من براهين التوحيد في القرآن المجيد

البرهان 99


من سورة الأعراف




ولما ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب

على أنه وحده، المعبود المقصود في الحوائج كلها

أمر بما يترتب على ذلك، فقال:


{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا

وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }

{ 55 - 56}



الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة،

فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة،

{ وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء،

بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.


{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور،


ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له،

أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء،

فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.


{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } بعمل المعاصي

{ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بالطاعات،

فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق،


كما قال تعالى:

{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }


كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق،

وأحوال الدنيا والآخرة.



{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا }

أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه،

طمعا في قبولها، وخوفا من ردها،

لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه،

ونزل نفسه فوق منزلته،

أو دعاء من هو غافل لاَهٍ.



وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء:


الإخلاص فيه للّه وحده،

لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره،

وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا،

ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة،


وهذا من إحسان الدعاء،

فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها،

وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه،



ولهذا قال: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }


في عبادة اللّه،

المحسنين إلى عباد اللّه،

فكلما كان العبد أكثر إحسانا،

كان أقرب إلى رحمة ربه،

وكان ربه قريبا منه برحمته،

وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى.
 
البرهان 100


من سورة الأعراف



{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ

فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.

{ 59 }


لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة،

أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده

مع أممهم المنكرين لذلك،

وكيف أيد اللّه أهل التوحيد،

وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم،

وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد،



فقال عن نوح - أول المرسلين -:

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }

يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان


{ فَقَالَ } لهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي: وحده



{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }

لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور،

وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء،



ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال:

{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم،

حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي،

كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق

أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم،



فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.


{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي: الرؤساء الأغنياء المتبوعون

الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل،


{ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له،

بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح،

ونسبوه إلى الضلال،

ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.


وهذا من أعظم أنواع المكابرة،

التي لا تروج على أضعف الناس عقلا،


وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح،


الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم،

من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر،

ولا تغني عنهم شيئا،

فنـزلوها منـزلة فاطر السماوات،

وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات،

فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم

لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم،

بل هم أهدى منهم وأعقل،
 
البرهان 101


من سورة الأعراف


{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }

{ 65 }


وقوله تعالى :

{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ

وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا

فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *

قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ

أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }

{ 70 ، 71 }


أي: { و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن

{ أَخَاهُمْ } في النسب

{ هُودًا } عليه السلام،

يدعوهم إلى التوحيد

وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض.

فـ { قَالَ } لهم:

{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }

سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه،

فلم يستجيبوا ولا انقادوا.



{ قَالُوا } متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه:

{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }

قبحهم اللّه،

جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور،

من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم،

فقدموا ما عليه الآباء الضالون

من الشرك وعبادة الأصنام،


على ما دعت إليه الرسل

من توحيد اللّه وحده لا شريك له،


وكذبوا نبيهم، وقالوا:

{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }

وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.



فقَالَ لهم هود عليه السلام:

{ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ }

أي: لا بد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.


{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }

أي: كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها،

وعلى أصنام سميتوها آلهة،

وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة


و{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

فإنها لو كانت صحيحة لأنزل اللّه بها سلطانا،

فعدم إنزاله له دليل على بطلانها،

فإنه ما من مطلوب ومقصود - وخصوصا الأمور الكبار -

إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج، ما يدل عليها،

ومن السلطان، ما لا تخفى معه.


{ فَانْتَظِرُوا } ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به

{ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } وفرق بين الانتظارين،

انتظار من يخشى وقوع العقاب،

ومن يرجو من اللّه النصر والثواب.
 
البرهان 102



من سورة الأعراف


{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا

لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ *

أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ *
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ

فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }


{ 96 - 99 }



لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا،

وبالسراء استدراجا ومكرا،

ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال،

واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه،

لفتح عليهم بركات السماء والأرض،

فأرسل السماء عليهم مدرارا،

وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم،

في أخصب عيش وأغزر رزق،

من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب،

ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا


{ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }

بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات،

وهي بعض جزاء أعمالهم،

وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة.


{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }


{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي: المكذبة، بقرينة السياق

{ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي: عذابنا الشديد

{ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } أي: في غفلتهم، وغرتهم وراحتهم.


{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }

أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه،

وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!



{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون،

ويملي لهم، إن كيده متين،


{ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }

فإن من أمن من عذاب اللّه، فهو لم يصدق بالجزاء على الأعمال،

ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.




وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ،

على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان.


بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان،

وأن لا يزال داعيا بقوله:

{ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك }

وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن،

فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت -

فليس على يقين من السلامة.
 
البرهان 103



من سورة الأعراف



{ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ

أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ
وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً

ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ }

[ 148 ]



{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا }


صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار

{ لَهُ خُوَارٌ } وصوت، فعبدوه واتخذوه إلها.


وقال { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي } موسى، وذهب يطلبه،


وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم،

كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات،

بعجل من أنقص المخلوقات؟"


ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية،

ما يوجب أن يكون إلها

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ } أي: وعدم الكلام نقص عظيم،

فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم


{ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } أي: لا يدلهم طريقا دينيا،

ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية،


لأن من المتقرر في العقول والفطر،

أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر

من أبطل الباطل، وأسمج السفه،


ولهذا قال: { اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ }

حيث وضعوا العبادة في غير موضعها،

وأشركوا باللّه ما لم ينـزل به سلطانا،



وفيها دليل على أن من أنكر كلام اللّه،

فقد أنكر خصائص إلهية اللّه تعالى،

لأن اللّه ذكر أن عدم الكلام دليل

على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.
 
البرهان 104


من سورة الأعراف


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ

سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ

وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ }


[ 152]



قال اللّه تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } أي: إلهاً

{سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.


{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }

فكل مفتر على اللّه، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل،

فإن له نصيبا من الغضب من اللّه، والذل في الحياة الدنيا،


وقد نالهم غضب اللّه، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم،

وأنه لا يرضى اللّه عنهم إلا بذلك،

فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى

ثم تاب اللّه عليهم بعد ذلك.
 
البرهان 105



من سورة الأعراف


{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ

وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ

أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.

{172 -174 }



يقول تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }

أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم،

وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن.


{ و } حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم

{ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }

أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار،

بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.


قالوا: بلى قد أقررنا بذلك،

فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.

فكل أحد فهو مفطور على ذلك،

ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة،


ولهذا { قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }

أي: إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم،

من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة،

فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم،

ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.


فاليوم قد انقطعت حجتكم،

وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.


أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون:

{ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ }

فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.


{ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }

فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل،

وأن الحق ما جاءت به الرسل،

وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه.



نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين،

ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق،

وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته،

وآياته الأفقية والنفسية،

فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون،

ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق،

هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات.



وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم،

حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم،

فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا به في ذلك الوقت

على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة،

ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة،

ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى، والواقع شاهد بذلك.


فإن هذا العهد والميثاق الذي ذكروا

أنه حين أخرج اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر،

لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي،

فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر،

ولا له عين ولا أثر؟"


ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى:

{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي: نبينها ونوضحها،

{ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى ما أودع اللّه في فطرهم،

وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح.
 
البرهان 106




من سورة الأعراف


{ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ

سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.

{180 }


هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه،

بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن،

وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة،

وبذلك كانت حسنى،

فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا لم تكن حسنى،

وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال،

بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح،

لم تكن حسنى،


فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها،

مستغرق لجميع معناها.


وذلك نحو (العليم ) الدال على أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء،

فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

و ( كالرحيم ) الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء.

و ( كالقدير ) الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.


ومن تمام كونها "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها،

ولذلك قال: { فَادْعُوهُ بِهَا }

وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة،

فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب،

فيقول الداعي مثلا اللّهم اغفر لي وارحمني،

إنك أنت الغفور الرحيم،

وتب عَلَيَّ يا تواب،

وارزقني يا رزاق،

والطف بي يا لطيف ونحو ذلك.


وقوله: { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

أي: عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه،

وحقيقة الإلحاد الميل بها عما جعلت له،

إما بأن يسمى بها من لا يستحقها،

كتسمية المشركين بها لآلهتهم،


وإما بنفي معانيها وتحريفها،

وأن يجعل لها معنى ما أراده اللّه ولا رسوله،

وإما أن يشبه بها غيرها،


فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر الملحدون فيها،

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم

( أن للّه تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة )
 
البرهان 107



من سورة الأعراف




{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ

وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ

إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

{ 188 }



{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا }

فإني فقير مدبر، لا يأتيني خير إلا من اللّه،

ولا يدفع عني الشر إلا هو،

وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه تعالى.



{ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ

لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ }


أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع،

ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه،

لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.



ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء،

وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها،

فهذا أدل دليل على

أني لا علم لي بالغيب.



{ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ } أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والأخروية،

وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.



{ وَبَشِيرٌ } بالثواب العاجل والآجل،

ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها،

ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة،

وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون،




وهذه الآيات الكريمات،

مبينة جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم

ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر.


فإنه ليس بيده شيء من الأمر،

ولا ينفع من لم ينفعه اللّه،

ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه اللّه عنه،

ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى،



وإنما ينفع من قَبِل ما أرسل به من البشارة والنذارة،

وعمل بذلك،


فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم،

الذي فاق نفع الآباء والأمهات،

والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير،

وحذرهم عن كل شر،

وبينه لهم غاية البيان والإيضاح.
 
البرهان 108





من سورة الأعراف





{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا

فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا

فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *

أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ *

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ

سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }.




{ 189-193 }



أي: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ }

أيها الرجال والنساء، المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم.

{ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم.

{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }

أي: خلق من آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها

لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة

ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر،

فانقاد كل منهما إلى صاحبه بزمام الشهوة.


{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي: تجللها مجامعا لها

قدَّر الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل،

[وحينئذ] حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا،

وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها.


{ فَلَمَّا } استمرت به و { أَثْقَلَتْ } به حين كبر في بطنها،

فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد،

وعلى خروجه حيا صحيحا، سالما لا آفة فيه [كذلك]


فدعوا { اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا } ولدا

{ صَالِحًا } أي: صالح الخلقة تامها، لا نقص فيه

{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }.


{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه


{ جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }

أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به،

وأقرَّ به أعين والديه،

فَعَبَّدَاه لغير اللّه.

إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد الكعبة" ونحو ذلك،

أو يشركا باللّه في العبادة،


بعدما منَّ اللّه عليهما بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد.


وهذا انتقال من النوع إلى الجنس،

فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس،

ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا،

فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك،


وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم،

سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال،


فإن الخالق لهم من نفس واحدة،

الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا،

ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض،

ويألفه ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل.


ثم أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا،

تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا،

فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم.


أفلا يستحق أن يعبدوه،

ولا يشركوا به في عبادته أحدا،

ويخلصوا له الدين.


ولكن الأمر جاء على العكس،

فأشركوا باللّه من لا

{ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }.

{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي: لعابديها

{ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }.


فإذا كانت لا تخلق شيئا،

ولا مثقال ذرة،

بل هي مخلوقة،

ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها،

بل ولا عن أنفسها،

فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟

إن هذا إلا أظلم الظلم، وأسفه السفه.


وإن تدعوا أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتم من دون اللّه

{ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ

سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }.


فصار الإنسان أحسن حالة منها،


لأنها لا تسمع،

ولا تبصر،

ولا تهدِي ولا تُهدى،


وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا،

جزم ببطلان إلهيتها، وسفاهة من عبدها.


 
البرهان 109



من سورة الأعراف


{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا

أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ *

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ

الَّذِي نـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ }.

{194 - 196 }



وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان،

يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }

أي:

لا فرق بينكم وبينهم،

فكلكم عبيد للّه مملوكون،


فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا



{ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ }

فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم،

وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى،

مفترون على اللّه أعظم الفرية،

وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه،

فإنكم إذا نظرتم إليها

وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء،

فليس لها أرجل تمشي بها،

ولا أيد تبطش بها،

ولا أعين تبصر بها،

ولا آذان تسمع بها،


فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان.


فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها،

وهي عباد أمثالكم،

بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء،

فلأي شيء عبدتموها.



{ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ }

أي: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي،

من غير إمهال ولا إنظار

فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي.



{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ }

الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار.



{ الَّذِي نـزلَ الْكِتَابَ } الذي فيه الهدى والشفاء والنور،

وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.



{ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ }

الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم،



كما قال تعالى:

{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }



فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى،

ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر -

تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم

على ما فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم،

ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه،



كما قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }.
 
البرهان 110



من سورة الأعراف






{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ

وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ *

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا

وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ }

{198,197 }


وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام

التي يعبدونها من دون اللّه لشيء من العبادة،

لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم،

ولا في نصر عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة.


فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد،

وهي صور لا حياة فيها،

فتراهم ينظرون إليك،

وهم لا يبصرون حقيقة،

لأنهم صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم،

وجعلوا لها أبصارا وأعضاء،

فإذا رأيتها قلت: هذه حية،

فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها، ولا حياة،

فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟

ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها

وتقربوا لها بأنواع العبادات؟


فإذا عرف هذا، عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها،

لو اجتمعوا، وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر الأرض والسماوات،

متولي أحوال عباده الصالحين،

لم يقدروا على كيده بمثقال ذرة من الشر،

لكمال عجزهم وعجزها،

وكمال قوة اللّه واقتداره،

وقوة من احتمى بجلاله وتوكل عليه.


وقيل: إن معنى قوله { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ }

أن الضمير يعود إلى المشركين

المكذبين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم،

فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه نظر اعتبار

يتبين به الصادق من الكاذب،

ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه المتوسمون فيك

من الجمال والكمال والصدق.
 
البرهان 111





من سورة الأعراف






{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ

وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ *

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }.

{ 205 - 206 }



الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان،

ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله،

فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا وغيره تبعا،

بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.


{ تَضَرُّعًا } أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر،

{ وَخِيفَةً } في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه، وَجِلَ القلب منه،

خوفا أن يكون عملك غير مقبول،

وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به.


{ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } أي: كن متوسطا،

لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا.


{ بِالْغُدُوِّ } أول النهار { وَالآصَالِ } آخره،

وهذان الوقتان لذكر الله فيهما مزية وفضيلة على غيرهما.


{ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }

الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم،

فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة،

وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز
في ذكره وعبوديته،

وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به،



وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها،

وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار،

خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا،

وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر،

وإحضار له بقلبه وعدم غفلة،

فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.


ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته،

ملازمين لخدمته وهم الملائكة،

فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة،

ولا ليتعزز بها من ذلة،

وإنما يريد نفع أنفسكم،

وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم،


فقال: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }


{ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين.


{ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم

{ وَيُسَبِّحُونَهُ } الليل والنهار لا يفترون.


{ وَلَهُ } وحده لا شريك له

{ يَسْجُدُونَ }

فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام،

وليداوموا [على] عبادة الملك العلام.
 
البرهان 112



من سورة الأنفال





{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ

أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ *

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ

وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ

وَيُنـزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ

وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ *

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ

أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ *

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }.

{ 9 - 14 }


أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم،

استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم


{ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } وأغاثكم بعدة أمور:.


منها: أن اللّه أمدكم { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }

أي: يردف بعضهم بعضا.


{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ } أي: إنـزال الملائكة

{ إِلا بُشْرَى } أي: لتستبشر بذلك نفوسكم،

{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } وإلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ..

{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، بل هو القهار،

الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا.

{ حَكِيمٌ } حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.


ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا

{ يُغَشِّيكُمُ } [أي] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل،

ويكون { أَمَنَةً } لكم وعلامة على النصر والطمأنينة.


ومن ذلك: أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث،

وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.


{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن،

{ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } فإن الأرض كانت سهلة دهسة

فلما نـزل عليها المطر تلبدت، وثبتت به الأقدام.


ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة

{ أَنِّي مَعَكُمْ } بالعون والنصر والتأييد،

{ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } أي: ألقوا في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم،

ورغبوهم في الجهاد وفضله.


{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ }

الذي هو أعظم جند لكم عليهم،

فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين،

لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم.


{ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي: على الرقاب

{ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: مفصل.


وهذا خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا

فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،


أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين،

وأنهم لا يرحمونهم،وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله

أي: حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.


{ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم.


{ ذَلِكُمْ } العذاب المذكور

{ فَذُوقُوهُ } أيها المشاققون للّه ورسوله عذابا معجلا.

{ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }



وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة

ما يدل على أن ما جاء به

محمد صلى الله عليه وسلم رسول اللّه حقا.


منها: أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه.


ومنها: ما قال اللّه تعالى:

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }الآية.


ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من الأسباب،


وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين،

وتقييض الأسباب التي بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم،

وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.


ومنها: أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته،

وييسرها بأسباب داخلية وخارجية.
 
البرهان 113



من سورة الأنفال



{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ

وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ


وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى


وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *

ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ *

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ

وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }.



[FONT=&quot]{ 17 - 19 }[/FONT]





يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون -

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } بحولكم وقوتكم

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره.



{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }



وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت القتال


دخل العريش وجعل يدعو اللّه، ويناشده في نصرته،



ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين،



فأوصلها اللّه إلى وجوههم،



فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها،



فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم،



وبان فيهم الفشل والضعف، فانهزموا.




يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم،



وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا.




{ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا }



أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين،



من دون مباشرة قتال،ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين،



ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات،



ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا.




{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }



يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن،



ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،



فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده،



ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.




{ ذَلِكُمْ } النصر من اللّه لكم



{ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } أي: مضعف كل مكر وكيد



يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم.





{ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أيها المشركون،



أي: تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين.




{ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } حين أوقع اللّه بكم من عقابه،



ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين




{ وَإِنْ تَنْتَهُوا } عن الاستفتاح



{ فَهُوَ خَيْرٌ } لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة.



{ وإن تعودوا } إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين



{ نَعُدْ } في نصرهم عليكم.




{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ }



أي: أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم،



شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين.





ومن كان اللّه معه فهو المنصور



وإن كان ضعيفا قليلا عدده،



وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين،



تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.



فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات،



فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين



وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه،



وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه،



لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا]



ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.


 
البرهان 114




من سورة الأنفال







{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ

إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.


{ 24 }



يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم

وهو الاستجابة للّه وللرسول،

أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه،

والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.


وقوله: { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }

وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته،


فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته

وطاعة رسوله على الدوام.


ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال:

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }

فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم،

فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم،

فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه،

يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.


فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك،

يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك.



{ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه،

فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.
 
البرهان 115





من سورة الأنفال




{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ

وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ *

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ

نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }.

{ 38 - 40 }



هذا من لطفه تعالى بعباده

لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد،

من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى،

وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى،


فقال: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا }

عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه وحده لا شريك له.

{ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } منهم من الجرائم

{ وَإِنْ يَعُودُوا } إلى كفرهم وعنادهم

{ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } بإهلاك الأمم المكذبة،

فلينتظروا ما حل بالمعاندين،

فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون،فهذا خطابه للمكذبين ،


وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين،

فقال: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ }

أي: شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام،


{ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }

فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين،

أن يدفع شرهم عن الدين،

وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له،

حتى يكون هو العالي على سائر الأديان.


