التاريخ المحسوس لحضارة الإسلام وعصور اوروبا المظلمة من قصة الحضارة لديورانت أ. طارق منينة

ميكافيلي وماذا أهمل عند كتابه التاريخ الثقافي بل وماذا أهملت أوروبا وقتذاك من تاريخ مادخل عليها من الإسلام والمسلمين!!
:"وكتب التاريخ فعلاً (1520-1525) وكاد يحدث في فن كتابة التاريخ ثورة لاتقل حدة عن الثورة التي أحدثها في الفلسفة السياسية كتاب الأمير. ولسنا ننكر في الكتاب عيوب أساسية خطيرة: ذلك أن السرعة التي صدر بها جعلته عديم الدقة، وأنه نقل فقرات كبيرة عن المؤرخين السابقين، وأن النزاع بين الأحزاب كان يلقى فيه من الاهتمام أكثر مما تلقاه الأنظمة، وأنه أغفل التاريخ الثقافي إغفالا تاماً، كما أغفله المؤرخون كلهم تقريباً قبل أيام فلتير. ولكنه كان أول تاريخ كبير كتب باللغة الإيطالية؛ وكانت لغته الإيطالية هذه واضحة، جزلة، خالية من التعقيد؛ وقد رفض الخرافات التي كانت فلورنس تجمل بها منشأها؛ وتخلى عن الطريقة المألوفة القديمة وهي تأريخ الحوادث سنة فسنة، وعمد بدلا منها إلى الرواية المنسجمة المتصلة المنطقية؛ ولم يكن يعالج الحوادث فحسب. بل كان يبحث في أسبابها ونتائجها، وأفاض على فوضى السياسة الفلورنسية تحليلا للمنازعات القائمة بين الأسر، والطبقات والمصالح يكشف عنها ووضحها. وقد جعل محور القصة موضوعين يوحدان بين أجزائها: أولهما أن البابوات قد أبقوا إيطاليا مشتتة منقسمة على نفسها لكي يحافظوا على استقلال البابوية في الشؤون الزمنية، وثانيهما أن ما حدث في إيطاليا من تقدم عظيم كان في عهد الأمراء أمثال ثيودريك، وكوزيمو، ولورندسو. ومما يدل على شجاعة المؤلف، وكرم البابا من الناحيتين العقلية والمالية أن يكتب كتاباً بهذه النزعة رجل يسعى للحصول على المال من البابا، وأن يرضى البابا كلمنت السابع بأن يهدى إليه الكتاب دون أن يشكو مما جاء فيه. وشغل تاريخ فلورنس مكفلي خمس سنين"
قصة الحضارة ج21 ص54-55، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> المؤلف والرجل
 
ميكافيلي -مع جوتشيارديني-في الصراع الداخلي لأوروبا وحروب داخل القارة حتى مات
:"بعث مكيفلي برسائل إلى البابا وإلى جوتشيارديني يوضح ما يستطاع عمله لصد الفتح الأسباني-الألماني الذي كان يتهدد إيطاليا؛ ولعل اقتراحه بأن يمد البابا جيوفني دلى باندى نيرى Giovanni della Bande Nere بالمال، والسلطان، والسلاح كان من شأنه أن يؤجل المصير المحتوم إلى حين. ولما مات جيوفني، وزحفت الجحافل الألمانية على فلورنس الحليفة الغنية لفرنسا والمجهزة لمن ينهبها، أسرع مكيفلي إلى المدينة، واستجاب إلى ما طلبه كلمنت فوضع تقريرا عن الطريقة التي يمكن بها إعادة أسوارها لجعلها صالحة للدفاع عنها.وفي الثامن عشر من مارس سنة 1526 اختارته الحكومة الميديتشية ليرأس لجنة من خمسة "أمناء على الأسوار". ليقوموا بهذه المهمة. غير أن الألمان مروا بفلورنس واتجهوا إلى روما. ولما نهبت هذه المدينة، وأسر الغوغاء كلمنت، طرد الحزب الجمهوري في فلورنس آل ميديتشي مرة أخرى من المدينة وأعادوا إليها الحكم الجمهوري. (16 مايو سينة 1527). وابتهج مكيفلي لهذا العمل وطالب بمنصبه القديم منصب أمين مجلس العشرة الحربي، وكان يرجو أن يعود إليه؛ لكنه لم يجب إلى طلبه (10 يونية سنة 1527)؛ ذلك أن صلابة آل ميديتشي قد أفقدته عطف الجمهوريين ومعونتهم.
ولم تطل حياته بعد هذه الصدمة؛ فقد خبث فيه جذوة الحياة والأمل وتركته جسداً بلا روح. وانتابه المرض، وكان يشكو من تقلصات شديدة في المعدة؛ واجتمع حول فراشه زوجته، وأبناؤه، وأصدقاؤه؛ واعترف أمام قسيس ومات ولما يمض على رفض طلبه غير اثني عشر يوماً، وخلف أسرته في الدرك الأسفل من الفاقة، وترك إيطاليا التي كان يعمل جاهداً لتوحيدها خراباً يبابا. ودفن في كنيسة الصليب المقدس، حيث أقيم له نصب جميل نقشت عليه هذه العبارة: "ليس في مقدور أي مديح أن يوفى هذا الاسم العظيم حقه" - وهو قول يشهد بأن إيطاليا التي توحدت آخر الأمر قد تجاوزت عن سيئاته وذكرت له أحلامه.
قصة الحضارة ج21 ص55-56، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> المؤلف والرجل
 
