من براهين التوحيد في القرآن المجيد

البرهــــان 51


من سورة النساء


{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ

إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

{ 171 }




ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع.

وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلام،

ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية

الذي لا يليق بغير الله،

فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات، فالغلو كذلك،





ولهذا قال: { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ }

وهذا الكلام يتضمن ثلاثة أشياء:

أمرين منهي عنهما، وهما قول الكذب على الله،
والقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله،

والثالث: مأمور به وهو قول الحق في هذه الأمور.





ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية،
وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام نصَّ على قول الحق فيه،
[SIZE=+0]المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية فقال:[/SIZE]


[SIZE=+0][SIZE=+0]{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ }[/SIZE][/SIZE]​

أي: غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال

أعلى حالة تكون للمخلوقين،

وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأجلّ المثوبات.


وأنه { كَلِمَتُهُ } التي { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ }

أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى،

ولم يكن تلك الكلمة، وإنما كان بها،

[SIZE=+0]وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم.[/SIZE]







وكذلك قوله: { وَرُوحٌ مّنْهُ }

أي: من الأرواح التي خلقها وكملها بالصفات الفاضلة والأخلاق الكاملة،

أرسل الله روحه جبريل عليه السلام فنفخ في فرج مريم عليها السلام،

فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلام.



فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلام،

أمر أهل الكتاب بالإيمان به وبرسله،

ونهاهم أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة أحدهم عيسى، والثاني مريم،

فهذه مقالة النصارى قبحهم الله.



فأمرهم أن ينتهوا، وأخبر أن ذلك خير لهم،

لأنه الذي يتعين أنه سبيل النجاة، وما سواه فهو طريق الهلاك،




ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال:

{ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

أي: هو المنفرد بالألوهية، الذي لا تنبغي العبادة إلا له.

{ سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس

{ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } لأن { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }

فالكل مملوكون له مفتقرون إليه،



فمحال أن يكون له شريك منهم أو ولد.




ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي

أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها،

ومجازيهم عليها تعالى.
 
البرهــــان 52


من سورة النساء



{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا *
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

{ 172 ، 173 }





لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام،

وذكر أنه عبده ورسوله،

ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه،

أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو { وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }

فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى،

ونفي الشيء فيه إثبات ضده.



أي: فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم،

[SIZE=+0]وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم،[/SIZE]​

[SIZE=+0]فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم،[/SIZE]​

[SIZE=+0]فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته،[/SIZE]​

[SIZE=+0]بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.[/SIZE]






ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق

فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا،

بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب،




ولهذا قال: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا }


أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه،

المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين،

فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل.







ثم فصل حكمه فيهم فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي:

جمعوا بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات،

من حقوق الله وحقوق عباده.


{ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي: الأجور التي رتبها على الأعمال،


كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.


{ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ }

من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم،

ولم يخطر على قلوبهم.





ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب، والمناكح،


والمناظر والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن،

بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح.






{ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا } أي: عن عبادة الله تعالى

{ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وهو سخط الله وغضبه،

والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.


{ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب،

ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب،

بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين،

وتركهم في عذابهم خالدين،

وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.
 
البرهــــان 53


من سورة المائدة



{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي


وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
}

{ 3 }





واليوم المشار إليه يوم عرفة، إذ أتم الله دينه، ونصر عبده ورسوله،

وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا،

بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك.


فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره،

يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم،

وصاروا يخافون منهم ويخشون،

ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم

سنة عشر حجة الوداع

- لم يحج فيها مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.





ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ }


أي: فلا تخشوا المشركين،

واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم،

ورد كيدهم في نحورهم.





{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }

بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع،
[SIZE=+0]
ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية،

في أحكام الدين أصوله وفروعه.

فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة،

من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه،

قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه،

وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
[/SIZE]




{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } الظاهرة والباطنة

{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }


أي: اخترته واصطفيته لكم دينا،

كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم،

واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.


 
البرهــــان 54


من سورة المائدة



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

{ 35 }




هذا أمر من الله لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه،
وذلك بأن يجتهد العبد، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه الله،
من معاصي القلب واللسان والجوارح، الظاهرة والباطنة. ويستعين بالله على تركها،
لينجو بذلك من سخط الله وعذابه.





{ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }

[SIZE=+0]أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب له، [/SIZE]
[SIZE=+0]

وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه،

والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل.

والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها،

من أنواع القراءة والذكر،

ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه، والبدن، والنصح لعباد الله،

فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله.

ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله،

فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،

ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها] ويستجيب الله له الدعاء.​
[/SIZE]






ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه،

الجهاد في سبيله، وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي، واللسان،

والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد،

لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات.

ولأن من قام به، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى​







{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

إذا اتقيتم الله بترك المعاصي،

وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات،

وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته.

والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب،

والنجاة من كل مرهوب،

فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم.​
 
البرهــــان 55


من سورة المائدة


{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
{ 44 }


{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

{ 45 }



{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }

من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه،

لغرض من أغراضه الفاسدة



{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }


فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر،

وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه.

وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب،

ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.




{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }



قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق،

فهو ظلم أكبر، عند استحلاله،


وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.
 
البرهــــان 56


من سورة المائدة



{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

{ 50 }





{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ }

أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية،

وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله.


فلا ثمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية.

فمن أعرض عن الأول

ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي،

ولهذا أضافه الله للجاهلية،

وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم،

والعدل والقسط، والنور والهدى.




{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }


فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين

ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء،

وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه.

واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل.

 
البرهــان 57



من سورة المائدة




{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }


{ 51 - 53 }







يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة،
أن لا يتخذوهم أولياء. فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم،
فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم،
بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم،




فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم،
ولهذا قال: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم.
والتولي القليل يدعو إلى الكثير،
ثم يتدرج شيئا فشيئا،
حتى يكون العبد منهم.





{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
أي: الذين وصْفُهم الظلم، وإليه يَرجعون، وعليه يعولون.
فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك .
 
البرهــان 58



من سورة المائدة



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }


{ 54 }




يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين،

وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه.

وأن لله عبادا مخلصين، ورجالا صادقين،

قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم،

وأنهم أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا،




أجلُّ صفاتهم أن الله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }

فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه،

وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه،

وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير،

ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات،

وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.




ومن لوازم محبة العبد لربه،

أنه لابد أن يتصف بمتابعة الرسول

صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا،

في أقواله وأعماله وجميع أحواله،

كما قال تعالى:

{ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }




كما أن من لازم محبة الله للعبد،

أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل،


كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله:

"وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه،

ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه،

فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به،

وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،

ورجله التي يمشي بها،

ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".




ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى، والإكثار من ذكره،

فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا،

بل غير موجودة وإن وجدت دعواها،

ومن أحب الله أكثر من ذكره،

وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل،

وغفر له الكثير من الزلل.





ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين }

فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم،

ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم،

وقرب الشيء الذي يطلب منهم




وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله أعزة،

قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم،

وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم،



قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ

تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }




وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }

فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله،

ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم،



ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن.

فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم،

وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.




{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم.


{ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين،

وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم،



فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين،

وتفتر قوته عند عذل العاذلين.

وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق

وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله،

[SIZE=+0]فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله،[/SIZE]​

[SIZE=+0]حتى لا يخاف في الله لومة لائم.[/SIZE]​



ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية،

المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير

أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم،




وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله،

وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب،




فقال: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم }

أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن،

قد عمت رحمته كل شيء،

ويوسع على أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم،

ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه،

فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.
 
البرهــان 59


من سورة المائدة



{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }

{ 55 ، 56 }



لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم،

وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين،

أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه، وذكر فائدة ذلك ومصلحته



فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }

فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى.

فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا،

ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله،

ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه،



وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود،

بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها،

وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.




وقوله: { وَهُمْ رَاكِعُونَ } أي: خاضعون لله ذليلون.



فأداة الحصر في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا }

تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين،

والتبري من ولاية غيرهم.




ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال:

{ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }

أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية،

وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة،



كما قال تعالى: { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }



وهذه بشارة عظيمة، لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده،

أن له الغلبة،

وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى،

فآخر أمره الغلبة والانتصار،

ومن أصدق من الله قيلا.
 
