسيطروا على المدينة. فقاومهم الأهالي، وهلك في هذه "الثورة الفرنسية" قرابة ألفي شخص. وأخفقت هذه الثورة وهرب أنجو. وعانى وليم من فقدان قدر آخر من شعبيته لأنه ظل طويلاً يؤيد أنجو ويسانده. ووقعت في مارس محاولة أخرى للقضاء عليه. فلم يطمئن للإقامة في أنتورب ونقل مركز قيادته إلى دلفت. عندئذ عقدت مقاطعتا جروننجن وجلدرلند الصلح مع بارما، ولم يبقَ مع وليم إلا اثنتين من المقاطعات "المتحدة"، وهما هولندا وزيلندة، ولكنهما أثبتتا ولاءهما بأن جعلتا منصب "الحاكم العام" وراثياً في أسرته (ديسمبر 1583)، وبهذا وضعت أسس بيت أورانج الذي كان يمكن أن يغزو وأن يرث نصف إنجلترا في 1688 وأصر القتلة ولم تفتر عزيمتهم. وفي أبريل 1584 حاول هانز هانزون من فلشنج أن يودي بحياة الأمير، ولكنه أخفق وأعدم. واستبد الحماس الديني ببلتازار جيرار من برجندي... وقصد جيرار إلى دلفت، وتنكر في زي كلفني مسكين تقي، وتلقى من وليم اثني عشر كراون صدقة. وصوب إلى جيده ثلاث رصاصات (10 يولية 1584) فصرخ وليم "يا إلهي، رحمتك بي وبالشعب المسكين". وفاضت روحه في بضع دقائق. وقبض على جيرار وحوكم أمام قضاة المدينة، وأبدى فرحه واغتباطه بنجاحه فيما قصد إليه، ثم لقي أشد العذاب وقتل شر قتلة. ووري وليم التراب في دلفت، بأسمى مظاهر التكريم بوصفه "أبا البلاد"...وابتهج كاثوليك الأراضي الوطيئة، قائلين إن الجريمة انتقام إلهي لانتهاك حرمة الكنائس وقتل القساوسة. وأرسلوا رأس القاتل إلى كولون باعتباره من المخلفات الثمينة، ولمدة نصف قرن بذلوا أقصى الجهد لإعلانه قديساً"(قصة الحضارة ج30 ص 29-34)
 
:"وفور وفاة وليم الصامت اختير ابنه موريس حاكماً عاماً على هولنده وزيلنده وفي1588، وهو في الحادية والعشرين، عين قائداً عاماً وأمير للبحر في المقاطعات المتحدة. وفي 1590 أسلمته أوترخت وأفريحسل وجلدرلند مقاليد الحكم فيها. وأفاد موريس من محاضرات سيمون ستيفن في الرياضيات في ليدن، فطبق العلم الحديث على القذائف والهندسة والحصار. ودرب الجيش الهولندي على أساليب جديدة للالتحام والنظام. وفي سلسلة من الحملات التي اشتهرت بسرعة الحركة والاستراتيجية المفاجئة (1590-1594) استرد موريس زوتفن ودفنتر وتيميجن وجروتنجن... وفي 1609 عقدت هدنة هيأت الأراضي الوطيئة الراحة من عناء الحرب لمدة اثني عشر عاماً.
بيد أن الوئام في الداخل شيء يختلف كل الاختلاف عن السلام الخارجي... وولى موريس وجهه شطر الشعب ليحصل على تأييده، ووجد أنه يمكنه أن يكسب الشعب إلى جانبه إذا جعل من القساوسة الكلفنيين أصدقاء له.
وكانت القضية الدينية التي أهاجت الجمهورية الآن قضية مثلثة الجوانب: فهناك المعارضة المتزايدة بين الكنيسة الدولة، وهناك الصراع بين الكاثوليك البروتستانت، وهناك أخيراً النظريات بين البروتستانت أنفسهم. وسعت المجامع الكنسية الكلفنية إلى أن تحدد النهج السياسي، وتتخذ من الحكومة أداة لتقوية مذهبهم. وارتابت الجمعية العمومية في المجامع الكلفنية على أنها سيئة وبذور خطيرة لمؤامرة الديمقراطية. وقد جلب أولدنبار نفلدت على نفسه عداوات كثيرة حين أمر رجال الدين بأن يتركوا الحكومة للسلطات المدنية. وقد يكون غريباً أن نقول أن الغالبية الساحقة من السكان في 1609 كانوا من الكاثوليك حتى في المقاطعات الشمالية(51). كانت القوانين تحرم العبادة الكاثوليكية، ولكنها لك تكن تنفذ، وكان هناك 232 قسيساً يتلون الشعائر الكاثوليكية(52)، وأمر مجلس المقاطعة في أوترخت القساوسة أن يتزوجوا النساء اللائى يستخدمونهن في إدارة شؤون منازلهم، ولكن الامتثال لهذا الأمر لم يكن تاماً، ولك يلقَ إقبالاً.
وحدث الصراع داخل المجموعات البوتستانتية بين الكلفنيين و "المتحررين"، وهم أقلية. وأطلق هذا الاسم على هؤلاء، لا لأنهم إباحيون في حياتهم. بل لأنهم حبذوا الحرية الدينية حتى للكاثوليك، كما أيدوا تفسيراً إنسانياً متحرراً للاهوت البروتستانتي. هؤلاء هم ورثة تقاليد ارزم (الذين كان ينتسب إليهم وليم أورانج). وكان المتزمتون معتنقوا الكلفنية القديمة، الذين تمسكوا بمذهب الجبرية الصارمة، وأحسوا بأن عقيدتهم يحب أن تكون إجبارية في كل المقاطعات المتحدة(53)-نقول كان هؤلاء المتزمتون يرمون المتحررين بأنهم "بابويون" في الخفاء. ودافع ديرك كورنهرت الذي كان سكرتيراً لدى وليم أورانج. عن حرية العبادة في كتاباته التي أرست أسس اللغة الأدبية في هولنده. وانبرى واعظ من أمستردام، هو جاكوبس أرمنيوس، لتفنيد آراء كورنهرت، ولكنه تحول إليها واعتنقها بينما كان يدرس ليرد عليها، وحينما عين أستاذاً للاهوت في ليدن، صدم المتزمتين بارتيابه في الجبرية، وإثباته أن الإنسان تنقذه أعماله الصالحة بقدر ما ينقذه إيمانه، وهذا يخالف ما قال به لوثر وكلفن. وسلم بأن الوثني المتمسك بأهداب الفضيلة قد ينجو من الجحيم. وذهب إلى أن كل الناس في النهاية سيخلصون ودمغة أستاذ زميل له في الجامعة، فرانسيسكس جوماروس، بأنه مهرطق ماكر.
ومات أرمنيوس 1609، وكان قد كسب إلى جانبه آنذاك أتباعاً من ذوي النفوذ، من بينهم أولدنبار نفلدت وهوجو جروتيوس أكبر موظفي روترذام وفي 1610 صاغ هؤلاء "المتحررون" احتجاجاً على نظريات الجبرية ولاصطفاء والرفض أو الإخراج من زمرة الأبرار، واقترحوا عقد مجلس وطني يضم رجال الدين وغيرهم من العلمانيين لإعادة تحديد عقيدة الإصلاح وتعريفها. وصاغ المتزمتون "احتجاجاً مضاداً" أكدوا فيه من جديد المذهب الكاثوليكي:
"إن الرب، بعد خطيئة آدم، حفظ نفراً معيناً من البشر من الدمار، وقدر لهم الخلاص في المسيح...وفي هذا الاصطفاء لم يعتبر الرب الإيمان أو الارتداد، ولكنه يعمل كيف يشاء. وأرسل الرب ابنه يسوع لتخليص هؤلاء المصطفين وحدهم(54)".
