دعوى النسخ في آيتي المصابرة
يقول الحق جلَّ وعلا:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} [الأنفال65]
يُدَّعَى نسخها بقوله تعالى:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّـهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66]
من أشهر دعاوى وقوع نسخ الأحكام في القرآن الكريم دعوى تناسخ آيتي المصابرة ، والحقيقة أن النسخ بمعنى الإبطال منتفٍ في هذا الموضع ولا يوجد هنا إبطال لحكم شرعي لا من قريب ولا من بعيد ولنتتبع مصداق ذلك فيما يلي :
أولاً :
مفهوم الغلبة في القرآن الكريم :
إن استعمال وتوظيف هذه المفردة في الآية يرد القول بأن المراد القتال ، فالآية تقرر تحقق
الغلبة للمؤمنين بحصول تأييد الله لهم إن قاتل منهم عشرون صابرون فإن الله يؤيدهم على عدوهم وتتحقق لهم
الغلبة على عشرة أضعاف عددهم ، فلما دبّ فيهم الضعف أي ضعف الإيمان بدخول مسلمين جدد لم يستقر في قلوبهم الإيمان خف تأييد الله لهم فلم يعد التأييد لهم موازٍ للعدد الذي كانوا عليه وهذا هو مفهوم التخفيف.
ولو رجعنا لمعاجم اللغة لنفهم مادة "
غلب" لوجدنا ما يلي :
جاء في مفردات الراغب :
الغَلَبَةُ القهر يقال: غَلَبْتُهُ غَلْباً وغَلَبَةً وغَلَباً ، فأنا غَالِبٌ.
قال تعالى:
﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم : 1-3]
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ [البقرة : 249]
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال : 65]
﴿يَغْلِبُوا أَلْفاً﴾ [الأنفال : 65]
﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة : 21]
﴿لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ﴾ [الأنفال : 48]
﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ﴾ [الأعراف : 113]
﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ﴾ [الشعراء : 44]
﴿فَغُلِبُوا هُنالِكَ﴾ [الأعراف : 119]
﴿أَفَهُمُ الْغالِبُونَ﴾ [الأنبياء : 44]
﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران : 12]
﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال : 36]
وغَلَبَ عليه كذا أي:
استولى.
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [المؤمنون : 106]
قيل: وأصل غَلَبَتْ أن تناول وتصيب غَلَبَ رقبته، والْأَغْلَبُ: الغليظ الرّقبة، يقال: رجل أَغْلَبُ، وامرأة غَلْبَاءُ، وهضبة غَلْبَاءُ، كقولك: هضبة عنقاء ورقباء، أي: عظيمة العنق والرّقبة، والجمع: غُلْبٌ، قال :وَحَدائِقَ غُلْباً [عبس : 30] .
انتهى كلامه.
ولو تتبعنا مواضع الغلبة في القرآن الكريم لما وجدناها تشير للقتال المجرد بل تشير للانتصار في القتال والفوز وقهر العدو ومنها على سبيل المثال :
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:249]
فالمراد هنا بأن القلة ينتفي تأثيرها مع الصبر والإيمان فتحصل
الغلبة رغم القلة ، وتحصل الهزيمة للعدو رغم كثرته قوته المادية ، فكانت الغلبة هنا تحمل الدلالة على النصر وليس القتال المجرد.
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:74]
ففرق هنا سبحانه وتعالى بين القتال وبين الغلبة والقتل ، فكان المؤمن غالباً أو مقتولاً فإنه سينال من الله أجراً عظيماً.
{ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } [الأعراف:119]
قال ابن جرير رحمه الله في ذلك :
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه= " هنالك "، عند ذلك "
وانقلبوا صاغرين "، يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصغر مقهورين. . يقال منه: " صغِرَ الرجل يصْغَر صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. انتهى كلامه.
والمراد مهزومين مغلوبين مقهورين ، في حق فرعون وقومه حين أقيم التحدي يوم الزينة ، فكانت الغلبة هذا تشير حصراً للنصر وقهر العدو وليس للقتال فقد تحصل الغلبة والنصر بدون قتال أصلاً.
إن المصابرة في الآية الأولى إنما كانت على سبيل التأييد الرباني فليست فرضاً أو حكماً ، فكان مضمون الآية يؤازر المؤمنين بتأييد الله لهم بقوة إيمانهم وعزيمتهم فيضمن لهم النصر وغلبة العدو بسبب ضعف عدوهم وأنهم لا يفقهون ، فكان العشرة الصابرة يغلبوا مائة ، والمائتين من المقاتلين الصابرين يغلبوا ألفين (أي ينتصرون عليهم) بنسبة ثابتة طالما كان الإيمان في درجته تلك والصبر حاضر في اللقاء.