بذور العلمانية السياسية وميكافيلي أصل من أصولها الفكرية قبل أن تتحرر العلمانية الحديثة من بعضها!وماذا يمكن أن تكون الحالة الذهنية لميكافيلي في هذا الجو العنيف والإقتتال الداخلي في أوروبا، وكل يوم تنتزع مدينة وتقتل أمة من الناس وتنهار بلاد تحت وقع الحرب العنيفة؟
يقول ديورانت:":"وفلسفة مكيفلي تكاد تكون فلسفة سياسية خالصة، ليس فيها شيء من فلسفة ما بعد الطبيعة، ولا اللاهوت، ولا الإيمان أو الكفر، ولا بحث في الجبرية أو القدرية؛ وحتى الفلسفة الأخلاقية نفسها لا تلبث أن تنحني جانبا لأنها بوصفها فلسفة تابعة للسياسة، وتكاد تكون أداة لها. وهو يفهم السياسة على أنها الفن العالي الذي يراد به إيجاد دولة، أو الاستيلاء عليها، أو حمايتها، أو تقويتها؛ وهو يهتم بالدولة لا بالإنسانية عامة؛ ولا يرى في الأفراد إلا أنهم أعضاء في دولة، إلا إذا نظر إليهم من حيث أنهم يساعدون على تقرير مصيرها؛ وهو لا يعني قط باستعراض الأفراد على مسرح الزمان. وهو يريد أن يعرف لم تنشأ الدول وتسقط، وكيف يمكن تأخير اضمحلالها المحرم إلى أبعد ما يستطاع من الوقت.
وهو يرى أن فلسفة التاريخ وعلم الحكم أمكن وجودهما لأن الطبيعة البشرية لا تتبدل أبداً:
" يقول الحكماء، ولهم الحق فيما يقولون، إن من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع إلى الماضي؛ لأن الأحداث البشرية تشابه دائماً أبداً أحداث الأزمنة الماضية. ومنشأ هذا التشابه أنها ثمرة أعمال خلائق كانوا، ولا يزالون؛ وسيكونون على الدوام، تحركهم نفس العواطف والانفعالات، ولهذا فإن هذه العواطف والانفعالات لابد أن تكون النتائج نفسها(84)... وأنا أعتقد أن العالم كان هو يعينه على الدوام، وأنه كان يحتوي دائماً كل ما يحتويه الآن من خير وشر، وإن كان هذا الخير وذاك الشر يختلف توزيعهما بين الأمم باختلاف الأوقات"(85).
وظاهرتا نشأة الحضارات والدول واضمحلالها من أكثر الظواهر المتتابعة المنتظمة دلالة في التاريخ. وهنا يواجه مكيفلي مشكلة معقدة غاية في التعقيد بقانون بسيط غاية البساطة فيقول: "الشجاعة تنتج السلم؛ والسلم تنتج الراحة، والراحة تستتبع الفوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب. ومن الفوضى ينشأ النظام، والنظام يؤدي إلى الشجاعة (Virtu)، ومن هذه ينال المجد والحظ الحسن. ومن أجل هذا قال الحكماء إن عهد السمو الأدبي يأتي في أعقاب التفوق الحربي؛ وإن ... المحاربين العظام ينشئون قبل الفلاسفة"(86). وقد تكون هناك أسباب أخرى لنشأة الأمم واضمحلالها غير الأسباب العامة وهي عمل القادة والزعماء من الأفراد وتأثيرهم؛ من ذلك أن مطامع الحاكم المتطرفة، التي تعميه فلا يرى أن موارده لا تكفي لتحقيق أغراضه، قد تكون سبباً في خراب دولته إذ تجرها إلى الاشتباك في الحرب مع دولة أعظم منها قوة. وللحظ والمصادفات كذلك أثر في قيام الدول وسقوطها. "فالحظ هو الذي يتحكم في نصف أعمالنا، ولكنه يترك لنا مع ذلك القدرة على توجيه النصف الآخر"(87). وكلما كثر نصيب للإنسان من الشجاعة قل خضوعه لتقلبات الحظ واستسلامه له.
وتاريخ دولة ما يتبع قوانين عامة، يحددها ما تنطوي عليه طبيعة الناس من خبث وشر. والناس كلهم بطبيعتهم مقتنون، مخادعون، مخاصمون، قساة، فاسدون.
"ومن أراد أن ينشئ دولة، ويضع لها قوانين، فليفترض من بادئ الأمر أن الناس جميعاً أشرار، مستعدون على الدوام لأن يكشفوا عن خبث طويتهم إذا وجدوا الظروف الملائمة لهذا العمل؛ فإذا ما ظلت ميولهم الخبيثة مختفية إلى حين، فيجب أن يعزى اختفاؤها هذا إلى سبب غير معروف؛ ومن واجبنا أن نفترض أنها لم تجد الظروف الملائمة للكشف عن نفسها؛ ولكن الزمن... لن يعجزه الكشف عنها... والرغبة في الاقتناء من الغرائز الفطرية العامة في واقع الأمر، والناس جميعا يقتنون حين يستطيعون؛ ولهذا فإنهم يمدحون على ذلك ولا يلامون عليه"(88).
وإذا كان الأمر كذلك فإن الطريقة الوحيدة لجعل الناس أخياراً - أي قادرين على أن يعيشوا بنظام في مجتمع - هي أن يطبق عليهم القسر، والخداع، والاعتياد واحداً بعد واحد. ومن هذا تنشأ الدولة: تنظيم القوة على يد الجيش والشرطة، ووضع القواعد والقوانين، وتكوين العادات تدريجياً للاحتفاظ بالزعامة والنظام في الجماعة البشرية. وكلما كانت الدولة أكثر نماء. قلت الحاجة إلى استخدام القوة أو ظهورها فيها؛ واكتفى بدلا منها بالتعليم وغرس العادات، لأن الناس يكونون في يدي المشرع أو الحاكم القدير أشبه بالصلصال اللين في يدي المثال.
والين خير وسيلة لتعويد الناس الذين فطروا على الشر الخضوع إلى القانون والنظام. ويكتب مكيفلي الذي يسميه باولو جيوفيو Paolo Giovio أحد المعجبين به الكافر الهجاء(89)، عن الدين حماسة بالغة يقول:
"لم تر الآلهة أن الشرائع التي وضعها رميولوس كافية لروما، وإن كان هذا الأمير هو الذي أنشأها...، ولهذا أوحت إلى مجلس الشيوخ الروماني أن يختار نوما بمبليوس Numa Pompilius خليفة له... ووجد نوفا شعباً متوحشاً أشد التوحش، أراد أن يغرس فيه عن طريق فنون السلم عادة الطاعة المدنية، فلجأ إلى الدين الذي رآه أقوى مؤيد للمجتمع المدني وألزمه، فأقامه على أسس بلغ من قوتها أن مضت قرون طوال دون أن يوجد في مكان ما خوف من الآلهة أكبر مما كان في هذه الجمهورية. وقد يسر هذا تيسيراً كبيراً جميع المشروعات التي حاول القيام بها مجلس الشيوخ أو كبار اعضائه... وقد أدعى نوما أنه تحدث إل إحدى الحور، وأنها أملت عليه كل ما يريد أن يقنع به الناس... والحق أنه لم يوجد قط مشرع عظيم... لم يلجأ إلى القوة الإلهية، وإلا لما أطاع الناس شرائعه؛ لأن ثمة شرائع صالحة كثيرة يدرك المشترع الحكيم أهميتها، ولكن أسباب وضعها لا تتضح للناس وضوحاً يكفي لأن يمكنه من إقناع غيره من الناس بإطاعتها؛ وهذا هو السبب الذي يجعل العقلاء من الناس يلجئون إلى السلطة الإلهية ليتغلبوا على هذه الصعوبة(90)... واتباع الأنظمة الدينية هو سبب عظمة الجمهوريات؛ وإهمال هذه النظم يؤدي إلى خراب الدول؛ ذلك أنه إذا انعدم من بلد ما خوف الله، قضي على هذا البلد لا محالة؛ إلا إذا دعمه خوف الأمير وهو خوف يمكن أن يعوض فترة من الزمن ما ينقص هذا البلد من خشية الله. لكن حياة الأمراء قصيرة...(91).
"وإذا أراد الأمراء أن يبقوا على أنفسهم... وجب عليهم قبل كل شيء أن يحافظوا على نقاء الشعائر الدينية، وأن ينظروا إليها بالاحترام اللائق بها؛ وهذا بعينه يصدق على الجمهوريات، فهي لا بقاء لها إلا إذا حافظت على هذا النقاء ووجهت إلى تلك الشعائر هذا الاحترام نفسه(92)... واكثر من يستحق الثناء ممن نالوا هذا الثناء هم الذين أنشئوا الأديان وأقاموها. ويليهم في هذا الذين أقاموا الجمهوريات أو الممالك. وأعظم الناس بعد هؤلاء وأولئك هم الذين قادوا الجيوش ووسعوا أملاك بلادهم. وقد نضيف إليهم رجال الأدب... وعكس هذا أيضاً صحيح. فالذين يهدمون صرح الدين، ويقضون على الجمهوريات والممالك والذين هم أعداء الفضيلة والآداب، أولئك يجللهم العار. وتصب عليهم اللعنات من الناس أجمعين"(93).
وبعد أن ارتضى مكيفلي الدين بوجه عام انتقل إلى الدين المسيحي فأخذ يوجه إليه أشد النقد لأنه عجز عن إيجاد مواطنين طيبين. ذلك ان حول أكثر ما يجب تحويله من العناية إلى السماء، وأضعف الناس بأن أخذ يدعوهم إلى الفضائل النسوية وفي ذلك يقول:
"إن الدين المسيحي يدعونا إلى الاستخفاف بحب الدنيا، ويجعلنا أكثر رقة وليناً. أما القدماء فكانوا عكس هذا، كانوا يجدون أعظم أسباب بهجتهم في هذا العالم... ولم يكن دينهم يقدس إلا الذين يتوج هاماتهم مجد هذا العالم الأرضي، كقواد الجيوش، ومؤسسي الجمهوريات؛ على حين أن ديننا نحن قد مجد الوادعين الذين يقضون زمانهم في التأمل والتفكير بدل أن يمجد رجال العمل. وقد جعل هذا الدين أعلى درجات الخير الذلة، وضعف العزيمة، واحتقار الأمور الدنيوية؛ أما الدين القديم فكان يجعل أعلى درجات الخير عظم العقل، وقوة الجسم، وكل ما يبعث في الناس الإقدام والجرأة... ومن أجل هذا خر العالم صريعاً أمام الأشرار، فقد وجد هؤلاء الناس أكثر استعداداً للخضوع إلى الضربات طمعاً منهم في دخول الجنة بدل أن بردوا عليها بمثلها(94)...
"ولو أن الدين المسيحي قد احتفظ به حسب القواعد التي وضعها له مؤسسه، لكانت الدول والبلاد المسيحية أقوى اتحاداً وأكثر سعادة مما هي الآن. وهل ثمة أدل على ضعفها وانحلالها من أن أقرب الشعوب إلى الكنيسة الرومانية، وهي رأس هذا الدين، أقلها تديناً؛ ومن يبحث المبادئ التي يقوم عليها هذا الدين وير البون الشاسع بين هذه المبادئ وبين أساليبها الحاضرة وشعائرها، يحكم من فوره أن انهيار هذا الدين أو مصيره المحتوم آت غير بعيد(95)... ولعل الدين المسيحي كان يقضي عليه قضاء لا مرد له بسبب ما فيه من فساد لو لم يرد إليه القديسان فرانسس ودمنيك مبادئه الأصيلة... وإذا شئنا أن نضمن للطوائف أو الجمهوريات الدينية حياة أطول وأبقى، وجب أن نرجع بها مراراً وتكراراً إلى مبادئها الأولى الأصيلة(96)".
ولسنا نعرف هل كتبت هذه الألفاظ قبل أن تصل إلى ايطاليا أنباء الإصلاح الديني أو بعد وصولها إليها.
ويختلف خروج مكيفلي على المسيحية عن خروج فلتير، وديدرو، و بين Paine، ودارون، واسبنسر، ورينان عليها. ذلك أن هؤلاء الرجال كانوا يرفضون لاهوت المسيحية، ولكنهم يحتفظون بالقانون المسيحي الأخلاقي ويعجبون به. وظلت هذه الحال قائمة إلى أيام نتشة ولطفت "حدة النزاع القائم بين الدين والعلم". أما مكيفلي فلا يشغل باله بالعقائد الدينية وبعدها عن المعقول؛ فهو يرى هذا البعد أمراً طبيعياً ويأخذه على أنه قضية مسلم بها، ولكنه يقبل اللاهوت المسيحي قبولا حسناً بحجة أن نظاماً ما من المعتقدات التي فوق الطبيعة هو دعامة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. أما الذي يرفضه من المسيحية رفضاً باتاً فهو مبادئها الأخلاقية، وما تراه من أن الصلاح والخير هما الرقة، والذلة، والاستسلام وعدم المقاومة، وحبها للسلم، وتنديدها بالحرب؛ وافتراضها أن الدول والأفراد مرتبطون بقانون أخلاقي واحد. وهو يفضل عن هذه المبادئ القانون الأخلاقي الروماني، القائم على المبدأ القائل إن سلامة الشعب أو الدولة هي القانون الاعلى: "وحيث يكون الأمر أمر مصلحة بلادنا وخيرها، وجب علينا ألا نقبل البحث في العدل أو الظلم والرحمة أو القسوة، وما هو خليق بالثناء أو الازدراء؛ بل يجب أن نسلك كل سبيل ينقذ حياة الأمة وحريتها وننحى كل ماعدا هذا جانباً"(97). ذلك أن الأخلاق بوجه عام إن هي إلا قانون للسلوك وضع لأفراد المجتمع أو الدولة لحفظ النظام الجماعي، والوحدة، والقوة؛ وإن حكومة تلك الدولة لتعجز عن أداء واجبها، إذا كانت وهي تدافع عن الدولة، تسمح بأن تقيد نفسها بالقانون الأخلاقي الذي يجب عليها أن تغرسه في نفوس شعبها. ومن ثم فإن الدبلوماسي غير مقيد بالقانون الأخلاقي الذي يتقيد به شعبه. "فإذا ما أدانه عمل قام به وجب أن تغفر له نتيجة هذا العمل ذنبه"(98)؛ ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة. "وما من رجل صالح يلوم رجلا غيره يحاول أن يدافع عن بلاده، أيا كانت السبل التي يسلكها لهذا الدفاع"(99). فضروب الغش، والقسوة، والجرائم التي يرتكبها الرجل في سبيل الاحتفاظ بدولته، كلها "غش شريف" و "جرائم مجيدة"(100). ومن ثم فإن رميولوس كان على حق حين قتل أخاه، لأن الحكومة الناشئة كانت تتطلب الوحدة، وإلا مزقت إرباً(101). وليس ثمة "قانون طبيعي" أو "حق" متفق عليه من الناس جميعاً؛ والسياسة إذا قصد بها فن الحكم يجب أن تكون مستقلة عن الأخلاق استقلالا تاماً.
وإذا ما طبقنا هذه المبادئ على قانون الحرب الأخلاقي، فإن مكيفلي واثق كل الثقة من أنها تجعل نزعة السلام المسيحية سخفاً وخيانة. ذلك أن الحرب تناقض وصايا موسى كلها تقريباً؛ فهل تجيز القسم، والكذب، والسرقة، والقتل، وارتكاب الزنا آلاف المرات، ولكنها إذا ما حافظت على المجتمع أو كانت سبباً في تقويته فهي خير. وإذا ما وقفت الدولة عن التوسع أخذت بالاضمحلال، وإذا فقدت الرغبة في الحرب قفل عليها السلام. والسلم إذا طال فوق ما يجب يؤدي إلى الضعف والتفكك، ولذلك كانت حرب تدور بين الفينة والفينة مقوية للقومية، تعيد للأمة النظام، والشدة، والوحدة. ولهذا فإن الرومان في عهد الجمهورية كانوا دائماً مستعدين للحرب، فإذا رأوا أنهم مقبلون على نزاع مع دولة أخرى، لم يفعلوا شيئاً يجنبهم الحرب؛ بل أرسلوا جيشاً ليهاجم فيليب في مقدونية وأنطونوخيوس الثالث في بلاد اليونان ولم ينظروا حتى يأتي هذان المليكان بشرور الحرب إلى أرض إيطاليا(102). ولم يكن الروماني يرى أن الفضيلة هي الذلة، أو الرقة، أو السلام، بل كان يرى أنها هي القوة، والرجولة، والبسالة، مضافة إلى النشاط والذكاء. وهذا ما يعنيه مكيفلي بلفظ Vlrtu.
ثم ينتقل مكيفلي من هذه النظرة نظرة الحاكم المتحرر من القيود الأخلاقية ليواجه ما كان يبدو له أنه هو المشكلة الأساسية في أيامه: وهي أن يحصل لإيطاليا على الوحدة والقوة اللتين لا غنى عنهما لنيل حريتها الجماعية. وهو يرى بعين المقت ما يسود بلاده من انقسام، واضطراب، وفساد، وضعف؛ وهنا نرى ما كان في أيام بترارك جدّ نادر- نرى رجلا لا يؤدي تفانيه في حب قطره إلى أي نقص في حب مدينته. فإذا ما بحث عن الذي تقع عليه تبعة بقاء إيطاليا مقطعة الأوصال، ضعيفة بسبب ذلك أمام العدو، قال:
لا تستطيع أمة من الأمم أن تكون متحدة وسعيدة إلا إذا كانت تطبع حكومة واحدة سواء كانت جمهورية أو ملكية، كما هي الحال في فرنسا وأسبانيا؛ والسبب الوحيد الذي يمنع إيطاليا من أن تكون هذه حالها هو الكنيسة. ذلك أنها وقد حصلت لنفسها على سلطان زمني واحتفظت بهذا السلطان، لم تؤت في يوم من الأيام من القوة أو الشجاعة ما يكفي لان يجعلها قادرة على الاستيلاء على بقية البلاد وفرض سيادتها الوحيدة على إيطاليا بأجمعها(103).
وهنا تبدو لنا فكرة جديدة: تلك هي أن مكيفلي لا يهاجم الكنيسة لأنها تدافع عن سلطتها الزمنية، بل يهاجمها لأنها لم تستخدم جميع مواردها لإخضاع إيطاليا كلها لحكمها السياسي. ومن أجل هذا أعجب مكيفلي بسيزارى بورجيا في إمولا وسنجاليا لأنه ظن أنه وجد في هذا الشاب القاسي فكرة إيطاليا المتحدة وأملها ؛ وكان على استعداد لأن يبرر أية وسيلة يستخدمها آل بورجيا ليحققوا بها ذلك الهدف الأسمى النبيل. ولربما كان خروجه على سيزارى بورجيا، حين خرج عليه في روما عام 1503، بسبب غضبه من أن معبوده هذا قد سمح بأن تقضى كأس من السم (كما كان مكيفلي يظن) على هذا الحلم اللذيذ. وكان قد مضى على إيطاليا قرنان من الزمان وهي مقسمة مشتتة، سببا لها من الضعف والانحلال الاجتماعي ما لم يكن لينجيها منهما (في رأي ميكيفلي) إلا أشد الوسائل عنفاً. فلقد عم الفساد الحكومات والشعب ، وحلت الرذائل الشهوانية محل الروح الحربية والمهارة العسكرية؛ وعهد المواطنون إلى غيرهم- كما عهد إليهم أيام احتضار روما القديمة- عهدوا إلى الجيوش المرتزقة كما عهدوا أولئك إلى البرابرة- أن يدافعوا عن مدنهم وأرضهم؛ وماذا يهم تلك العصابات المأجورة أو يهم زعماءها من وحدة إيطاليا؟ إنهم يعيشون ويتخمون بسبب انقسامها. لقد اتفقوا فيما بينهم على أن يتخذوا الحرب لعبة لا تقل لهم أمنا عن السياسة؛ فجنودهم لا يقبلون بحال من الأحوال أن يعرضوا أنفسهم للقتل، وإذا ما التقوا بالجيوش الأجنبية ولوا الأدبار، وأنزلوا إيطاليا منزلة الاسترقاق والاحتقار"(105).
وإذن فمنذا الذي يوحد إيطاليا؟ وكيف السبيل إلى هذه الوحدة؟ ليست السبيل إليها هي الإقناع بالوسائل الديمقراطية؛ ذلك أن الرجال متطرفون في نزعتهم الانفرادية، وفي حزبيتهم، وفسادهم، مما يحول بينهم وبين قبول الوحدة قبولا سليماً، ومثلهم في ذلك مثل المدن نفسها؛ ولهذا فإن هذه الوحدة لابد أن تفرض عليهم بجميع وسائل السياسة والحرب؛ ولا يستطيع أحد أن يفعل هذا غير الطاغية القاسي الذي خلا قلبه من الرحمة؛ والذي لا يسمح لضميره بأن يجعل منه إنساناً جباناً، بل يضرب بيد من حديد، ويجعل هدفه العظيم يبرر كل ما يلجأ إليه من الوسائل.
ولسنا واثقين من أن هذا هو المزاج الذي ألف به كتاب الأمير. وشاهد ذلك أن مكيفلي كتب إلى صديق له في عام 1513 أي في العام الذي يبدو أنه شرع يكتب فيه هذا الكتاب يقول: "إن فكرة الوحدة الإيطالية فكرة مضحكة. ذلك أنه حتى لو استطاع رؤساء الدولة الإيطالية أن يتفقوا، فإن ليس لدينا من الجنود من لهم شيء من القيمة غير الجنود الأسبان. يضاف إلى هذا أن الشعب لا يمكن أن يتفق في يوم من الأيام مع الزعماء(106). لكن حدث في ذلك العام نفسه عام 1513 أن جلس ليو العاشر على كرسي البابوية، واتحدت فلورنس وروما تحت سلطان آل ميديتشي بعد أن ظلتا عدوتين زمناً طويلاً، ولما أن بدل مكيفلي صيغة إهداء كتابه فجعلها للورندسو، دوق أربينو، كانت هذه الدولة أيضاً قد سقطت في يد آل ميديتشي، ولم يكن الدوق الجديد قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في عام 1516، وكان قد أظهر غير قليل من الطموح والبسالة؛ وكان من حق مكيفلي أن نسامحه إذا نظر إلى هذا الشاب المتهور على أنه هو الذي يستطيع بهداية ليو ودبلوماسيته (واتباع تعاليم مكيفلي) أن يحقق ما بدأه سيزارى بورجيا بإرشاد ألكسندر السادس- أي أن يقود الدول الإيطالية، أو في القليل الدول الواقعة منها شمال نابلي مع استبعاد دولة البندقية المتكبرة، بعد ضمها في اتحاد له من القوة ما يفل عزيمة الغزاة الأجانب. ولدينا من الشواهد ما يدل على أن هذا كان أمل ليو أيضاً. وإن إهداء كتاب الأمير لآل ميديتشي ليدل على أن المؤلف كان يظن مخلصاً أن هذه الأسرة هي التي يمكن أن تحقق وحدة إيطاليا. وإن كان الغرض الأول من هذا الإهداء في أغلب الظن هو أن يكون وسيلة لإيجاد منصب بها يشغله مؤلفه.
وكان شكل كتاب الأمير هو الشكل التقليدي المألوف: فقد أفرغ في القالب الذي أفرغت فيه مائة من الرسائل في العصور الوسطى خاصة بحكم الأمراء، وسار على الطريقة التي اتبعت في هذه الرسائل. أما في محتوياته فقد كان ثورة لا شك فيها. فلم توجه في الكتاب دعوة مثالية إلى أمير من الأمراء ليكون قديساً، ولم يطلب إليه أن يطبق ما جاء في موعظة الجبل على مشاكل العروش. بل نراه على عكس ذلك يقول:
"لما كنت أقصد أن أكتب شيئاً يفيد من يفهمه، فإنه يبدو لي أن أتبع حقيقة الأمور الصحيحة من أن أجري وراء الخيال. لقد صور كثيرون جمهوريات وإمارات لم تعرف أو تر في يوم من الأيام، لأن البعد شاسع
بين الطريقة التي يعيش بها الإنسان والطريقة التي يجب أن يعيش بها، ومن أجل ذلك فإن من يهمل ما يفعل في سبيل ما يجب أن يفعل يجر على نفسه الخراب بأسرع ما يحتفظ لنفسه بالبقاء؛ وإن الرجل الذي يريد أن يعمل حسب ما يجهر بأنه هو الفضيلة لا يلبث أن يلقى الوبال بين ما يحبط به من السرور من كل جانب. ومن ثم كان لا بد للأمير الذي يريد أن يحتفظ بمركزه أن يعرف كيف يرتكب الخطأ وأن يفيد منه أو لا يفيد حسبما تدعو إليه الحاجة(107).
ولهذا فإن من واجب الأمير أن يفرق في قوة وحزم بين المبادئ الأخلاقية ومطالب الحكم، أي بين ضميره الخاص والصالح العام؛ وأن يكون مستعداً لأن يعمل من أجل الدولة ما يسمى شراً في علاقة الأفراد بعضهم ببعض. ويجب عليه أن يزدري أساليب التردد والضعف التي لا تبلغ الإنسان الغرض كاملا؛ والأعداء الذين لا يستطاع كسب صداقتهم يجب القضاء عليهم؛ ومن وغاجب الأمير أن يقتل من ينازعونه عرشه. ولابد له أن ينشئ جيشاً قوياً لأن الحاكم لا يستطيع أن يتحدث بصوت أعلى من صوت مدافعه. ومن واجبه أن يحافظ دائماً على صحة جنوده، وحسن نظامهم، وعدتهم، وأن يعد نفسه للحرب بأن يعرض نفسه في كثير من الأحيان لصعاب الصيد وأخطاره. وعليه في الوقت نفسه أن يدرس فنون الدبلوماسية؛ لأنه يستطيع أن يحصل بالمكر والخداع في بعض الأحيان اكثر مما يستطيع أن يحصل عليه بالقوة وقد لا يكلفانه مالا تكلفه. ويجب عليه ألا يتمسك بالمعاهدات إذا أصبحت تجلب الضرر للأمة؛ "والسيد العاقل لا يستطيع ولا يجب عليه ن يحافظ على العهد إذا كان في وسع أعدائه أن يتخذوا محافظته هذه سلاحا لإيذائه، وإذا ما زالت الأسباب التي جعلته يقطع هذا العهد على نفسه"(108).
و لا غنى للأمير عن قسط من تأييد الشعب. ولكن إذا كان لابد للحاكم أن يختار بين أن يخافه الشعب دون أن يحبه، وبين أن يحبه دون أن يخافه وجب عليه أن يضحي بالحب(109). لكن حكم الجماهير بالرأفة والرقة أسهل من حكمها بالغطرسة والقسوة(110)... وشاهد ذلك أن الأباطرة تيتوس، ونيرفا، وتراجان، وهدربان، وانطونينوس، وماركس أورليوس لم يحتاجوا إلى الحرس البريتوري ولا إلى الفيالق الحربية لحمايتهم، لأنهم كانوا يحتمون بسلوكهم الطيب، وبإخلاص شعبهم وبحب مجلس الشيوخ لهم(111). ومن الوسائل التي يحصل بها الأمير على تأييد الشعب أن يناصر الفنون والعلوم، وأن يهيئ له الحفلات والألعاب العامة. ويكرم أهل الحرف بشرط أن يحتفظ على الدوام بجلال مركزه(112). ويجب عليه إلا يهب الناس الحرية، ولكن من واجبه أن يمنعهم قدر المستطاع بمظاهر الحرية. وعليه أن يعامل المدن التابعة له- كمدينتي أرتسو وبيزا التابعتين للبندقية، بالشدة والعنف، بل وبالقسوة في بادئ الأمر فإذا ما استقرت له الأمور وأطاعه أهل هذه المدن، أمكنه أن يجعل خضوعهم له أمراً عادياً مألوفاً بأساليب اللطف والمجاملة لأن القسوة إذا طالت وعمت أهل المدن الخاضعة كانت بمثابة انتحار من يلجأ إليها(113).
وعلى الحاكم أن ينشر الدين وأن يظهر هو نفسه بمظهر الرجل المتدين أيا كانت عقائده الخاصة(114). والحق أن تظاهر الأمير بالفضيلة أهم وأفيد له من أن يكون فاضلا بحق:
"إن تظاهر الأمير بالفضائل كلها نافع له وإن لم يكن من الضروري أن يتصف بها؛ فعليه مثلا أن يتظاهر بأنه رحيم، وفيّ، شفيق، متدين، مخلص؛ ومما يفيده أيضاً أن يتصف بهذه الصفات، على أن يكون ذا عقل مرن يمكِّنه إذا دعت الحاجة من أن يتصف بعكسها... وعليه أن يحذر من أن ينطق بكلمة لا تنطبق عليها الصفات الخمس السالفة الذكر؛ ويجب أن يبدو لمن يرونه ويستمعون له كأنه الرحمة، والإيمان، والتدين، والاستقامة مجسمة، وعلى الإنسان أن يلوِّن سلوكه، وأن يكون مراثياً لأن الناس سذج مهنمكون في حياتهم الحاضرة، إلى حد يسهل معه خداعهم... وفي مقدور كل إنسان أن يرى مظهرك، ولكن قل من الناس من يعرف حقيقة مخبرك، وأولئك النفر القلائل لا يجرئون على مخالفة رأي الكثرة فيك(115).
ويضرب مكيفلي لهذه الحكم أمثلة واقعية، فيذكر نجاح الإسكندر السادس، ويرى أن هذا النجاح يرجع كله إلى كذبه المدهش الذي يستثير الإعجاب؛ ويعجب بفرديناند الكاثوليكي ملك أسبانيا، لأنه كان يتظاهر دائماً بمظهر المدافع عن الدين في مغامراته الحربية، ويمتدح الوسائل التي ارتقى بها فرانتشيسكو اسفوردسا عرش ميلان وهي الشجاعة الحربية والمهارة في الأساليب العسكرية منضمة إلى الدهاء الدبلوماسي، ولكن أعظم مثل يضربه، وهو مثل يكاد يبلغ في اعتقاده حد الكمال، هو سيزارى بورجيا:
"إذا استعدنا في ذاكرتنا جميع أعمال هذا الدوق فإني لا أعرف عملا منها يستحق عليه اللوم، بل إنه ليبدو لي إني أضعه أمام الناس لكي يقلده كل من يقبضون بأيديهم... على أزمة الحكم... لقد كانوا يحسبونه قاسياً؛ ولكن قسوته هي التي أزالت الخلاف من رومانيا كلها، وضمت شتاتها، وأعادت إليها السلم والولاء... ولقد أوتي روحاً عالية، وآمالا كباراً، لم يكن يستطيع بغيرها أن ينظم مسلكه؛ ولم يحل بينه وبين تحقيق أغراضه إلا قصر حياة الإسكندر، ومرضه هو. ولهذا فإن من شاء أن يضمن لنفسه الأمان في إمارته الجديدة، ويكسب الأصدقاء، ويغلب الأعداء بالقوة أو الختل، ويبعث في قلوب الناس حبه والخوف منه في آن واحد، وأن يؤيده الجند ويجلوه، ويبيد من أوتوا قوة يستطيعون بها أن يؤذوه؛ أو كانت لديهم أسباب تدعوهم إلى هذا الإيذاء، ويستبدل بنظام الأشياء القديم نظاماً جديداً؛ وأن يكون قاسياً وكريماً، نبيلا وحراً، ويحطم قوة الجند غير الموالين له وينشئ بدلهم جيشاً جديداً، ويحتفظ بصداقة الملوك والأمراء بحيث يرون أن من واجبهم أن يخفوا لمعرفته متحمسين، فإذا فكروا في أذاه كانوا حذرين- من شاء هذا فإنه لن يجد مثلا أروع من أعمال هذا الرجل".
وكان مكيفلي يعجب ببورجيا لأنه كان يشعر بأن أساليبه وأخلاقه تمهد السبيل إلى توحيد إيطاليا، وأنها لم تحل بينها وبين بلوغ تلك الغاية إلا ما صحبها من مرض البابا وولده.
وهو يتوسل في ختام كتابه الأمير إلى لورندسو الدوق الشاب، ويتوسل عن طريقه إلى ليو وآل ميديتشي، أن يعملوا على توحيد شبه الجزيرة. وهو يصف أهل بلاده بأنهم مستعبدون، أكثر من العبرانيين، وأنهم يعانون من الظلم أكثر مما يعانيه الفرس، وأنهم مشتتون أكثر من الأثينيين، وأنهم قوم لا رئيس لهم، ولا نظام، مهزومون، منتهبون مغتصبون، ممزقون، تجتاح بلادهم الجيوش الأجنبية". "لقد أصبحت إيطاليا وكأنها مسلوبة الحياة، تنتظر من يقبل عليها ليأسوا جراحها... وتدعو اللّه أن يقيض لها من ينجيها من هذه المظالم وهذه المخازي التي يوقعها عليها الأجانب"(117). إن الموقف جد خطير؛ ولكن الفرصة مواتية. "ذلك أن إيطاليا متأهبة، راغبة في أن تسير وراء العَلَم، إذا ما رفعه إنسان ما" ومن أحق برفعه من آل ميديتشي، أشهر الأسر كلها في إيطاليا، والتي تتزعم الكنيسة في هذه الأيام؟
"ومنذا الذي يستطيع أن يعبر عن الحب الذي سوف يفيض به قلب إيطاليا وهي ترحب بمحررها؛ أو عن تعطشها للانتقام من أعدائها، أو عن إيمانها القوي، وإخلاصها، ودموعها؟ وأي باب يمكن أن يغلق في وجهه؟ ومنذا الذي يضن عليه بالطاعة؟ إن هذا السلطان الأجنبي الهمجي الذي نرزح تحته لتزكم رائحته الكريهة أنوفنا. فليتول إذن بيتكم المجيد هذه المهمة، وليستعن على القيام بها بالبسالة والأمل، اللذين يتذرع بهما كل من يقوم بمغامرة عادلة، حتى تسمو تحت علم هذا البيت مكانة بلادنا، وتحقق بفضل رعايتها تلك الكلمات التي كتبها بترارك:
"إن ذوي الرجولة يمتشقون الحسام ليقاتلوا ذوي الجنة، وستكون المعركة جد قصيرة، لأن البسالة القديمة لم ينضب بعد معينها في عروق إيطاليا".
قصة الحضارة ج21 ص65،71، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> الفيلسوف
 