وأصر أتباع جوماروس على أن هذه القضايا لا يعالجها إلا رجال الدين وحدهم، وبذلك نجحوا في دمغ المحتجين بأنهم من أنصار البابا أو من أتباع بلاجيوس (الذين ينكرون نظرية الخطيئة الأصلية ويرون أن الإنسان مخير) أم من الموحدين (الذين لا يدينون بالتثليث، إلى حد أغلبية كبيرة من السكان البروتستانت انحازت إلى جانب المتزمتين، وكان موريس ناسو يغفل شأن هذه المنازعات اللاهوتية احتقاراً لها، ولكنه تحرك الآن ليصادق مؤقتاً جماعة المذهب القديم، لأنهم يهيئون لأه ركيزة شعبية لمحاولة استعادة الزعامة الوطنية.
وأعقبت ذلك معركة بالخطب والعظات والنشرات قاربت أن تكون حرباً. وعكرت الاضطرابات العنيفة صفو الهدنة، وهوجمت بيوت المتحررين في لاهاي، وأخرج الوعاظ الكلفنيون المتشددون من روتردام. وجهزت هولندا جيشاً للدفاع عن ديانتها، وسرعان ما تبعتها مقاطعات أخرى، وبدا أن الحرب الأهلية توشك أن تقضي على الجمهورية في مهدها، وفي 4 أغسطس 1617 اتخذ أولدنبار نفلدت في مجلس هولندا قراراً خطيراً-رآه موريس خطيراً حقاً-يعلن فيه سيادة الدولة على الأمور الدينية، ويوجه مدن المقاطعة إلى تسليح نفسها حماية لها من عنف أنصار الكلفنية، وقصد إلى أوترخت حيث أقنع مجلسها بإعادة القوات لتأييد هولندا. وفي 25 يولية 1618 دخل موريس ناسو بوصفه القائد الشرعي للجيش، أوترخت على رأس قوة مسلحة. وأرغم الفرق المجندة حديثاً على أن يتفرقوا. وفي 29 أغسطس أصدرت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة أمراً بالقبض على أولدنبار نفلدت وجروتيوس وغيرهما من زعماء المحتجين. وفي 13 نوفمبر اجتمع كنيسة الإصلاح في دور درخت (دورت)، واستمع لآراء اللاهوتيين المحتجين وحكم بأنهم مهرطقون، وأمر بطرد قساوسة المحتجين من وظائف الكنيسة والتعليم. وصبت اللعنة على أنصار أرمنيوس-مثلهم في ذلك مثل الكاثوليك-وحرم عليهم عقد الاجتماعات أو إقامة الصلوات العامة. وفر كثيرون منهم إلى إنجلترا حيث أحسنت الكنيسة الرسمية استقبالهم ودعموا أهم مركز الأنجليكانيين المتحررين... وعلى الرغم من هذا الانتصار الذي أحرزه التعصب، نمت الحرية في المقاطعات. وبلغ الكاثوليك من الكثرة حداً يتعذر معه وقف نموهم. ولم يكن من المستطاع تنفيذ القرارات النظرية التي صدرت عن مجلس دورات. وفي عام 1619 نفسه أسس المنونايتين (يعارضون حلف اليمين وعماد الأطفال والخدمة العسكرية وقبول الوظائف العامة)، في حرية تامة، طائفة الطلبة الجامعيين، وهي تشبه الكويكرز، في ريجنسبرج وقد وجد عندهم سبينوزا ملجأ آمناً. وفي 1629 امتدح ديكارت حرية الفكر التي نعم بها في أمستردام، وفي نهاية القرن السابع عشر أصبحت هولندا ملاذ المهرطقين الذين لجأوا إليها من بلاد كثيرة.
وفي 9 أغسطس 1621 استُأنفت الحرب مع أسبانيا. ذلك أن الأرشيدوق ألبرت مات دون أن يخلف عقباً. فعادت المقاطعات الجنوبية إلى أسبانيا. وأغار سبينولا على المدن الهولندية الواقعة على الحدود. فسار إليه موريس ناسو ولكن سنوات النضال كانت قد أنهكت قواه، فمات فجأة (1625) وهو في سن السابعة والخمسين. واستولى سبينولا على بريداً، وبذلك فتح الطريق إلى امستردام، وهيأ للمصور فيلاسكويز موضوع لوحة. ونهض الهولنديون من كبوتهم واستردوا قوتهم في إصرار وعناد... استخدم التجار الهولنديون أموالهم في بناء السفن، لأن كل انتصار في البحر كان يعني توسيع مجال التجارة. وفي عام 1628 أسر أسطول هولندي صغير تحت إمرة بيبت هين أسطولاً أسبانياً كان يحمل الذهب من المكسيك. وهاجم أسطول هولندي آخر قوة أسبانية مكونة من 13 سفينة في نهر سلاك، فدمرها وأسر 5000 رجل (1631). ولكن أروع هذه الانتصارات البحرية هي المعركة التي خاضها قائممقام أمير البحر مارتن هاربوتزون ترومب في القنال الإنجليزي (بين دوفروديل) وكان الأسبان قد عقدوا العزم على استعادة السيطرة على ثغور الأراضي الوطيئة من الهولنديين. فأعدوا أسطولاً ضخماً جديداً من 77 سفينة عليها 24 ألف رجل فلما أبصر به ترومب في القنال، وأرسل في طلب المدد، وفي 21 أكتوبر 1639 أبحر ومعه 75 سفينة حتى صار على مقربة من مواقع العدو، فأغرق أو أعطب أو أسر كل الأسطول الأسباني فيما عدا سبع سفن. وقتل 15 ألفا من الملاحين الأسبان في المعركة أو أغرقوا. وتحتل معركة القنال الإنجليزي في تاريخ هولندا نفس المكانة التي تحتلها هزيمة الأرمادا (1588) في تاريخ إنجلترا. فقد وضعت حداً لكل دعاوى أسبانيا في السيادة على البحار، وقطعت شريان الحياة بين أسبانيا ومستعمراتها، وأسهمت مع أنصار فرنسا على أسبانيا في معركة روكروا (1643) واختتمت الحقبة التي هيمنت فيها أسبانيا على أوربا.
