البرهان 120
من سورة التوبة
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }
{ 30 - 33 }
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ }
وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم،
فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر
ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه،
وتنقصوا عظمته وجلاله.
وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه،
أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل،
ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة،
وجدوا عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها،
فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها،
فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.
{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ }
قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه
{ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.
ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله،
فإنه لا دين ولا عقل يحجزه، عما يريد من الكلام.
ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي: يشابهون في قولهم هذا
{ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ }
أي: قول المشركين الذين يقولون: ( الملائكة بنات اللّه )
تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.
{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين،
إلى القول الباطل المبين.
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول-
يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه،
فإن لذلك سببا وهو أنهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم
{ وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }
يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه،
ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه،
ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم،
ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه،
وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه،
والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله
فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
فيخلصون له العبادة والطاعة،
ويخصونه بالمحبة والدعاء،
فنبذوا أمر اللّه
وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.
{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ }
أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم،
فإنهم ينتقصونه في ذلك،
ويصفونه بما لا يليق بجلاله،
واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه،
مما ينافي كماله المقدس.
فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه،
وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه
أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }
ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب،
وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة،
فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده،
فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين،
يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم،
التي ليس عليها دليل أصلا.
{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر،
الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه،
والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده،
وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء،
ولهذا قال: { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }
وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله،
فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.
ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال:
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع
{ وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو العمل الصالح
فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم
مشتملا على بيان الحق من الباطل
في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره،
والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان
من إخلاص الدين للّه وحده،
ومحبة اللّه وعبادته،
والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،
والأعمال الصالحة والآداب النافعة،
والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه
من الأخلاق والأعمال السيئة
المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.
فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }
أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان،
وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم،
فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه،
فوعد اللّه لا بد أن ينجزه،
وما ضمنه لابد أن يقوم به.