من براهين التوحيد في القرآن المجيد

البرهان 147



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ *

وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ

فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ

ٱلَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ

لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ

وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }

{ 100 -101 }



ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم،

قال الله تعالى لرسوله: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ }

لتنذر به، ويكون آية على رسالتك،

وموعظة وذكرى للمؤمنين.


{ مِنْهَا قَائِمٌ } لم يتلف، بل بقي من آثار ديارهم، ما يدل عليهم،

{ وَ } منها { حَصِيدٌ } قد تهدمت مساكنهم،

واضمحلت منازلهم، فلم يبق لها أثر.


{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بأخذهم بأنواع العقوبات

{ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } بالشرك والكفر، والعناد.



{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ

الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ

لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ }

وهكذا كل من التجأ إلى غير الله،

لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد.


{ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }

أي: خسار ودمار،

بالضد مما خطر ببالهم.
 
البرهان 148



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ

مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ

وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ }


{ 109 }



يقول الله تعالى، لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:

{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ْ} المشركون،

أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه باطل,

فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي،

وإنما دليلهم وشبهتهم،


أنهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ }


ومن المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا،

لأن أقوال ما عدا الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها،

خصوصا أمثال هؤلاء الضالين،

الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم في أصول الدين،

فإن أقوالهم وإن اتفقوا عليها فإنها خطأ وضلال.



{ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ }

أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم،

وإن كثر ذلك النصيب، أو راق في عينك,

فإنه لا يدل على صلاح حالهم،

فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب،

ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب.



والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين،

على قول الضالين من آبائهم الأقدمين،

ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.
 
البرهان 149



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )




{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ

وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ

وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ }

{ 113 }



أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين،

أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع،

ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة،

ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك،

ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.



وقوله: { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها،

ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها،


ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال:

{ وَلَا تَرْكَنُوا } أي: لا تميلوا { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا }

فإنكم إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم،

أو رضيتم ما هم عليه من الظلم

{ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ْ} إن فعلتم ذلك


{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } يمنعونكم من عذاب الله،

ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.


{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم،



ففي هذه الآية:

التحذير من الركون إلى كل ظالم،

والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك،

والرضا بما هو عليه من الظلم.


وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة،

فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!!

نسأل الله العافية من الظلم.
 
البرهان 150



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )






{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ

وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

{ 123 }




{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية.


{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ }

من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب


{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ }

أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه،

وتوكل على الله في ذلك.


{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } من الخير والشر،

بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه،

وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه.
 
البرهان 151




من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ

أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ

أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }


{ 39 - 40 }



{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }

أي: أرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر،

ولا تعطي ولا تمنع،

وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات،

وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون،


أتلك { خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ } الذي له صفات الكمال،

{ الْوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله

فلا شريك له في شيء من ذلك.


{ الْقَهَّارُ } الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه،

فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن


{ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها }


ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه

خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء،

لا كمال لها ولا أفعال لديها.


ولهذا قال: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }

أي: كسوتموها أسماء، سميتموها آلهة،

وهي لا شيء،

ولا فيها من صفات الألوهية شيء،


{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها،

وإذا لم ينزل الله بها سلطانا،

لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها.


لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى،

ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام،

وهو الذي أمركم { أن لا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }

أي: المستقيم الموصل إلى كل خير،

وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة،

بل معوجة توصل إلى كل شر.


{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } حقائق الأشياء،

وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له،

وبين الشرك به، أظهر الأشياء وأبينها.


ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك،

حصل منهم ما حصل من الشرك،


فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن

لعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له،

فيحتمل أنهما استجابا وانقادا، فتمت عليهما النعمة،

ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما،

فقامت عليهما -بذلك- الحجة،



 
البرهان 152



من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ

وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ

إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }


{ 87 - 88 }



أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه:

{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ }

أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما


{ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ }

فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه،

والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ،

وأولى ما رجا العباد،
فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه،



{ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }

فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته،

ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.



ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد

يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه.
 
البرهان 153



من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )


{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ *

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ *

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ

أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }


{ 103 - 107 }



يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:

{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ } على إيمانهم

{ بِمُؤْمِنِينَ } فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة،

فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع،

بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم،

ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض،

ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا.



ولهذا قال:

{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }

يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه، وما يضرهم ليتركوه.


{ وَكَأَيِّنْ } أي:

وكم { مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا }

دالة لهم على توحيد الله { وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }



ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا

{ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }

فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى،

وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور،

فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده،

فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال

لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب،

ويفجأهم العقاب وهم آمنون،



ولهذا قال:

{ أَفَأَمِنُوا } أي: الفاعلون لتلك الأفعال، المعرضون عن آيات الله


{ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ }

أي: عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهم،

{ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي: فجأة

{ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي: فإنهم قد استوجبوا لذلك،

فليتوبوا إلى الله، ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم.
 
البرهان 154



من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي

وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }


{ 108 - 109 }



يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْ } للناس { هَذِهِ سَبِيلِي } أي: طريقي التي أدعو إليها،

وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته،

المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره،

وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له،


{ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم،

وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه.


ومع هذا فأنا { عَلَى بَصِيرَةٍ } من ديني،

أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية.

{ وَ } كذلك

{ مَنِ اتَّبَعَنِي } يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره.



{ وَسُبْحَانَ اللَّهِ }

عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.


{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

في جميع أموري،

بل أعبد الله مخلصا له الدين.
 
البرهان 155



من سورة الرعد




{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ

لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }

{ 2 }



يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير، والعظمة والسلطان

الدال على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له



فقال: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ }

على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة،

{ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي: ليس لها عمد من تحتها،

فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها


{ ثُمَّ } بعد ما خلق السماوات والأرض

{ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات،

استواء يليق بجلاله ويناسب كماله.



{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم،

{ كُلِّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي } بتدبير العزيز العليم،

{ لأَجَلٍ مُسَمًّى } بسير منتظم، لا يفتران ولا ينيان،

حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم،

ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار،

فعند ذلك يطوي الله السماوات ويبدلها، ويغير الأرض ويبدلها.

فتكور الشمس والقمر، ويجمع بينهما فيلقيان في النار،


ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛

فيتحسر بذلك أشد الحسرة

وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.



وقوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ }

هذا جمع بين الخلق والأمر،

أي: قد استوى الله العظيم على سرير الملك،

يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي، فيخلق ويرزق،

ويغني ويفقر، ويرفع أقواما ويضع آخرين،

ويعز ويذل، ويخفض ويرفع،

ويقيل العثرات، ويفرج الكربات،

وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه،

وجرى بها قلمه،

ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره.

وينـزل الكتب الإلهية على رسله

ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي،

ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها،



{ لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات القرآنية،

{ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها،

من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية،

خصوصا في العقائد الكبار،

كالبعث والنشور والإخراج من القبور.


وأيضا فقد علم أن الله تعالى حكيم لا يخلق الخلق سدى،

ولا يتركهم عبثا،

فكما أنه أرسل رسله وأنزل كتبه لأمر العباد ونهيهم،

فلا بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه،

فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء،

ويجازي المسيئين بإساءتهم.
 