ولم تشتمل الآية على أمر أو نهي بل اشتملت على بيان لقياس قوة المؤمنين بمدى ثقتهم بربهم وإيمانهم بسمو هدفهم مقارنة بِخَوَرِ المشركين وضعفهم لضياع عقيدتهم لأنهم لا يفقهون ما هم عليه من الشرك والكفر.
ثم إنه جل وعلا عندما ضَعُفَ المسلمون وقل إيمانهم ، ودخل خلالهم من حدثاء الإسلام ضعفاء الإيمان ما أضعفهم فقد قلت قوتهم وغابت شوكتهم الأولى فأصبح المائة يغلبوا مائتين ، والألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، فكان التخفيف لا يراد منه تخفيف تكاليف ، بل تخفيف مؤازرة الملائكة وتأييد الله لهم تبعاً لحالهم الجمعي وقوة إيمانهم.
ثانياً : خصوصية السياق والتوقيت:
اشتمل القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه على أحوال خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فكان واقعها مقيداً خاصاً وليس مطلقاً عاماً ، وكذلك أحوال ووقائع كثيرة غير هذه الحالة ، فلا يمكن أن يقال أن عقوبة التخلف عن القتال في سبيل الله منسوخة بقصة الثلاثة الذين خلفوا كعب بن مالك رضي الله عنه وأصحابه فهذه واقعة مقيدة مخصوصة وإلا فسننسخ ونبطل جُلّ كتاب الله وما توسع القائلون بالنسخ إلا لعدم مراعاة هذا الأمر .
وفي هذه الآيات الكريمة نجد التقييد والتخصيص بالنداء والأمر بقوله تعالى (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم يلي النداء مقتضى الأمر(
حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ) وهو التحريض ولكن بأي شئ؟ ، بما اختصه لهم من غلبة وتأييد لما علمه من استقرار الإيمان وقوته في نفوسهم (
إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) فيقرر تعالى أن القتال مع الصبر يؤدي لغلبة العشرين للمئتين (
أي الانتصار في القتال وقهر العدو) من الذين كفروا بعاملين أولهما درجة إيمان المقاتلين وثانيها ان أعدائهم لم يفقهوا ما هم عليه من الضلال وما أتاهم من الهدى ، فلم يكن قتالهم بعقيدة وإيمان بما هم عليه من العمل ، ولو كانوا يفقهون لما التزموا الكفر وتركوا الإيمان.
إن الله يأمر نبيه بأن يبشر المؤمنين بما اختصهم به من تأييد وقوة تجعل المائة منهم يغلبوا ألفاً من عدوهم فكان ذلك دلالة تكريم وولاية عظيمة جعلت من المؤمنين يستعذبون الجهاد ويتشوقون للقتال لما أسبغ الله عليهم من الكرامة.
ثالثاً : التناقض في مفهوم التخفيف :
لقد فهم علماؤنا رحمهم الله مفردة التخفيف كمنحة من الله للمسلمين أزال بها عبئا ثقيلا يحملونه وهو الصمود أمام عشرة أضعاف عددهم من المشركين ، وفهموا توهّما بأن المسألة حكم شرعي خففه الله بأيسر منه ، ولكنهم لم يدركوا أن الأمر لو كان حكما بحرمة التولي والهروب أمام عشرة أضعاف ثم نسخ فصار العدد خمسة أضعاف فإن هذا يعني تجويز الهرب والتولي يوم الزحف اذا زاد عدد العدو عن خمسة أضعاف.
وهنا لم يدركوا أن ذلك يوقعنا في مأزق آخر وهو إما نسخ جديد او توجيه جديد لقوله عز وجل :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) الأنفال
فالتولي يوم الزحف موجب لغضب الله ومقطوع بدخوله جهنم وبئس المصير ، فكيف يكون التخفيف عندئذ ؟ هل يصار إلى نسخ هذا الحكم أيضا وإبطاله ؟.
ثم إن المسألة في ضوء فهمهم هذا فيها تناقض كبير ، فكيف يكون الأمر تخفيفا وهم كانوا في قوة وصاروا إلى ضعف ؟ وكيف يكون تخفيفا وهم كانوا يتفوقون ويغلبون عشرة أضعافهم من عدوهم ثم ضعفت قوتهم فصاروا يستطيعون غلبة نصف ما كانوا يطيقون غلبتهم ؟.
