أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة.
من براهين التوحيد في القرآن المجيد
البرهان 245
من سورة الحج
{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
{ 15 }
أي: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله، وأن دينه سيضمحل،
فإن النصر من الله ينزل من السماء
{ فَلْيَمْدُدْ } ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي: حبل
{ إِلَى السَّمَاءِ } وليرقى إليها
{ ثُمَّ لِيَقْطَعْ } النصر النازل عليه من السماء
{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ }
أي: ما يكيد به الرسول، ويعمله من محاربته،
والحرص على إبطال دينه، ما يغيظه من ظهور دينه،
وهذا استفهام بمعنى النفي
[وأنه] لا يقدر على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب.
ومعنى هذه الآية الكريمة:
يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم،
الساعي في إطفاء دينه،
الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا،
اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول،
فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك،
فليس لك قدرة في ذلك،
ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك،
ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا-
ائت الأمر مع بابه، وارتق إليه بأسبابه،
اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء،
ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر،
فسدها وأغلقها واقطعها،
فبهذه الحال تشفي غيظك،
فهذا هو الرأي: والمكيدة،
وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك،
ولو ساعدك من ساعدك من الخلق.
وهذه الآية الكريمة،
فيها من الوعد والبشارة
بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى،
ومن تأييس الكافرين،
الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم،
والله متم نوره، ولو كره الكافرون،
أي: وسَعَوْا مهما أمكنهم.
البرهان 246
من سورة الحج
{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ *
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
{ 30 - 31 }
{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ } أي: الخبث القذر
{ مِنَ الْأَوْثَانِ }
أي: الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله،
فإنها أكبر أنواع الرجس،
والظاهر أن { من } هنا ليست لبيان الجنس،
كما قاله كثير من المفسرين، وإنما هي للتبعيض،
وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات،
فيكون منهيا عنها عموما،
وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا،
{ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ }
أي: جميع الأقوال المحرمات،
فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور
فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول الزور.
أمرهم أن يكونوا { حُنَفَاءَ لِلَّهِ }
أي: مقبلين عليه وعلى عبادته، معرضين عما سواه.
{ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } فمثله
{ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي: سقط منها
{ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } بسرعة
{ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
أي: بعيد، كذلك المشرك،
فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة.
ومن ترك الإيمان، بمنزلة الساقط من السماء،
عرضة للآفات والبليات،
فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء،
كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان
تخطفته الشياطين من كل جانب، ومزقوه،
وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
البرهان 247
من سورة الحج
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
{ 61 - 62 }
ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة،
هو حسن التصرف، في تقديره وتدبيره،
الذي { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ }
أي: يدخل هذا على هذا، وهذا على هذا،
فيأتي بالليل بعد النهار، وبالنهار بعد الليل،
ويزيد في أحدهما ما ينقصه في الآخر، ثم بالعكس،
فيترتب على ذلك، قيام الفصول،
ومصالح الليل والنهار، والشمس والقمر،
التي هي من أجل نعمه على العباد، وهي من الضروريات لهم.
{ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ }
يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف، اللغات، على تفنن الحاجات،
{ بَصِيرٌ }
يرى دبيب النملة السوداء،
تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء
{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }
{ ذَلِكَ } صاحب الحكم والأحكام
{ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ }
أي: الثابت، الذي لا يزال ولا يزول،
الأول الذي ليس قبله شيء،
الآخر الذي ليس بعده شيء،
كامل الأسماء والصفات، صادق الوعد،
الذي وعده حق ولقاؤه حق، ودينه حق،
وعبادته هي الحق، النافعة الباقية على الدوام.
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }
من الأصنام والأنداد، من الحيوانات والجمادات،
{ هُوَ الْبَاطِلُ }
الذي، هو باطل في نفسه،
وعبادته باطلة، لأنها متعلقة بمضمحل فان،
فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها،
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
العلي في ذاته، فهو عال على جميع المخلوقات
وفي قدره، فهو كامل الصفات،
وفي قهره لجميع المخلوقات،
الكبير في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته،
الذي من عظمته وكبريائه، أن الأرض قبضته يوم القيامة،
والسماوات مطويات بيمينه،
ومن كبريائه، أن كرسيه وسع السماوات والأرض،
ومن عظمته وكبريائه، أن نواصي العباد بيده،
فلا يتصرفون إلا بمشيئته،
ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته.
وحقيقة الكبرياء التي لا يعلمها إلا هو،
لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل،
أنها كل صفة كمال وجلال وكبرياء وعظمة،
فهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها وأكملها،
ومن كبريائه،
أن العبادات كلها، الصادرة من أهل السماوات والأرض،
كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه،
ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.
البرهان 248
من سورة الحج
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
{ 64 }
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ }
خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره،
ليس لأحد غيره من الأمر شيء.
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ }
بذاته الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه،
ومن غناه، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه،
ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة،
ومن غناه، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا،
ومن غناه، أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب،
ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه،
فهو يطعم ولا يطعم،
ومن غناه، أن الخلق كلهم مفتقرون إليه،
في إيجادهم، وإعدادهم وإمدادهم، وفي دينهم ودنياهم،
ومن غناه، أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض،
الأحياء منهم والأموات، في صعيد واحد،
فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته، فأعطاهم فوق أمانيهم،
ما نقص ذلك من ملكه شيء،
ومن غناه، أن يده سحاء بالخير والبركات، الليل والنهار،
لم يزل إفضاله على الأنفاس،
ومن غناه وكرمه، ما أودعه في دار كرامته،
مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{ الْحَمِيدِ }
أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه، لكونها حسنى،
وفي صفاته، لكونها كلها صفات كمال،
وفي أفعاله، لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة
وفي شرعه، لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة،
ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة،
الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض،
وما بينهما، وما شاء بعدها،
الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده،
بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده،
وهو المحمود على توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله،
وهو الغني في حمده، الحميد في غناه.