البرهان 156



من سورة الرعد



{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ

وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ *

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ *

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ

وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ *

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ

وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }


{ 8 - 11 }



يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلاعه وإحاطته بكل شيء فقال:

{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } من بني آدم وغيرهم،


{ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ }

أي: تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل أو يضمحل

{ وَمَا تَزْدَادُ } الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها،


{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }

لا يتقدم عليه ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص

إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.


فإنه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ }

في ذاته وأسمائه وصفاته

{ الْمُتَعَالِ } على جميع خلقه بذاته وقدرته وقهره.



{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ } في علمه وسمعه وبصره.

{ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ }

أي: مستقر بمكان خفي فيه،

{ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي: داخل سربه في النهار

والسرب هو ما يختفي فيه الإنسان إما جوف بيته

أو غار أو مغارة أو نحو ذلك.


{ لَه} أي: للإنسان

{ مُعَقِّبَاتٌ } من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار.


{ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }

أي: يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء،

ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما،

فكما أن علم الله محيط به،

فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد،

بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا يُنسى منها شيء،



{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ }

من النعمة والإحسان ورغد العيش

{ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }

بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر

ومن الطاعة إلى المعصية،

أو من شكر نعم الله إلى البطر بها

فيسلبهم الله عند ذلك إياها.


وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية،

فانتقلوا إلى طاعة الله،

غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء

إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة،




{ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا }

أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه،

فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم.


فـإنه { لَا مَرَدَّ لَهُ } ولا أحد يمنعهم منه،

{ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }

يتولى أمورهم فيجلب لهم المحبوب،

ويدفع عنهم المكروه،

فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله

خشية أن يحل بهم من العقاب

ما لا يرد عن القوم المجرمين.
 
البرهان 157


من سورة الرعد




{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا

وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ *

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ

وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ

وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ

وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }


{ 12 - 13 }




يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا }

أي: يخاف منه الصواعق والهدم

وأنواع الضرر على بعض الثمار ونحوها

ويطمع في خيره ونفعه،



{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ }

بالمطر الغزير الذي به نفع العباد والبلاد.



{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ }

وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد،

فهو خاضع لربه مسبح بحمده،

{ و } تسبح { الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ }

أي: خشعا لربهم خائفين من سطوته،


{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب،


{ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب ما شاءه وأراده


وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي: شديد الحول والقوة

فلا يريد شيئا إلا فعله،

ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب.


فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب

التي فيها مادة أرزاقهم، وهو الذي يدبر الأمور،

وتخضع له المخلوقات العظام

التي يخاف منها وتزعج العباد

وهو شديد القوة -

فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له
.
 
البرهان 158


من سورة الرعد





{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ

إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ

وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }


{ 14 }



أي: لله وحده { دَعْوَةُ الْحَقِّ }

وهي: عبادته وحده لا شريك له،

وإخلاص دعاء العبادة ودعاء المسألة له تعالى،

أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء، والخوف، والرجاء،

والحب، والرغبة، والرهبة، والإنابة؛

لأن ألوهيته هي الحق،
وألوهية غيره باطلة




{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }

من الأوثان والأنداد التي جعلوها شركاء لله.


{ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ }

أي: لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ولا كثير

لا من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة


{ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ } الذي لا تناله كفاه لبعده،

{ لِيَبْلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء

{ فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده،

ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه، فلا يصل إليه.



كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة لا يستجيبون لهم بشيء

ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة

لأنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء،

لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء،

وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير.




{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }

لبطلان ما يدعون من دون الله،

فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛

لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها،


ولما كان الله تعالى هو الملك الحق المبين،

كانت عبادته حقًّا متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والآخرة.




وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله

بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة؛

فإن ذلك تشبيه بأمر محال،

فكما أن هذا محال، فالمشبه به محال،

والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء


كما قال تعالى:

{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها

لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة

حتى يلج الجمل في سم الخياط }
 
البرهان 159


من سورة الرعد



{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ

قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ

أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ
قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }

{ 16 }


أي: قل لهؤلاء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون الله،

ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات:

أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه أولياء

تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك؟


فإنهم { لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا }

وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات،

المالك للأحياء والأموات،

الذي بيده الخلق والتدبير والنفع والضر؟


فما تستوي عبادة الله وحده، وعبادة المشركين به،

كما لا يستوي الأعمى والبصير،

وكما لا تستوي الظلمات والنور.


فإن كان عندهم شك واشتباه،

وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه وفعلوا كفعله،

فأزلْ عنهم هذا الاشتباه واللبس

بالبرهان الدال على توحد الإله بالوحدانية،



فقل لهم: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }

فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه.

ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق،

فتعين أن لها إلها خالقا لا شريك له في خلقه لأنه الواحد القهار،


فإنه لا توجد الوحدة والقهر إلا لله وحده،

فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق يقهره

ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه،

حتى ينتهي القهر للواحد القهار،

فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده،


فتبين بالدليل العقلي القاهر،

أن ما يدعى من دون الله ليس له شيء من خلق المخلوقات

وبذلك كانت عبادته باطلة.


 
البرهان 160



من سورة الرعد



{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ

أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ

وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }


{ 33 - 34 }



يقول تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }

بالجزاء العاجل والآجل، بالعدل والقسط،

وهو الله تبارك وتعالى كمن ليس كذلك؟


ولهذا قال: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ }

وهو الله الأحد الفرد الصمد،

الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير،



{ قُلْ } لهم إن كانوا صادقين:

{ سَمُّوهُمْ } لتعلم حالهم

{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ }

فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة وهو لا يعلم له شريكا،

علم بذلك بطلان دعوى الشريك له،

وأنكم بمنـزلة الذي يُعَلِّمُ الله أن له شريكا وهو لا يعلمه،

وهذا أبطل ما يكون؛



ولهذا قال: { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }

أي: غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى أنه بظاهر أقوالكم.


وأما في الحقيقة،


فلا إله إلا الله،

وليس أحد من الخلق يستحق شيئا من العبادة،



ولكن { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ }

الذي مكروه وهو كفرهم وشركهم، وتكذيبهم لآيات الله

{ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ }

أي: عن الطريق المستقيمة الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته،

{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

لأنه ليس لأحد من الأمر شيء.


{ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ }

من عذاب الدنيا لشدته ودوامه،


{ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }

يقيهم من عذاب الله،

فعذابه إذا وجهه إليهم لا مانع منه.


 
البرهان 161


من سورة الرعد



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً

وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ

لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }


{ 38 - 39 }



أي: لست أول رسول أرسل إلى الناس حتى يستغربوا رسالتك،

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }

فلا يعيبك أعداؤك بأن يكون لك أزواج وذرية،

كما كان لإخوانك المرسلين،

فلأي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك؛

إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟

وإن طلبوا منك آية اقترحوها فليس لك من الأمر شيء.



