سلسلة : إبطال دعاوى نسخ الكتاب الحكيم

بل هي ملزمة، لأن القاعدة (لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع) قاعدة منهجية علمية علمائية؛ والعلماء عند التحقيق والإستقراء لا يقولون بالنسخ من الناحية التطبيقية بدليل عدم وقوع الإتفاق، أما المسائل النظرية المجردة عن الإشغال فيما يقبل التّنفيذ فهي من الأفكار المفترضة المتعتعة في الذهن ليس إلا، وهذا هو الذي يسمى في علم المعرفة بالوهم، فاقتف المعقول الأبلج وعد إلى المشاركة 40.

والذي يقول بعكس ذلك عندما يقول أن الجمع لا يمكن تحقيقه فهو يقول بالإختلاف لأن التناقض هو الشرط الأساسي في تحقق الناسخ والمنسوخ فيلزمه عندها شروط تحقق التناقض، فإن لم يلتزم بهذه الشروط فسيُلزم بإثبات تناقضات متتابعة وذلك خارج دائرة الناسخ والمنسوخ في الأحكام، والنتيجة معروفة لأولي النهى. وأضف إلى ذلك أن القول ذاك يستلزم الإبطال، بينما القرءان لا يختلف ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لهذا السبب ولغيره يمتنع عقلا أن يرد في القرءان وفي السنة الصحيحة التنصيص على الناسخ والمنسوخ، وهذه آخر مشاركة هنا في هذا الموضوع وفي مبحث الناسخ والمنسوخ حفاظا على حق الأخوة وهيبة الإسم الذي يحمله الملتقى.

لا ادري لم هذا الانفعال غير المبرر اخ شايب زاوشثتي فحق الاخوة محفوظ وان اشتد الخلاف و لا اظن ان الجدال ان كان بالحسنى يضر هيبة المنتدى وان كان كذلك فهيبة الحق احق ان تحفظ فان كان مرادك معرفة الحقيقة فهو اولى من الاحتفاظ باي هيبة

اما الناسخ والمنسوخ او ما سمي تناقضا فقد قبله عقل كثير من العلماء وذلك الى جانب علمهم بالاية((اختلافا كثيرا)) ولم يكن من ضروب الوهم عندهم فهل عقلك خير من عقولهم .... بالطبع انا لا احاججك بهذا لكن وجب الرد عليك حيث انك تركت التحاجج باللغة و صلب الموضوع من الادلة وايات الكتاب واتيت بهذا الكلام المحشو بالمغالطات((أما المسائل النظرية المجردة عن الإشغال فيما يقبل التّنفيذ فهي من الأفكار المفترضة المتعتعة في الذهن ليس إلا، وهذا هو الذي يسمى في علم المعرفة بالوهم، فاقتف المعقول الأبلج))لا ادري من اي علم معرفة حصلت على هذا بالمناسبة علوم الدين وخصوصا العقيده مثل صفات الله وغيرها غير قابلة للتنفيذ بل كثير من العلوم كانت نظريات غير قابلة للتنفيذ وثبت صحتها عندما نفذت ... الطيران بالنسبة للبشر مثلا هل كان قابلا للتنفيذ قبل الف عام او حتى قبل لحظات من اتمام صناعة اول منطاد ام كان مجرد نظرية غير قابلة للتنفيذ بالنسبة للكثير ثم يا اخي ..عجبي.... تتكلم عن المسائل النظرية وانها وهم و انت تتحدث بمصطلحات الفلاسفة الذين يتفننون بالمسائل النظرية ... العلماء يا سيدي -واكرر ليس هذا حجة ولم يكن يوم قول العلماء حجة في الدين لكن احتجت الى الرد بسبب تطرقكم الى هذا - كثير منهم بل قل الغالب والجمهمو بل قل الغالبية الساحقة من اهل السنة قالوا بالنسخ بل وكما نقلت في مشاركتك رقم 40 ان النسخ ليس اختلاف فالاختلاف يكون فقط بتفعيل الشرعين والحكمين بذات الوقت و على ذات الاشخاص(التخصيص او النسخ الجرئي) اي عندما يكون هناك حكمين متناقضين ومختلفين في ذات المسالة وذات الزمن على ذات الاشخاص المشمولين بالحكم يكون اختلافا وهذا محال ان يكون حقيقة في كتاب الله لكن النسخ هو حكمان كل في زمن وحال مختلف والمطعن الوحيد بالنسبة للنسخ لمن فقه و عقل وتمعن هو البداء لكن البداء احتمال و تغير الاراده احتمال اخر واما البداء فتعالى الله عنه لم يغب عنه شيء لهذا لا يقال به لكن الله تعالى يفعل ما يشاء ويغير بالخلق كيف يشاء لا معقب لحكمه ولولا ان العلماء الذين قالوا بالنسخ و عينوا ناسخا ومنسوخا في القران ادركوا ان ذلك ليس اختلاف انما نسخ لما وجدتهم قالوا بالنسخ فحجة انه غير معقول بسبب انه تناقض حجة واهية فالحكمين احدهم معطل لا يؤخذ به وكان واجب التطبيق في زمن ما قبل الحكم الناسخ والاخر واجب التطبيق و استدللنا على النسخ بالتناقض فصار نسخا وليس تناقضا اي قل اذا اردت تناقض ظاهري

ربما الحكمة بيان رحمة الله بعباده و اظهاره التخفيف عنهم ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ) المهم تقرير العلماء للناسخ والمنسوخ وتعينه ليس انشاء له و انما اقرار و تعين وبيان ما كان موجود من قبل ذلك لكنهم بينوه للناس باجتهادهم بالبحث عنه فلا يستطيع احد نسخ اية الا الله وبامكان كل من يملك الحجة الرد على اكبر علماء هذه الامة لكن بالبينة والدليل و العلم كما رد على عبقري الخلفاء الفاروق عمر احدى النساء من العامة والرعية

فالمهم يا صديقي النسخ بذاته موجود في الكتاب وهو ثابت بثبوت اية النسخ فهي قطعا قطعية الدلالة على وجوده حتى يثبت ان كلمة ايه قد تعني الكتب السابقة وهو ممتنع لغويا والدليل اميرنا او يثبت امكانية نسخ المعجزات وهذا محال فتكون دلالة الاية في النسخ قطعية ولا تحمل احتمال معنى اخر حتى تقام البينة ولا تسمع دعوى بغير بينة والا جاز لكل احد ان يدعي ما يشاء

فان اتفقنا على ثبوت وجود النسخ في كتاب الله فيبقى عندنا معضلة تحديد الايات التي بدلت و نسخت بايات غيرها ومصيبة الامة ان نبيها قد قبض وان الوحي قد انقطع و اما ما انسي فلا تكلف نفس الا وسعها

هنا العلماء اختلفوا في عدد الايات المنسوخة لاكن اختلافهم لا يعني بالضرورة عدم وجود النسخ كما تزعم بل يعني ان احد او فريق قد اصاب واما القول ان الاختلاف بينهم عمليا في تحديد الناسخ والمنسوخ من الايات يعني انهم لا يقولون به او انه غير موجود ؟؟؟بالحقيقة هذه طامه كبرى

لان ما من باب من ابواب الفقه الا و اختلف فيه فلا يؤدي الاختلاف الى القول بعدم صحة ما اختلف عليه بتاتا والا جاز انكار كل ما كان به خلاف فحتى ايات القران اختلف بها و حتى صفات الله عز وجل

النسخ في اصله ليس تناقض لان الحكم المنسوخ لا يعمل به لكن قبل تحديده يكون متناقضا لانه غير محدد بتوقيف من رسول الله بالضبط فيكون التناقض في عقولنا دليلا على النسخ واذا هو نسخ وليس تناقض و ليس هناك كثير منه في الكتاب والا لكان من عند غير الله تعالى

اما شروط وجود التناقض التي ذكرتها فهي صحيحة ان علمنا كل ناسخ ومنسوخ ولكننا لا نعلمه على وجه اليقين والا لما اختلف فيه اقصد لا يوجد نصوص ظاهر في عبارة النص وليس دلالته او اشارته على حصول النسخ في اية معينه على وجه تعينها اي ان قال الله تعالى او قال رسول الله هذه اية نسخت بهذه الايه لكن من يرد ما يجده اختلافا في كتاب الله الى كتاب الله يعلم انه نسخ وذلك لثبوت دلالة اية النسخ فهي اقصد النسخ وايته اصل عام وقاعده ثابته من علوم القران وفقه القران والفقه بشكل عام

اذا الشروط غير صحيحة لان النسخ يكون فقط بين حكمين سبق احدهم الاخر اي اختلف الزمن وعلى شروطك ما اختلف زمنه فليس تناقضا وهنا ان صححنا الشروط واخذنا بها قبل تعين كل ناسخ ومنسوخ في القران لا يكون هناك اي تناقض وبالتالي لا يكون هناك نسخ وذلك بسبب اشتراط التناقض لحصول تعين النسخ فالتاقض مجرد شرط من العلماء لضمان صحة تعين المنسوخ كما المتشابه من الايات نؤمن بوجودها لكنها لم تعين بتوقيف من الله او من رسوله فهل كل ايات القران محكمات ام هناك متشابهات وهل هناك ايات متشابهه اجمع على انها من المتشابه وهل هذا يؤدي بنا الى انكار المتشابه كما انكرنا النسخ ...تعطيل النسخ يعني ان نعطل اصل من الاصول ونعمل على لي اعناق النصوص محاولة للتوفيق بينها كما النصوص في تحريض المؤمنين على القتال لا يمكن الجمع بينها الا بالقول ان الاخيرة منها نسخت الاولى لهذا ان عين الناسخ والمنسوخ فان شروط التناقض صحيحه فنكون عرفنا كل منسوخ ولا تناقض لعدم اتحاد الزمن ويسمى باسمه من اول مرة نسخ لكن هذا محال وذلك ان تعين الناسخ والمنسوخ اجتهاد كما المتشابه ولم يعين بتوقيف من النبي عليه الصلاة و السلام او اندثرت الاثار و الروايات كما اندثر كثير من السنن لكن كتاب الله محفوظ ولن يقدر احد على تبديله او رفعه الا الله فانه يرفع في اخر الزمان و بد الله منه ما يشاء


وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

ثم يا اخي الاية اعلاه ثابتة الدلالة والمعنى والمضمون والمحمول انها في ايات الكتاب وتبديلها فلم تركتموها وهي برهان في التبديل من نسخ ونسيان فلم تتجنبونها سواء انتم ام الفريق الاخر الذي ينسخ الكتاب بالسنة ويجعل كلمة مثل هنا ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) تعني غير القران عجبي وهل للقران مثل ومن الجدير بالذكر هنا ان الشافعي رحمه الله منع هذا النسخ ولم يجعل السنة مثل للقران وصنوان

اما المعقول الابلج فاقتفيته بما اتاني الله من عقل مما في كتاب الله يهدي الى الرشد فامنت به ولن اشرك بربي احدا

والسلام عليكم ورحمة الله
 
أخي الكريم خلدون الحسيني وفقه الله
رداً على جزء من مشاركتكم التي تفضلتم بالقول فيها :

بالنسبة لي لا تتعدى الايات المنسوخة خمس ايات وما تبقى مثل اية السيف يمكن الجمع بينها وبين الايات السابقة وهنا الباب للرد على من ذكرتهم وليس انكار النسخ ككل

حسناً ، اصبح كتاب الله موضع اجتهاد نبطل منه ما نشاء ونثبت ما نشاء ، فهل إبطالك خمس آيات كان بوحي ؟؟ بقول معصوم ؟؟ أم برأي شخصي ، فإن قلت برأي شخصي فهل يبطل كلام الله وتنسخ احكامه برأي شخصي ؟؟.
إن ما نقوله أخي الفاضل أن علماً كهذا تضطرب فيه مسألة ابطال الأحكام وتختلف من شخص لآخر هي من باب ضرب الكتاب بعضه ببعض فمن ثلاثة عشر قولاً لابد إن سلمنا بصحة النسخ فلا بد أن واحداً منهم على حق واثني عشر على باطل مرتكبين جرماً بإبطال مالم يبطل ونسخ مالم ينسخ وبالتالي التحليل والتحريم بدون وجه حق ، ولا يمكن أن يكونون كلهم على حق.
وهذه الحالة جدُّ خطيرة لا أدري لماذا يتهاون القائلون بالنسخ بها ويستمرئون المجازفة في كلام الله بمجرد راي شخصي أو قول مجتهد او عالم لم يتلقى وحياً فلا سبيل لمعرفة المنسوخ - إن وجد- بدون قول معصوم ، والمعصوم قبض بعد أن اكمل الدين وبلغ أيما بلاغ ولم يذكرمصطلح النسخ لا من قريب ولا من بعيد ولكن جماعة تاولوا آيتين فصرفوهما لاحتمال ابعد من احتمال السياق وتجرأوا على ابطال قول الله وانقسموا لفرق شتى جمعهم القول بإبطال الإحكام عن الأحكام وفرق بينهم العدد والموضع .
ولعلي فيما يلي أضيف لبنة سابعة إلى مقدمة هذه السلسلة ، والله الهادي إلى سواء السبيل
 
سابعاً : الإدعاء على اليهود وموقفهم من النسخ:
إن من دلائل بطلان القول بالنسخ هو ما يتردد دوما عند الحديث عن النسخ بأن اليهود ينكرونه لأن النسخ عندهم من البداء والبداء باطل في حق الله فيقول أحد المنافحين عن النسخ في معرض نسبة إنكاره لليهود فيقول:
"ينكر اليهود النسخ ظنا منهم أنه بداء ؛ أي يستلزم البداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، أي الظهور بعد الخفاء.ويرى اليهود أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة وهذا عبث على الله تعالى، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل وهو محال على الله تعالى."انتهى.

ويقول محمد ابراهيم الحفناوي في كتابه المعنون بدراسات أصولية في القرآن الكريم ما نصه:" ومن هنا لما خفى الفرق بين النسخ والبداء على بعض فرق اليهود والرافضة أنكرت اليهود النسخ وأسرفوا فى الإنكار لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. والحق أن هذا الفهم من قبل اليهود سقيم لما ذكرت من أنه لا تلازم بين النسخ والبداء ولوضوح الفرق بينهم ." انتهى كلامه.

ويقول مناع القطان في مباحث في علوم القرآن:
"والناس في النسخ على أربعة أقسام:
1- اليهود: وهؤلاء ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البَدَاء، وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى." انتهى كلامه.

ولأبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه (المنخول) ما نصه :"وقد انكر اليهود جواز النسخ فنقول لهم ان تلقيتم استحالته من عدم تصوره فتصويره ان يقول السيد لعبده افعل ثم يقول بعده لا تفعل وان تلقيتموه من استصلاح واستقباح فلا تساعدون عليه ثم لا بعد في تقدير مصلحة فيه وان نقلوا استحالة النسخ من موسى عليه السلام فقد كذبوا إذ شريعة عيسى عليه السلام نسخت شريعته ولا طريق لهم إلى انكار معجزته فإن قالوا النسخ يدل على البداء قلنا ان عنيتم انه يدل على تبين شئ بعد استبهام شئ فليس كذلك "انتهى كلامه.

وعندما تتبعت كل ما قيل حول موقف اليهود من النسخ وجدتهم يحيلون ذلك القول لجماعة مغمورة كانت في عصر أبي حنيفة النعمان بدون مرجع يستند إليه ولا قول ثابت مدون من أقوالهم.
وكانت أكبر الفوائد التي يجنيها القائلون بالنسخ من هذه المعلومات المرسلة التي لا سند لها هو التشنيع على كل من ينكر النسخ وتشبيهه باليهود فيتحقق الارهاب الفكري لكل من يناقش أو يتسائل أو يرد القول بالنسخ لأنه سيوضع مع اليهود في كفة واحدة.
ولكن ما يبعث على السخرية أنه عند التشنيع على اليهود والرافضة فإن أول ما يرمون به من الانحرافات هو القول بالبداء ، برغم أنهم ادعوا إنكار اليهود للنسخ خوفاً من نسبة البداء إلى الله :
فهذا ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى يقول أن اليهود هم الذين حرفوا التوراة وبدلوا فيها حروفًا كثيرة فقال: " واليهود تقر أن السبعين كاهنا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفًا من التوراة وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيديه".
وقال :
"ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله، فلا يؤمن منه تحريف غيره؛ واليهود تقر أيضًا أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلاً ظاهرًا وزادوا ونقصوا والسامرة تدعي ذلك عليهم" انتهى كلامه.

جاء في موسوعة الفرق :
"يبدو أن أول من ادعى البداء على الله تعالى هم اليهود، قالوا: إن الله تعالى خلق الخلق، ولم يكن يعلم هل يكون فيهم خير أو شر، وهل تكون أفعالهم حسنة أم قبيحة، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس من التوراة ما نصه:(ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه جداً فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته لأني حزنت أني عملتهم) .وهذا النص وأمثاله يفيد صراحة أن الله قد بدت له أمور لم يكن يعلمها، فحزن حزناً شديداً حين رأى معاصي البشر.فالبداء عقيدة يهودية مدوّنة في كتبهم المحرفة، ونفس هذه الأفكار مدونة عند الشيعة، فالكليني -كما رأينا فيما سبق- يروي عن الأئمة فضائل كثيرة لاعتقاد هذا الكفر، حتى وإن ذكر بعض الروايات التي تفيد عدم حصول جهل الله بالأمور قبل ظهورها لكنها لم تكن صريحة مثل النصوص الأخرى التي سبق ذكرها عنهم."

وهكذا نجد انقلاب ميزان الاحتجاج من تنزيه اليهود عن البداء إلى اتهامهم به ، في حين أن اليهود سيجدون في النسخ ضالتهم للدفاع عن تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم في كتاب الله ، فما أن يتهمهم المسلمون بالتحريف حتى يردون ذلك إلى النسخ فقد وفرنا لهم مخرجاً من تهمة التحريف ، وهذا الباب إن فتح فستجد بين كل ناسخ ومنسوخ ، وناسخاً ومنسوخ.

وهكذا فاصبح التشنيع على منكري النسخ بأن اليهود ينكرونه لأنه بداء ، وإذا أرادوا التشنيع على الرافضة نسبوا إلى اليهود البداء فهذا عين التناقض وهي حجة ليست في مكانها ولا تقبل للرد على منكري النسخ فحتى أقوالهم بشأن اليهود لم ترد إلى مرجع معتبر عند اليهود يعترف بمصطلح "النسخ" و "البداء" فكانت مفتقدة لأبسط قواعد البحث العلمي.

نبوءة محمدية مذهلة :

إن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن عقيدة النسخ وكيف تظهر في الأمة وحذر من القائلين بها قبل أن تظهر فعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون ، قال الرمادي : يتمارون . فقال : " إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه "

عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان قوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتنازعون في القرآن ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متغيرا وجهه ، فقال : " يا قوم بهذا هلكت الأمم ، إن القرآن يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض " .

فكأنه يخبرنا صلى الله عليه وسلم بظهور النسخ وفُشُوِّهِ وتضارب الأقوال فيه حتى وصلت إلى ثلاثة عشر قولاً مشهوراً ، متضاربة بعضها تبطل أحكاماً بشبهة آيات أخرى ، وقوم ينكرون ما اتفق عليه جماعة أخرى وينفون النسخ عنها بدلاً من الإيمان به كله بدون عقيدة إبطال لشيء منه باسم النسخ حتى تغيرت الأحكام وأبطلت النواميس القرآنية بدون حديث صحيح من معصوم.

إن المبطلين لأحكام الله في كتابه باسم النسخ يعجزون عن الاتيان بحديث صحيح مرفوع ثابت جاء فيه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم نسخ معين لآية معينة ، ولقد مات صلى الله عليه وسلم ولم يترك لأمته أمراً صغيراً ولا كبيراً إلا بينه وبلغ أصحابه وأمر كتبة الوحي به فالأمر ليس بالهيّن حتى يترك للآراء.


وما أخبر به صلى الله عليه وسلم والنهى عن ضرب الكتاب بعضه ببعض وإخباره بأن الكتاب يصدق بعضه بعضاً يدل دلالة واضحة على نبذ النسخ والنهي عنه ، فما النسخ إلا ترقيق لغوي لصفة ضرب الكتاب ببعضه وإبطال أحكامه.

يتبع بإذن الله ...
 
أخي الكريم خلدون الحسيني وفقه الله
رداً على جزء من مشاركتكم التي تفضلتم بالقول فيها :



حسناً ، اصبح كتاب الله موضع اجتهاد نبطل منه ما نشاء ونثبت ما نشاء ، فهل إبطالك خمس آيات كان بوحي ؟؟ بقول معصوم ؟؟ أم برأي شخصي ، فإن قلت برأي شخصي فهل يبطل كلام الله وتنسخ احكامه برأي شخصي ؟؟.
إن ما نقوله أخي الفاضل أن علماً كهذا تضطرب فيه مسألة ابطال الأحكام وتختلف من شخص لآخر هي من باب ضرب الكتاب بعضه ببعض فمن ثلاثة عشر قولاً لابد إن سلمنا بصحة النسخ فلا بد أن واحداً منهم على حق واثني عشر على باطل مرتكبين جرماً بإبطال مالم يبطل ونسخ مالم ينسخ وبالتالي التحليل والتحريم بدون وجه حق ، ولا يمكن أن يكونون كلهم على حق.
وهذه الحالة جدُّ خطيرة لا أدري لماذا يتهاون القائلون بالنسخ بها ويستمرئون المجازفة في كلام الله بمجرد راي شخصي أو قول مجتهد او عالم لم يتلقى وحياً فلا سبيل لمعرفة المنسوخ - إن وجد- بدون قول معصوم ، والمعصوم قبض بعد أن اكمل الدين وبلغ أيما بلاغ ولم يذكرمصطلح النسخ لا من قريب ولا من بعيد ولكن جماعة تاولوا آيتين فصرفوهما لاحتمال ابعد من احتمال السياق وتجرأوا على ابطال قول الله وانقسموا لفرق شتى جمعهم القول بإبطال الإحكام عن الأحكام وفرق بينهم العدد والموضع .
ولعلي فيما يلي أضيف لبنة سابعة إلى مقدمة هذه السلسلة ، والله الهادي إلى سواء السبيل

حسنا اخي الغامدي
القول قولك و الراي رايك
فخذ بما تشاء
 
"[FONT=KFGQPC Uthman Taha Naskh, Traditional Arabic]وهكذا نجد انقلاب ميزان الاحتجاج من تنزيه اليهود عن البداء إلى اتهامهم به" [/FONT]
[FONT=KFGQPC Uthman Taha Naskh, Traditional Arabic]هذا في معرض الرد عليهم والإلزام وليس كما تتصور. [/FONT]
 
اخي الكريم الاستاذ خلدون
تفضلت فقلت :
حسنا اخي الغامدي
القول قولك و الراي رايك
فخذ بما تشاء

ووالله ما هربنا إلا من القول بالرأي في إبطال قول الله ، وما خالفت القائلين بالنسخ هوى او تشهيا للخلاف ولكن وجدت من يتجاسر على قول العزيز الجبار فينتقي منه ما يشاء فيبطله مخضعا قوله لفلان وفلان ، ويقول بالنسخ في حين لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ آية واحدة مما قالوا ، وعمدتهم رأي من لا رأي له في أمر كهذا فتأولوا ونقضوا بتأويلهم وأبطلوا وابتدعوا ، ثم لما تطاول الأمد عليهم وتوارثوا أقوالا منقولة ، سلموا لها ورفعوها وقدسوها حتى صيروا القول بخلافها هو البدعة فأصبحت أقدس من قول الله الذي يبطلونه برأي منسوب لسلفهم .
أرهبوا مخالفيهم وارغوا وأزبدوا وفسقوا وبدعوا ، ووالله ما استشهدوا بقول المعصوم صلى الله عليه وسلم إلا كان حجة عليهم لا حجة لهم فأرشدوني بفضل الله وتوفيقه وبما جرت به ألسنتهم وأقلامهم ارشدوني لما يثبت قولي ويقوي حجتي ويثبت قدمي في انكار فرية النسخ وبيان اضطرابها وتضاربها واختلافها وخلافها والحمدلله رب العالمين ، وفوق ذلك فإني أدعو الله أن يري إخواني هداهم الله وإياي الحق حقا فنتبعه ويرينا الباطل باطلا فنجتنبه ولا أحمل لهم الا المحبة الخالصة في الله والثقة في سلامة مقصدهم وصفاء نيتهم ولكن الحق أحق أن يتبع.

ويتبع بإذن الله.
 
كل الاحترام والود اخي الكريم الفاضل الاستاذ عدنان الغامدي و للاخ القدير شياب وللدكتور الكريم جمال

صدقني كنت صادقا معك من اول مره ماكتبت اعجبني وكثير من ما يجعلونه من النسخ افتراء كما تفضلت لكن الحق ان قليل من النسخ حق في كتاب الله فالحق في ايتي النسخ والتبديل والا لتهمت عقلي

وبعد هذا فاني اؤمن على دعائك واسال الله ان يستجيب

وشكرا لطيب خلقك ودماثة طبعك... اسال الله ان يتم عليك مكارمه
 
(حديث مرفوع) قَالَ لَنَا عَبْدُ الْمُتَعَالِ بْنُ طَالِبٍ , قَالَ : نا ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَيْمُونٍ حَدَّثَهُ , أَنَّ وَدَاعَةَ الْحَمْدِيَّ حدثه , أَنَّهُ كَانَ بِجَنْبِ مَالِكِ بْنِ عُبَادَةَ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ ، فَقَالَ مَالِكٌ : عَهِدَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَقَالَ : " عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يَشْتَهُونَ الْحَدِيثَ عَنِّي ، فَمَنْ عَقَلَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ ، وَمَنِ افْتَرَى عَلِيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَتْبُوءًا أَوْ مَقْعَدًا مِنْ جَهَّنَمَ " . لا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ ، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ : عَنِ اللَّيْثِ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ قَاضِي مِصْرَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ غَافِقٍ مِنْ حمدي سماه ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ .

صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، فكيف لو علم ما أتى بعده من اقوام يشتهون أقوالاً منسوبة لصحابته يبطلون بها قول الله وقرآنه وأحكامه ؟؟ كيف لو رأى قوما من أمته يزهدون في تتبع قوله في مسألة ابطال كلام الله وأحكامه ويكتفون برأي فلان وفلان ؟؟ وإن كان من يتقول على النبي صلى الله عليه وسلم يتبوأ مقعده من جهنم ، فما مصير من يتقول على الله فينسب إليه إبطال حكم بدون دليل ؟؟ افلا يعقلون ؟؟ أم أن الإبطال لا يحتاج لعقل وإن أعملت عقلك فيه فأنت من الضالين ؟ .

 
آيةُ السّيف ودعوى أنّها نسخت قرآناً كثيراً

{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة:5]

سيكون منهج العرض والاستدلال في هذا الموضع مغايراً لما درجنا عليه في الآيات والمواضع السابقة ، فبعد الانتهاء من هذا التقديم سننطلق لنأخذ المدعى نسخُهُ آيةً آية ونعرض أقوال العلماء الكرام فيها والقائلون بنسخها و نشهد بأعيننا التضارب في القول بالنسخ وعدمه وكأنه مما يسوغ فيه الخلاف، وليس كلام الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديهِ ولا من خلفه ، فيسوغُ عند الكثير أن يقول : قال جمع من المفسرين بنسخها .. الخ هكذا بلا قول نبوي ثابت مجرد آراء يدحض بعضها بعضا، فيثبت النسخ وينقض النسخ بدون أن تتحرك حاسة الخشية والرهبة من التأرجح في موضع لا يصح ولا يجوز فيه التأرجح.

ولأنَّ القول بالنسخ باطلٌ وفريةٌ ممجوجة فسوف نرى كيف أنَّ القول بالنسخ هنا كمن أراد أن يشعل ناراً يتدفأ بها فإذا به يحرق منزله ومنازل جيرانه ، فمن أبطل بهواه إحدى الآيات بدون دليل فقد فتح الباب لعشرات أن يتوغلون في كتاب الله فيحرقون ويبطلون ما يشاءون ثم يقال ( قال فلان منسوخة ، وقال فلان ليست منسوخة ) بكل بساطة بلا دليل ثابت صحيح معتبر ولا حتى قرينة مقبولة.

وفي هذا الموضع سنشهد إحدى منعطفات الفقه والفكر الاسلامي فالنسخ من إحدى الويلات والكوارث التي جرها على المسلمين هو إدعاء نسخ التالي من الآيات فالخوارج والدواعش والضُّلَّال من المنتسبين لأمة محمد أجروا دِماء الأبرياء أنهاراً تحت هذا العنوان وهو النَّسخ وسنثبت ذلك فيما يلي إن شاء الله، وأول ما نقرره هنا أن تسميتها بآية السيف لا يعرف له أصلاً فلم يسمها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسم ، ولنبدأ في استعراض فرية نسخ قرآن كثير بما يسمى آية السيف :

يتبع بإذن الله ...
 
1 - هذا الحديث فرد مطلق انفرد به عمرو عن يحيى بن ميمون عن وداعة عن أبي موسى الغافقي ، فماذا عندكم من كلام الأئمة في وداعة الحمدي ، فإني أجهل حاله .
2 - استخدام فكرة الدواعش والخوارج في نقاش مسألة علمية مع جماهير العلماء لا يليق بكم .
3 - الفكر الداعشي - إن صح التعبير - يمكن الانتصار له بطريقتين :
الأولى : النسخ : وهو ما تتولون هدمه من جذوره.
الثانية : طريقة التخصيص ، فهل ستهدمونه أيضا من جذوره.
لذلك قلت لكم - وخير الكلام ما قل ودل - : العبرة في قضية النسخ أو التخصيص أو أي فكرة إنما هو بالبرهان الصادق الصحيح ، لكنكم تصممون أن النسخ ليس مجرد مسألة خلافية وحسب ، بل هو إجرام ، فجعلتم من وافقكم في مسألة آية السيف مثلا وخالفكم في آية القبلة والخمر مثلا أنه مجرم مضل مبطل لكتاب الله
فيا أخي الكريم الفاضل :
اختر لنفسك من الرأي ما تشاء فأنت المحاسب عنه.
ولكن كن منصفا لإخوانك من العلماء الكبار الذين بذلوا أعمارهم ليصلك هذا العلم ، فاذكرهم بخير وترحم عليهم ولا تتهمهم بما ليس فيهم ، ولا تلزمهم بما لا يلزمهم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
بعد بحث عن وادعة الحمدي لم أجد أحدا تكلم عنه جرحا ولا تعديلا ، ووجدت الخطيب البغدادي رحمه الله ذكر أنه كان قاضيا بمصر ، ولم يزد على ذلك ، كما وجدت العلامة الألباني رحمه الله قد تناول هذا الحديث بالتفصيل في السلسلة الضعيفة برقم :
6406 ، وأعله بجهالة وادعة ، وختم بحثه بقول الحاكم رحمه الله :
"وهذا الحديث قد جمع لفظتين غريبتين:
إحداهما: "فمن حفظ شيئاً فليحدث به "، وقد ذهب جماعة من أئمة الإسلام
إلى أنه ليس للمحدث أن يحدث بما لا يحفظه.
والأخرى: «سترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني» ".
ثم قال رحمه الله معلقا عليه :
ولغرابة هذه اللفظة أخرجت الحديث في هذه " السلسلة " لجهالة وادعة ، ولأني لم أجد لها شاهداً، ولأنها قد تستغل من بعض أعداء السنة ، ويتخذها سلاحاً لمحاربة الحديث ، والدعوة إلى الاعتماد على القرآن وحده، ولا يخفى ما في ذلك من الضلال، بل والخروج عن الإسلام. والله المستعان.
وفي ذهني أنني كنت قرأت في بعض الروايات أن هذه اللفظة إنما هي من
قول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد بحثت عنه، فلم يتيسر لي العثور عليه، فمن كان
عنده علم، فليدلنا عليه، وله من الله أحسن الجزاء، ومني عاطر الثناء.
وسائر الحديث مما لا شك في صحته، بخاصة فقرة (التبوُّؤ) ، فإنها متواترة كما هو معلوم عند أهل الحديث والسنة انتهى نصًّا منه.
 