البرهان 249
من سورة الحج
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ *
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ
يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ
النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
{ 71 - 72 }
يذكر تعالى حالة المشركين به، العادلين به غيره،
وأن حالهم أقبح الحالات،
وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه، فليس لهم به علم،
وإنما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين،
وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله،
وهو -في نفس الأمر- له حجة ما علمها،
فأخبر هنا، أن الله لم ينـزل في ذلك سلطانا،
أي: حجة تدل عليه وتجوزه،
بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده وبطلانه،
ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق
فقال: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم وحل.
وهل لهؤلاء الذين لا علم لهم بما هم عليه
قصد في اتباع الآيات والهدى إذا جاءهم؟
أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟
ذكر ذلك بقوله: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا }
التي هي آيات الله الجليلة، المستلزمة لبيان الحق من الباطل،
لم يلتفتوا إليها، ولم يرفعوا بها رأسا،
بل { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ }
من بغضها وكراهتها،
ترى وجوههم معبسة، وأبشارهم مكفهرة،
{ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا }
أي: يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ،
من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته،
فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة، وشرها بئس الشر،
ولكن ثم ما هو شر منها، حالتهم التي يؤولون إليها،
فلهذا قال:
{ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
فهذه شرها طويل عريض،
ومكروهها وآلامها تزداد على الدوام.
البرهان 250
من سورة الحج
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
{ 73 - 74 }
هذا مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان،
وبيان نقصان عقول من عبدها، وضعف الجميع،
فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } هذا خطاب للمؤمنين والكفار،
المؤمنون يزدادون علما وبصيرة، والكافرون تقوم عليهم الحجة،
{ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ }
أي: ألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى عليه،
ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة،
بل ألقوا إليه القلوب والأسماع،
وهو هذا: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
شمل كل ما يدعى من دون الله،
{ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا }
الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها،
فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف،
فما فوقه من باب أولى،{ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ }
بل أبلغ من ذلك لو { يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ }
وهذا غاية ما يصير من العجز.
{ ضَعُفَ الطَّالِبُ } الذي هو المعبود من دون الله
{ وَالْمَطْلُوبُ } الذي هو الذباب، فكل منهما ضعيف،
وأضعف منهما، من يتعلق بهذا الضعيف،
وينزله منزلة رب العالمين.
فهذا ما قدر { اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }
حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه،
بالغني القوي من جميع الوجوه،
سوى من لا يملك لنفسه، ولا لغيره نفعا ولا ضرا،
ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،
بمن هو النافع الضار، المعطي المانع،
مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف.
{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
أي: كامل القوة، كامل العزة،
من كمال قوته وعزته، أن نواصي الخلق بيديه،
وأنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بإرادته ومشيئته،
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
ومن كمال قوته، أنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا،
ومن كمال قوته، أنه يبعث الخلق كلهم،
أولهم وآخرهم، بصيحة واحدة،
ومن كمال قوته، أنه أهلك الجبابرة والأمم العاتية،
بشيء يسير، وسوط من عذابه.
البرهان 251
من سورة المؤمنون
{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ *
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ *
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
{ 57 - 62 }
لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن،
الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا دليل على خيرهم وفضلهم،
ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف،
فقال: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }
أي: وجلون، مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم،
خوفا أن يضع عليهم عدله، فلا يبقى لهم حسنة،
وسوء ظن بأنفسهم، أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى،
وخوفا على إيمانهم من الزوال،
ومعرفة منهم بربهم، وما يستحقه من الإجلال والإكرام،
وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف
عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب،
والتقصير في الواجبات.
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }
أي: إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا،
ويتفكرون أيضا في الآيات القرآنية ويتدبرونها،
فيبين لهم من معاني القرآن وجلالته واتفاقه، وعدم اختلافه وتناقضه،
وما يدعو إليه من معرفة الله وخوفه ورجائه، وأحوال الجزاء،
فيحدث لهم بذلك من تفاصيل الإيمان، ما لا يعبر عنه اللسان.
ويتفكرون أيضا في الآيات الأفقية،
كما في قوله:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } إلى آخر الآيات.
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ }
أي: لا شركا جليا،
كاتخاذ غير الله معبودا، يدعوه ويرجوه
ولا شركا خفيا، كالرياء ونحوه،
بل هم مخلصون لله،
في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم.
{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا }
أي: يعطون من أنفسهم مما أمروا به،
ما آتوا من كل ما يقدرون عليه، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك،
{ و } مع هذا { قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي: خائفة
{ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }
أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه،
أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله،
لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف العبادات.
{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ }
أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله،
وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه،
فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه،
قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم، ويمنة، ويسرة،
يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم.
ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره،
وقد لا يسبق لتقصيره،
أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال:
{ وَهُمْ لَهَا } أي: للخيرات
{ سَابِقُونَ } قد بلغوا ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول،
ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون.
ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها،
ربما وهم واهم أن المطلوب منهم ومن غيرهم أمر غير مقدور أو متعسر،
أخبر تعالى أنه لا يكلف { نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
أي: بقدر ما تسعه، ويفضل من قوتها عنه، ليس مما يستوعب قوتها،
رحمة منه وحكمة، لتيسير طريق الوصول إليه،
ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه.
{ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ }
وهو الكتاب الأول، الذي فيه كل شيء،
وهو يطابق كل واقع يكون، فلذلك كان حقا،
{ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
أي لا ينقص من إحسانهم، ولا يزداد في عقوبتهم وعصيانهم.
البرهان 252
من سورة المؤمنون
{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ *
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }
{ 84 - 89 }
أي: قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره،
محتجا عليهم بما أثبتوه، وأقروا به،
من توحيد الربوبية، وانفراد الله بها،
على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة،
وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة،
على ما أنكروه من إعادة الموتى، الذي هو أسهل من ذلك.
{ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا }
أي: من هو الخالق للأرض ومن عليها، من حيوان، ونبات وجماد
وبحار وأنهار وجبال، المالك لذلك، المدبر له؟
فإنك إذا سألتهم عن ذلك، لا بد أن يقولوا: الله وحده.
فقل لهم إذا أقروا بذلك: { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
أي: أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به،
مما هو معلوم عندكم، مستقر في فطركم،
قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات.
والحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم, بمجرد التأمل،
علمتم أن مالك ذلك، هو المعبود وحده،
وأن إلهية من هو مملوك أبطل الباطل
ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك،
فقال: { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ }
وما فيها من النيرات، والكواكب السيارات، والثوابت
{ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }
الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها،
فمن الذي خلق ذلك ودبره، وصرفه بأنواع التدبير؟
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي: سيقرون بأن الله رب ذلك كله.
قل لهم حين يقرون بذلك: { أَفَلَا تَتَّقُونَ }
عبادة المخلوقات العاجزة، وتتقون الرب العظيم،
كامل القدرة، عظيم السلطان؟
وفي هذا من لطف الخطاب،
من قوله: { أَفَلَا تذكرون } { أفلا تَتَّقُونَ }
والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، ما لا يخفى
ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال:
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ }
أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي، والعالم السفلي،
ما نبصره، وما لا نبصره؟.
و " الملكوت "ب صيغة مبالغة بمعنى الملك.
{ وَهُوَ يُجِيرُ }
عباده من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم،
{ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ }
أي: لا يقدر أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله.
بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ،
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }
أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير،
الذي لا يجار عليه.
{ قُلْ } لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم،
{ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي: فأين تذهب عقولكم،
حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم، ولا قسط من الملك،
وأنهم عاجزون من جميع الوجوه،
وتركتم الإخلاص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور،
فالعقول التي دلتكم على هذا،
لا تكون إلا مسحورة، وهي - بلا شك- قد سحرها الشيطان،
بما زين لهم، وحسن لهم، وقلب الحقائق لهم،
فسحر عقولهم، كما سحرت السحرة أعين الناس.
البرهان 253
من سورة المؤمنون
{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ 90 - 92 }
يقول تعالى: بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق،
المتضمن للصدق في الأخبار، العدل في الأمر والنهي،
فما بالهم لا يعترفون به، وهو أحق أن يتبع؟
وليس عندهم ما يعوضهم عنه، إلا الكذب والظلم،
ولهذا قال: { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ }
كذب يعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح،
ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال:
{ إِذًا } أي: لو كان معه آلهة كما يقولون
{ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ }
أي: لانفرد كل واحد من الإلهين بمخلوقاته, واستقل بها،
ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته،
{ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }
فالغالب يكون هو الإله، وإلا فمع التمانع لا يمكن وجود العالم،
ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول،
واعتبر ذلك بالشمس والقمر، والكواكب الثابتة، والسيارة،
فإنها منذ خلقت، وهي تجري على نظام واحد، وترتيب واحد،
كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم،
ليست مقصورة على مصلحة أحد دون أحد،
ولن ترى فيها خللا ولا تناقضا، ولا معارضة في أدنى تصرف،
فهل يتصور أن يكون ذلك، تقدير إلهين ربين؟"
{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }
قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها،
أن المدبر لها إله واحد كامل الأسماء والصفات،
قد افتقرت إليه جميع المخلوقات، في ربوبيته لها، وفي إلهيته لها،
فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته،
كذلك، لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة،
ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك،
وهو علمه المحيط، فقال: { عَالِمُ الْغَيْبِ }
أي: الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا،
من الواجبات والمستحيلات والممكنات،
{ وَالشَّهَادَةِ }وهو ما نشاهد من ذلك
{ فَتَعَالَى }أي: ارتفع وعظم،
{ عَمَّا يُشْرِكُونَ }به، من لا علم عنده، إلا ما علمه الله
البرهان 254
من سورة المؤمنون
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ *
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ*
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }
{ 115 -118 }
أي: { أَفَحَسِبْتُمْ } أيها الخلق
{ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا }
أي: سدى وباطلا، تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا،
ونترككم لا نأمركم، و[لا] ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟
ولهذا قال: { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } لا يخطر هذا ببالكم ،
{ فَتَعَالَى اللَّهُ }
أي: تعاظم وارتفع عن هذا الظن الباطل،
الذي يرجع إلى القدح في حكمته.
{ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
فكونه ملكا للخلق كلهم حقا، في صدقه، ووعده، ووعيده،
مألوها معبودا، لما له من الكمال
{ رَبُّ الْعَرْشِ الكريم }
فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثا.
{ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ }
أي: ومن دعا مع الله آلهة غيره،
بلا بينة من أمره ولا برهان يدل على ما ذهب إليه،
وهذا قيد ملازم،
فكل من دعا غير الله، فليس له برهان على ذلك،
بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه،
فأعرض عنها ظلما وعنادا، فهذا سيقدم على ربه،
فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا، لأنه كافر،
{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }
فكفرهم منعهم من الفلاح.