{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }

والله لا يأذن فيها إلا في وقتها الذي قدره وقضاه،


{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه،

فليس استعجالهم بالآيات أو بالعذاب

موجبا لأن يقدم الله ما كتب أنه يؤخر

مع أنه تعالى فعال لما يريد.



{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } من الأقدار

{ وَيُثْبِتُ } ما يشاء منها،


وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه

فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله،

أن يقع في علمه نقص أو خلل



ولهذا قال: { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }

أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء،

فهو أصلها وهي فروع له وشعب.




فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب،

كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة،

ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا،

لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ،


كما جعل الله البر والصلة والإحسان

من أسباب طول العمر وسعة الرزق،

وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر،

وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة،

وجعل التعرض لذلك سببا للعطب،


فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته،

وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.


 
البرهان 162


من سورة إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام )


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا

وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ *

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ

قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }

{ 28 - 30 }


يقول تعالى - مبينا حال المكذبين لرسوله من كفار قريش

وما آل إليه أمرهم:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }

ونعمة الله هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم،

يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا والآخرة

وإلى النجاة من شرور الدنيا والآخرة،

فبدلوا هذه النعمة بردها،

والكفر بها والصد عنها بأنفسهم.



{ و } صدهم غيرهم حتى { أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ }

وهي النار حيث تسببوا لإضلالهم،

فصاروا وبالا على قومهم، من حيث يظن نفعهم،

ومن ذلك

أنهم زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا الله ورسوله،

فجرى عليهم ما جرى،

وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم في تلك الوقعة.


{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي: يحيط بهم حرها من جميع جوانبهم

{ وَبِئْسَ الْقَرَارُ }



{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وشركاء

{ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ }

أي: ليضلوا العباد عن سبيل الله

بسبب ما جعلوا لله من الأنداد ودعوهم إلى عبادتها،


{ قُلْ } لهم متوعدا:

{ تَمَتَّعُوا } بكفركم وضلالكم قليلا، فليس ذلك بنافعكم

{ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }

أي: مآلكم ومقركم ومأواكم فيها وبئس المصير.


 
البرهان 163


من سورة إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام )


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا

وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأصْنَامَ *

رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ

فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ 35 -36 }




{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } أي:

{ و } اذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة الجميلة،

إذ قَال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } أي: الحرم

{ آمِنًا } فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا،

فحرمه الله في الشرع ويسر من أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم،

حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إلا قصمه الله

كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.


ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن فقال:

{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }

أي: اجعلني وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها والإلمام بها،

ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه

بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها

فقال:
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }
أي: ضلوا بسببها،


{ فَمَنْ تَبِعَنِي }

على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين

{ فَإِنَّهُ مِنِّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم.


{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام

حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله

والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده

لا يعذب إلا من تمرد عليه.

 
البرهان 164




من سورة الحجر



{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }


{ 9 }



{ إنا نحن نزلنا الذكر }

أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء

من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر،


{ وإنا له لحافظون }

أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله،

ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم،

وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله،

واستودعه فيه ثم في قلوب أمته،

وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص،

ومعانيه من التبديل،

فلا يحرف محرف معنى من معانيه

إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين،


وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين،

ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم،

ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم.



 
البرهان 165



من سورة الحجر




{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }

{ 99 }


{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي: الموت

أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات،

فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه،

فلم يزل دائبا في العبادة،

حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.



 
البرهان 166



من سورة النحل




{ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ *

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ *

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ *

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }


{ 17 - 23 }



لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة،

وما أنعم به من النعم العميمة

ذكر أنه لا يشبهه أحد ولا كفء له ولا ند له

فقال: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ } جميع المخلوقات وهو الفعال لما يريد

{ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } شيئا لا قليلا ولا كثيرا،


{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }

فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها،

فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره

فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته.


وكما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم،

فلا تجعلوا له أندادا في عبادته بل أخلصوا له الدين،


{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ } عددا مجردا عن الشكر

{ لَا تُحْصُوهَا } فضلا عن كونكم تشكرونها،

فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات،

من جميع أصناف النعم مما يعرف العباد،

ومما لا يعرفون وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى،

{ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }

يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.


وكما أن رحمته واسعة وجوده عميم ومغفرته شاملة للعباد

فعلمه محيط بهم، { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }


بخلاف من عبد من دونه،

فإنهم { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا } قليلا ولا كثيرا

{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ }

فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى الله تعالى؟"


ومع هذا ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء لا علم، ولا غيره

{ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا،

أفتتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين،

فتبا لعقول المشركين ما أضلها وأفسدها،

حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا،

وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال،

ولا شيء من الأفعال،

وبين الكامل من جميع الوجوه

الذي له كل صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها،

فله العلم المحيط بكل الأشياء والقدرة العامة

والرحمة الواسعة التي ملأت جميع العوالم،

والحمد والمجد والكبرياء والعظمة،

التي لا يقدر أحد من الخلق أن يحيط ببعض أوصافه،


ولهذا قال:

{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

وهو الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد.

فأهل الإيمان والعقول أجلته قلوبهم وعظمته،

وأحبته حبا عظيما،

وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية،

وأعمال القلوب وأعمال الجوارح،

وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله المقدسة،



{ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ }

لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا

وهو: توحيد الله

{ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } عن عبادته.


{ لَا جَرَمَ } أي: حقا لا بد

{ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } من الأعمال القبيحة


{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }

بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم من جنس عملهم



{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي

سيدخلون جهنم داخرين }




 
البرهان 167




{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ *

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ

وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَالَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ

قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * }

{ 26 - 27 }


{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ْ}

برسلهم واحتالوا بأنواع الحيل على رد ما جاءوهم به

وبنوا من مكرهم قصورا هائلة،

{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ْ}

أي: جاءها الأمر من أساسها وقاعدتها،

{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ْ}

فصار ما بنوه عذابا عذبوا به،

{ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ْ}

وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ويقيهم العذاب

فصار عذابهم فيما بنوه وأصَّلوه.

وهذا من أحسن الأمثال في إبطال الله مكر أعدائه.

فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم

وجعلوا لهم أصولا وقواعد من الباطل يرجعون إليها،

ويردون بها ما جاءت [ به] الرسل،

واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم،

فصار مكرهم وبالا عليهم، فصار تدبيرهم فيه تدميرهم،

وذلك لأن مكرهم سيئ

{ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ْ}


هذا في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى،


ولهذا قال: { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ}

أي: يفضحهم على رءوس الخلائق

ويبين لهم كذبهم وافتراءهم على الله.


{ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ }

أي: تحاربون وتعادون الله وحزبه لأجلهم

وتزعمون أنهم شركاء لله،

فإذا سألهم هذا السؤال

لم يكن لهم جواب إلا الإقرار بضلالهم، والاعتراف بعنادهم


فيقولون

{ ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }


{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ْ}أي: العلماء الربانيون

{ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ ْ}أي: يوم القيامة

{ وَالسُّوءَ ْ} أي: العذاب { عَلَى الْكَافِرِينَ ْ}


وفي هذا فضيلة أهل العلم،

وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،

وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه.
 