قال الإمام السخاوي رحمه الله في جمال القراء وكمال الإقراء (2/ 588)
وحقيقة التخصيص والاستثناء تخالف حقيقة النسخ ، لأن التخصيص : أن يجيء اللفظ عاما والمراد بعض متناولاته ، فإذا أتى ما دل على أن المراد غير ظاهر اللفظ ظهر التخصيص.
وقالوا في حده: إخراج بعض ما تناوله الخطاب.
ولأن الاستثناء: صيغة دالة على أن المستثني غير داخل في الخطاب ، فالتخصيص قريب من معنى الاستثناء ، إلا أن الاستثناء لا يكون إلا بحرف دال على إخراج المستثنى ، لهذا قالوا في حده : صيغة دالة.
ودلالة التخصيص: أما بنص آخر أو إجماع أو قرينة.
1 - فالتخصيص نحو قوله تعالى: [ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ] بعد قوله عز وجل: [ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ] ولو كان هذا نسخا لكانت آية البقرة المراد بها : الكتابيات ، وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (آية المائدة ناسخة لآية البقرة) .
وقال قائلون: لا يصح هذا، إلا على أن تكون آية البقرة في المشركات من أهل الكتاب.
وأقول: أن هذا الذي قالوه غير مستقيم، فإن قولنا: نسخ وتخصيص واستثناء: اصطلاح وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمى ذلك نسخا . انتهى كلام العلامة السخاوي رحمه الله
 
اخي الاستاذ حسن علي حسن خليل المحترم
احييك على حضورك الكريم ومواجهتك للفكرة هنا وأشكر لك التهذيب وحسن الاحتجاج ، وأقول تجاه ما تفضلتم به:

أولاً: أما قولكم وفقكم الله :
استخدام فكرة الدواعش والخوارج في نقاش مسألة علمية مع جماهير العلماء لا يليق بكم
هذا واقع الأمة الذي هو انعكاس لأفكار وعقائد قادت لهذا الفكر واثمر دماءً تسيل كل يوم وزاد في خلخلة الأمة ، فعندما تحاجهم يستدلون ويحتمون بتلك الأقوال فما ان تأتي بحجة من كتاب الله عن المصالحة والمعاهدة والبر للمسالمين حتى يحتجون بنسخها بآية السيف ، فكيف تكون المسألة علمية منفصلة عن واقع الأمة وحاضرها الماثل أمامنا ؟؟
يقول المسيح عليه السلام : (من ثمارهم تعرفونهم) فلا شك أن ثمار القول بالنسخ أحد المصائب التي حلت بالأمة فكانت درعاً يحتمي به الضلاُّل فلا يجب أن نغفل ذلك وندس رؤوسنا في التراب فمامن عمل أو قول إلا وله ثمرة فما ثمرة النسخ إلا ما ترى ؟.


- الفكر الداعشي - إن صح التعبير - يمكن الانتصار له بطريقتين :
الأولى : النسخ : وهو ما تتولون هدمه من جذوره.
الثانية : طريقة التخصيص ، فهل ستهدمونه أيضا من جذوره.

لعلك تقصد الانتصار منه ، نعم النسخ سهل ضعيف سيقتلع من جذوره إن شاء الله ، أما التخصيص فلم نقل ذلك أبداً بل نقول أن إحدى المشكلات في الأمر هو تسمية التخصيص نسخاً والخلط بين الاثنين وهو لا يمكن أن يكون خلط عابر لا يترتب عليه شيء بل هو قول خطير افضى لإبطال أحكام باكملها بأقوال غير معصومة ، وما نقوله هو الإقرار بالتخصيص ونفي النسخ بالكلية ، فمسألة القيام في سورة المزمل كان تخصيصاً متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ففهم ذلك خطأ فأصبح نسخاً وهكذا.


العبرة في قضية النسخ أو التخصيص أو أي فكرة إنما هو بالبرهان الصادق الصحيح ، لكنكم تصممون أن النسخ ليس مجرد مسألة خلافية وحسب ، بل هو إجرام ، فجعلتم من وافقكم في مسألة آية السيف مثلا وخالفكم في آية القبلة والخمر مثلا أنه مجرم مضل مبطل لكتاب الله

عندما بدأنا في تفنيد القول بالنسخ بالبرهان والتبيان وطالبنا بالدليل المكافئ لكتاب الله اتهمنا بالضلال وتصاعد العويل هنا وهناك ولم يجرؤ أحد ان يفعل مثل ما فعلت ويناقش ويجيب على التساؤلات ويلبي المطالب الشرعية بعدم النسخ إلا بما يكافئ المنسوخ .

ولم أحدد أو أعين أحداً باسمه واتهمه بالضلال ولكني اتهم القول فأصرّ بأن إبطال كلام الله والطعن فيه بما هو دونه في الثبوت والقدسية هو ضلال وجرم كبير ، لأن الحديث عن كلام الله وليس عن كلامي وكلامك فحري بي وبك أن ندافع عن قول الله تعالى فإن ساغ الخلاف في فهمه فلا يسوغ في إبطاله وتعطيله .

اختر لنفسك من الرأي ما تشاء فأنت المحاسب عنه.
ولكن كن منصفا لإخوانك من العلماء الكبار الذين بذلوا أعمارهم ليصلك هذا العلم ، فاذكرهم بخير وترحم عليهم ولا تتهمهم بما ليس فيهم ، ولا تلزمهم بما لا يلزمهم .

لو رجعتم وفقكم الله لتعليقي على أقوالهم لرأيت أني أترحم عليهم واقول غفر الله لهم وتجاوز عنهم وجازاهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفراناً ، فقد كان جلهم متبعين لآثار وجدوها وساروا على آثارها ولم يكن لديهم قصد بالإساءة لكتاب الله ، ولكن كلما اتسعت مساحة الدولة الاسلامية ودخل فيها من الأعاجم وأهل الملل بدأت المسألة تتسع والمصاب يتفاقم وكلام الله يعطل آية تلو الأخرى ، فكل من تبعه ثلة من الناس بدأ يبطل وينسخ فإن مضى على موته بضع عشرات من السنين تلقفت كلامه أجيالاً فرفعته وقدسته وما هو إلا بشر يصيب ويخطئ فإن أتى مثل شخصي الضعيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قالوا هكذا وجدنا آبائنا فمن أنت حتى تكون أعلم منهم فيصرفون الحديث عن لبّ المسألة وأصل الفكرة إلى حمل رماح الطعن والهجوم على الأشخاص بأعيانهم سعياً في التشكيك في عقيدتي وانتمائي لأهل السنة والجماعة فهذا يقول قادياني ، والآخر يقول رافضي والثالث يقول معتزلي ، وهذا لعمري من أحقر المسالك واسوأ الخلق الذي لا يليق بطلبة العلم ، فلا ترى وقوف الرجال أمام الرجال ولكن الرمي من خلف الآكام مثلهم في ذلك مثل ربات الحجال ، رمياً بالسوء والباطل ظناً منهم انك أن أسقطت وافتري عليك فسوف تسقط فكرتك ، والحقيقة أني لم أتجاوز على ضوابط هذا المكان ولم انتقص من القائمين عليه أو انتقص من رموز الإسلام واصول العقيدة ولكن تجد السعي الحثيث في ابقاء الرأي الواحد ونبذ ما سواه بدون حجة فقط لمجرد الخلاف.

ولكن الله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون.
 
ترقيق التعريف لفظياً
أدرك القائلون بالنسخ شناعة القول وخطورته وكأنهم لم يجدوا بداً منه فكان تعريفه يستلزم ترقيق التعبير واستعمال مفردات لا تثير المسلمين وطلبة العلم وتجعلهم في موضع يتقبلون فيه النسخ فكان تعريف النسخ المرقق لفظياً :
النسخ هو : رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخ عنه.
والنسخ أيضاً هو : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.

فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ.

ونلحظ في هذا التعريف بوضوح تلميع اللفظ وترقيقه ليصبح مقبولاً، فسمي الإبطال (رفعاً) فيتبادر لذهنك أن المنسوخ ينطبق عليه مفهوم العلو والارتفاع ولو أسموه باسمه الحقيقي (إبطال وتعطيل) لكان أصدق وأجدر ، ثم غُيِّر التعريف (الحكم القرآني) واستبدل بـ (الحكم الشرعي) ثم سمِّيَ (الحكم المعطل المبطل) أسْماه (دليلاً شرعياً) فيترائى للقارئ أن الناسخ والمنسوخ من جنس بعضهما البعض فلا يقع في نفسه من النسخ شيئاً.
ولكن ماذا إذا سمينا الأشياء بأسمائها ، وآتينا المصطلحات حقها ووضعنا كل مصطلح في موضعه لكي يكون التعريف حقيقياً مطابقاً لواقع النسخ وحقيقته فماذا عسانا نجد ؟؟ ، وفيما يلي التعريف الحقيقي للنسخ :

تعريف النسخ في القرآن الكريم : هو إبطال وتعطيل حكم قرآني بحكم آخر إما بآية أو بحديث أو بقول مجتهد استنباطاً أو رأياً أو تأويلاً.

فمن لديه اعتراض على هذا التعريف فليفند اعتراضه تفصيلاً علمياً يثبت أن التعريف الأول أصح وأدق من الثاني ، وأن التعريف الثاني لا يمكن أن يحمل تعريفاً للنسخ مع وضع الأسباب وللجميع الشكر والتقدير
 
يُدَّعى أن آية السيف نسخت مَا يلي :

{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256]

جاء فيما ذكره ابن كثير رحمه الله:
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام ، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .

أما القرطبي رحمه الله فمن بين ما عرضه من أقوال :
قيل إنها منسوخة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين . وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين .
التعليق على الأقوال في هذا الموضع :

لا شك أن إبطال هذه الآية العظيمة يتبعه لوازم خطيرة :

أولاً : مشروعية ووجوب إجبار الكافر على اعتناق الإسلام رغماً عنه لأن الإكراه لم يعد منفياً بل يجب أن ترغم الكافر على الدخول في الإسلام بحد السيف فإن أبى فلك أن تضرب عنقه.

ثانياً :بذلك لم تعد الإرادة الحرة والأمانة التي حملها الإنسان والمشيئة التي يحاسب العبد بها ، لم تعد ذات أهمية ولم يعد لها هدف فالمهم أن نجمع أكبر عدد من المسلمين سواء كان إسلامهم إيماناً صادقاً بالله تعالى أو كان استسلاماً لواقع السيف ومنطق الجبر والتهديد.

ثالثاً :إن الله جل في علاه غني عنا وعن عبادتنا ، فإن كان المؤمن يشفق أن لا تقبل له طاعة إن شك في وجود دَخَلٍ من رياءٍ أو شرك ، ويرتعد من ضياع أجره وإحباط عمله بخلل في نية الإفضاء للعمل فكيف تصبح صلاة المكره بالسيف مقبولة ، و مالفائدة إن كان استسلامه باباً لدخول جهنم ؟؟.

‏لا شك أن القول بالإكراه في هذا الموضوع قول باطل فإن الله سبحانه وتعالى كان قد خلق الخلق وجعل الاختيار أمانة وجعل ‏العمل مناط ‏بذلك الاختيار، فلا قبول بلا نية ولا ثواب بلا رغبة وتوجه ، وكما رخّص تعالى للمكره على الكفر فقد أحبط في المقابل عمل المنافق لأن المكره قلبه مطمئن بالايمان ، أما المرائي والمنافق فقلبه عامر بالكفر.

وهنا نجد التناقض واضحاً بيِّناً ، ولعلنا نستعرض أقوال العلماء رحمهم الله في أهمية النية وملازمتها للعمل الصالح وفساد العمل بدونها وأول قول يسبق اقول العلماء هو قوله صلى الله عليه وسلم : عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما .
فحصر وقصر قبول العمل بالنية وهي لا تتوفر بكل تاكيد للمكره على الدين ، يقول ابن العربي: «لما سمح الله بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

فكيف يؤخذ العهد من المكره ويباح نقض العهد إكراها للمسلم ؟؟ ، يقول ابن قدامة : فرق الفقهاء في ذلك بين الرجل والمرأة، فإذا كان الإكراه واقعًا على المرأة، وذلك بأن أكرهت على الزنا ولم تستطع دفعه عنها فمكنت نفسها خشية وقوع الضرر بها، فالمشهور عند جماهير الفقهاء أنه لا يجب عليها بذلك الحد[47]. واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: ٣٣]؛ ووجه الاستدلال أن الآية تنفي الإثم على المستكرهة، وإذا انتفى الإثم تمام الانتفاء ارتفع الحد.
قال ابن جزي رحمه الله في التسهيل :" ( لا إكراه في الدين ) المعنى : أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته ، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه ، دون إكراه ويدل على ذلك قوله : ( قد تبين الرشد من الغي ) أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي ، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه "

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ قال ابن عاشور: " وَنَفْيُ الْإِكْرَاهِ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى إتباع الْإِسْلَامِ قَسرا، وَجِيءَ بِنَفْيِ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ نَصًّا، وهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى إِبْطَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ". انتهى

فالإسلام تحت الجبر والإكراه لا يحققه وقلبه متشرب للكفر كما أن الكفر تحت الجبر والإكراه لا يحققه والقلب مطمئن بالإيمان.
وبالتالي فالقول بنسخ هذه الآية باطل وحكمها باقٍ مستقر لم يبطله شيء وهو كغيره من الأحكام التي قيل بنسخها وهي لم تنسخ ، ويخشى على القائلين بالنسخ في هذا الموضع والقائلين به جملة بالافتئات على الله وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله إن هم أصروا على هذا القول والله الهادي على سواء السبيل.


يتبع بإذن الله ...
 
- قولكم حفظكم الله عن الدواعش هداهم الله :

فعندما تحاجهم يستدلون ويحتمون بتلك الأقوال فما إن تأتي بحجة من كتاب الله عن المصالحة والمعاهدة والبر للمسالمين حتى يحتجون بنسخها بآية السيف، فكيف تكون المسألة علمية منفصلة عن واقع الأمة وحاضرها الماثل أمامنا؟

- أقول لكم:
* هب أن ما قلتموه صحيح، فما الفرق بينه وبين من يرد بالتخصيص أو بالنسءِ قائلا: هذه الآيات في وقت ما، وهذه الآيات في وقت آخر.
مثال قال الإمام الزركشي رحمه الله:

الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجاب لذلك.

قال: وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نسء كما قال تعالى: {أو ننسئها } فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى.

قال: وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا انتهى محل الشاهد من كلامه بنصه.

* وانظر إذا شئت لكلام صاحب زاد المعاد في هذا الموضع، لترى أن مثل طريقتك ستفضي ليس إلى إلغاء النسخ فحسب، بل إلى إلغاء النسء والتخصيص وغيرهما.
 
- قولكم: تعريف النسخ في القرآن الكريم: هو إبطال وتعطيل حكم قرآني بحكم آخر إما بآية أو بحديث أو بقول مجتهد استنباطاً أو رأياً أو تأويلاً. انتهى
هممتُ أن أرد عليكم سريعا، لكني انشغلت، وصادف ذلك أن النت لا يعمل عندي كثيرا، فلما تأنيت وقرأت قلت: قاتل الله العجلة، ما أشد خطرها، إلا العجلة إلى مرضات الله.
أولا: قولكم حفظكم الله [إبطال] له شرح وهو:
* عندنا وقتان:
- الوقت الأول كان فيه هذا الحكم حق، بحيث لو تركه كان عاصيا.
- الوقت الثاني: رجع الحكم إلى أصله المراد عند الله بحيث لو فعله كان عاصيا.
مثال: قال تعالى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]
هنا: الحكم هو ذبح الولد بغير جرم ارتكبه.
ما الذي فعله خليل الرحمن وابنه البار إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟
الجواب: بادر للطاعة، وأراد تنفيذ الأمر، الذي هو حق، لأن الروح ملك لله لا لأحد سواه، وهنا أمر بإزهاقها لتخرج من دار الدنيا إلى الجنة، والله يحكم ما يريد.
ثم قال له: {لَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
- فلو جاء رسول الله بعد ما سمع [وفديناه] ليذبح ولده لصار مذموما عاصيا، لأن الحكم كان حقا وقت صدوره، وصار باطلا يوم انتهائه.
- ثم تعال - طوعا لا كرها - معي مرة أخرى إلى التخصيص:
عندما يقول الله تعالى [كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين]:
عندنا في هذه الآية احتمالان [وسأركز الكلام على الوالدين]:
الأول النسخ.
الثاني: التخصيص.
فالمخصص يقول: لا تجوز الوصية [لاحظ لا يجوز] للوالدين إلا إذا كانا لا يرثان، فيجب لهما الوصية، والأب لا يرث إذا كان مشركا أو قاتلا.
والناسخ يقول: لا تجوز الوصية للوالدين، ولا تجب لهما إن كانا لا يرثان.
فكلاهما متفق على إبطال أكثر معنى الآية بالحكم الجديد الذي نزل، وهو الذي تراه عيانا في آية المواريث، مع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها إذ يقول: [إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث].
فلو تأملت - وأنت أهل لذلك - لوجدت أنك لا تأخذ بأكثر حكم هذا الجزء أو بكله بهذا الإدعاء أو بذاك.
 
- قولكم: تعريف النسخ في القرآن الكريم: هو إبطال وتعطيل حكم قرآني بحكم آخر إما بآية أو بحديث أو بقول مجتهد استنباطاً أو رأياً أو تأويلاً. انتهى
ثم قولكم حفظكم الله: [حكم قرآني]:
النسخ عند العلماء أكثر من ذلك، فهم يتكلمون عن ستة أنواع أساسية هي:
1 - نسخ القرآن بالقرآن.
2 - نسخ القرآن بالسنة.
3 - نسخ السنة بالقرآن.
4 - نسخ السنة بالسنة.
وهذه الأنواع كلها، مقبولة عندهم، على خلاف في بعض تفاصيلها.
5 - نسخ القرآن بالإجماع.
6 - نسخ القرآن بالقياس.
وعن هذين يقول عمر بن محمد الخبازي الحنفي في كتابه المغني في أصول الفقه: [لا خلاف أن القياس عند الجمهور لا يصلح ناسخا للقرآن، وكذلك الإجماع عند أكثرهم] انتهى بواسطة كتاب النسخ عند الفخر الرازي.
*** ومثل هذا يرد على قولكم [أو بقول مجتهد ... إلخ ].
 
بسم1​
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياكم الله مجدداً استاذنا الكريم وبارك الله لكم وعليكم وهدانا وإياكم للحق إنه هو الهادي إلى سواء السبيل.

أولاً : ينبغي أن نحرر منطلقات للحوار وستتفق معي أنه لايصح أن أحتج بما لا يستقر عندك وأنت كذلك ، وعليه فإن الغرض من هذه السلسلة هو نفي النسخ عن القرآن الكريم ، وبالتالي فما أقرره متعلق بنسخ القرآن الكريم وليس نسخ السنة بالقرآن أو نسخ السنة بالسنة وغيرها من أنواع النسخ التي تفضلت بإيرادها ، وسيصعب المسألة تجاهل الأمر من أوله وعدم المرور عليه لأن كل ما تفضلت به سبق مني ما يرده ولكن لا بأس.

ثانياً : إن العمدة في مسألة نفي النسخ وتنزيه القرآن الكريم عنه هو أن فهم قوله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها .. الآية) تأولها القائلون بالنسخ على غير وجهها فنسبوا القول أنه القرآن تنسخ آياته فيما كان السياق يتحدث عن الرسالات ويخاطب اليهود والمراد هو نسخ الآيات (علامات النبوة) التي أوتي النبيون قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن تبديل الآيات يراد به أن يبدل الله التوراةَ بالقرآن ، ونقول أن القرآن لم ينسخ أبداً ولم يطال آياته الإبطال والتعطيل البتة بل إن ما بين أيدينا اليوم من نصوص هي حقٌّ واقعٌ حيٌّ مفروضٌّ لأن آية النسخ متعلقة بالأنبياء السابقين وليس بالقرآن في مابين آياته وسبق أن فصلنا في ذلك بما يبين في المشاركة رقم 3.
وبالتالي فالإنساء الذي تفضلت به مرتبط بالآية التي هي موضع الخلاف والتي أسس على فهمها باب النسخ كله ، فالإنساء متعلق بآيات الأنبياء السابقين التي نسيت (من علمنا منهم ومن جهلنا) وأصبح مكانها المعجزة الباقية التي نسختها وهي القرآن الكريم وأقول نعم الإنساء في حق القرآن الكريم باطل والنسخ في حق آياته باطل أيضاً.

أما قولك وفقك الله :
مثال: قال تعالى
{
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
}
[الصافات: 102]
هنا: الحكم هو ذبح الولد بغير جرم ارتكبه.
ما الذي فعله خليل الرحمن وابنه البار إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟
الجواب: بادر للطاعة، وأراد تنفيذ الأمر، الذي هو حق، لأن الروح ملك لله لا لأحد سواه، وهنا أمر بإزهاقها لتخرج من دار الدنيا إلى الجنة، والله يحكم ما يريد.
ثم قال له:
{
لَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
}
- فلو جاء رسول الله بعد ما سمع [وفديناه] ليذبح ولده لصار مذموما عاصيا، لأن الحكم كان حقا وقت صدوره، وصار باطلا يوم انتهائه.

اسمح لي حفظك الله فقد تمنيت أن تورد مثالا عليه دعوى النسخ أما الاستدلال هنا فهو غير سليم والاستشهاد بهذا لا مكان له ، فالآية خبرية تصف حالاً مخصوصاً لنبي الله إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام وهو أمر خاصّ يراد منه تسبيب وتقرير نسك وعبادة فلا علاقة لما تفضلت به والنسخ في كتاب الله ، وهنا وجب علينا التفريق بين آيات الأحكام من فرائض وشرائع وعبادات و آيات الحكمة من قصص وترغيب وترهيب وتقديس وتعظيم لله جل وعلا ، فالأولى تقرر للمؤمنين عبادات وأوامر ونواهي ينبغي إتيانها (وهي محل دعوى النسخ) والثانية حكمة وعبر وقصص لا يترتب عليها أمر ونهي وبالتالي فلا محل للافتراضات التي تفضلت بها بأنه لو أن النبي فعل كذا .. وكذا.
وكذا الأمر بالنسبة لآية الغلبة على الأعداء (إن يكن منكم عشرون صابرون) فالآية خبرية على سبيل التخصيص لحالة معينة ولا تحمل حكم حتى يقال نسخ هذا الحكم ، فلا وجه لاعتبار الآية تحمل حكما شرعياً بل وصف لحال المؤمنين في حالتين ، الأولى حملت درجة عليا من الإيمان قادت لتأييد رباني قوي ، والأخرى حملت درجة اقل من الإيمان قادت لتأييد رباني أقل.
وهكذا يختلف حال المؤمنين حتى قيام الساعة فكلما زادت الحالة الايمانية لديهم زاد التأييد وتحققت الغلبة وكلما كان العكس نتج العكس.

فالخلاف رعاك الله اصولي وليس فرعي ، فنختلف في مفهوم آية النسخ ابتداءً ، ثم نختلف في فهم آيات الأحكام المدعى نسخها أيضاً فلا يصح أن نتناول الحجج على اعتبار اننا ننطلق من ذات المنطلق وأننا متفقون في ثبوت النسخ ولكن نختلف في كيفيته بل نختلف في القول بنسخ القرآن بالكلية.

وتفضلكم رعاكم الله بالقول:

- أقول لكم:
* هب أن ما قلتموه صحيح، فما الفرق بينه وبين من يرد بالتخصيص أو بالنسءِ قائلا: هذه الآيات في وقت ما، وهذه الآيات في وقت آخر.
مثال قال الإمام الزركشي
رحمه الله
:

الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ إيجاب لذلك.

قال: وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نسء كما قال تعالى:
{
أو ننسئها
}
فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى.

قال: وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا انتهى محل الشاهد من كلامه بنصه.

وما أكرره أن الإنساء والنسخ ليسا متعلقين بالقرآن البتة ، وعليه فنعم ننكر النسخ والإنساء في حق القرآن ونثبته في حق الشرائع والمعجزات والآيات الخاصة بالأنبياء السابقين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وما كان الاضطراب والتناقض بين المفسرين والفقهاء في مسائل النسخ بين ناسخ ومثبت إلا لأنها قول بشري محض ليس من قول الله تعالى فحمل الاختلاف بل والتناقض التام.

[لا خلاف أن القياس عند الجمهور لا يصلح ناسخا للقرآن، وكذلك الإجماع عند أكثرهم]

وهذا دليل بطلان النسخ ، فيمكن الاختلاف في أي شيء إلا في إبطال كلام الله واثباته فيجب أن يكون واحداً على حق والآخر على باطل وإثم عظيم فكلام الله ليس هيِّناً حتى نتبسط فيه فنرمي آية بالبطلان هكذا بالرأي ونعطل حكمها ثم نقول مجتهد له اجر واحد ! ، بينما لو أبطل احدهم أو الغى كلام فقيه من الفقهاء قامت الدنيا ولم تقعد أما كلام الله تعالى فالأمر فيه سعة ، فهذا مما لم يأت من عند الله لذلك نجد فيه اختلافاً كثيراً.

رجائي التفضل على أخيك بقراءة البحث من أوله بتؤدةٍ ما وجدت إلى ذلك سبيلاً فالأمر عظيم ويحتاج لمراجعة منصفة وقراءة متعمقة ورؤية عادلة تضع الأمر في نصابه ، وإذا وجدت فيه حق أن تثبته وإن وجدت فيه باطلاً أن تبينه وستجدني إن شاء الله من الصادقين.
 
دعوى نسخها لقوله تعالى:

{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61]
سنختار ما جاء عند شيخ المفسرين رحمه الله تعالى في هذه الآية لأنه يحيط بأكثر وأوثق ما قيل فيها.
وقبل عرض تفسير ابن جرير رحمه الله فسوف نقسم قوله إلى قسمين ، الأول ما نقله من القول بالنسخ ، والقسم الثاني ما نقله من القول بنفي النسخ عن الآية.

الأقوال المثبتة للنسخ :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة: 5]

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إلى الصلح=(فاجنح لها)، قال: وكانت هذه قبل " براءة ", وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل, فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم, ثم نسخ ذلك بعد في " براءة " فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وقال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ، [سورة التوبة: 36]، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يقولوا " لا إله إلا الله " ويسلموا, وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها, وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن " براءة " جاءت بنسخ ذلك, فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: " لا إله إلا الله ".

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لهانسختها الآية التي في " براءة "قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة: 29]

ونقل ابن جرير رحمه الله من سيرة ابن هشام جاء : حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق,(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.


الأقوال النافية للنسخ
:

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.

قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة, فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. انتهى كلامه.

وقول الله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله.(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إنما عني به بنو قريظة, وكانوا يهودًا أهلَ كتاب, وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.

وأما قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنـزلت فيه.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم)، قال: قريظة.

بين الإثبات والإبطال:
أوردنا بعض صور التعارض المتوافرة عند مفسر واحد ، للاستزادة يمكن الرجوع لحجة ابن عاشور رحمه الله بنفي النسخ ،أو قول البغوي بإثبات النسخ ما يعكس الخلاف بين المبطلين والمثبتين.
وهذا المثال يكرس المفهوم الذي سبق أن قدمنا له بأن النسخ بلغ حداً من البطلان أن الفقهاء والأئمة المؤمنين به يبطلونه في موضع ويثبتونه في آخر ، ولكن أبسط قواعد العدل في التعامل مع كتاب الله أن نقدم نفي النسخ عندما يحصل الخلاف فعلى أقل تقدير فإننا بحاجة رفع كلام الله وتنزيهه عن هذه الخلافات فالأصل في قول الله الثبات ونفيه وإبطاله بدون دليل افتئات على الله واعتداء على كلامه وكتابه الكريم.
والقول بإبطال الآية يعني بكل بساطة أن الكافر المحارب تنبغي مقاتلته و إن سالم واستسلم ولا يجوز للمسلمين أن يوقفوا قتاله بل عليهم قتله أينما ثقفوه ، ولو توسل وتراجع ، ونستطيع اليوم أن نشهد نموذجاً عملياً لتطبيق النسخ في هذه الآية حيث لا ينفع المستسلمين استسلاماً ولا شهادة بدعوى نسخ المسالمة والموادعة والصفح والبر في حق المخالف فضلا عن المحارب.

يتبع بإذن الله ....
 
عودة إلى سياق "ما ننسخ من آية"

علم السياق ودلالته في هذا الموضع:
إن السياق من أجلّ وأهم ما يُنظَرُ فيه لفهم كتاب الله ، وفهم قوله تعالى (ما ننسخ من آية) عندما فُسِّرَ بأنه إبطال آيات القرآن الكريم لم يكن ذلك مبنٍ على قول غير معصوم فقط بل تجاوز ذلك لتجاهل السياق الذي هو تفسير الله جل وعلا لكلامه إن عز فهمه من منطوق صاحب الوحي ، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في فتاويه (ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه، وما يبين معناه من القرائن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع، في باب فهم الكتاب والسنة، والاستدلال بهما مطلقاً، ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب، وطرد الدليل ونقضه.. وفي سائر أدلة الخلق).