هيجل يحكم على ميكافيلي من خلال(الظروف المحيطة به وقتئذ )
ونحن نحكم عليه وعلى الفكر العلماني كذلك
النص في المنشور التالي






 
هيجل يحكم (2)على ميكافيلي من خلال(الظروف المحيطة به وقتئذ )
:"ويكاد الفلاسفة يجمعون على التنديد بكتاب الأمير كما يكاد الحكام يجمعون على العمل بما فيه من حكم. وبدأ غداة نشره (1532) ظهور ألف كتاب تعارضه. لكن شارل الخامس درسه بعناية، وجاءت به كترين ده ميديتشي إلى فرنسا، وكان مع هنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا وقت وفاتهما، وكان ريشليو يعجب به، ووليم أورنج يضعه تحت وسادته كأنه يريد أن يستظهره بطريق النضج(118). وكتب فردريك الأكبر ملك روسيا كتابه ضد مكيفلي ليجعله تمهيدا لكتاب يتجاوز فيه ما ورد في كتاب الأمير. ولم يكن معظم الحكام يرون بطبيعة الحال أن هذه التعاليم وحي جديد، إلا إذا فهمنا لفظ الوحي أنها تكشف في غير حكمة، أو حذر أسرار طائفتهم. أما الحالمون الذين حاولوا أن يجعلوا من مكيفلي ثائراً كاليعقوبيين فقد خيل أنه لم يكتب الأمير ليعبر عن فلسفته، بل كتبه من قبيل السخرية، ليكشف للناس عن أساليب الحكام وحيلهم؛ بيد أن كتاب العظات ينطق بهذه الآراء نفسها ويبسط القول فيها؛ وقد جرؤ فرانسس بيكن فكتب هذه العبارة يصفح بها عن مكيفلي: "إنا لنشكر لمكيفلي وأمثاله من الكتاب الذين أظهروا لنا صراحة وفي غير خداع ما اعتاد الناس أن يفعلوه، لا ما يجب أن يفعلوه"(119). وأما حكم هيجل Hegal فكان دلالة على الذكاء والكرم:
كثيراً ما أخرج كتاب الأمير في رعب لأنه يحتوي حكماً وأمثالاُ تدعو إلى أشد أنواع الاستبداد وأدعاها إلى الاشمئزاز؛ ولكن الحقيقة أن شعور مكيفلي القوي بضرورة قيام دولة موحدة هو الذي دعاه إلى وضع المبادئ التي لا يمكن أن تقوم دول في الظروف المحيطة به وقتئذ إلا على أساسها. فقد كان لابد من القضاء على الأمراء والإمارات القائمة وقتئذ؛ وإنا وإن كان رأينا في ماهية الحرية لا يتفق مع الوسائل التي يشير بها... والتي تشمل أشد أنواع العنف وأكثرها تطرفاً، وجميع صنوف الخداع، والاغتيال، وما إليها- فلا يسعنا إلا أن نقر أن الطغاة الذين لابد من قهرهم لم يكونوا ليغلبوا بغير هذه الوسائل(120).
كذلك صور مكولى Macaualy في مقال له ذائع الصيت فلسفة مكيفلي على أنها انعكاس طبيعي لإيطاليا المتوقدة الذكاء الفاسدة الأخلاق التي عودها حكامها المستبدون من زمن بعيد مبادئ كتاب الأمير.
ويمثل مكيفلي آخر صورة من تحدي الوثنية المنتعشة التي عادت إلى الحياة للمسيحية المستضعفة. والدين في فلسفته يصبح مرة أخرى ، كما كان في روما القديمة، خادماً ذليلاً للدولة
قصة الحضارة ج21 ص71-72، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> تأملات)
 