البرهان 168



من سورة النحل

{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

{ 35 }



أي: احتج المشركون على شركهم بمشيئة الله،

وأن الله لو شاء ما أشركوا، ولا حرموا شيئا من [الأنعام]

التي أحلها كالبحيرة والوصيلة والحام ونحوها من دونه،


وهذه حجة باطلة،

فإنها لو كانت حقا ما عاقب الله الذين من قبلهم

حيث أشركوا به فعاقبهم أشد العقاب.

فلو كان يحب ذلك منهم لما عذبهم،

وليس قصدهم بذلك إلا رد الحق الذي جاءت به الرسل،

وإلا فعندهم علم أنه لا حجة لهم على الله.


فإن الله أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم

وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم.

فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل،

هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة الإنسان على كل فعل يريده

من غير أن ينازعه منازع،

فجمعوا بين تكذيب الله وتكذيب رسله

وتكذيب الأمور العقلية والحسية،



{ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

أي: البين الظاهر الذي يصل إلى القلوب،

ولا يبقى لأحد على الله حجة،

فإذا بلغتهم الرسل أمر ربهم ونهيه،

واحتجوا عليهم بالقدر، فليس للرسل من الأمر شيء،

وإنما حسابهم على الله عز وجل.
 
البرهان 169


من سورة النحل




{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا

أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ

وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

{ 36 - 37 ْ}


يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم،

وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولا،

وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد،

وهو عبادة الله وحده لا شريك له


{ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }

فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها قسمين،

{ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ } فاتبعوا المرسلين علما وعملا،


{ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } فاتبع سبيل الغي.


{ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ْ} بأبدانكم وقلوبكم

{ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }

فإنكم سترون من ذلك العجائب،

فلا تجدون مكذبا إلا كان عاقبته الهلاك.



{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ } وتبذل جهدك في ذلك

{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ }

ولو فعل كل سبب لم يهده إلا الله،

{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }

ينصرونهم من عذاب الله ويقونهم بأسه.


 
البرهان 170




من سورة النحل



{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ

بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ *

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ

أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }


{ 38 - 40 }



يخبر تعالى عن المشركين المكذبين لرسوله أنهم

{ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ْ}

أي: حلفوا أيمانا مؤكدة مغلظة على تكذيب الله،

وأن الله لا يبعث الأموات،

ولا يقدر على إحيائهم بعد أن كانوا ترابا،


قال تعالى مكذبا لهم:

{ بَلَى ْ} سيبعثهم ويجمعهم ليوم لا ريب فيه

{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ْ} لا يخلفه ولا يغيره

{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ْ}

ومن جهلهم العظيم إنكارهم للبعث والجزاء،


ثم ذكر الحكمة في الجزاء والبعث فقال:

{ لِيُبَيِّنَ لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ْ}

من المسائل الكبار والصغار، فيبين حقائقها ويوضحها.



{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ }

حين يرون أعمالهم حسرات عليهم،

وما نفعتهم آلهتهم التي يدعون مع الله من شيء

لما جاء أمر ربك،

وحين يرون ما يعبدون حطبا لجهنم،

وتكور الشمس والقمر وتتناثر النجوم،

ويتضح لمن يعبدها أنها عبيد مسخرات،

وأنهن مفتقرات إلى الله في جميع الحالات،

وليس ذلك على الله بصعب ولا شديد

فإنه إذا أراد شيئا قال له:

كن فيكون،

من غير منازعة ولا امتناع،

بل يكون على طبق ما أراده وشاءه.



 
البرهان 171


من سورة النحل








{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ *

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ *

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ْ}


{ 45 - 47 ْ}



هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي،

من أن يأخذهم بالعذاب على غرَّة وهم لا يشعرون،

إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم،

أو من أسفل منهم بالخسف وغيره،

وإما في حال تقلُّبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب ببالهم،

وإما في حال تخوفهم من العذاب،

فليسوا بمعجزين لله في حالة من هذه الأحوال،

بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده .



ولكنه رءوف رحيم لا يعاجل العاصين بالعقوبة،

بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه ويؤذون أولياءه،

ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة،

ويدعوهم إلى الإقلاع من السيئات التي تضرهم،

ويعدهم بذلك أفضل الكرامات،

ومغفرة ما صدر منهم من الذنوب،


فليستح المجرم من ربه


أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع اللحظات

ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات،

وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل

وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر،

فليتب إليه، وليرجع في جميع أموره إليه فإنه رءوف رحيم.


فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة وبره العميم

وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم،

ألا وهي تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه.

 
البرهان 172


من سورة النحل



{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ

عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ *

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ *

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

{ 48 - 50 ْ}



يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا ْ}

أي: الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله،

{ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ْ}

أي: إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها،

{ عَن الْيَمِينِ ْ} وعن { الشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ْ}

أي: كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلاله،

{ وَهُمْ دَاخِرُونَ ْ}

أي: ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر،

ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده.



{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ْ}

من الحيوانات الناطقة والصامتة،

{ وَالْمَلَائِكَةِ ْ} الكرام

خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم

ولهذا قال: { وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ْ}

أي: عن عبادته على كثرتهم وعظمة أخلاقهم وقوتهم


كما قال تعالى:

{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ

وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ْ}


{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ }

لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله،

مدحهم بالخوف من الله

الذي هو فوقهم بالذات والقهر، وكمال الأوصاف،

فهم أذلاء تحت قهره.


{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

أي: مهما أمرهم الله تعالى امتثلوا لأمره، طوعا واختيارا،



وسجود المخلوقات لله تعالى قسمان:

سجود اضطرار ودلالة على ما له من صفات الكمال،

وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر

وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره،


وسجود اختيار

يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملائكة وغيرهم [من المخلوقات].




 
البرهان 173




من سورة النحل



{ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ

إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا

أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ *

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ

ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ

إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ *

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }


{ 51 - 55 ْ}


يأمر تعالى بعبادته وحده لا شريك له،

ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية

فقال: { لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ }

أي: تجعلون له شريكا في إلهيته،

وهو { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

متوحد في الأوصاف العظيمة متفرد بالأفعال كلها.

فكما أنه الواحد في ذاته وأسمائه ونعوته وأفعاله،

فلتوحِّدوه في عبادته،


ولهذا قال: { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }

أي: خافوني وامتثلوا أمري، واجتنبوا نهيي

من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات،

فإنها كلها لله تعالى مملوكة.



{ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا }

أي: الدين والعبادة والذل في جميع الأوقات لله وحده

على الخلق أن يخلصوه لله وينصبغوا بعبوديته.


{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } من أهل الأرض أو أهل السماوات

فإنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا،

والله المنفرد بالعطاء والإحسان


{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ } ظاهرة وباطنة

{ فَمِنَ اللَّهِ } لا أحد يشركه فيها،

{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } من فقر ومرض وشدة


{ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي: تضجون بالدعاء والتضرع

لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو،


فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف ما تكرهون،

هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده.