مذ انهمكت أسبانيا انهماكاً تاماً في حرب الثلاثين عاماً فإنها قررت أن تنزل للهولنديين عن كل شيء، حتى تتفرغ للحرب مع فرنسا. وفي مونستر في 30 يناير 1648 وقع المندوبين الأسبان معاهدة وستفاليا التي أنهت ثمانين عاماً من الحرب في الأراضي الوطيئة. وأعلن أن المقاطعات المتحدة غير متقيدة بأي رباط مع أسبانيا. وتم الاعتراف بفتوحاتها. ولا تصل تجارة الراين إلى بحر الشمال إلا عن طريق الثغور الهولندية وحدها. وخول التجار الهولنديون حرية التجارة في جزر الهند الشرقية والغربية. وهكذا انتهى أطول وأشجع وأقسى صراع من أجل الحرية في التاريخ بأسره"(قصة الحضارة ج30ص35-41)
 
قال ديورانت عن روسيا القرن السادس عشر:" في 1581م... وكانت روسيا لا تزال لاصقة بالهمجية. فالسلوك فظ غليظ؛ والنظافة ترف نادر؛ والأمية امتياز طبقي؛ والتعليم بدائي، والأدب في معظمه حوليات"(قصة الحضارة ج30 ص124)
 
وفي السويد
:"دعا مجلس الديت في سودر كوينج (1595) إلى القضاء على كل عبادة كاثوليكية، (يتكلم ديورانت عن السويد)ونفى كل الطوائف المعارضة للمذهب البروتستانتي، وأمر بأن يضرب بالعصا كل من يتخلف عن حضور الصلوات اللوثرية، ووقع هو العقوبة بنفسه عند زيارته للكنائس(3). وأغلق كل ما بقي من الأديار، وأزيلت كل الأضرحة الكاثوليكية. وتوسل إلى سجسمند مستشاره أن يغزو السويد بجيش كبير. ورأى هو أن خمسة آلاف جندي تفي بالغرض. وحط رحاله بهم في السويد (1598) واشتبك معه شارل في ستجبرج فهزم. وفي اشتباك آخر في ستانجبرو انتصر الدوق. ووافق سجسمند من جديد على إعلان أبسالا وعاد إلى بولندة. وفي يولية 1599 خلعه الديت السويدي، وأصبح الدوق شارل الذي ما زال نائباً للملك، الحاكم الفعلي للدولة. وأقر مجلس الديت (1604) قانون الوراثة الذي نص على ألا يتولى العرش إلا كل ذكر أو أنثى من أسرة فاسا يرتضي العقيدة اللوثرية المقررة وأن كل مخالف لها لا يحق له الإقامة أو التملك في السويد. "فكل أمير ينحرف عن مبادئ أوجزبرج لابد بطبيعة الحال أن يفقد تاجه(4)" ومن ثم كان الطريق معبداً لاعتلاء جوستاف أدولف ابن شارل عرش السويد، ولتخلي حفيدته كريستينا. وفي 1607 توج شارل التاسع ملكاً...وأعلن كريستيان الرابع الحرب (أبريل 1611) وغزا السويد. وتحدى شارل، وهو في الحادية والستين من العمر، كريستيان لمبارزة فردية. فرفض هذا الأخير. ومات شارل في أكتوبر 1611، والقتال على أشده"(قصة الحضارة ج30 ص 102-103)
وفي بولندا
"وعوق الصراع الديني كل نواحي الثقافة البولندية في ذاك العصر. ففي النصف الأول من القرن السادس عشر بدا أن البروتستانتية قدر لها أن تسيطر على بولندة، وعلى ألمانيا والسويد أيضاً. وكسبت إلى جانبها من النبلاء تمرداً على سلطة الملك وفساد الكنيسة، ووسيلة لانتزاع أملاكها(34). ومنح سجسمند الثاني بلاده تسامحاً دينياً واسع النطاق. وبعد عام من وفاته صاغت لجنة من الديت (28 يناير 1573) "اتحاد وارسو الكونفدر إلي" الذي يضمن الحرية الدينية لكل الشيع والفرق بلا استثناء. فلما عرض المشروع للتصويت عارضه الأعضاء الأسقفيون في المجلس. ولكن أقره بالإجماع الأعضاء العلمانيون الثمانية والتسعون، بما في ذلك واحد وأربعون كاثوليكياً(35)، وهذا يمثل نقطة بارزة في تاريخ التسامح، لأن أي إعلان رسمي سابق من هذا القبيل لم يصل إلى هذا المدى. وانتعشت في ظل هذه الحماية العريضة عدة طوائف متباينة، اللوثريون، والكلفنيون، وأتباع زونجلي، وأنصار تجديد العماد، والأخوة البوهيميون؛ وغير القائلين بالتثليث. وفي عام 1579 قدم إلى بولندة فاوستس سوسينس، وبدأ يؤسس كنيسة قائمة على مذهب التوحيد ولكن أهالي كراكاو أخرجوه من داره ودمروا مكتبته، وكادوا يقتلونه لولا أن المدير الكاثوليكي للجامعة هب لنجدته (1598(36))، واتحد الكلفنيون مع اللوثريون في المطالبة بطرد الموحدين أتباع سوسينس من بولندة. وأمر الديت في 1638 بإغلاق مدارس الموحدين؛ وفي 1658 نفي أفراد هذه الطائفة من البلاد. ففروا إلى ترانسلفانيا والمجر وألمانيا وهولندا وإنجلترا؛ وأخيراً إلى أمريكا؛ ليجدوا أعظم معبر عنهم في شخص أمرسون. أن التعصب الشعبي والتربية الجزويتية والنظام الكاثوليكي والسياسة الملكية والتشيع الطائفي البروتستانتي، اجتمعت كلها بعضها إلى بعض لتقضي على البروتستانتية في بولندة، فإن الطوائف الجديدة حاربت الواحدة منها الأخرى بمثل الضراوة التي حاربت بها المذهب القديم. وتعلق المزارعون بالمذهب القديم لمجرد أنه قديم؛ حيث كان يمثل الارتياح إلى العادة والعرف المألوف؛ ولما أنضم الملكان-باثوري وسجسمند الثالث-إليه، وجد كثير من البروتستانت وأبنائهم، أنه من الأفضل لهم أن يعقدوا أواصر السلام مع الكنيسة وكان معظم الألمان في بولندة-من البروتستانت، وتلك حقيقة وجهت الشعور الوطني إلى مناصرة الكاثوليكية ومعاونتها. وتعاونت الكنيسة تعاوناً جاداً مع هؤلاء الأعوان المتفرقين على استرداد بولندة إلى حظيرة البابا، فأرسلت نخبة من أكثر الدبلوماسيين فيها رصانة، وأكبر الجزويت المغامرين، ليسبوا إلى جانبها، الملوك والنساء والأطفال، بل حتى النبلاء البروتستانت أنفسهم. وحذر رجال الدولة الكنسيون، مثل الكاردينال ستانسلاس هوسيوس والأسقف جيوفني كومندون، الملوك من تأسيس نظام اجتماعي أخلاقي سياسي مستقر على المذاهب البروتستانتية المائعة المتضارعة. وأثبت الجزويت قدرتهم على الدفاع عن الأمور التي كان الناس يتشككون فيها ولا يصدقونها، ضد ما استحدث الآن من معتقدات وطقوس. وفي نفس الوقت فإن رجال الدين الكاثوليك الذين التزموا بقرارات مجمع ترنت، خضعوا الآن لإصلاح ديني صارم مثير للإعجاب(37).
ولكن للكاثوليك أيضاً مشكلة. ذلك أن اتحاد لوتوانيا وبولندة عمل على إيجاد تلاحم مثير للغضب بين الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية وكان الخلاف بين الكنيستين طفيفاً ولكن الصلوات الأرثوذكسية اتبعت الطقوس السلافية، كما اتخذت القساوسة الأرثوذكس زوجات. وفي 1596، وعن طريق، "اتحاد برست ليتوفسك"، شكل جان زاموسكي مجموعة وسطاً من رجال الدين والعلمانيين في "كنيسة موحدة"، اعتنقت فكرة زواج رجال الدين، واتبعت الطقوس السلافية، وفي نفس الوقت ارتضت المذهب الكاثوليكي الروماني واعترفت بسيادة البابا. وراود زعماء الكاثوليك الأمل في أن يؤدي مثل هذا الحل الوسط إلى التوفيق بين الكنيستين، تدريجياً، إلى كسب الملتين اليونانية والروسية إلى جانب الامتثال للبابا. ولكن الكنيسة الجديدة لاقت مقاومة مثيرة. وذبح أهل بولوك رئيس أساقفتها.