العلمانية خليط بين ماأُفرز قديما من فكر(تحت الظروف) وعلمانية حديثة وانعكاس تام للتحولات الواعية ، والنوعية.
وحكم ديورانت على فلسفة ميكافيلي بينما تراه يحكي ظروف أوربا في كلمات مركزة)
لنتقرأ نص عن نص ميكافيلي
:"كذلك صور مكولى Macaualy في مقال له ذائع الصيت فلسفة مكيفلي على أنها انعكاس طبيعي لإيطاليا المتوقدة الذكاء الفاسدة الأخلاق التي عودها حكامها المستبدون من زمن بعيد مبادئ كتاب الأمير.
ويمثل مكيفلي آخر صورة من تحدي الوثنية المنتعشة التي عادت إلى الحياة للمسيحية المستضعفة. والدين في فلسفته يصبح مرة أخرى ، كما كان في روما القديمة، خادماً ذليلاً للدولة حلت في واقع الأمر محل الله. فالفضائل التي يعظمها مكيفلي هي الفضائل الرومانية الوثنية دون غيرها- الشجاعة، والصبر، والاعتماد على النفس، والذكاء، والخلود الوحيد شهرة زائلة لاغير؛ ولعل مكيفلي قد بالغ فيما للمسيحية من أثر مضعف موهن، فهل يا ترى نسي مكيفلي الحروب العوان التي شبت نارها في العصور لوسطى، حروب قسطنطين، وبلساريوس، وشارلمان، وفرسان المعبد، والفرسان التيوتون؛ وحروب يوليوس الثاني التي لم يمض عليها وقت طويل؟ إن المبادئ الأخلاقية المسيحية لم تؤكد الفضائل النسوية إلا لأن الرجال كانوا يتصفون بالصفات المضادة لها، وكانت فيهم قوية لدرجة تؤدي إلى الخراب والدمار؛ فكان لابد من وجود رياق شاف لهذا الداء، ومثل أعلى مضاد له يوعظ به الرومان القساة في المجتلد، والبرابرة الغلاظ الذين اجتاحوا إيطاليا، والشعوب الخارجة على القانون التي تحاول الهبوط إلى بلاد الحضارة. إن الفضائل التي يزدريها مكيفلي تعمل لبناء المجتمعات المنظمة السلمية، أما الفضائل التي يعجب بها (لأنها تنقصه كما تنقص نتشه)، فتعمل لقيام دول قوية ذات نزعة حربية، وحكام طغاة في مقدورهم أن يقتلوا الناس بالآلاف ليرغموهم على التضامن والائتلاف، وعلى إراقة الدماء أنهاراً لتوسيع رقعة البلاد التي يحكمونها. لكنه خلط بين خير الحاكم وخير الأمة، وأفرط في التفكير في الاحتفاظ بالسلطة، وقلما فكر فيما على صاحبها من واجبات، ولم يفكر مطلقاً فيما تؤدي إليه من فساد. وتجاهل ما بين دول المدن الإيطالية من تنافس منعش، وخصب ثقافي، وقلما كان يعنى بما في ذلك الوقت من فن رائع، بل إنه لم يعن بفن روما القديمة نفسه، ذلك بأنه ضل في عبادة الدولة ضلالا مبيناً. نعم أن أعان على تحرير الدولة من الكنيسة، ولكنه أسهم في إقامة نوع من القومية العارمة ودعا الناس إلى عبادتها، ولم تكن هذه القومية أرقى رقياً واضحاً من الفكرة السائدة في العصور الوسطى عن وجود دول خاضعة لمبادئ أخلاقية دولية يمثلها البابا. لقد تحطم كل مثل أعلى بسبب ما طبع الناس من أنانية، ومن الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى المبدأ القائل بأن الإنسان غير ملزم بالمحافظة على عهده مع الزنديق والجري على هذه السنة نفسها (كما حدث حين نكث عهد الأمان مع هوس Auss في كنستانس ومع ألفنسو دوق فيرارا في روما) نقول إن من الواجب على كل مسيحي صريح أن يقر بأن الكنيسة وهي تدعو إلى هذا إنما كانت تعمل بمبادئ مكيفلي عملا يحطم رسالتها بوصفها قوة أخلاقية.
ومع هذا فإن في صراحة مكيفلي قوة حافزة دافعة إلى حد ما. ذلك أنا إذا قرأنا كتابه، واجهنا في وضوح لا مثيل له عند غيره من المؤلفين، ذلك السؤال الذي قلما تعرض له غيره من الفلاسفة: هل سياسة الحكم مقيدة بالمبادئ الأخلاقية؟ وقد نخرج من كتبه بنتيجة واحدة على الأقل: وهي أن الأخلاق الطيبة لا يمكن أن توجد إلا بين أفراد مجتمع مسلح بالوسائل التي نستطيع تعليمها وإلزام الناس باتباعها، وأن المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تتبعها الدول جمعاء يجب أن تؤجل حتى تقوم منظمة تضم الدول جمعاء، ويكون لها من القوة المادية وفيها من الرأي العام ما تستطيع بهما المحافظة على القانون الدولي. وإلى أن يحين ذلك الوقت فستظل الأمم كالوحوش في الغاب؛ وأيا كانت المبادئ التي تجهر بها حكوماتها، فإن السنن التي تسيطر عليها هي الواردة في كتاب الأمير:
وإذا ما عدنا بأنظارنا إلى المائتي عام من الثورة الفكرية التي سادت إيطاليا من أيام بترارك إلى مكيفلي؛ تبين لنا أن جوهر هذه الثورة وأساسها لا يعدو أن يكونا نقص الاهتمام بالعالم الآخر، والاهتمام المتزايد بالحياة... فقد ابتهج الناس إذ كشفوا من جديد حضارة وثنية لا يشغل بال الناس فيها الخطيئة الأولى، أو عقاب الجحيم، ترتضي فيها الغرائز الفطرية وتعد عناصر في مجتمع نابض بالحياة خليقة بأن تغتفر. وفي هذه الحضارة فقد النسك والزهد، وإنكار الذات، والإحساس بالخطيئة ما كان لها سلطان على الطبقات العليا من سكان إيطاليا، وكادت تفقد ما كان لها عندهم من معنى. فاضمحلت الأديرة لقلة من كان يدخلها من الرهبان الجدد؛ وكان الرهبان- والإخوان، والبابوات أنفسهم يسعون وراء ملذات الدنيا بدل تعاليم المسيح. وتراخت قيود التقاليد والسلطان، وكان صرح الكنيسة الضخم أخف على قلوب الناس وأغراضهم من ذي قبل. وأضحت الحياة أكثر اهتماماً بما هو في خارج الإنسان ومع هذه العضة كثيرا ما اتخذت شكل العنف، فإنها طهَّرت كثيراً من النفوس من المخاوف والاضطرابات العصبية اليت كانت تخيم على العقول في العصور الوسطى وتسبب لها الكآبة والظلمة. وأخذ العقل الطليق يمرح سعيداً في جميع الميادين عدا ميادين العلم، وذلك لأن ما ينشأ عن هذا الانطلاق وذاك التحرر من خصب قلما كان يتفق حتى ذلك الحين مع ما تتطلبه التجارب والبحوث العلمية من تهذيب نفسي وصبر طويل؛ فهذا التهذيب وذاك الصبر إنما يجيئان في الدور الإنشائي الذي يعقب التحرر. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أفسحت أساليب التقى السبيل إلى عبادة العقل والعبقرية، واستبدل بالسعي وراء الشهرة الخالدة الاعتقاد، بألا ضرورة للتقيد بالمبادئ الأخلاقية وعَدَت المُثل الوثنية كالحظ، والأقدار، والطبيعة على فكرة اللّه المسيحية. وكان لابد لهذا كله من ثمن. لقد قوض التحرر الساطع للعقل دعا القوة العليا السماوية المشرقة على الأخلاق، ولم توجد قوة أخرى لها ما لها من سلطان تحل محلها. وكانت النتيجة التحلل من جميع الموانع والقيود وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وانتشار الفساد، والاستمتاع المرح استمتاعاً لم يعرف التاريخ له مثيلا منذ أن حطم السوفسطائيون الأساطير وحرروا العقول، وأرخَوا قيود الأخلاق في بلاد اليونان القديمة
قصة الحضارة ج21 ص72-75،، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> تأملات)
 