{ وَقُلْ } داعيا لربك مخلصا له الدين
{ رَبِّ اغْفِرْ } لنا حتى تنجينا من المكروه،
وارحمنا، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير
{ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }
فكل راحم للعبد، فالله خير له منه،
أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأرحم به من نفسه.
البرهان 255
من سورة النور
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
{ 26 }
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ }
أي: كل خبيث من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال،
مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له،
وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال،
مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له،
فهذه كلمة عامة وحصر، لا يخرج منه شيء،
من أعظم مفرداته،
أن الأنبياء -خصوصا أولي العزم منهم،
خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم،
الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق
لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء،
فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر
قدح في النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو المقصود بهذا الإفك، من قصد المنافقين،
فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم،
يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح.
فكيف وهي هي؟
صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن،
حبيبة رسول رب العالمين،
التي لم ينزل الوحي عليه
وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها،
ثم صرح بذلك،
بحيث لا يبقى لمبطل مقالا، ولا لشك وشبهة مجالا،
فقال: { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ }
والإشارة إلى عائشة رضي الله عنها أصلا،
وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا
{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } تستغرق الذنوب
{ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنة صادر من الرب الكريم.
البرهان 256
من سورة النور
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ 35 }
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الحسي والمعنوي،
وذلك أنه تعالى بذاته نور،
وحجابه -الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور،
وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر،
والنور، وبه استنارت الجنة.
وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله،
فكتابه نور، وشرعه نور،
والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور.
فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات،
ولهذا: كل محل، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر،
{ مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه،
وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين،
{ كَمِشْكَاةٍ } أي: كوة
{ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } من صفائها وبهائها
{ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي: مضيء إضاءة الدر.
{ يُوقَدُ } ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية
{ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي: يوقد من زيت الزيتون
الذي ناره من أنور ما يكون،
{ لَا شَرْقِيَّةٍ } فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار،
{ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } فقط، فلا تصيبها الشمس [أول] النهار،
وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض،
كزيتون الشام، تصيبها الشمس أول النهار وآخره،
فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها،
ولهذا قال: { يَكَادُ زَيْتُهَا } من صفائه
{ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }
فإذا مسته النار، أضاء إضاءة بليغة
{ نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي: نور النار، ونور الزيت.
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله،
وتطبيقه على حالة المؤمن، ونور الله في قلبه،
أن فطرته التي فطر عليها، بمنزلة الزيت الصافي،
ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع،
فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه،
بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح،
وهو صافي القلب من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله،
إذا وصل إليه الإيمان، أضاء إضاءة عظيمة،
لصفائه من الكدورات،
وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية،
فيجتمع له نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم،
وصفاء المعرفة، نور على نوره.
ولما كان هذا من نور الله تعالى،
وليس كل أحد يصلح له ذلك،
قال: { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ }
ممن يعلم زكاءه وطهارته، وأنه يزكي معه وينمو.
{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه ويفهموا،
لطفا منه بهم، وإحسانا إليهم، وليتضح الحق من الباطل،
فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة،
فيعلمها العباد علما واضحا،
{ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
فعلمه محيط بجميع الأشياء،
فلتعلموا أن ضربه الأمثال،
ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها،
وأنها مصلحة للعباد،
فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها،
لا بالاعتراض عليها، ولا بمعارضتها،
فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون.
البرهان 257
من سورة النور
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا
أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
{ 48 - 50 }
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ }
أي: إذا صار بينهم وبين أحد حكومة،
ودعوا إلى حكم الله ورسوله
{ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }
يريدون أحكام الجاهلية،
ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية،
لعلمهم أن الحق عليهم،
وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع،
{ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ } أي: إلى حكم الشرع
{ مُذْعِنِينَ } وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي،
وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم،
فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين،
لأن العبد حقيقة، من يتبع الحق فيما يحب ويكره،
وفيما يسره ويحزنه،
وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه،
وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع،
فليس بعبد على الحقيقة،
قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي:
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }
أي: علة، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته،
فصار بمنزلة المريض،
الذي يعرض عما ينفعه، ويقبل على ما يضره،
{ أَمِ ارْتَابُوا } أي: شكوا،
وقلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله،
واتهموه أنه لا يحكم بالحق،
{ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ }
أي: يحكم عليهم حكما ظالما جائرا،
وإنما هذا وصفهم { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
وأما حكم الله ورسوله، ففي غاية العدالة والقسط، وموافقة الحكمة.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
وفي هذه الآيات،
دليل على أن الإيمان، ليس هو مجرد القول
حتى يقترن به العمل،
ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة،
ووجوب الانقياد لحكم الله ورسوله في كل حال،
وأن من [ لم ] ينقد له دل على مرض في قلبه، وريب في إيمانه،
وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة،
وأن يظن بها خلاف العدل والحكمة.
البرهان 258
من سورة الفرقان
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ْ*
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }
{ 2 - 3 }
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
أى: له التصرف فيهما وحده، وجميع من فيهما مماليك وعبيد له
مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته، فقراء إلى رحمته
الذي { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }
وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك،
وهو القاهر وغيره مقهور
وهو الغني بذاته من جميع الوجوه،
والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا ذاتيا من جميع الوجوه؟"
وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه،
فلا يتحركون أو يسكنون ولا يتصرفون إلا بإذنه
فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،
فلم يقدره حق قدره من قال فيه ذلك
ولهذا قال: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ }
شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته ونباتاته وجماداته،
{ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }
أي: أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق
وما تقتضيه حكمته من ذلك،
بحيث صار كل مخلوق لا يتصور العقل الصحيح
أن يكون بخلاف شكله وصورته المشاهدة،
بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد
لا يناسبه غير محله الذي هو فيه.