و قال مسلم بن يسار (إذا حدّثت عن الله حديثاً فقف! حتى تنظر ما قبله وما بعده) ، ويقول ابن عبدالسلام في بيان أدلة الأحكام (السياق مرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحاً، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذماً).

ولعلنا نستعرض سياق آية النسخ ليستقر لدينا ما نزلت لأجله وأي دلالة تحمله وأين تقودنا في أصلها وما قبلها وما بعدها :

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) فالسياق يتحدث عن بني إسرائيل وما سبق إليهم من الوحي ونبذهم لكلام الله تعالى وشريعته ، يقول ابن جرير في هذا الموضع : وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم)، فإنه للذي هو مع اليهود, وهو التوراة.

فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله,(نبذ فريق), يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب). وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: (كتاب الله)، التوراة.انتهى كلامه.

وعليه فإن السياق مطَّرِدٌ في الحديث عن ما نزل على بني إسرائيل وموقفهم منه ويتصل السياق ببعضه فيقول تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) واستمر السياق الشريف في الحديث عن بني إسرائيل وموقفهم مما أنزل الله إليهم فتركوا شريعة الله وتنزيله الحكيم الذي أمروا باتباعه واستبدلوه بما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، يقول ابن جرير في ذلك (يعني بقوله : ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين ) الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم , تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون , كأنهم لا يعلمون .

فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم , ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه , وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه ; وذلك هو الخسار والضلال المبين ).

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) فينهى تعالى المؤمنين عن التشبه باليهود بقول راعنا ،جاء عند ابن جرير : عن قتادة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله اليهود استهزاء, فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. ، عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: (لا تقولوا راعنا)، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، كما قالت اليهود والنصارى.انتهى كلامه.

وهذا يتسق مع قولهم هذا في موضعها الآخر في سورة النساء بقوله جل شأنه (منَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) وهكذا يتصل السياق في الحديث عن موقف اليهود مما نزل على المؤمنين ويفصل الحق جل جلاله خبراً عن موقفهم مما نزل عليهم ، فإن كان هذا فعلهم تجاه شريعة جاءتهم دون سواهم فكيف سيكون موقفهم مما أنزل عليكم أيها المؤمنون ؟.

ويتصل السياق في ذات المسألة......

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ : ويقول فيها ابن جرير رحمه الله (تأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينـزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنـزله عليكم. (147) فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينـزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته, وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.

وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين, والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.)

وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(105) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من يشاء): والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه, فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و " اختصاصه " إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه.
وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم).
فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه, وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.انتهى كلامه.

فيقرر رحمه الله هنا تعلق الآية بأهل الكتاب وموقفهم مما نزل من رحمة على نبيه (القرآن الكريم) ويبين أن ذلك رحمة خاضعة لمشيئة الله تعالى يرسلها إلى من يشاء من عباده.

ويستطرد ويتصل السياق ...


مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106) فإن سأل اليهود عما نزل عليهم فليعلموا أن الله نسخه وأبطله بما نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فما من آية ينزلها الله حتى تبقى ماشاء الله لها أن تبقى حتى ينسخها بما شاء فيبطلها ويعطلها ويحلُّ محلَّها ما يشاء من الآيات والعلامات الواضحات ، والله على ذلك قدير ، فلما نزل عليكم التوراة فما رعيتموها حق رعايتها وجرى إلحادكم وتحريفكم لها شاء أن يعطلها وينزل مكانها بديلاً من مشكاة واحدة.

وهنا ردٌّ على احتجاج بني إسرائيل على المؤمنين كيف أن المسلمين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم لا يتبعون التوراة ولا يجرون أحكامها ، فأراد الله أن يبين لهم أنَّ نزول الآية الباقية والعلامة السامية العظيمة التي اكرم الله بها البشرية فقد هيمنت وحلَّت على ما سبقها فلا يلزم أتباع القرآن أن يعودوا لاتباع ما نسخه الله من الشرائع السابقة، بل إن أتباع الشرائع السالفة المنسوخة وجب عليهم أن يتحولوا لما أحله الله محل شريعتهم.

وهنا فإن السياق لم يكن يتحدث عن أحكام القرآن وتفصيلاته بل كان يحيط بأمورٍ كلية وقواعد أساسية تتعلق بالفرق بين الديانات وما أتى مع كل ديانة من المعجزات والشرائع والكتب .

ويتقرر بهذه الآية إقامة الحجة على اليهود والنصارى ببطلان اتباعهم للتوراة منذ أن نزل القرآن لأنها آية منسوخة لا يفيدهم العمل بها وقد نزل القرآن ، ولا ينفعهم عمل بعد موتهم مع نسخ شريعتهم واستبدال كتبهم بالقرآن الكريم.

فكيف يسوغ لمدَّعٍ أن يدعي بعد ذلك السياق البين الواضح أن الحديث تحول لآيات القرآن ؟ وهو مسبوق بالحديث عن الكتب السماوية ومتبوع بالحديث عنها أيضاً ؟ ، حتى أن ابن جرير رحمه الله افتتح تفسيره لهذه الآية بقوله (اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : ( مَا نَنْسَخ )) فهل يجوز لنا أن نشذ ونتبع الاختلاف والقول بالراي في مسألة واضحة يبينها السياق أيما بيان وليس على أي قول خلافها دليل من قول نبوي كريم ؟

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
فيقدر على ما يشاء ويفعل في ملكه ما يشاء وينسخ من شرائعه ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا حسيب عليه وهو الحسيب على كل خلقه وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) مالكم أيها اليهود من ولي غير الله ، فله الملك وله الحكم وهو الذي أنزل الكتب وهو الذي يرفعها ومالكم من ذلك من شيء سوى التسليم ، فاعتراضكم على القرآن لا مكان له ولا وجه لأن من أنزل توراتكم هو من نسخها بالقرآن وبدل الحكم بالحكم والآية بالآية والمعجزة بالمعجزة.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
(108)وقد اختلف المفسرون في مناط الخطاب فقيل موجه للمسلمين ، والوجه الأظهر أن قوله (أم) استفهام متعلق بما قبله ، فيكون الاستفهام موجه لبني إسرائيل فيقول تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ) يا بني إسرائيل ( أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) أن تطلبوا ممن أرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، باعتبار رسالته الشاملة للعرب ولكل بني آدم وهذا تقرير لهم وإقامة حجة على أن النبي هو نبيٌّ لهم كما هو نبيٌّ لغيرهم (كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ) كما سال أسلافكم نبي الله موسى بأن يريهم الله جهرة وغير ذلك من المعجزات برغم ما رأوا من عظيم قدرة الله وعجائبه (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فاستبدال القرآن وهو الشريعة البديلة للتوراة الناسخة لها فمن فضل المنسوخ على الناسخ فقد كفر بالله وناقض لوازم الإيمان وضل عن سواء السبيل ، ولذلك فالبقاء على شريعة وآية منسوخة ، وترك المعجزة الحية ضلال عن الطريق القويم.

فيتحول في الخطاب ليوجهه للمؤمنين ولكنه لم يتحول عن سياق الحديث وهو موقف أهل الكتاب من الرسالة و التنزيل فيقول تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي أن أهل الكتاب يتمنون في انفسهم أن تعودوا عن دينكم وتكفروا بما آمنتم به وهم قد أيقنوا بسلامة إيمانكم و بهيمنة ما نزل إليكم من خير وما اختصكم به من نبوة وشريعة ناسخة لما قبلها ، حسداً لما افضل الله عليكم من تقدمة لكم عليهم ولشرعكم على شرعهم ولمعجزتكم على معجزاتهم (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) فهم يعلمون حقاً أن شريعتهم نسخت ، وان ما اتى به محمد صلى الله عليه وسلم حق وان نبوته حق وأن الله نزع منهم شرف النبوة وابطل ماهم عليه من الأمر واستبدلهم بقوم آخرين فتملكهم الحسد والغيظ على ذلك ، فتمنوا أن ترجعوا عن دينكم وتعودوا كفاراً جهالاً (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109)) يقول ابن جرير رحمه الله يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : ( فَاعْفُوا) فَتَجَاوَزُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إسَاءَة وَخَطَأ فِي رَأْي أَشَارُوا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي دِينكُمْ , إرَادَة صَدّكُمْ عَنْهُ , وَمُحَاوَلَة ارْتِدَادكُمْ بَعْد إيمَانكُمْ وَعَمَّا سَلَف مِنْهُمْ مِنْ قَيْلهمْ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (اسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين) وَاصْفَحُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ , فَيَحْدُث لَكُمْ مِنْ أَمْره فِيكُمْ مَا يَشَاء , وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا يُرِيد .انتهى كلامه.

ثم يردف تعالى بالأمر للمؤمنين بالاتباع والتقوى وإتيان فرائض الله ، فيقول جل شأنه: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ولازال السياق يعود للحديث عن موضوع السياق الرئيسي وهم اليهود والنصارى فيقول تعالى (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فالواو في قوله (و) قالوا تعطف ما بعدها على ما قبلها في سبيل تعداد جرائمهم وكفرهم ورفضهم لنزول الخير على سواهم ، فهذه الآية متعلقة من ضمن ما تعلقت به آية النسخ إذ يبطل نسخ التوراة بالقرآن كل قول باختصاصهم بدخول الجنة دون سواهم ، ويقرر تعالى بأن ما يقولون إنما هي أماني لا سبيل لتحققها وليس لهم عليها برهان فهم في ذلك من الكاذبين.

ويرد الله مقالتهم وحصرهم لرحمة الله فيهم بقوله تعالى (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) فالعبرة بمن استسلم لإرادة الله وشرعه وتوجه إليه تعالى دون سواه بإحسان ويقين برؤية الله له وشهادته على عمله فله أجره سواء كان من بني إسرائيل أو من سواهم ممن خلق الله وكلفهم بالاوامر والنواهي والشرائع السارية المهيمنة على حياتهم.

ولا يزال محور الحديث سارياً ، فيخبرنا جل وعلا بأنهم وإن رفضوا دينكم ، وإن اعترضوا على قرآنكم وحسدوكم على ما نزل إليكم فهم فيما بينهم متفرقين متباغضين متحاسدين لا يجمعهم قول ولا يؤمن بعضهم ببعض فيقول (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)) ، قال الطبري في هذا الموضع :قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنـزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.

ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون. انتهى كلامه.

وبعد …

يستمر السياق في الحديث عن الفرقتين وموقفها من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين آية متصلة تنتهي بقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ثم تستأنف بيان عدوان وكفر أهل الكتاب وتاريخهم وما كان منهم وما يكون وما سيكون.

وهكذا أضع بين يدي القارئ الكريم سياقاً مشوقاً بيَّناً يثبت في كل حرف منه أن النسخ متعلق بالنسخ بين الشرائع وكل من يقرأ السياق ويتأوله على غير وجهه فينسب النسخ لآيات القرآن فقد أخطأ ، ذلك أن الموضع لم يشتمل على ما يقود لذلك الفهم لا من قريب ولا من بعيد.

أما من يقرأ الآية مجتزأة عن سياقها ، خارجة عن محيطها القرآني وهو في ذات الوقت يحمل قناعة متوارثة بنسخ كلام الله فلن يقنعه شيء بخطأ ما هو عليه وأما من توخى الموضوعية واستصحب أن الموضع تنزيه لكتاب الله وإعلاء له على سواه من الكتب والشرائع والمعجزات لرضخ للحق وانصاع للسياق ولاستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه )

يتبع بإذن الله ...
 
دعوى ضرورة النسخ والحكمة منه :

من الحجج التي يسوقها مدعو إبطال احكام القرآن ويرددونها في سبيل تبرير هذا الإبطال هو تغير حال المسلمين وتطور حياتهم ما يستلزم معه تغيير أحكام تخفيفاً أو تشديداً تبعاً لمتغيرات المجتمع المسلم.
ونقول بأن هذه حجة باطلة ، فنزول الوحي وتغيرات المجتمع المسلم التي يتحدثون عنها كانت على مدى ثلاثاً وعشرين سنة ، فماذا عن التغيرات الضخمة التي حدثت في أربعة عشر قرناً تلت سنوات الوحي ؟؟ من ينسخ لنا الآيات ويبطلها ويبدلها بسواها ؟؟ والمبطلون يعلمون بأن التغييرات التي حصلت في قرن واحد تفوق في ضخامتها وجسامتها تغيرات في آلاف السنين في شتى مناحي الحياة ، هل يسعون للتوسع مستقبلاً في الإبطال والتعطيل فيدافعون عن النسخ بالإجماع والنسخ بالقياس حتى يأتي يوم لا نجد في كتاب الله إلا سورة أو سورتين والباقي جرى نسخه بهذه الدعوى الباطلة ؟.
وبعد فإن حجج (إثبات تعطيل أحكام الله) المسمى بالنسخ واهية ومتناقضة تناقضاً عجيباً ، فتجدهم يقررون أن الحكمة من إبطال الحكم وبقاء الرسم قالوا ليحصل ثواب التلاوة للقارئ ، فإن قلت وماذا عن إبطال الرسم وبقاء الحكم ؟ لماذا لم يبقى الرسم للثواب كسابقه كانت الإجابة : لكي يختبر الله عباده ويبتليهم هل يتبعون حكمه أم يتركونه
يقول الزركشي رحمه الله في البرهان ناقلاً عن البغدادي -: "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).انتهى كلامه ، وقد نقله عنه أيضاً السيوطي رحمه الله.
هكذا بدون دليل ولا قول معصوم يقررون مراد الله بما لم يقله ربنا جل جلاله ولم يقرره نبينا صلى الله عليه وسلم ، فيسببون الاسباب ويعللون الأحكام والإبطال بدون دليل ولا قول من صاحب الأمر ثابت صحيح ، ولكنه من عند غير الله لذلك فنجد فيه اختلافاً كثيراً كما نلحظ هنا ، ثم ينقله واحد من واحد حتى يصطبغ بالقدسية فيصبح معصوماً لا ينبغي عليه الخطأ.

خاطرة :
يقول تعالى : { فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [الشورى:15]
وكل من ترك الحوار والمدارسة والبحث ولجأ لاستعمال آيات الله للسباب والشتائم والتندر والتفكه على المسلمين ونسبة السوء والفحش والنجاسة إليهم بحيلة عجز وقصد سوء فإن الله جل وعلا يخاطبنا في حقهم قائلاً { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص:55] ، فأقول لأولئك غفر الله لكم وتجاوز عنا وعنكم وهداكم إلى سبيل الرشاد وجعلكم من أهل الجنة فقد تصدقنا بحقنا طمعاً في عفو الله ومغفرته وحباً في هدايتكم وخوفاً من عقاب الله وسخطه ، وقانا الله وإياكم ذلك.
 
يقول الزركشي في البرهان ناقلاً عن البغدادي -: "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).انتهى كلامه ،

وهنا تقرير خطير للغاية وقول فيه نظر طويل
أولا : فصاحب الفنون والزركشي والسيوطي رحمهم الله من وراءه يقررون أن نسخ التلاوة طريق ظن وليس طريق مقطوع به ، وهذا قول خطير ينسف عقيدة النسخ ، فكيف يصار الى ادعاء إبطال قول الله ووحيه بالظن ؟؟.
ثانيا : يسوق في سبيل ذلك مثالا يشير لاعتقاد أشد خطورة بأن ابراهيم عليه السلام ما شرع في ذبح ابنه وسارع إليه وهو متيقن بأن ما رآه وحيا ، بل كان ذلك على سبيل الظن لأن المنام أدنى درجات الوحي ، فكيف ينسب الظن لنبي الله ابراهيم عليه صلوات الله وسلامه في تنفيذ أوامر الله ؟؟ ومن أين أتى بأن الوحي عن طريق رؤيا المنام هي أدنى درجات الوحي؟؟ هل في ذلك قول نبوي صحيح ؟؟ ولو فرضنا جدلا أنه أدنى درجات الوحي ، هل بلغ من ضعفه تشبيهه بالظن ؟؟ , فهل كل ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وحي في المنام كان وحيا على سبيل الظن ؟؟.

أرجو ممن لديه توجيه أو مخرج لهذه التساؤلات أن لا يبخل علينا بما يفتح الله عليه لنتمكن من غلق هذه النقطة ، ولي عودة بإذنه الله.
 
كنت قد قررت عدم الكتابة حتى ينتهي الأخ عدنان من بحثه لتكتمل صورة البحث، وبالأخص أن البحث متشعب وترتيبه ليس
جيداً ، لكن استوقفتني هذه الجملة :
" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فيقدر على ما يشاء ويفعل في ملكه ما يشاء وينسخ من شرائعه ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا حسيب عليه وهو الحسيب على كل خلقه وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) مالكم أيها اليهود من وليي غير الله ، فله الملك وله الحكم وهو الذي أنزل الكتب وهو الذي يرفعها ومالكم من ذلك من شيء سوى التسليم ، فاعتراضكم علىى القرآن لا مكان له ولا وجه لأن من أنزل توراتكم هو من نسخها بالقرآن وبدل الحكم بالحكم والآية بالآية والمعجزة بالمعجزة. "

فأقول أن ماتحته خط هو عين ما يدندن به علماء الإسلام في قولهم بالنسخ . ذاك القول المثبت في كتاب الله والسنة على ضوء فهم السلف الصالح والذي قد تواترعنهم.


أما بخصوص نسخ التوراة :
فقد يسأل سائل ألا يعد هذا طعناً في التوراة ؟ القول بنسخ حكم فيها ألا ينسحب فيه التشنيع الذي قيل في نسخ بعض الآيات في القرآن؟
فنحن نعلم أن التوارة كلام الله. وكلام الله حق لا باطل فيه .


 
بسم1​
أخي الكريم الفاضل الاستاذ عبدالله الأحمد وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حياكم الله اخي الكريم واتفق معك بأن الترتيب مختل وغير جيد ومرد ذلك لمداخلات الإخوة الكرام لا استطيع تجاهلها وينبغي عدم إغفالها ، وسوف أزودكم في نهاية السلسلة بملف شامل مرتب ترتيبا واضحاً ومتسقاً لكل ما سبق ، وأشكرك لإثارتك هذا التساؤل المشروع وأعقب عليه بما يلي:

أولاً : إبطال شريعة أهل الكتاب التي نزلت في التوراة والإنجيل يختلف عن إبطال القرآن الكريم ولا يمكن أن يكون هناك تشابه لأن ابطال التوراة والإنجيل بدليل قرآني ونبوي وليس من عند أنفسنا بينما إبطال القرآن تأول علماء ورأي فقهاء تأسيسا على فهم خاطيء لآية وبلا دليل نبوي ولا دليل قرآني ، أما أدلة نسخ التوراة والكتب السابقة فهي كالتالي :
نماذج من الأدلة القرآنية :

- قوله تعالى : (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّبِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) هذه الآية التي انتزعت من سياقها انتزاعاً ونسبت النسخ والابطال للقرآن في حين أن السياق يتحدث عن أهل الكتاب وما نزل عليهم ، وقد أشبعناها إيضاحاً بما يكفي في رد سابق يثبت أن السياق كله يتحدث عن التوراة والانجيل وأهل الكتاب.

- قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة:488] ، قال ابن تيمية رحمه الله: " فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل "فكانت هيمنة القرآن على ماسبقه تعني إبطال شريعتها وإحلال القرآن محلها ، فيصدق قوله تعالى (نأت بخير منها أو مثلها) فأتى الله بخير منها وهنا تجدر الإشارة إلى أن أقول الزركشي وابن عقيل والسيوطي ليست بخير منها ولا مثلها فكانت شديدة البيان بأن القرآن مصدِّق للاعتقاد و ناسخٌ للشرائع التي سبقته ، فبدل الله بآيات القرآن ما سبقها من آيات.

- قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } [النساء:47]
آمنوا بما أنزلنا مصدقاً لما معكم : آمنوا بالقرآن الكريم ، ومن لوازم الايمان به تحليل حلاله واجتناب حرامه فتكون أحكامه مهيمنة لما معهم وناسخة لها فالصيام ينسخه صيام والصلاة بكيفيتها تنسخها صلاة والإنفاق ينسخه إنفاق وهكذا ، فلا يمكن الجمع بين شريعتين بما فيهما من عبادات مشتركة فلا بد من شريعة مبطلة ومنسوخة ، وأخرى بديلة ناسخة مثبتة وهي التنزيل الحكيم.

- قوله تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأنعام:155].
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه : دلالة على هيمنته على ماذكر في الآية السابقة لهذه يبطل أحكام السابقة ويحل محلها أحكاماً بديلة نافذة.

-قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت:51].
وفي هذا دلالة على أن الكتاب الحكيم الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كافٍ عن سواه ولا يجمع معه غيره للاتباع.

- قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:13]
فما وصلنا من أهل الكتاب من التوراة والانجيل طاله التحريف والتغيير والتبديل بلا شك ، ولم يحفظوه ويقفوا عند حروفه ، فأنزل القرآن وتكفل بحفظه ، فأصبح الفاضل مقدم على المفضول ، والأوثق مصدق على المحرف فنسخت شريعة القرآن ما قبلها.

- قوله تعالى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف:157]
فيلزم بني إسرائيل وأهل الكتاب عامة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاستمساك بسنته واحلال ما يحله الله فيما نزل عليه وتحريم ما حرم ، ويعفو عن كثير مما كان عليهم من الشرائع الثقيلة التي عوقبوا بها على تكذيبهم وعصيانهم وكفرهم .

- قال تعالى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الزمر:55] .
فالقرآن أحسن ما أنزل الله ، بذلك يفضل التوراة والانجيل والزبور والصحف وكل تنزيل قبله والأمر باتباع الأحسن فكان ذلك توجيها بترك المفضول إلى الفاضل والأحسن ، فتكون التوراة منسوخة في وجود القرآن قولا واحداً.

نماذج من الأدلة النبوية :
- ما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) ، فاتباع موسى لسيدنا محمد يعني ترك شرائع التوراة واتباع شرائع القرآن فبذلك تكون التوراة منسوخة باطلة أحكامها في وجود أحكام القرآن.

- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد )رواه البخاري ومسلم .
فما يتبع المسيح كتاباً إلا وهو ناسخ لكتابه وما كان يتبعه قبله .

نماذح من اقوال العلماء رحمهم الله:

يقول ابن حزم رحمه الله :
" إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ( لا معقب لحكمه )، وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ... وقد قلنا آنفا إن الله تعالى أطلعهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين ، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المثل ، وكف أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم ، كما كف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضا كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم " انتهى كلامه


يقول الشيخ محمد العثيمين رحمه الله : الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم لقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} ﴿المائدة: ٤٨﴾، فكلمة {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} تقتضي أن القرآن الكريم حاكم على جميع الكتب السابقة، وأن السلطة له فهو ناسخ لجميع ما سبقه من الكتب انتهى كلامه.

ثانياً : فما يقوله المبطلون أن القرآن أبطلت منه مئات الآيات تأولاً وجهلا واعتداءً بلا قول نبوي معصوم حتى اتسع الشق على الراقع فأصبح هناك نسخ بالقياس ونسخ بالاجماع وصارت المعجزة الباقية الثابتة نهباً للقائلين بالظن والمسارعة إليه بدون تثبت وجعلوا من هذا الظن والمسارعة لابطال قول الله وأحكامه فضيلة تعدل مسارعة ابراهيم في ذبح ابنه ، ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل ، وعندما نتصدى لذلك القول بالدليل يترك الدليل كله ولا يأتي من يرد عليه بأسلوب علمي باحث عن الحق ، وعوضاً عن ذلك تضيع أوقاتنا في التشكيك والتخوين والنسخ واللصق الذميم الذي هو حجة على صاحبه وليس حجة له.

فالنسخ في حق القرآن إبطال والابطال في حق كتاب الله بلا دليل جرم عظيم إن لم يرجع عنه معتقده فإن عليه وزر عظيم لا ينفعه فيه لا الزركشي ولا السيوطي ولا ابن عقيل يوم يقف بين يدي الله فيسأله عن آياته كيف ضرب بعضها ببعض وعارض بعضها ببعض وهي ليست كذلك ، وكل إنسان سيحاسب لوحده ولن يؤخذ السيوطي بدلا عني فكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، وآتاك الله من العقل والعلم ما يدعوك للتحرز في دينك والحذر من الانزلاق في أقوال باطلة تهوي بصاحبها في نار جهنم ، علم أم لم يعلم.

وأنا أقيمها حجة على كل من يقول بهذه الفرية المخيفة فليتق الله ربه وليراجع نفسه ولا ينتصر لذاته فقط لكي ينتصر كيفما اتفق فإن الحساب قريب والموت أقرب ولن ينفعني ولا أنتم قول عالم أفضى إلى ما قدم ولا ينفع يوم الوقوف عذر بعد حجة ولا تذلل بعد جريمة والله الهادي لنا ولكم لما فيه الحق والرشاد.

 
البحث بعد اجراء دمج لبعض الأجزاء وتنقيح ليمكن الاحاطة بأجزاءه وتحديثه في المدونة

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة


الحمد لله منزل الكتاب العظيم المحكم الذي جعله ناسخاً لما سبقه من الشرائع ، والمعجزة التي أنست ما سبقها من المعجزات وأصلي وأسلم على أشرف من وطئ الثرى وأرسل بشيراً ونذيراً للورى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


إن من البلايا التي حلت بهذه الأمة عبر تاريخها المديد هو ظهور نابتة نسخ القرآن الكريم وإبطال آياته ، والنسخ بمعنى الإبطال موجود وجرى ذكره وإثباته في كتاب الله تعالى بمعنى الإزالة والإبطال ولكن هذا المفهوم انحرف عن مقصده مراده في النص القرآني الذي يشير لنسخ القرآن الكريم للشرائع السابقة حتى عاد للقرآن الكريم وفشت دعوى وفرية باطلة بأن القرآن في ذاته وقع فيه نسخ.

ومن خلال هذه الدراسة سنتتبع مفاهيم النسخ ودلالاته وتعريفاته الحقيقية وما يترتب عليه ، ثم ننطلق لمواضع النسخ المزعومة بأنواعها المختلفة فنستجلي تلك الآيات لنثبت أن القول بنسخها توهم وانحراف فكري ليس له سند من حديث نبوي صحيح أو آية قاطعة الدلالة.

وقد وجدنا أثناء هذه الدراسة إقراراً عجيباً بظنية القول بالنسخ في كثير من مواضعه ، ويصدق هذا القول اختلاف العلماء على مر العصور الإسلامية من ناسخين ومبطلين لمئات الآيات القرآنية مروراً بمن يقلصها إلى عشرات وأخير ظهر متأخرين يقلصون القول بالنسخ وأنه لم يطل سوى بضع آيات وكلهم على باطل.

ونبدأ بعون الله وتوفيقه في بدء هذه الدراسة حتى نصل لاستجلاء مواضع النسخ المزعومة في القرآن الكريم ونوضح بإذنه تعالى أوجه الالتباس التي أدت لهذا المفهوم ، حتى نصل لتصحيح مفهوم النسخ ونفي هذا القول عن كتاب الله تعالى وتنزيهه عن الخلل والإبطال بالدليل الشرعي ، فنسأل الله الهدى والرشاد وهو الموفق للحق إنه هو الهادي إلى سواء السبيل.

القسم الأول : النسخ (حقيقته ، تناقضاته ، وما قيل فيه)
أولاً : منشأ القول بالنسخ:
إن منشأ سوء الفهم لمسألة النسخ وما أحاط بها من خلاف يعود لخلل في فهم قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:106] الآية التي لم يرد حديث نبوي واحد يقول أنها تؤول بنسخ الأحكام والنصوص والقرآنية ، والتي ما كانت إلا في سياق الحديث عن نسخ كتب السابقين وإحلال القرىن محلها،أما ما نجده في كتب المفسرين هي أقوال غير معصومة لا ترد رأيها إلى قول معصوم ولا يمكن الاعتماد عليها في أمر جلل كهذا .
والنسخ بصورته التي يعتقدها مثبتي النسخ أمر عظيم يحذف ويثبت ، يزيد وينقص في كتاب الله فإن لم يكن ذلك بقول المعصوم الذي نزل عليه الوحي فلن يقبل البتة.

ثم إن القول بالنسخ ليس من الأمور الجانبية التي لا تهم المسلم ، بل هو أمر في غاية الأهمية وهو أمر عظيم للغاية فكيف تمر ثلاثاً وعشرون سنة من حياة أفضل الخلق وهو يتقلب بين آيات القرآن الكريم وسوره لم يذكر فيها نسخ الآيات ونسخ الأحكام وتغيير كلام الله بغيره وهو الذي أوصى بالجار حتى ظن الصحابة أنه سيورثه فأي الأمرين أهم ؟؟ وأيهما أجدر بالتبيان والاستفاضة والتوضيح ، وكيف يترك أمر يشتمل على إبطال أحكام وابطال نصوص وآيات كاملة بل وقيل سور بطولها من القرآن لا يلفت النبي صلى الله عليه وسلم لها نظر ولا يبين فيها بيان يشفي ، وهو المعني بالوحي وهو المبلغ المعصوم الذي لا يقبل قول قائل سواه ؟.

قد نتفق جميعاً أن أصل النزاع هو في فهم مفردة آية في قوله تعالى :

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ


[البقرة:106]وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ


فأقول (وكل منكري النسخ كذلك) أن مفهوم آية هنا لا يراد به آيات القرآن الكريم ولا يوجد أصلا قرينة تقود لهذا الفهم بل يراد منه علامات ودلائل و شرائع الأمم السابقة التي نسخها القرآن كمعجزة نهائية باقية ، لأن القول خلاف ذلك يحتاج لدليل يفرق بين الدلالتين من قول نبوي صريح متواتر وليس رأي متغاير متنافر يتشظى إلى ثلاثة عشر قولاً وننتظر أن يأتي من يتوسع ليبطل جل أحكام الله باسم النسخ وهكذا ، فكل قول باطل تجد الخلاف يدب فيه و يأكله كما تأكل النار الحطب ، فاتحدى أن تجد مبطلاً من مبطلي أحكام الله باسم النسخ يقرر بأن فلاناً من ناسخي أحكام الله هو الصواب والبقية على خطأ ، فالمهم أن تؤمن بالنسخ وبعدها قل ما تشاء حتى لو تنسخ ثلاثة أرباع القرآن لا يهمهم ولست مبتدع ولا مجرم في حق كتاب الله ولكن إن نزهت كتاب الله عن الباطل أن يأتيه من بين يديه ومن خلفه فأنت قد أتيت جرماً عظيماً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وسيأتي معنا تفصيل لسياق هذه الآية وصورة جلية توضح بأن هذا القول باطل ولا يدل عليه السياق أبداً.