وظل ملوك بولندة طوال القرن السادس عشر، يطبقون تسامحاً دينياً أكثر تقدماً منه في أي بلد مسيحي آخر. ولكن السكان الكاثوليك كثيراً ما عادوا سيرتهم الأولى إلى سياسة العداء الشديد، فانقضوا على كنيسة بروتستانتية في كراكاو، ونبشوا قبور البروتستانت (1606-1617). وحطموا كنيسة بروتستانتية ولنو، وضربوا-وقيل قتلوا-قساوستها (1611) وفي بورنات أحرقوا كنيسة لوثرية. وفضوا اجتماعاً خاصاً "بالأخوة البوهيمين"(38). ولم يشترك رجال الدين الكاثوليك في هذه المظاهرات الدينية الشعبية، ولكنهم أفادوا منها. وتعاونت كل الظروف على تأييد الكنيسة القديمة، حتى تم لها النصر في 1648"(قصة الحضارة ج30 ص 121—123)
 
يتبع النص السابق
:" (1610)... ودعا الزعماء الدينيون الشعب إلى طرد البولنديين بوصفهم كاثوليك مهرطقين. وبدا أن الحكومة نهار، وعمت الفوضى روسيا. واستولى الجيش السويدي على نوفجورود واقترح أن يتولى عرش روسيا أمير سويدي. ورفض الاعتراف بلادسلاس الفلاحين في الشمال والجنوب، والقوازق في الجنوب، وأقاموا حكماً خاصاً بهم في المقاطعات. وأعملت عصابات قطاع الطرق السلب والنهب في القرى والمدن، ونكلت بكل من يقاوم، وتعطلت الزراعة ونقص إنتاج الأغذية، واختلت وسائل النقل، وعمت المجاعة، واضطر السكان في بعض الأقسام إلى أكل لحوم البشر(52). ودخل جمهور ثائر موسكو، وفي غمرة الفوضى والشغب أشعل الحريق فأتت النار على معظم المدينة (9 مارس 1611) وتقهقرت الحامية البولندية إلى الكرملن، ترقب عبثاً قدوم سجسمند لنجدتها.
وفي نزني نوفجورد نظم قصاب يدعى كوزمانين، جيشاً ثورياً آخر؛ يحدوه الإخلاص للأرثوذكسية، ودعا كل أسرة إلى التنازل عن ثلث ما تملك لتمويل الهجوم على العاصمة. وتم هذا بالفعل، ولكن الناس لن ينقادوا إلى زعيم غير ذي لقب. فدعا منين الأمير ديمتري بوجاركسي ليتولى القيادة، فقبل المهمة، وانطلق رجال الجيش الجديد إلى موسكو صائمين ضارعين، وما أن وصلوا حتى حاصروا الحامية البولندية في الكرملن، وصمدت الحامية إلى حد أنهم أكلوا الفئران ولحم البشر، وكانوا يغلون المخطوطات اليونانية ليحظوا على المرق، ثم استسلموا وفروا (22 أكتوبر 1613) وظلت ذكرى هذا العام حية عزيزة في أذهان الروس، على أنه عام التحرير، وعندما أجلي الفرنسيون بعد ذلك بقرنين من الزمان، عن موسكو التي جللها رماد الحريق مرة ثانية، أقام الروس المنتصرون نصباً تذكارياً لمنين وبوجارسكي، الجزار والأمير اللذين ضربا لهما أروع مثل للبطولة في 1612... وبرغم المزيد من الثورات والحروب؛ حققت روسيا يعد جيل من الفوضى، سلاماً مزعزعاً مقروناً بالسخط والاستياء. أن زمن الشدائد والمتاعب الذي بدأ بموت بوريس، اختتم باعتلاء ديمتري العرش، وهذا بدوره كان ابتداء عهد أسرة رومانوف التي قدر لها أن تحكم روسيا حتى عام 1917"(قصة الحضارة ج30 ص 131-132)
 
اما وصف ديورانت للعالم الاسلامي وهو مقبل على الخمول فقد عرضه لنا في نص فيه وفيه وقد حذفت بعض الجمل
قال تحت عنوان الاسلام يتحدى (1566 - 1648 "في غمرة الصراعات الداخلية-سياسية ولاهوتية-في العالم المسيحي أحس بعض المفكرين بالإزعاج والقلق من أن العناية الإلهية أطلت، في حياد ظاهر، على الصراع الأكبر بين المسيحية والإسلام. ولقد تم طرد الإسلام من أسبانيا، ولكن "دار السلام" (العالم الإسلامي) كانت لا تزال شاسعة مترامية الأطراف، ضمت أندونسيا وشمال الهند. والحق أن هذا كان عصر أسرة المغول الزاهر في دلهي (1526-1707). وضم الإسلام أفغانستان وآسيا الوسطى وإيران كلها "حيث آذنت عظمة الفن الفارسي بالغروب في هذه الحقبة. وإلى الغرب من إيران كانت دولة الإسلام هي الإمبراطورية العثمانية أو التركية-التي لم يكن ينافسها آنذاك في أتساع أطرافها الإمبراطورية الأسبانية، واحتفظت بالسيطرة على شواطئ البحر الأسود، وتحكمت في مصاب الدانوب، والدنيبر والدينستر، وساعدت حلفاءها خانات التتار، على السيطرة على القرم ومصب نهر الدون. واستولى الأتراك على أرمينيا وآسيا الصغرى وسوريا وبلاد العرب-الشرق الأدنى بأسره-وهناك كان في حوزتها أشهر مدن العالم القديم والوسيط، بابل، نينوى، بغداد، دمشق، أنطاكية طرطوس، أزمير، نيقية، مكة وبيت المقدس-حيث كان المسيحيون، بترخيص من المسلمين، يحجون إلى قبر المسيح. واستولوا في شرق البحر الأبيض على الجزر العظيمة قبرص ورودس وكريت، وكانت الأغلبية الساحقة في شمال أفريقية من المسلمين، من البحر الأحمر إلى الأطلسي، فكان يحكم مصر باشوات يعينهم السلاطين، وكان يحكم طرابلس وتونس والجزائر ومراكش أسرات مسلمة محلية يختلف خضوعها للسلاطين باختلاف البعد بينها وبين الآستانة، وكان هذا هو عهد أسرة السعديين (1500-1668) في المغرب، وكانت عاصمتها مراكش تعج بالتجارة وتتألق بالفن. وامتدت الدولة العثمانية في أوربا من البسفور عبر اليونان (بما فيها أثينا وإسبارطة) والبلقان والمجر، على بعد مائة ميل من فيينا، وعبر دالمشيا إلى أبواب البندقية، وعبر البوسنة وألبانيا، وما كان ثمة إلا قفزة واحدة عبر الأدرياتيك حتى تصبح في إيطاليا البابوية. وهناك وفي فيينا الواقعة تحت الحصار، لم يكن الحوار الكبير بين البروتستانت والكاثوليك بل بين المسيحية والإسلام. وداخل هذا النطاق الإسلامي عاشت المسيحية حياتها الممزقة.
ومهما كان من أمر امتداد الإسلام غرباً فإنه ظل شرقياً. وكانت القسطنطينية نافذة على أوربا ولكن جذور العثمانيين امتدت كثيراً إلى الوراء، إلى آسيا وبذلك استطاعت تركيا المزهوة المبتهجة أن تقلد أوربا. وفي بعض بقاع العالم الإسلامي قتلت حرارة الصحراء أو الحرارة المدارية روح الحيوية. وعوقت المسافات الشاسعة غير المسكونة التجارة، ولم يجد الناس في أنفسهم تحمساً إلى كسب المعرفة وتحصيلها مثل الأوربيين الغربيين، فشجعوا الجمود وعدم التحرك... وينفخ الإسلام في الناس روح الشجاعة المفعمة بالأمل زمن الحرب، ولكنه كان يغرس في نفوسهم وقت السلم روح التسليم بالقضاء والقدر التي تثبط من عزائمهم وأغراهم بحلقات الذكر والأحلام الصوفية. وعلى الرغم من أن الإسلام في عصر الفتوة والشباب أجاز قدراً كبيراً من العلوم. فأنه هبط آنذاك بالفلسفة إلى حذلقة جوفاء...