قال تعالى:
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى }
وقال تعالى:
{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
ولما بين كماله وعظمته وكثرة إحسانه
كان ذلك مقتضيا لأن يكون وحده المحبوب المألوه المعظم
المفرد بالإخلاص وحده لا شريك له
ناسب أن يذكر بطلان عبادة ما سواه فقال:
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }
أي: من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم،
بل أدل على ظلمهم وجراءتهم على ربهم
أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة،
في كمال العجز أنها لا تقدر على خلق شيء
بل هم مخلوقون،
بل بعضهم مما عملته أيديهم.
{ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }
أي: لا قليلا ولا كثيرا، لأنه نكرة في سياق النفي.
{ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }
أي: بعثا بعد الموت،
فأعظم أحكام العقل بطلان إلهيتها وفسادها
وفساد عقل من اتخذها آلهة وشركاء للخالق لسائر المخلوقات
من غير مشاركة له في ذلك،
الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع
الذي يحيي ويميت ويبعث من في القبور
ويجمعهم ليوم النشور،
وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي والنكال
لمن اتخذ معه آلهة أخرى،
ودار الفوز والسعادة والنعيم المقيم
لمن اتخذه وحده معبودا.
البرهان 259
من سورة الفرقان
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا
فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا *
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا }
{ 4 - 6 }
أي: وقال الكافرون بالله الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن والرسول:
إن هذا القرآن كذب كذبه محمد وإفك افتراه على الله
وأعانه على ذلك قوم آخرون.
فرد الله عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإقدام على الظلم والزور،
الذي لا يمكن أن يدخل عقل أحد
وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى الله عليه وسلم
وكمال صدقه وأمانته وبره التام
وأنه لا يمكنه لا هو ولا سائر الخلق أن يأتوا بهذا القرآن
الذي هو أجل الكلام وأعلاه
وأنه لم يجتمع بأحد يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا.
ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا: هذا الذي جاء به محمد
{ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا }
أي: هذا قصص الأولين وأساطيرهم
التي تتلقاها الأفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد
{ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }
وهذا القول منهم فيه عدة عظائم:
منها:
رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة.
ومنها:
إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلام وأعظمه وأجله - بأنه كذب وافتراء.
ومنها:
أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله
وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه
للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته، وهي الكلام.
ومنها:
أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها،
أنه لا يكتب ولا يجتمع بمن يكتب له وقد زعموا ذلك.
فلذلك رد عليهم ذلك بقوله:
{ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
أي: أنزله من أحاط علمه بما في السماوات وما في الأرض،
من الغيب والشهادة والجهر والسر
كقوله:
{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }
ووجه إقامة الحجة عليهم
أن الذي أنزله هو المحيط علمه بكل شيء،
فيستحيل ويمتنع أن يقول مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن،
ويقول: هو من عند الله وما هو من عنده
ويستحل دماء من خالفه وأموالهم،
ويزعم أن الله قال له ذلك،
والله يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على أعدائه،
ويمكنه من رقابهم وبلادهم
فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن، إلا بعد إنكار علم الله،
وهذا لا تقول به طائفة من بني آدم سوى الفلاسفة الدهرية.
وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام
ينبههم: ويحضهم على تدبر القرآن،
وأنهم لو تدبروا لرأوا فيه من علمه وأحكامه
ما يدل دلالة قاطعة على أنه لا يكون إلا من عالم الغيب والشهادة،
ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف الله بهم،
أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة والإنابة إليه
ووعدهم بالمغفرة والرحمة، إن هم تابوا ورجعوا
فقال: { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا }
أي: وصفه المغفرة لأهل الجرائم والذنوب،
إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها.
{ رَحِيمًا } بهم
حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها،
وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي وحيث محا ما سلف من سيئاتهم
وحيث قبل حسناتهم
وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده
والمقبل عليه بعد إعراضه
إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.
البرهان 260
من سورة الفرقان
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ
وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا *
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ
فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }
{ 17 – 19 }
يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم،
وبطلان سعيهم
فقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } أي: المكذبين المشركين
{ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ }
الله مخاطبا للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم:
{ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ }
هل أمرتموهم بعبادتكم وزينتم لهم ذلك
أم ذلك من تلقاء أنفسهم ؟
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ }
نزهوا الله عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك،
{ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا }
أي: لا يليق بنا ولا يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء
نتولاهم ونعبدهم وندعوهم،
فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك،
فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟
هذا لا يكون
أو، سبحانك عن { أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ }
وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } الآية.
وقال تعالى:
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ
بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }
{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً
وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير الله أو يكونوا أضلوهم
ذكروا السبب الموجب لإضلال المشركين
فقالوا:
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } في لذات الدنيا وشهواتها ومطالبها النفسية،
{ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ }
اشتغالا في لذات الدنيا وإكبابا على شهواتها،
فحافظوا على دنياهم وضيعوا دينهم
{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا }
أي: بائرين لا خير فيهم ولا يصلحون لصالح
لا يصلحون إلا للهلاك والبوار،
فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا الذي صرفهم عن الهدى،
وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم لا خير فيهم،
فإذا عدم المقتضي ووجد المانع فلا تشاء من شر وهلاك، إلا وجدته فيهم،
فلما تبرؤوا منهم قال الله توبيخا وتقريعا للعابدين
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ }
إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا فعلكم، وأنهم شفعاء لكم عند ربكم،
كذبوكم في ذلك الزعم وصاروا من أكبر أعدائكم فحق عليكم العذاب،
{ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا }
للعذاب عنكم بفعلكم أو بفداء أو غير ذلك،
{ وَلَا نَصْرًا } لعجزكم وعدم ناصركم.
هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين كما رأيت
أسوأ حكم، وأشر مصير.
وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه فقال في حقه:
{ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } بترك الحق ظلما وعنادا
{ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } لا يقادر قدره ولا يبلغ أمره.
البرهان 261
من سورة الفرقان
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا
أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا *
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا *
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا *
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }
{ 41 - 44 }
أي: وإذا رآك يا محمد هؤلاء المكذبون لك المعاندون لآيات [الله]
المستكبرون في الأرض استهزءوا بك واحتقروك
وقالوا -على وجه الاحتقار والاستصغار-
{ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا }
أي: غير مناسب ولا لائق أن يبعث الله هذا الرجل،
وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم الحقائق
فإن كلامهم هذا يفهم أن الرسول -حاشاه- في غاية الخسة والحقارة
وأنه لو كانت الرسالة لغيره لكان أنسب.
{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }
فهذا الكلام لا يصدر إلا من أجهل الناس وأضلهم،
أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل،
قصده ترويج ما معه من الباطل بالقدح بالحق وبمن جاء به،
وإلا فمن تدبر أحوال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
وجده رجل العالم وهمامهم ومقدمهم
في العقل والعلم واللب والرزانة،
ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم
والعفة والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل،
وأن المحتقر له والشانئ له
قد جمع من السفه والجهل والضلال والتناقض
والظلم والعدوان ما لا يجمعه غيره،
وحسبه جهلا وضلالا أن يقدح بهذا الرسول العظيم والهمام الكريم.
والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به
تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول
ولهذا قالوا: { إِنْ كَادَ } هذا الرجل
{ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } بأن يجعل الآلهة إلها واحدا
{ لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } لأضلنا
زعموا -قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد
وأن الهدى ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه.
{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ }
وهنا قالوا: { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا }
والصبر يحمد في المواضع كلها،
إلا في هذا الموضع فإنه صبر على أسباب الغضب
وعلى الاستكثار من حطب جهنم.
وأما المؤمنون فهم كما قال الله عنهم:
{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول ضال
وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم توعدهم بالعذاب
وأخبر أنهم في ذلك الوقت { حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ }
يعلمون علما حقيقيا { مَنْ } هو { أَضَلُّ سَبِيلًا }
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } الآيات.
وهل فوق ضلال من جعل إلهه معبوده [هواه]
فما هويه فعله
فلهذا قال:
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }
ألا تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضلال؟
وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟
{ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا }
أي: لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر،
وقد قمت بوظيفتك وحسابه على الله.
ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ
بأن سلبهم العقول والأسماع
وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة
التي لا تسمع إلا دعاء ونداء،
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
بل هم أضل من الأنعام
لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي
وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه
وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء،
فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلال أحق بهذا الوصف
وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه.
البرهان 262
من سورة الفرقان
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ
وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا }
{ 55 }
أي: يعبدون أصناما وأمواتا لا تضر ولا تنفع
ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء والمنع
مع أن الواجب عليهم أن يكونوا
مقتدين بإرشادات ربهم
ذابين عن دينه،
ولكنهم عكسوا القضية.
{ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا }
فالباطل الذي هو الأوثان والأنداد أعداء لله،
فالكافر عاونها وظاهرها على ربها
وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب،
هذا وهو الذي خلقه ورزقه
وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة،
وليس يخرج عن ملكه وسلطانه وقبضته
والله لم يقطع عنه إحسانه وبره
وهو -بجهله- مستمر على هذه المعاداة والمبارزة.
البرهان 263
من سورة الفرقان
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا *
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ
قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا }
{ 58 - 60 }
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ } الذي له الحياة الكاملة المطلقة
{ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ }
أي: اعبده وتوكل عليه في الأمور المتعلقة بك والمتعلقة بالخلق.
{ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا }
يعلمها ويجازي عليها.
فأنت ليس عليك من هداهم شيء
وليس عليك حفظ أعمالهم، وإنما ذلك كله بيد الله
{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى } بعد ذلك
{ عَلَى الْعَرْشِ }
الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها
{ الرَّحْمَنِ } استوى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض
باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء
فاستوى على أوسع المخلوقات، بأوسع الصفات.
فأثبت بهذه الآية خلقه للمخلوقات
واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم
وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم.
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا }
يعني بذلك نفسه الكريمة
فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله،
وقد أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته
ما تستعدون به من معرفته
فعرفه العارفون وخضعوا لجلاله،
واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك
ولهذا قال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ }
أي: وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم.
{ قَالُوا } جحدا وكفرا { وَمَا الرَّحْمَنُ }
بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن،
وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أن قالوا:
ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو معه إلها آخر يقول:
" يا رحمن " ونحو ذلك
كما قال تعالى:
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله،
فكل واحد منها دل على صفة كمال.
{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي: لمجرد أمرك إيانا.
وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم عن طاعته،
{ وَزَادَهُمْ } دعوتهم إلى السجود للرحمن
{ نُفُورًا } هربا من الحق إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء.
البرهان 264
من سورة الفرقان
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا *
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }
{ 61 - 62 }
كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله: { تَبَارَكَ } ثلاث مرات
لأن معناها كما تقدم أنها تدل على عظمة الباري وكثرة أوصافه،
وكثرة خيراته وإحسانه.