البرهــان 60



من سورة المائدة



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ }


{ 57 ، 58 }



ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم،

ويبدون لهم أسرار المؤمنين،
ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين،



وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم،

ويحثهم على معاداتهم،

وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره

مما تدعوهم إلى معاداتهم،



وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين،

من قدحهم في دين المسلمين،

واتخاذهم إياه هزوا ولعبا، واحتقاره واستصغاره،

خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين، وأجلُّ عباداتهم،

إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا،

وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم،

وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها،

ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس.



فإذا علمتم أيها المؤمنون حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم،

فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص،

وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال،

وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.



فكيف تدعي لنفسك دينا قيما،
وأنه الدين الحق وما سواه باطل،
وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا،
وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟!

وهذا فيه من التهييج على عداوتهم


ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.
 
البرهــان 61



من سورة المائدة




{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا

بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ


وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
{ 64 }




يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال:


{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أي: عن الخير والإحسان والبر.




{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم.


فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان.


فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.





فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله،


وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء،


وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي.





ولهذا قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }


لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد،


فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي،


وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده،


وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.





فيداه سحاء الليل والنهار،


وخيره في جميع الأوقات مدرارا،


يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا،


ويفك أسيرا ويجبر كسيرا,


ويجيب سائلا، ويعطي فقيرا عائلا،


ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين.


وينعم على من لم يسأله،


ويعافي من طلب العافية،


ولا يحرم من خيره عاصيا،


بل خيره يرتع فيه البر والفاجر،





ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال
ثم يحمدهم عليها،


ويضيفها إليهم، وهي من جوده
ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل
ما لا يدركه الوصف،
ولا يخطر على بال العبد،


ويلطف بهم في جميع أمورهم،
ويوصل إليهم من الإحسان،
ويدفع عنهم من النقم
ما لا يشعرون بكثير منه،




فسبحان مَن كل النعم التي بالعباد فمنه،


وإليه يجأرون في دفع المكاره،


وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه,


بل هو كما أثنى على نفسه،


وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين،


بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.




وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه،


ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله،


بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة،


ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم،


لهلكوا، وشقوا في دنياهم،


ولكنهم يقولون تلك الأقوال،


وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح،


ويمهلهم ولا يهملهم.







وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }



وهذا أعظم العقوبات على العبد،


أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله،


الذي فيه حياة القلب والروح،


وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين،


الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده,


توجب عليهم المبادرة إلى قبولها,


والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها,




أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه،


وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره،


وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها،


ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة.




{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }


فلا يتآلفون، ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم،


بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة




{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ } ليكيدوا بها الإسلام وأهله،


وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم



{ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم.



{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض،


بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل،


والتعويق عن الدخول في الإسلام.



[SIZE=+0]{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }[/SIZE]


بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.
 
البرهــان 62



من سورة المائدة




{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ

إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *



لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ

وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ

وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *




مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ

كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ


انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }


{ 72 / 75 }




يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }

بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية،

والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى،



وقال لهم: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }

فأثبت لنفسه العبودية التامة،

ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.




{ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره.


{ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }



[SIZE=+0]وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق،[/SIZE]​

[SIZE=+0]وصرف ما خلقه الله له وهو العبادة الخالصة لغير من هي له، [/SIZE]​

[SIZE=+0]فاستحق أن يخلد في النار.[/SIZE]​




{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }

ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.





{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ }

وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم،

زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم،

تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.



وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى،

كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟!



كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ؟!


كيف خفي عليهم رب العالمين؟!





قال تعالى رادا عليهم وعلى أشباههم :

{ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ }


متصف بكل صفة كمال، منـزه عن كل نقص،

منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه.

فكيف يجعل معه إله غيره؟


تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.




ثم توعدهم بقوله:

{ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }



ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده

فقال: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ }


أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد،

وبأن عيسى عبد الله ورسوله،

عما كانوا يقولونه { وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } عن ما صدر منهم

{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء،

ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات.




وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ }




ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق،

فقال: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }


أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين،

الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله،

وهو من جنس الرسل قبله،

[SIZE=+0]لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.[/SIZE]​



{ وَأُمَّهُ } مريم { صِدِّيقَةٌ } أي: هذا أيضا غايتها،

أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء.

والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح.


[SIZE=+0][SIZE=+0]وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، [/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0]وكفى بذلك فضلا وشرفا.[/SIZE]

[SIZE=+0]وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية،[/SIZE]



لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى:

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ }


فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله،

وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟



وقوله: { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ }

دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران،

محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب،

فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب،

ولم يحتاجا إلى شيء،

فإن الإله هو الغني الحميد.



ولما بين تعالى البرهان قال:

{ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ } الموضحة للحق، الكاشفة لليقين،

ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا،

بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم،

وذلك ظلم وعناد منهم.
 
البرهــان 63




من سورة المائدة





{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

{ 76 }





أي: { قُلْ } لهم أيها الرسول:


{ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } من المخلوقين الفقراء المحتاجين،




{ ما لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }

وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع،






{ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ }

لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.





{ الْعَلِيمُ }

بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة،




فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه

هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة،

ويخلص له الدين.
 
البرهــان 64




من سورة المائدة



{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }

{ 77 _ 81 }





يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ }

أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل،

وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم.




وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا لـ { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ }

أي: تقدم ضلالهم.




{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه.



{ وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي: قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال،



وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم

وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة.

 
البرهــان 65



من سورة المائدة



{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ


وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ


وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ *





وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ


قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا


أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }



{ 103 _ 104 }




هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله،

وحرموا ما أحله الله،

فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما،

على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله





فقال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ }

وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة.




{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه،

سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل،

وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.




{ وَلَا حَامٍ } أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل،

إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم.




فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان.

وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم،




ولهذا قال: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

فلا نقل فيها ولا عقل،

ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.





فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا،




و { قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } من الدين،

ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله.




ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر.

ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا،


أي: ليس عندهم من المعقول شيء،

ولا من العلم والهدى شيء.


فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح،

ولا عقل رجيح،

وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله


الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا.
 
البرهــان 66




من سورة المائدة



{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قال سُبْحَانَكَ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ *



مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *



إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهن
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ 116 _ 120 }




{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة،
فيقول الله هذا الكلام لعيسى.


فيتبرأ عيسى ويقول:

{ سُبْحَانَكَ } عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك.




{ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }

أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي،

[SIZE=+0]فإنه ليس أحد من المخلوقين،[/SIZE]

[SIZE=+0]لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم[/SIZE]

[SIZE=+0]له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون،[/SIZE]

[SIZE=+0]وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون [/SIZE]​



{ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }

فأنت أعلم بما صدر مني

و { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه،

فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك"

وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف،

وأن هذا من الأمور المحالة،

ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.



ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل،

فقال: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ }

فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك،

{ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }

أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له،

المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله،

وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.



{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ }

أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به.


{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }

أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم.



{ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } علما وسمعا وبصرا،

فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات،

فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.



{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم،

فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم.

{ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة،

لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة.

الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.



{ قَالَ اللَّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة،

ومَن الفائز منهم ومَن الهالك، ومَن الشقي ومَن السعيد،

{ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }

والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم

على الصراط المستقيم والهدْي القويم،

فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق،

إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر،


ولهذا قال: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

والكاذبون بضدهم، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، وثمرة أعمالهم الفاسدة.


{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي،

ولهذا قال: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء،

بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة بأمره.
 
جزاكم الله تعالى خيرا أخانا الكريم
وبارك الله فيكم
 
البرهــان 67



من سورة الأنعام




{ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ *

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }
{ 1 ، 2 }




هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال،
ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا.
فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض،
الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته،
وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير،




وعلى جعله الظلمات والنور،
وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر.

والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة،

ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة،

وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى،

هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له،



ومع هذا الدليل ووضوح البرهان

{ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه،

يسوونهم به في العبادة والتعظيم،

مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال،

وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.



{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام.

{ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا } أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا،

تتمتعون به وتمتحنون، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله.



{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر.



{ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } وهي: الدار الآخرة،

التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر.




{ ثُمَّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة

{ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون في وعد الله ووعيده،

ووقوع الجزاء يوم القيامة.



وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها.

ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها،،


وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به،



كما قال تعالى:

[SIZE=+0]{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [/SIZE]​

وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
 
البرهــان 68



من سورة الأنعام




{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

{ 12 }





يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم

{ قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله، مقررا لهم وملزما بالتوحيد:

{ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: مَن الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟




{ قُلْ } لهم: { لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه،

أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير،

أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟".





وقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }

أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره،

وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه،



وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه،

وأن العطاء أحب إليه من المنع،

وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة،

إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم،

ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم،





وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ }

وهذا قسم منه، وهو أصدق المخبرين،

وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين،


ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق،

فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم،

ولهذا قال: { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
 
البرهــان 69




من سورة الأنعام



{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *


قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ *



وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *


وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى
قُلْ لَا أَشْهَدُ
قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * }
{ 13 _ 19 }



اعلم أن هذه السورة الكريمة، قد اشتملت على تقرير التوحيد، بكل دليل عقلي ونقلي،
بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله.




فهذه الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك.

فذكر أن { لَهُ } تعالى { مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }

وذلك هو المخلوقات كلها، من آدميها، وجِنِّها، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها،



فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك،

فهل يصح في عقل ونقل،

أن يعبد مِن هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟



ويترك الإخلاص للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟!
أم العقول السليمة، والفطر المستقيمة،
تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف،
والرجاء لله رب العالمين؟!.



{ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات، بتفنن الحاجات.

{ الْعَلِيمُ } بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون،

المطلع على الظواهر والبواطن؟!.



{ قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله: { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا }

من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني، وينصرني؟!.



فلا أتخذ من دونه تعالى وليا،لأنه فاطر السماوات والأرض، أي:

خالقهما ومدبرهما.



{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ }

أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم،

فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟"




{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة،
لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي.




{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين،

لا في اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم،

فهذا أفرض الفروض عليَّ، وأوجب الواجبات.



{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار، وسخطَ الجبار.


وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه، ويُحذر عقابه؛

لأنه مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم،


ومن نجا فيه فهو الفائز حقا،


كما أن من لم ينج منه فهو الهالك الشقي.


ومن أدلة توحيده،

أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء،

وجلب الخير والسراء.


ولهذا قال: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ }

من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أو هم أو نحوه.



{ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فإذا كان وحده النافع الضار،

فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية.



{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }

فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته،

وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه،

بل هم مدبرون مقهورون،


فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا،

كان هو المستحق للعبادة.



{ وَهُوَ الْحَكِيمُ } فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر.



{ الْخَبِيرُ } المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد.



{ قُلْ } لهم لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك:

{ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } على هذا الأصل العظيم.


{ قُلِ اللَّهُ } أكبر شهادة، فهو { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر،

وهو يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم،


كما قال تعالى

{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }


فالله حكيم قدير، فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه،

زاعما أن الله أرسله ولم يرسله،

وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره،

وأن الله أباح له دماء من خالفه، وأموالهم ونساءهم،

وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله،

فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة،

والآيات الظاهرة، وينصره،

ويخذل من خالفه وعاداه،

فأي: شهادة أكبر من هذه الشهادة؟"




وقوله: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ }

أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم،

لأنذركم به من العقاب الأليم.



والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به، من الترغيب، والترهيب،

وببيان الأعمال، والأقوال، الظاهرة والباطنة،

التي مَن قام بها، فقد قبل النذارة،

فهذا القرآن، فيه النذارة لكم أيها المخاطبون،


وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة،

فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.




لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده،

قال: قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله، والمكذبين لرسله

{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ }

أي: إن شهدوا، فلا تشهد معهم.



فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين، ورب العالمين،

وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة،

على توحيد الله وحده لا شريك له،



وشهادة أهل الشرك، الذين مرجت عقولهم وأديانهم،

وفسدت آراؤهم وأخلاقهم، وأضحكوا على أنفسهم العقلاء.



بل خالفوا بشهادة فطرهم،

وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى،

مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة، فضلا عن الحجج،


واختر لنفسك أي: الشهادتين، إن كنت تعقل،


ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه،

الذي أمرنا الله بالاقتداء به،




فقال: { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

أي: منفرد، لا يستحق العبودية والإلهية سواه،

كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير.


{ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } به، من الأوثان، والأنداد، وكل ما أشرك به مع الله.


فهذا حقيقة التوحيد،
إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.
 
البرهــان 70





من سورة الأنعام




{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ *

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا
وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ *


انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
{ 22 _ 24 }




يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة،

وأنهم يسألون ويوبخون فيقال لهم



{ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

أي إن الله ليس له شريك، وإنما ذلك على وجه الزعم منهم والافتراء.



{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي: لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤال،

إلا إنكارهم لشركهم وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين.



{ انْظُرْ } متعجبا منهم ومن أحوالهم




{ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }

أي: كذبوا كذبا عاد بالخسار على أنفسهم

وضرهم والله غاية الضرر






{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

من الشركاء الذين زعموهم مع الله،

تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
 
البرهــان 71



من سورة الأنعام



{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }

{40، 41}




يقول تعالى لرسوله: { قُلْ } للمشركين بالله، العادلين به غيره:



{ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ

أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

أي: إذا حصلت هذه المشقات، وهذه الكروب،

التي يضطر إلى دفعها،

هل تدعون آلهتكم وأصنامكم،

أم تدعون ربكم الملك الحق المبين.



{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ


وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }

فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد،
تنسونهم،

لعلمكم أنهم
لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا،

ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا.



وتخلصون لله الدعاء،
لعلمكم أنه هو النافع الضار،

المجيب لدعوة المضطر،


فما بالكم في الرخاء تشركون به،

وتجعلون له شركاء؟.



هل دلكم على ذلك، عقل أو نقل،

أم عندكم من سلطان بهذا؟

بل تفترون على الله الكذب؟
 
البرهــان 72


من سورة الأنعام


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ *

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً
هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }

{ 46 ، 47 }



يخبر تعالى، أنه كما أنه هو المتفرد بخلق الأشياء وتدبيرها،

فإنه المنفرد بالوحدانية والإلهية

فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ }

فبقيتم بلا سمع ولا بصر ولا عقل



{ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ }

فإذا لم يكن غير الله يأتي بذلك،

فلم عبدتم معه من لا قدرة له على شيء إلا إذا شاءه الله.



وهذا من أدلة التوحيد وبطلان الشرك،

ولهذا قال: { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } أي: ننوعها، ونأتي بها في كل فن،

ولتنير الحق، وتتبين سبيل المجرمين.

{ ثُمَّ هُمْ } مع هذا البيان التام

{ يَصْدِفُونَ } عن آيات الله، ويعرضون عنها.



{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ } أي: أخبروني

{ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً }

أي: مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات، تعلمون بها وقوعه.



{ هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }

الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم، بظلمهم وعنادهم.

فاحذروا أن تقيموا على الظلم،

فإنه الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي.
 
البرهــان 73





من سورة الأنعام




{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ
وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }
{ 50 }






يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ المقترحين عليه الآيات،

أو القائلين له: إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله.


{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي: مفاتيح رزقه ورحمته.




{ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ }

وإنما ذلك كله عند الله

فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها

وما يمسك فلا مرسل له من بعده،

وهو وحده عالم الغيب والشهادة.

فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.





{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } فأكون نافذ التصرف قويا،

فلست أدعي فوق منزلتي، التي أنزلني الله بها.




{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي: هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه،

إن أتبع إلا ما يوحى إلي،

فأعمل به في نفسي، وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك.




فإذا عرفت منزلتي، فلأي شيء يبحث الباحث معي،

أو يطلب مني أمرا لست أدعيه،

وهل يلزم الإنسان، بغير ما هو بصدده؟.




ولأي شيء إذا دعوتكم بما أوحي إلي

أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي.

وهل هذا إلا ظلم منكم، وعناد، وتمرد؟




قل لهم في بيان الفرق، بين من قبل دعوتي، وانقاد لما أوحي إلي،

وبين من لم يكن كذلك




{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }

فتنزلون الأشياء منازلها، وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟
 
البرهــان 74



من سورة الأنعام



{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ
قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ *

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ
مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ
وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ *

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
{ 56 _ 58 }



يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْ } لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى:



{ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }


من الأنداد والأوثان،
التي لا تملك نفعا ولا ضرا،

ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،

فإن هذا باطل، وليس لكم فيه حجة بل ولا شبهة،

إلا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال،



ولهذا قال { قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } أي: إن اتبعت أهواءكم

{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } بوجه من الوجوه.