ولقد وردت مفردة (آية) في 382 موضعاً في القرآن الكريم كانت دلالات معظمها تقود لمفهوم غير مفهوم آيات القرآن الكريم ، فهي تشير لمعجزات الأنبياء وتشير للآيات الكونية كالليل والنهار ، وتشير للعلامات والدلالات فعندما نصرفها عن معانيها الجامدة لمعنى يترتب عليه إبطال لأحكام شرعية يجب أن يكون هذا بدليل وقول غير المعصوم ليس بدليل ولا يعتد به عندما يكون الأمر فيه إبطال لقول الله تعالى ، سيما وأن سياق الآيات كلها في تشير لمفهوم لا يتعلق بالقرآن فها هي سورة البقرة ودلالات كلمة آية فيها لا تشير إلا لمعنى العلامة والمعجزة:

اية رقم (106): (مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ)
وهنا أتت في سياق تفضيل المسلمين بمعجزة ناسخة لما عند بني إسرائيل واهل الكتاب ، وأتت هذه الآية تالية لقوله تعالى ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ).

فأهل الكتاب لا يقبلون القرآن الذي نسخ قبلة بني إسرائيل وشرائعهم فاعترضوا فبين لهم جلت قدرته أنه المتصرف فيما ينزل على الناس من آيات ربانية مؤيدة لأنبياءه فينسخ ما يشاء منها بما يشاء منها وكذلك نسخ توراتكم يابني إسرائيل بالقرآن وليس المقصود نسخ القرآن فلم يكن هنا موضع الحديث عما في القرآن بل المقارنة بين آيات الأمم وليس آيات الكتاب الحكيم ، فمن ضل وتأول تأويلا فاسداً فلست ملزما باتباعه وعليه اثمه وعلي إثمي واراه منكرٌ واجب التغيير وإلا فسيسالكم الله عنه ولن يأخذ احدا بجريرة أحد.

اية رقم (118): (
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)فالحديث هنا عن الآيات الإعجازية والعلامات الكبرى التي اتى بها الأنبياء فأتت في نفس السياق المتعلق باليهود والنصارى ونسخ قبلة اليهود (بيت المقدس) واستبدالها بقبلة المسلمين (البيت الحرام).

آية رقم (145):
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُوا۟ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ)أي بكل علامة دالة على صدق دعوتك وأتت تالية لآية تحويل القبلة وهي تنطبق على عتاة القائلين بالنسخ فلو اتيناهم بكل آية تدل على فساد رأيهم وجرم قولهم ما تبعوا الحق ولن نتبع اهوائهم سنثبت كلام الله الذي أثبته ولن ننقض أحكامه بقول قائل ابداً.

آية رقم (211):
(سَلْ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَٰهُم مِّنْ ءَايَةٍۭ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ)كم آية بينة ، كم من علامة ومعجزة نزلت عليهم كالعصا وانفلاق البحر ونجاتهم من فرعون ، والمن والسلوى وغيرها من المعجزات ، فلم تدل هذه الآية أو تشير للقرآن وآياته.

آية رقم (248): (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِۦٓ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
آية ملكه : العلامة الدالة على اصطفاء الله له ملكاً عليكم فمن أين لهم مع كل هذه السياقات الواضحة الجلية أن يصرفوا المعنى للقرآن الكريم ؟؟.

آية رقم (259):
(أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُۥ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا۟ئَةَ عَامٍ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَٱنظُرْ إِلَى ٱلْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

لنجعلك
آية للناس : علامة دالة على قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه.فأثبت يا من يبطل أحكام كتاب الله باسم النسخ أثبت أن دلالة الآيتين تشير لمعنى آيات القرآن وليس إلى سواها ، من قول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح ثابت متواتر وليس بقول ابن عبدالبر ولا قول منسوب لابن عباس رضي الله عنهم جميعاً بل قول صاحب الأمر صلى الله عليه وسلم .

ثانياً :
ترقيق التعريف لفظياً

أدرك القائلون بالنسخ شناعة القول وخطورته وكأنهم لم يجدوا بداً منه فكان تعريفه يستلزم ترقيق التعبير واستعمال مفردات لا تثير المسلمين وطلبة العلم وتجعلهم في موضع يتقبلون فيه النسخ فكان تعريف النسخ المرقق لفظياً فقالوا :

النسخ هو
: رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخ عنه.
والنسخ أيضاً هو : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.

فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ.

ونلحظ في هذا التعريف بوضوح تلميع اللفظ وترقيقه ليصبح مقبولاً، فسمي الإبطال (رفعاً) فيتبادرُ لذهنك أن المنسوخ ينطبق عليه مفهوم العلو والارتفاع ولو أسموه باسمه الحقيقي (إبطالٌ وتعطيل) لكان أصدق وأجدر ، ثم غير التعريف (الحكم القرآني) واستبدل بـ (الحكم الشرعي) ثم يسمي (الحكم المعطل المبطل) أسماه (دليلاً شرعياً) فيتراءى للقارئ أن الناسخ والمنسوخ من جنس بعضهما البعض فلا يقع في نفسه من النسخ شيئاً.ولكن ماذا إذا سمينا الأشياء بأسمائها ، وآتينا المصطلحات حقها ووضعنا كل مفردة في موضعها لكي يكون التعريف حقيقياً مطابقاً لواقع النسخ وحقيقته فماذا عسانا نجد ؟؟ .

وفيما يلي التعريف الحقيقي للنسخ كما وجدناه :
التعريف الحقيقي للنسخ في القرآن الكريم :
هو إبطال وتعطيل حكم قرآني بحكم آخر إما بآية أو بحديث أو بقول مجتهد استنباطاً أو رأياً أو تأويلاً.


ثالثاً: علم السياق ودلالته في هذا الموضع:


إن السياق من أجلّ وأهم ما يُنظَرُ فيه لفهم كتاب الله ، وفهم قوله تعالى (ما ننسخ من آية) عندما فُسِّرَ بأنه إبطال آيات القرآن الكريم لم يكن ذلك مبنٍ على قول غير معصوم فقط بل تجاوز ذلك لتجاهل السياق الذي هو تفسير الله جل وعلا لكلامه إن عز فهمه من منطوق صاحب الوحي ، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه (ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه، وما يبين معناه من القرائن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع، في باب فهم الكتاب والسنة، والاستدلال بهما مطلقاً، ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب، وطرد الدليل ونقضه.. وفي سائر أدلة الخلق).

و قال مسلم بن يسار (إذا حدّثت عن الله حديثاً فقف! حتى تنظر ما قبله وما بعده) ، ويقول ابن عبدالسلام في بيان أدلة الأحكام (السياق مرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحاً، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذماً).

ولعلنا نستعرض سياق آية النسخ ليستقر لدينا ما نزلت لأجله وأي دلالة تحمله وأين تقودنا في أصلها وما قبلها وما بعدها :(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) فالسياق يتحدث عن بني إسرائيل وما سبق إليهم من الوحي ونبذهم لكلام الله تعالى وشريعته ، يقول ابن جرير في هذا الموضع : وأما تأويل قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم)، فإنه للذي هو مع اليهود, وهو التوراة.

فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله,(نبذ فريق), يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب). وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: (كتاب الله)، التوراة.انتهى كلامه.

وعليه فإن السياق مطَّرِدٌ في الحديث عما نزل على بني إسرائيل وموقفهم منه ويتصل السياق ببعضه فيقول تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) واستمر السياق الشريف في الحديث عن بني إسرائيل وموقفهم مما أنزل الله إليهم فيقرر الشارع الحكيم بأنهم تركوا شريعة الله وتنزيله الحكيم الذي أمروا باتباعه واستبدلوه بما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، يقول ابن جرير في ذلك : ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين ) الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم , تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون , كأنهم لا يعلمون ، فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم , ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه , وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه ; وذلك هو الخسار والضلال المبين ) انتهى كلامه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104).

فينهى تعالى المؤمنين عن التشبه باليهود بقول راعنا ،جاء عند ابن جرير : عن قتادة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله اليهود استهزاء, فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. ، عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: (لا تقولوا راعنا)، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، كما قالت اليهود والنصارى.انتهى كلامه.

وهذا يتسق مع قولهم هذا في موضعها الآخر في سورة النساء بقوله جل شأنه (منَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) وهكذا يتصل السياق في الحديث عن موقف اليهود مما نزل على المؤمنين ويفصل الحق جل جلاله خبراً عن موقفهم مما نزل عليهم ، فإن كان هذا فعلهم تجاه شريعة جاءتهم دون سواهم فكيف سيكون موقفهم مما أنزل عليكم أيها المؤمنون ؟.

ويتصل السياق في ذات المسألة...


مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ :
ويقول فيها ابن جرير رحمه الله ( ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينـزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنـزله عليكم.
فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينـزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته, وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين) ثم يقول (وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين, والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.) انتهى كلامه.

وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من يشاء): والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه, فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له.

و " اختصاصه " إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم). فإنه خبر من الله جل ثناؤه أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم .

وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه, وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.انتهى كلامه.

فيقرر رحمه الله هنا تعلق الآية بأهل الكتاب وموقفهم مما نزل من رحمة على نبيه (القرآن الكريم) ويبين أن ذلك رحمة خاضعة لمشيئة الله تعالى يرسلها إلى من يشاء من عباده .

والجزء من الآية مرتبط باستغراب أهل الكتاب من اختصاص الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ورفضهم لخروج النبوة منهم ، وظهورها في من يعتبرونهم أقل شأناً وأبعد عن محبة الله واصطفاءه ، فأراد الله أن يخاطبهم بما يرد استغرابهم بأن الله يستبدل من يشاء بمن يشاء ، وهو صاحب الأمر فلا اعتراض على حكمه.

ويستطرد ويتصل السياق ...


مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) فإن سأل اليهود عما نزل عليهم فليعلموا أن الله نسخه وأبطله بما نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اختصه وقومه برحمته وفضله ، فما من آية ينزلها الله حتى تبقى ماشاء الله لها أن تبقى حتى ينسخها بما شاء فيبطلها ويعطلها ويحلُّ محلَّها ما يشاء من الآيات والعلامات الواضحات ، والله على ذلك قدير ، وأنه تعالى لمّا نزّل عليكم التوراة ما رعيتموها حق رعايتها وجرى إلحادكم وتحريفكم لها ، فشاء الله أن يعطلها وينزل مكانها بديلاً من أحسن منها .

وهنا ردٌّ على احتجاج بني إسرائيل على المؤمنين كيف أن المسلمين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم لا يتبعون التوراة ولا يجرون أحكامها ، فأراد الله أن يبين لهم أنَّ نزول الآية الباقية والعلامة السامية العظيمة التي اكرم الله بها البشرية فقد هيمنت وحلَّت على ما سبقها فلا يلزم أتباع القرآن أن يعودوا لاتِّباع ما نسخه الله من الشرائع السابقة، بل إن أتْباع الشرائع السالفة المنسوخة وجب عليهم أن يتحولوا لما أحله الله محل شريعتهم.

وهنا فإن السياق لم يكن يتحدث عن أحكام القرآن وتفصيلاته وأحكامه بل كان يحيط بأمورٍ كلية وقواعد أساسية تتعلق بالفرق بين الديانات وما أتى مع كل ديانة من المعجزات والشرائع والكتب ، وأن موضع النسخ متعلق بالتوراة ولا مكان للاعتقاد بأن الأمر يعني نسخ شيء من القرآن أبداً.

ويتقرر بهذه الآية إقامة الحجة على اليهود والنصارى ببطلان اتباعهم للتوراة منذ أن نزل القرآن لأنها آية منسوخة لا يفيدهم العمل بها وقد نزل القرآن ، ولا ينفعهم عمل بعد موتهم مع نسخ شريعتهم واستبدال كتبهم بالقرآن الكريم ، وفي هذه الآية رد حاسم على من يدعي أن التوراة والإنجيل واجبة الاتباع أو أنها صالحة قائمة مقبولة عند الله.

فكيف يسوغ لمدَّعٍ أن يدعي بعد هذا السياق البيِّن الواضح الأبلج أن نقول تحول لآيات الحديث القرآن ؟ ، وهو مسبوق بالحديث عن الكتب السماوية ومتبوع بالحديث عنها أيضاً ؟ ، حتى أن ابن جرير رحمه الله افتتح تفسيره لهذه الآية بقوله (اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : ( مَا نَنْسَخ )) فهل يجوز لنا أن نشذ ونتبع الاختلاف والقول بالراي في مسألة واضحة يبينها السياق أيما بيان وليس على اي قول خلافها دليل من قول نبوي كريم ؟ ، وهل يجوز أن نختلف اختلافاً يترتب عليه إبطالٌ لأحكام الله في كتابه ؟؟ .

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
فيقدر على ما يشاء ويفعل في ملكه ما يشاء وينسخ من شرائعه ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا حسيب عليه وهو الحسيب على كل خلقه.

وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
(107) مالكم أيها اليهود من وليٍّ غير الله ، فله الملك وله الحكم وهو الذي أنزل الكتب وهو الذي يرفعها ومالكم من ذلك من شيء سوى التسليم ، فاعتراضكم على القرآن لا مكان له ولا وجه لأن من أنزل توراتكم هو من نسخها بالقرآن وبدل الحكم بالحكم والآية بالآية والمعجزة بالمعجزة.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)وقد اختلف المفسرون في مناط الخطاب فقيل موجه للمسلمين ، والوجه الأظهر أن قوله (أم) استفهام متعلق بما قبله ، فيكون الاستفهام موجه لبني إسرائيل فيقول تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ) يا بني إسرائيل (أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) أن تطلبوا ممن أرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، باعتبار رسالته الشاملة للعرب ولكل بني آدم وهذا تقرير لهم وإقامة حجة على أن النبي هو نبيٌّ لهم كما هو نبيٌّ لغيرهم (كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ) كما سال أسلافكم نبي الله موسى بأن يريهم الله جهرة وغير ذلك من المعجزات برغم ما رأوا من عظيم قدرة الله وعجائبه (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فاستبدال القرآن وهو الشريعة البديلة للتوراة الناسخة لها فمن فضل المنسوخ على الناسخ فقد كفر بالله وناقض لوازم الإيمان وضل عن سواء السبيل ، ولذلك فالبقاء على شريعة وآية منسوخة ، وترك المعجزة الحية ضلال عن الطريق القويم.

فيتحول في الخطاب ليوجههُ للمؤمنين ولكنه لم يتحول عن سياق الحديث وهو موقف أهل الكتاب من الرسالة و التنزيل فيقول تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي أن أهل الكتاب يتمنون في أنفسهم أن تعودوا عن دينكم وتكفروا بما آمنتم به وهم قد أيقنوا بسلامة إيمانكم و بهيمنة ما نزل إليكم من خير وما اختصكم به من نبوة وشريعة ناسخة لما قبلها ، حسداً لما افضل الله عليكم من تقدمة لكم عليهم ولشرعكم على شرعهم ولمعجزتكم على معجزاتهم

(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) فهم يعلمون حقاً أن شريعتهم نسخت ، وان ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم حق وأن نبوته حق وأن الله نزع منهم شرف النبوة وأبطل ماهم عليه من الأمر واستبدلهم بقوم آخرين فتملكهم الحسد والغيظ على ذلك ، فتمنوا أن ترجعوا عن دينكم وتعودوا كفاراً جهالاً .

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109)) يقول ابن جرير رحمه الله يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : ( فَاعْفُوا) فَتَجَاوَزُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ إسَاءَة وَخَطَأ فِي رَأْي أَشَارُوا بِهِ عَلَيْكُمْ فِي دِينكُمْ , إرَادَة صَدّكُمْ عَنْهُ , وَمُحَاوَلَة ارْتِدَادكُمْ بَعْد إيمَانكُمْ وَعَمَّا سَلَف مِنْهُمْ مِنْ قَيْلهمْ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (اسْمَعْ غَيْر مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّين) وَاصْفَحُوا عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِي اللَّه بِأَمْرِهِ , فَيَحْدُث لَكُمْ مِنْ أَمْره فِيكُمْ مَا يَشَاء , وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا يُرِيد .انتهى كلامه.

ثم يردف تعالى بالأمر للمؤمنين بالاتباع والتقوى وإتيان فرائض الله ، فيقول جل شأنه: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ولازال السياق يعود للحديث عن موضوع السياق الرئيسي وهم اليهود والنصارى فيقول تعالى (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فالواو في قوله (و) استئناف ، قالوا تعطف ما بعدها على ما قبلها في سبيل تعداد جرائمهم وكفرهم ورفضهم لنزول الخير على سواهم ، فهذه الآية متعلقة من ضمن ما تعلقت به بآية النسخ إذ يبطل نسخ التوراة بالقرآن كلُّ قول باختصاصهم بدخول الجنة دون سواهم ، ويقرر تعالى بأن ما يقولون إنما هي أمانيّ لا سبيل لتحققها وليس لهم عليها برهان فهم في ذلك من الكاذبين.

ويرد الله مقالتهم وحصرهم لرحمة الله فيهم بقوله تعالى (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) فالعبرة بمن استسلم لإرادة الله وشرعه وتوجه إليه تعالى دون سواه بإحسان ويقين برؤية الله له وشهادته على عمله ، فله أجره سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم ممن خلق الله وكلفهم بالأوامر والنواهي والشرائع السارية المهيمنة على حياتهم.

ولا يزال محور الحديث سارياً ، فيخبرنا جل وعلا بأنهم وإن رفضوا دينكم ، وإن اعترضوا على قرآنكم وحسدوكم على ما نزل إليكم فهم فيما بينهم متفرقين متباغضين متحاسدين لا يجمعهم قول ولا يؤمن بعضهم ببعض فيقول (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)) ، قال الطبري رحمه الله في هذا الموضع :
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنـزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.ثم قالَ كلُّ فريقٍ منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون. انتهى كلامه.

وبعد … يستمر السياق في الحديث عن الفرقتين وموقفها من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين آية متصلة تنتهي بقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ثم تستأنف بيان عدوان وكفر أهل الكتاب وتاريخهم وما كان منهم وما يكون وما سيكون.وهكذا أضع بين يدي القارئ الكريم سياقاً مشوقاً بيَّناً يثبت في كل حرف منه أن النسخ متعلق بالنسخ بين الشرائع وكل من يقرأ السياق ويتأوله على غير وجهه فينسب النسخ لآيات القرآن فقد أخطأ بذلك خطأً عظيماً ، ذلك أن الموضع لم يشتمل على ما يقود لذلك الفهم لا من قريب ولا من بعيد.أما من يقرأ الآية مجتزأة عن سياقها ، خارجة عن محيطها القرآني وهو في ذات الوقت يحمل قناعة متوارثة بنسخ كلام الله فلن يقنعه شيء بخطأ ما هو عليه ، وأما من توخى الموضوعية واستصحب أن الموضع تنزيه لكتاب الله وإعلاء له على سواه من الكتب والشرائع والمعجزات لرضخ للحق وانصاع للسياق و لاستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ).

رابعاً : النسخ والإبطال:
إن النسخ بصورته التي قررها أصحاب دعوى النسخ هو إبطال ، وهذا يجب أن يتقرر لدى كل باحث عن الحق ، فالنسخ – حسب دعواهم - إبطال حكم مع بقاء النص ، أو إبطال نص مع بقاء الحكم ، أو إبطال نص وحكم في آن واحد ، وبرغم أن أشكال النسخ هذه لا يوجد إجماع عليها فإنها بلا شك إبطال لكلام الله فما نُسِخَ صار باطلاً ، وما أثبت بقي فكان النسخ تبديلاً وإبطالا لكلمات الله وهذا يناقض قوله تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42] وهذا كافٍ لرد دعاوى النسخ.

خامساً :
منهج القبول والرد
:
ليس كل ما نسب للصحابة الكرام من أقوال هي صحيحة في نسبتها ، وليس كل ما يرد مسلم بصوابه وسلامته لمجرد أنه ورد عن صحابي أو تابعي حتى لو حمل في ثناياه ما يخلّ بسلامة الوحي في حين أنه لا يستند لقول صاحب العصمة ومتلقي الوحي ، فمنهج القبول والرد محكوم بعوامل عدة تؤيد القول أو ترده ، أولها وجود النص القرآني البين الذي يؤيد القول ، ثانيها تأييد القول بحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وثالثها انتفاء ما يعارض القول من مناقضة قول آخر او نص شرعي ينقضه ، أو منافاة القول للعقل والفطرة السليمة ، فإن كان العقل هو أول وسيلة لمعرفة الله فكيف نحيّده ونعطله عندما يأتي الحديث لكلام الله تعالى ذاته ؟؟.

سادساً :
النسخ دعوى وليست أصل
:
إن النسخ ليس بأصل مرجعي حتى نرجع إليه بل هو دعوى يلزم مدعيها الدليل والاثبات وبالتالي فالأصل في كتاب الله أنه كما وصلنا من نبيه صلى الله عليه وسلم متواتراً والقول بالنسخ دعوى طارئة تتطلب الإثبات ، ثم أن هذه الدعوى لها لوازم ومن أهم لوازمها وجود تناقض بين آي القرآن الكريم حتى نستطيع التسليم بدعوى أن هذه ناسخة لتلك ، وليس هذا فقط بل يجب الا يكون لها تأويل ولكن إن حدث ذلك فينبغي أن تكون إحدى الآيتين مبطلة والثانية باطلة وحاشا لكتاب الله ذلك.

سابعاً : النسخ حقيقة ولكن !:
نعم النسخ حقيقة والنسخ موجود ومثبت ولكن ليس في القرآن الكريم، فقد نسخ الله شريعة موسى عليه السلام بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونسخ شرائع سابقة بالتوراة ونسخ التوراة بالقرآن ، ومعجزات الأنبياء السابقين كانت ناسخة لبعضها البعض ، وقد نسيّ الناس معجزات وآيات عظام فصارت عصا موسى طي النسيان فلم تعد حاضرة في أذهان الناس وهناك من المعجزات والآيات ما نسي ولم يذكر حتى في كتاب الله ، يقول تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } [غافر:788]فممن لم يقصص الله على نبينا من الرسل من أتى بآيات بإذن الله فنسخت ونسيت وأحل الله محلها آيات أخرى ، والقرآن المعجزة والآية الناسخة لما سبقها والمُنْسِيَة لما سواها.

نماذج من الدلائل على إبطال ونسخ الشرائع السابقة
:


إن إبطال شريعة أهل الكتاب التي نزلت في التوراة والإنجيل يختلف عن إبطال القرآن الكريم ولا يمكن أن يكون هناك تشابه لأن ابطال التوراة والإنجيل بدليل قرآني ونبوي وليس من عند أنفسنا بينما إبطال القرآن تأول علماء ورأي فقهاء تأسيسا على فهم خاطيء لآية وبلا دليل نبوي ولا دليل قرآني ، أما أدلة نسخ التوراة والكتب السابقة فهي كالتالي :

نماذج من الأدلة القرآنية
:




  • [*=right]قوله تعالى : (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّبِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) هذه الآية التي انتزعت من سياقها انتزاعاً ونسبت النسخ والابطال للقرآن في حين أن السياق يتحدث عن أهل الكتاب وما نزل عليهم ، وقد أشبعناها إيضاحاً بما يكفي لإثبات أن السياق كله يتحدث عن التوراة والانجيل وأهل الكتاب.



  • [*=right]قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة:488] .
قال ابن تيمية : "فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل "فكانت هيمنة القرآن على ماسبقه تعني إبطال شريعتها وإحلال القرآن محلها ، فيصدق قوله تعالى (نأت بخير منها أو مثلها) فأتى الله بخير منها وهنا تجدر الإشارة إلى أن أقول الزركشي وابن عقيل والسيوطي ليست بخير منها ولا مثلها فكانت شديدة البيان بأن القرآن مصدِّق للاعتقاد و ناسخٌ للشرائع التي سبقته ، فبدل الله بآيات القرآن ما سبقها من آيات.




  • [*=right]قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) [النساء:47]
آمنوا بما أنزلنا مصدقاً لما معكم : آمنوا بالقرآن الكريم ، ومن لوازم الإيمان به تحليل حلاله واجتناب حرامه فتكون أحكامه مهيمنة لما معهم وناسخة لها فالصيام ينسخه صيام والصلاة بكيفيتها تنسخها صلاة والإنفاق ينسخه إنفاق وهكذا ، فلا يمكن الجمع بين شريعتين بما فيهما من عبادات مشتركة فلا بد من شريعة مبطلة ومنسوخة ، وأخرى بديلة ناسخة مثبتة وهي التنزيل الحكيم.



  • [*=right]قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] ،
فبعد واو الاستئناف (وهذا كتاب أنزلناه) يعني القرآن ، فاتبعوه واتقوا دلالة على بطلان ما قبله وانتهاء العمل به.
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه : دلالة على هيمنته على ما ذكر في الآية السابقة لهذه يبطل أحكام السابقة ويحل محلها أحكاماً بديلة نافذة.



  • [*=right]قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [العنكبوت:51].
وفي هذا دلالة على أن الكتاب الحكيم الذي أنزل على سيدنا محمد كافٍ عن سواه ولا يجمع معه غيره للاتباع .



  • [*=right]قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [المائدة:13]
فما وصلَنَا من أهل الكتاب وما هو بين أيديهم اليوم من التوراة والإنجيل طاله التحريف والتغيير والتبديل بلا شك ، ولم يحفظوه ويقفوا عند حروفه ، فأنزل القرآن وتكفل بحفظه ، فأصبح الفاضل مقدم على المفضول ، والأوثق مصدق على المحرف فنسخت شريعة القرآن ما قبلها.



  • [*=right]قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157]
فيلزم بني إسرائيل وأهل الكتاب عامة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاستمساك بسنته وإحلال ما يحله الله فيما نزل عليه وتحريم ما حُرِّم ، ويعفو عن كثير مما كان عليهم من الشرائع الثقيلة التي عوقبوا بها على تكذيبهم وعصيانهم وكفرهم .



  • [*=right]قال تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر:55] .
فالقرآن أحسن ما أنزل الله ، بذلك يفضل التوراة والإنجيل والزبور والصحف وكل تنزيل قبله والأمر باتباع الأحسن فكان ذلك توجيها بترك المفضول إلى الفاضل والأحسن ، فتكون التوراة منسوخة في وجود القرآن قولا واحداً.

نماذج من الأدلة النبوية :-
ما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( فإنه لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) ، فاتباع موسى لسيدنا محمد يعني ترك شرائع التوراة واتباع شرائع القرآن فبذلك تكون التوراة منسوخة باطلة أحكامها في وجود أحكام القرآن.

- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) رواه البخاري ومسلم .
فما يتبع المسيح كتاباً إلا وهو ناسخ لكتابه وما كان يتبعه قبله من الكتب ، وهو القرآن الكريم وشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.نماذح من

اقوال العلماء
:

يقول ابن حزم :" إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ( لا معقب لحكمه )، وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ... وقد قلنا آنفا إن الله تعالى أطلعهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين ، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المثل ، وكف أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم ، كما كف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضا كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم " انتهى كلامه.

يقول الشيخ محمد العثيمين : الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم لقول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) ﴿المائدة: ٤٨﴾، فقوله وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ تقتضي أن القرآن الكريم حاكم على جميع الكتب السابقة، وأن السلطة له فهو ناسخ لجميع ما سبقه من الكتب انتهى كلامه.

فما يقوله المبطلون أن القرآن أبطلت منه مئات الآيات تأولاً وجهلا واعتداءً بلا قول نبوي معصوم حتى اتسع الشق على الراقع فأصبح هناك نسخ بالقياس ونسخ بالإجماع وصارت المعجزة الباقية الثابتة نهباً للقائلين بالظن والمسارعة إليه بدون تثبت وجعلوا من هذا الظن والمسارعة لإبطال قول الله وأحكامه فضيلة تعدل مسارعة إبراهيم في ذبح ابنه ، ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.

ثامناً :
إضطراب الآراء:

إن مما يستدل به على فساد القول بالنسخ أن كل ما قيل فيه مجرد آراء لم تجمع عليها الأمة فجمع من القائلين بالنسخ يدعون النسخ في عدد يجاوز المائتي آية ، وآخرون يقولون إنها 6 آيات فقط وهنا أقتبس من بحث للدكتور عبدالرحمن الشهري ما يوضح كيفية اضطراب الآراء في مسألة عظيمة كنسخ القرآن وهنا أنقل من دراسة أعدها فضيلة الدكتور عبدالرحمن الشهري وفقه الله :وقد تعددت دعاوى النسخ في الكتب التي تعرضت لمسائل النسخ ، وقد رتبها الدكتور عبدالله الشنقيطي وفقه الله على النحو التالي مبتدأً بأكثرها :

  1. الدكتور مصطفى زيد ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (293) آية.
  2. ابن الجوزي رحمه الله ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (247) آية.
  3. السكري ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (218) آية.
  4. ابن حزم ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (214) آية.
  5. ابن سلامة ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (213) آية.
  6. الأجهوري ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (213) آية.
  7. ابن بركات ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (210) آية.
  8. مكي بن أبي طالب ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (200) آية.
  9. النحاس ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (134) آية.
  10. عبدالقاهر ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (66) آية.
  11. محمد عبدالعظيم الزرقاني / عدد الآيات المدعى عليها النسخ (22) آية.
  12. السيوطي ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (20) آية.
  13. الدهلوي ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (5) آية.
فهذه هي جملة الدعاوى ، مع التنبه إلى أن كل من هؤلاء المؤلفين رحمهم الله لا يقبل هذه الدعاوى ، بل كثير منهم يذكرها ويفندها.فالدكتور مصطفى زيد رحمه الله هو أكثر من تعرض لقضايا النسخ وناقشها ، وقد قرر في النهاية أنها لا تزيد عن ست آيات ، علماً بأنه عند البحث أتى بـ(293) آية قيل بنسخها.
وكذلك العلامة ابن الجوزي رحمه الله عند مناقشة القضية جاء بـ(247) آية ، ولكن بعد البحث قبل منها (22) آية فقط ، ورد النسخ في (205) آيات ، وقال : إن الصحيح أنها محكمة ، وتوقف في الباقي وهو (20) آية ، لم يبين فيها حكماً ولم يصرح بالنسخ إلا في سبعة مواضع فقط.أما الزرقاني – رحمه الله – فقد تعرض لـ(22) واقعة قبل النسخ في (12) منها.