ولكن كثيرا من الناس يظلمون أنفسهم،

ويجحدون نعمة الله عليهم إذا نجاهم من الشدة

فصاروا في حال الرخاء أشركوا به بعض مخلوقاته الفقيرة،


ولهذا قال:

{ ِليَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ }

أي: أعطيناهم حيث نجيناهم من الشدة، وخلصناهم من المشقة،

{ فَتَمَتَّعُوا } في دنياكم قليلا

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة كفركم.


 
البرهان 174




من سورة النحل



{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ

تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ *

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ

أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ

أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

{ 56 - 60 }



يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم وافترائهم على الله الكذب،

وأنهم يجعلون لأصنامهم

التي لا تعلم ولا تنفع ولا تضر -

نصيبا مما رزقهم الله وأنعم به عليهم،

فاستعانوا برزقه على الشرك به،

وتقربوا به إلى أصنام منحوتة،



كما قال تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا

فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا

فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } الآية،


{ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }

وقال: { ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ *

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.



{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ }

حيث قالوا عن الملائكة العباد المقربين: إنهم بنات الله

{ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ }

أي: لأنفسهم الذكور حتى إنهم يكرهون البنات كراهة شديدة،

فكان أحدهم { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا }

من الغم الذي أصابه

{ وَهُوَ كَظِيمٌ } أي: كاظم على الحزن والأسف إذا بشِّر بأنثى،

وحتى إنه يفتضح عند أبناء جنسه

ويتوارى منهم من سوء ما بشر به.


ثم يعمل فكره ورأيه الفاسد فيما يصنع بتلك البنت التي بشّر بها

{ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } أي: يتركها من غير قتل على إهانة وذل

{ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ }

أي: يدفنها وهي حية وهو الوأد الذي ذم الله به المشركين،


{ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }

إذ وصفوا الله بما لا يليق بجلاله من نسبة الولد إليه.

ثم لم يكفهم هذا حتى نسبوا له أردأ القسمين،

وهو الإناث اللاتي يأنفون بأنفسهم عنها ويكرهونها،

فكيف ينسبونها لله تعالى؟! فبئس الحكم حكمهم.


ولما كان هذا من أمثال السوء التي نسبها إليه أعداؤه المشركون،

قال تعالى: { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ }

أي: المثل الناقص والعيب التام،



{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى }

وهو كل صفة كمال وكل كمال في الوجود فالله أحق به،

من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه،

وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه،

وهو التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والمعرفة.


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي قهر جميع الأشياء وانقادت له المخلوقات بأسرها،

{ الْحَكِيمُ }

الذي يضع الأشياء مواضعها

فلا يأمر ولا يفعل إلا ما يحمد عليه ويثنى على كماله فيه.

 
البرهان 175



من سورة النحل




{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ

وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى

لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وأَنَّهُم مُفْرَطُونَ *

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ

فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ

فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم }

{ 62 - 63 }



يخبر تعالى أن المشركين { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ }

من البنات، ومن الأوصاف القبيحة وهو الشرك

بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات

التي هي عبيد لله،

فكما أنهم يكرهون، ولا يرضون أن يكون عبيدهم

-وهم مخلوقون من جنسهم-

شركاء لهم فيما رزقهم الله

فكيف يجعلون له شركاء من عبيده ؟"


{ وَ } هم مع هذه الإساءة العظيمة

{ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى }

أي: أن لهم الحالة الحسنة في الدنيا والآخرة،

رد عليهم بقوله: { لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ }

مقدمون إليها ماكثون فيها غير خارجين منها أبدا.


بيَّن تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم

أنه ليس هو أول رسول كُذِّب فقال [تعالى]:

{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ }

رسلا يدعونهم إلى التوحيد،


{ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ }

فكذبوا الرسل، وزعموا أن ما هم عليه هو الحق

المنجي من كل مكروه

وأن ما دعت إليه الرسل فهو بخلاف ذلك،

فلما زين لهم الشيطان أعمالهم،

صار وليهم في الدنيا، فأطاعوه واتبعوه وتولوه.


{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي

وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }


{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

في الآخرة حيث تولوا عن ولاية الرحمن،

ورضوا بولاية الشيطان فاستحقوا لذلك عذاب الهوان.




 
البرهان 176



من سورة النحل


{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ *

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ

وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا

هَلْ يَسْتَوُونَ

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ

وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

{ 73 - 76 }


يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم

أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء لله،

والحال أنهم لا يملكون لهم رزقا من السماوات والأرض،

فلا ينـزلون مطرا،

ولا رزقا ولا ينبتون من نبات الأرض شيئا،

ولا يملكون مثقال ذرة في السماوات والأرض

ولا يستطيعون لو أرادوا،

فإن غير المالك للشيء ربما كان له قوة واقتدار على ما ينفع من يتصل به،

وهؤلاء لا يملكون ولا يقدرون.


فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع الله،

وشبهوها بمالك الأرض والسماوات

الذي له الملك كله والحمد كله والقوة كلها؟"



ولهذا قال: { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ }

المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه

{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم

وأن نسمع ما ضربه العليم من الأمثال


فلهذا ضرب تعالى مثلين له ولمن يعبد من دونه،


أحدهما عبد مملوك أي:

رقيق لا يملك نفسه ولا يملك من المال والدنيا شيئا،

والثاني حرٌّ غنيٌّ

قد رزقه الله منه رزقا حسنا من جميع أصناف المال

وهو كريم محب للإحسان، فهو ينفق منه سرا وجهرا،

هل يستوي هذا وذاك؟!

لا يستويان مع أنهما مخلوقان،




فإذا كانا لا يستويان،

فكيف يستوي المخلوق العبد

الذي ليس له ملك ولا قدرة ولا استطاعة،

بل هو فقير من جميع الوجوه

بالرب الخالق المالك لجميع الممالك

القادر على كل شيء؟"



ولهذا حمد نفسه واختص بالحمد بأنواعه فقال:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ }

فكأنه قيل:

إذا كان الأمر كذلك فلم سوَّى المشركون آلهتهم بالله؟

قال: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }

فلو علموا حقيقة العلم لم يتجرؤوا على الشرك العظيم.



والمثل الثاني مثل { رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } لا يسمع ولا ينطق

و { لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير

{ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ }

أي: يخدمه مولاه، ولا يستطيع هو أن يخدم نفسه

فهو ناقص من كل وجه،

فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم،

فأقواله عدل وأفعاله مستقيمة،


فكما أنهما لا يستويان

فلا يستوي من عبد من دون الله وهو لا يقدر على شيء من مصالحه،

فلولا قيام الله بها لم يستطع شيئا منها،

ولا يكون كفوا وندا

لمن لا يقول إلا الحق،

ولا يفعل إلا ما يحمد عليه.



 
البرهان 177



من سورة النحل




{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ 77 }



أي: هو تعالى المنفرد بغيب السماوات والأرض،

فلا يعلم الخفايا والبواطن والأسرار إلا هو،

ومن ذلك علم الساعة فلا يدري أحد متى تأتي إلا الله،

فإذا جاءت وتجلت لم تكن

{ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }

من ذلك فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم

وتفوت الفرص لمن يريد الإمهال،


{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فلا يستغرب على قدرته الشاملة إحياؤه للموتى.
 