وأما ما أنا عليه، من توحيد الله وإخلاص العمل له،

فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة.



وأنا { عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي }

أي: على يقين مبين، بصحته، وبطلان ما عداه،

وهذه شهادة من الرسول جازمة، لا تقبل التردد،

وهو أعدل الشهود على الإطلاق.

فصدق بها المؤمنون، وتبين لهم من صحتها وصدقها،

بحسب ما مَنَّ الله به عليهم.



{ وَ } لكنكم أيها المشركون { كذبتم به } وهو لا يستحق هذا منكم،

ولا يليق به إلا التصديق، وإذا استمررتم على تكذيبكم،

فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة،

وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم، إذا شاء، وكيف شاء،

وإن استعجلتم به، فليس بيدي من الأمر شيء



{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ }

فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر ونهى،

فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب،

بحسب ما تقتضيه حكمته.

فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع،

وقد أوضح السبيل، وقص على عباده الحق قصا،

قطع به معاذيرهم، وانقطعت له حجتهم،

ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة



{ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } بين عباده، في الدنيا والآخرة،

فيفصل بينهم فصلا، يحمده عليه،

حتى من قضى عليه، ووجه الحق نحوه.



{ قُل } للمستعجلين بالعذاب، جهلا وعنادا وظلما،

{ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

فأوقعته بكم ولا خير لكم في ذلك،



ولكن الأمر، عند الحليم الصبور،

الذي يعصيه العاصون، ويتجرأ عليه المتجرئون،

وهو يعافيهم، ويرزقهم،

ويسدي عليهم نعمه، الظاهرة والباطنة.


{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } لا يخفى عليه من أحوالهم شيء،

فيمهلهم ولا يهملهم.
 
البرهــان 75





من سورة الأنعام





{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ
وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

{ 59 }





هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط،

وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه.

وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين،

فضلا عن غيرهم من العالمين،

وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار،

والرمال والحصى، والتراب،

وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها،

وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.





{ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ } من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر،

والدنيا والآخرة، إلا يعلمها.





{ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } من حبوب الثمار والزروع،

وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛

وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.





{ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ } هذا عموم بعد خصوص

{ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها،





وبعض هذا المذكور،
يبهر عقول العقلاء،
ويذهل أفئدة النبلاء،

فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها.


وأن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته،
لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك،

فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم،
الحميد المجيد، الشهيد، المحيط.


وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه،
بل كما أثنى على نفسه،
وفوق ما يثني عليه عباده،


فهذه الآية، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء،
وكتابه المحيط بجميع الحوادث.
 
البرهــان 76



من سورة الأنعام



{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *



وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ *

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ
أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }
{ 60 _ 62 }



هذا كله، تقرير لألوهيته، واحتجاج على المشركين به،

وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم، والإجلال والإكرام،

فأخبر أنه وحده، المتفرد بتدبير عباده، في يقظتهم ومنامهم،

وأنه يتوفاهم بالليل، وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم،

ويبعثهم في اليقظة من نومهم، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية

وهو تعالى يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال.



ثم لا يزال تعالى هكذا، يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم.

فيقضى بهذا التدبير، أجل مسمى، وهو: أجل الحياة،

وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت،




ولهذا قال: { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } لا إلى غيره

{ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر.



{ وَهُوَ } تعالى { الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }

ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة،

فليسوا يملكون من الأمر شيئا،

ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه،

ومع ذلك، فقد وكل بالعباد حفظةً من الملائكة،

يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل،




كما قال تعالى:

{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }


{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

فهذا حفظه لهم في حال الحياة.




{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا }

أي الملائكة الموكلون بقبض الأرواح.


{ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } في ذلك،

فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ولا ينقصون،

ولا ينفذون من ذلك، إلا بحسب المراسيم الإلهية والتقادير الربانية.



{ ثُمَّ } بعد الموت والحياة البرزخية، وما فيها من الخير والشر


{ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ }

أي: الذي تولاهم بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير،

ثم تولاهم بأمره ونهيه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب،

ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء،

ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات،

ويعاقبهم على الشرور والسيئات،



وَلهذا قال: { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } وحده لا شريك له

{ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } لكمال علمه وحفظه لأعمالهم،

بما أثبته في اللوح المحفوظ،

ثم أثبته ملائكته في الكتاب، الذي بأيديهم،



فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير،
وهو القاهر فوق عباده،
وقد اعتنى بهم كل الاعتناء، في جميع أحوالهم،

وهو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي،

فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته،

إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء،

ولا عنده مثقال ذرة من النفع،


ولا له قدرة وإرادة؟!.




أما والله لو علموا حلم الله عليهم،
وعفوه ورحمته بهم،
وهم يبارزونه بالشرك والكفران،
ويتجرءون على عظمته بالإفك والبهتان،
وهو يعافيهم ويرزقهم
لانجذبت دواعيهم إلى معرفته،
وذهلت عقولهم في حبه.

ولمقتوا أنفسهم أشد المقت،
حيث انقادوا لداعي الشيطان،
الموجب للخزي والخسران،
ولكنهم قوم لا يعقلون.
 
البرهــان 77



من سورة الأنعام



{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً
لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ
ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ }
{ 63 ، 64 }




أي { قُلْ } للمشركين بالله، الداعين معه آلهة أخرى،

ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية،

على ما أنكروا من توحيد الإلهية




{ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي: شدائدهما ومشقاتهما،

وحين يتعذر أو يتعسر عليكم وجه الحيلة،

فتدْعون ربكم تضرعا بقلب خاضع،

ولسان لا يزال يلهج بحاجته في الدعاء،

وتقولون وأنتم في تلك الحال:



{ لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ } الشدة التي وقعنا فيها

{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لله، أي المعترفين بنعمته،

الواضعين لها في طاعة ربهم،

الذين حفظوها عن أن يبذلوها في معصيته.




{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ }

أي: من هذه الشدة الخاصة،

ومن جميع الكروب العامة.



{ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ }

لا تفون لله بما قلتم، وتنسون نعمه عليكم،

فأي برهان أوضح من هذا على بطلان الشرك،

وصحة التوحيد؟"
 
البرهــان 78



من سورة الأنعام



{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ
فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

{ 68 ، 69 }



المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق،

من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها،

والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله،

فأمر الله رسوله أصلا، وأمته تبعا،

إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم،

وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل،

والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره،

فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.




فإن كان مصلحة كان مأمورا به،

وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به،

وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.


ثم قال:

{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ }

أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة.



{ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

يشمل الخائضين بالباطل،
وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم،

فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر،
الذي لا يقدر على إزالته.




هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله،

بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم،

أو يسكت عنهم، وعن الإنكار،

فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير،

وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم،

فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه،

فهذا ليس عليه حرج ولا إثم،



ولهذا قال: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.



وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام،

ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى.



وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ،

مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره،

كان تركه هو الواجب

لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا.
 
البرهــان 79



من سورة الأنعام



{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ


لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ


وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا
أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا
لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }


{ 70 }




المقصود من العباد، أن يخلصوا لله الدين،

بأن يعبدوه وحده لا شريك له،

ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه.

وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه،

وكون سعي العبد نافعا، وجدًّا، لا هزلا،

وإخلاصا لوجه الله، لا رياء وسمعة،

هذا هو الدين الحقيقي، الذي يقال له دين،




فأما من زعم أنه على الحق، وأنه صاحب دين وتقوى،

وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا. بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته،

وأقبل على كل ما يضره، ولَهَا في باطله، ولعب فيه ببدنه،

لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله، فهو لعب،

فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر، ولا يغتر به،

وتنظر حاله، ويحذر من أفعاله،

ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله.




{ وَذَكِّرْ بِهِ } أي: ذكر بالقرآن، ما ينفع العباد، أمرا، وتفصيلا، وتحسينا له،

بذكر ما فيه من أوصاف الحسن، وما يضر العباد نهيا عنه،

وتفصيلا لأنواعه، وبيان ما فيه من الأوصاف القبيحة الشنيعة الداعية لتركه،



وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت،

أي: قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب،

واستمرارها على ذلك المرهوب،

فذكرها، وعظها، لترتدع وتنزجر، وتكف عن فعلها.




وقوله { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ }

أي: قبل [أن] تحيط بها ذنوبها، ثم لا ينفعها أحد من الخلق،

لا قريب ولا صديق، ولا يتولاها من دون الله أحد،

ولا يشفع لها شافع



{ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أي: تفتدي بكل فداء، ولو بملء الأرض ذهبا

{ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي: لا يقبل ولا يفيد.