وأقل من قبل النسخ الإمام الدهلوي رحمه الله حيث قبله في خمس آيات فقط ، وهي آية الوصية في النساء ، وآية المصابرة الواحد للعشرة في الأنفال ، وآية الأحزاب : (لا يحل لك النساء من بعد) ، وآية المجادلة : (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) وآية المزمل : (قم الليل إلا قليلاً) الآية. انتهى كلامه.

فهل يمكن أن يقبل العقل هذا التخبط في توزيع دعاوى النسخ بالجملة على آيات القرآن الكريم ؟؟ وهل لمدعي النسخ أن يرشدونا مشكورين لأي من هؤلاء نتبع ؟؟ مع التقرير بأن من يدعون أنه هو الحق فإن سواه على باطل وإثم عظيم لأن قوله طعن وإبطال لقول الله الذي لم يبطل فمن يستطيع أن يتحمل وزراً كهذا؟؟وفيما يلي إن شاء الله نستعرض الآيات التي يدعي فيها القائلون بالنسخ ويتضح بطلان تلك الدعوى واحدة تلو الأخرى والله الموفق.

تاسعاً :
الإدعاء على اليهود وموقفهم من النسخ:


إن من دلائل بطلان القول بالنسخ هو ما يتردد دوما عند الحديث عن النسخ بأن اليهود ينكرونه لأن النسخ عندهم من البداء والبداء باطل في حق الله فيقول أحد المنافحين عن النسخ في معرض نسبة إنكاره لليهود فيقول:"ينكر اليهود النسخ ظنا منهم أنه بداء ؛ أي يستلزم البداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، أي الظهور بعد الخفاء.
ويرى اليهود أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة وهذا عبث على الله تعالى، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل وهو محال على الله تعالى
.
"انتهى.

ويقول محمد ابراهيم الحفناوي في كتابه المعنون بدراسات أصولية في القرآن الكريم ما نصه:" ومن هنا لما خفى الفرق بين النسخ والبداء على بعض فرق اليهود والرافضة أنكرت اليهود النسخ وأسرفوا فى الإنكار لاستلزامه فى زعمهم البداء وهو محال. والحق أن هذا الفهم من قبل اليهود سقيم لما ذكرت من أنه لا تلازم بين النسخ والبداء ولوضوح الفرق بينهما." انتهى كلامه.

ويقول مناع القطان في مباحث في علوم القرآن:
"والناس في النسخ على أربعة أقسام:
1- اليهود: وهؤلاء ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البَدَاء، وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى." انتهى كلامه.

ولأبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه (المنخول) ما نصه :"وقد انكر اليهود جواز النسخ فنقول لهم ان تلقيتم استحالته من عدم تصوره فتصويره ان يقول السيد لعبده افعل ثم يقول بعده لا تفعل وان تلقيتموه من استصلاح واستقباح فلا تساعدون عليه ثم لا بعد في تقدير مصلحة فيه وان نقلوا استحالة النسخ من موسى عليه السلام فقد كذبوا إذ شريعة عيسى عليه السلام نسخت شريعته ولا طريق لهم إلى انكار معجزته فإن قالوا النسخ يدل على البداء قلنا ان عنيتم انه يدل على تبين شئ بعد استبهام شئ فليس كذلك "انتهى كلامه.

وعندما تتبعت كل ما قيل حول موقف اليهود من النسخ وجدتهم يحيلون ذلك القول لجماعة مغمورة كانت في عصر أبي حنيفة النعمان بدون مرجع يستند إليه ولا قول ثابت مدون من اقوالهم.

وكانت أكبر الفوائد التي يجنيها القائلون بالنسخ من هذه المعلومات المرسلة التي لا سند لها هو التشنيع على كل من ينكر النسخ وتشبيهه باليهود فيتحقق الإرهاب الفكري لكل من يناقش أو يتسائل أو يرد القول بالنسخ لأنه سيوضع مع اليهود في كفة واحدة.

ولكن ما يبعث على السخرية أنه عند التشنيع على اليهود والرافضة فإن أول ما يرمون به من الانحرافات هو القول بالبداء ، برغم أنهم ادعوا إنكار اليهود للنسخ خوفاً من نسبة البداء إلى الله :فهذا ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى يقول أن اليهود هم الذين حرفوا التوراة وبدلوا فيها حروفًا كثيرة فقال: " واليهود تقر أن السبعين كاهنا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفًا من التوراة وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيديهم".
وقال :"ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله، فلا يؤمن منه تحريف غيره؛ واليهود تقر أيضًا أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلاً ظاهرًا وزادوا ونقصوا والسامرة تدعي ذلك عليهم" انتهى كلامه.

جاء في موسوعة الفرق :"يبدو أن أول من ادعى البداء على الله تعالى هم اليهود، قالوا: إن الله تعالى خلق الخلق، ولم يكن يعلم هل يكون فيهم خير أو شر، وهل تكون أفعالهم حسنة أم قبيحة، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس من التوراة ما نصه:(ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه جداً فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته لأني حزنت أني عملتهم) .

وهذا النص وأمثاله يفيد صراحة أن الله قد بدت له أمور لم يكن يعلمها، فحزن حزناً شديداً حين رأى معاصي البشر
.

فالبداء عقيدة يهودية مدوّنة في كتبهم المحرفة، ونفس هذه الأفكار مدونة عند الشيعة، فالكليني -كما رأينا فيما سبق- يروي عن الأئمة فضائل كثيرة لاعتقاد هذا الكفر، حتى وإن ذكر بعض الروايات التي تفيد عدم حصول جهل الله بالأمور قبل ظهورها لكنها لم تكن صريحة مثل النصوص الأخرى التي سبق ذكرها عنهم."

وهكذا نجد انقلاب ميزان الاحتجاج من تنزيه اليهود عن البداء إلى اتهامهم به ، في حين أن اليهود سيجدون في النسخ ضالتهم للدفاع عن تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم في كتاب الله ، فما أن يتهمهم المسلمون بالتحريف حتى يردون ذلك إلى النسخ فقد وفرنا لهم مخرجاً من تهمة التحريف ، وهذا الباب إن فتح فستجد بين كل ناسخٍ ومنسوخ ، ناسخاً ومنسوخ.

وهكذا فأصبح التشنيع على منكري النسخ بأن اليهود ينكرونه لأنه بداء ، وإذا أرادوا التشنيع على الرافضة نسبوا إلى اليهود البداء فهذا عين التناقض وهي حجة ليست في مكانها ولا تقبل للرد على منكري النسخ فحتى أقوالهم بشأن اليهود لم ترد إلى مرجع معتبر عند اليهود يعترف بمصطلح "النسخ" و"البداء" فكانت مفتقدة لأبسط قواعد البحث العلمي .

نبوءة محمدية مذهلة
:
إن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن عقيدة النسخ وكيف تظهر في الأمة وحذر من القائلين بها قبل أن تظهر فعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون ، قال الرمادي : يتمارون .

فقال : " إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه "عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان قوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتنازعون في القرآن ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متغيرا وجهه ، فقال : " يا قوم بهذا هلكت الأمم ، إن القرآن يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض " .

فكأنه يخبرنا صلى الله عليه وسلم بظهور النسخ وفُشُوِّهِ وتضارب الأقوال فيه حتى وصلت إلى ثلاثة عشر قولاً مشهوراً ، متضاربة بعضها تبطل أحكاماً بشبهة آيات أخرى ، وقوم ينكرون ما اتفق عليه جماعة أخرى وينفون النسخ عنها بدلاً من الإيمان به كله بدون عقيدة إبطال لشيء منه باسم النسخ حتى تغيرت الأحكام وأبطلت النواميس القرآنية بدون حديث صحيح من معصوم.

إن المبطلين لأحكام الله في كتابه باسم النسخ يعجزون عن الإتيان بحديث صحيح مرفوع ثابت جاء فيه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم نسخ معين لآية معينة ، و لقد مات صلى الله عليه وسلم ولم يترك لأمته أمراً صغيراً ولا كبيراً إلا بينه وبلغ أصحابه وأمر كتبة الوحي به فالأمر ليس بالهيّن حتى يترك للآراء.

وما أخبر به صلى الله عليه وسلم والنهى عن ضرب الكتاب بعضه ببعض وإخباره بأن الكتاب يصدق بعضه بعضاً يدل دلالة واضحة على نبذ النسخ والنهي عنه فما النسخ إلا ترقيق لغوي لصفة ضرب الكتاب ببعضه وإبطال أحكامه.

عاشراً : دعوى ضرورة النسخ والحكمة منه :

من الحجج التي يسوقها مدعو إبطال أحكام القرآن ويرددونها في سبيل تبرير هذا الإبطال هو تغير حال المسلمين وتطور حياتهم ما يستلزم معه تغيير أحكام تخفيفاً أو تشديداً تبعاً لمتغيرات المجتمع المسلم.
ونقول بأن هذه حجة باطلة ، فنزول الوحي وتغيرات المجتمع المسلم التي يتحدثون عنها كانت على مدى ثلاثاً وعشرين سنة ، فماذا عن التغيرات الضخمة التي حدثت في أربعة عشر قرناً تلت سنوات الوحي ؟؟ من ينسخ لنا الآيات ويبطلها ويبدلها بسواها ؟؟ والمبطلون يعلمون بأن التغييرات التي حصلت في قرن واحد تفوق في ضخامتها وجسامتها تغيرات في آلاف السنين في شتى مناحي الحياة ، هل يسعون للتوسع مستقبلاً في الإبطال والتعطيل فيدافعون عن النسخ بالإجماع والنسخ بالقياس حتى يأتي يوم لا نجد في كتاب الله إلا سورة أو سورتين والباقي جرى نسخه بهذه الدعوى الباطلة ؟.

الحادي عشر: عين المجازفة والافتئات بلا دليل.
وبعد فإن حجج (إثبات تعطيل أحكام الله) المسمى بالنسخ واهية ومتناقضة تناقضاً عجيباً ، فتجدهم يقررون أن الحكمة من إبطال الحكم وبقاء الرسم قالوا ليحصل ثواب التلاوة للقارئ ، فإن قلت وماذا عن إبطال الرسم وبقاء الحكم ؟ لماذا لم يبقى الرسم للثواب كسابقه كانت الإجابة : لكي يختبر الله عباده ويبتليهم هل يتبعون حكمه أم يتركونه وسنرى فيما يلي حجة تناقلها كل مبطلي كلام الله واتخذوا منها حجة على كلام الله فكانت افتئاتاً على الله بلا دليليقول الزركشي رحمه الله في البرهان ناقلاً عن البغدادي -: "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).انتهى كلامه

، وقد نقله عنه أيضاً السيوطي رحمه الله.وهنا فإن قول كهذا يحمل مجازفات خطيرة وتقريرات مثيرة تنقل من مصنف الى آخر بلا تفكير ولا مراجعة وكأنها قول معصوم من عبد معصوم ، وأظهر صور الخلل فيه ما يلي :

أولاً
: قرر أن سبب رفع التلاوة وبقاء الحكم هو "ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به" أي أن مسألة إبطال التلاوة وحذف الرسم مع بقاء الحكم كان اختباراً لاتباع المسلمين بالظن والمسارعة اليه بدون نقاش ولا تثبت ولا تحقق من أن الحذف كان مؤكداً مثبتاً متواتراً بل يكفي مجرد الظن ، وهذا لعمري أدل ما يستدل به على بطلان النسخ فلا قول معصوم يلتجئ إليه ولا نص قرآني يعزو إليه بل يطلق الأمر للظن ويجعل من ذلك فضيلة عظيمة.

ثانياً
: يقرر أن الوحي بالمنام هو درجة دنيا من درجات الوحي تعد في مقام الظن وليست وحياً يقينياً "فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي" وهذا قول يخشى على صاحبه إن اعتقد به ، وقد فاته أن إسماعيل عليه السلام أفقه منهم فقد فقه من قول أبيه أن ما رَآه إبراهيم كان أمراً ربانياً لا يتطرق إليه شك ، فما قاله الرائي ولكن قاله الضحية فكان ذلك أقوى دليل على قوة رؤيا ابراهيم وصدقها ويقينها ولَم يقل لأبيه إنه ظن بل قال "قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ".

وقد فات عليهم أن النبوة المحمدية بدأت بالرؤيا فهل كانت النبوة في منشأها ظن لا يرقى لليقين ؟ فقد جاء في الحديث الصحيح الذي روي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
(( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ))فتجد تقريرات عجيبة كهذه بدون دليل ولا قول معصوم يقررون مراد الله بما لم يقله ربنا جل جلاله ولم يقرره نبينا صلى الله عليه وسلم ، فيسببون الأسباب ويعللون الأحكام والإبطال بدون دليل ولا قول من صاحب الأمر ثابت صحيح ، ولكنه من عند غير الله لذلك فنجد فيه اختلافاً كثيراً كما نلحظ هنا ، ثم ينقله واحد من واحد حتى يصطبغ بالقدسية فيصبح معصوماً لا ينبغي عليه الخطأ.

القسم الثاني : تفنيد فرية نسخ القرآن وإبطال إحكامه

وفي هذا القسم سنستحضر الآيات المدعى نسخها آية آية نحللها ونتتبع تفسيرها وننظر في ما أدعي بأنه ناسخ لها ، ونعرض فيما يلي ايضاً صور الاضطراب والخلاف في مسألة نسخ تلك الآيات ما يثبت افتقاد القول للاجماع كما يفتريه البعض .
ثم ننتقل لدعوى نسخ النص وبقاء الحكم ونسترجع النصوص المنسوبة زوراً للقرآن الكريم ونسوق الحجج والبراهين على أنها ليست من القرآن أبداً ولا يستقيم أن تنسب للقرآن برواياتها وصيغها المختلفة المتضاربة.

دعوى نسخ القبلة
يَعتبرُ فئةٌ من المعتقدين بوقوع النسخ أن مسألةً كمسألة تحديد القبلة نسخاً، و يدرجون هذا الأمر من الحجج على ثبوت النسخ في كتاب الله ، وهذا خلط مبنيٌّ إما على سوء فهم أو محاولة لإثبات النسخ كيفما اتفق.
ومسألة القبلة تحمل دلالة واضحة على عكس ما يريد مؤيدي القول بالنسخ ، ذلك أن مفهومنا للنسخ يقتصر على نسخ الشرائع السابقة وليس نسخ القرآن الكريم واحكام الشريعة الاسلامية ، وتتمثل الدلالة في كون الصلاة تجاه بيت المقدس هو شرع من قبلنا ، فبني إسرائيل كانوا متبعين لشريعة موسى عليه السلام التي كانت هي الشريعة المهيمنة على المسلمين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، بقول تعالى { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأحقاف:30] فلم يأت ذكر عيسى لأن المراد بالكتاب (الشريعة) فكانت شريعة موسى وكتابه هي الشريعة المهيمنة على المسلمين فلما جاء القرآن نسخ تلك الشريعة وابطل كثيراً من أحكامها.

وبنو إسرائيل كانوا يتوجهون لبيت المقدس قبلةً لهم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بقي على القبلة التي يستقبلها اليهود وهي بيت المقدس حتى أنزل الله نسخ الحكم التوراتي بالحكم القرآني (فبدل الله آية مكان آية) وجعل الكعبة قبلة للنبي صلى الله عليه وسلم من تبعه من المسلمين فقال جل شأنه:

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(142) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْوَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِوَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) البقرةولا يستطيع أحد ان يثبت أن تحويل القبلة هو نسخ لحكم سابق نزل في كتاب الله فالتوجه لبيت المقدس لم يكن بنص قرآني وبالتالي فالقول بأن هذه الآية تحمل دلالة على نسخ القرآن بأي صورة قول باطل ولا يصح أبداً فالقبلة حكم جديد لم يسري قبله حرف واحد ينقضه آخر.
وهنا نؤكد على أن الأحكام المنسوخة لا يمكن أن تكون مما أنزله الله في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بل أحكاماً مهيمنة من شرائع سابقة نسخها القرآن ثم أبدل مكانها احكاماً أخرى.

صورة من صور سوء الفهم
:

نلحظ أحاديث منسوبة لابن عباس رحمه الله تدَّعي أن تحويل القبلة هي أول ما نسخ من القرآن (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ) ولكل من يعتقد بصحة هذا القول نطالبه بالبرهان ، فأين الآية التي تأمر بالصلاة لبيت المقدس والتي نسخت بآيات تحويل القبلة ؟؟ ، لن تجد شيئاً منسوخاً في كتاب الله ، ولن تجد امراً باستقبال بيت المقدس نسخه تحويل القبلة إلى الكعبة وبالتالي فالاثر قطعاً غير صحيح ولا يحتاج تخريج ولا بحث بل لا يؤيده نص واحد في القرآن فكيف نسلم بالنسخ في القرآن بناسخ دون منسوخ ؟؟.

حقيقة دامغة :
ومن أظهر الأدلة واقواها على انتفاء النسخ وأن الحكم القرآني حكم مبتدأه في تلك الآية وليس ناسخاً لقرآن قبله هو قوله تعالى (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فلو كان استقبال بيت المقدس وحي وأمر مخصوص للنبي صلى الله عليه وسلم ينقض امر سبقه وينسخه لما وسعه إلا الرضى والتسليم ولم يقلب وجهه في السماء بحثاً عن قبلة يرضى بها لأن القرآن قرر قبلته فليس له إلا الرضا والتسليم ، ولكن الحقيقة أن تحديد القبلة ارضاء لنبي الله جل وعلا الذي لم يكن عنده أمر بقبلة محددة قبل الكعبة وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاءوا، بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم باستقبال بيت المقدس.

وقال ابن زيد: كانوا ينحون أن يصلوا إلى قبلة شاءوا، لأن المشارق والمغارب لله، وأنزل الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله- يعني بيت المقدس- فصلوا إليه» فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضعة عشر شهرا، فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتى هديناه، فكره النبي صلّى الله عليه وسلّم قولهم ورفع طرفه إلى السماء فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ (1) [البقرة: 144].

نسخ عدة المتوفى عنها زوجها

قال الحق جل شأنه :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:240]

يُدَّعَى نسخها بقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة:234]
متاع الأرملة حق لها:
وهذه الدعوى مردودة جملة وتفصيلاً فآية متاع الحول تلت آية العدة ، وفي الأصل فلا علاقة بين الآيتين فواحدة حكم والثانية حق فكيف والنسخ لا يكون إلا حكماً بحكم .
يقول تعالى (وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) فجعل للرجل أن يوصي بأن تبقى أرملته في بيته بعد وفاته حولاً كاملاً فكانت تلك الوصية حق من حقوق الارملة في حين أن العدة فريضة عليها ، وهذا من مقاصد الشرع الحنيف فالنساء اللائي لديهن ذرية صغاراً أو كن لا أهل لهن ولا منزل سوى منزل الزوج فقد أعطاهن الله فسحة من الأمر حولاً كاملاً يحق لهن البقاء في منزل الزوج المتوفى حتى يجدن سبيلاً إما بزواج أو بشراء منزل ونحوه ، وهذا في سبيل الحفاظ على نساء المسلمين وصيانة حقوقهن وكرامتهن.

ولكن إن أرادت الأرملة غير ذلك وخرجت قبل تمام الحول فلا جناح عليها ولا على أولياء الزوج المتوفى فيما تفعل في نفسها فعل معروف سواء بزواج أو باستقلال في منزل تملكه.

عدة الأرملة فريضة عليها
:
بينما نجد في آية العدة أمراً آخر تماما لا علاقة له بالمتاع فهو فرض على كل من توفى عنها زوجها ، لا خيار لها في ترك العدة ، يقول تعالى (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فهنا يجب عليهن فريضة من الله فإن انقضى الأجل فلها حق استمرار المتاع في منزل المتوفى ولها أن تنزل منزلا غيره.

فلو انقضت عدتها وكان المنزل الذي تسكنه معروضاً للبيع ولها فيه ميراث ولها منزل لأهلها أو ملكاً لها فآثرت بعد العدة أن تنتقل لمنزلها او منزل أهلها حتى يتحقق تقسم الميراث فلها ذلك ولكن بعد انقضاء عدتها.

ولو انقضت عدتها (أربعة أشهر وعشراً) وأرادت أن تمكث في منزل الزوج ما يكمل الحول فلا يجوز إخراجها منه لقوله تعالى (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) غير إخراج ولم يقل غير خروج أي لا يجوز (إخراجها) من منزل الزوج.

ولو توفي رجل عن امرأة حامل فيقول تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق:4] ، فتنتهي عدة الحامل بوضعها ولكن يبقى لها إن كان توفي عنها زوجها بقية الحول ، وهذا من المقاصد العظيمة للشرع الحنيف فلولا أن لها التمتع في بيت المتوفى عنها حولاً كاملاً لا يجوز إخراجها لحق لأهل المتوفى اخراجها بعد الوضع مباشرة وهذا فيه ارهاق وجور على الوالدة وولدها ، فكان حول السكنى حق يمكن الأرملة والوالدة من المكوث في راحة وأمن حتى يحصل لهن سبيل يخرجن به من منزل المتوفى.

وهنا فقبل القول بالنسخ ينبغي أن نفقه المواضع الثلاثة ونميز بين (الحق) و(الفريضة) فلا ينبغي أن نخلط الشرائع والأوامر بلا تمييز وننسخ واحدة بما لا ينبغي أن ينسخها.
وهنا فالقول بالتناسخ بين هاتين الآيتين باطل غير متحقق لعدم التجانس بين الآيتين والله أعلم.

دعوى نسخ قيام الليل

قال الحق جل وعلا :
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) {المزمل}

يُدَّعَى نسخها بقوله تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) {المزمل}

وهي دعوى مجانبةُ للصواب فالله تعالى لم يفترض على المؤمنينَ قيام الليل وبالتالي فلم ينسخ هذه الفريضة ، وسأسوق من الدلائل والحجج في ثنايا هذا التفصيل ما يثبت ذلك ويدرأ القول بالنسخ تماماً في هذا الموضع بصورةٍ بيِّنة واضحة لا لبسَ فيها.

أمر خاص للنبي صلى الله عليه وسلم :

إنَّ الأمرَ بقيامِ الليلِ مختصُّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يشمل المؤمنين وإثبات ذلك فيما يلي :

أولاً
: طبيعة الخطاب ، فالنداء موجهٌ حصراً للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله (يا أيها المزمل) ولم يتبعهُ توجيهٌ بفرضهِ على بقية المؤمنين كفرائض الله الأخرى التي وجه فيها النبي وأمره أن يأمر المؤمنين بمؤداها ، وهو مشابه لأمره في قوله يا أيها المدثر إذ كان الأمر كذلك مخصوص للنبي صلى الله عليه وسلم دون سواه.

ثانياً
: اشتمل الأمر على علة قيام الليل ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) ، فكان نزول الوحي علة اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وبهذه الصورة وهو القول الثقيل الذي سينزل على النبي في هذه الفريضة مما يؤكد اختصاص النبيّ بالأمر ، واشتداد الوطأة المقترنة باستقامة القول متعلقة بحالة (نزول الوحي) على النبي صلى الله عليه وسلم وما يرافقها من تعرّق ورجفة وحال قاسية تقع على النبي لثقل الوحي عليه ولا تتعلق بسواه.

ثالثاً
: أن الأمرَ بالقيام لو كان شاملاً عَاماً على المسلمين لقام كل المسلمين اللّيل مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد ولكن تأسَّى به طائفة من المؤمنين فقط وليس كل المؤمنين (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) فكيف يكون فرضاً ويتقاعس عنه المسلمين ؟؟ ولا يأتيه إلا طائفة من الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟؟ ، والسورة عرفت بأنها مكية حيث كان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أشد أحوالهم اتباعاً له تنفيذاً لأوامره والوحي الذي أتى به.

رابعاً
: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توقف الناس عن قيام الليل معه لم يتركها لأنها فريضة عليه بقوله تعالى (قم الليل إلا قليلاً) وبقي عليها حتى قبض عليه صلوات الله وسلامه ، جاء في سنن أبي داود حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن منصور بن عبد الرحمن عن أبي إسحق الهمداني عن الأسود بن يزيد أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت (كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل ثم إنه صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين ثم قبض صلى الله عليه وسلم حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات وكان آخر صلاته من الليل الوتر)خامساً: هذه الفريضة التي اختص الله بها نبيه لم تكن كبقية الفرائض بل كانت ركعاتها و مدتها على سبيل التخيير (ثلثي الليل ، ونصفه ، وثلثه).

حقيقة الآية السادسة
:

إن حقيقة الآية السادسة المدعى بأنها ناسخة لأمر القيام هي أن طائفة من الذين آمنوا بدأوا يتأسّون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقومون الليل معه فأراد الله بالأسلوب القرآني المهذب أن يبين لهم بأن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس عاماً لبقية المسلمين (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، ثم يقرر تعالى أنه لم يفترضها عليهم لعلمه بحالهم (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)أي علم بأحوالكم فاستثناكم ، ثم فصل في أحوال المسلمين التي لا يستطيعون فيها مجاراة النبي صلى الله عليه وسلم لما اختصه الله من طاقة تفوق بقية المؤمنين ووظيفة نبوية لا يشابهه فيها أحد (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

وعِلْمُ اللهِ بِذلك لَم يكن بعد أن افترض القيام ثمَّ بدا له مشقة ذلك على المؤمنين بل كان علمه سابق لذلك وإنما أتى بها هنا ليبين سبب اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام وسقوطه كفريضة من البدء وليس عند نزول الآية السادسة.

القول بالنسخ في هذا الموضع مجازفة:
إن القول بأن الله افترض على الناس قيام الليل في أول السورة في حد ذاته مجازفة إذ أن الله تعالى يقول {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] والقائمين مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة محدودة من المسلمين وبقية المسلمين - حسب هذا الفهم - تخلفت عن إتيان هذه الفريضة وهذا يشي بالبطلان والخلل ، ثم أن القول بتراجع ونسخ الحكم مجازفة أعظم ومقولة أخطرفالآية المدعى أنها ناسخة تضمنت أحوالاً عديدة للمسلمين في قوله تعالى (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فالقول بالنسخ يوحي بأن الله رجع عن افتراض ذلك بعد ما علم بأحوال المسلمين فرأف بحالهم ورفع الحكم عنهم ونسخه لدواعي عديدة كالمرض وكسب الرزق والقتال وحاشا لله أن يكون ذلك ، ولكن الله علم بذلك من الأزل إنما أراد أن يبين للصحابة أنه اختص النبي بذلك الأمر واستثناكم أيها المؤمنين لما يكتنف حياتكم من أحوال وحاجات ونوازل ، وهذا أسلوب قرآني راقٍ ومهذب في تعريف الناس بمقاصد الشرع وأن الله يريد أن يخفف عنهم ويفترض عليهم ما يناسب طاقتهم ووسعهم.

ولكن هذا القيام بقي للناس نافلة (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على تبيان ذلك في أكثر من موضع.
وهنا يثبت بأن إتيان جمع من الصحابة لهذه الطاعة كان وقد نافلة سارع طائفة منهم لإتيانها ، وتركها آخرون لعلمهم بأنها دون الفريضة.
جاء في صحيح الإمام مسلم حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها قال فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته قال ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم قال فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة) .

وحدثني محمد بن حاتم حدثنا بهز حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة قال سمعت أبا النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس فذكر نحوه وزاد فيه ولو كتب عليكم ما قمتم به .
فنرى كيف كانت مسارعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الخيرات وتتبعهم لمواقيت الصلوات ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام تشريع فكان موقفه من ذلك واضحاً حتى لا يفترض على أمته ما لم يفترضه الله عليهم ، وحتى لا يسيرون في ذلك حتى تصير فريضة عليهم ، فهذا ابن حبان في صحيحه في (حديث مرفوع) أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا أبو الربيع الزهراني ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، قال : حدثنا عيسى بن جارية ، عن جابر بن عبد الله ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر ، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ، ورجونا أن يخرج إلينا ، فلم نزل فيه حتى أصبحنا ، ثم دخلنا فقلنا : يا رسول الله ، اجتمعنا في المسجد ، ورجونا أن تصلي بنا ، فقال : " إني خشيت أو كرهت أن يكتب عليكم الوتر "اختصاص النبي الكريم بما يفوق طاقة أصحابه :إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله في مقام النبوة بأقصى مما كلف به أتباعه ، فقد أعطي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفوق قوة الرجال وإذا أوعك كانت وعكته شديدة بضعف ما يصيب الرجال.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال حتى هممت بأمر سوء.
قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه.
وعن المغيرة بن شعبة , قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه دما ، قالوا : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر , قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " ، حدثنا الحسين , قال : أخبرنا سفيان بإسناده ، إلا أنه قال : حتى تورمت قدماه .
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتميز عن الناس بمزيدٍ من القوة ومزيد من العبادة ، والوحي (القول الثقيل) الذي يتطلب تحمله قوة فائقة وتحملاً يفوق ما يحمله الرجال يقول تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر:21].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( أَجَلْ إِنِّى أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ ).
قَالَ فَقُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( أَجَلْ ).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا ) متفق عليهفاختص الله نبيه بقيام الليل بصورته التي أمره به في سورة المزمل بما يتفق رسالته ووظيفته الجليلة وهي الرسالة الربانية وما يتبعها من أحمال لا يقواها أي أحد ، لذلك لم تكن هذه العبادة تناسب أصحابه وطبيعة وظيفتهم الدنيوية وحاجاتهم اليومية.

تحول الخطاب في الآية
:
إن الإدعاء بأن الأمر بالقيام موجه للمؤمنين في قوله تعالى ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) بخطاب فردي كان ينتظر أن يكون النسخ أيضاً بخطاب فردي ولكن الآية السادسة قررت علم الله بأن النبي أتى ما أُمِرَ به (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ولكنه حين رفع الحرج عن الطائفة الذين مع النبي حول الخطاب لهم فقال جل من قائل (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فكان هذا التحول من التوجه للنبي إلى المؤمنين تبياناً جلياً بأنكم أيها المؤمنون غير معنيين بهذا الأمر لما علم الله من أحوالكم وما يلحقكم من مشقة ، ولو كان الخطاب الموجه للنبي في رأس السورة يعني بقية المؤمنين لكان النسخ على نفس الصيغة ليرفع ما فُرِض ، ولذلك لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام حتى قبض لأنه أمرٌ وفرضٌ مخصوص عليه غير متعلق ببقية المسلمين.

ملخصُ ردِّ شبهة النسخ في هذا الموضع:
أن الله تعالى اختص نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر بقيام الليل بصيغ وصفات محددة في سورة المزمل معللاً ذلك بتلقي الوحي الذي سيلقى إليه ، ثم أن طائفةٌ من أصحابهِ رضوان الله عليهم بدأوا يصلون معه قيام الليل فأراد الله أن ينبههم لخصوصية هذه الصلاة وأنها ليست مفروضة عليهم ولم تنزل في مبدأها عامة عليهم ، ذلك أنه جل جلاله علم أحوال الناس وما يحيط بهم من أحوال ومرض وطلبٍ للرزق وقتالٍ وغيره فنبّههم بأنهم غير مشمولين في أمر القيام مع النبي صلى الله عليه وسلم وأرشدهم لما يرفع الحرج عنهم.