وهذه السورة فيها من الاستدلال على عظمته وسعة سلطانه
ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته
وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية والأحكام الجزائية وكمال حكمته.
وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده
وكثرة خيراته الدينية والدنيوية
ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن
فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا }
وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر
التي تنزل منزلة منزلة
وهي بمنزلة البروج والقلاع للمدن في حفظها،
كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة
فإنها رجوم للشياطين.
{ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } فيه النور والحرارة وهو الشمس.
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } فيه النور لا الحرارة
وهذا من أدلة عظمته، وكثرة إحسانه،
فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم
دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها،
وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على كثرة خيراته.
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً }
أي: يذهب أحدهما فيخلفه الآخر،
هكذا أبدا لا يجتمعان ولا يرتفعان،
{ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا }
أي: لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما
على كثير من المطالب الإلهية ويشكر الله على ذلك،
ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار،
فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في الآخر،
وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في ساعات الليل والنهار
فيحدث لها النشاط والكسل والذكر
والغفلة والقبض والبسط والإقبال والإعراض،
فجعل الله الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران
ليحدث لهم الذكر والنشاط والشكر لله في وقت آخر،
ولأن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل والنهار،
[ فكلما ] تكررت الأوقات أحدث للعبد همة غير همته
التي كسلت في الوقت المتقدم
فزاد في تذكرها وشكرها،
فوظائف الطاعات بمنزلة سقي الإيمان الذي يمده
فلولا ذلك لذوى غرس الإيمان ويبس.
فلله أتم حمد وأكمله على ذلك.
البرهان 265
من سورة الشعراء
{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ
أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا
أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) }
{ 38- 51}
" فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ "(38)
" وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ "(39)
فَجُمع السحرة , وحُدِّد لهم وقت معلوم ,
هو وقت الضحى من يوم الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم ,
ويجتمعون ويتزيَّنون؛ وذلك للاجتماع بموسى.
وحُثَّ الناس على الاجتماع; أملًا في أن تكون الغلبة للسحرة.
" لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ "(40)
إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة , فنثبت على ديننا.
" فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ "(41)
فلما جاء السحرة فرعون قالوا له:
أإن لنا لأجرًا مِن مال أو جاه , إنْ كنا نحن الغالبين لموسى؟
" قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ "(42)
قال فرعون: نعم لكم عندي ما طلبتم مِن أجر ,
وإنكم حينئذ لمن المقربين لديَّ.
" قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ "(43)
قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم
وإظهار أن ما جاء به ليس سحرًا:
ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر.
" فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ "(44)
فألقَوا حبالهم وعصيَّهم, وخُيِّل للناس أنها حيَّات تسعى,
وأقسموا بعزة فرعون قائلين: إننا لنحن الغالبون.
" فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ "(45)
فألقى موسى عصاه, فإذا هي حية عظيمة,
تبتلع ما صدر منهم من إفك وتزوير.
" فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ "(46)
البرهان 267
من سورة الشعراء
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ *
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ *
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *
أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ *
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ *
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ *
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ *
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ *
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ *
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
[ 69 - 89 ]
" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ "(69)
" إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ "(70)
واقصص على الكافرين - أيها الرسول - خبر إبراهيم حين قال لأبيه وقومه:
أي شيء تعبدونه؟
" قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ "(71)
قالوا: نعبد أصنامًا , فنَعْكُف على عبادتها.
" قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ "(72)
" أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ "(73)
قال إبراهيم منبهًا على فساد مذهبهم:
هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم,
أو يقدِّمون لكم نفعًا إذا عبدتموهم ,
أو يصيبونكم بضر إذا تركتم عبادتهم؟
" قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ "(74)
قالوا: لا يكون منهم شيء من ذلك ,
ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونهم,
فقلَّدناهم فيما كانوا يفعلون.
" قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ "(75)
" أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ "(76)
" فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ "(77)
" الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ "(78)
" وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ "(79)
" وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ "(80)
" وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ "(81)
" وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ "(82)
قال إبراهيم:
أفأبصرتم بتدبر ما كنتم تعبدون من الأصنام
التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ,
أنتم وآباؤكم الأقدمون من قبلكم؟
فإن ما تعبدونهم من دون الله أعداء لي ,
لكن رب العالمين ومالك أمرهم هو وحده الذي أعبده.
هو الذي خلقني في أحسن صورة
فهو يرشدني إلى مصالح الدنيا والآخرة
وهو الذي ينعم عليَّ بالطعام والشراب ,
وإذا أصابني مرض فهو الذي يَشْفيني ويعافيني منه ,
وهو الذي يميتني في الدينا بقبض روحي,
ثم يحييني يوم القيامة,
لا يقدر على ذلك أحد سواه,
والذي أطمع أن يتجاوز عن ذنبي يوم الجزاء.
" رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ "(83)
قال إبراهيم داعيًا ربه:
ربِّ امنحني العلم والفهم , وألحقني بالصالحين , واجمع بيني وبينهم في الجنة.
" وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ "(84)
واجعل لي ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.
شرح كتاب التوحيد
من صحيح البخاري
الشيخ عبدالله بن محمد الغنيمان
جزاه الله تعالى خير الجزاء
من سورة الشعراء
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ
هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ
أَوْ يَنْتَصِرُونَ
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ }
[ 90 - 95 ]
" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ "(90)
وقُرِّبت الجنة للذين اجتنبوا الكفر والمعاصي ,
وأقبلوا على الله بالطاعة.
" وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ "(91)
وأُظهرت النار للكافرين الذين ضَلُّوا عن الهدى ,
وتجرَّؤوا, على محارم الله وكذَّبوا رسله.
" وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ "(92)
" مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ "(93)
وقيل لهم توبيخًا:
أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها مِن دون الله ,
وتزعمون أنها تشفع لكم اليوم ؟
هل ينصرونكم
, فيدفعون العذاب عنكم,
أو ينتصرون
بدفع العذاب عن أنفسهم ؟
لا شيء من ذلك.
" فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ "(94)
" وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ "(95)
فجُمِعوا وألقُوا في جهنم ,
هم والذين أضلوهم
وأعوان إبليس
الذين زيَّنوا لهم الشر,
لم يُفْلِت منهم أحد.
من سورة الشعراء
{ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
[FONT="][FONT="]فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
[/FONT][/FONT]
[ 96 - 102 ]
[FONT="]" قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ "(96)
" تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "(97)
" إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "(98)
" وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ "(99)
قالوا معترفين بخطئهم ,
وهم يتنازعون في جهنم مع مَن أضلوهم ,
تالله إننا كنا في الدنيا في ضلال واضح لا خفاء فيه;
إذ نسويكم
برب العالمين
المستحق للعبادة وحده.
وما أوقعنا في هذا المصير السيِّئ
إلا المجرمون
الذين دعونا إلى
عبادة غير الله
فاتبعناهم.
" فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ "(100)
" وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ "(101)
فلا أحدَ يشفع لنا ,
ويخلِّصنا من العذاب ,
ولا مَن يَصْدُق في مودتنا ويشفق علينا.
" فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "(102)
فليت لنا رجعة إلى الدنيا,
فنصير من جملة المؤمنين الناجين.
[/FONT]
[FONT="] [/FONT]
قال الحق عز وجل :
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ *
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة،
وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه،
قال:
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي:
الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها،
هو الرب المألوه المعبود، الذي له الملك كله.
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأصنام
{ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي:
لا يملكون شيئا، لا قليلا ولا كثيرا،
حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء،
وهذا من تنصيص النفي وعمومه،
فكيف يُدْعَوْنَ، وهم غير مالكين لشيء
من ملك السماوات والأرض؟
ومع هذا { إِنْ تَدْعُوهُمْ }
لا يسمعوكم لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم.
{ وَلَوْ سَمِعُوا } على وجه الفرض والتقدير
{ مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } لأنهم لا يملكون شيئا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده،
ولهذا قال: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي: يتبرأون منكم،
ويقولون: { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ }
{ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
أي: لا أحد ينبئك، أصدق من الله العليم الخبير،
فاجزم بأن هذا الأمر، الذي نبأ به كأنه رَأْيُ عين،
فلا تشك فيه ولا تمتر.
فتضمنت هذه الآيات، الأدلة والبراهين الساطعة،
الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود،
الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه،
وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل،
لا تفيد عابده شيئا.
من تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي
رحمه الله تعالى
من سورة النمل
{ [FONT="]
[FONT="]وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ
فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ
أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ
[/FONT][/FONT][FONT="]
[FONT="]لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
[/FONT][/FONT][FONT="]
[FONT="] فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
[/FONT][/FONT][FONT="]
[FONT="][FONT="]إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
[/FONT][/FONT][/FONT][FONT="]
[FONT="][FONT="]وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
[/FONT][/FONT][/FONT][FONT="]
[FONT="][FONT="]أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
[/FONT][/FONT][/FONT][FONT="][FONT="]
[FONT="]اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[/FONT]
[/FONT][/FONT]
[ 20- 26 ]
" وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ
أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ "
" لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ "
وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له
وحال ما غاب منها,
وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده,
فقال:
ما لي لا أرى الهدهد الذي أعهده؟
أسَتَره ساتر عني,
أم أنه كان من الغائبين عني,
فلم أره لغيبته؟
فلما ظهر أنه غائب قال:
لأعذبنَّ هذا الهدهد عذابًا شديدًا
لغيابه تأديبًا له,
أو لأذبحنَّه عقوبة على ما فعل
حيث أخل بما سُخِّر له,
أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة,
فيها عذر لغيبته.
" فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ
فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ "
فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد
ثم حضر فعاتبه سليمان على مغيبه وتخلُّفه,
فقال له الهدهد:
علمت ما لم تعلمه من الأمر على وجه الإحاطة,
وجئتك من مدينة "سبأ" بـ "اليمن"
بخبر خطير الشأن,
وأنا على يقين منه.
" إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ "
إني وجدت امرأةً تحكم أهل "سبأ",
وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا,
ولها سرير عظيم القدر,
تجلس عليه لإدارة ملكها.
" وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ "
وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس
معرضين عن عبادة الله,
وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم السيئة
التي كانوا يعملونها,
فصرفهم عن
الإيمان بالله وتوحيده,
فهم لا يهتدون
إلى الله
وتوحيده وعبادته وحده.
" أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ "
" اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "
حسَّن لهم الشيطان ذلك;
لئلا يسجدوا لله
الذي يُخرج المخبوء المستور
في السموات والأرض من المطر والنبات
وغير ذلك,
ويعلم ما تُسرُّون وما تظهرون.
الله الذي لا معبود
يستحق العبادة سواه,
رب العرش العظيم.
[FONT="] [/FONT]
[FONT="] [/FONT]
رضا الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها؛
لأن الرضا صفةُ الله، والجنةَ خلقُه
قال الله تعالى:
{ورضوان من الله أكبر}
مدارج السالكين 2-208
أ.د صالح سندي