أضف إلى ذلك أن هذا الدين تيسر له غزو البلاد التي اقتطعت من العالم المسيحي. فقد كان للكنيسة الشرقية بطاركتها في القسطنطينية وإنطاكية، وأورشليم والإسكندرية، ولكن عدد المسيحيين فيها كان يتناقص بسرعة، وظل الأرمن في آسية الصغرى والأقباط في مصر على عقيدتهم المسيحية، ولكن الجماهير عامة في آسيا وإفريقية والبلقان اعتنقت الإسلام. وربما كان لهذا أسباب عملية، فلو بقوا على عقيدتهم المسيحية لحرموا من الوظائف العامة، ودفعوا ضرائب باهظة مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية وسلموا واحد من كل عشرة من أبنائهم ليربى تربية إسلامية يؤهله للانضمام إلى الإنكشارية ليعمل في الجيش، أو ليتولى الوظائف الحكومية.
وفيما عدا هذا، تمتع المسيحيون في العالم الإسلامي بتسامح ديني ما كان حاكم مسيحي ليحلم بمنحه للمسلمين في أي بلد مسيحي. من ذلك، على سبيل المثال، أن المسلمين كان لهم في أزمير 15 مسجداً، وللمسيحيين 7 كنائس ولليهود 7 معابد(1). وكانت السلطات في تركيا والبلقان تتولى حماية الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ضد أي تحرش أو إزعاج أثناء العبادة والصلوات(2). وذهب صموئيل بيبس في يومياته إلى أن معظم المجر استسلم للأتراك لأن البلاد نعمت في ظل الحكم العثماني بحرية دينية أكبر مما نعمت به في ظل الأباطرة الكاثوليك. وهذا حق كل الحق من جانب المسيحيين المهرطقين. فقد ذكر سير توماس أرنولد: "أن الكلفنيين في المجر وترنسلفانيا والموحدين في هذا البلد الأخير آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع تحت نيران آل هبسبرج المتعصبين وأن البروتستانت في سيليزيا تطلعوا إلى الأتراك، وربما ارتضوا عن طيب خاطر أن يشتروا حريتهم الدينية مقابل الخضوع للحكم الإسلامي(4) "ومما يلفت-النظر أو يثير الدهشة أكثر من ذلك، حكم السلطات المسيحية القيادية على تاريخ اليونان الحديث:-
إن كثيراً من اليونان ذوي المواهب العظيمة والخلق الرفيع كانوا أكثر إدراكاً لتفوق المسلمين، حتى أنهم، حين نجوا من سوقهم إلى خدمة السلطان في نطاق "صريبة الأطفال"، اعتنقوا الإسلام طواعية واختياراً. ولابد من التسليم بأن السمو الخلقي في المجتمع العثماني كان له دخل كبير في هذا التحول إلى الإسلام، قدر ما كان الطموح الشخصي لدى الأفراد(5). ... ووقعت غارات في الأراضي المسيحية القريبة من الحدود العثمانية لاصطياد المسيحيين واسترقاقهم، ومهما يكن من أمر، فإن اتجار العثمانيين في الرقيق كان أقل بكثير، عدداً وقساوة، من الحملات التي قام بها المسيحيون لجمع الرقيق في القارة السوداء. وكان الانغماس في الشهوة الجنسية في العالم الإسلامي أشد وأكثر إرهاقاً منه في العالم المسيحي، ولو أنه كان عادة في نطاق الحدود المنظمة لتعدد الزوجات. وكان المجتمع التركي، على وجه التحديد، مجتمع رجال، ولما كان اتصال الرجال بالنساء محظوراً خارج البيت، فقد أنس المسلمون بمعاشرة الغلمان، عشرة عذرية (أفلاطونية) أو جسدية. وانتشر السحاق داخل الحريم(8).
وسادت حياة عقلية نشيطة، ولو أنها مقيدة، بين أقلية كبيرة من المسلمين. وربما كانت نسبة معرفة القراءة والكتابة تركية أوربا في القرن السابع عشر أعلى منها في العالم المسيحي وربما حكمنا على وفرة الكتب من ثبت جمعه حاجي خليفة (1648)، يضم أكثر من 25 ألف كتاب في اللغات العربية والتركية والفارسية. وكانت هناك مئات المجلدات في الدين والفقه والعلوم والطب والبلاغة والسير والتاريخ(9). وكان من أشهر المؤرخين أحمد بن مجمد، غالباً ما استندنا في كتابنا هذا إلى مؤلفه "تاريخ الأسرات الإسلامية في أسبانيا" (نفح الطيب). وقد عرفناه أساساً باسم "المقري" وقد أشتق أسمه من اسم مسقط رأسه في قرية في الجزائر. ومعظم كتابه عبارة عن قطع منقولة أو مختصرة من كتب قديمة، ومع ذلك فهو إنتاج جديد بالذكر في عصره، لم يزودنا بأخبار السياسة والحرف فقط، بل أمدنا كذلك بشيء عن الأخلاق والقانون والنساء"(قصة الحضارة ج30 ص 134-137)
 
المانيا
:"كان ديت أوجزبورج (1555) قد وصل بالصراع الديني إلى الديني إلى هدنة جغرافية حول مبدأ "الناس على دين ملوكهم" "إقليمه دينه"-أعني أن دين الحاكم في كل دور يفرض ديناً على رعاياه، وعلى المخالفين أن يرحلوا. وكان الاتفاق يمثل قدراً ضئيلاً من التقدم، لأنه أحل الهجرة محل الإعدام، ولكنه اقتصر على اللوثرية والكاثوليكية، وكان من آثار اقتلاع عائلات كثيرة من جذورها اقتلاعاً أليماً زادت الفوضى والمرارة في ألمانيا. وكان ينتظر من السكان أن يغيروا مذهبهم إذ خلف حاكم يدين بأحد المذهبين حاكماً يدين بالمذهب الآخر. وبات الدين مطية وضحية للسياسة والحرب.
أما وقد انقسمت ألمانيا في اللاهوتية على هذا النحو، فإنها لا تقدم قبل حرب الثلاثين خريطة دينية بسيطة: ويمكن القول عموماً بأن الشمال كان بروتستنتياً، والجنوب وأرض الراين كاثوليكيين، ولكن بما أن مبدأ أوجزبورج لم يمكن فرضه فرضاً دقيقاً ولا سريعاً، فقد بقي الكثير من البروتستنت في مناطق كاثوليكية، والكثير من الكاثوليك في بلاد بروتستنتية. وقد أتيح للكاثوليك ميزتان هما التقاليد والوحدة، أما البروتستنت فقد تمتعوا بقسط أوفر من حرية العقيدة، وانقسموا إلى لوثريين وكلفنيين وقائلين بتجديد العماد وموحدين، وحتى في صفوف اللوثريين نشبت حرب عقائدية بين أتباع ملانكتون المتحرر وخصومه. وفي 1577 صاغ اللوثريين عقيدتهم في "كتاب الوفاق" وبعد هذا التاريخ طرد الكلفنيون من الدويلات الألمانية اللوثرية. ولكن البالاتينات الناخب، فردريك الثالث، رعى الكلفنية وجعل جامعة هايدلبرج معهداً لاهوتياً للشباب الكلفني. وهناك، في 1563 وضع اللاهوتيون الكلفنيون كتب "التعليم المسيحي" في مفهوم هايدلبرج، وقد صدم الكاثوليك واللوثريين جميعاً برفضه عقدة الحلول الحقيقي للمسيح في خمر العشاء الرباني وخبزه. وسمح للكاثوليك بالعيش في البالاتينات شريطة أن يقصروا عبادتهم على بيوتهم، أما الموحدون فقد طمعوا بشدة. وفي 1570 نازع رجلان في ربوبية المسيح، أو ضيق حدودها، فأعدما أثر إصرار الأستاذة الكلفنيين في جامعة هايدلبرج على إعدامهما. على أن الأمير الناخب لويس ابن فردريك، آثر المذهب اللوثري وفرضه، ولكن إخاء يوحنا كازيمير، أثناء وصايته (1583-1592)، فضل الكلفنية وفرضها، ثم وطد الأمير الناخب فردريك الرابع (1592-1610) تلك السياسة. وتزوج ابنه فردريك الخامس (1610-1623) اليزابيت ستيوارت (ابنة جيمس الأول ملك إنجلترا). وطالب بعرش بوهيميا، وعجل بنشوب حرب الثلاثين.