التطور الداخلي للأخلاق في أوروبا عصر النهضة ثم فلسفة تلك الأخلاق الجديدة وجعلها هي الرقي العلماني الإنساني وإقرارها في قوانين وجعلها فيما بعد كونية!
لننظر ماذا في جعبة ديورانت
:"منابع الفساد الخلقي وأشكاله
ليس ثمة ميدان يمكن أن يتعرض فيه المؤرخ لتأثير أهوائه وميوله فيضل ويصدر حكاماً خاطئة، كالميدان الذي يطرقه حين يريد التحقق من المستوى الأخلاقي لعصر من العصور- اللهم إلا إذا كان هذا الميدان هو ميدان البحث في أسباب ضعف العقيدة الدينية، وهو ميدان وثيق الصلة بميدان الأخلاق، ففي كلتا الحالتين يكون أكثر ما يسترعي نظره هو الاستثناء غير المألوف الذي يؤثر في النفس بمظهره فيصرف الإنسان عن الأحوال المألوفة التي لا تسجلها صفحات التاريخ. وإذا ما أقبل على المشكلة التي أمامه ولديه فكرة يريد أن يثبتها كالفكرة القائلة إن التشكك في أمور الدين يؤدي إلى انحلال الأخلاق- نقول إنه إذا أقبل على المشكلة بهذه الفكرة زادت الحقائق انطماساً فيعجز عن تبين الحقيقة كاملة. هذا إلى أن الحادثات المسجلة قد تفسر بالنقيضين، ويكاد يستطيع قارئها أن يثبت بها أي شيء حسب ما يختاره من تلك الحادثات مدفوعاً إلى ذلك بميله وهواه. ففي وسعه مثلا أن يوجه اهتمامه إلى مؤلفات أريتينو Aretino وسير تشيليني Cellini الذاتية، ورسائل مكيفلي وفتوري ليشتم منها رائحة الانحلال، كما أن في مقدوره أن ينقل من رسائل إزبلا وبيتريس دست، ورسائل إلزبتا جندساجا وألسندرا استرتسى ما يصور به الحنان الأخوي والحياة البيتية المثالية. ولهذا ينبغي لقارئ التاريخ أن يكون على حذر.
وكان ثمة عوامل كثيرة سبب ذلك الانحلال الخلقي الذي صاحب ما كان في النهضة من رقي فكري عظيم. وأكيد الظن أن العامل الأساسي في هذا الانحلال هو زيادة الثراء الناتج من موقع إيطاليا الهام في ملتقى الطرق التجارية بين أوربا الغربية وبلاد الشرق، ومن تدفق العشور وغيرها من القروض التي كانت ترد إلى روما من ألف مجتمع مسيحي. وزاد انتشار الإثم بازدياد المالي الذي تتطلبه نفقاته، وأضعف انتشار الثراء اتخاذ الزهد مثلا أعلى للحياة: فقد أصبح النساء والرجال يشمئزون من المبادئ الأخلاقية التي قامت على الفقر والخوف، والتي أضحت الآن تتعارض مع غرائزهم ووفرة مالهم. وأخذوا يستمعون بعطف متزايد إلى آراء أبيقور القائلة إن على الإنسان أن يستمتع بالحياة، وإن كل الملذات يجب أن تعد بريئة حتى يثبت جُرمها. وغلبت مفاتن النساء أوامر الدين ونواهيه.
وربما كان العامل الثاني الذي يلي الثراء في إفساد الأخلاق هو ما كان في ذلك العصر من تقاتل سياسي. ذلك أن تطاحن الأحزاب والشيع المتعادية، وكثرة الحروب، وتدفق مرتزقة الجنود الأجانب، وما حدث بعد ذلك من غزو الجيوش الأجنبية أرض إيطاليا، وهي جيوش لم تكن تراعى في تلك الأرض أي قيد من القيود الخلقية، واضطراب أحوال الزراعة والتجارة بسبب ويلات الحرب وتخريبها، وقضاء الحكام المستبدين على الحرية واستبدالهم القوة الغاشمة بالسلم والقانون: كل هذه الظروف أشاعت الاضطراب في حياة لإيطاليا وحطمت العادات التي كان الأهلون يعتزون بها ويحافظون عليها، وهي في العادة الحارس الأمين على الأخلاق. ووجد الناس أنفسهم يضربون على غير هدى في بحر عجاج من العنف والجبروت، بدا لهم فيه أن الدولة والكنيسة كلتيهما عاجزتان عن حمايتهم فتولوا هم أنفسهم تلك الحماية بأحسن ما يستطيعون، بالسلاح وبالخداع؛ حتى أصبح الخروج على القانون هو السنة المتبعة والشريعة المقررة. وانغمس الحكام الطغاة في الملذات جميعها بعد أن وجدوا أنفسهم فوق القانون يحيون حياة قصيرة ولكنها حياة مثيرة، وحذت حذوهم أقلية الأهلين ذات الثراء.
وإذا شئنا أن نقدر أثر التحلل من الدين في تحلل بني الإنسان الفطري من القيود الخلقية، وجي علينا أن نبدأ بالتفرقة بين تشكك القلة المتعلمة، وتقوى الكثرة التي تعض على تقواها بالنواجذ. إن الاستنارة على الدوام من مزايا الأقليات، والتحرر من صفات الأفراد، لأن العقول لا تتحرر جماعات... فقد يحتج عدد قليل من المتشككة على المخلفات الزائفة، والمعجزات المزورة، وصكوك الغفران التي تعرض تعهدا بالأداء الآجل نظير ثمن عاجل؛ ولكن جمهرة الشعب تقبل هذه كلها في رهبة وخشوع وأمل. وقد حدث في عام 162 أن ذهب البابا العالم بيوس الثاني وجماعة من الكرادلة إلى ملقى ليستقبلوا رأس الرسول أندرو المحمول من بلاد اليونان، وألقى الكردنال العالم بساريون Bessarion خطبة رهيبة حين وضع الرأس الموهوم الثمين في كنيسة القديس بطرس. وكان الشعب يحج إلى لوريتو وأسيسي، ويهرع إلى روما في سني الأعياد، ويطوف بمواضع الصليب من كنيسة الى كنيسة، ويصعد وأفراده ركع على الدرج المقدسة Seale Sanla التي قيل لهم إنها هي الدرج التي صعد عليها المسيح إلى محكمة بيلاطس. وقد يخسر الأقوياء من هذا له وهم أصحاء، ولكن قلما كان يوجد إيطالي في عصر النهضة لا يطلب القربان المقدس وهو على فراش الموت. فها هو ذا فيتيلتسو فيتيلي Vitelozze Vitelli الزعيم المغامر المستأجر الذي حارب الإسكندر السادس، وسيزارى بورجيا يتوسل إلى رسول أن يذهب إلى روما ليسأل البابا أن يغفر له قبل أن يشد جلاد سيزارى الحبل حول عنقه؛ وكانت النساء على الأخص يعبدن مريم؛ ولم تكد قرية من القرى تخلو من صورة لها تصنع المعجزات؛ وأضحت المسبحة وقتئذ (ولعل ذلك كان في عام 1524) الأداة المحببة للتسبيح والصلاة. وكان في كل بيت محترم صليب؛ وصورة مقدسة أو صورتان، وأمام الصورة أو الصورتين في كثير من البيوت مصباح يظل موقداً على الدوام. وكانت ميادين القرى وشوارع المدن تزدان أحياناً بتمثال للمسيح أو العذراء موضوع في صندوق خاص أو كوة في جدار. وكانت أعياد التقويم الديني يحتفل بها في أبهة وفخامة تخفف عن عامة الشعب كدحهم وتدخل السرور على نفوسهم، وكان تتويج البابا كل عقد من السنين أو نحوه تعرض فيه المواكب والألعاب، تذكر عارفي التاريخ القديم بما كان يجري في روما القديمة. ولم يكن قط دين من الأديان أجمل مناظر من الدين المسيحي حين أقام فنانو النهضة ونحتوا أضرحة، وصوروا أبطال هذا الدين وقصصه، وحين اجتمعت المسرحيات والموسيقى والشعر، والبخور في عبادة اللّه، وازدانت العبادة بما كان فيها من ألوان رائعة؛ وروائح ذكية، ومناظر فخمة.
ولكن هذا لم يكن إلا جانباً واحداً من جوانب المنظر فيه من الاختلاف والتناقض ما لا يليق معه وصفه بإيجاز. لقد كان كثير من كنائس المدن يخلو نسبياً من المصلين، كما هي حالها في هذه الأيام(1). أما في الريف فلنستمع إلى ما يقوله أنطونيو كبير أساقفة فلورنس في وصف فلاحي أسقفيته حوالي عام 1430:
"وفي الكنائس نفسها كانوا أحياناً يرقصون، ويقفزون، ويغنون مع النساء. وفي أيام الأعياد لم يكونوا يقضون في الصلاة أو في سماع القداس إلا وقتاً جد قصير؛ أما معظم الوقت فيقضونه في الألعاب، أو في الحانات، أو في النزاع عند أبواب الكنائس. وهم يجدفون في حق اللّه وأوليائه الصالحين، أو ينطقون بأقوال مثيرة أقل من هذه قبحاً. تنطق ألسنتهم بالكذب والخبث بالعهود وقول الزور؛ ولا يؤنبهم ضميرهم على الفسق والفجور وما هو أسوأ من هذا وذاك. وما أكثر من لا يعترفون منهم بذنوبهم ولو مرة واحدة في العام. وما أقل من يتناولون القربان المقدس... و لا يكادون يفعلون شيئاً يربون به أبنائهم كما يفعل الصالحون المؤمنون. ويستخدمون الرقى والتعاويذ لأنفسهم وحيوانهم، ولكنهم لا يفكرون أبداً في اللّه ولا في سلامة أرواحهم... أما قساوسة الأبرشيات فلا يعنى منهم أحد بالقطيع الذي يرعونه، بل كان ما يعنون به هو أصواف ذلك القطيع وألبانه، فلا يهدونه بالمواعظ العامة والاعترافات أو بالتحذير الفردي؛ بل يرتكبون نفس الخطايا التي يرتكبها من يرعونهم، ويسيرون سيرتهم الفاسدة(2)".
ومن حقنا أن نستدل من حياة رجال أمثال بمبونتسي ومكيفلي، ومن موتهم الطبيعي، على أن شطراُ كبيراُ من الطبقات المتعلمة في إيطاليا عام 1500 قد فقد إيمانه بالمسيحية الكاثوليكية؛ ولنا أن نفترض، في حذر أكثر من هذا، أن الدين حتى بين الطبقات غير المتعلمة، قد فقد بعض ما اكن له من سلطان على الحياة الأخلاقية. وكانت نسبة متزايدة من السكان قد نبذت العقيدة القائلة بأن القانون الأخلاقي موحى به من عند اللّه. وما كاد يبدو للناس أن الوصايا العشر من وضع البشر، وما كادت تجرد مما فيها من نعيم في الجنة وعذاب ي النار، حتى فقد ذلك القانون الأخلاقي ما كان له من رهبة وقوة، فلم يعبأ أحد بالمحرمات، وحل محلها قانون جر المغانم وانتهاب اللذات؛ وضعف شعور الناس بالخطيئة، والرهبة من الجريمة؛ وتحرر ضمير الناس من القيود أو كاد، وأخذ كل إنسان يفعل ما يبدو له ميسراً ولو لم يكن ما اعتاد الناس أن يروه حقاً. ولم يعد الناس يرغبون في أن يكونوا صالحين، بل كان ما يريدونه أن يكونوا أقوياء. ومارس كثيرون من الناس، قبل مكيفلي بزمن طويل، امتيازات القوة، والغش والخداع- أي المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة- التي يجيزها ذلك السياسي لحكام الدول. ولعل قانونه الأخلاقي لم يكن إلا صورة تمثلت له بعد أن شهد ما حوله من أخلاق وعادات. وقد عزا بلاتينا Platina لبيوس الثاني قوله إنه "حتى إذا لم يكن الدين المسيحي مؤيداً بالمعجزات، فإن من الواجب مع ذلك أن يتقبل لما فيه من حث على الأخلاق الكريمة"(3). ولكن الناس لم يكونوا يتبعون هذه الفلسفة في تفكيرهم؛ بل كل ما كانوا يقولونه: إذا لم تكن ثمة نار ولا جنة، فإن من واجبنا أن نمتع أنفسنا على ظهر الأرض، ونترك العنان لشهواتنا، دون أن نخشى عقابا بعد الموت. ولم يكن شيء يستطيع أن يحل محل العقوبات السماوية الضائعة إلا رأي عام قوي مفكر؛ ولكن رجال الدين، والكتاب الإنسانيين، ورجال الجامعات لم يرقوا إلى المستوى الذي يستطيعون معه أداء هذا الواجب.
ذلك أن الكتاب الإنسانيين لم يكونوا أقل فساداً من رجال الدين الذين يوجهون هم لهم سهام النقد. نعم إنه كان من بينهم قلة شاذة من العلماء النابهين الذين يرون الاحتشام والوقار مما يتفق مع التحرر العقلي- أمثال أمبروجيو ترافير سارى Ambrogio Traversari، وفيتوريو دا فيلترى Vitoiro da Feltre ومرسليو فيتشينو Mersilio Vicino، وألدس مانوتيس Aldus Manutius... ولكن أقلية كبيرة من الرجال الذين بعثوا الآداب اليونانية والرومانية كانت تعيش كما يعيش الوثنيون الذين لم يسمعوا قط شيئاً عن المسيحية. وكان تنقل أفرادها سبباً في اقتلاعهم من كل بيئة وجدوا فيها؛ فقد كانوا ينتقلون من مدينة إلى مدينة، يطلبون في كل منها المجد أو المال، ولا يستقرون في واحدة منها. وكانوا مولعين بالمال ولع المرابي أو زوجته، مزهوين بعبقريتهم، ومكاسبهم، وملامحهم، وثيابهم، غلاظاً وقحين في ألفاضهم، غير كريمين حقيرين في أحاديثهم، غير أوفياء في صداقتهم، متقلبين في حبهم، وهاهو ذا أريستو، كما قلنا من قبل، لم يجرؤ على أن يعهد بابنه إلى معلم من الكتاب الإنسانيين خشية أن تصيبه عدوى المعلم الخلقية. وأكبر الظن أنه لم ير من الضروري أن يحرم على ولده قراءة قصة أورلندو فيوريوسو Orlando Furioso التي كانت تتخللها بعض العبارات الوقحة الحلوة النغمة. وقد كشف فلا، وبجيو وبيكاديلي Becadelli، وفيليفو بإيجاز يبلغ في حياتهم المستهترة عن إحدى المسائل الأساسية في علم الأخلاق وفي الحضارة بوجه عام: ونعنى بها "هل ينبغي أن يكون القانون الأخلاقي، إذا أريد أن يكون ذا أثر في النفوس، مؤيداً من قوة غير قوة بني الإنسان- وهل لابد لأن يكون له ذلك الأثر أن يؤمن الإنسان بحياة غير هذه الحياة الدنيا أو يعتقد أن هذا القانون الأخلاقي منزل من عند اللّه؟
قصة الحضارة ج21 ص76-82، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> منابع الفساد الخلقي وأشكاله)
 
لوطية ودعارة رجال الدين في اوروبا المظلمة
رجال الدين والرهبان المسيحيين في العصر الوسيط
:"فها هو ذا بترارك نفسه الذي بقي مخلصاً لدين المسيح إلى آخر أيام حياته، والذي صور ما في دير الكرثوزيين، الذي كان يعيش فيه أخوة، من نظام وتقى في صورة طيبة مستحبة، ها هو ذا يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين في أفنيون. وإن الحياة الخليعة التي كان يحياها رجال الدين الإيطاليون، والتي نقرأ عنها في روايات بوكاتشيو المكتوبة في القرن الرابع عشر إلى روايات فلتشيو في القرن الخامس عشر، إلى روايات بنديتلو في القرن السادس عشر، إن هذه الحياة الخليعة موضوع يتكرر وصفه في الأدب الإيطالي فبوكاتشيو يتحدث عما في حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس في الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية(6). ووصف ماستشيو الرهبان والإخوان بأنهم "خدم الشيطان". منغمسون في الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقاً من رجال الدين"(7).
وها هو ذا أريتينو الذي لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين؛ ويزيد على ذلك قوله: "والحق أنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على روما مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب صحيح"(8) وديكا بجيو Poggio يفرغ كل ما عرفه منن ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم وغطرستهم(9). وبقص فولينجو Folengo في كتاب أرلندينو Oriandino هذه القصة نفسها؛ ويبدو أن الراهبات، ملائكة الرحمة في هذه الأيام؛ كان لهن نصيب، في هذا المرح، أو أنهن كن مرحات رشيقات في البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قرباً يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد. وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلداً من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات(10). ويتحدث أريتينو عن راهبات البندقية حديثاً لا تطاوع الإنسان نفسه على أن ينطق به(11)؛ وجوتشيارديني، الرجل الرزين المعتدل عادة، يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف روما فيقول: "أما بلاط روما فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحى أبد الدهر، وهي مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم".
ويبدو أن هذه شهادات مبالغ فيها، وقد تكون غير نزيهة، ولكن استمعوا إلى قول القديسة كترين السيانية:
"إنك أينما وليت وجهك- سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين، أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغاراُ في السن أو كباراُ- لم تر إلا شراُ ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة. إنهم كلهم ضيقوا العقل، شرهون، بخلاء... تخلوا عن رعاية الأرواح... اتخذوا بطونهم إلهاً لهم، يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة، حيث يتمرغون في الأقذار ويقضون حياتهم في الفسق والفجور... ويطعمون أبنائهم من مال الفقراء... ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون"(13).
وهنا أيضاً يجب أن نسقط بعض ما يحتويه هذا الوصف من مبالغة، إذ ليس في وسع الإنسان أن يثق بأن الولي الصالح يتحدث عن سلوك الآدميين وهو غير غاضب. ولكن في وسعنا أن نصدق هذه الخلاصة التي يعرضها مؤرخ كاثوليكي صريح:
"وإذا كانت هذه هي حال الطبقات العليا من رجال الدين فإن المرء لا يعجب إذا كان من دونهم من الطبقات ومن القساوسة قد انتشرت بينهم الرذيلة على اختلاف أنواعها وأخذ انتشارها على مدى الأيام. إلا أن الحياء قد زال من العالم... ولقد كان أمثال أولئك القساوسة هم اللذين دفعوا إرزمس ولوثر إلى وصفهما المبالغ فيه لرجال الدين حين زارا رومة في أيام يوليوس الثاني. غير أن من الخطأ أن يظن المرء أن القساوسة كانوا في روما أكثر فساداً منهم في غيرها من المدن. ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيسين في كل مدينة تقريباً من مدن شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن الحال في كثير من الأماكن-كالبندقية مثلا- كانت أسوأ كثيراُ منها في روما. فلا عجب والحالة هذه إذا تضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد في كثير من الأماكن أي احترام يظهره الشعب للقسيسين. ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم... ولقد كان الكثير من الأديرة في حال يرثى لها. وأغفلت في بعضها الأيمان الثلاث الأساسية بالتزام الفقر، والعفة، والطاعة إغفالا يكاد يكون تاماً... ولم يكن النظام في كثير من أديرة النساء أقل من هذا فساداً(14).
وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب فإنا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش، وإن كانت هذه المحاكم قد اضمحل شأنها في إيطاليا اضمحلالاً كبيراً أثناء القرن الخامس عشر. مثال ذلك أن أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi، أحد علماء الرياضة، حوكم في عام 1440 لأنه اتهم بالمادية وصدر الحكم ببراءته؛ وحدث في عام 1478 أن حكم بالإعدام على جاليتو مارتشيو Galeotto Marcio لأنه كتب يقول إن أي إنسان يحيا حياة صالحة يكون مصيره الجنة أيا كان دينه، ولكن البابا سكستس الرابع نجاه من الموت(15)؛ وفي عام 1497 حمى مرضى جبريلي دا سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب من محكمة التفتيش مع أنه قال إن المسيح ليس إلها، بلى هو ابن يوسف ومريم، حملت به أمه بنفس الطريقة السخيفة التي تحمل بها كل أم، وإن جسم المسيح لا يحتويه العشاء الرباني، وإنه لم يفعل المعجزات بقوة إلهية بل بتأثير النجوم(17)؛ وهكذا تنفي كل أسطورة غيرها من الأساطير، وفي عام 1500 أحرق جيورجيو نافارا Giorgio da Navara في بولونيا لأنه، على ما يظهر، أنكر ألوهية المسيح، ولم يكن له من يحميه من الأصدقاء أصحاب النفوذ. وفي ذلك العام نفسه أعلن أسقف أرندا Aranda أن ليس ثمة جنة ولا نار، وأن صكوك الغفران ليست إلا وسيلة لجمع الأموال، ولم يوقع عليه مع ذلك أي عقاب(18). وفي عام 1510 أراد فردناند الكاثوليكي أن يدخل محاكم التفتيش في نابلي، ولكنه لقى مقاومة عنيفة من جميع السكان على اختلاف طبقاتهم اضطر معها إلى التخلي عن هذه المحاولة(19).
وكان في وسط هذا الانحلال الكنسي عدة مراكز للإصلاح الطيب من ذلك أن البابا بيوس الثاني أبعد أحد رؤساء الرهبان الدومنيكيين من مركزه، وأدخل النظام في أديرة البندقية، وبرتشيا، وفلورنس، وسينا وفي عام 1517 أنشأ سادوليتو، وجيبيرتي Geberti، وكارفا Caraffa وغيرهم من رجال الكنيسة "محراب الحب القدسي" ليكون مركزاً لأتقياء الرجال الذين يريدون ملجأ مما في روما من انهماك وثني في مفاتن الدنيا
قصة الحضارة ج21 ص83-88، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> أخلاق رجال الدين
 
