دعوى نسخ الآية (284) من سورة البقرة
قال تعالى :
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284]
مدَّعى بأنها نسخت بقوله تعالى:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286]
الاضطراب دليل الخلل فهل هي منسوخة أم محكمة ؟ :
وهذا مما نصرخ به دوما بأن نسبة القول بالنسخ للصحابي لا تعني أنه صدر منه هذا القول فعلاً ، وأننا ينبغي أن نجعل استقامة القول واتساقه مرجعا فإن التسليم بصحة الروايات بلا تفكير ولا تدبر جعل المنقول المقدم على المعقول مصدراً لإشكالات لم يصمد النسخ امامها فكان باطلاً بيِّن البطلان :
قرر القرطبي رحمه الله وجود خمسة اختلافات بقوله :
(
اختلف الناس في معنى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله على أقوال خمسة) واورد في القول الأول أنها نسخت بقوله تعالى (
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وهو قول جماعة من الصحابة منهم (
ابن عباس) رضي الله عنه ، فقال رحمه الله:
"(
الأول ) أنها منسوخة ، قاله
ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين ، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم .
وفي صحيح مسلم عن
ابن عباس قال : لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال : ( قد فعلت ) : في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وسيأتي"
.انتهى كلامه
ثم قرر في القول الثاني أن
ابن عباس قال أنها
محكمة مخصوصة بالشهادة :
"(
الثاني ) قال
ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد : إنها محكمة مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ."
انتهى كلامه
وفي القول الرابع يقول الطبري رحمه الله بأن
ابن عباس قال (لم تنسخ) وأنها محكمة عامة :
"(
الرابع ) أنها محكمة عامة غير منسوخة ، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ذكره الطبري عن قوم ، وأدخل عن
ابن عباس ما يشبه هذا .
روي عن علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس أنه قال :
لم تنسخ ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول :
( إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم ) فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب"
انتهى كلامه
وبذلك لزم أن يتبع هذا الاضطراب البيّن كذبٌ في أكثر من موضع والأظهر أن الكذب كان في موضع تقرير النسخ كما اعتدنا.
النسخ يقتضي الإبطال:
تكرر معنا أن النسخ يقتضي الإبطال ، والآن نحن أمام صورة فريدة من صور النسخ المزعوم ، فالنسخ لم يطال الآية بكاملها بل طال جزءاً منها وهو قوله تعالى (
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) وأما الباقي فلم يقع فيه نسخ -على حد زعمهم- فقوله تعالى (
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) من الثوابت التي يقتضي القول بنسخها الكفر البواح ، وكذلك قوله تعالى (
وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فمن يقول بأن هذا القول منسوخ كافر بلا شك.
ولذلك نجد أن القول بنسخ جزء من آية بدون قول صحيح ثابت أو تقرير من معصوم مجازفة أخرى تجزِّئ السياق وتجعل قوله تعالى (
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) نسخاً لذلك الجزء برغم أنه متعلق بالتكاليف والعبادات المقررة بالجوارح فما دخل النوايا والاعتقاد حتى تلغيه وتنسخه ؟؟.
ومن المهم القول بأن النسخ بهذه الصورة يتعارض مع مفهوم القائلين بالنسخ بقوله تعالى (
ما ننسخ من آية) لأن النسخ وقع على جزء من آية ولم ينسخ الآية كاملة وهذا من دلائل بطلان النسخ ايضاً.
حقائق متصلة تقررها الآيات الكريمة :
بعد أن اثبتنا انتفاء النسخ وتناقض الأقوال المنسوبة لابن عباس وأنه لا ينبغي أن يقع في هذا الموضع كما أنه لا ينبغي أن يقع على سواه في كتاب الله سنتتبع موضع هذه الآية في السياق الذي تضمنته الآيات الثلاث في سورة البقرة لنعلم مقدماً بأن النسخ لا يجوز عليها أصلا.