وكان الصراع بين اللوثريين والكلفنيين لا يقل مرارة عنه بين البروتستنت والكاثوليك، وفد أضر بتعاون البروتستنت خلال الحرب لأن تعاقب النصر والهزيمة على الغريقين كليهما، تارة هذا وتارة ذاك، ومن ثم اضطهاد المنتصر المنهزم كان يخلف ميراثاً من الكراهية، مثال ذلك أنه في 1585 طرد الكونت فولفجانج حاكم أيزنبورج رونيبورج جميع الموظفين اللوثريين في إقليمه وأحل الكلفنيين محلهم، ولكن أخاه وخليفته الكونت هنري أنذر الوعاظ الكلفنيين في 1598 بأن عليهم أن يرحلوا خلال أسابيع برغم البرد القارس، وفي 1601 ولي الكونت فولفجانج أرنست، فطرد الوعاظ اللوثريين وأعاد المذهب الكلفيني. وحدث مثل هذا الإحلال للكلفنيين محل اللوثريين في انهالت (1595)، وهاناو (1956، وليي 1600). وفي بزوسيا الشرقية أعدم يوهان فونك المتهم بميوله الكلفنية في سوق كونيجزيزج وسط تهليل الجماهير (1566)(39). كذلك أعدم المستشار نيقولا كربل في درسدن (1601) لتوجهه الطقوس اللوثرية وجهه كلفنية، ولتأييده للهيحونوت للفرنسيين(40).
وفي 604 أعتنق الشريف موريس حاكم هيس-كاسل المذهب الكلفني، ثم فرضه في 1605 في هذا الإقليم وفي هيس العليا، وهزم جنوده حشداً من اللوثريين المقاومين وحطموا الصور في الكنائس، أما الوعاظ الذين أبوا التحول من المذهب اللوثري إلى الكلفني فقد نفوا(41). وفي أمارة براند نبورج الناخبة قام نزاع عنيف اللوثريين والكلفنيين حول خبز القربان المقدس، وهل يتحول حقيقة بعد تقديسه إلى جسد المسيح وأخيراً قضت الحكومة بأن الكلفنية هي المذهب الحق (1613 وما بعدها)(42).
ووسط تذبذبات الحقيقة هذه احتدم ذلك "السعار اللاهوتي" كما سبق أن سماه ملانكتون-احتداماً لم يعرفه التاريخ من قبل ولا من بعد، إلا فيما ندر. من ذلك أن راعياً لوثرياً يدعى نيفاندر (1583) عدد أربعين خصيصة من خصائص الذئاب، وزعم أنها بالضبط السمات المميزة للكلفنيين ثم وصف الميتات الرهيبة التي لقيها أعداء اللوثريين، وقال بأن زونجلي حين خر صريعاً في المعركة، "قطع جسده سيورا، واستعمل الجنود شحمه ليشحموا به أحذيتهم، لأنه كان رجلاً بدينا(43)". وجاء في نشرة لوثرية في 1590 "إن أراد أحد أن يقال له في بضع كلمات أية مادة من مواد الإيمان نقاتل عليها جنس الأفاعي الكلفنية الشيطاني، كان الجواب، كلها بلا استثناء...ذلك لأنهم ليسوا مسيحيين، بل يهود ومسلمون معمدون(44)". وفي سوق فرانكفورت كتب ستانسلاوس رسكيوس (1592) "لقد لاحظنا من سنين أن الكتب التي يؤلفها البروتستنت ضد البروتستنت ثلاثة أمثال تلك التي يؤلفها البروتستنت ضد الكاثوليك(45). وقال كاتب بروتستنتي في 1610 في معرض الرثاء لهذه الحال". أن هؤلاء اللاهوتيين المسعورين قد جعلوا الحرب المدمرة الناشئة بين المسيحيين المنشقين على البابوية من الهول والاتساع بحيث لا تبدو بارقة أمل في أن يكف كل هذا الصراخ والقذف والشتم واللعن والحرم قبل مجيء اليوم الآخر(46).
ولكي نفهم هذا "السعار اللاهوتي" علينا أن نتذكر ...اليسوعيون هم الذين قادوا الحملة الصليبية الكاثوليكية لاسترداد الأرض المفقودة في ألمانيا كما فعلوا في كل مكان في أوربا، وقد بدأوا بمحاولة إصلاح الأكليروس الكاثوليكي. كتب اليسوعي بطرس فابر من فورمز في 1540 يقول: "اسمح اللهم بأن يون في هذه المدينة ولو كاهنان أو ثلاثة ليس لهم علاقات غرامية حرام، أولاً يعيشون في خطايا معروفة أخرى(49)، على أن أهم خططهم كانت اصطياد الشباب ومن ثم فتح اليسوعيون الكليات في كولونيا، وتريير، وكوبلنز، وماينز، وشبيير، ومونستر، وفورتسبورج، واينجولستات، وبادربون، وفرايبورج، وقد طاف بطرس كانيسيوس، الرأس المفكر والروح والحركة لهذه الحملة اليسوعية، بكل أرجاء ألمانيا تقريباً على قدميه، منشآت الكليات، موجهاً المجادلات اليسوعية العنيفة،... ومهدت حرب الكلام والمداد لحرب المدافع والدم، وتفاقم التقاذف بالمطاعن حتى قارب نشوة القتل. ودخلت قاموس اللاهوت ألفاظ كالروث، والنفاية، والحمار، والخنزير، والبغي، والقاتل. ففي عام 1565 اتهم الكاتب الكاثوليك يوهان ناس اللوثريين بممارسة القتل، والسرقة، والكذب، والغش، والشره، والسكر، ومضاجعة المحارم، والجريمة، دون ما خشية، لأن الإيمان في زعمهم يبرر كل الأشياء، ورجح أن تكون كل امرأة لوثرية مومساء(51). وقد اعتبر الكاثوليك هلاك البروتستنت الأبدي إحدى بديهيات اللاهوت، ولكن الوعاظ اللوثري أندرياس لانج كتب (1576) بثقة مماثلة "أن البابويين كغيرهم من الترك واليهود والوثنيين هم خارج نطاق النعمة الإلهية، ومغفرة الخطايا، والخلاص". فلقد كتب عليهم العويل والبكاء وصرير الأسنان إلى الأبد في نار الجحيم المشتعلة وكبريتها(52). وراح الكتاب من الجانبين يتبادلون الافتراءات على نحو ما يفعل الآن حرب العقائد السياسية. وراحت أسطورة "البابة" (امرأة) يوانا في الأدب البروتستنتي. وتب أحد رجال الدين البروتستنت في 1589 يقول: "ما أشد نفاق هؤلاء اليسوعيين الأوغاد السفلة إذ يلجون في إنكار هذه الحقيقة، وهي أن البغي الإنجليزية آجينس كانت "بابة" في روما وأنها ولدت غلاماً خلال أحد المواكب العامة(53)". وجاء في إحدى المواعظ أن الباباوات كانوا وما زالوا بلا استثناء واحد، لوطيين ومستحضري أرواح وسحرة، وأن يبصقوا النار من أفواههم.."