موقف ديورانت من تعدد الزوجات
:"ونذكر من بادئ الأمر أن الإنسان بفطرته ينزع إلى تعدد الأزواج، وأن لا شيء يستطيع أن يقنعه بالزوجة الواحدة إلا أقسى العقوبات، ودرجة كافية من الفقر والعمل الشاق، ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة.
قصة الحضارة ج21 ص89، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الأخلاق الجنسية
 
اوروبا غير ماهي عليه الآن-ايطاليا على سبيل المثال
:"فكانت الحياة في مانتوا، وميلان، وأربينو، وفيرارا، ونابلي تزدان وتزداد حمية بظهور النساء الفاتنات المثقفات.
وكانت فتيات الأسر العريقة يحتجبن إلى حد ما عن الرجال من غير أسرهم. وكن يلقنَّ على الدوام دروساً في مزايا الاستعفاف قبل الزواج؛ وكان هذا التلقين يلقى أحياناً من النجاح درجة نسمع معها أن فتاة أغرقت نفسها بعد أن أعتدي على عفافها، وإن كان هذا بلا شك فعلاً شاذاً بدليل أن أسقفا اقترح أن يقام لهذه الفتاة تمثال(21)، وفي المقابر الرومانية امرأة عريقة النسب خنقت نفسها لتنقذ شرفها، وحمل جسمها في موكب نصر مخترقاً شوارع روما وعلى رأسها إكليل من الغار(22). بيد أنه كانت هناك بلا شك مغامرات كثيرة من فتيان وفتيات قبل الزواج"
قصة الحضارةج21 ص89، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الأخلاق الجنسية
 
المواخير واللوطية والأولاد غير الشرعيين وهلم جرا
المجال الإجتماعي في الغرب يؤدي للمجال القانوني وشرعنة الوضع، لنرى كيف؟؟
وهل كان يمكن أن يتطور الأمر إلى إسلام في ظل التطورات العلمانية الأخلاقية التالية والتي كانت في عصر النهضة الأوروبي، ، أم أنهم اخذوا العلم الإسلامي رويدا رويدا ثم طلقوا الدين بالثلاثة!!؟
يقول ديورانت:"كانت هناك بلا شك مغامرات كثيرة من فتيان وفتيات قبل الزواج؛ ولولا هذا لما استطعنا أن نفسر وجود ذلك العدد الجم من الأبناء غير الشرعيين في كل بلد من بلاد إيطاليا في عصر النهضة. لقد كان من ليس له أبناء غير شرعيين من الرجال والنساء يعد شخصاً ممتازاً يحق له أن يفخر على غيره، ولكن وجود أولئك الأبناء لم يكن يجلل أبويهم عاراً كبيراً؛ وكان الرجل إذا تزوج يستطيع في العادة أن يقنع زوجته بأن تقبل انضمام أبنائه غير الشرعيين إلى أسرته لكي يربوا مع أبنائها منه، ولم تكن حال الابن غير الشرعي عقبة كأداء في سبيله؛ ويكاد المجتمع لا يلقى بالاً مطلقاً إلى هذه الوصمة الاجتماعية. وكان في وسع النغل أن يعد ابناً شرعياً بهبة ينقحها لرجال الكنيسة. كما كان في وسعه أن يرث أملاك أبويه، وأن يرث العرش نفسه إذا لم يكن له أخ شرعي يليق بهذه الوراثة، أو لم يكن له أخ شرعي على الإطلاق. مثال ذلك أن فيرانتي الأول خلف ألفنسو الأول على عرش نابلي، وأن ليونلو دست خلف نقولو الثالث على عرش فيرارا. ولما أن قدم بيوس الثالث إلى فيرارا في عام 1495 استقبله سبعة من الأمراء كلهم أبناء غير شرعيين(23). وكان التنافس بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين مصدر كثير من حوادث العنف في عصر النهضة؛ كما كانت نصف الروايات تدور حول إغواء النساء، وكانت النساء يقرأن في العادة هذه القصص أو يستمعنها، وكل ما يظهرنه من دلائل الحياء أن يطرقن بأبصارهن لحظات قصاراً. وقد وصف ربرت أسقف أكوينو في أواخر القرن الخامس عشر أخلاق الشبان في أسقفيته بأنها فاسدة، وقال إن أولئك الشبان لا يستحون من هذا الفساد. ويروى أنهم كانوا يقولون له أن الفسق ليس من الخطايا، وإن العفة من الأوامر التي عفا عليها الزمان، وإن عادة احتفاظ البنات بعذرتهن آخذة في الزوال(24). وحتى مضاجعة المحارم كان لها من يحبذونها ويتباهون بها.
أما اللواط فقد كاد يصبح من مستلزمات بعث الحضارة اليونانية. وكان الكتاب الإنسانيون يكتبون عنه بما يشبه الاعتزاز العلمي، ويقول أريستو إنهم كلهم كانوا منغمسين فيه. وكان بولتيان، وفليو، واستروتسي وسنودو Sanudo صاحب اليوميات يتهمون بهذه العادة اتهاماً له ما يبرره(25). كذلك اتهم بها ميكل أنجيلو، ويوليوس الثاني، وكلمنت السابع، وإن لم يبلغ هذا الاتهام من القوة والإقناع مبلغه في الحال السالفة الذكر. وقد وجد القديس برنردينو هذه العادة منتشرة في نابلي انتشاراً لم يسعه معه إلا أن ينذر هذه المدينة بأنها سيصيبها ما أصاب سدوم وعمورة(26). ويقول أرتينو إن هذا الشذوذ الجنسي كان شائعاً واسع الانتشار في روما(27)؛ وإنه هو كان يطلب إلى دوق مانتوا أن يبعث إليه بين كل خليلة وأخرى فتى وسيما(28)، وتلقى مجلس العشرة في مدينة البندقية في عام 1455 مذكرة رسمية تصف "انتشار رذيلة اللواط انتشاراً واسع النطاق في هذه المدينة"، وأراد المجلس "أن يتقي غضب اللّه" فعين رجلين في كل حي من أحياء البندقية مهمتهما القضاء على هذه العادة(29). وعرف المجلس أن بعض الرجال قد اعتادوا لبس أثواب النساء، وأن بعض النساء قد أخذن يرتدين ملابس الرجال، وقد سمى هذا العمل "ضرباً من اللواط"(30). وأدين رجل من الأشراف وآخر من رجال الدين في عام 1492 بممارسة اللواط، فأعدما في الميدان العام وأحرق رأساهما أمام الجماهير(31). ولقد كانت هذه حالات شاذة بطبيعة الحال لا يليق بنا أن نتخذها أساساً لحكم عام؛ ولكن لنا أن نفترض أن اللواط كان منتشراً انتشاراً أكثر من العادة في إيطاليا أثناء عصر النهضة وأنه ظل منتشراُ فيها حتى قامت حركة الإصلاح المعارضة.
وفي وسعنا أن نقول هذا القول نفسه عن الدعارة. فإذا أخذنا بقول إنفسورا- الذي كان يميل إلى المبالغة فيما يورده من الإحصاءات عن روما في عهد البابوات- قلنا إنه كان في روما 6.800 من العاهرات مسجلات في عام 1490، بخلاف العاهرات اللاتي يمارسن هذه الحرفة خفية، وذلك بين سكان البلد البالغين 90.000 نسمة(32) ويقدر التعداد الذي أجري في البندقية عام 1509 عدد العاهرات بـ 11.654 عاهراً من بين سكانها البالغ عددهم نحو 300.000(33). وقد نشر طابع مغامر "سجلاً بأشهر المحاظى وأشرفهن في البندقية احتوى اسمائهن، وعناوينهن، وأجورهن". وكن في الطرق يترددن على الحانات، وفي المدن ينزلن عادة في ضيافة الفتيات اليافعين، والفنانين المتلهفين. ويصف لنا متشيليني ليلة قضاها مع حظية له كأنها حادث عادي غير ذي بال، كما يصف عشاء الجماعة من الفنانين من بينهم جوليو رومانو وهو نفسه، وقد طلب إلى كل واحد من الحاضرين أن يأتي بامرأة غير متمنعة، وفي مأدبة أخرى أرقى من هذه درجة أقامها لورندسو استروتسي لمصرفي في عام 1519 لأربعة عشر شخصاً من بينهم أربعة كرادلة وثلاث نساء من الخليعات(35).
ولما ازداد الثراء وازدادت الرغبة في التنعم بدأ الأثرياء المنعمون يطلبون المحاظي اللائي يتمتعن بقسط من التعليم والمفاتن الاجتماعية، وكما أن طائفة الخليلات قد نشأت في أثينة أيام سفكليز للوفاء بهذا المطلب، كذلك نشأت في روما في أواخر القرن الخامس عشر وفي البندقية في القرن السادس عشر طبقة من الخليلات المهذبات ينافسن أظرف السيدات في ثيابهن، وآدابهن، وثقافتهن، بل وفي تقاهن وترددهن على الكنائس في أيام الآحاد. بينما كانت العاهرات العموميات يمارسن حرفتهن في المواخير، كانت الخليلات الرومانيات السالفات الذكر يقمن في بيوتهن، وينفقن بسخاء كبير على المآدب، ويقرأن الكتب، ويقرضن الشعر، ويغنين، ويعزفن على الآلات الموسيقية، ويشتركن في الأحاديث مع الطبقة المثقفة المتعلمة؛ ومنهن من كن يجمعن الصور والتماثيل، والطبعات النادرة من الكتب وآخر ما صدر منها؛ ومنهن من كن يعقدن الندوات الأدبية. وأردن أن يحتفظن بمقامهن لدى الكتاب الإنسانيين فتسمت الكثيرات منهن بأسماء لاتينية- كاميليا، يولكسينا، وينثسيليا Penthesilea، وفوستينا Faustina، وإمبيريا Imperia، وتوليا Tullia. وكتب أحد الظرفاء الأفاكين، في أيام البابا اسكندر السادس مجموعة من النكت الشعرية بدأها بطائفة منها في مدح العذراء والقديسين ثم اتبعها بلا حياء بطائفة أخرى في الثناء على العشيقات في أيامه(36). ولما ماتت إحدى أولئك العشيقات حزن عليها نصف سكان روما، وكان ميكل أنجيلو من الكثيرين الذين أنشئوا الأغاني تخليداً لذكراها(37).
وأشهر هاته الخليلات المهذبات إمبيريا ده كنياتس Imperia de Cugnatis. وقد أثرت هذه السيدة مما كان يغدقه عليها نصريها وحاميها أجستينو تشيجي Agostino Chigi، فزينت بيتها بالأثاث المترف الوثير والتحف النادرة، وجمعت حولها طائفة كبيرة من العلماء، والفنانين، والشعراء، ورجال الدين، وحتى سادوليتو Sadoleto النقي نفسه كان يتغنى بمديحها(38). وأكبر الظن أن أمبيريا هذه هي التي اتخذها رافائيل نموذجاً لسابفو في صورة البرناسوس Barnassus. وماتت في ريعان شبابها ونضرة جمالها ولم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها (1511)؛ وكزمت بعد موتها بأن دفنت في كنيسة سان جريجوريو San Gregorio، وأقيم لها قبر من الرخام محفور أجمل حفر ومصقول أحسن صقل؛ ورثاها مائة شاعر بأفخم المراثي(39). (وجدير بالذكر أن ابنتها آثرت الانتحار على التفريط في عرضها(40). ولا تقل عنها هرة توليا الأرغونية Tullia d' Aragona ابنة كردينا أرغونة غير الشرعية. وكان أهل زمانها يعجبون بشعرها الذهبي وعينيها البراقتين، وسخائها، وعدم اهتمامها بالمال، ورشاقة قوامها، وسحر حديثها، واستقبلت في نابلي، وروما، وفلورنس، وفيرارا استقبال الأمراء الزائرين. وقد وصف سفير مانتوا في فيرارا دخولها المدينة في رسالة غير دبلوماسية بعث بها إلى إزبلادست عام 1537 قال فيها:
أرى من واجبي أن أسجل مقدم سيدة ظريفة تبلغ من تواضعها في سلوكها وافتتان الناس بأدبها لا يسعنا معه إلا أن نصفها بأنها ربانية. وهي تغني ارتجالا جميع النغمات والألحان... وليس في فيرارا كلها سيدة واحدة، ولا فكتوريا كولونيا Victoria Colonna دوقة بسكارا Pescara يمكن أن تقارن بتوليا(41).
وقد رسم مورتو ده بريشيا Moretto de Brescia صورة ساخرة لها تبدو فيها بريئة براءة الراهبة الحديثة العهد بالرهبنة. وقد أخطأت إذ عاشت بعد أن زالت مفاتنها، وماتت في كوخ حقير قريب من نهر التبر؛ وبيع كل ما تمتلكه بالمزاد فلم يزد ثمنه على اثني عشر كروناً (150؟ دولاراً) ولكنها احتفظت رغم فقرها بعودها ومعزفها إلى آخر أيام حياتها. وتركت وراءها أيضاً كتاباً ألفته في خلود الحب الكامل(42).
وما من شك في أن هذا العنوان يدل على الطراز الذي كان يتحدث به المتحدثون ويكتب به للكتاب عن الحب العذري في عهد النهضة. فإذا لم تسمح امرأة لنفسها أن تزني في تلك الأيام، فقد كان يسمح لها على الأقل بأن تثير في الرجل نوعاً من الغرام الشعري، فتهدى اليها القصائد والمجاملات الأدبية والمؤلفات. ونشأت في تلك الأيام هيام شعراء الفروسية الغزليين، والحياة الجديدة لدانتي، وأحاديث أفلاطون عن الحب الروحي في عدد قليل من الجماعات عاطفة رقيقة من الهيام بالمرأة- كانت عادة زوج رحل غير المستهام بها. على أن الكثيرة الغالبة من الناس لم يكونوا يعنون قط بهذه الفكرة ويفضلون على هذا الحب العذري الحب الشهواني الصريح؛ فكانوا يكتبون الأغاني ولكن همهم الوحيد كان هو الاتصال الجنسي، وقلما كان هذا الحب ينتهي بالزواج إلا في حالات جد نادرة لا تتجاوز واحداً في المائة وذلك على الرغم مما يكتبه الكتاب في رواياتهم الغرامية.
ذلك أن الزواج في تلك الأيام كان مسألة مال، وكان جمع المال مستطاعاً دون حاجة إلى نزعات الشهوة الجسمية، وكانت خطبة الزواج تنظم في مجالس الأسر، ويقبل معظم الشبان والفتيات دون احتجاج ذي أثر من يختار زوجاً له أو لها. وكان من المستطاع خطبة البنت وهي في الثالثة من عمرها، وإن كان الزواج يؤجل في العادة حتى تتم الثانية عشرة. وكانت البنت في العصور الوسطى، إذا بقيت حتى الخامسة عشرة دون زواج، تجلل أسرتها العار. ثم أجلت تلك السن التي تجلب العار على الأسرة حتى السابعة عشرة في القرن السادس عشر، وذلك لكي يترك للفتاة من الوقت ما تستطيع معه الحصول على قسط من التعليم العالي(43). أما الرجال الذين يستمتعون بجميع ميزات الاختلاط الجنسي دون زواج ولا يجدون أية صعوبة في هذا الاختلاط، فلم يكن يستطاع إغراؤهم بالزواج إلا إذا جاءت الزوجة معها ببائنة قيمة. ومن أجل هذا وجدت في أيام سفنرولا Savonarola كثيرات من البنات الصالحات لأن يكن زوجات واللائي عجزن عن أن يجدن أزواجاً لحاجتهن إلى البائنات. ولهذا أيضاً أنشأت فلورنس نوعاً من التأمين الذي يقضى بأن تقوم الدولة بأداء البائنات لمن هن في حاجة إليها وأطلق على هذا النظام اسم: مال العذارى Motne delle faucille وكانت البنات يحصلن منه على بائناتهن إذا أدين قسطاً سنوياً قليلا(44). وفي سينا بلغ عدد الشبان العزاب من الكثرة ما اضطر المشرعين إلى فرض عقوبات قانونية عليهم؛ وفي لوقا صدر في عام 1454 مرسوم يقضي بحرمان كل العزاب ما بين سن العشرين والخمسين من الوظائف العامة. وكتبت السندرا إسترتسى Alessandra Strozzi في ذلك الوقت (1455) تقول: "إن تلك الأيام غير ملائمة للزواج(45). ورسم رافائيل نحو خمسين صورة للعذارى ولكنه لم يرسم قط صورة زوجة، وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي اتفق معه ميكل أنجيلو فيه، وكانت حفلات الزفاف نفسها تستنفذ مبالغ طائلة من المال؛ وها هو ذا ليوناردو بروني Leonardo Bruni يشكو من أن زواجه قد ذهب بميراثه(46). وكان الملوك والملكات، والأمراء والأميرات، ينفقون ما يعادل مليون دولار على حفلة زفاف بينما كان القحط يقضي على حياة أبناء الشعب...ومع هذا فإن الزنا كان واسع الانتشار(49). وإذ كانت معظم الزيجات التي تعقد بين أفراد الطبقات العليا زيجات دبلوماسية تبتغي بها المصالح الاقتصادية أو السياسية، فقد كان كثيرون من الأزواج يرون أن من حقهم أن تكون للواحد منهم عشيقة؛ وكانت الزوجة في العادة تغمض عينيها عن هذه الإساءة أو تطبق شفتيها فلا تنطق بشيء مما تشعر به من أسى نتيجة لهذا التصرف. وكان رجال الطبقات الوسطى يدعون أن الزنا من الملاهي المشروعة. ويلوح أن مكيفلي وأصدقاءه لم يكونوا يتحرجون عن تبادل الرسائل المفصحة عن خياناتهم لزوجاتهم. وإذا ما ثأرت الزوجة لنفسها من زوجها فاقتدت به كان الزوج من الأحيان يتجاهل فعلها هذا ويحمل قرنيه راضياً(50). لكن تدفق الأسبان على إيطاليا عن طريق نابلي وبتشجيع الإسكندر السادس وشارل الخامس جاء إلى الحياة الإيطالية بالغيرة على العرض والشرف، فكان الزوج في القرن السادس عشر يرى من واجبه أن يعاقب زوجته بالموت إذا زنت في الوقت الذي يحتفظ فيه هو بميزاته الفرية الكاملة غير منقوصة. وكان في وسع الزوج أن يهجر زوجته وأن ينعم مع ذلك بالحياة؛ أما الزوجة إذا هجرها زوجها فلم يكن أمامها إلا أن تطالب برد بائنتها، ثم تعود إلى بيت أهلها، وتعيش عزبة لأنها لم يكن يسمح لها بأن تتزوج مرة أخرى. وكان في وسعها أن تدخل الدير، ولكنه كان ينتظر منها في هذه الحال أن تهبه جزءاً من بائنتها(51). ويمكن القول بوجه عام إن الزنا كان يتخذ سلوى يستعاض بها عن الطلاق.
قصة الحضارةج21 ص89-97، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الأخلاق الجنسية)
 