إن الآيات الثلاث في ختام سورة البقرة اتت على ثلاث حقائق أصولية مترابطة في عقيدة الإسلام كل آية قررت حقيقة من الحقائق الثلاث وكل منها ملازمة لما جاورها :
الحقيقة الأولى :
أن العبرة عند الله بما استقر في نفس العبد من اعتقاد ونية ، وأن مبدأ الإيمان من دواخل النفس التي يعلمها الله وحده ، فمن ادعى أنه من أهل الإيمان وكانت نفسه ترفض الإيمان وتبطن النفاق والبغض وأصبح يظهر مالا يبطن فإن الله سيحاسبه على عقيدته وهذا لازم من لوازم الإعتقاد لا يجوز نسخه بل لا سبيل إلى إلغاءه أو تعطيله لأنه هو أسُّ العمل ومزرعته ، وقد قرره صلى الله عليه وسلم في حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في الحديث المتفق على صحته قال قال صلى الله عليه وسلم : (
إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) وهذا ما يواطئ الآية الكريمة ويتساوى معها في المعنى ، ونسخ هذه الآية يجب ان ينسخ معه الحديث أيضاً.فهو جل جلاله يخبرنا أولاً بإحاطته بكل شئ (
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وانه يملك الكون كله ، ثم يقرر علمه بملكه ومافيه من غيب وشهادة (
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ولما كان الإيمان محله القلب وهذا متسق مع كل المواضع المشابهة ومستقيم معها تماما ، ومثل أولئك الذين يظهرون مالا يخفون من قال تعالى فيه (
يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) فهل مثل هذا مقطوع له بالغفران لقاء ما أضمره في قلبه من خصام ونفاقه وسوء طويته ؟؟ ، بل هو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، ولكن الاعتبار بما تضمره الأنفس وليس على ظواهر الأفعال.وهذا الموضع في قوله تعالى (
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يشابه ما في قوله تعالى {
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:108] ، فمشيئة الله مطلقة لا يقيدها شئ أبداً لذلك فهو تعالى إن شاء أخرج أهل الجنة منها وجعل بقائهم في الجنة مرهوناً بمشيئة الله تعالى ، حتى مع تقرير خلود أهل الجنة فيها تبقى مشيئة الله فوق كل حال.
الحقيقة الثانية :
قررتها الآية التي تليها (
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فبعد تهيئة الأنفس بأن ما يستقر فيها هو رأس الأمر في الحساب والثواب والعقاب قرر تعالى ما يجب الإيمان به وتجري المحاسبة عليه في سياق متصل ببعضه البعض ، فلو أن عبداً قال (سمعنا وأطعنا) بجارحة اللسان ولم يستقر في قلبه ما آمن به الرسول ومن تبعه من اصحابه وما اعتقدوه من عقائد في هذه الآية فإنه محاسب بما أخفى وليس بما أظهر ، لأن ما اخفاه محبط للعمل لا تقبل معه طاعة يقول تعالى (
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .والله وحده يعلم حقائق الأمور فيأتي المؤمنين يوم القيامة يدافعون عن إخوان لهم فيكتشفون أن أعمالهم حبطت لأن أعمالهم شكلية ولم يستقر معها إيمان :
{
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } [المائدة:53]، فعمل الجوارح الذي لا يتبعه إيمان راسخ في النفس سيحبط كما وقع للمنافقين الذين انطبقت عليهم (
الحقيقة الأولى) فيجري حسابهم بما يخفون من الاعتقاد فإن أخفوا الكفر فإن أعمال الظاهر محبطة لا قيمة لها: {
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ (25)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)}
محمد
كرهوا رضوانه ، والكره عمل قلبي ،وإسرارهم عمل قلبي ، ومرض القلب لا يعلمه إلا الله ولكنهم ظنوا أن الله لا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فأِمنوا بما يخفون من الكفر والله بما يعملون محيط.
الحقيقة الثالثة :
قررتها الآية الأخيرة في سورة البقرة وهي متعلقة بعمل الجوارح والعبادات ، فما كانت الحقيقة الأولى أن المحاسبة مبنية على مافي النفوس ، والحقيقة الثانية أن الإيمان بأركانه المقررة هو ما يجب ان يستقر قبل العمل فإن الحقيقة الثالثة تقرر أن الله افترض من العبادات ما يطيقه ابن آدم ولم يضع عليهم من الشرائع والعبادات والتكاليف الشرعية ما يخرج عن الوسع والطاقة (
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ويقرر ان ميزان الاعمال يستوعب المكتسبات من الأجور على العمل الصالح ، والمكتسبات من الآثام على العمل الفاسد وعلى ترك أداء تلك التكاليف ، ثم يرشد المؤمنين للتضرع لله بالقول (
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) فقرر تعالى الابتداء بالعفو عن العقوبات المقررة ، ثم المغفرة للذنوب المدونة ، ثم الرحمة بدخول الجنة ضمن مبدا التخلية قبل التحلية فلا جنة بلا رحمة الله ، ولا رحمة بلا غفران للذنوب.وهكذا فإن الآيات الثلاث ضمن سياق متصل تقرر مسألة عقدية هامة للغاية بشأن موقف الشارع الحكيم من الاعتقاد والعمل والعلاقة بينها فلا نسخ فيها لامتناع نسخ العقائد أصلا.
هذا والله تعالى أعلم.
يتبع بإذن الله ...