كثيراً ما ظهر الشيطان بصورته المرئية للباباوات...واشترك معهم في لعن صليب المسيح ووطئه بالأقدام، ثم الرقص رقصات عارية فوقه، وهي التي سموها خدمة مقدسة(54)". وكانت جماهير العابدين ترتشف هذه المسكرات بشغف. قال قسيس بروتستنتي في 1584، "لقد تعلم الأطفال في الشوارع أن يلعنوا عدو المسيح الروماني وأتباعه الملاعين(55)". وكان اليسوعيون أهدافاً محببة. فرموا في مئات الرسوم الهزلية، والنشرات، والكتب، والقصائد، باللواط، والزنى، والبهيمية وفي أحد الكلشيهات الخشبية الألمانية، وتاريخه 1569 (وما زال محفوظاً في مجموعة جوته بفايمار) صور البابا على شكل خنزيرة تلد رهباناً يسوعيين في هيئة خنازير صغار. وفي 1593 نشر اللاهوتي اللوثري بوليكارب الايزر تاريخاً للرهبنة اليسوعية باللاتينية. وصف اليسوعيين بأنهم يفارقون أقبح الرذائل مطمئنين إلى رضى البابا وعقوه الكاملين(56). وأخبرت "صحيفة جديدة صادقة" 1614 قراءها بأن الكردينال اليسوعي باللارمين أرتكب الفاحشة 2.236 مرة مع 1642 امرأة، ثم استطردت لتصف عذاب الكردينال على فراش موته، مع أنه لم يمت إلا بعد سبع سنوات(57). وقد رد اليسوعيون أول الأمر في ضبط للأعصاب. ونضح كانيسيوس باستعمال لغة بريئة من العنف، وكذلك فعل الراعي البروتستنتي يوهان ماتيسيوس، ولكن الجمهور كان يؤثر الطعن على الاعتدال. واتهم المجادلون البروتستنت المتطرفون خصومهم اليسوعيين بقبولهم عقيدة اليسوعي ماريانا التي تدافع عن قتل الطغاة من الحكام، ورد أحد اليسوعيين الألمان بأن هذه هي بالضبط العقيدة التي يجب تطبيقها على الأمراء الذين فرضوا البروتستنتية على رعاياهم. ولكن يسوعيين آخرين أكدوا للحكام البروتستنت أنهم يعتبرون أمراء شرعيين، وأن شعره واحد من رءوسهم لن تمس. ونشر اليسوعي كونرادفيتر (1594-99) عشر كتيبات استعمل فيها أقبح ألفاظ الشتم، معتذراً بأنه أينما يحذو في ذلك حذو اللاهوتيين اللوثريين، وكان الجمهور يتهافت على شراء هذه الكتيبات بمجرد طبعها. وأعلن يسوعيو كولونيا أن "الهراطقة العنيديين" الذين يبثون الانشقاق في كل مكان "في الأقاليم الكاثوليكية". "يجب أن يعاقبوا كما يعاقب اللصوص والسارقون والقتلة، لا بل بأشد مما يعاقب به هؤلاء المجرمون، فهؤلاء لا يؤذون سوى الجسد، أما أولئك فيزجون بالنفوس في الهلاك الأبدي..ولو أن لوثر أعدم أو أحرق قبل أربعين عاماً، أو لو أن نفراً من الناس نخفف العالم من وجودهم، لما نكبنا يمثل هذه الإنشقاقات اللعينة، ولا يمثل هذه الملل والنحل التي تكدر صفاء العالم كله(59).
ويمثل هذه الروح ناشد الكلفن داود بارينز، أستاذ اللاهوت بهايد لبرج (1518)، جميع الأمراء البروتستنت أن يشنوا حرباً صليبية على البابوية، وفي حملة كهذه يجب "ألا يتحرجوا من أي ضرب من ضروب القسوة أو العقاب(60)". وبلغ هذا السيل الدافق من الكتيبات ذروته بطبع 1.800 نشرة في سنة واحدة (1618)، وهي أول سني الحرب.
فلما قوى بأس الكاثوليك واشتد غضبهم، ألف عدد من الأمراء البروتستنت "اتحاد الأقاليم الإنجيلية" (1608) أو اتحاداً بروتستنتياً ليتبادلوا الحماية. ووقف ناخب سكسونيا بمعزل عن الاتحاد، ولكن هنري الرابع ملك فرنسا بدأ على استعداد لمديد المعونة لأية مغامرة ضد الإمبراطور الهابسبورجي. وفي 1609 ألف عدد من الحكام الكاثوليك يتزعمهم مكسمليان الأول دوق بافاريا، اتحاداً كاثوليكياً، عرف بالحلف الكاثوليكي، وما وافى أغسطس من عام 1610 حتى كانت كل دويلات الإمبراطورية تقريباً قد انضمت إليه، ثم عرضت أسبانيا أن تقدم له المعونة الحربية. ووافق الاتحاد البروتستنتي (فبراير) على أن يساعد هنري الرابع على الاستيلاء على دوقية بوليس-كليفز، ولكن مصرع الملك الفرنسي (14 ماير) حرم البروتستنت من أقوى حليف لهم. وسرى الخوف في ألمانيا البروتستنتية، ولكن الحلف لم يكن على استعداد للعمل. وفي يناير 1615 أنذر موريس حاكم هيس-كاسل الاتحاد البروتستنتي بأن "الحلف الكاثوليكي، الذي يحميه البابا، وملك أسبانيا، وبلاط بروكسل، والإمبراطور...أرسل في طلب السلاح والذخيرة...رغبة...في استئصال شافه-المذهب الإنجيلي(61)". وزاد الطين بلة أن كاسبارسكيوبيوس حذر الكاثوليك اللوثريين من أن الكلفنيين يعتزمون تدمير الديانة والسلام العام والإطاحة بالإمبراطورية الرومانية المقدسة بأسرها، ومحو مبدأ أوجزبرج والمذهب الكاثوليكي من الإمبراطورية(62) سواء بسواء، وربما كان هذا محاولة لإشاعة مزيد من الفرقة بين الشيع البروتستانتية. وأضعف النزعات الإقليمية بين النمسا وبافاريا العصبة الكاثوليكية في 1616...وراود الناس من جديد حلم السلام!
