بسم1
دعوى نسخ آية الوصية بآية المواريث
دعوى نسخ قوله تعالى :
[
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
] - البقرة 180
بقوله تعالى :
[
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
] - النساء 11
التساهل والاختلاف :
مما يثير الاستغراب هذا التساهل في تعطيل وابطال كلام الله بالوهم والظن في حين كان الأولى التحرز والإحجام والتورع عن الخوض بما يبطل كلام الله أو يؤدي لتعطيله .
ولأن النسخ صيره الكثير من العلماء عنوانا أصوليا وشرعيا - وهو ليس كذلك- يحتمون به ويسوغون من خلاله فعلا شنيعا كهذا فقد توسعوا فيه واجتهدوا واعملوا رأيهم فضربوا الكتاب بعضه ببعض ، وما زاد الجرأة على كلام الله أن مخالفيهم لا يرون في النسخ بأسا إنما يختلفون في طبيعة النسخ هل هو جزئي أم كلي ، وفي أحسن الأحوال يرى بعضهم دخول هذه الآية أو تلك تحت النسخ من عدمه ، فهم يقرون النسخ في الجملة ويختلفون في نسبته هنا لهذه الآية أو عدمها.
والقول بنسخ آية الوصية بآية المواريث إحدى صور هذا التساهل والبعد عن التحرز والتحوط من الخوض في كتاب الله وضرب آياته بعضها ببعض ، ومخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
"إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه "
فضربوا آية الوصية بآية الميراث فلا يعلم هل كان سببه مجازفة أم الجهل بمآل قولهم أم هو عجز عن فهم كتاب الله ؟
وآية الوصية توجب الميراث ولا تخالفه وآية الميراث تحيل إلى آية الوصية وتقدم الوصية على الميراث ، فالله جل وعلا يأمر المؤمنين بقسمة أموالهم قبل موتهم بين مستحقيها كما حكم وشرع فكانت آية الوصية إجمالا وأتت آية المواريث شرحا وتفصيلا ، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله (حقا على المتقين) والتقوى يكون باتباع كتاب الله وشرعه وهو مضمون موضح توضيحا مبينا في آية المواريث .
وقد فات المبطلين قوله تعالى في الآية التي يدعى بأنها ناسخة أنها في حقيقتها وبرغم أنها تفصيل لمجمل فهي تحيل على الآية التي يدعى انها نسخت في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) فأي وصية يقدمها الله على الفرائض يكتبها للوارثين ؟ إلا ما جاء في آية الوصية ، فبذلك يتبين الترابط المعنوي والشرعي بينهما فلكل منهما وظيفة وتوجيه لا غنى فيه عن وجود الآخر .
واستعرض في هذا البحث أقوال المفسرين رحمهم الله المثبتة للنسخ والنافية له مستعينين بالله تعالى ثم بتفصيل شيخ المفسرين رحمه الله حيث أحاط بأقوال عديدة مما جاء عند الفرق الثلاث ، فرقة تنفي النسخ عنها ، وفرقة تقول بنسخ جزء منها وفرقة ثالثة تقول بنسخها جملة، فنقول وبالله التوفيق:
تقديم الطبري رحمه الله :
القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " كُتب عليكم "، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟
قيل: نعم.
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟
قيل : نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: قول الله تعالى ذكره: " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين "، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة: 183]، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟
قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
- حدثني سَلم بن جنادة. قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال]، ولا كرامة..
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.
- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.
- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ، فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:
2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.
-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
القائلون بالنسخ للوارثين وبقاء الوصية لسواهم :
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
ذكر من قال ذلك:
- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.
- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. .
- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: " الوصية للوالدين والأقربين " قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [سورة النساء: 11]، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل " سورة النساء ", فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، قالا في القرابة.
2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.
القائلون بنسخ الآية جملة :
وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال، نُسخت هذه.
- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.
- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في" سُورة النساء "، الآيةَ في" سُورة البقرة " في شأن الوصية.
- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.
- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في" سورة النساء ": يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [سورة النساء: 11]
- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها " النساء "، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .
- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [سورة الأنفال: 75].
- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
مفهوم الآية الكريمة:
إن القول بنسخ وإبطال حكم هذه الآية الكريمة وتبديله لم يكن بنص نبوي ثابت صحيح ينقض الآية ويفيد بنسخها وإبطال حكمها ، إنما كان كما قدمنا نسخ بتوهّم وجود التعارض بين الآيتين والتعارض لا وجود له فابطلوا وبدلوا مالا يحق لهم أن يبدلونه من بعد ما سمعوه ، ذلك أن الآية الكريمة لها توجيه قوي يعارض المدعى بأنها ناسخة البتة :
أن الآية المدعى أنها باطلة إنما هي عامة جرى تخصيصها بما ادُّعيَ أنها ناسخة ، فالوصية واجب على كل مسلم حين الاحتضار أو قبله (بالمعروف) أي وفق ما شرع الله من حق ونصيب لكل وارث (للوالدين والأقربين) في سورة النساء ، فللوالدين وصية بما فرض الله لهما من حق إن كانا ممن يستحق الميراث من شروطه ، فإن لم يكونا (كلاهما أو أحدهما) جاز للمورث أن يهب لهما شيئا غير ما نصت عليه آية الميراث وكانت هبته مما أمر الله به من معروف (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) إن منع الميراث عنهما مانع ككفر أو دم.
والأقربون من الموصي إن كانوا ممن يرث قُسِمَ لَهُم حَقهم ، وإن أراد المورث أن يهب لهم شيئاً ويوصي لهم مما ترك جاز له ذلك ، فالله تعالى عندما يقول (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) إنما كان يشير لهذا ، فإن قسمة الميراث إنما تحصل بعد إخراج الوصية والدين وليس قبله ، فإن ربُّ المال أولى بماله وقسمته بالمعروف وصية لمن شاء ، فإن مات ولم يوصِ قُسِم ميراثه بالمعروف بعد سداد دينه ، فإن كان قد أوصى لغير وارث ولم يراعي في ذلك معروفاً كان إثم ذلك عليه.
فكانت آية الوصية إجمالاً وآية المواريث تفصيلاً لها لا تعارض بينهما البتة ، ولعلنا في هذا الباب نورد ما جاء في تفسير المنار من احتجاج وجيه يقول فيه رحمه الله:
قال البيضاوي : وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السلام : ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) وفيه نظر ; لأن آية المواريث لا تعارضه ، بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد ، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر ا هـ . أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه فكيف ينسخ القرآن وكله قطعي ؟ وقد زاد الأستاذ الإمام عليه القول بأنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا ، وبأن السياق ينافي النسخ ; فإن الله تعالى إذا شرع للناس حكما وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا من كونه حقا على المتقين ، ومن وعيد من بدله ، وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إن الوصية في [ ص: 110 ] آية المواريث مخصوصة بغير الوارث ، بأن يخص القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلف به قلوبهما ، وقد أوصى الله تعالى بحسن معاملة الوالدين وإن كانا كافرين ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) ( 29 : 8 ) الآية ، وفي آية لقمان بعد الأمر بالشكر لله ولهما ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ) ( 31 : 15 ) الآية .
أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصية لهما بشيء من ماله الكثير ( قال ) : وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا والبعض الآخر فقيرا . مثال ذلك أن يطلق أبوه أمه وهو غني وهي لا عائل لها إلا ولدها ويرى أن ما يصيبها من التركة لا يكفيها ، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزا عن الكسب فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه لا يحتم أن يساوي الغني الفقير ، والقادر على الكسب من يعجز عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة ، كما أنهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدما على أمر الإرث ، أو يجعل نفاذ هذا مشروطا بنفاذ ذلك قبله ، ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم ; لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانا ، فقد قال في آيات الإرث من سورة النساء : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) ( 4 : 12 ) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك .
أقول : ورأيت الألوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أن آية الإرث نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق ، وأن الله تعالى رتب الميراث على وصية منكرة ، والوصية الأولى كانت معهودة ، فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود ، فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة ; لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ ، كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ ا هـ .