{ فَإِنِ انْتَهَوْا } عن ما هم عليه من الظلم

{ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا تخفى عليه منهم خافية.



{ وَإِنْ تَوَلَّوْا } عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة


{ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى }

الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم،

وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية.

{ وَنِعْمَ النَّصِيرُ } الذي ينصرهم،

فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.



ومن كان اللّه مولاه وناصره فلا خوف عليه،

ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.
 
البرهان 116





من سورة التوبة




{ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ

أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ

فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ

وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }



{ 3 }


هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه وإعلاء كلمته،

وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة،

من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم،

مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.


نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين،

وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.


فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر،

وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة العرب،

أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين،

فليس لهم عنده عهد وميثاق،

فأينما وجدوا قتلوا،


وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا،

وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.


وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه،

وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.



ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة،

ورهبهم من الاستمرار على الشرك



فقال: { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ }


أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته،

قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين.



{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء،

وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.
 
البرهان 117


من سورة التوبة



{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ

شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ

أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ *

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ

وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ

فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }


{ 17 - 18 }



يقول تعالى: { مَا كَانَ } أي: ما ينبغي ولا يليق

{ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ }

بالعبادة، والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات،

والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر

بشهادة حالهم وفطرهم،

وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.


فإذا كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } وعدم الإيمان،

الذي هو شرط لقبول الأعمال،

فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه،

والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟".



ولهذا قال: { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي: بطلت وضلت

{ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }



ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال:

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ } الواجبة والمستحبة،

بالقيام بالظاهر منها والباطن.


{ وَآتَى الزَّكَاةَ } لأهلها


{ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } أي قصر خشيته على ربه،

فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة.


فوصفهم بالإيمان النافع،

وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة،

وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير،

فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها، الذين هم أهلها.


{ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }

و { عسى } من اللّه واجبة.


وأما من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه،

فهذا ليس من عمار مساجد اللّه،

ولا من أهلها الذين هم أهلها،

وإن زعم ذلك وادعاه.
 
البرهان 118



من سورة التوبة



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ

إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا

وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا

أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ

فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }


{ 23 - 24 }




يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى الإيمان،

بأن توالوا من قام به، وتعادوا من لم يقم به.


و { لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ } الذين هم أقرب الناس إليكم،

وغيرهم من باب أولى وأحرى،

فلا تتخذوهم { أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا }

أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة { الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ }



{ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

لأنهم تجرؤوا على معاصي اللّه، واتخذوا أعداء اللّه أولياء،


وأصل الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذهم أولياء،

موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه،

ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.



ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك،


وهو أن محبة اللّه ورسوله،

يتعين تقديمهما على محبة كل شيء،

وجعل جميع الأشياء تابعة لهما


فقال:

{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات

{ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة

{ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي: قراباتكم عموما

{ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها،

خصها بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها

ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ.


{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي: رخصها ونقصها،

وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات،

من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب،

والحروث، والأنعام، وغير ذلك.


{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم،



فإن كانت هذه الأشياء

{ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ }

فأنتم فسقة ظلمة.


{ فَتَرَبَّصُوا } أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب

{ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له.


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة اللّه،

المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات.



وهذه الآية الكريمة

أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله،

وعلى تقديمها على محبة كل شيء،


وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد،

على من كان شيء من هذه المذكورات

أحب إليه من اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله.



وعلامة ذلك،

أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه اللّه ورسوله،

وليس لنفسه فيها هوى،


والآخر تحبه نفسه وتشتهيه،

ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه،

فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه اللّه،

دل ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه.
 
البرهان 119






من سورة التوبة






{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ

فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا

وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ 28 }



يقول تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره

{ نَجَسٌ } أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم،


وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة

لا تنفع ولا تضر،

ولا تغني عنه شيئا؟".


وأعمالهم ما بين محاربة للّه،

وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق،

وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح،

فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.



{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس أبو بكر الصديق،

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا،

أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ { براءة }

فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.



وليس المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن،

بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها،

ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.


والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار،

ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها، تَقَذُّرَهْم من النجاسات،

وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية بالشرك،

فكما أن التوحيد والإيمان طهارة،

فالشرك نجاسة.



وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون

{ عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام،

بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية،

{ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }

فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد،

بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة،

فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم،

خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم،

فإن اللّه أكرم الأكرمين.


وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله،

وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.



وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة،

لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان،

ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.

فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب،

ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.


{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: علمه واسع،

يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق،

ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.



وتدل الآية الكريمة،

وهي قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

أن المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت،

ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين،

مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية.


ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز،

فلا يبقى فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام،

فيدخل في قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }
 
البرهان 120





من سورة التوبة




{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ

ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ

وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }


{ 30 - 33 }




{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ }

وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم،

فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر

ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه،

وتنقصوا عظمته وجلاله.


وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه،

أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل،

ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة،

وجدوا عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها،

فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها،

فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.


{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ }

قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه

{ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.

ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله،

فإنه لا دين ولا عقل يحجزه، عما يريد من الكلام.


ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي: يشابهون في قولهم هذا

{ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ }

أي: قول المشركين الذين يقولون: ( الملائكة بنات اللّه )

تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.


{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين،

إلى القول الباطل المبين.



وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول-

يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه،



فإن لذلك سببا وهو أنهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم

{ وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.



{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }

يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه،

ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه،

ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.


وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم،

ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه،

وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.


{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه،



والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله


فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

فيخلصون له العبادة والطاعة،

ويخصونه بالمحبة والدعاء،

فنبذوا أمر اللّه

وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.


{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ }

أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم،

فإنهم ينتقصونه في ذلك،

ويصفونه بما لا يليق بجلاله،

واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه،

مما ينافي كماله المقدس.



فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه،

وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه


أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }

ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب،

وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة،


فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده،

فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين،

يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم،

التي ليس عليها دليل أصلا.


{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر،

الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه،

والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده،

وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء،


ولهذا قال: { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }

وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله،

فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.



ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال:

{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع

{ وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو العمل الصالح

فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم

مشتملا على بيان الحق من الباطل

في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره،

والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان


من إخلاص الدين للّه وحده،

ومحبة اللّه وعبادته،

والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،

والأعمال الصالحة والآداب النافعة،

والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه

من الأخلاق والأعمال السيئة

المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.



فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق

{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان،

وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم،

فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه،

فوعد اللّه لا بد أن ينجزه،

وما ضمنه لابد أن يقوم به.
 
البرهان 121




من سورة التوبة






{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا

لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

{ 37 }



النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم،

وكان من جملة بدعهم الباطلة،

أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم،

رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم،

التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه،

ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا،

فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما،


فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم،

لما فيه من المحاذير.


منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه،

واللّه ورسوله بريئان منه.


ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.


ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده،

ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.


ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها،

يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة،

فحصل من الغلط والضلال ما حصل،


ولهذا قال: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا

لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ }

أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.


{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ }

أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة،

بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم،

فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.
 
البرهان 122





من سورة التوبة






{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ

إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا

وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى

وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا

وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ 40 }



أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ،

فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا،

فقد نصره في أقل ما يكون وأذله

{ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك،

وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج.


{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.

{ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي: لما هربا من مكة،

لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة،

فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.


فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة،

حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما،

فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.



{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم

{ لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه،

{ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.



{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد،

ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }


{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا }

وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له،



{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي: الساقطة المخذولة،

فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين،

في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذه، حنقين عليه،

فعملوا غاية مجهودهم في ذلك،

فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.


ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه،

وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع،



فإن النصر على قسمين:

نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا، وقصدوا،

ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.


والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر،

فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه،

ولعل هذا النصر أنفع النصرين،

ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.




وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية،

هي العالية على كلمة غيره، التي من جملتها قوله:


{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }

{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }

{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }


فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان،

بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر.


{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب،

{ حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها،

وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.



وفي هذه الآية الكريمة

فضيلة أبي بكر الصديق

بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة،

وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة،

وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة،

ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر

للنبي صلى الله عليه وسلم كافرا،

لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.



وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد

في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة،

وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه،

وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.


وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين،

مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه،

فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.
 
البرهان 123



من سورة التوبة






{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
هُوَ مَوْلَانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

{51}



{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا }

أي: ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ.

{ هُوَ مَوْلَانَا } أي: متولي أمورنا الدينية والدنيوية،

فعلينا الرضا بأقداره

وليس في أيدينا من الأمر شيء.