ولكن في براغ ناشد الكونت هنريك فون ثورن زعماء البروتستانت منع الكاثوليكي المتحمس الأرشيدوق فرديناند من اعتلاء عرش بوهيميا. وكان الإمبراطور ماتياس قد عين خمسة نواب ليتولوا حكم البلاد في أثناء غيابه. واستبد هؤلاء الحكام بالبروتستانت في النزاع حول بناء كنيسة في كلوسترا جراب، وأرسلوا المعترضين إلى السجن وفي 23 مايو1618 قاد ثورن حشداً بروتستانتياً غاضباً إلى قلعة أوسكين، وصعدوا إلى الحجرات التي كان يجلس بها اثنان من هؤلاء الحكام، وألقوا بهما من النافذة مع سكرتير كان يتحمس لهم، وسقط ثلاثتهم نحو خمسين قدماً، ولكنهم وقعوا على كومة من الأقذار، فتلوثوا أكثر مما أوذوا، فكان هذا "الإلقاء من النافذة" تحدياً مثيراً للإمبراطور والأرشيدوق وللعصبة المقدسة. وطرد ثورن رئيس الأساقفة والجزويت. وشكل حكومة مديرين ثورية. وربما شق عليه أن يدرك أنه بذلك أطلق كلاب الحرب من عقالها أو أنه أشعل نارها"(قصة الحضارة تحت عنوان المذاهب المتصارعة ج30 ص 187-195)
 
"ولد جاليلو جاليلي في بيزا يوم وفاة ميكلأ نجلو (18 فبراير 1564)، في نفس العام الذي ولد فيه شكسبير. وكان أبوه فلورنسياً مثقفاً أسهم في تعليمه اليونانية واللاتينية والرياضيات والموسيقى..."(قصة الحضارة ج30،ص264)
وقال ص 265:" وفي 1585 ترك جاليليو جامعة بيزا دون أن يحصل على درجة وانتقل إلى فلورنسة، وبتوجيه من المعلم انصرف في ولع شديد إلى الرياضيات والميكانيكا. وبعد ذلك بعام واحد اخترع ميزاناً هيدروستاتيا ليقدر الأوزان النسبية للمعادن في سبيكة وأثنى عليه وامتدحه كلافيوس الجزويتي لبحث في مركز الجاذبية في الأجسام الصلبة. وفي تلك الأثناء انحطت موارد أبيه، وكان عليه أن يواجه الالتزام بكسب قوته بنفسه فتقدم بطلبات للتدريس في بيزا وفلورنسة وبادوا، فرفضوا تعيينه لصغر سنه وفي 1589، بينما كان هو وأحد أصدقائه يسعيان للحصول على عمل في القسطنطينية وفي الشرق، نمى إلى علمه خلو كرسي الرياضيات في بيزا. فتقدم لشغله، وهو قليل الرجاء في الحصول عليه"
 
قال ديورانت في قصة الحضارة ج30 ص227
:"وفي ألمانيا تسابق الكاثوليك والبروتستانت في إعدام السحرة حرقاً. وثمة رواية يمكن الاعتماد عليها ولو أنها لا تكاد تصدق، بأن رئيس أساقفة تريير أمر بإحراق 120 شخصاً في فالزفي 1596 بتهمة أنهم أطالوا فترة الجو البارد أكثر من المألوف بطريقة شيطانية(18). ونسب طاعون الماشية في إقليم سكونو في 1598 إلى السحرة. وحث مجلس بافاريا المخصوص في ميونخ المحققين "على إظهار مزيد من الجدية والصرامة في الإجراءات"، فكانت النتيجة إحراق 63 ساحراً، كما طلب من أقارب الضحايا دفع نفقات المحاكمة(19)" وفي هاينبرج بالنمسا أعدم ثمانون بتهمة الشعوذة في عامي 17-1618 وقيل أنه في 1627-1629 أعدم أسقف وورنبرج 900 من السحرة(20). وفي 1582 أصدر الناشرون البروتستانت من جديد، وبموافقة منهم "مطرقة السحرة" التي كان المحقق الدومنكاني جاكوب سبرنجر قد نشرها في 1487، وهي عبارة عن توجيهات وإرشادات تفيد في الكشف عن السحرة وفي محاكمتهم. وأصدر أوغسطس ناخب سكسونيا في 1572 قراراً بإحراق السحرة حتى الموت حتى ولو لم يؤذوا أحداً. وفي اللنجن أحرق 1500 من السحرة في 1590، وفي اللوانجن 167 في 1612، وفي عامين(21). وكادت ثمة موجات مماثلة في أوسنابروك 1588، ونوردانجن 1590، وفي ورتمبرج 1616. على أن هذه الإحصاءات الأخيرة مأخوذة عن نشرات صحفية معاصرة ومعروفة بعد الدقة. ويقدر الباحثين الألمان جملة من أعدموا بتهمة السحر بمائة ألف في ألمانيا في القرن السابع عشر
 
كبلر 1571-1631
قال ديورانت:"كان انتقال تيكو إلى براغ من حسن حظ العلم، لأن كبلر ورث أرصاده وملاحظاته، واستنتج منها قوانين الكواكب التي مهدت لنظرية نيوتن في الجاذبية. وتجمعت، من براهي إلى كبلر إلى نيوتن، ومن كوبرنيكس إلى جاليليو إلى نيوتن، خطوط أساسية لتكون علم الفلك الحديث"( ج30 ص259)
وقال ديورانت:"وشارك كبلر أهل زمانه في الإيمان بالسحر، واتهمت أمه بممارسته. وأدعى بعض الشهود أن ماشيتهم، بل أنهم هم أنفسهم، قد انتابتهم العلل لمجرد أن "فرو كبلر" قد مستهم، وأقسمت إحدى المشهدات على أن ابنتها البالغة من العمر 8 سنوات قد أصابها سحر أم كبلر بالمرض، وهددت بقتل الساحرة إذا لم تبادر بإبراء البنت. وأنكرت المرأة المتهمة كل ما نسب إليها، ولكن قبض عليها وأودعت السجن مكبلة في الأغلال، ودافع عنها كبلر في كل مراحل نظر الدعوى. واقترح المدعي العام في الولاية أن ينتزع منها الاعتراف بالتعذيب، واقتيدت إلى غرفة التعذيب لترى الآلات المستخدمة فيه، ولكنها ظلت تؤكد براءتها. وأفرج عنها بعد أن قضت في السجن ثلاثة عشر شهراً.ولكنها ما لبثت أن ماتت (1622).
إن هذه المأساة بالإضافة إلى آثار نشوب الحرب هنا وهناك، ملأت سبي كبلر الأخيرة بالغم والقتام. وفي 1622 احتلت القوات الإمبراطورية مدينة لنز وقارب سكانها أن يهلكوا جوعاً. وفي وسط هذه الفوضى واصل كبلر صياغة أرصاده وملاحظاته، وأرصاد تيكو وغيره من الفلكيين وملاحظاتهم، وتدوينها في "الجداول الرودلفية" التي ضمت وصنفت 1005 نجماً(قصة الحضارة ج30 ص 263)
 
النص الفائت عن كبلر العالم المشهور والذي كان مؤمنا بالسحر رغم قوة ملاحظاته العلمية واستخدامه المنهج العلمي في الملاحظة والنظر هو بالنسبة لي نص هام جدا
من نواح عديدة
فمنها مثلا انك تجد ان الدكتور محمد الحداد تلميذ اركون افرد عشرات الصفحات من كتابه حفريات تأويلية في محاولة علمانية مستميتة لاثبات ان علماء الاسلام ومن ثم الاسلام نفسه كانوا خرافيين
وعرض رسالة ابن حجر في الطاعون وعرض رسائل اخرى لكتاب توانسة وغيرهم
واستسغرق ذلك كله عشرات الصفحات مراهنا على انه بذلك اثبت ان الاسلاميجب تجاوزه!
ومع ان هناك مئات العلماء المسلمين حاولوا تفسير مرض الطاعون تفسيرا سببيا ولم يفلح اكثرهم كما لم يفلح اكثر علماء اوروبا قبل التوصل الى السبب الاصلي لانتشار المرض الا ان الحداد حاول تصوير ان امتنا جاهلة وانها واقعة في الخرافة بالاسلام
ونحن هنا نقول له ان اعرض اوروبا عن العلم يومذاك هو الذي جعلها تعيش في
بيئات قذرة
هذا اولا
وثانيا كان العلم الاسلامي الطبي منتشر في عصور الاسلام
ثالثا نصنا هذا-افي المنشور السابق- عن واحد من اعظم علماء اوروبا في القرن السابع عشر كان وهو الذي اكتشف امورا علمية -في امور الفلك-كان يؤمن بالسحر!
 
عودة
أعلى