أمَّا الصَّلوات المفروضة فخمسُ صلواتٍ لم يزدنَ ولم ينقصنْ ، ولم يحصل نسخ في هذا الموضع وقد علمَ اللهُ بأحوالِ الناسِ علماً سَابقاً لنزولِ السُّورة ولم يَظهر بَعد افتراض القيام - كما يزعم من يقول بذلك - وحَاشَا أنْ يتراجعِ اللهُ عنِ افتراضِ أمرٍ على عبادهِ فينسخَ أمْرَهُ البتَّة ، وإنما كانت الآية تبياناً موجهاً للطائفة الذين اعتادوا صلاة الليل خلف النبي خشية أن تفرض على المسلمين عامة.

دعوى النسخ في آيتي المصابرة



يقول الحق جلَّ وعلا:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} [الأنفال65]

يُدَّعَى نسخها بقوله تعالى:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّـهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66]


إن المصابرة في الآية الأولى إنما كانت على سبيل التأييد الرباني وليست فرضاً أو حكماً ، فكان مضمون الآية يؤآزر المؤمنين بتأييد الله لهم بقوة إيمانهم وعزيمتهم وكذلك بسبب ضعف عدوهم وأنهم لا يفقهون ، فكان العشرة الصابرة يغلبوا مائة ، والمئتين من المقاتلين الصابرين يغلبوا ألفين بنسبة ثابتة طالما كان الإيمان في درجته تلك والصبر حاضر في اللقاء.

ولم تشتمل الآية على أمر أو نهي بل اشتملت على بيان لقياس قوة المؤمنين بثقتهم بربهم وإيمانهم بسمو هدفهم مقارنة بِخَوَرِ المشركين وضعفهم لضياع عقيدتهم لأنهم لا يفقهون ما هم عليه من الشرك والكفر.

ثم إنه جل وعلا عندما ضَعُفَ المسلمين وقل إيمانهم ، ودخل خلالهم من حدثاء الإسلام ضعفاء الإيمان ما أضعفهم فقد قلت قوتهم وغابت شوكتهم الأولى فأصبح المائة يغلبوا مئتين ، والألف يغلبوا ألفين بإذن الله.

خصوصية السياق والتوقيت
:

اشتمل القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه على أحوال خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فكان واقعها مقيداً خاصاً وليس مطلقاً عاماً ، وكذلك أحوال ووقائع كثيرة غير هذه الحالة ، فلا يمكن أن يقال أن عقوبة التخلف عن القتال في سبيل الله منسوخة بقصة الثلاثة الذين خلفوا كعب وأصحابه فهذه واقعة مقيدة مخصوصة وإلا فسننسخ جلّ كتاب الله وما توسع القائلون بالنسخ إلا لعدم مراعاة هذا الأمر .
وفي هذه الآيات الكريمة نجد التقييد والتخصيص فقد بالنداء والأمر بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم يلي النداء مقتضى الأمر(حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ) وهو التحريض ولكن بأي شئ؟ ، بما اختصه لهم من غلبة وتأييد لما علمه من استقرار الإيمان وقوته في نفوسهم (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) فيقرر تعالى أن القتال مع الصبر يؤدي لغلبة العشرين للمئتين من الذين كفروا بعاملين أولهما درجة إيمان المقاتلين وثانيها ان أعدائهم لم يفقهوا ماهم عليه من الضلال وما أتاهم من الهدى ، فلم يكن قتالهم بعقيدة وإيمان بما هم عليه من العمل ، ولو كانوا يفقهون لما التزموا الكفر وتركوا الإيمان.

العدد والقوة تتبع قوة الإيمان:
أرشدتنا الآية الكريمة الثانية أن سر تراجع قوة المسلمين يعود للضعف الذي اعتراهم فكانت رسالة لنا ولكل المؤمنين في كل زمان ومكان أن من يحمل كإيمان المسلمين الأوائل فسيكون في نفس قوتهم ومقاومتهم لعدوهم فيغلب الواحد عشرة ، وكلما دب الضعف فيهم ودخل الشك نفوسهم وتراجع الإيمان فستتراجع معه القوة والغلبة .

واليوم وفي عصرنا هذا هل نصل لما وصل إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف بأن ألفاً من المسلمين يغلبوا ألفين من الكفار عند اللقاء ؟؟ قطعاً لا ، فلو مررنا بنظرة سريعة على قتال الأعداء هنا وهناك لسقنا مئات الأمثلة التي يكون المسلمين فيها أضعاف عدوهم ومع ذلك يغلبون ويشردون ويقتلون وتؤخذ اسلحتهم من بين أيديهم.

فالمقصود أن الإيمان بالله وقوته تتناسب طردياً مع القوة إذا تناسب العتاد وكان المقاتلين على قلب رجل واحد ، ولم تشتمل هاتين الآيتين الكريمتين على حكم شرعي حتى يقال هذا نسخ ذاك.والله أعلى وأعلم.

دعوى أن حكم تحريم الخمر نسخ لحكم سبقه


يقول جل شأنه :​
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]


يَقُولُ تَعَالَتْ ذَاتُه :
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة:219]


ويقولُ جََلّ وعَلا :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]

مدَّعى نَسخَها بِقَوله تَعَالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:90-91]


النسخ يلزم التعارض:
لاشك أن النسخ هو إبطال حكم منصوص بنصٍّ جديد ، ولكي نتوصل لحقيقة النسخ في الآيات الكريمة الخاصة بتحريم الخمر لابد أن نجد نصاً يفيد بحليَّة الخمر حتى نقول أن حكم الحليّة نُسِخَ بحكم التحريم ، وسنستعرض الآيات المدعى إنها منسوخة لنتحقق من أن الخمر قد أحله الله في هذه الآيات ثم نسخ الحكم وحرمه في آية المائدة ، وسنتتبع كل الآيات الكريمة التي تناولت مسألة الخمر ، وسنتتبع مسألة التحليل والتحريم في كتاب الله لنصل لحقيقة النسخ في هذه الآيات المباركات من عدمه.

الخمر محرمة قبل صراحة التحريم
:
ينبغي قبل أن نثبت أن الله لم يحكم بحليّة الخمر في كتابه ثم ينسخ حكمه ويحلله ، ينبغي أن نثبت أن الخمر سبق تحريمها من عدة وجوه قبل آية التحريم الصريحة :

أولاً
: أن الخمر حرمها الله في كل شرائعه السابقة للإسلام ، ورأينا فيما سبق كيف أن نبينا صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة متبعاً لشريعة أخيه موسى عليه السلام حتى أنزل الله قرآنا ينسخ قبلة أهل الكتاب بالكعبة المشرفة وعليه فإن الخمر لم يحلها الله أبداً قبل الإسلام فكيف يدعى أنها أحلت في الإسلام ؟؟ ، والقاعدة تقول أن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يرد نص ينسخه.
فحرمة المحرمات في الديانات السماوية المتعاقبة سارية مالم يرد نص ينسخ الحرمة السارية ، ولذلك فقد صرح عيسى عليه السلام بأنه سيضع عن بني إسرائيل بعض ما حملوا ويحل لهم بعض الذي حرم عليهم يقول تعالى:{ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [آل عمران:50]فلا ينبغي لهم أن يحلوا أو يحرموا من عند أنفسهم إلا بنص شرعي ، والخمر شرعاً محرمة قبل الإسلام فلزم أن تبقى الحرمة سارية لحين نزول نص يحلها.
وبالتالي فإن القائلين بالنسخ يلزمهم اثبات وجود نص يحل الخمر لأنها حرامٌ أصلاً وهذا ما لا يتأتَّى أبداً.

ثانياً
: أن الخمر (من الخبائث) ، فإن أتينا لحكم الخمر العام فهومحرم ابتداءً لقول الله جل وعلا :{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف:157]وهذه الآية وردت في سورة الأعراف التي تحتل المرتبة (39) في تاريخ النزول أي قبل كل السور التي اشتملت على ذكر الخمر (النحل ، النساء ، البقرة ، المائدة) وتضمنت هذه الآية نقطتين ما يحسن لفت الانتباه له:


  • [*=right]دخول الخمر في المنكر والخبائث أمر مقطوع به وهذا يعني تحريم مسبق للخمر ضمن الخبائث التي أتى صلى الله عليه وسلم لتحريمها.
    [*=right]أن الأحكام الشرعية السابقة سارية ما لم يرد نص بتحريمها لذلك كانت شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم امتداداً لما قبلها فتثبت بعضاً من الأحكام وتنسخ أخرى ، فكون الخمر محرمة في مسبقاً في شريعة الله التي افترضها على اليهود والنصارى يعني استمرار حرمتها في شرع نبينا صلى الله عليه وسلم وإلا فينبغي إثبات تحليل الخمر بعد البعثة ثم نقول أنها حرمت بنسخ حكم سابق.
صيغة التحليل في النص القرآني:
إن ما سبق تحريمه في الديانات والشرائع السابقة لا نجد له سبيلاً لتحليله في كتاب الله إلا بأن يسبقه ما يفيد التحليل فنجده تعالى يسبق الحلال بقوله (أحل لكم ، أحل الله ، أحلل) كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [المائدة:87] فضلا عن ما تضمنته الآية بأن التحليل يكون للطيبات فقط ويمتنع على الخبائث.

التحريم مثبت في آيات ذكر الخمر
:
لقد علم الله تعالى ثقل الفجأة في الأحكام فلم يصرح في التنزيل الحكيم بالتحريم ولكنه عرَّض به على مستويات عدة بدأت بالتلميح حتى وصلت إلى مرحلة التحريم التام والصريح وفي كل مستوى من مستويات التحريم كان هناك من الصحابة من يمتنع ويترك الخمر بما فقهه من آيات، فآية الأعراف السالفة الذكر كانت أول المستويات للتحريم (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) فهذا أول مستويات التحريم لكل الخبائث ولذلك فإنه يتضمن يتضمن حرمة مستترة للخمر.
وفي سورة النحل (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) ولم تشتمل هذه الآية على أي صورة من صور تحليل الخمر بل كان يصف حال الناس في اتخاذهم للرزق الطيب فسماه (رزقاً حسنا) ووصف اتخاذهم للسكر من ثمرات النخيل والأعناب ، وهذا حق إلى اليوم لم ينتفي ولم يتوقف ، وكان يصف الرزق (بالحَسَنْ) مما يبين أن السكر ليس بحسن ، وهذه الآية لا تعد من آيات الأحكام حتى يستنبط منها حكم أصلاً.
وفي سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) فهل نقول أن هذه الآية منسوخة ؟؟ لا طبعاً ، فالخمر فيها منافع للناس في تحصيل اثمانها والاستفادة من المحاصيل التالفة وبيعها وشراءها عموماً ، ولكن الله تعالى قدم الإثم ، وعظَّمهُ قبل أن يأتي على ذكر المنفعة فقال تعالى (فيهما إثم كبير) وهذه حرمة ظاهرة بعد الحرمة المستترةثم ما جاء في سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) وهذا حكم سارٍ حتى الآن ، فالخمر محرمة ولكن هل تقبل صلاة شارب الخمر إن صلى غير سكران ؟؟ ، لا شك أن شرب الخمر لا ينفي امتناع قبول الصلاة سائر اليوم بل وقت السكر فقط ، وهذا حكم سارٍ لم ينتهي بالتصريح بالحرمة التامة.
ثم إن هذه الآية درجة أعلى وأظهر من درجات التحريم ، ولو لم ينزل إلا هي لكفت للتحريم التام للخمر لما تتسبب فيه من حجب للمؤمن عن الاتصال بربه حال شربه لها فهذا دليل خبثها لمن في قلبه ذرة شك أو حب لها.

دليل انتفاء التحريم بعد تحليل
:

قال القرطبي رحمه الله:(وإنما نزل تحريم الخمر في سنة ثلاث بعد وقعة أُحُدٍ... وقال ما نصه: وتحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مُولَعين بشربِها، وأول ما نزل في شأنها: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]؛ أي: في تجارتِهم، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس، وقالوا: نأخذ منفعتَها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية: ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشرِبَها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91]، فصارت حرامًا عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشد من الخمرِ).

ومما سبق ينتفي تماما أي قول بتحليل الخمر في الإسلام ، فقد كان التشريع تحريماً من أوله لآخره ، وينتفي معه أي قول بالنسخ لأن القول بالنسخ يلزم وجود حليّة نسختها حرمة ، والحليَّة لم تكن لا في شرع الأمم السابقة ، ولا بعدها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون الأمر نسخاً ؟ .

فينتفي القول بالنسخ تماماً في مسألة تحريم الخمر، وعلى من يريد إثبات النسخ أن يثبت أن الخمر أخذ حكم الحليّة وهذا ممتنع تماماً عدا أن القول بالتدرج في التحريم يتعارض مع القول بالنسخ أصلاً ، وكل علماء السلف يقولون بالتدرج في التحريم فكيف نجمع بين القول بالتدرج في التحريم وبين النسخ؟.

وكل من قال أن الخمر كانت مباحة أول الإسلام فقد افترى على الله الكذب ولزمه الدليل على تحلة الخمر قبل تحريمه.

دعوى نسخ الآية (284) من سورة البقرة

قال تعالى :
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284]

مدَّعى بأنها نُسِخت بقوله تعالى:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286]


الاضطراب دليل الخلل فهل هي منسوخة أم محكمة ؟ :
وهذا مما نصرخ به دوما بأن نسبة القول بالنسخ للصحابي لا تعني أنه صدر منه هذا القول فعلاً ، وأننا ينبغي أن نجعل استقامة القول واتساقه مرجعا فإن التسليم بصحة الروايات بلا تفكير ولا تدبر جعل المنقول المقدم على المعقول مصدراً لإشكالات لم يصمد النسخ امامها فكان باطلاً بيِّن البطلان :

قرر القرطبي رحمه الله وجود خمسة اختلافات بقوله (اختلف الناس في معنى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله على أقوال خمسة)وأورد في القول الأول أنها نسخت بقوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وهو قول جماعة من الصحابة منهم (ابن عباس) رضي الله عنه ، فقال رحمه الله:
"( الأول ) أنها منسوخة ، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين ، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم .

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال : ( قد فعلت ) : في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وسيأتي" .انتهى كلامه.

ثم قرر في القول الثاني أن ابن عباس قال أنها محكمة مخصوصة بالشهادة :"( الثاني ) قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد : إنها محكمة مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ." انتهى كلامه .

وفي القول الرابع يقول الطبري رحمه الله بأن ابن عباس قال (لم تنسخ) وأنها محكمة عامة :
"( الرابع ) أنها محكمة عامة غير منسوخة ، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ذكره الطبري عن قوم ، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا .
روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : لم تنسخ ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول : ( إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم ) فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب"انتهى كلامه.

وبذلك لزم أن يتبع هذا الاضطراب البيّن كذبٌ في أكثر من موضع والأظهر أن الكذب كان في موضع تقرير النسخ كما اعتدنا.

النسخ يقتضي الإبطال
:

تكرر معنا أن النسخ يقتضي الإبطال ، والآن نحن أمام صورة فريدة من صور النسخ المزعوم ، فالنسخ لم يطال الآية بكاملها بل طال جزءاً منها وهو قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) وأما الباقي فلم يقع فيه نسخ -على حد زعمهم- فقوله تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) من الثوابت التي يقتضي القول بنسخها الكفر البواح ، وكذلك قوله تعالى (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فمن يقول بان هذا القول منسوخ كافر بلا شك.

ولذلك نجد أن القول بنسخ جزء من آية بدون قول صحيح ثابت أو تقرير من معصوم مجازفة أخرى تجزِّئ السياق وتجعل قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) نسخاً لذلك الجزء برغم أنه متعلق بالتكاليف والعبادات المقررة بالجوارح فما دخل النوايا والاعتقاد حتى تلغيه وتنسخه ؟؟.

ومن المهم القول بأن النسخ بهذه الصورة يتعارض مع مفهوم القائلين بالنسخ بقوله تعالى (ما ننسخ من آية) لأن النسخ وقع على جزء من آية ولم ينسخ الآية كاملة وهذا من دلائل بطلان النسخ ايضاً.

حقائق متصلة تقررها الآيات الكريمة
:
بعد أن اثبتنا انتفاء النسخ وتناقض الأقوال المنسوبة لابن عباس وأنه لا ينبغي أن يقع في هذا الموضع كما أنه لا ينبغي أن يقع على سواه في كتاب الله سنتتبع موضع هذه الآية في السياق الذي تضمنته الآيات الثلاث في سورة البقرة لنعلم مقدماً بأن النسخ لا يجوز عليها أصلا.

إن الآيات الثلاث في ختام سورة البقرة اتت على ثلاث حقائق أصولية مترابطة في عقيدة الإسلام كل آية قررت حقيقة من الحقائق الثلاث وكل منها ملازمة لما جاورها :

الحقيقة الأولى
: أن العبرة عند الله بما استقر في نفس العبد من اعتقاد ونية ، وأن مبدأ الإيمان من دواخل النفس التي يعلمها الله وحده ، فمن ادعى أنه من أهل الإيمان وكانت نفسه ترفض الإيمان وتبطن النفاق والبغض وأصبح يظهر مالا يبطن فإن الله سيحاسبه على عقيدته وهذا لازم من لوازم الإعتقاد لا يجوز نسخه بل لا سبيل إلى إلغاءه أو تعطيله لأنه هو أسُّ العمل ومزرعته ، وقد قرره صلى الله عليه وسلم في حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في الحديث المتفق على صحته قال قال صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) وهذا ما يواطئ الآية الكريمة ويتساوى معها في المعنى ، ونسخ هذه الآية يجب ان ينسخ معه الحديث أيضاً.

فهو جل جلاله يخبرنا أولاً بإحاطته بكل شئ (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وانه يملك الكون كله ، ثم يقرر علمه بملكه ومافيه من غيب وشهادة (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ولما كان الإيمان محله القلب وهذا متسق مع كل المواضع المشابهة ومستقيم معها تماما ، ومثل أولئك الذين يظهرون مالا يخفون من قال تعالى فيه (يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) فهل مثل هذا مقطوع له بالغفران لقاء ما أضمره في قلبه من خصام ونفاقه وسوء طويته ؟؟ ، بل هو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، ولكن الاعتبار بما تضمره الأنفس وليس على ظواهر الأفعال.

وهذا الموضع في قوله تعالى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يشابه ما في قوله تعالى { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:108] ، فمشيئة الله مطلقة لا يقيدها شئ أبداً لذلك فهو تعالى إن شاء أخرج أهل الجنة منها وجعل بقائهم في الجنة مرهوناً بمشيئة الله تعالى ، حتى مع تقرير خلود أهل الجنة فيها تبقى مشيئة الله فوق كل حال.

الحقيقة الثانية :قررتها الآية التي تليها (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فبعد تهيئة الأنفس بأن ما يستقر فيها هو رأس الأمر في الحساب والثواب والعقاب قرر تعالى ما يجب الإيمان به وتجري المحاسبة عليه في سياق متصل ببعضه البعض ، فلو أن عبداً قال (سمعنا وأطعنا) بجارحة اللسان ولم يستقر في قلبه ما آمن به الرسول ومن تبعه من اصحابه وما اعتقدوه من عقائد في هذه الآية فإنه محاسب بما أخفى وليس بما أظهر ، لأن ما اخفاه محبط للعمل لا تقبل معه طاعة يقول تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .والله وحده يعلم حقائق الأمور فيأتي المؤمنون يوم القيامة فيكتشفون أن أعمال من ظنوا أنهم إخوان لهم قد حبطت لأن أعمالهم شكلية ولم يستقر معها إيمان :{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } [المائدة:53]فعمل الجوارح الذي لا يتبعه إيمان راسخ في النفس سيحبط كما وقع للمنافقين الذين انطبقت عليهم (الحقيقة الأولى) فيجري حسابهم بما يخفون من الاعتقاد فإن أخفوا الكفر فإن أعمال الظاهر محبطة لا قيمة لها:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ (25) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)} محمدكرهوا رضوانه ، والكره عمل قلبي ،و إسرارهم عمل قلبي ، ومرض القلب لا يعلمه إلا الله ولكنهم ظنوا أن الله لا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فأِمنوا بما يخفون من الكفر والله بما يعملون محيط.

الحقيقة الثالثة :قررتها الآية الأخيرة في سورة البقرة وهي متعلقة بعمل الجوارح والعبادات ، فما كانت الحقيقة الأولى أن المحاسبة مبنية على مافي النفوس ، والحقيقة الثانية أن الإيمان بأركانه المقررة هو ما يجب ان يستقر قبل العمل فإن الحقيقة الثالثة تقرر أن الله افترض من العبادات ما يطيقه ابن آدم ولم يضع عليهم من الشرائع والعبادات والتكاليف الشرعية ما يخرج عن الوسع والطاقة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ويقرر ان ميزان الاعمال يستوعب المكتسبات من الأجور على العمل الصالح ، والمكتسبات من الآثام على العمل الفاسد وعلى ترك أداء تلك التكاليف ، ثم يرشد المؤمنين للتضرع لله بالقول (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) فقرر تعالى الابتداء بالعفو عن العقوبات المقررة ، ثم المغفرة للذنوب المدونة ، ثم الرحمة بدخول الجنة ضمن مبدا التخلية قبل التحلية فلا جنة بلا رحمة الله ، ولا رحمة بلا غفران للذنوب.
وهكذا فإن الآيات الثلاث ضمن سياق متصل تقرر مسألة عقدية هامة للغاية بشأن موقف الشارع الحكيم من الاعتقاد والعمل والعلاقة بينها.
آيةُ السّيف ودعوى أنّها نسخت قرآناً كثيراً

{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة:5]


سيكون منهج العرض والاستدلال في هذا الموضع مغايراً لما درجنا عليه في الآيات والمواضع السابقة ، فبعد الانتهاء من هذا التقديم سننطلق لنأخذ المدعى نسخُهُ آيةً آية ونعرض أقوال العلماء الكرام فيها والقائلون بنسخها و نشهد بأعيننا التضارب في القول بالنسخ وعدمه وكأنه مما يسوغ فيه الخلاف، وليس كلام الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيسوغ عند الكثير أن يقول : قال جمع من المفسرين بنسخها .. الخ هكذا بلا قول نبوي ثابت مجرد آراء يدحض بعضها بعضا،فيثبت النسخ وينقض النسخ بدون أن تتحرك حاسة الخشية والرهبة من التأرجح في موضع لا يصح ولا يجوز فيه التأرجح.

ولأنَّ القول بالنسخ باطلٌ وفريةٌ ممجوجة فسوف ننظر كيف أنَّ القول بالنسخ هنا كمن أراد أن يشعل ناراً يتدفأ بها فإذا به يحرق منزله ومنازل جيرانه ، فمن أبطل بهواه إحدى الآيات بدون دليل فقد فتح الباب لعشرات أن يتوغلون في كتاب الله فيحرقون ويبطلون ما يشاءون ثم يقال ( قال فلان منسوخة ، وقال فلان ليست منسوخة ) بكل بساطة بلا دليل ثابت صحيح معتبر ولا حتى قرينة مقبولة.

ومن نتائج هذا القول وبالنظر للآيات التي ابطلتها آية السيف -زعما- منها ما يستشهد به على أحكام معاملة المخالف والعدل والإحسان إليه والبر تجاهه فكيف نجمع بين هذه القيم التي نرددها في المحاضرات والخطب وبين كونها منسوخة معطلة الحكم ؟؟.

أليس من التناقض أن نصنف المصنفات ونؤلف المؤلفات في الذب عن شريعتنا السمحاء و ندفع الشبهات التي نستعيب منها ونحن في مكان آخر نثبتها وندافع عنها كقواعد أصولية مقدسة ؟؟.

ألا ينبئ القول عن نفسه ويظهر الحق ذاته ويفضح الباطل سوأته حين يظهر التناقض بين مبدأ الإحسان والرحمة في موضع الرحمة ، والعفو والصفح في موضعه والقوة والحزم في موضعها - من جهة- ونقولنا التي نسخت كل تلك القيم وزعمت تعطيلها وإبطالها؟.

وفي هذا الموضع سنشهد إحدى منعطفات الفقه والفكر الاسلامي فالنسخ من إحدى الويلات والكوارث التي جرها على المسلمين هو إدعاء نسخ التالي من الآيات فالخوارج والدواعش والضُّلَّال من المنتسبين لأمة محمد أجروا دِماء الأبرياء أنهاراً تحت هذا العنوان وهو النَّسخ وسنثبت ذلك فيما يلي إن شاء الله، وأول ما نقرره هنا أن تسميتها بآية السيف لا يعرف له أصلاً فلم يسمها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسم ولنبدأ في استعراض فرية نسخ قرآن كثير بما يسمى آية السيف :

يُدَّعى أن آية السيف نسخت مَا يلي :
{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256]

جاء فيما ذكره ابن كثير رحمه الله:وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام ، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل .
وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : ( ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .

أما القرطبي رحمه الله فمن بين ما عرضه من أقوال :قيل إنها منسوخة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، قاله سليمان بن موسى ، قال : نسختها يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين . وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين .

التعليق على الأقوال في هذا الموضع :
لا شك أن إبطال هذه الآية العظيمة يتبعه لوازم خطيرة :

أولاً : مشروعية ووجوب إجبار الكافر على اعتناق الإسلام رغماً عنه لأن الإكراه لم يعد منفياً بل يجب أن ترغم الكافر على الدخول في الإسلام بحد السيف فإن أبى فلك أن تضرب عنقه.
ثانيا :بذلك لم تعد الإرادة الحرة والأمانة التي حملها الإنسان والمشيئة التي يحاسب العبد بها ، لم تعد ذات أهمية ولم يعد لها هدف فالمهم أن نجمع أكبر عدد من المسلمين سواء كان إسلامهم إيماناً صادقاً بالله تعالى أو كان استسلاماً لواقع السيف ومنطق الجبر والتهديد.
ثالثاً :إن الله جل في علاه غني عنا وعن عبادتنا ، فإن كان المؤمن يشفق أن لا تقبل له طاعة إن شك في وجود دَخَلٍ من رياءٍ أو شرك ، ويرتعد من ضياع أجره وإحباط عمله بخلل في نية الإفضاء للعمل فكيف تصبح صلاة المكره بالسيف مقبولة ، و مالفائدة إن كان استسلامه باباً لدخول جهنم ؟؟.
‏لا شك أن القول بالإكراه في هذا الموضوع قول الباطل فإن الله سبحانه وتعالى كان قد خلق الخلق وجعل الاختيار أمانة وجعل ‏العمل مناط ‏بذلك الاختيار، فلا قبول بلا نية ولا ثواب بلا رغبة وتوجه ، وكما رخّص تعالى للمكره على الكفر فقد أحبط في المقابل عمل المنافق لأن المكره قلبه مطمئن بالايمان ، أما المرائي والمنافق فقلبه عامر بالكفر.
وهنا نجد التناقض واضحاً بيِّناً ، ولعلنا نستعرض أقوال العلماء رحمهم الله في أهمية النية وملازمتها للعمل الصالح وفساد العمل بدونها وأول قول يسبق اقول العلماء هو قوله صلى الله عليه وسلم : عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما .
فحصر وقصر قبول العمل بالنية وهي لا تتوفر بكل تاكيد للمكره على الدين ، يقول ابن العربي: «لما سمح الله بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتب حكم عليه، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»؛ ولا شك أن فروع الشريعة أقوال وأفعال.
فكيف يؤخذ العهد من المكره ويباح نقض العهد إكراها للمسلم ؟؟ ، يقول ابن قدامة : فرق الفقهاء في ذلك بين الرجل والمرأة، فإذا كان الإكراه واقعًا على المرأة، وذلك بأن أكرهت على الزنا ولم تستطع دفعه عنها فمكنت نفسها خشية وقوع الضرر بها، فالمشهور عند جماهير الفقهاء أنه لا يجب عليها بذلك الحد[47].

واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: ٣٣]؛ ووجه الاستدلال أن الآية تنفي الإثم على المستكرهة، وإذا انتفى الإثم تمام الانتفاء ارتفع الحد.

قال ابن جزي رحمه الله في التسهيل :" (لا إكراه في الدين) المعنى : أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته ، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه ، دون إكراه ويدل على ذلك قوله : (قد تبين الرشد من الغي) أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي ، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه "﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ قال ابن عاشور: " وَنَفْيُ الْإِكْرَاهِ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى إتباع الْإِسْلَامِ قَسرا، وَجِيءَ بِنَفْيِ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ نَصًّا، وهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى إِبْطَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ". انتهى كلامه

فالإسلام تحت الجبر والإكراه لا يحققه وقلبه متشرب للكفر كما أن الكفر تحت الجبر والإكراه لا يحققه والقلب مطمئن بالإيمان.
وبالتالي فالقول بنسخ هذه الآية باطل وحكمها باقٍ مستقر لم يبطله شيء وهو كغيره من الأحكام التي قيل بنسخها وهي لم تنسخ ، ويخشى على القائلين بالنسخ في هذا الموضع والقائلين به جملة بالافتئات على الله وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله إن هم أصروا على هذا القول والله الهادي على سواء السبيل.

{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف:29]

دعوى نسخ آية السيف لقوله تعالى:
{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61]

سنختار ما جاء عند شيخ المفسرين رحمه الله تعالى في هذه الآية لأنه يحيط بأكثر وأوثق ما قيل فيها.وقبل عرض تفسير ابن جرير رحمه الله فسوف نقسم قوله إلى قسمين ، الأول ما نقله من القول بالنسخ ، والقسم الثاني ما نقله من القول بنفي النسخ عن الآية.


  • [*=right]الأقوال المثبتة للنسخ:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة: 5]

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إلى الصلح=(فاجنح لها)، قال: وكانت هذه قبل " براءة ", وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل, فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم, ثم نسخ ذلك بعد في " براءة " فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وقال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ، [سورة التوبة: 36]، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يقولوا " لا إله إلا الله " ويسلموا, وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك.

وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها, وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن " براءة " جاءت بنسخ ذلك, فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: " لا إله إلا الله ".

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لهانسختها الآية التي في " براءة "قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29]

ونقل ابن جرير رحمه الله من سيرة ابن هشام جاء : حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق,(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.



  • [*=right]الأقوال النافية للنسخ:
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.

قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة, فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل ، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه.فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. انتهى كلامه.

وقول الله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله.(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إنما عني به بنو قريظة, وكانوا يهودًا أهلَ كتاب, وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.

وأما قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنـزلت فيه.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم)، قال: قريظة.

بين الإثبات والإبطال
:

أوردنا بعض صور التعارض المتوافرة عند مفسر واحد ، للاستزادة يمكن الرجوع لحجة ابن عاشور رحمه الله بنفي النسخ ،أو قول البغوي بإثبات النسخ ما يعكس الخلاف بين المبطلين والمثبتين.

وهذا المثال يكرس المفهوم الذي سبق أن قدمنا له بأن النسخ بلغ حداً من البطلان أن الفقهاء والأئمة المؤمنين به يبطلونه في موضع ويثبتونه في آخر ، ولكن أبسط قواعد العدل في التعامل مع كتاب الله أن نقدم نفي النسخ عندما يحصل الخلاف فعلى أقل تقدير فإننا بحاجة رفع كلام الله وتنزيهه عن هذه الخلافات فالأصل في قول الله الثبات ونفيه وإبطاله بدون دليل افتئات على الله واعتداء على كلامه وكتابه الكريم.

والقول بإبطال الآية يعني بكل بساطة أن الكافر المحارب تنبغي مقاتلته و إن سالم واستسلم ولا يجوز للمسلمين أن يوقفوا قتاله بل عليهم قتله أينما ثقفوه ، ولو توسل وتراجع ، ونستطيع اليوم أن نشهد نموذجاً عملياً لتطبيق النسخ في هذه الآية حيث لا ينفع المستسلمين استسلاماً ولا شهادة بدعوى نسخ المسالمة والموادعة والصفح والبر في حق المخالف فضلا عن المحارب.​
دعوى نسخ آية السيف لقوله تعالى :

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]


الأقوال المبطلة للآية :يقول ابن جرير رحمه الله : حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله: " وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين " قال: هذه أوّل آية نـزلت في القتال بالمدينة، فلما نـزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نـزلت " براءة "- ولم يذكر عبد الرحمن: " المدينة "..
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم " إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [سورة التوبة: 36]، وهذه الناسخة، وقرأ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى بلغ: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة: 1-5].

القائلون بدرء النسخ والإبطال
:
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية.* ذكر من قال ذلك:

3091- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله: " وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين "، قال: فكتب إليّ: " إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم ".

3092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم " لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار.

3093- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

3094- حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم.

3095- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة: " إني وَجَدتُ آية في كتاب الله: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان ".قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد.وقد دَللنا على معنى " النسخ "، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع .فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا - : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله: " قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.فمعنى قوله: " ولا تعتدوا ": لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس،" إنّ الله لا يُحب المعتدين " الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .

ما يلزم الخلاف هنا
:

لا يمكن قبول الخلاف في هذا الموضع، لأنه ليس خلافاً سائغا ،لأن مؤداه إتيان جرم عظيم في موضعين:

أولهما : الولوغ في دماء محرمة لمن قال بالنسخ .
والثاني وهو الأهم : إبطال آية من كلام الله بغير حق فتعساً لمن اقترف أحدهما فكيف بالاثنين ؟.

ومن تبعات القول بالإبطال هو نسخ تحريم الاعتداء ، فيجوز للقائلين بالنسخ الاعتداء بالمثلة للقتلى واستحلال الفروج والدماء للمحاربين وغيرهم من النساء والأطفال والعجائز والحرث والنسل لأن النهي عن الاعتداء هنا منسوخ فجاز لهم إتيانه بعد إبطال النهي عنه.
وهذا عين الظلم والانحراف عن شريعة الله وعدله ورحمته.

يتبع بإذن الله تعالى ...


 
استدراك بعد التنقيح والإضافة

عين المجازفة والافتئات على الشارع الحكيم بلا دليل.
إن حجج (تعطيل أحكام الله) المسمى بالنسخ واهية ومتناقضة تناقضاً عجيباً ، فتجدهم يقررون أن الحكمة من إبطال الحكم وبقاء الرسم ليحصل ثواب التلاوة للقارئ ، فإن قلت وماذا عن إبطال الرسم وبقاء الحكم ؟ لماذا لم يبقى الرسم للثواب كسابقه كانت الإجابة : لكي يختبر الله عباده ويبتليهم هل يتبعون حكمه أم يتركونه ، وسنرى فيما يلي حجة تناقلها كل مبطلي كلام الله واتخذوا منها حجة على كلام الله فكانت افتئاتاً على الله بلا دليل:
يقول الزركشي رحمه الله في البرهان ناقلاً عن ابن عقيل في كتاب الفنون بشأن الحكمة من نسخ التلاوة وبقاء الحكم : "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).انتهى كلامه ،
وقد نقله عنه أيضاً السيوطي رحمه الله.

وهنا فإن قول كهذا يحمل مجازفات خطيرة وتقريرات مثيرة تنُقل من مصنف الى آخر بلا تفكير ولا مراجعة وكأنها قول معصوم من عبد معصوم ، وأظهر صور الخلل فيه ما يلي :

أولاً
: قرَّر أن سبب رفع التلاوة وبقاء الحكم هو "ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به" أي أن مسألة إبطال التلاوة وحذف الرسم مع بقاء الحكم كان اختباراً لاتباع المسلمين لحكم النسخ بالظن والمسارعة إليه بلا نقاش ولا تثبت ولا تحقق من أن الحذف كان مؤكداً مثبتاً متواتراً أم لا ، بل يكفي مجرد الظن ، وهذا لعمري أدلّ ما يستدل به على بطلان النسخ فلا قول معصوم يلتجئ إليه ولا نص قرآني يعزو إليه بل يطلق الأمر للظن ويجعل من ذلك فضيلة عظيمة بينما كان الظن دوما أكذب الحديث ، وقد ذم الله الظن في كتابه وذمه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته كما سيأتي معنا.

إن الظن ما دخل في أمر من أمور الدنيا إلا كان فاسداً ذميماً فكيف إن كان في أمور الدين ؟؟ ، وكيف إن كان الظن معتمداً عليه في التشريع ؟؟ وكيف إن كان الظن معتمداً عليه في إبطال قول الله تعالى ونقض أحكامه واستبدال شريعته ؟؟ ، ولم يرد الظن على سبيل الخير في القرآن الكريم فلا تجد في كتاب الله ظناً حسناً فيقول تعالى :

وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (النساء 157)

فذم الله اتباع الظن في مسألة صلب المسيح والظن بالغ السوء حتى أنه علامة فارقة في العقيدة النصرانية واليهودية فجعل من المسيح عليه السلام مقتولا مصلوباً ، وهم يدافعون عن ظنهم هذا ولا يعترفون ببطلانه كما يدافع هواة النسخ عن ابطالهم لقول الله.


{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } (يونس:36)

فالاتباع بالظن فعل ذميم ، وهذه الآية ليست فقط ما يرد على من يتبع الظن في ابطال آيات الله وأحكامه بل تعقب في الآية التي تليها بقوله تعالى (وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فكأن الله أنزلها للرد على هذا القول فكيف يقال أن ابطال آيات الله ظنا وريباً من الفضيلة والله تعالى يقول (لا ريب فيه) ؟.

{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [الأنعام:116]

واتباع الظن خرص والخرص كذب واتباع الظن هو اتباع للكذب بلا شك ، ولو اجتمع من في الأرض وأجمعوا على وقوع النسخ والابطال في القرآن فلا تطعهم فإنهم متبعين للظن وإن هم إلا يخرصون.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات 12)

وأولى الظن بالاجتناب هو الظن في شرع الله وفي كتابه وفي كلامه فإنه أخبث الظن وأسوأه ففيه تغيير لشرع الله بغير حق وإبطال لكلام الله وادعاء زور في حق مالا ينبغي لأحد الإدعاء فيه.

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ (النجم 23)

والنسخ ما أنزل الله به من سلطان ومن يتبع النسخ إنما يتبع الظن ، فإن وَصَلَتهُ الحجة وبلغته الرسالة فأبى وأصر كان اتِّباعه عن هوىً وحظ نفس وليس بدليل وكلمة حق من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.

{ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [النجم:28]

فالظن هو أكذب الحديث ، و هو نقيض العلم ، والظن اشنع من الجهل سوءاً فالجهل استتار العلم وانتفاء العمل أما الظن فاعتقاد نقيض الحق واتيان فعل واعتقاد امر لا ينبغي على وجه الحقيقة ، وعلى سبيل المثال فإن اللا أدري أهون شأنا من عابد المسيح أو عابد البقر ،لأنه اقرب للحق إن توافر له الدليل وأراد الله له التوفيق ، ولكن متبع الظن ومن افضى للشرك فيجب إخراجه مما هو فيه قبل إقناعه بأن الإسلام لله دين الحق.


ثانياً: يقرر أن الوحي بالمنام هو درجة دنيا من درجات الوحي تعد في مقام الظن وليست وحياً يقينياً "فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي" وهذا قول يخشى على صاحبه إن اعتقد به ، وقد فاته أن إسماعيل عليه السلام أفقه منهم فقد فقه من قول أبيه أن ما رَآه إبراهيم كان أمراً ربانياً لا يتطرق إليه شك ، فما قاله الرائي (إبراهيم عليه السلام )ولكن قاله الضحية (إبنه اسماعيل عليهما السلام ) فكان ذلك أقوى دليل على قوة رؤيا ابراهيم وصدقها ويقينها ولَم يقل لأبيه إنه ظن يجب تركه بل قال "قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ".

وقد فات عليهم أن النبوة المحمدية بدأت بالرؤيا فهل كانت النبوة في منشأها ظن لا يرقى لليقين ؟ فقد جاء في الحديث الصحيح الذي روي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:

(( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ))

ثم تجد تقريرات عجيبة كهذه بدون دليل ولا قول معصوم يقررون مراد الله بما لم يقله ربنا جل جلاله ولم يقرره نبينا صلى الله عليه وسلم ، فيسببون الأسباب ويعللون الأحكام والإبطال بدون دليل ولا قول من صاحب الأمر ثابت صحيح ، ولكنه من عند غير الله لذلك فنجد فيه اختلافاً كثيراً كما نلحظ هنا ، ثم ينقله واحد من واحد حتى يصطبغ بالقدسية فيصبح معصوماً لا ينبغي عليه الخطأ ، ولكنه خير وليس شر ليتبين الحق من القى السمع وهو شهيد.
 
في إطار البحث عمن قال بنفي النسخ في القرآن ، لم أقع على مثل ما ألفه الدكتور / احمد حجازي السقا رحمه الله وغفر له في كتابه "لا نسخ في القرآن" الصادر من دار الفكر العربي ، الطبعة الأولى (1978/1398) ، ولو أني تصفحته على عجل ولكني سأراجعه وأحيل إليه في مراجعة هذا البحث ، ,وأدعو الإخوة الأعزاء لمطالعة هذا الكتاب :

http://ia902604.us.archive.org/35/items/hicazi.seqqa_La.nesh.quran/hicazi.seqqa_La.nesh.quran.pdf

كذلك تشتمل مكتبة موقع تفسير على كتاب " النسخ في القرآن بين النفي والاثبات" لعبدالمتعال الجبري ، ولو أني لم أقرأه بعد ولكن يشتمل على تفصيل وتأصيل يدرأ النسخ عن القرآن الكريم.
https://media.tafsir.net/ar/books//620/Annasekh_Algabry.pdf

ونستأنف قريباً بإذن الله....
 
من أعجب عجائب النسخ :
إبطال قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) فأصبح هذا الأمر الرباني منسوخ باطل نسخته آية السيف ، فلا تقولوا للناس حسنا بل جزوا رؤوسهم .
فيكفي لكل ذي عقل وقلب أن يعلم بطلان هذا القول بمؤداه ومقتضاه والذي نسب الابطال لأمر من أوامر الله تأولا واجتهادا بلا قول نبوي صحيح ولا آية قاطعة الدلالة تعين هذا الابطال المزعوم متناسين قوله تعالى :
(تلكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) بحديث فلان وفلان ؟ بل حكم الله مبين واضح لا يبطله مبطل ولا يعلو عليه قول : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)؟!

ولكن البعض كلما أتيتهم بآية لا يعقلون ولا يفقهون وينطبق عليهم (جعلوا اصابعهم في اذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكبارا) فلا يحاجك بحجة سوى النسخ واللصق والنقل وترديده واعادته وترداده فأصلح الله قلوبهم وقلوبنا جميعاً

ولنا بإذن الله عودة ...
 
فهم الشيخ محمد رشيد رضا لقوله تعالى :
مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وبعد أن استعرض اقوال العلماء فيها (قال) : والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله - تعالى - به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم ، أي ( ما ننسخ من آية ) نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها [ ص: 344 ] ونترك تأييد نبي آخر ، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها ، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك . ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه ، فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه ، والآية في أصل اللغة هي : الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء ، وسميت جمل القرآن آيات ؛ لأنها بإعجازها حجج على صدق النبي ، ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله - عز وجل - ، ومن قبيل تسمية الخاص باسم العام . تفسير المنار


فقرر رحمه الله تعالى بأن مفهوم آية النسخ لا يوصل لما تكلفة القائلون بإبطال القرآن وأحكامه ، بل كانت الإشارة هنا لدلائل نبوة الأنبياء وشرائعهم التي سبقت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك نسف لركن ركين من قول القائلين بإبطال أحكام الله باسم النسخ ، وهو رحمه الله ينكر كل قول بإبطال النص وبقاء الحكم معتبراً ذلك شبهة في الدين لا تنبغي.

ولنا بعد ذلك بإذن الله عودة .....
 
يقول الحق تبارك وتعالى:
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة
حقَّ لنا أن نتسائل : هل ما أدُّعي َبطلانهُ ونسخهُ من الآيات باقيةٌ مدونةٌ في الكتابِ المكنون ؟؟ أم نسخت منه وبدلت ؟؟ ، فإن قال قائل بل نسخت حتى من الكتاب المكنون فماذا نفعل بالقَسَمِ الذي سبق الآيات ؟؟ وماذا نفعل بأسبقية النزول لدعوى النسخ ؟؟ ، وهل يصح القول بأن القرآن الكريم المكنون في الكتاب ما يزال يحتوي "الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة " ؟؟ وإن كانت محفوظة كما وعد الله في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فهل آية الرجم ستبقى في القرآن المحفوظ ؟؟ وإن كانت كذلك فقد وردت مختلفة بثلاثة عشر صيغة فأي الصيغ المختلفة هو المحفوظ بحفظ الله ؟؟.
وإن قال تعالى : (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ) فهل ما تعهد الله بجمعه وقرآنه مشتمل على المبطل المنسوخ ؟؟ أم لا يشتمل إلا على ما في أيدينا ؟؟.
هل تشتمل الصحف في قوله جل جلاله :(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)) هل تشتمل تلك الصحف المطهرة على الآية المدعاة (الشيخ والشيخة ) (ولا ترغبوا عن آبائكم) وغيرها مما ادعي نسخه ؟؟ أم ستحذف من الصحف المطهرة ؟؟ وكيف تحذف وهي كلام الله -حاشاه تعالى- وماهو الدليل على الجواب والشاهد على صحته ؟؟
ومن يتطوع بالإتيان بالجواب - ومحال ان يقدم عليه عاقل - فهل له أن يدلنا على مرجع قوله من حديث لصاحب الوحي أو قرآن يثبت به جوابه
؟؟.


أم إن هذه الأسئلة هرطقة وانحراف وإعمال للعقل الذي يجب تعطيله وإيقافه وكتم صراخه حتى لو سمع إبطالا لكلام الله وانتهاكاً لحرمة آياته وعبث بأحكامه بدون وجه حق ؟؟
 
متابعة لما سبق بيانه في المشاركة 77 بشأن ما يقول الزركشي رحمه الله في البرهان ناقلاً عن ابن عقيل في كتاب الفنون بشأن الحكمة من نسخ التلاوة وبقاء الحكم : "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي).انتهى كلامه .

وعندما نقرأ هذا الكلام الذي سبق وأن فصلنا فيه وتوصلنا من خلاله إلى أن القول بالنسخ إنما كان بطريق الظن ، فيحق لنا هنا أن نستحضر ما قاله ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى لانطباقه على القول بالنسخ بدقة إذ يقول :

" وَأَضَلُّ الضَّلَالِ " اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْهَوَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ ذَمَّهُمْ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وَقَالَ فِي حَقِّ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} انتهى كلامه.

فأتى من يبطل الوحي بدون قول النبي الناطق بالوحي ويقرر أن قوله هذا إنما كان
بطريق الظن فتأمل.
 
أخي عدنان ، سؤالكم يحتوي على تضمين ، وهو :
أن الاختلاف في تحديد عدد الآيات بين هؤلاء الثلاثة عشر ينقض القول بالنسخ جملة وتفصيلاً . وهذا أمر ليس له مبرر.
إن كنت شخصاً عامياً فاتبع من تثق بعلمه مع اجتناب الهوى، وإن كنت شخصاً عالماً وقد وصلت لدرجة الاجتهاد ، فأنت واجتهادك ، والله عزوجل لا يكلف نفساً إلا وسعها. هذا هو سبيل المؤمنين الذي درجوا عليه.
هذا إن قلنا أن جميع آراء هؤلاء الثلاثة عشر هي أقوال راجحة يصعب ردها ولا أظن الأمر كذلك. أو أنه لا يوجد اتفاق على آيات بعينها تشترك بين الجميع مثلاً.


ولا أدري لو وصل بك الاجتهاد أنه لا يوجد مثال يصح أن يُطبق عليه مبدأ النسخ من الآيات التي بين دفتي المصحف الآن ، فهل هذا يعفيك من إثبات مبدأ النسخ؟ لا أظن ذلك.
فأنت تتكلم عن نسخ الأحكام، وهناك أحكام لم تنسخ ولكن نسخت تلاوتها قرآناً. فماذا تفعل بهذه؟

لكن يبقى السؤال هو
كيف ترد قول الأمة - إن صح التعبير- من الصحابة إلى يومنا هذا بإثباتهم مبدأ النسخ؟ وفيهم اللغوي والمفسر والمحدث والفقيه؟ فيهم عمر وابنه وأنس وأبيّ وعائشة وجابر رضي الله عنهم أجمعين؟ هل يعقل أن تكون مجرد "دعوى" مُررت على الأمة بقرونها ، والمتأخرون الآن يريدون إبطالها؟
أخي @عبدالله الأحمد
هل من حرج في اتباع رأي من قال بعدم النسخ؟
جوّزت لنا أن نتبع من نقتنع برأيه فلا حرج في ذلك إن شاء الله
 
بسم1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لما رأيت الأمر يخلومن ردود ذات شأن تجتزئ كل ما ورد فقرة فقرة وترد عليها بالدليل وتبطل نواتج الدراسة وخلاصتها برد رصين علمي يسترشد بقواعد الشرع والعقل ، فقد أعطيت جزءاً وافراً من وقتي باحثاً بنفسي عن حججٍ وردودٍ لما سبق الاحتجاج به في باب انكار النسخ فلم أجد شيئاً معتبراً ، فقد اقتصرت تعليقات مثبتي النسخ على كلام عام يمكن الاحتجاج به عليهم أنفسهم ، فلا تكاد تجد من الردود إلا نوعين :

أولهما : محاولة اسقاط صاحب الدعوى والبحث في نواياه وعقيدته والتعريض به وبشخصه ظناً بأن ذلك يسند الحجة ويثبت الحق .
ثانيهما : الإتيان بعموميات من الأوامر والنواهي التي تحث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع القرآن الكريم ثم يجعلون طريق القرآن مستحيلاً مفقوداً ممتنعاً إلا عن طريق أولئك القائلين بالنسخ ولا يكفي أن تأخذ من قولهم وترد بل يجب أن تاخذ ولا ترد من قولهم شيئاً وكانهم معصومون عن الزلل وقولهم وحي لا يقبل النقاش ولا تشوبه العلل.

وتعجبت طويلاً من ذلك ، فقد نشأت في مدرسة أهل السنة والجماعة فرأيتها من أقوى الفرق والطوائف حجةً وأكثرهم تسديداً في المناظرة والدعوة والتحقيق والبحث مقارنة بسواهم ، وتعلمت من مآثرهم وتاريخهم اساليب البحث والاحتجاج وإقامة الحجة ، فكيف يضعفون عن قول الحق في هذا الموضع وله ما له من أهمية عظيمة لتعلقه بأشرف الكلام واعظم كتاب وهو القرآن الكريم ؟؟ ، فإما حجة ترد القول رداً لا هشاشة فيه وإما اعتراف وقول حق فوالله لا يعيب المسلم الرجوع للحق ونبذ الباطل بل يعيبه التعصب الأعمى لتحقيق باطل والوقوف خلفه والاحتماء به والتفريط في الأمانة ، والأثر الذي يقول : الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى به ، على ضعفه فمؤداه صحيح وشواهده في سواه كثيرة.

وشواهد الإعراض عن الحق وتبيانه وجدتها في كل مكان أثير فيه هذا الأمر حتى في هذا الملتقى الذي يفترض بنا فيه ان نقدم على المدارسة والبحث والأخذ والرد ، ولكن عوضاً عن ذلك يستطيع القارئ الكريم أن يشهد مدى الإحجام حتى عن الدخول وقراءة ما يُكتَب حتى صارت المواضيع المنشورة خارج هذا الموضع تتحدث عنه وتلمزه ولا تجرؤ عن الدخول فيه أو الرد على حججه ، وكأن هناك خشية من التأثر بما في هذا المبحث من حقائق فيسعى المعارض للهرب من القراءة فصار كما وضعوا اصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم حتى لا يسمعوا ولا يروا ولا يقع الحق في قلوبهم فيضطرهم إلى الإذعان والرجوع عما هم عليه.
ونسأل الله أن يهدينا جميعاً للحق ويصلح فساد قلوبنا ويستعلمنا في طاعته ويجعلنا مما يتبعون أحسن القول وينفرون من الباطل إنه هو الهادي إلى سواء السبيل.

يتبع إن شاء الله ...
 
أخي @عبدالله الأحمد
هل من حرج في اتباع رأي من قال بعدم النسخ؟
جوّزت لنا أن نتبع من نقتنع برأيه فلا حرج في ذلك إن شاء الله

لو قرأت بتأن لما أظنك وصلت لهذا الاستنتاج والذي لم أقل به ولم يقل به عدنان الغامدي أيضاً.
أغلب من تكلم في هذا الموضوع في العصور المتأخرة- وعلى حد علمي- لا يجوزون أن نقول أن هناك نسخ على الرغم أننا نسير خلف من أمرنا القرآن باتباعهم .
و أرجع وأقول أن من قال باستحالة وقوع النسخ في القرآن هم بالضرورة يرون أنه (طعن ) في القرآن وهذا ليس بلازم . والبحث لم يقنعني بهذه النقطة بالذات ولم يقنعني برد قول الصحابة رضي الله عنهم بجرة قلم هذا إن قلنا أن دلالة الآيات مختلف فيها
أصلاً لأن الأمر ليس كذلك.

سؤال للأخ الغامدي :
هل انتهى البحث ؟ أم هناك آيات لم تلحقها بالبحث بعد ؟
 
بسم1
أخي الكريم عبدالله الاحمد
لو تأنيت قليلاً لوجدت ان كلام الأخ رائد خالد سديد وحجته قوية وملزمة لك ولمن يقول مثلك بالنسخ ، فانت وفقك الله لكل خير وجدت عذراً لكل من تخبط فأبطل ما أبطل من كتاب الله باسم النسخ حتى كانوا على ثلاثة عشر رأياً ووسعت في الأمر وبسطته أيما تبسيط فجعلت للمؤمن ان يختار ويتشهى ما يشاء من الابطالات الثلاث عشر لرأي تطمئن له شهوته للنسخ والابطال في كلام الله.

ولكن كلام البشر وتقريرهم بوقوع النسخ لم تتسامح مع مبطليه ، فحاربت وقاتلت كل قول بإبطال مبدأ النسخ دفاعاً عن أولئك المتأولين مع انه رأي مَن يؤخذ مِن قوله ويرد ، والاخ رائد خالد يقول : إن كنت نزهت اقوال العلماء المتأخرين منهم والمتقدمين عن الابطال فإنك لم تنزه كلام الله عن البطلان فوسعت في قبول النسخ ولكنك ضيقت في ابطال كلام المخلوق في حق القرآن الكريم فكن عادلاً يا اخي استوعب منكري النسخ كما استوعبت مبطلي أحكام الله بطرائقهم المتعددة والتي يعد تعددها بطلاناً لا تريد الاقرار به ، فأجحفت واهملت كتاب الله بينما حرصت وحافظت على كلام البشر ، برغم أن كلام الله اولى وأوثق وكلام البشر ابعد واقرب للباطل ، فعلى الأقل اعدل في تقبل من ينزه كتاب الله من العبث بطريق الظن والتوهم.

أما البحث الذي بدأ هنا فلا يزال في أوله حفظك الله فهناك عدد كبير من الآيات لم نورد تبيانها بعد ، وهناك باب كبير اسمه رفع التلاوة وبقاء الحكم سيكون قاصمة ظهر المبطلين وقولهم الباطل بحق كتاب الله تعالى وهو النسخ الذي يعد أكذب الحديث كما قرر علماؤنا رحمهم الله بقولهم أن النسخ إنما كان (بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به) .
فانتظروا إنّا مُنتظرون.
 
حزمة ضوء :
يقول جل شأنه: :{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف:157]
فيا من يدعي أن الله أحل الخمر ثم حرمه ، هل أدركت أنك تنسب لله تعالى أنه يحل الخبائث - حاشاه تعالى - وأنك تنقض بذلك قاعدة في كتاب الله علمت أم جهلت ؟؟ فتأمل.
 
دعوى نسخ آية السيف لقوله تعالى :
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:13]
القائلون بالنسخ والإبطال:
وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول: نسختها آية " براءة ": قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ الآية [سورة التوبة: 29]حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فاعف عنهم واصفح "، قال: نسختها: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة: " فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين "، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم ، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في" براءة " فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة: 29]، وهم أهل الكتاب، فأمر الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية.

مثبتو الآية القائلون بعدم النسخ
:
قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس في قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود.
انتهى كلامه.

الخلاف يحسم القول
:
إن الخلاف يصيِّرُ القول إلى جانب إثبات قول الله وحكمه ونفي ما ناله من محاولة لإبطاله ، بل إن صورة التضارب والخلاف هذه تضيف مسماراً لنعش النسخ والإبطال برمته.
لقد فات على القائلين بالنسخ بأن المسالمة والعفو والصفح كانت من مقتضيات المرحلة وكان أمراً متعلق بموقف القوم من النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، فكان الأمر بعد ذلك بالقتال لمّا ظهرت الخيانة والتآمر منهم ونقض العهود ، فالحكم الذي تنتجه الآيتين مقيد بما يكون من القوم وليس مطلقاً البتة.
ونقض الآية نسخ لكل ما فيها فقوله تعالى (
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فالنسخ نقض العفو والصفح ومبادلة المسالمة التي هم عليها بقتلهم ولو لم يقاتلوا وهو مناقض لسنة الله القائمة على الجزاء من جنس العمل فيُقاتَلُ المقاتل ويسالَمُ المسالم فالقتال ليس غرضاً يتخذ ولكنه وسيلة لها شروطها ، لذلك فنواسخ العفو والصفح التي تحيل حياة المسلم حياة قتال لكل من خالف فأحالت مصالح الأمة المرعية التي تقود للمسالمة والمعاهدة باباً لتكفير الحكام متأولين بهذه النصوص المدعى نسخها لأحكام متبوعة وشرائع مسموعة.ومن اللوازم الخطيرة التي يقتضيها القول بنسخ هذه الآية هو الاعتداء على من لا يجوز الاعتداء عليه ، والعمل بعكس العفو والصفح والاحسان ، فيحتل مكانها الإيذاء والإساءة والجور ، وهذه المعاملة لم يأمر بها ربنا جل جلاله في كل موضع بل قال (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فتكون هذه منسوخة بمقتضى قول الناسخين ، وإن عمل المسلم بمقتضى هذا القول فسوف ينسخ هذا قوله تعالى (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به).
والقرآن مجموعة من القيم السامية العظيمة المترابطة التي أنزلها الله في كتابه على خلقه وما أن يفتئت عليها أحد ويعبث بحقيقتها ويتأولها على غير وجهها حتى يظهر عوار قوله وتناقض فهمه مع بقية الأحكام المترابطة التي يشرح بعضها بعضها وما هذه الآية وما يليها ويسبقها إلا مثال على ذلك.


يتبع بإذن الله تعالى ..
 
الرافضة غلاة وعوام يثبتون النسخ ويؤمنون به فيقول شيخ الطائفة الطوسي عن كيفية النسخ في القرآن ، وهو يقسمها على ثلاث أقسام حيث يقول : ولا يخلو النسخ في القرآن من أقسام ثلاثة:
1ـ نسخ حكمه دون لفظه ، كآية العدة في المتوفى عنها زوجها المتضمنة للسنة ( أ ) ، فإنّ الحكم منسوخ والتلاوة باقية ، وكآية النجوى ( ب ) وآية وجوب ثبات الواحد للعشرة ( د ) فإنّ الحكم مرتفع، والتلاوة باقية ، وهذا يبطل قول من منع جواز النسخ في القرآن ؛ لأنّ الموجود بخلافه .
2ـ ما نسخ لفظه دون حكمه ، كآية الرجم فإنّ وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه ، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف ، وهي قوله : ( والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته ، فإنهما قضيا الشهوة جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
3 ـ ما نسخ لفظه وحكمه ، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة : أنّه كان في ما أنزل الله أنّ عشر رضعات تحرمن ، ونسخ ذلك بخمس عشرة ، فنسخت التلاوة والحكم .
وأمّا الكلام في شرائط النسخ ، فما يصح منها وما لا يصح ، وما يصح أن ينسخ به القرآن ، وما لا يصح أن ينسخ به ، وقد ذكرنا في كتاب العدة ـ في أصول الفقه ـ ولا يليق ذلك بهذا المكان واختلفوا في كيفية النسخ على أربعة أوجه :
قال قوم : يجوز نسخ الحكم والتلاوة من غير إفراد واحد منهما عن الآخر، وقال آخرون : يجوز نسخ الحكم دون التلاوة ، وقال آخرون : يجوز نسخ القرآن من اللوح المحفوظ ، كما ينسخ الكتاب من كتاب قبله ، وقالت فرقة رابعة : يجوز نسخ التلاوة وحدها، والحكم وحده ونسخهما معا ، وهو الصحيح . انتهى
وفي ذلك تفصيل طويل.