{ وَعَلَى اللَّهِ } وحده

{ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم،

ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم،

فلا خاب من توكل عليه،

وأما من توكل على غيره،

فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.[1]


~~~~~~~~~~~~~~~~~~


1 / قال العلامة السعـدي - رحمه الله تعالى – في كتابه
( مجموع الفوائد واقـتـناص الأوابد ) ص 38-39 ما نصه:

( سأل سائل: كيف صورة التوكل وتوضيحه؛
فإني لا أكاد أتصور معناه فضلاً عن كوني متصفاً به ؟


فأجيب: معلوم أن الحاجة والضرورة هي التي تدعـو إلى التوكل،

وأنت محتاج لإصلاح دينك في القيام بالواجبات وترك المنهيات،

وإلى إصلاح دنياك في تحصيل الكفاية في المعاش،

فإذا علمت أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير،

وأنه المتفرد بالعـطاء والمنع وجلب المنافع ودفع المضار،

وهو مع ذلك كامل الحكمة واسع الرحمة أرحم بك من نفسك ومن كل أحد،

ومع ذلك أيضاً؛ فقد أمرك بالتوكل عليه، ووعدك بالكفاية؛

فمتى تحققتَ ذلك تحققاً قلبياً يقينياً؛


فقم بجد واجتهاد في امتثال الأمر واجتـناب النهي بحسب مقدورك،

وأنت في ذلك معـتمداً غاية الاعتماد بقلبك على الله في حصول ما سعيت فيه وتكميله،

وواثق به وطامع في فضله في تيسيره لك ما سعيت فيه،

ومتبرئ من حولك وقوتك، عالم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله،

وأنك وجميع الخلق أضعـف وأعجز من أن تقوموا بأمر من الأمور بغير معـونة الله وتيسيره ؛


فمتى دمت على هذا العمل والاعتماد والتفويض وحسن الظن؛ فقد حققتَ مقام التوكل،

وكذلك فاصنع في أمور معاشك، اعمل كل ما يناسبك من الأسباب النافعة متوكلاً على الله،

راجياً فضله، مطمئـناً لكـفايته، معتمداً عـليه غاية الاعـتماد،

راضياً بما قدره ودبره لك من مُسرٍّ ومحزن ،

والتوكل على هذا الوجه نصف الإيمان،

والله تعالى قد ضمن الكفاية للمتوكلين،

ومما يـقـوي الـتوكل الدعـاء بقلب حاضر ورجاء قـوي.

والله أعـلم. )
 
البرهان 124




من سورة التوبة





{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ

قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ

قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ

إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ

نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ }



{ 64 - 66 }




كانت هذه السورة الكريمة تسمى { الفاضحة }

لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم،

فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم،


إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين:

إحداهما: أن اللّه سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.


والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين،

الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلي يوم القيامة،

فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف.



قال اللّه تعالى:

{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ

لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا *

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا }



وقال هنا { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ }

أي: تخبرهم وتفضحهم، وتبين أسرارهم،

حتى تكون علانية لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين.


{ قُلِ اسْتَهْزِئُوا } أي: استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية.


{ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } وقد وفَّى تعالى بوعده،

فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم، وهتكت أستارهم.



{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم،

يقول طائفة منهم في غزوة تبوك

{ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه-

أرغب بطونا، [وأكذب ألسنا] وأجبن عند اللقاء } ونحو ذلك.


ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم،

جاءوا يعتذرون إليه ويقولون: { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ }

أي: نتكلم بكلام لا قصد لنا به، ولا قصدنا الطعن والعيب.



قال اللّه تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك-:

{ قُلْ } لهم

{ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }


فإن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين

لأن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه، وتعظيم دينه ورسله،

والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل،

ومناقض له أشد المناقضة.



ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة،

والرسول لا يزيدهم على قوله

{ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }


وقوله { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } لتوبتهم واستغفارهم وندمهم،

{ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } منكم { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَانُوا مُجْرِمِينَ }

مقيمين على كفرهم ونفاقهم.



وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة،

خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه، ويستهزئ به وبآياته ورسوله،

فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة.


وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه
أو سنة رسوله الثابتة عنه،

أو سخر بذلك، أو تنقصه،

أو استهزأ بالرسول أو تنقصه،

فإنه كافر باللّه العظيم،

وأن التوبة مقبولة من كل ذنب، وإن كان عظيما.
 
البرهان 125




من سورة التوبة





{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ

وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ

وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

{ 100 ْ}



السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة

وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه.


{ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ }

{ الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم

يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا،

وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }



و من { الْأَنْصَارِ }

{ الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم

يحبون من هاجر إليهم،

ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا،

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }



{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات والأقوال والأعمال،

فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم،

وحصل لهم نهاية المدح،

وأفضل الكرامات من اللّه.



{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ }

ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة،



{ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ }

الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان،

والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة.


{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }

لا يبغون عنها حولا، ولا يطلبون منها بدلا،

لأنهم مهما تمنوه أدركوه، ومهما أرادوه وجدوه.


{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

الذي حصل لهم فيه كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح،

ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان،

واندفع عنهم كل محذور.
 
البرهان 126


من سورة التوبة




{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ *

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }

{ 128 - 129 }


يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي

الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه،

ولا يأنفون عن الانقياد له،

وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم،

والسعي في مصالحهم.


{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ }

أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.

{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ }

فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم،

ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان،

ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.


{ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }

أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.

ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق،

وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره


{ فَإِنْ } آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم،

وإن { تَوَلَّوا } عن الإيمان والعمل،

فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك،


وقل { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني،

{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: لا معبود بحق سواه.

{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت ووثقت به،

في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر،


{ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } الذي هو أعظم المخلوقات.

وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات،

كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
 
البرهان 127



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا

إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ

وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }


{ 3 - 4 }



يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته:

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }

مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة،

ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.

ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق،

ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.


{ ثُمَّ } بعد خلق السماوات والأرض

{ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.


{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء،

وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس،

وكشف الضر عن المضرورين،

وإجابة سؤال السائلين.


فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه،

وجميع الخلق مذعنون لعزه

خاضعون لعظمته وسلطانه.



{ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ }

فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق،

حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى،

ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.



{ ذَلِكُمْ } الذي هذا شأنه

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ }

أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال،

ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.


{ فَاعْبُدُوهُ }
أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية،


{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }

الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.



فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام،

وحكمه الديني وهو شرعه،

الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له،


ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت،

فقال: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }

أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.


{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته،

والذي يرى ابتداءه بالخلق،

ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل

منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه،

فهذا دليل عقلي واضح على المعاد.



وقد ذكر الدليل النقلي فقال:

{ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي: وعده صادق لا بد من إتمامه

{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات،

{ بِالْقِسْطِ } أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده،

وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين


{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله.

{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء.

{ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر أصناف العذاب

{ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي: بسبب كفرهم وظلمهم،

وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
 
البرهان 128




من سورة يونس عليه الصلاة والسلام


{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ

مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ

يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }


{ 5 - 6 }



لما قرر ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك

وعلى كماله في أسمائه وصفاته،

من الشمس والقمر، والسماوات والأرض

وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات،

وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و { لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }


فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها،

وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه،

والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير، والرهبة من الشر،

الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.



وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة،

دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته،


وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن،

دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه.


وما فيها من أنواع المنافع والمصالح

-كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا،

يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل-

يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه،


وما فيها من التخصيصات

دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.



وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود،

ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام،

الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه،

ولا يصرف خالص الدعاء إلا له،

لا لغيره من المخلوقات المربوبات،

المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.



وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله،

والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة،

ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة،

وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به،

وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.
 
البرهان 129




من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ


مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ


وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ


قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ


سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }



{ 18 }






يقول تعالى: { وَيَعْبُدُونَ }


أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.




{ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ }


أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.



{ وَيَقُولُونَ } قولا خاليا من البرهان:




{ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }


أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده،


وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم،





ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-:


{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ }



أي: الله تعالى هو العالم،


الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض،


وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه،


أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟


أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟


أأنتم أعلم أم الله؟




فهل يوجد قول أبطل من هذا القول،


المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟


فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول،


فإنه يجزم بفساده وبطلانه:




{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }


أي: تقدس وتنـزه أن يكون له شريك أو نظير،


بل هو الله الأحد الفرد الصمد


الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو،


وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه،


فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.




{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ


وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ


وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
 
البرهان 130



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا

جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ

وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ

دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }


{ 22 - 23 }




{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }

بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.


{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ } أي: السفن البحرية


{ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ }

موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.


{ وَفَرِحُوا بِهَا } واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك،


إذ { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } شديدة الهبوب

{ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ }

أي: عرفوا أنه الهلاك،

فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين،

وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده،

فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام،

فقالوا: { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }



{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم،

فأشركوا بالله،

من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد،

ولا يدفع عنهم المضايق،

فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء،

كما أخلصوها في الشدة؟!!



ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم،

ولهذا قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله،

أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير

الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.


{ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ } في يوم القيامة

{ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.
 
البرهان 131



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام







{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ

فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ *

فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ *

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ

وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }


{ 28 - 30 ْ}



يقول تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا }

أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم،

ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.


{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ }

أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.

{ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي،

وحصلت بينهم العداوة الشديدة،

بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد،

فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة.


وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: { مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ }

فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.


{ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ }

ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك،

وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك،

وهو الشيطان



كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } .



وقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ

أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ

بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }


فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم

يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة

ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم

وهم الصادقون البارون في ذلك،


فحينئذ يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها،

ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال،

وما أسلفوا من رديء الخصال،

ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين،

وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم،

واضمحلت معبوداتهم،

وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.



ولهذا قال تعالى: { هُنَالِكَ } أي: في ذلك اليوم

{ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } أي: تتفقد أعمالها وكسبها،

وتتبعه بالجزاء، وتجازى بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر،

وضل عنهم ما كانوا يفترون

من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك

وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.
 
البرهان 132





من سورة يونس عليه الصلاة والسلام






{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ

وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ

وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ *

فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ

فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ *

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }


{ 31 - 33 ْ}



أي: { قل ْ} لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا

- محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية،

على ما أنكروه من توحيد الألوهية -


{ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }

بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض،

وتيسير أسبابها فيها؟


{ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ }

أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟،

وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل،

ولكمال شرفهما ونفعهما.


{ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ }

كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى،

وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك،


{ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } عكس هذه المذكورات،


{ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } في العالم العلوي والسفلي،

وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية،


فإنك إذا سألتهم عن ذلك { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ }

لأنهم يعترفون بجميع ذلك،

وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.


{ فَقُلْ } لهم إلزامًا بالحجة

{ أَفَلَا تَتَّقُونَ } الله فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له،

وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.


{ فَذَلِكُمُ } الذي وصف نفسه بما وصفها به

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي: المألوه المعبود المحمود،

المربي جميع الخلق بالنعم

وهو: { الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ }



فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء،

الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،

ولا يأتي بالحسنات إلا هو،

ولا يدفع السيئات إلا هو،

ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.


{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } عن عبادة من هذا وصفه،

إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم،

ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا،

ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.


فليس له من الملك مثقال ذرة،

ولا شركة له بوجه من الوجوه،

ولا يشفع عند الله إلا بإذنه،


فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به،

لقد عدموا عقولهم، بعد أن عدموا أديانهم،

بل فقدوا دنياهم وأخراهم.



ولهذا قال تعالى عنهم:

{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات،

ما فيه عبرة لأولي الألباب،

وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.
 
البرهان 133





من سورة يونس عليه الصلاة والسلام






{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ

قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ

أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ

أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى

فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا

إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }


{ 34 - 36 ْ}



يقول تعالى - مبينًا عجز آلهة المشركين،

وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع الله-

{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ } أي: يبتديه

{ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير،

أي: ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده،

وهي أضعف من ذلك وأعجز،


{ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }

من غير مشارك ولا معاون له على ذلك.


{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }

أي: تصرفون وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء والإعادة

إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.


{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ }

ببيانه وإرشاده، أو بإلهامه وتوفيقه.


{ قُلِ اللَّهُ } وحده

{ يَهْدِي لِلْحَقِّ } بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق،

والإعانة إلى سلوك أقوم طريق.


{ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي } أي: لا يهتدي

{ إِلَّا أَنْ يُهْدَى } لعدم علمه، ولضلاله،

وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى


{ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }

أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل،

بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان،

أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده.


فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله

أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله،

بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها،

فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟


فالجواب: أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان،

أقبح البهتان، وأضل الضلال،

حتى اعتقد ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.


ولهذا قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أي:

ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله،

فإنه ليس لله شريك أصلا عقلًا ولا نقلاً،

وإنما يتبعون الظن و { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا }

فسموها آلهة، وعبدوها مع الله،

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ْ} .


{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }

وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.
 
البرهان 134



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام




{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ

إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ

وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

{ 61 }




يخبر تعالى عن عموم مشاهدته،

واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم وسكناتهم،

وفي ضمن هذا الدعوة لمراقبته على الدوام


فقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ }

أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية.


{ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ }

أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.


{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } صغير أو كبير

{ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ }

أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.


فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة،

والاجتهاد فيها، وإياكم وما يكره الله تعالى،

فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.



{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ }

أي: ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته

{ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه.



وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر،

كثيرًا ما يقرن الله بينهما،


وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء،

وكتابته المحيطة بجميع الحوادث،


كقوله تعالى:

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }



 
البرهان 135



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *

الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }


{ 62 - 64 }



يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم

فقال: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }

فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال.


{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال،

وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،

ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.



ثم ذكر وصفهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا }

بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره،

وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.


فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى] وليًا،


و { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }


أما البشارة في الدنيا،

فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة،

وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق،

وصرفه عن مساوئ الأخلاق.


وأما في الآخرة،

فأولها البشارة عند قبض أرواحهم،


كما قال تعالى:

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ

أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }


وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.


وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم،

والنجاة من العذاب الأليم.


{ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } بل ما وعد الله فهو حق،

لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله،

الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.



{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور،

والظفر بكل مطلوب محبوب،


وحصر الفوز فيه،

لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى.


والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب،

رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى،

ولهذا أطلق ذلك فلم يقيده.
 
البرهان 136



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ *

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }

{ 66 - 67 }



يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا،

يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه،

فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون،

لا يستحقون شيئًا من العبادة،

وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه،



ولهذا قال: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } الذي لا يغني من الحق شيئًا

{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان.



فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله،

فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة،

فلن يستطيعوا،

فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق،

أو يملك شيئًا من المخلوقات،

أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.



و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ }

في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض،

فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا.


{ و } جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا } أي: مضيئًا، يبصر به الخلق،

فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.



{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }

عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد،

فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون،


يستدلون بها على أنه وحده المعبود

وأنه الإله الحق،

وأن إلهية ما سواه باطلة،

وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.
 
البرهان 137



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ


لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ *

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ

ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }

{ 68 - 70 }


يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين

{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا }

فنزه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ }

أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا،



ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:

أحدها: قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ } أي: الغنى منحصر فيه،

وأنواع الغنى مستغرقة فيه،

فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه،

فإذا كان غنيًا من كل وجه،

فلأي شيء يتخذ الولد؟

ألحاجة منه إلى الولد،

فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.



البرهان الثاني، قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }

وهذه كلمة جامعة عامة

لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض،

الجميع مخلوقون عبيد مماليك.


ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد،

فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا.

فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.



البرهان الثالث، قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا }

أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا،

فلو كان لهم دليل لأبدوه،

فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه.

وأن ذلك قول بلا علم،


ولهذا قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

فإن هذا من أعظم المحرمات.



{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }

أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم،

وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم في الدنيا قليلاً،

ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه،

فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون.


{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }


 
البرهان 138




من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي

فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ

وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ

فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }

{ 104 - 106 }



يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين،

وإمام المتقين وخير الموقنين:

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي }

أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه،

بل لدي العلم اليقيني أنه الحق،

وأن ما تدعون من دون الله باطل،

ولي على ذلك الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.


ولهذا قال: { فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

من الأنداد، والأصنام وغيرها،

لأنها لا تخلق ولا ترزق،

ولا تدبر شيئًا من الأمور،

وإنما هي مخلوقة مسخرة،

ليس فيها ما يقتضي عبادتها.



{ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ }

أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم،

ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد،

ويصلى له ويخضع ويسجد.


{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا }

أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله،

وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه،



{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

لا في حالهم، ولا تكن معهم.


{ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ }

وهذا وصف لكل مخلوق،

أنه لا ينفع ولا يضر،

وإنما النافع الضار، هو الله تعالى.


{ فَإِنْ فَعَلْتَ }

بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك

{ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }

أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها،


وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى:

{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }



فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره،

لكان من الظالمين المشركين

فكيف بغيره ؟!!
 
البرهان 139




من سورة يونس عليه الصلاة والسلام






{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ

فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ

وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ

يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }


{ 107 }



هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة،

فإنه النافع الضار، المعطي المانع،

الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها

{ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ }

لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء،

لم ينفعوا إلا بما كتبه الله،

ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا،

لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله،


ولهذا قال: { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ }

أي: لا يقدر أحد من الخلق، أن يرد فضله وإحسانه،



كما قال تعالى:

{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا

وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }



{ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }

أي: يختص برحمته من شاء من خلقه،

والله ذو الفضل العظيم،


{ وَهُوَ الْغَفُورُ } لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته،

ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.


{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء،

ووصل جوده إلى جميع الموجودات،

بحيث لا تستغنى عن إحسانه، طرفة عين،



فإذا عرف العبد بالدليل القاطع،

أن الله، هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم،

وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات،

وأن أحدًا من الخلق، ليس بيده من هذا شيء

إلا ما أجراه الله على يده،

جزم بأن الله هو الحق،

وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
 
البرهان 140



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )






{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا

وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا

كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

{ 6 }



أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري،

فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها على الله.


{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي: يعلم مستقر هذه الدواب،

وهو: المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه،

ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها،

وعوارض أحوالها.


{ كُلِّ } من تفاصيل أحوالها

{ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة،

والتي تقع في السماوات والأرض.


الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه،

ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه،

فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها،

وأحاط علما بذواتها، وصفاتها.
 
البرهان 141



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )






{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ

لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }

{ 7 }



يخبر تعالى أنه { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }

أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة

{ و } حين خلق السماوات والأرض

{ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فوق السماء السابعة.


فبعد أن خلق السماوات والأرض استوى عليه يدبر الأمور،

ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية.



ولهذا قال: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: ليمتحنكم،

إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض بأمره ونهيه،

فينظر أيكم أحسن عملا.



قال الفضيل بن عياض رحمه الله:

"أخلصه وأصوبه"

قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه" ؟.


فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل.


وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل،

حتى يكون خالصا صوابا.


والخالص: أن يكون لوجه الله،

والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة،



وهذا كما قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }


وقال تعالى:

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }



فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته بأسمائه وصفاته،

وأمرهم بذلك،

فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين،

ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون،

ولا بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها

على ما أمرهم به ونهاهم.
 
البرهان 142



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )





{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ

فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }


{ 13 - 14 }




{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن؟

فأجابهم بقوله: { قُلْ } لهم

{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

أنه قد افتراه ،

فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة،

وأنتم الأعداء حقا، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته،

فإن كنتم صادقين، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.


{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } على شيء من ذلكم


{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ }

[من عند الله] لقيام الدليل والمقتضي، وانتفاء المعارض.



{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: واعلموا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

أي: هو وحده المستحق للألوهية والعبادة،

{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

أي: منقادون لألوهيته، مستسلمون لعبوديته،



وفي هذه الآيات

إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله

أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.


خصوصا إذا كان القدح لا مستند له،

ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك،

ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه،



وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها.

بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض،

على جميع المسائل والمطالب.



وفيها أن هذا القرآن، معجز بنفسه،

لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله،

ولا بعشر سور من مثله، بل ولا بسورة من مثله،

لأن الأعداء البلغاء الفصحاء، تحداهم الله بذلك،

فلم يعارضوه، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك.



وفيها: أن مما يطلب فيه العلم، ولا يكفي غلبة الظن،

علم القرآن، وعلم التوحيد،


لقوله تعالى:

{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
 
البرهان 143



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا

نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ

وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

{ 15 - 16 }



يقول تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }

أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا،

وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة،

من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث.

قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء،

ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا،

فهذا لا يكون إلا كافرا،

لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان

يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا،

بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال

أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.

ولكن هذا الشقي، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها



{ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا }

أي: نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا.


{ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }

أي: لا ينقصون شيئا مما قدر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم.


{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ }

خالدين فيها أبدا، لا يفتَّر عنهم العذاب،
وقد حرموا جزيل الثواب.


{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا } أي: في الدنيا،

أي: بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله،

وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها،

ولا وجود لشرطها وهو الإيمان.
 
البرهان 144



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )




{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }


{ 23 }




يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم،

أي:صدقوا واعترفوا لما أمر الله بالإيمان به،

من أصول الدين وقواعده.


{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان.


{ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ }

أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه،

وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه.


{ أُولَئِكَ } الذين جمعوا تلك الصفات

{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه،

ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.
 
البرهان 145




من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً

قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ

هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }

{ 61 }



أي:{ و } أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ }

وهم: عاد الثانية، المعروفون، الذين يسكنون الحجر، ووادي القرى،

{ أَخَاهُمْ } في النسب

{ صَالِحًا } عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،

يدعوهم إلى عبادة الله وحده،



فـ { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ }

أي: وحدوه، وأخلصوا له الدين

{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }

لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.



{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } أي: خلقكم فيها

{ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي: استخلفكم فيها،

وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة،

ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون،

وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها،


فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك،

فلا تشركوا به في عبادته.



{ فَاسْتَغْفِرُوهُ }

مما صدر منكم، من الكفر، والشرك، والمعاصي, وأقلعوا عنها،

{ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي: ارجعوا إليه بالتوبة النصوح، والإنابة،



{ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ }

أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة،

يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب،


واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص،

فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق،

وهو المذكور في قوله تعالى:

{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }


والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه،

وهو المذكور في قوله تعالى { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }




وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى:

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ }

وهذا النوع قرب يقتضي إلطافه تعالى،

وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم،

ولهذا يقرن، باسمه "القريب" اسمه "المجيب"


 
البرهان 146




من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ قَالُواْ يٰصَـٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَـٰذَا

أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا

وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }

{ 62 }



فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام ،

ورغبهم في الإخلاص لله وحده,

ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة.



{ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا }

أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع،

وهذا شهادة منهم لنبيهم صالح،

أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،

وأنه من خيار قومه.


ولكنه لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة,

قالوا هذه المقالة التي مضمونها أنك [ قد] كنت كاملا،

والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير.


وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم:

{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }

وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح،

كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين،


وكيف ينهاهم عن عبادة من لا ينفع ولا يضر،

ولا يغني شيئا من الأحجار والأشجار ونحوها.


وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم،

الذي لم تزل نعمه عليهم تترى,

وإحسانه عليهم دائما ينزل،

الذي ما بهم من نعمة إلا منه،

ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.



{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }

أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه،

شكا مؤثرا في قلوبنا الريب،

وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه لاتبعوه،

وهم كذبة في ذلك.
 
عودة
أعلى