{ أُولَئِكَ } الموصوفون بما ذكر

{ الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي: أهلكوا وأيسوا من الخير،

وذلك { بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار قد انتهى حره،

يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم

{ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
 
البرهــان 80



من سورة الأنعام






{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا
وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ



كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ
لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا



قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *




وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ



وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ



قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }



{ 71 _ 73 }




{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله، الداعين معه غيره،



الذين يدعونكم إلى دينهم، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم،



التي يكتفي العاقل بذكر وصفها، عن النهي عنها،



فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه،



قبل أن تقام البراهين على ذلك،






فقال: { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا }



وهذا وصف، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله،



فإنه لا ينفع ولا يضر، وليس له من الأمر شيء،



إن الأمر إلا لله.






{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ }



أي: وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال، ومن الرشد إلى الغي،



ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم،



إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم.





فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد،


وصاحبها { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ }



أي: أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده.




فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى }


والشياطين يدعونه إلى الردى، فبقي بين الداعيين حائرا




وهذه حال الناس كلهم، إلا من عصمه الله تعالى،


فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي متعارضة،



دواعي الرسالة والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة



{ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى }



والصعود إلى أعلى عليين.





ودواعي الشيطان، ومن سلك مسلكه، والنفس الأمارة بالسوء،


يدعونه إلى الضلال، والنزول إلى أسفل سافلين،



فمن الناس من يكون مع داعي الهدى، في أموره كلها أو أغلبها،



ومنهم من بالعكس من ذلك.



ومنهم من يتساوى لديه الداعيان، ويتعارض عنده الجاذبان،



وفي هذا الموضع، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.





وقوله: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }



أي: ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله،



وما عداه فهو ضلال وردى وهلاك.



{ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }


بأن ننقاد لتوحيده، ونستسلم لأوامره ونواهيه،



وندخل تحت عبوديته،



فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد،



وأكمل تربية أوصلها إليهم.





{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }


أي: وأمرنا أن نقيم الصلاة بأركانها وشروطها وسننها ومكملاتها.




{ وَاتَّقُوهُ } بفعل ما أمر به، واجتناب ما عنه نهى.




{ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: تُجْمَعون ليوم القيامة،



فيجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها.






{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ }



ليأمر العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم،



{ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ }



الذي لا مرية فيه ولا مثنوية، ولا يقول شيئا عبثا




{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ }



أي: يوم القيامة، خصه بالذكر –مع أنه مالك كل شيء ـ



لأنه تنقطع فيه الأملاك، فلا يبقى ملك إلا الله الواحد القهار.






{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }



الذي له الحكمة التامة، والنعمة السابغة، والإحسان العظيم،



والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا،



لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

 
البرهــان 81





من سورة الأنعام




{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .... } إلى آخر القصة.
{ 74 _ 83 }





يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام،

مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك،




وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً }

أي: لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء،





{ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا،

وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم، ومدبركم.




{ وَكَذَلِكَ } حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه

{ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: ليرى ببصيرته، ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة




{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }

فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب.





{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي: أظلم

{ رَأَى كَوْكَبًا } لعله من الكواكب المضيئة،

لأن تخصيصه بالذكر، يدل على زيادته عن غيره،

ولهذا والله أعلم قال من قال: إنه الزهرة.




{ قَالَ هَذَا رَبِّي } أي: على وجه التنزل مع الخصم

أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟

وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟

فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.





{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي: غاب ذلك الكوكب

{ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي: الذي يغيب ويختفي عمن عبده،

فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده،

ومدبرا له في جميع شئونه،

فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب،

فمن أين يستحق العبادة؟!

وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه،

وأبطل الباطل؟!



{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا } أي: طالعا،

رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها { قَالَ هَذَا رَبِّي } تنزلا.





{ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ }

فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه،

وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له،

وإن لم يعنه على طاعته، فلا معين له.




{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ }

من الكوكب ومن القمر.


{ فَلَمَّا أَفَلَتْ } تقرر حينئذ الهدى، واضمحل الردى




فـ { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }

حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلانه.




{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا }

أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه.




{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد،

وأقام على ذلك البرهان





[وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب،

وهو أن المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه،

وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها.

وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته،

فليس عليه دليل]





{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }

أيُّ فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟

فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى درجات اليقين،

فإنه –هو بنفسه يدعو الناس إلى ما هو عليه.




{ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ }

فإنها لن تضرني،
ولن تمنع عني من النفع شيئا.




{ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }

فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية.





{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ }

وحالها حال العجز، وعدم النفع،




{ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ

مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا }

أي: إلا بمجرد اتباع الهوى.

{ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }






قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين

{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا } أي: يخلطوا

{ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }

الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء،

والهدايةُ إلى الصراط المستقيم،

فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا،

لا بشرك، ولا بمعاص،

حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة.


وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده،

ولكنهم يعملون السيئات،

حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن،

وإن لم يحصل لهم كمالها.


ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران،

لم يحصل لهم هداية ولا أمن،

بل حظهم الضلال والشقاء.





ولما حكم لإبراهيم عليه السلام، بما بين به من البراهين القاطعة

قال: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ }

أي: علا بها عليهم، وفلجهم بها.




{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ }

كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة،

فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات.




خصوصا العالم العامل المعلم،

فإنه يجعله الله إماما للناس،

بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره،

ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره.




قال تعالى

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } ،




{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

فلا يضع العلم والحكمة، إلا في المحل اللائق بها،
وهو أعلم بذلك المحل، وبما ينبغي له.
 
البرهــان 82






من سورة الأنعام





{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ

وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ

وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *








وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ

كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا
وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *








وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ

وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ


وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *




أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *






أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ


قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }





{ 84 _ 90 }







لما ذكر الله تعالى عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام،

وذكر ما مَنَّ الله عليه به، من العلم والدعوة، والصبر،

ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب.




وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله، وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة،

التي لا يدرك لها نظير فقال:





{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ابنه، الذي هو إسرائيل،

أبو الشعب الذي فضله الله على العالمين.





{ كُلًّا } منهما { هَدَيْنَا } الصراط المستقيم، في علمه وعمله.


{ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } وهدايته من أنواع الهدايات الخاصة

التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم؛

وهم أولو العزم من الرسل، الذي هو أحدهم.




{ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح، لأنه أقرب مذكور،

ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا، وهو من ذرية نوح،

لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه.






ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه،

ولوط -وإن لم يكن من ذريته- فإنه ممن آمن على يده،

فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك، أبلغ من كونه مجرد ابن له.






{ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } بن داود

{ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } بن يعقوب.

{ وَمُوسَى وَهَارُونَ } ابني عمران،




{ وَكَذَلِكَ } كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل،

لأنه أحسن في عبادة ربه، وأحسن في نفع الخلق


{ كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }

بأن نجعل لهم من الثناء الصدق، والذرية الصالحة، بحسب إحسانهم.





{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى } ابنه { وَعِيسَى } ابن مريم. { وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } هؤلاء

{ مِنَ الصَّالِحِينَ } في أخلاقهم وأعمالهم وعلومهم،

بل هم سادة الصالحين وقادتهم وأئمتهم.





{ وَإِسْمَاعِيلَ } بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب،

وهو الشعب العربي، ووالد سيد ولد آدم، محمد صلى الله عليه وسلم.




{ وَيُونُسَ } بن متى { وَلُوطًا } بن هاران، أخي إبراهيم.

{ وَكُلَا } من هؤلاء الأنبياء والمرسلين

{ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } لأن درجات الفضائل أربع –



وهي التي ذكرها الله بقوله:





{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ }





فهؤلاء من الدرجة العليا، بل هم أفضل الرسل على الإطلاق،

فالرسل الذين قصهم الله في كتابه،

أفضل ممن لم يقص علينا نبأهم بلا شك.






{ وَمِنْ آبَائِهِمْ } أي: آباء هؤلاء المذكورين

{ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } أي: وهدينا من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم.





{ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } أي: اخترناهم { وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

{ ذَلِكَ } الهدى المذكور { هُدَى اللَّهِ } الذي لا هدى إلا هداه.




{ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }

فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فلا هادي لكم غيره،

وممن شاء هدايته هؤلاء المذكورون.






{ وَلَوْ أَشْرَكُوا } على الفرض والتقدير

{ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

فإن الشرك محبط للعمل،
موجب للخلود في النار.



فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا -وحاشاهم-

لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى.