البرهان 178



من سورة النحل



{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا

ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ

وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ *

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ

قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ *

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

{ 84 - 87 }


يخبر تعالى عن حال الذين كفروا في يوم القيامة

وأنه لا يقبل لهم عذر ولا يرفع عنهم العقاب

وأن شركاءهم تـتبرأ منهم

ويقرون على أنفسهم بالكفر والافتراء على الله


فقال: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا }

يشهد عليهم بأعمالهم وماذا أجابوا به الداعي إلى الهدى

وذلك الشهيد الذي يبعثه الله أزكى الشهداء وأعدلهم

وهم الرسل الذين إذا شهدوا تم عليهم الحكم.


فـ { لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } في الاعتذار

لأن اعتذارهم بعد ما علم يقينا بطلان ما هم عليه،

اعتذار كاذب لا يفيدهم شيئا،

وإن طلبوا أيضا الرجوع إلى الدنيا ليستدركوا

لم يجابوا ولم يعتبوا،


بل يبادرهم العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم

من غير إنظار ولا إمهال من حين يرونه

لأنهم لا حساب عليهم لأنهم لا حسنات لهم

وإنما تعد أعمالهم وتحصى ويوقفون عليها ويقرون بها ويفتضحون.



{ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ }

يوم القيامة وعلموا بطلانها ولم يمكنهم الإنكار.


{ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ }

ليس عندها نفع ولا شفع،

فنوَّهوا بأنفسهم ببطلانها، وكفروا بها،

وبدت البغضاء والعداوة بينهم وبينها،


{ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ }

أي: ردت عليهم شركاؤهم قولهم،

فقالت لهم: { إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }

حيث جعلتمونا شركاء لله ،

وعبدتمونا معه فلم نأمركم بذلك،

ولا زعمنا أن فينا استحقاقا للألوهية فاللوم عليكم.


فحينئذ استسلموا لله

وخضعوا لحكمه

وعلموا أنهم مستحقون للعذاب.


{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

فدخلوا النار وقد امتلأت قلوبهم من مقت أنفسهم

ومن حمد ربهم وأنه لم يعاقبهم إلا بما كسبوا.


 
البرهان 179




من سورة النحل


{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ

مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ

وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }


{ 98 - 100 }


أي: فإذا أردت القراءة لكتاب الله الذي هو أشرف الكتب وأجلها

وفيه صلاح القلوب والعلوم الكثيرة

فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد

عند شروعه في الأمور الفاضلة،

فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها.


فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله،

والاستعاذة به من شره،


فيقول القارئ: { أعوذ بالله من الشيطان الرجيم }

متدبرا لمعناها، معتمدا بقلبه على الله في صرفه عنه،

مجتهدا في دفع وساوسه وأفكاره الرديئة

مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه،

وهو التحلي بحلية الإيمان والتوكل.



فإن الشيطان { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي: تسلط

{ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ } وحده لا شريك له

{ يَتَوَكَّلُونَ } فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه

شر الشيطان ولا يبق له عليهم سبيل.



{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ } أي: تسلطه

{ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } أي: يجعلونه لهم وليا،

وذلك بتخليهم عن ولاية الله،

ودخولهم في طاعة الشيطان،

وانضمامهم لحزبه،

فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم،

فأزَّهم إلى المعاصي أزًّا وقادهم إلى النار قَوْدًا.






 
البرهان 180


من سورة النحل



{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ

وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ

وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ

وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ *

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

{ 106 - 109 }



يخبر تعالى عن شناعة حال { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ }

فعمى بعد ما أبصر ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى،

وشرح صدره بالكفر راضيا به مطمئنا

أن لهم الغضب الشديد من الرب الرحيم

الذي إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وغضب عليهم كل شيء،


{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: في غاية الشدة مع أنه دائم أبدا.



و { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ }

حيث ارتدوا على أدبارهم طمعا في شيء من حطام الدنيا،

ورغبة فيه وزهدا في خير الآخرة،

فلما اختاروا الكفر على الإيمان منعهم الله الهداية فلم يهدهم

لأن الكفر وصفهم، فطبع على قلوبهم فلا يدخلها خير،

وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا ينفذ منها ما ينفعهم

ويصل إلى قلوبهم.


فشملتهم الغفلة وأحاط بهم الخذلان،

وحرموا رحمة الله التي وسعت كل شيء،

وذلك أنها أتتهم فردوها، وعرضت عليهم فلم يقبلوها.


{ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة

وفاتهم النعيم المقيم وحصلوا على العذاب الأليم.



وهذا بخلاف من أكره على الكفر وأجبر عليه،

وقلبه مطمئن بالإيمان؛ راغب فيه

فإنه لا حرج عليه ولا إثم،

ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها.


ودل ذلك على أن كلام المكره على الطلاق أو العتاق

أو البيع أو الشراء أو سائر العقود أنه لا عبرة به،

ولا يترتب عليه حكم شرعي،

لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها

فغيرها من باب أولى وأحرى.


 
البرهان 181


من سورة الإسراء


{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي ‎وَكِيلًا *

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }




{ 2 -3 }



كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما

لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع

ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين،


ولهذا قال هنا: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } الذي هو التوراة

{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ }

يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق.


{ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا }

أي: وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك

ليعبدوا الله وحده وينيبوا إليه

ويتخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم

ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين

الذين لا يملكون شيئا ولا ينفعونهم بشيء.



{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }

أي: يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح،

{ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }

ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام

بقيامه بشكر الله واتصافه بذلك

والحث لذريته أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه،

وأن يتذكروا نعمة الله عليهم

إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم.





 


البرهان 182

من سورة الإسراء


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا*

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }

{ 13 - 15 }


وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه،

أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره،

فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله.


{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا }

فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره

ويقال له: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد:

حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.


{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ

وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }


أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد،

ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر،

والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا

حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.


وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى

فإن الله تعالى لا يعذبه.


واستدل بهذه الآية

على أن أهل الفترات وأطفال المشركين لا يعذبهم الله

حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم.

 
البرهان 183


من سورة الإسراء


{ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ

فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا }

{ 22 }



أي: لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة

ولا تشرك بالله أحدا منهم

فإن ذلك داع للذم والخذلان،

فالله وملائكته ورسله قد نهوا عن الشرك

وذموا من عمله أشد الذم

ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة والأوصاف المقبوحة

ما كان به متعاطيه أشنع الخلق وصفا وأقبحهم نعتا.


وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه

بحسب ما تركه من التعلق بربه،


فمن تعلق بغيره فهو مخذول

قد وكل إلى من تعلق به

ولا أحد من الخلق ينفع أحدا إلا بإذن الله،

كما أن من جعل مع الله إلها آخر له الذم والخذلان،


فمن وحده وأخلص دينه لله

وتعلق به دون غيره

فإنه محمود معان في جميع أحواله.



 
البرهان 184





من سورة الإسراء




{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... }


{ 23 }



لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال:

{ وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا

{ أَنْ لَا تَعْبُدُوا }

أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات.


{ إِلَّا إِيَّاهُ }

لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال،

وله من تلك الصفة أعظمها

على وجه لا يشبهه أحد من خلقه،

وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة

الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور


فهو المتفرد بذلك كله

وغيره ليس له من ذلك شيء.