خلاصة تظهر كيف نشأت العلمانية
يقول ديورانت:"كان اجتماع التحرر الفكري والتحلل من القيود الخلقية هو الذي أوجد "رجل النهضة"
قصة الحضارة ج21 ص98، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الرجل في عصر النهضة)
أو بالأحرى الرجل العلماني الغربي
 
بداية نشأة العلماني الذي اخذ من الإسلام العلم والتكنولوجيا-المبتكرات والمنهج العلمي- لكنه لسبب فساد الكنيسة وفساده هو شخصيا-العلماني- راح ينكر كل شئ حق
يقول ديورانت"كان اجتماع التحرر الفكري والتحلل من القيود الخلقية هو الذي أوجد "رجل النهضة"...وكانت له روح ذات نزعة فردية جريئة عديمة المبالاة، تعمل على تنمية جميع المواهب الكامنة فيها، روح مزهوة فخورة تسخر من الذلة المسيحية، وتحتقر الضعف والجبن، وتتحدى العرف، والتقاليد والأخلاق، والمحرمات، والبابوات...ولم يكن فساد خلقه إلا جزءاً من نزعته الانفرادية. وإذ كان هدفه هو أن ينجح في التعبير عن شخصيته، وكانت بيئته لا تفرض عليه أية معايير يتقيد بها فلا يجد قدوة يقتدى بها بين رجال الدين"
قصة الحضارة ج21 ص 98-99، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الرجل في عصر النهضة
 
علم الإسلام من خلال نموذجه الحضاري، علم الأوروبيين الحياة -خصوصا حتى عصر النهضة الأوروبي-بعد أن أدخلتهم المسيحية في الموات والإهمال والإعراض الكلي عن الحياة الا ماكانت لصالح الباباوية وضلالاتها
في النص التالي يصف ديورانت حالة التغير البطئ على الأوروبي، لكنه لايعرض السبب الجوهري، والأصلي ، الذي كان أولا وأخيرا شرطا في النهضة العلمية الأوروبية، بصرف النظر عن التطور في السلوك والأخلاق الجنسية ، التي بدأ بها العقل خط الإنحراف المقابل لخط الإنحراف المسيحي المنقلب عليه، وبإيعاز منالإسلام وفضحه للكهنوت والرهبان وعقيدة الثالوث والفدية والتعدد، قال:"وإنا لندرك رغم ما نبذله من الجهد في اختصار البحث، وصياغة القواعد العامة، أنه لم يكن ثمة رجل يصح أن يطلق عليه اسم "رجل النهضة". لقد كان في ذلك العصر رجال لا يتفقون إلا في شيء واحد! وهو أن الحياة لم تبلغ من الشدة ما بلغته في تلك الأيام. لقد كانت العصور الوسطى تقول- أو تدعي القول- لا للحياة؛ أما النهضة فكانت تقول لها نعم بقلبها، وروحها، وبكل ما كان فيها من قوة"
.قصة الحضارة ج21 ص 100، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الرجل في عصر النهضة
 