{ أُولَئِكَ } المذكورون { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }

أي: امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم

وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم.





فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين،

وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين،

صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين،

وبهذا الملحظ استدل بهذه من استدل من الصحابة،

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الرسل كلهم.






{ قُلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك:

{ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا }

أي: لا أطلب منكم مغرما ومالا، جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم

فيكون من أسباب امتناعكم، إن أجري إلا على الله.


{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }

يتذكرون به ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيذرونه،

ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه.





ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها،

والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها،


فإذا كان ذكرى للعالمين،

كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم،

فعليهم قبولها والشكر عليها.
 
البرهــان 83



من سورة الأنعام




{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ

وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

{ 93 _ 94 }




{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ }

أي: أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم

{ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } لا يغنون عنكم شيئا






{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ }

فإن المشركين يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة،

والأنبياء، والصالحين، وغيرهم،

وهم كلهم لله،

ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم،

وشركة في عبادتهم،





وهذا زعم منهم وظلم،

فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق لعبادتهم.

فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد،

تنـزيل لهم منـزلة الخالق المالك،

فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة.






{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }

أي: تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم،

من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا.





{ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة،

التي زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم.



واغتررتم بهذا الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له،

حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون،

وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.
 
البرهــان 84





من سورة الأنعام





{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ

وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ

ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *



فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا

ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *



وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ

لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *



وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ

قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

{ 95 _ 98 }





يخبر تعالى عن كماله، وعظمة سلطانه، وقوة اقتداره،

وسعة رحمته، وعموم كرمه، وشدة عنايته بخلقه،




فقال: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ } شامل لسائر الحبوب،

التى يباشر الناس زرعها، والتي لا يباشرونها،

كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار،

فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت،

على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومنافعها،

ويفلق النوى عن الأشجار، من النخيل والفواكه، وغير ذلك.

فينتفع الخلق، من الآدميين والأنعام، والدواب.



ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى، ويقتاتون،

وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك.


ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول، ويذهل الفحول،

ويريهم من بدائع صنعته، وكمال حكمته،

ما به يعرفونه ويوحدونه،

ويعلمون أنه هو الحق، وأن عبادة ما سواه باطلة.




{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } كما يخرج من المني حيوانا،

ومن البيضة فرخا، ومن الحب والنوى زرعا وشجرا.

{ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } وهو الذي لا نمو فيه، أو لا روح

{ مِنَ الْحَيِّ } كما يخرج من الأشجار والزروع النوى والحب،

ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك.





{ ذَلِكُمْ } الذي فعل ما فعل، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها

{ اللَّهُ } رَبُّكُمْ أي:

الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين،

وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه، وغذاهم بكرمه.




{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي: فأنى تصرفون،

وتصدون عن عبادة من هذا شأنه،

إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا،

ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا ؟ "





ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات، ذكر منته بتهيئة المساكن،

وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد، من الضياء والظلمة،

وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال:



{ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي: كما أنه فالق الحب والنوى،

كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي، الشامل لما على وجه الأرض،

بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا،

حتى تذهب ظلمة الليل كلها، ويخلفها الضياء والنور العام،

الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم، ومعايشهم،

ومنافع دينهم ودنياهم.




ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة،

التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله

{ اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم،

والأنعام إلى مأواها، والطيور إلى أوكارها، فتأخذ نصيبها من الراحة،

ثم يزيل الله ذلك بالضياء، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة




{ و } جعل تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات،

فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات،

ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر،

وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس،

واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس،

بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.





{ ذَلِكَ } التقدير المذكور

{ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }

الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة،
فجرت مذللة مسخرة بأمره،
بحيث لا تتعدى ما حده الله لها،
ولا تتقدم عنه ولا تتأخر

{ الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن،
والأوائل والأواخر.



ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه،
تسخير هذه المخلوقات العظيمة،
على تقدير، ونظام بديع،
تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله،
وموافقته للمصالح والحكم.




{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }

حين تشتبه عليكم المسالك، ويتحير في سيره السالك،

فجعل الله النجوم هداية للخلق إلى السبل،

التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم، وتجاراتهم، وأسفارهم.




منها: نجوم لا تزال ترى، ولا تسير عن محلها،

ومنها: ما هو مستمر السير، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك،

ويعرفون به الجهات والأوقات.





ودلت هذه الآية ونحوها، على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها

الذي يسمى علم التسيير، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك.




{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ } أي بيناها، ووضحناها،

وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة

{ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي: لأهل العلم والمعرفة،

فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب، ويطلب منهم الجواب،

بخلاف أهل الجهل والجفاء،

المعرضين عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءت به الرسل،

فإن البيان لا يفيدهم شيئا، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبسا،

والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا.




{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام.

أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛

الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو،

الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه،

ولا يدرك وصفه،




وجعل الله لهم مستقرا، أي منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها،

وهي دار القرار، التي لا مستقر وراءها، ولا نهاية فوقها،

فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها،

وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها،

وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا،

ثم في البرزخ، كل ذلك، على وجه الوديعة،

التي لا تستقر ولا تثبت،

بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر،

وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر




{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته،

ويفهمون عنه حججه، وبيناته.
 
البرهــان 85




من سورة الأنعام





{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ


وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ *



بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ


وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *



ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ


وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *



لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ

وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *


قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا


وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }


{ 100 - 104 }





يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم،

بآياته البينات، وحججه الواضحات

-أن المشركين به، من قريش وغيرهم،

جعلوا له شركاء، يدعونهم، ويعبدونهم،

من الجن والملائكة، الذين هم خلق من خلق الله،

ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء،


فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر،

وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم،

وكذلك "خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله،

بنين وبنات بغير علم منهم،

ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم،

وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!.

ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال:





{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }

فإنه تعالى، الموصوف بكل كمال،

المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب.





{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: خالقهما، ومتقن صنعتهما، على غير مثال سبق،

بأحسن خلق، ونظام وبهاء،

لا تقترح عقول أولي الألباب مثله، وليس له في خلقهما مشارك.







{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ }

أي: كيف يكون لله الولد، وهو الإله السيد الصمد،

الذي لا صاحبة له أي: لا زوجة له،

وهو الغني عن مخلوقاته، وكلها فقيرة إليه،

مضطرة في جميع أحوالها إليه،

والولد لا بد أن يكون من جنس والده؛

والله خالق كل شيء

وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه.





ولما ذكر عموم خلقه للأشياء، ذكر إحاطة علمه بها فقال:

{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي إلى ثبوت علمه،

وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر،

فإن في ذلك دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته،





كما قال تعالى:





{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }





وكما قال تعالى:





{ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }






ذلكم الذي خلق ما خلق، وقدر ما قدر.

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ }أي: المألوه المعبود،

الذي يستحق نهاية الذل، ونهاية الحب، الرب،

الذي ربى جميع الخلق بالنعم،

وصرف عنهم صنوف النقم.






{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ }

أي: إذا استقر وثبت، أنه الله الذي لا إله إلا هو،

فاصرفوا له جميع أنواع العبادة، وأخلصوها لله،

واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق،

الذي خلقوا لأجله





{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }





{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره،

خلقا، وتدبيرا، وتصريفا.






ومن المعلوم أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه، وكمال انتظامه،

بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على الأشياء،

ليست من جنس وكالة الخلق،

فإن وكالتهم وكالة نيابة، والوكيل فيها تابع لموكله.






وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه،

متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان فيه والعدل،

فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله،

ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا،

ولا في تدبيره نقصا وعيبا.





ومن وكالته: أنه تعالى توكل ببيان دينه،

وحفظه عن المزيلات والمغيرات،

وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.




{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته، وجلاله وكماله،

أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه،

وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم،

فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم.

فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية،

دل على أن الرؤية ثابتة.


فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك،

فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة،

الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة،

بل فيها ما يدل على نقيض قولهم.






{ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ }

أي: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن،

وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة، والخفية،

وبصره بجميع المبصرات، صغارها، وكبارها،





ولهذا قال: { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }

الذي لطف علمه وخبرته،

ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.





ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه،

ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها،

ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي،

من حيث لا يحتسب،

حتى أنه يقدر عليه الأمور التي يكرهها العبد، ويتألم منها،

ويدعو الله أن يزيلها،

لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها،

فسبحان اللطيف لما يشاء،
الرحيم بالمؤمنين.






{ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ

وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

لما بين تعالى من الآيات البينات، والأدلة الواضحات،

الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد، نبه العباد عليها،

وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم،

فقال: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ }

أي: آيات تبين الحق، وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للأبصار،

لما اشتملت عليه من فصاحة اللفظ، وبيانه، ووضوحه،

ومطابقته للمعاني الجليلة، والحقائق الجميلة،

لأنها صادرة من الرب، الذي ربى خلقه، بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة،

التي من أفضلها وأجلها، تبيين الآيات، وتوضيح المشكلات.


{ فَمَنْ أَبْصَرَ } بتلك الآيات، مواقع العبرة، وعمل بمقتضاها

{ فَلِنَفْسِهِ } فإن الله هو الغني الحميد.


{ وَمَنْ عَمِيَ } بأن بُصِّر فلم يتبصر، وزُجِر فلم ينزجر،


وبين له الحق، فما انقاد له ولا تواضع،

فإنما عماه مضرته عليه.



{ وَمَا أَنَا } أي الرسول

{ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام

إنما عليَّ البلاغ المبين وقد أديته،

وبلغت ما أنزل الله إليَّ، فهذه وظيفتي،

وما عدا ذلك فلست موظفا فيه
 
البرهــان 86



من سورة الأنعام



{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا


وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا


وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ


فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *


وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا


لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }


{ 114 ، 115 }



أي: قل يا أيها الرسول



{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا }



أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه.



فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم.






وكل تدبير وحكم للمخلوق

فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور،





وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما،

فهو الله وحده لا شريك له،

الذي له الخلق والأمر.








{ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا }



أي: موضَّحا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية،



وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه،



ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا،



لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة.





وأهل الكتب السابقة، من اليهود والنصارى، يعترفون بذلك



{ ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ }



ولهذا، تواطأت الإخبارات { فَلَا } تشُكَّنَّ في ذلك



ولا { تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }





ثم وصف تفصيلها فقال:



{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا }




أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأمر والنهي.



فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز،



ولا أعدل من أوامره ونواهيه






{ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ }



[حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق،



وبغاية الحق، فلا يمكن تغييرها،



ولا اقتراح أحسن منها]





{ وَهُوَ السَّمِيعُ }



لسائر الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات.






{ الْعَلِيمُ }



الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن،



والماضي والمستقبل.
 
البرهــان 87



من سورة الأنعام




{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ


وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ


وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }


{ 121 }



ويدخل تحت هذا المنهي عنه،


ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام، وآلهتهم،


فإن هذا مما أهل لغير الله به، المحرم بالنص عليه خصوصا.



ويدخل في ذلك، متروك التسمية، مما ذبح لله،


كالضحايا، والهدايا، أو للحم والأكل،



إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية، عند كثير من العلماء.




ويخرج من هذا العموم، الناسي بالنصوص الأخر،


الدالة على رفع الحرج عنه،


ويدخل في هذه الآية، ما مات بغير ذكاة من الميتات،


فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه.




ونص الله عليها بخصوصها، في قوله:



{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ولعلها سبب نزول الآية،



لقوله { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم.



فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ، وتحليله للمذكاة،


وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله،

ومجادلة بغير حجة ولا برهان-


أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟


يعنون بذلك: الميتة.




وهذا رأي فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل


بل يستند إلى آرائهم الفاسدة


التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن.




فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه،



الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة.



ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها،




صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين،




الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم،




ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.




{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ }
في شركهم وتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال



{ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله،



ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين،


فلذلك كان طريقكم، طريقهم.




ودلت هذه الآية الكريمة

على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف،


التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم،


لا تدل –بمجردها على أنها حق،


ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.



فإن شهدا لها بالقبول قبلت،

وإن ناقضتهما ردت،


وإن لم يعلم شيء من ذلك،

توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب،



لأن الوحي والإلهام، يكون [من] الرحمن

ويكون من الشيطان،


فلا بد من التمييز بينهما والفرقان،


وبعدم التفريق بين الأمرين،


حصل من الغلط والضلال، ما لا يحصيه إلا الله.
 
البرهــان 88




من سورة الأنعام





{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا



قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }


{ 128 }





يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي: جميع الثقلين،

من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره،





فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس،

وزينوا لهم الشر، وأزُّوهم إلى المعاصي:






{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ }

أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله،


فكيف أقدمتم على محارمي،


وتجرأتم على معاندة رسلي؟



وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله


عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟





فاليوم حقت عليكم لعنتي،ووجبت لكم نقمتي



وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم.



وليس لكم عذر به تعتذرون، ولا ملجأ إليه تلجأون،



ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع،



فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال،



والخزي والوبال، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا،





وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا:


{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }


أي: تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفع به.






فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته،

وتعظيمه، واستعاذته به.



والإنسي يستمتع بنيل أغراضه،

وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته،



فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه الجِنّي،



ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية،



أي: حصل منا من الذنوب ما حصل،



ولا يمكن رد ذلك،








{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا }


أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال،

فافعل بنا الآن ما تشاء، واحكم فينا بما تريد،

فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر،

والأمر أمرك، والحكم حكمك.




وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق،



ولكن في غير أوانه.






ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه،


فقال: { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }


ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه،


ختم الآية بقوله:



{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }


فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها،


فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها.
 
البرهــان 89




من سورة الأنعام






{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا


لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا


وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ


كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا


قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا


إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ *


قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ


فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }


{ 148 ، 149 }





هذا إخبار من الله أن المشركين



سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر،




ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر



حجة لهم في دفع اللوم عنهم.




وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه،




كما قال في الآية الأخرى:




{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا

لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية.





فأخبر تعالى أن هذة الحجة،




لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل،




ويحتجون بها،




فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم،




فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه.





فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت عنهم العقاب،




ولما أحل الله بهم العذاب،




لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه،




فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه:




منها:


ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة،



لم تحل بهم العقوبة.





ومنها:


أن الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان،



فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص،


الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة،



ولهذا قال:




{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا }




فلو كان لهم علم - وهم خصوم ألداء- لأخرجوه،



فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم.




{ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }




ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن،


فهو مبطل خاسر،




فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟





ومنها:


أن الحجة لله البالغة، التي لم تبق لأحد عذرا،



التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون،




والكتب الإلهية، والآثار النبوية،




والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة،


فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل،


لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.





ومنها:


أن الله تعالى أعطى كل مخلوق، قدرة، وإرادة،



يتمكن بها من فعل ما كلف به،

فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله،

ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه،

فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر،



ظلم محض وعناد صرف.






ومنها:


أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم،



بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم،



فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا.



وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر،وأنكر المحسوسات،



فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية،




وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله،



ومندرجا تحت إرادته.






ومنها:



أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك.



فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك،



بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك،



واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج،



ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.




فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه.


ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟"






ومنها:


أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا،



ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق،




ويرون أن الحق بمنزلة الصائل،




فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام




وإن كانوا يعتقدونه خطأ
 
البرهــان 90





من سورة الأنعام





{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ


أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .....}


{ 151 }





يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:



{ قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله.



{ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما شاملا لكل أحد،



محتويا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال.






{ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }

أي: لا قليلاً ولا كثيراً.



وحقيقة الشرك بالله:


أن يعبد المخلوق كما يعبد الله،




أو يعظم كما يعظم الله،




أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية،



وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحداً،

مخلصاً لله في جميع أحواله،


فهذا حق الله على عباده،


أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
 
البرهــان 91




من سورة الأنعام




{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ


أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ


يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ


لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ


أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا


قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }


{ 158 }






يقول تعالى: هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم،



{ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ } مقدمات العذاب، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم



{ الْمَلَائِكَةِ } لقبض أرواحهم، فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال،



لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال.





{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } لفصل القضاء بين العباد،



ومجازاة المحسنين والمسيئين.




{ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الدالة على قرب الساعة.




{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الخارقة للعادة، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت،



وأن القيامة قد اقتربت.




{ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ


أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا }




أي: إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن،



ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك،



بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك،



وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات.




والحكمة في هذا ظاهرة،



فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب،



وكان اختيارا من العبد،



فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة،



ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه الإيمان الضروري،



كإيمان الغريق والحريق ونحوهما،



ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه




كما قال تعالى:



{ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ


وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ


فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا


سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }







وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم



أن المراد ببعض آيات الله، طلوع الشمس من مغربها،



وأن الناس إذا رأوها، آمنوا، فلم ينفعهم إيمانهم،



ويُغلق حينئذ بابُ التوبة.




ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم، منتظرا،



وهم ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه



قوارع الدهر ومصائب الأمور،



قال:



{ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }

فستعلمون أينا أحق بالأمن.






وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة



في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى،



كالاستواء والنـزول، والإتيان لله تبارك وتعالى،


من غير تشبيه له بصفات المخلوقين.



وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير،




وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها.



وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته،


أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا، كما تقدم.





وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه.



فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو



إذا كان مع العبد الإيمان.



فإذا خلا القلب من الإيمان



لم ينفعه شيء من ذلك.
 
البرهان 92



من سورة الأنعام




{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ



دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا


وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *


قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي


لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ


وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *


قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا


وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ


وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا


وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى


ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ


فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }


{ 161 - 164 }






يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم،



أن يقول ويعلن بما هو عليه



من الهداية إلى الصراط المستقيم:



الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال الصالحة،



والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح،



الذي عليه الأنبياء والمرسلون،




خصوصا إمام الحنفاء،



ووالد من بعث من بعد موته من الأنبياء،



خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام،




وهو الدين الحنيف المائل عن كل دين غير مستقيم،



من أديان أهل الانحراف، كاليهود والنصارى والمشركين.




وهذا عموم،



ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال:




{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } أي: ذبحي،



وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما،

ودلالتهما على محبة الله تعالى،



وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح



وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال،

لما هو أحب إليها وهو الله تعالى.





ومن أخلص في صلاته ونسكه،



استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله.




وقوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي:



ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليَّ،



وما يقدر عليَّ في مماتي،





الجميع { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ } في العبادة،



كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير،



وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني،



وبدعا أتيته من تلقاء نفسي،



بل { بِذَلِكَ أُمِرْتُ } أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله



{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة.







{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ } من المخلوقين



{ أَبْغِي رَبًّا } أي: يحسن ذلك ويليق بي،



أن أتخذ غيره، مربيا ومدبرا والله رب كل شيء،



فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته، منقادون لأمره؟".



فتعين علي وعلى غيري،



أن يتخذ الله ربا، ويرضى به،



وألا يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء العاجزين.






ثم رغب ورهب بذكر الجزاء فقال:



{ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشر


{ إِلَّا عَلَيْهَا }



كما قال تعالى:



{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }





{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } بل كل عليه وزر نفسه،



وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره،


فإن عليه وزر التسبب



من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء.




{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة



{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من خير وشر،



ويجازيكم على ذلك، أوفى الجزاء.
 
البرهان 93



من سورة الأعراف



{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}
{ 3 }




خاطب اللّه العباد، وألفتهم إلى الكتاب فقال:

{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }

أي: الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم،


وهو: { مِنْ رَبِّكُمْ }

الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب

الذي إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة،

وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها



{ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ }

أي: تتولونهم، وتتبعون أهواءهم،

وتتركون لأجلها الحق.


{ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }

فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة،

لما آثرتم الضار على النافع، والعدو على الوليِّ.
 
البرهان 94


من سورة الأعراف




{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا

وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ

أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ

إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }

{ 28 -30 }



يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب،

وينسبون أن الله أمرهم بها.


{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً }

وهي: كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة

{ قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وصدقوا في هذا.

{ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } وكذبوا في هذا،

ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال:

{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ }

أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش

لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره

{ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وأي: افتراء أعظم من هذا"



ثم ذكر ما يأمر به، فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ }

أي: بالعدل في العبادات والمعاملات، لا بالظلم والجور.

{ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }

أي: توجهوا للّه، واجتهدوا في تكميل العبادات،

خصوصا { الصلاة } أقيموها، ظاهرا وباطنا،

ونقوها من كل نقص ومفسد.


{ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }

أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له.

والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة،

أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم

سوى عبودية اللّه ورضاه.


{ كَمَا بَدَأَكُمْ } أول مرة { تَعُودُونَ } للبعث،

فالقادر على بدء خلقكم، قادر على إعادته،

بل الإعادة، أهون من البداءة.


{ فَرِيقًا } منكم { هَدَى } اللّه،

أي: وفقهم للهداية، ويسر لهم أسبابها، وصرف عنهم موانعها.


{ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي: وجبت عليهم الضلالة

بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية.


فـ { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً }


فحين انسلخوا من ولاية الرحمن،

واستحبوا ولاية الشيطان،

حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان،

ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران.


{ وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }

لأنهم انقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا،



وفي هذه الآيات

دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة،

حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول،

وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص،


وفيه دليل

على أن الهداية بفضل اللّه ومَنِّه،

وأن الضلالة بخذلانه للعبد،

إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ، وتسبب لنفسه بالضلال،

وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ، أنه لا عذر له،

لأنه متمكن من الهدى،

وإنما أتاه حسبانه من ظلمه

بترك الطريق الموصل إلى الهدى.
 
البرهان 95



من سورة الأعراف





{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

{ 33 }



ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال:

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ }

أي: الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها،

وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.


وقوله: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }

أي: الفواحش التي تتعلق بحركات البدن،

والتي تتعلق بحركات القلوب،

كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك،


{ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

أي: الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه،

والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم،

فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه،

والمتعلقةُ بحق العباد.


{ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا }

أي: حجة،

بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد.

والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق،

وربما دخل في هذا الشرك الأصغر

كالرياء والحلف بغير اللّه، ونحو ذلك.


{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه،

فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن تعاطيها،

لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة،

ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه،

والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه.
 
البرهان 96



من سورة الأعراف




{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ

أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ

حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ

قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }

{ 37 }


أي: لا أحد أظلم { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }

بنسبة الشريك له، أو النقص له، أو التقول عليه ما لم يقل،


{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } الواضحة المبينة للحق المبين،

الهادية إلى الصراط المستقيم،

فهؤلاء وإن تمتعوا بالدنيا،

ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ،

فليس ذلك بمغن عنهم شيئا،

يتمتعون قليلا، ثم يعذبون طويلا،


{ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ }

أي: الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم.



{ قَالُوا } لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا

{ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
من الأصنام والأوثان،

فقد جاء وقت الحاجة

إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة.


{ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي: اضمحلوا وبطلوا،

وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء.


{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }

مستحقين للعذاب المهين الدائم.
 
البرهان 97



من سورة الأعراف






{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا

لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ

حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{ 40 - 41 }


يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها،

مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها، بل كذب وتولى،

أنهم آيسون من كل خير،

فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا

وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها،

كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته

كذلك لا تصعد بعد الموت،

فإن الجزاء من جنس العمل.



ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته،

تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه،

وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي،

وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه.


وقوله عن أهل النار

{ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ } وهو البعير المعروف

{ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ }

أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما،

في خرق الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء،


وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال،

أي: فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط،

فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة،


قال تعالى:

{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ

فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }


وقال هنا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }

أي: الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.


{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي: فراش من تحتهم

{ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي: ظلل من العذاب، تغشاهم.


{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } لأنفسهم،

جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
 
البرهان 98


من سورة الأعراف




{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ

أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ

تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }

{ 54 }



يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له:

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }

وما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما،

وإتقانهما، وبديع خلقهما.


{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة،

فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع


{ اسْتَوَى } تبارك وتعالى

{ عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات والأرض

وما فيهما وما بينهما،

استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه،

فاستوى على العرش، واحتوى على الملك، ودبر الممالك،

وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية،


ولهذا قال: { يُغْشِي اللَّيْلَ } المظلم { النَّهَارَ } المضيء،

فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون،

وتأوى المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من التعب،

والذهاب والإياب الذي حصل لهم في النهار.


{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا }

كلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل،

وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي اللّه هذا العالم،

وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.


{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ }

أي: بتسخيره وتدبيره، الدال على ما له من أوصاف الكمال،

فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته،

وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته،

وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها

دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة علمه،

وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له.



{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ }

أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها،

أعيانها وأوصافها وأفعالها

والأمر المتضمن للشرائع والنبوات،


فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية،

والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية،

وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء،


{ تَبَارَكَ اللَّهُ } أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه،

فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها،

وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير،

فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته،


ولهذا قال: { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
 
عودة
أعلى