نقول إن هذا إنما سببه خطأ في فهم الآية ومضمونها ، فالله تعالى كان يؤيد المسلمين بعدد من الملائكة يقاتلون معهم فيرونهم الكفار مثليهم رأي العين ، يقول تعالى :
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران:13]
مثليهم أي مثلي عدد المشركين فإن كان المشركون ألفاً رأوا بأعينهم أن المسلمين ضعف عددهم أي ألفي رجل ، من جراء تأييد الله لهم .
يقول جل شأنه :
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]
فكان تأييده جل وعلا قوياً ما قوي إيمانهم وصمدت عزائمهم فها هو ربنا جلت قدرته يمد جيش محمد صلى الله عليه وسلم بملائكة يقاتلون معهم ويؤمنهم بالنعاس ويكفيهم الأمر كله :
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 13 الأنفال)
فما جرى تخفيفه ليس حكما شرعيا أمر الله عباده به ثم أبطله ، بل خفف الله تأييده للمسلمين جراء ما أصابهم من ضعف كانت عاقبته ضعف تأييد الله لهم ، فأصبح عدد ملائكة المؤيدين المردفين أقل مما كان يساندهم ، فكان هذا هو التخفيف المتسق مع حالة الضعف التي تخللت صفوف المسلمين ومقاتليهم ، ضعفا في الإيمان واليقين بنصر الله وتأييده اورثهم ضعفا في المدد الذي ينزله الله إليهم.
ولو كان هذا حكما شرعياً فلزم القول بأن الجيش المسلم لا بد أن يغلب الجيش الكافر وينتصر عليه ولو كان ضعفه في العدد ، فإن لم يتحقق فقد نسبناً الكذب لكلام الله زوراً وبهتاناً وأن الله وعد بالغلبة وأخلف وعده حاشا لله أن يكون ذلك.
رابعاً: العدد والقوة تتبع قوة الإيمان:
أرشدتنا الآية الكريمة الثانية أن سر تراجع قوة المسلمين يعود للضعف الذي اعتراهم فكانت رسالة لنا ولكل المؤمنين في كل زمان ومكان أن من يحمل كإيمان المسلمين الأوائل فسيكون في نفس قوتهم ومقاومتهم لعدوهم فيغلب الواحد عشرة، وكلما دب الضعف فيهم ودخل الشك نفوسهم وتراجع الإيمان فستتراجع معه القوة والغلبة .
واليوم وفي عصرنا هذا يحق لنا أن نتسائل هل نصل لما وصل إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف بأن ألفاً من المسلمين يغلبوا ألفين من الكفار عند اللقاء؟؟ قطعاً لا ، فلو مررنا بنظرة سريعة على قتال الأعداء هنا وهناك لسقنا مئات الأمثلة التي يكون المسلمين فيها أضعاف عدوهم ومع ذلك يغلبون ويشردون ويقتلون وتؤخذ أسلحتهم من بين أيديهم ، فلو كان الأمر كما تخيل القائلون بالنسخ للزم حصول الغلبة للمسلمين حتى وإن كان عدوهم ضعف عددهم لأن الله - في ظنهم - تعهد لهم بالغلبة ، فاالقول بالنسخ فضلا عن خطأه فإنه يحتمل صد الناس عن دين الله وايقاع الشك في نفوسهم لما تحصل الهزيمة برغم توافر العدد بالصورة المقررة في الآية ، ورأينا كيف يخرج الناس من دين الله أفواجاً مع كل هزيمة أو باقعة تحل بالمسلمين ، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم بجانب المفاهيم المغلوطة التي تقودهم لاعتقادات باطلة يظهر بطلانها مع أول أزمة.
فالمقصود أن الإيمان بالله وقوته تتناسب طردياً مع القوة إذا تناسب العتاد وكان المقاتلين على قلب رجل واحد ، ولم تشتمل هاتين الآيتين الكريمتين على حكم شرعي حتى يقال هذا نسخ ذاك ، وبذلك يتنفي القول بوقوع الابطال في هذا الموضع لأن الأمر كما قلنا متعلق بحال المسلمين فإن قويت عزائمهم وإيمانهم في أي عصر عاد عليهم التأييد وثقل معهم المدد بما يضمن لهم غلبة الواحد لعشرة ، وإن ضعف إيمانهم وداخلهم الخبال بمشاركة المنافقين في القتال والمرجفين فستتلاشى قوتهم.
والأمر بيان لسنة ربانية متحققة في كل العصور يقول تعالى:
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) الفتح
فالله تعالى يخبر عن سنة ماضية لا ترد ولا تبدل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو في ما يسبقه أو فيما يليه ، فالمسألة نسبية ومتعلقة بمقدار إيمان المقاتلين وثقتهم في نصر الله وعلى قدر ذلك تتحقق الغلبة وقهر العدو.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله تعالى.