 
البرهان 185





من سورة الإسراء



{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا *

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا *

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا *

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }

{ 41-44 }



يخبر تعالى أنه صرف لعباده في هذا القرآن أي:

نوع الأحكام ووضحها وأكثر من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه،

ووعظ وذكر لأجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه وما يضرهم فيدعوه.


ولكن أبى أكثر الناس إلا نفورا عن آيات الله

لبغضهم للحق ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل

حتى تعصبوا لباطلهم ولم يعيروا آيات الله لهم سمعا

ولا ألقوا لها بالا.



ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة التوحيد

الذي هو أصل الأصول،

فأمر به ونهى عن ضده

وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئا كثيرا

بحيث من أصغى إلى بعضها لا تدع في قلبه شكا ولا ريبا.



ومن الأدلة على ذلك هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال:

{ قُلْ } للمشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر:

{ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ }

أي: على موجب زعمهم وافترائهم


{ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا }

أي: لاتخذوا سبيلا إلى الله بعبادته والإنابة إليه

والتقرب وابتغاء الوسيلة،

فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه

إلها مع الله؟!

هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟".



فعلى هذا المعنى تكون هذه الآية كقوله تعالى:

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }


وكقوله تعالى:

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ }



ويحتمل أن المعنى في قوله:


{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا }

أي: لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة الله تعالى،

فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر هو الرب الإله،

فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله

مقهورة مغلوبة ليس لها من الأمر شيء

فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟


فيكون هذا كقوله تعالى:

{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ

إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }



{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } أي: تقدس وتنـزه وعلت أوصافه

{ عَمَّا يَقُولُونَ } من الشرك به واتخاذ الأنداد معه

{ عُلُوًّا كَبِيرًا } فعلا قدره وعظم وجلت كبرياؤه التي لا تقادر

أن يكون معه آلهة

فقد ضل من قال ذلك ضلالا مبينا وظلم ظلما كبيرا.



لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة

وصغرت لدى كبريائه السماوات السبع ومن فيهن

والأرضون السبع ومن فيهن

{ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة

والسماوات مطويات بيمينه }


وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي فقرا ذاتيا

لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات.


هذا الفقر بجميع وجوهه فقر من جهة الخلق والرزق والتدبير،

وفقر من جهة الاضطرار إلى أن يكون معبودهم ومحبوبهم

الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون،



ولهذا قال:

{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ }

من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت

{ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال ولسان المقال.

{ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }

أي: تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم

بل يحيط بها علام الغيوب.



{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }

حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قولا

تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال

ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه

ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم،

فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض

ولما ترك على ظهرها من دابة.
 
البرهان 186





من سورة الإسراء







{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ

وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا *

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ... }

{ 46-47 }



{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }

أي: أغطية وأغشية لا يفقهون معها القرآن

بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة،

{ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما عن سماعه،


{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآن }

داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به.

{ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا }

من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل،


كما قال تعالى:

{ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ

اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }



{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ }

أي: إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن

لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة

يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به،

وليس استماعهم لأجل الاسترشاد وقبول الحق

وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه،

ومن كان بهذه الحالة لم يفده الاستماع شيئا .
 
البرهان 187


من سورة الإسراء




{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ

فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا *

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

{ 56-57 }



يقول تعالى:

{ قُلْ } للمشركين بالله الذين اتخذوا من دونه أندادا

يعبدونهم كما يعبدون الله ويدعونهم كما يدعونه

ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين:


{ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } آلهة من دون الله فانظروا

هل ينفعونكم أو يدفعون عنكم الضر،

فإنهم لا { يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ }

من مرض أو فقر أو شدة ونحو ذلك فلا يدفعونه بالكلية،

{ وَلَا } يملكون أيضا تحويله من شخص إلى آخر

من شدة إلى ما دونها.


فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله؟

فإنهم لا كمال لهم ولا فعال نافعة،

فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل وسفه في الرأي.



ومن العجب


أن السفه عند الاعتياد والممارسة وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول

يراه صاحبه هو الرأي: السديد والعقل المفيد.


ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد الكامل

المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة

هو السفه والأمر المتعجب منه كما قال المشركون:

{ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }


ثم أخبر أيضا أن الذين يعبدونهم من دون الله في شغل شاغل عنهم

باهتمامهم بالافتقار إلى الله وابتغاء الوسيلة إليه

فقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } من الأنبياء والصالحين والملائكة

{ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }

أي: يتنافسون في القرب من ربهم

ويبذلون ما يقدرون عليه من الأعمال الصالحة

المقربة إلى الله تعالى وإلى رحمته،

ويخافون عذابه فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب.


{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

أي: هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.



وهذه الأمور الثلاثة الخوف والرجاء والمحبة

التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده

هي الأصل والمادة في كل خير.


فمن تمت له تمت له أموره

وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور.


وعلامة المحبة


ما ذكره الله أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله

وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله

والنصح فيها وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها،

فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك فهو كاذب.
 
البرهان 188



من سورة الإسراء




{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ

ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ

فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ

وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا *

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا *

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ

ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا }

{67-69 }



ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود دون ما سواه

أنهم إذا مسهم الضر في البحر فخافوا من الهلاك لتراكم الأمواج

ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في حال الرخاء

من الأحياء والأموات،


فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات

لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن كشف الضر

وصرخوا بدعوة فاطر الأرض والسماوات

الذي تستغيث به في شدائدها جميع المخلوقات

وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال.


فلما كشف الله عنهم الضر ونجاهم إلى البر

ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل وأشركوا به

من لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع

وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم،



وهذا من جهل الإنسان وكفره فإن الإنسان كفور للنعم،

إلا من هدى الله فمن عليه بالعقل السليم واهتدى إلى الصراط المستقيم،

فإنه يعلم أن الذي يكشف الشدائد وينجي من الأهوال

هو الذي يستحق أن يفرد وتخلص له سائر الأعمال

في الشدة والرخاء واليسر والعسر.



وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف

فإنه لم يلحظ وقت الشدة

إلا مصلحته الحاضرة وإنجاءه في تلك الحال.


فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة

ظن بجهله أنه قد أعجز الله

ولم يخطر بقلبه شيء من العواقب الدنيوية

فضلا عن أمور الآخرة.



ولهذا ذكرهم الله بقوله:

{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا }

أي: فهو على كل شيء قدير

إن شاء أنزل عليكم عذابا من أسفل منكم بالخسف

أو من فوقكم بالحاصب

وهو العذاب الذي يحصبهم فيصبحوا هالكين،

فلا تظنوا أن الهلاك لا يكون إلا في البحر.



وإن ظننتم ذلك فأنتم آمنون من { أَنْ يُعِيدَكُمْ } في البحر

{ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ }

أي: ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه.


{ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا }

أي: تبعة ومطالبة فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة.


 
البرهان 189



من سورة الإسراء




{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا }


{ 84 }



أي: { قُلْ كُلٌّ } من الناس

{ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي: على ما يليق به من الأحوال،

إن كان من الصفوة الأبرار،

لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين.