فأما دعواه الاتفاق في التقدم والتأخر فلا دليل عليها ، وأما تأويله فظاهر البطلان ، وقاعدة الإطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على إطلاقها ; لأن شرع الوصية على الإطلاق لا ينافي شرع الوصية لصنف مخصوص ، ونظير هذا الأمر بمواساة الفقراء مطلقا ، والأمر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم لا يتعارضان ، ولا يصح أن يكون الثاني منهما مبطلا للأول ، إلا إذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك ، وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض [ ص: 111 ] المطلق والمقيد ، وإنما آية الوصية خاصة ، وذكر الوصية منكرة في آية الإرث يفيد الإطلاق الذي يشمل ذلك الخاص وغيره ، فإن سلمنا لذلك الحنفي أن آية الميراث متأخرة ، فلا نسلم له أنه كان يجب أن تذكر فيها الوصية بالتعريف لتدل على الوصية المعهودة ; إذ لو رتب الإرث على الوصية المعهودة لما جازت الوصية لغير الوالدين والأقربين ، ولو كان الأسلوب العربي يقتضي ما قاله لما قال علي وابن عباس وغيرهما من السلف بالوصية للوالدين والأقربين على ما تقدم ، وقد نقل ذلك الألوسي نفسه بعد ما تقدم عنه ، ولكنه سمى التخصيص نسخا ، فنقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا يرث من الوالدين والأقربين ، كأن يكون الوالدان كافرين . قال وروي عن علي كرم الله وجهه : من لم يوص عند موته لذوي قرابته - ممن لم يرث - فقد ختم عمله بمعصيته . ثم ذكر أن الأكثرين قالوا بأن هذه الوصية مستحبة لا واجبة ، وسمى هذا كغيره نسخا للوجوب . ولنا أن نقول إن أكثر علماء الأمة وأئمة السلف يقولون إن هذه الوصية المذكورة في الآية مشروعة ، ولكن منهم من يقول بعمومها ، ومنهم من يقول إنها خاصة بغير الوارث ، فحكمها إذا لم يبطل . فما هذا الحرص على إثبات نسخها ، مع تأكيد الله تعالى إياها والوعيد على تبديلها ؟ إن هذا إلا تأثير التقليد .
فقد علم مما تقدم أن آية المواريث لا تعارض آية الوصية ، فيقال بأنها ناسخة لها إذا علم أنها بعدها . وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقي الأمة له بالقبول ليصلح ناسخا ، على أنه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به فلم يروه أحد منهما مسندا ، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس . وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه ، وإنما حسنه الترمذي ; لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين ، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة . وحديث ابن عباس معلول ; إذ هو من رواية عطاء عنه وقد قيل إنه عطاء الخرساني ، وهو لم يسمع من ابن عباس ، وقيل عطاء بن أبي رباح ، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه ، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس ، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه ، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة ، والذي صححها هو الترمذي ، وهو من المتساهلين في التصحيح ، وقد علمت أن البخاري ومسلما لم يرضياها ; فهل يقال إن حديثا كهذا تلقته الأمة بالقبول ؟ انتهى كلامه رحمه الله.
الآية التالية تتوعد المبطلين:
أقول إن إبطال الحكم يخبر عنه وجه لافت في الآية اللاحقة فيقول تعالى:
[ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] - البقرة 181
فمن بدل الحكم بالوصية في الآية السابقة بعدما سمعه في كتاب الله فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، فالناسخون مبطلون مبدلون لحكم الله ، فالضمير المتجه إلى الحكم أوجه من الإشارة للوصية ، إذ أن الإشارة للوصية تقتضي أن يرد في الآية التالية قوله ( فمن بدلها من بعد ما سمعها) أي الوصية ولكنه قال ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي الحكم والأمر في هذه السورة ، والقائلون بالنسخ يبدلونه بآية النساء ويبطلون الحكم بغير وجه حق ولا دليل ولا هدىً ولا كتاب منير.
وأعجب من كل موضع يقال فيه بالنسخ والإبطال فلا بد أن تجد دلائل بطلان القول في نسق الآيات وسياقها في دلالة إيمانية إعجازية عظيمة ترد بذاتها لمن ألقى السمع ، وأما من أبى فنسأل الله له الهداية قبل أن يحرم من الانتفاع بِتوبةٍ ورجوع.
والله تعالى أعلم
يتبع إن شاء الله تعالى...