الملفت انني أثناء مناظرتي مع أحدهم أخذت احتج بآيات مدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى :
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح:29]
وغيرها ، فما كان منه إلا أن قرر أنها منسوخة مستدلا بما حصل منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حد زعمه.
فوجدت أنه لا يختلف عن أصحابنا في شيء ، فكلا الفريقين يبطلان كلام الله بلا وحي ولا حجة ، ويلغيان كلام الله بالاجتهاد والظن من غير استفصال لطريق مقطوع به. كما قرر ابن عقيل وتبعها في ذلك الزركشي والسيوطي رحمهم الله تعالى.

يتبع بإذنه تعالى ...
 
وَمِمَّا تقدم فقد رأيت في غير موضع أن هذه الفرية متعدية الأثر ، فلم تقتصر جائحتها على إبطال أحكام حية قائمة بل تعدته بأن أصبحت ذريعة للرافضة يسوِّغون بها طعنهم في النبي الكريم وآله وصحبه وذريعة للخوارج في عدوانهم على حدود الله واقترافهم المذابح والمجازر وهتك الحرمات وسفك الدماء بغير حق، وأصبحت هذه الفرية ذريعة لكل صاحب هوىً يعبث بآيات الله تحت لحافها ، فأي دليل بعد ذلك على بطلانها ؟ .
فكان رد هذه الفرية وإبطالها من أقوى وأجدر وسائل سد ذرائع المبتدعة وصيانة كتاب الله العزيز من التحريف والتبديل والتغيير عدواناً بالظن والوهم من غير استيثاق ولا استفصال من طريق مقطوع به موثوق في مبدأه ومنتهاه لا يتطرق إليه الشك ولا يعتريه الكذب والظن والافتئات على الشارع الحكيم.

يتبع بإذنه تعالى ...
 
"فقك الله لكل خير وجدت عذراً لكل من تخبط فأبطل ما أبطل من كتاب الله باسم النسخ حتى كانوا على ثلاثة عشر رأياً ووسعت في الأمر وبسطته أيما تبسيط فجعلت للمؤمن ان يختار ويتشهى ما يشاء من الابطالات الثلاث عشر لرأي تطمئن له شهوته للنسخ والابطال في كلام الله."
باختصار : لم أقل بهذا !


 
بل خيرت وفصلت في المشاركة ١٤ وأفتيت بحالتين الاولى :
إن كنت شخصاً عامياً فاتبع من تثق بعلمه مع اجتناب الهوى.
والحالة الثانية :
وإن كنت شخصاً عالماً وقد وصلت لدرجة الاجتهاد ، فأنت واجتهادك ، والله عزوجل لا يكلف نفساً إلا وسعها. هذا هو سبيل المؤمنين الذي درجوا عليه

ولا شك أنك بين إحدى الحالتين و في الحالين لك أن تختار بين الآراء الثلاثة عشر في المنسوخ فلك أن تؤمن بكل ما ادعي نسخه ولك أن تقتصر على ما تشاء ، واسقطت قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) في غير محله فهو متعلق بالتكاليف والعبادات وليس الإيمان ، فلا يقال لك أن تؤمن بما تشاء وتترك ما تشاء تحت عنوان لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فالعبادات تؤتى على قدر الوسع والقدرة ، أما الإيمان فيؤتى كاملا غير منقوص ،
ولعمري إن النسخ ليقدح ويجرح الإيمان بسلامة كتاب الله ، وينسب له النقص بوجود احكام ابطل رسمها وبقي أثرها ظنا وتوهما بدون استفصال لطريق مقطوع به كما قرر ابن عقيل والسيوطي والزركشي الذين قرروا أن ذلك ظنا وليس يقينا ولست انا من يقول بذلك.
فإنما قلنا فليتسع صدرك لمنكري فرية النسخ كما اتسع صدرك للمبطلين فرفضت ، فالمهم عندك هو إثبات النسخ بأي وسيلة ،ولكنك لم تخبرنا اخي عبدالله كم من المنسوخ تثبت وكم عدد الايات التي ترفض نسخها ؟؟.
 
بل هذا افتراء علي !
مشاركتك رقم ٨٦ هي محض افتراء.
إن لم تفهم ما كتبت فهذه مشكلتك . أما تكتب عني مالم أقل فهذا لا أجيزه لك ولا غيرك.

( شهوته للنسخ لإبطال كلام الله ) ! من قال بهذا !؟
هذا فهمك أنت !
وأنا أقول لك كلامك عن القول بالنسخ هو مسحوب على جميع من قالوا به من أئمة المسلمين مبتدئاً بالصحابة رضي الله عنهم ولا مناص لك من هذا .
أكتفي بهذ القدر .
 
بسم1
قال تعالي{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
}

قال تعالي{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 105)}
 
اخي الحبيب عبدالله الأحمد
اذا كان ما فهمته وفهمه الإخوة مما كتبت يخالف حقيقة ما تعتقد فهلا وضحت موقفك بشكل قاطع وواضح من الخلافات الثلاثة عشر وبأيها تعتقد وأيها تراه حقا ؟ وماذا عن بقية الآراء التي تبطل ما اثبت سواها ؟؟

اخي الاستاذ علي سبيع:
جزاك الله خيرا ، وتجاذب الآراء في هذه المسألة لا يفسد عندي الود والمحبة في الله والاشفاق ، لا يفسد لهما اصلا ولا فرعا ، وحتى لو فسد ذلك عند أخي وأساء فهو في حل من حقي وله مني خالص الدعاء وان كنت أسأت لشخص احد فليعفوا وليصفح .
أما النقاش والاحتجاج والتساؤل فلا يكون في الأمور المجمع عليها فقد انتهى امرها ، بل يكون فيما اختلفت الآراء حولها.
وبالمناسبة فأظنني قرأت لك أن فعل الخضر نسخا لم يعترض عليه موسى عليه السلام ، فهل يشبه ما وقع بين موسى والخضر عليهم السلام ما يقع الان في مسألة النسخ من حيث اطراف المسألة وحقيقتها وان كان كذلك فهلا بينت حفظك الله وجه الشبه ؟
 
بسم1

دعوى نسخ آية الوصية بآية المواريث

دعوى نسخ قوله تعالى :
[
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
] - البقرة 180
بقوله تعالى :
[
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
] - النساء 11


التساهل والاختلاف :
مما يثير الاستغراب هذا التساهل في تعطيل وابطال كلام الله بالوهم والظن في حين كان الأولى التحرز والإحجام والتورع عن الخوض بما يبطل كلام الله أو يؤدي لتعطيله .
ولأن النسخ صيره الكثير من العلماء عنوانا أصوليا وشرعيا - وهو ليس كذلك- يحتمون به ويسوغون من خلاله فعلا شنيعا كهذا فقد توسعوا فيه واجتهدوا واعملوا رأيهم فضربوا الكتاب بعضه ببعض ، وما زاد الجرأة على كلام الله أن مخالفيهم لا يرون في النسخ بأسا إنما يختلفون في طبيعة النسخ هل هو جزئي أم كلي ، وفي أحسن الأحوال يرى بعضهم دخول هذه الآية أو تلك تحت النسخ من عدمه ، فهم يقرون النسخ في الجملة ويختلفون في نسبته هنا لهذه الآية أو عدمها.
والقول بنسخ آية الوصية بآية المواريث إحدى صور هذا التساهل والبعد عن التحرز والتحوط من الخوض في كتاب الله وضرب آياته بعضها ببعض ، ومخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
"إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوه ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه "
فضربوا آية الوصية بآية الميراث فلا يعلم هل كان سببه مجازفة أم الجهل بمآل قولهم أم هو عجز عن فهم كتاب الله ؟
وآية الوصية توجب الميراث ولا تخالفه وآية الميراث تحيل إلى آية الوصية وتقدم الوصية على الميراث ، فالله جل وعلا يأمر المؤمنين بقسمة أموالهم قبل موتهم بين مستحقيها كما حكم وشرع فكانت آية الوصية إجمالا وأتت آية المواريث شرحا وتفصيلا ، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله (حقا على المتقين) والتقوى يكون باتباع كتاب الله وشرعه وهو مضمون موضح توضيحا مبينا في آية المواريث .
وقد فات المبطلين قوله تعالى في الآية التي يدعى بأنها ناسخة أنها في حقيقتها وبرغم أنها تفصيل لمجمل فهي تحيل على الآية التي يدعى انها نسخت في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) فأي وصية يقدمها الله على الفرائض يكتبها للوارثين ؟ إلا ما جاء في آية الوصية ، فبذلك يتبين الترابط المعنوي والشرعي بينهما فلكل منهما وظيفة وتوجيه لا غنى فيه عن وجود الآخر .
واستعرض في هذا البحث أقوال المفسرين رحمهم الله المثبتة للنسخ والنافية له مستعينين بالله تعالى ثم بتفصيل شيخ المفسرين رحمه الله حيث أحاط بأقوال عديدة مما جاء عند الفرق الثلاث ، فرقة تنفي النسخ عنها ، وفرقة تقول بنسخ جزء منها وفرقة ثالثة تقول بنسخها جملة، فنقول وبالله التوفيق:

تقديم الطبري رحمه الله :
القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: " كُتب عليكم "، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟
قيل: نعم.
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟
قيل : نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: قول الله تعالى ذكره: " كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين "، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة: 183]، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟
قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
- حدثني سَلم بن جنادة. قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال]، ولا كرامة..
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.
- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.
- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.

واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ، فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:
2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.
-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.

القائلون بالنسخ للوارثين وبقاء الوصية لسواهم :
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
ذكر من قال ذلك:
- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.
- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. .
- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: " الوصية للوالدين والأقربين " قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [سورة النساء: 11]، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : " إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: " كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف " قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل " سورة النساء ", فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: " إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، قالا في القرابة.
2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.


القائلون بنسخ الآية جملة :
وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين " الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال، نُسخت هذه.
- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: " إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا " إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.
- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في" سُورة النساء "، الآيةَ في" سُورة البقرة " في شأن الوصية.
- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : " إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين " قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.
- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في" سورة النساء ": يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [سورة النساء: 11]
- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين "، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها " النساء "، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .
- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [سورة الأنفال: 75].
- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.


مفهوم الآية الكريمة:
إن القول بنسخ وإبطال حكم هذه الآية الكريمة وتبديله لم يكن بنص نبوي ثابت صحيح ينقض الآية ويفيد بنسخها وإبطال حكمها ، إنما كان كما قدمنا نسخ بتوهّم وجود التعارض بين الآيتين والتعارض لا وجود له فابطلوا وبدلوا مالا يحق لهم أن يبدلونه من بعد ما سمعوه ، ذلك أن الآية الكريمة لها توجيه قوي يعارض المدعى بأنها ناسخة البتة :
أن الآية المدعى أنها باطلة إنما هي عامة جرى تخصيصها بما ادُّعيَ أنها ناسخة ، فالوصية واجب على كل مسلم حين الاحتضار أو قبله (بالمعروف) أي وفق ما شرع الله من حق ونصيب لكل وارث (للوالدين والأقربين) في سورة النساء ، فللوالدين وصية بما فرض الله لهما من حق إن كانا ممن يستحق الميراث من شروطه ، فإن لم يكونا (كلاهما أو أحدهما) جاز للمورث أن يهب لهما شيئا غير ما نصت عليه آية الميراث وكانت هبته مما أمر الله به من معروف (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) إن منع الميراث عنهما مانع ككفر أو دم.
والأقربون من الموصي إن كانوا ممن يرث قُسِمَ لَهُم حَقهم ، وإن أراد المورث أن يهب لهم شيئاً ويوصي لهم مما ترك جاز له ذلك ، فالله تعالى عندما يقول (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) إنما كان يشير لهذا ، فإن قسمة الميراث إنما تحصل بعد إخراج الوصية والدين وليس قبله ، فإن ربُّ المال أولى بماله وقسمته بالمعروف وصية لمن شاء ، فإن مات ولم يوصِ قُسِم ميراثه بالمعروف بعد سداد دينه ، فإن كان قد أوصى لغير وارث ولم يراعي في ذلك معروفاً كان إثم ذلك عليه.
فكانت آية الوصية إجمالاً وآية المواريث تفصيلاً لها لا تعارض بينهما البتة ، ولعلنا في هذا الباب نورد ما جاء في تفسير المنار من احتجاج وجيه يقول فيه رحمه الله:
قال البيضاوي : وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السلام : ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) وفيه نظر ; لأن آية المواريث لا تعارضه ، بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد ، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر ا هـ . أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه فكيف ينسخ القرآن وكله قطعي ؟ وقد زاد الأستاذ الإمام عليه القول بأنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا ، وبأن السياق ينافي النسخ ; فإن الله تعالى إذا شرع للناس حكما وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا من كونه حقا على المتقين ، ومن وعيد من بدله ، وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إن الوصية في [ ص: 110 ] آية المواريث مخصوصة بغير الوارث ، بأن يخص القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلف به قلوبهما ، وقد أوصى الله تعالى بحسن معاملة الوالدين وإن كانا كافرين ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) ( 29 : 8 ) الآية ، وفي آية لقمان بعد الأمر بالشكر لله ولهما ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ) ( 31 : 15 ) الآية .
أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصية لهما بشيء من ماله الكثير ( قال ) : وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا والبعض الآخر فقيرا . مثال ذلك أن يطلق أبوه أمه وهو غني وهي لا عائل لها إلا ولدها ويرى أن ما يصيبها من التركة لا يكفيها ، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزا عن الكسب فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه لا يحتم أن يساوي الغني الفقير ، والقادر على الكسب من يعجز عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة ، كما أنهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدما على أمر الإرث ، أو يجعل نفاذ هذا مشروطا بنفاذ ذلك قبله ، ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم ; لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانا ، فقد قال في آيات الإرث من سورة النساء : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) ( 4 : 12 ) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك .


أقول : ورأيت الألوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أن آية الإرث نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق ، وأن الله تعالى رتب الميراث على وصية منكرة ، والوصية الأولى كانت معهودة ، فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود ، فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة ; لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ ، كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ ا هـ .
فأما دعواه الاتفاق في التقدم والتأخر فلا دليل عليها ، وأما تأويله فظاهر البطلان ، وقاعدة الإطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على إطلاقها ; لأن شرع الوصية على الإطلاق لا ينافي شرع الوصية لصنف مخصوص ، ونظير هذا الأمر بمواساة الفقراء مطلقا ، والأمر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم لا يتعارضان ، ولا يصح أن يكون الثاني منهما مبطلا للأول ، إلا إذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك ، وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض [ ص: 111 ] المطلق والمقيد ، وإنما آية الوصية خاصة ، وذكر الوصية منكرة في آية الإرث يفيد الإطلاق الذي يشمل ذلك الخاص وغيره ، فإن سلمنا لذلك الحنفي أن آية الميراث متأخرة ، فلا نسلم له أنه كان يجب أن تذكر فيها الوصية بالتعريف لتدل على الوصية المعهودة ; إذ لو رتب الإرث على الوصية المعهودة لما جازت الوصية لغير الوالدين والأقربين ، ولو كان الأسلوب العربي يقتضي ما قاله لما قال علي وابن عباس وغيرهما من السلف بالوصية للوالدين والأقربين على ما تقدم ، وقد نقل ذلك الألوسي نفسه بعد ما تقدم عنه ، ولكنه سمى التخصيص نسخا ، فنقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا يرث من الوالدين والأقربين ، كأن يكون الوالدان كافرين . قال وروي عن علي كرم الله وجهه : من لم يوص عند موته لذوي قرابته - ممن لم يرث - فقد ختم عمله بمعصيته . ثم ذكر أن الأكثرين قالوا بأن هذه الوصية مستحبة لا واجبة ، وسمى هذا كغيره نسخا للوجوب . ولنا أن نقول إن أكثر علماء الأمة وأئمة السلف يقولون إن هذه الوصية المذكورة في الآية مشروعة ، ولكن منهم من يقول بعمومها ، ومنهم من يقول إنها خاصة بغير الوارث ، فحكمها إذا لم يبطل . فما هذا الحرص على إثبات نسخها ، مع تأكيد الله تعالى إياها والوعيد على تبديلها ؟ إن هذا إلا تأثير التقليد .
فقد علم مما تقدم أن آية المواريث لا تعارض آية الوصية ، فيقال بأنها ناسخة لها إذا علم أنها بعدها . وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقي الأمة له بالقبول ليصلح ناسخا ، على أنه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به فلم يروه أحد منهما مسندا ، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس . وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه ، وإنما حسنه الترمذي ; لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين ، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة . وحديث ابن عباس معلول ; إذ هو من رواية عطاء عنه وقد قيل إنه عطاء الخرساني ، وهو لم يسمع من ابن عباس ، وقيل عطاء بن أبي رباح ، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه ، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس ، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه ، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة ، والذي صححها هو الترمذي ، وهو من المتساهلين في التصحيح ، وقد علمت أن البخاري ومسلما لم يرضياها ; فهل يقال إن حديثا كهذا تلقته الأمة بالقبول ؟ انتهى كلامه رحمه الله.
الآية التالية تتوعد المبطلين:
أقول إن إبطال الحكم يخبر عنه وجه لافت في الآية اللاحقة فيقول تعالى:
[ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] - البقرة 181
فمن بدل الحكم بالوصية في الآية السابقة بعدما سمعه في كتاب الله فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، فالناسخون مبطلون مبدلون لحكم الله ، فالضمير المتجه إلى الحكم أوجه من الإشارة للوصية ، إذ أن الإشارة للوصية تقتضي أن يرد في الآية التالية قوله ( فمن بدلها من بعد ما سمعها) أي الوصية ولكنه قال ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ) أي الحكم والأمر في هذه السورة ، والقائلون بالنسخ يبدلونه بآية النساء ويبطلون الحكم بغير وجه حق ولا دليل ولا هدىً ولا كتاب منير.
وأعجب من كل موضع يقال فيه بالنسخ والإبطال فلا بد أن تجد دلائل بطلان القول في نسق الآيات وسياقها في دلالة إيمانية إعجازية عظيمة ترد بذاتها لمن ألقى السمع ، وأما من أبى فنسأل الله له الهداية قبل أن يحرم من الانتفاع بِتوبةٍ ورجوع.

والله تعالى أعلم​


يتبع إن شاء الله تعالى...
 
أضيف لما تقدم في ابطال دعوى نسخ آية الوصية :

نسبة القول بالنسخ إحالة باطلة :
في ابطالنا لدعوى النسخ عن قوله تعالى " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" الآية ، مر معنا صورة من صور التضارب في نسبة القول بالنسخ لابن عباس رضي الله عنهما ، فقد نقل الطبري رحمه الله أقوالا متضاربة يثبت ابن عباس النسخ فيها وأخرى في ذات الموضع ينفي وقوع النسخ فوقع في نفسي أن الباطل لا بد فيه من ثغرات وتعارضات تفضحه ، فكيف يثبت ابن عباس وينسخ في الوقت ذاته ؟ وفي ماذا ؟ في كتاب الله الذي يفترض بنا أولا نقبل فيه إلا أوثق الأقوال وأصحها سندا ومتنا وخالية من التعارض والخلل؟.
واليوم نجد الأمر ذاته في آية الوصية و الميراث ، فنجد ما ينسب لابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين " قال، "نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث".
أي نسب لابن عباس قوله بالنسخ في حق الوالدين وبقاء الأقربين ضمن الوارثين.
ولكن نجده في موضعين آخرين ينسب إليه شيء آخر بأنه قرر أن الآية منسوخة برمتها وليس ما يتعلق بالوالدين فحسب بل والأقربين أيضا :
- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم " سورة البقرة " ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: " إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين " قال، نُسخت هذه.
- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين "، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
فكيف نحتطب ليلا بأقوال منسوبة لرجل كابن عباس رضي الله عنهما في غير موضع متناقضة متضاربة ، والأشد أن كل ما نقرأه منسوبا لابن عباس أو قتادة أو مجاهد نجد نسبة القول بالنسخ بدون أن تجد إحالة لحديث صحيح ثابت ، ونحن نعلم أن الأحاديث النبوية لا تؤخذ إلا بعد تمحيص وتدقيق وتخريج فكيف نأخذ قول غير معصوم ينسب إليه القول بالنسخ بدون تأصيل ولا تفصيل ولا سند متصل لصاحب الوحي ؟.
فلا تجد موضعا يدعى فيه النسخ حتى تجد قال فلان : منسوخة ، قال مجاهد : هذه نسخت ، قال قتادة : نسخت بآية كذا ..
فلنتق الله ربنا ولا نقبل الا ما ثبت وتواتر وصح إسناده واتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا كتاب الله وكلامه لا يقول فيه أي أحد بإبطال أو تقرير من عنده بلا قول معصوم ، وما أدركت أنه قال ذلك القول أصلا؟.
بل نثق بأن أولئك العلماء الأجلاء لا يندفعون لقول كهذا بلا علم وبلا أصول موثوقة وسلسلة صادقة مصدوقة ، يتورعون ويحذرون من القول بإبطال كلام الله بهذه الصورة.
 
فساد الاستدلال على النسخ:
من أظهر الاستدلالات الفاسدة التي يتوج بها القائلون بالنسخ تاصيلهم ودعواهم هو أثر منسوب تارة لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وتارة لابن عباس رضي الله عنهما :
عن أبي عبد الرحمن قال : (مر علي رضي الله عنه على قاض فقال له أتعرف الناسخ من والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت) .
وعن سعيد بن أبي الحسن : أنه لقي أبا يحيى المعرف فقال له أعرفوني أعرفوني يا سعيد أني أنا هو قال ما عرفت أنك هو قال فإني أنا هو : مر بي علي رضي الله عنه وأنا أقض بالكوفة فقال لي : من أنت فقلت أنا أبو يحيى فقال لست بأبي يحيى ولكنك تقول أعرفوني أعرفوني ثم قال : هل علمت بالناسخ من المنسوخ قلت لا قال هلكت وأهلكت فما عدت بعد ذلك أقض على أحد أنافعك ذلك يا سعيد .
أما هنا فنسبة القول لابن عباس رضي الله عنهما :
عن الضحاك بن مزاحم قال : مر ابن عباس رضي الله عنهما بقاض يقضي فركضه برجله قال : أتدري ما الناسخ من المنسوخ قال : ومن يعرف الناسخ من المنسوخ قال : وما تدري ما الناسخ من المنسوخ قال : لا قال : هلكت وأهلكت.
ونقول :
أولاً : إن أول معالم كذب الحديث هو عدم معرفة قائله أهو علي ابن ابي طالب أم ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين ، فلا يعتد بقول مرسل كهذا لإبطال أحكام الله أو الاستدلال به مسوغاً لقبول النسخ.
ثانياً: من اين للمبطلين القول بأنه دليل على جواز نسخ أحكام القرآن ؟ وعلى فرض صحة القول فإنه لا يفيد جواز وقوع النسخ في كتاب الله ، فالنسخ في أصله نسخ القرآن وأحكامه لما سبقه من الشرائع والأحكام وليس النسخ في القرآن ذاته ، فيكون معناه صحيح إن حمل على وجهه المفهوم من ظاهر آية النسخ.
ثالثاً : لو تسائلنا ما وجه الهلاك في الجهل بالناسخ والمنسوخ ؟؟ لوجدنا الجواب حاضراً قوياً وجيهاً وهو أن القول بنسخ القرآن جهل بحقيقة النسخ يؤدي لابطال حكم قائم فاي هلاك وإهلاك أشد من هذا ؟.
 
الوجه الحقيقي لمفهوم النسخ:
إن التعريف المأثور للنسخ والذي جرى تناقله من عصر إلى عصر لم يحض بالتمحيص والتفنيد بل تم تلقيه بالقبول التام بلا نقاش ولا رد ، في الوقت الذي ينطوي على مغالطات لغوية بائنة واضحة فيقولون إن تعريف النسخ حسب ما جاء في المعتصر من شرح المختصر في علم الاصول للمنياوي ما نصه :
النسخ لغة: الإزالة سواء أقيم شيء مكانه أم لا.
المعنى الأول:
قال ابن منظور في اللسان مادة (ن س خ): (والنَّسْخ: إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه؛ وفي التنزيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] ... ).
وقال الزبيدي في "تاج العروس": (نسخ: (نَسخه) بِهِ، (كَمَنَعَه)، ينسَخُه، وانتَسَخَه: (أَزَالَهُ) به وأَدالَهُ. والشيءُ يَنسَخ الشيْءَ نَسْخاً، أَي يُزِيله ويكون مكانَه. والعرب تقول: نَسَخَت الشَّمسُ الظِّلَّ وانتَسَخَتْه: أَزالَتْه، والمعنَى أَذْهَبَت الظِّلَّ وَحلَّتْ مَحلَّه ... ). انتهى كلامه.

وحقيقة مفهوم النسخ أنه التكرار ، فالناسخ يكرر الشيء مع بقاء أصله ونعلم أن نساخ الكتب يقومون بتكرارها لانتاج نسخ عديدة بدون إزالة النسخة الأصلية.
والشمس لا تنسخ الظل بمعنى إزالته بل تكرر صورة الشيء بفعل تكوين ظل له ، فكيف نقرأ القول ونمرّ عليه مروراً بدون أن نعقل ما نقرأ؟ ، إن الظلام هو ما يزيل الظل وليست الشمس بل إنها تنسخ الشيء حتى تراه ومثله معه نسخة مكررة منه على صورته فإذا غابت غاب بغيابها الظل واختفت نسخ الاشياء المكررة من صورتها.
وهذا المعنى متسق ومتفق مع قوله تعالى :
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:106]
فالله ينسخ (يكرر) الأحكام بين الشرائع فتجد أحكاما وردت في التوراة ونسخها الله وكررها في القرآن الكريم ، وهناك من الأحكام ما انساها أي أبطلها وألغاها وهنا يتفق الفهم مع دخول (أو) في قوله (أَوْ نُنْسِهَا) فوجب أن يكون النسخ مناقض للإنساء وهذا لا غبار عليه فلا معنى للمفردتين إن كانتا تفيدان المعنى ذاته ، وحقيقة المراد يعني ( ما نكرر من حكم سابق أو نلغيه وننسيه ، نأت بخير منه أو مثله) فإن وقع الإنساء فسيأتي الله بخير مما أنساه وإن وقع النسخ فسيأتي الله بمثل ما كان في الشرائع السابقة أي نسخة مكررة منه .
وهنا نفهم ايضا المحو والاثبات في قوله جل وعلا :

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) الرعد
فالاثبات نسخ وتكرار ، والمحو انساء وإزالة ، والمثبت والمزال كلاهما في ام الكتاب وهو أصل كل الشرائع عند الله تعالى ، فالحكم المنسوخ والمتكرر أوجده الله تعالى في أم الكتاب ، ثم نسخه وكرره فيما أوحاه تعالى لرسول من رسله ، ثم نسخه وكرره لمن أتى بعد ذلك الرسول كمثل موسى ومحمد عليهما افضل الصلاة والسلام.
وللاستدلال على مفهوم النسخ بأنه التكرار وليس الإزالة فلنقرأ قوله تعالى :
{ هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29]
فالله وكّل بكل مخلوق مكلف ملك ينسخ أفعاله ويكتبها ثم تنسخ الى كتاب اعمال العبد فكان معنى النسخ هو التكرار وليس الإزالة فعمل العبد محفوظ لدى أعضاءه (أيديهم وارجلهم وجلودهم) ومكتوب نسخة منه لدى كتاب الملكين ، ومنسوخ في كتاب الأعمال الذي يقرأه العبد حال الحساب.
وحتى لو طبقنا مفهوم النسخ بمعنى (النقل) فإنه لا ينطبق على ما قرر بشأن النسخ ، فالنقل يعني ازالته من موضعه ونقله لموضع آخر وهذا ليس وظيفة من وظائف الإبطال الذي يسمونه بالنسخ
إننا إذا فهمنا النسخ على المعنى الأقرب والأشهر وهو التكرار فإن فرية الابطال كلها تزول بدون مزيد بحث وتقصي إلا أننا في هذا البحث لن تكتفي باتباع المعنى الحقيقي بل حتى بالمعنى الذي عسف عسفا ليكون النسخ أبطالا متهافت لا يصمد أمام دليل ولكننا سنمضي في مسايرة قول المبطلين حتى نثبت أنه برغم قبول مفهوم النسخ كإزالة فإنه لايستقيم ولا يمكن أن يقبل.
 
حول إدعاء النسخ في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] حدَّثنا أحمدُ بنُ محمد المروزي، حدثني علي بنُ الحسين بن واقدٍ، عن أبيه، عن يزيدَ النحويٌ، عن عكرمةَ
عن ابن عباس {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فَنُسِخَ ذلك بآيةِ الميراث، بما فُرض لهن مِنَ الرُبُعِ والثمُنِ، ونسخ أجل الحول بأن جُعِلَ أجلُها أربعةَ أشهرٍ وعشراً (1).
قال شعيب الأرناؤوط معلقا عليه في تحقيقة لسنن أبي داود :605/3 " إسناده حسن. علي بن الحسين بن واقد حسن الحديث. يزيد النحوي: هو يزيد بن أبي سعيد، وعكرمة: هو مولى ابن عباس.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5706) من طريق إسحاق بن راهويه، عن على ابن الحُسين، بهذا الإسناد.وأخرجه النسائي (5707) من طريق سماك، عن عكرمة، به. فجعله من قول عكرمة.".
وقال أيضا بنفس الهامش: " وقد ذهب بعض السلف إلى أن الآية محكمة، فقال: إنما خص من الحول بعضه وبقي البعض وصية لها إن شاءت أقامت، وإن شاءت خرجت، والعدة كما هي واجب عليها وقد روى ذلك البخاري (4531) عن مجاهد قال: دلت الآية الأولى وهي {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها، ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، أن ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يُمكَّنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً، ولا يمنعن من ذلك لقوله: (غير إخراج) فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: (فإن خرجن ...) قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" 1/ 429: وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية.".

فهل لفظة نسختها التي يستعملها " عبد الله بن عباس" رضي الله عنه هي في معنى " خصصتها" على معهود السلف في الإستعمال ؟؟ أم نسختها عنده بمعنى أزالتها , وأبطلتها , على المعنى الذي أحدثه المتأخرون لمفهوم النسخ ؟؟
وإذا كان ابن عباس قصد النسخ الذي هو "البطلان" و"الإزالة", فماذا يحمل السلف ومنهم "مجاهد" في رواية البخاري , على مخالفته ؟؟
 
عودة
أعلى