ومن كان من غيرهم من المخذولين،

لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين،

ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم.


{ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا }

فيعلم من يصلح للهداية فيهديه

ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه.
 
البرهان 190


من سورة الإسراء





{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ

لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ

وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

{ 88 }


وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع على صحة ما جاء به الرسول وصدقه،

حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله،

وأخبر أنهم لا يأتون بمثله،

ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.



ووقع كما أخبر الله،


فإن دواعي أعدائه المكذبين به متوفرة على رد ما جاء به

بأي: وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة،

فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه.


فعلم بذلك،

أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا،

وعجزوا عن معارضته.



وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه،

الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة

ولا كلام ولا كمال إلا من ربه،

أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات،

المطلع على سائر الخفيات،

الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم،

الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا،

والأشجار كلها أقلام،

لنفذ المداد، وفنيت الأقلام،

ولم تنفد كلمات الله.


فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلاً لله في أوصافه

فكلامه من أوصافه،

التي لا يماثله فيها أحد،

فليس كمثله شيء، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله

تبارك وتعالى.


فتبًا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق،

وزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم افتراه على الله

واختلقه من نفسه.
 
البرهان 191


من سورة الإسراء





{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ

أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا *

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ

وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }


{ 110-111 }




بقول تعالى لعباده: { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أي: أيهما شئتم.

{ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

أي: ليس له اسم غير حسن، حتى ينهى عن دعائه به،

أي: اسم دعوتموه به، حصل به المقصود،

والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب، مما يناسب ذلك الاسم.


{ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي: قراءتك

{ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فإن في كل من الأمرين محذورًا.

أما الجهر، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه،

وسبوا من جاء به.


وأما المخافتة، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء

{ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } أي: بين الجهر والإخفات

{ سَبِيلًا } أي: تتوسط فيما بينهما.


{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ }

له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه،

المنزه عن كل آفة ونقص.


{ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }

بل الملك كله لله الواحد القهار،

فالعالم العلوي والسفلي كلهم مملوكون لله،

ليس لأحد من الملك شيء.


{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ }

أي: لا يتولى أحدًا من خلقه ليتعزز به ويعاونه،

فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات،

في الأرض ولا في السماوات،

ولكنه يتخذ أولياء إحسانًا منه إليهم ورحمة بهم

{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }



{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }

أي: عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة،

وبالثناء عليه، بأسمائه الحسنى،

وبتحميده بأفعاله المقدسة،

وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له،

وإخلاص الدين كله له.

 
البرهان 192




من سورة الكهف



{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى *

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً

لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }

{ 13-15 }


{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ }

وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة،

{ آمَنُوا } بالله وحده لا شريك له من دون قومهم،

فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى،

أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى،

الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح،

كما قال تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }


{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم،

وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة،

وهذا من لطفه تعالى بهم وبره،

أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات، والطمأنينة.


{ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: الذي خلقنا ورزقنا، ودبرنا وربانا، هو خالق السماوات والأرض،

المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة،

لا تلك الأوثان والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق،

ولا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،

فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية،

ولهذا قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي: من سائر المخلوقات


{ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي: إن دعونا معه آلهة،

بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة إلا له

{ شَطَطًا } أي: ميلا عظيما عن الحق، وطريقا بعيدة عن الصواب،

فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية،

والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل،

وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم،

وزيادة الهدى من الله لهم.


{ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً }

لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى،

والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم، من اتخاذ الآلهة من دون الله،

فمقتوهم وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم،

بل في غاية الجهل والضلال


فقالوا: { لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بحجة وبرهان،

على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك،

وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه،

وهذا أعظم الظلم،

ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }



 
البرهان 193




من سورة الكهف



{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا

إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا

رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ

قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }

{ 21 }


يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف،

وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما،

وأمروه بالاستخفاء والإخفاء،

فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم،

وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله المشاهدة بالعيان،

على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد،

بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم،

فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك،

فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين،

وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم،

ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.


و { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } الله أعلم بحالهم ومآلهم،

وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر:


{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }

أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم،

وهذه الحالة محظورة،

نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها،

ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها،

فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم،

وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا،

بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم،

وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.


وفي هذه القصة،


دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها.

وأن من حرص على العافية عافاه الله

ومن أوى إلى الله آواه الله، وجعله هداية لغيره،

ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته،

كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب

{ وما عند الله خير للأبرار }


 
البرهان 194



من سورة الكهف



{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ

وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ

وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }

{ 23-24 }


هذا النهي كغيره،

وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صلى الله عليه وسلم،

فإن الخطاب عام للمكلفين،


فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة،


{ إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله،

وذلك لما فيه من المحذور،

وهو: الكلام على الغيب المستقبل،

الذي لا يدري هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟


وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا،

وذلك محذور محظور،

لأن المشيئة كلها لله

{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }



ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله،

وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه،

ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة،

أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر،

ليحصل المطلوب، ويدفع المحذور،


ويؤخذ من عموم قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }

الأمر بذكر الله عند النسيان ،

فإنه يزيله ويذكر العبد ما سها عنه،

وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله،

أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين،


ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة،

وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله،

أمره الله أن يقول:

{ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }

فأمره أن يدعو الله ويرجوه،

ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.

وحري بعبد تكون هذه حاله،

ثم يبذل جهده ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد،

أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه،

وأن يسدده في جميع أموره.



 
البرهان 195



من سورة الكهف



{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ....}

{ 29 }


أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي:

قد تبين الهدى من الضلال، والرشد من الغي،

وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة،

وذلك بما بينه الله على لسان رسوله،

فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.


{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }

أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين،

بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه،

وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر،

فمن آمن فقد وفق للصواب،

ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان،


كما قال تعالى

{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }


وليس في قوله:

{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }

الإذن في كلا الأمرين،

وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام،

كما ليس فيها ترك قتال الكافرين.



 
البرهان 196


من سورة الكهف





{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ

وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا *

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ

فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }

{ 51-52 }


يقول تعالى: ما أشهدت الشياطين [وهؤلاء المضلين]،

خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي:

ما أحضرتهم ذلك، ولا شاورتهم عليه،

فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟!

بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير هو الله،

خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته،

فكيف يجعل له شركاء من الشياطين،

يوالون ويطاعون، كما يطاع الله،

وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟!


ولهذا قال: { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }

أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون،

أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير،

لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم،

فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.



ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا،

وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال،

وحكم بجهل صاحبه وسفهه،

أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة،

وأن الله يقول لهم: { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم

أي: على موجب زعمكم الفاسد،

وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء،

أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد،

{ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ }

لأن الحكم والملك يومئذ لله،

لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.


{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي: بين المشركين وشركائهم

{ مَوْبِقًا } أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض،

ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم،

وكفرهم بهم، وتبريهم منهم،


كما قال تعالى

{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً

وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
 
عودة
أعلى