جشع الكنيسة والباباوية في عصر النهضة-الايطالي خصوصا- والقسوة والفساد والجريمة وجنود ينهبون المدن
يقول ديورانت:"وكان بلاط البابا نفسه مضرب المثل في هذا الجشع المالي. ولنستمع مرة أخرى إلى أعظم مؤرخ للبابوية.
"لقد استشرى الفساد ومد جذوره في جميع مناحي الإدارة البابوية... وخرج عدد الهبات التي تنصبُّ فيها صباً والقروض التي تغتصبها اغتصاباً عن كل حد... يضاف إلى ذلك أن العقود كانت تتداول وتزور بأيدي الموظفين أنفسهم، فلا عجب والحالة هذه إذا ارتفعت من جميع أنحاء العالم المسيحي أعلى الصيحات بالشكوى من هذا الفساد وذلك الاغتصاب المالي الذي يقوم به موظفو الإدارة البابوبة، حتى لقد قيل إن لكل شيء في روما ثمنه"(70).
وكانت الكنيسة لا تزال تحرم أخذ الفائدة على الأموال وتعدها بجميع
أنواعها من قبيل الربا، وكان الواعظون ينددون بهذا العمل، وحرمته أحياناً بعض المدن- مثل بياتشندسا- وأنذرت من يمارسه بالحرمان من القربان المقدس ومن الدفنة المسيحية عند مماته. ولكن إقراض المال بالفائدة ظل يجري في مجراه، لأن هذه القروض لم يكن منها بد في الأعمال الاقتصادية، التجارية والصناعية، الآخذة في الاتساع. وسنت القوانين تُحرِم أن يزيد سعر الفائدة على عشرين في المائة، ولكننا مع ذلك نسمع عن حالات بلغ فيها هذا السعر ثلاثين في المائة. وكان المسيحيون ينافسون اليهود في عقد القروض، حتى لقد شكا مجلس فيرونا البلدي من أن المسيحيين يفرضون على المدينين شروطاً أقسى مما يفرضه اليهود(71). غير أن غضب الشعب قد حل أشده على اليهود، وكثيراً ما أدى إلى أعمال العنف الموجهة إلى الساميين. وواجه الرهبان الفرنسيس هذه المشكلة وحاولوا تخفيف العبء عن أشد المدينين بؤساً بإنشاء أرصدة الإحسان (Momnti di Pieta) ومعناها الحرفي (أكوام الإحسان) جمعوها من الهبات والوصايا ليقرضوا منها المحتاجين، وكانوا في أول الأمر يقرضونهم يغير فائدة. وكان أول رصيد من هذا النوع هو الذي أنشئ في أرفينو عام 1463؛ ولم تلبث كل مدينة كبيرة أن حذت حذوها؛ وتطلب ازدياد مقدار هذه الأرصدة تخصيص بعض المال لإدارتها والإشراف عليها؛ فما كان من مجلس لاتران الخامس الذي عقد في عام 1515 إلا أن منح الرهبان الفرنسيس الحق في أن يفرضوا على كل قرض ما يكفي من المال لتغطية نفقات الإدارة والإشراف. وسار بعض رجال الدين في القرن السادس عشر على هذه السنة نفسها فأجازوا أخذ فائدة معتدلة على القروض(72). ثم أخذ سعر الفائدة ينخفض انخفاضاً سريعاً في القرن السادس عشر بفضل منافسة أرصدة الإحسان، وأكثر من هذا في أغلب الظن بفضل ازدياد مهارة رجال المصارف المحترفين ومنافستهم للأفراد المقرضين. وازداد النظام الصناعي قوة باتساع مداه وباختفاء العلاقة الشخصية بين العامل وصاحب العمل. ذلك أن رقيق الأرض في نظام الإقطاع كان يستمتع ببعض الحقوق في مقابل ما يفرض عليه من الأعباء، فقد كان ينتظر من سيده أن يعنى به إذا مرض، أو حلت بالبلاد أزمة اقتصادية، أو شبت فيها نار حرب، أو بلغ سن الشيخوخة. وكانت نقابات الحرف في المدن الإيطالية تؤدي بعض هذه الواجبات للطبقة العليا من العمال، ولكن العامل "الحر" كان في العادة "حراً" في أن يموت جوعاً حين لا يجد عملا يقتات منه، فإذا وجده كان لابد له أن يقبله بالشروط التي يفرضها عليه صاحب العمل نفسه، وما كان أقسى هذه الشروط. وكان كل اختراع وكل تحسين في وسائل الإنتاج وفي الأنظمة المالية يزيد من أرباح صاحب العمل، وقلما كان يزيد الأجور. وكان رجال الأعمال يقسو بعضهم على بعض بقدر ما يقسون على عمالهم. فنحن نسمع عن كثير من الحيل التي كانوا يلجئون إليها في تنافسهم، وعن عقودهم الخادعة؛ وعن وثائقهم المزورة التي يخطئها الحصر(73). فإذا ما تعاونوا كان تعاونهم يهدف لخراب بيوت منافسيهم في بلد غير بلدهم. بيد أننا نجد أحياناً أمثلة دالة على الإحساس بواجب الشرف بين كثيرين من التجار الإيطاليين، واشتهر رجال المال في إيطاليا بالأمانة والاستقامة في المعاملة أكثر مما اشتهر بهما أمثالهم في أوربا(74).
وكانت الأخلاق الاجتماعية مزيجاً من العنف والعفة. وإنا لنجد في الرسائل التي كانت تتبادل بين الأفراد في ذلك الوقت شواهد كثيرة على ما كانوا يتصفون به من الرقة والحنان؛ ولم يكن الإيطاليون العاديون يضارعون الأسبان في شراستهم أو الجنود الإيطاليين في إقدامهم على ذبح أعدائهم جماعات. ولكن ما من أمة في أوربا كان فيها من الاغتياب ونهش الأعراض مثل ما كان يدور حول جميع الرجال الأرزين في روما؛ وهل يستطيع أحد غير الإيطاليين في عهد النهضة أن يصف أريتينو بأنه من أولياء الله الصالحين؟. وانتشر العنف بين الأفراد انتشاراً واسع النطاق. وكان من أسباب قوة النزاع بين الأسر زوال العادات القديمة والعقيدة الدينية، والتراخي في أخذ الناس بالقانون، ولهذا كان الناس يثأرون لأنفسهم بأنفسهم، وظلت الأسر يقتل بعضها بعضاً جيلا بعد جيل، كما ظل التبارز عادة مألوفة مشروعة في إيطاليا لا يقف حتى يقتل أحد المبارزين نده، وحتى الأولاد الصغار كان يسمح لهم بأن يقاتل بعضهم بعضاً بالمدى، ويعد هذا أيضا من الأعمال المشروعة(75). وكان النزاع بين الأحزاب أشد منه في أي مكان آخر في أوربا، وكانت الجرائم وأعمال العنف يخطئها الحصر. وكان من المستطاع ابتياع السفاحين بأثمان لا تكاد تزيد على أثمان صكوك الغفران، وكانت قصور روما تزدحم بأولئك السفاحين المستعدين لاغتيال أي إنسان بإشارة من سادتهم. وكان كل إنسان يحمل خنجراً، وكان عاجنو السموم يجدون كثيرين من طالبي سمومهم، حتى بلغ الأمر أن أهل روما قلما كانوا يعتقدون أن إنساناً ذا شخصية بارزة أو مال موفور مات ميتة طبيعية... وكان كل ذي شخصية يطلب أن يذوق شخص آخر بين يديه كل ما يقدم له من طعام أو شراب. وانتشرت في روما قصص عن سم بطيء لا يسري مفعوله إلا بعد فترة طويلة تكفي لستر آثار من يقدمه. وكان على الإنسان أن يكون يقظاً محاذراً في تلك الأيام؛ فإذا غادر المنزل في ليلة من الليالي، فقد ينصب له كمين ويسرق ماله، ويكون من حسن حظه إلا يلقى حتفه؛ وحتى في الكنيسة نفسها لم يكن الشخص آمناً على نفسه، وكان عليه إذا سار في الطرق العامة أن يستعد لمقاومة قطاع الطرق. ولهذا كان من الواجب أن يصير عقل رجل النهضة حاداً كحدة نصل السفاح.
وكانت القسوة أحياناً قسوة جماعية تسري عدواها في الأفراد والجماعات. مثال ذلك أن فتنة اندلع لهيبها في أرتسو عام 1502 ضد أحد المندوبين الفلورنسيين، فقتل فيها مئات من أرتسو في شوارعها محيت فيها أسر بأكملها، وجرد أحد الضحايا من ثيابه وشنق ووضعت شعلة متقدة بين عجيزتيه؛ فما كان من الجماهير المرحة المبتهجة إلا أن أطلقت عليه اسم الملوط(76). وانتشرت قصص العنف، والقسوة، والشهوات انتشار الخرافات؛ حتى لقد كان بلاط فيرارا الذي يزدان بالشعر والأدب تروعه جرائم الأمراء وما يوقعه الملوك من ضروب العقاب. وكان تحلل الحكام المستبدين أمثال آل فسكنتي ومالاتسنا أنموذجاً ينسج على منواله ذوو العنف الهواة من أفراد الشعب، وحافزاً لهم على تقليده.
وتدهورت المبادئ الأخلاقية الحربية على مر الزمن. فقد كانت المعارك كلها تقريباً في بواكير عهد النهضة لا تزيد على اشتباكات غير ذي بال بين جنود مرتزقة يحاربون في غير عنف شديد، ويعرفون متى يقفون للقتال، وكان النصر ينال إذا ما سقط في حومة الوغى عدد قليل من الرجال، وكان السجين الحي الذي يستطاع فداؤه أعظم قيمة من العدو الميت. ولما ازدادت قيمة الزعماء المغامرين المأجورين، وكبرت الجيوش وتطلبت نفقات ضخمة، سمح للجنود بأن ينهبوا المدن المفتوحة بدل أن تؤدى اليهم أجور منتظمة؛ وكانت مقاومة النهب تؤدي إلى المذابح التي يهلك فيها العدد الجم من السكان؛ وكانت وحشية الجنود الفاتحين تزداد حينما يشمون رائحة الدم المسفوك. ومع هذا كله فقد كانت قسوة الإيطاليين في الحرب أقل من قسوة الغزاة الأسبان والفرنسيين. مثال ذلك أنه حين استولى الفرنسيون على كابوا في عام 1501 أوقعوا بأهلها مذبحة، شنيعة سقط كثير من النساء حتى اللاتي كرسن أنفسهن لعبادة الله... ضحية لشهواتهم أو شرهم، وبيع كثير من أولئك المخلوقات البائسات في روما بعدئذ بأنجس الأثمان"(77) كما يقول جوتشيارديني. وغير خاف أنهن بعن للمسيحيين. وزاد استرقاق أسرى الحرب كلما تقدمت أساليبها في عصر النهضة.
ولسنا ننكر أنه كان ثمة أمثلة من الولاء الجميل بين الإنسان والإنسان، وبين المواطن والدولة؛ ولكن ازدياد المقدرة على المكر والدهاء زاد من قدر الغش والخداع. فكان القواد يبيعون أنفسهم لمن يؤدي إليهم أعظم الأثمان، فإذا ما احتدم القتال أخذوا يفاوضون العدو للحصول على أثمان أكبر من التي اشتروا بها. كذلك كانت الحكومات تبدل موقعها في أثناء الحرب فيصبح الحلفاء أعداء بجرة قلم. وكان الأمراء والبابوات يغدرون بمن أمنوهم على أنفسهم من القادمين إلى بلادهم والخارجين منها(78)، والحكومات توافق على اغتيال أعدائها سراً في الدول الأخرى(79). وكان الخونة يوجدون في كل مدينة وفي كل معسكر: ومن أمثلة هؤلاء بيرنر دينو دل كورتى Bernardino del Corte الذي باع قلعة لدفيكو لفرنسا؛ والسويسريون والإيطاليون الذين غدروا بلدفيكو وباعوه للفرنسيين؛ وفرانتشيسكو ماريا دلا روفيري الذي منع جنوده من أن يخفوا لنجدة البابا في عام 1517، ومالاتستا بجليوني الذي باع فلورنس في عام 1530... ولما ضعفت العقيدة الدينية حلت محل فكرة الحق والباطل في كثير من العقول فكرة النافع وغير النافع من الوجهة العلمية؛ وإذا كانت الحكومات في العادة قصيرة الأجل لا تصبح ذات سلطان شرعي بطول الزمن، فقد ضعفت عند الناس عادة إطاعة القانون، وكان لابد من أن تحل القوة في هذا محل العادة؛ ولم يكن ثمة طريق للخلاص من استبداد الحكومات إلا قتل المستبدين.
وعم الفساد كل فرع من فروع الإدارات الحكومية. ففي سينا مثلا كان لابد من وضع الإدارة المالية في آخر الأمر في أيدي راهب اشتهر بالتقى والورع لأن كل إنسان آخر قد اختلس مال المدينة. وساءت سمعة المحاكم كلها عدا محاكم البندقية لكثرة ما كان فيها من الفساد والرشوة. وتروى قصة من قصص ساكشتي Sacchetti أن قاضياً ارتشى بثور ولكن خصم الراشي بعث إلى هذا القاضي نفسه بقرة وعجلا فحكم لصالحه(80). وكان التقاضي كثير النفقة، ولهذا أضطر الفقراء إلى الاستغناء عنه، ووجدوا أن قتل الخصم أرخص من مقاضاته. وكان القانون نفسه آخذاً في الرقى ولكن رقيه كان مقصوراً على الناحية النظرية. وقد أنجبت بدوا، ويولونيا، وبيزا، وبيروجيا كثيرين من فقهاء القانون أمثال تشينو دا بستويا Cino da Pistoia، وبرتولوس من أهل ساسوفيراتو Bartolus of Sassoferrato، وبلدو دجلى أوبلدى Boldo degli Ubalbi الذي ظل شرحه للقانون الروماني أكبر مرجع في فقه القانون قرنين كاملين. وكان القانون البحري والتجاري يتسع باتساع نطاق التجارة الخارجية؛ ومهد جيوفني دا لنيانو السبيل لجروتيوس برسالة عن الحرب Tractatus de Bello (1360)، وهي أقدم كتاب معروف عن قوانينها.
لكن تطبيق القانون لم يبلغ من السمو مبلغ نظريته، ذلك أن نظام الشرطة لم يجار في تقدمه سير الجرائم، وإن كانت مهمته في حماية الأنفس. والأموال قد أخذت تظهر وتشكل وخاصة في فلورنس. وكثر المحامون، وظل التعذيب يستخدم في استجواب الشهود والمتهمين. وكانت العقوبات قاسية همجية. ففي بولونيا مثلا كان يمكن تعليق المذنب في قفص من أحد الأبراج المائلة، ويترك حتى يتقرح جسده من الشمس(81)، وفي سينا كان الرجل المحكوم عليه يمزق إرباً على مهل في شوارع المدينة(82)؛ وفي ميلان أثناء حكم جيوفني فسكونتى مضيف بترارك كان المسجونون تبتر أطرافهم طرفاً بعد طرف(83)؛ وبدأت في أوائل القرن السادس عشر عادة الحكم على المساجين يجدف المجاديف الثقيلة التي كانت تزود بها السفن، مشاهد ذلك أن سفائن يوليوس الثاني كانت تحمل على ظهورها أرقاء مشدودين إليها من أرجلهم(84).
على أننا نستطيع أن نذكر في مقابل هذه الأعمال الهمجية تطور الإحسان المنظم ورقيه، فقد كان كل من يترك وصية يفرد جزءا من ماله ليوزع على الفقراء من أهل الأبرشية التي يعيش فيها. وإذ كان المتسولون لا يحصى لهم عدد، فإن بعض الكنائس كانت تقيم ما يشبه مطاعم الشعب الحديثة، وجرياً على هذه السنة كانت كنيسة القديسة مارية (سانتا ماريا) في كامبو سانتو بروما، تطعم ثلاثة عشر متسولا في كل يوم وألقى متسول في أيام الاثنين والجمعة(85)، وكانت المستشفيات العامة، ومستشفيات المجذومين؛ وملاجئ المرضى الميئوس من شفائهم، والفقراء، واليتامى، والحجاج المعدمين، والعاهرات التائبات، كانت هذه كلها كثيرة العدد في إيطاليا إبان عصر النهضة.
قصة الحضارة ج21 ص114-121، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> الأخلاق العامة
 
الأخلاق العلمانية والدهرية!!!
الكهنوت والمسيحية والرومانية
وإذا جئنا إلى مقارنة ديورانت بين عصور أوروبية سابقة وبين عصر النهضة الإيطالي أو بقية أوروبا في زمن نهضة إيطاليا فسنجده يؤكد ماسبق أن قاله من قبل وعرضناه
فأخلاق الباباوية تكاد تكون واحدة وكذلك الشعوب والجنود إلخ...
قال:"تُرى هل كانت أخلاق إيطاليا في عصر النهضة أسوأ من أخلاق غيرها من البلاد أو العصور؟ إن المقارنة لمن الأمور العسيرة، لأن الشواهد كلها محض اختيار. فعصر ألقبيادس في أثينا مثلا يكشف عن كثير مما في عصر النهضة من فساد في العلاقات الجنسية والمماحكات السياسية، ففيه أيضا كان يحدث الاجهاض على نطاق واسع، وفيه اتسع المجال للعاهرات المثقفات المتأدبات؛ وفيه أيضاً تحررت العقول والغرائز في وقت واحد، وفيه استبق السوفسطائيون أمثال شرازيبولوس في جمهورية أفلاطون مكيفلي إلى مهاجمة الفضائل ووصفوها بأنها من سمات الضعف، ولربما كان العنف الفردي في بلاد اليونان القديمة أقل منه في إيطاليا على عهد النهضة، كما كان الفساد في الدين والسياسة عند اليونان أقل بعض الشيء منه في إيطاليا (ونقول ربما عامدين لأنا في هذه المسائل إنما نعتمد على ما ينطبع في عقولنا لا على ما نجزم به واثقين). وكذلك الحال في أيام الرومان الأقدمين؛ ففي قرن كامل في تاريخ الرومان- من عهد قيصر إلى عهد نيرون- نجد الفساد في الحكم، والانحلال في عقدة الزواج أكثر منهما عهد النهضة؛ ولكن كثيراً من الفضائل الرواقية قد بقي في أخلاق الرومان حتى في ذلك العصر الفاسد نفسه، فقد كان قيصر، رغم ما يتصف به من قدرة على الجمع بين الضدين في الرشوة والحب، أعظم القواد في أمة كل رجالها قواد عظام.
وكانت النزعة الانفرادية في عصر النهضة ناحية أخرى من نواحي حيويتها ونشاطها، ولكنها لا تضارع في الناحيتين الخلقية والسياسية ما كانت عليه النزعة الاستقلالية في مدن العصور الوسطى، وأكبر الظن أن الخداع والغدر والجريمة لم تكن في فرنسا، وألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أقل مما كانت في إيطاليا؛ ولكن هذه الأقطار قد أوتيت من الحكمة والحصافة ما حال بينها وبين إخراج رجل مثل مكيفلي لينشر مبادئ فنها السياسي ويعرضه على الأنظار. لقد كانت العادات والآداب العامة لا المبادئ الأخلاقية أكثر فظاظة وغلظة في شمال جبال الألب منها في جنوبها، إذا استثنينا من هذا الحكم طبقة صغيرة في فرنسا- يمثلها الفارس الشهم بايار Bayard وجاستن ده فوا Gaston de Foix- كانت لا تزال تحتفظ بالناحية الطيبة من نظام الفروسية. لكن الفرنسيين إذا ما أتيحت لهم الفرص التي أتيحت للإيطاليين لم يكونوا أقل منهم انهماكاً في الزنا؛ وما على القارئ إلا أن يتذكر كيف انتشر داء الزهري بينهم انتشاراً سريعاً، أو أن يلاحظ الاختلاط الجنسي التي تصفه لنا الأساطير الشعرية، أو يحصي العاشقات الأربع والعشرين اللاتي كان يستمتع بهن فيليب دوق برغندية، ويتذكر أنييه رسول Agnel Sorels وديان ده بواتييه Dianes de Poitiers من حاشية ملوك فرنسا؛ أو فليقرأ ما كتبه في ذلك برانتوم Brantome.
وإذا كانت ألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لم تضارعا إيطاليا في الفساد الخلقي فقد كان منشأ ذلك فقر هذين البلدين. ولهذا فإن من جاءوا منهما إلى إيطاليا قد ذهلوا مما شاهدوا في الحياة الإيطالية من انحلال في الأخلاق. ولما زار لوثر إيطاليا في عام 1511 قال من فوره إنه "إذا كان هناك جحيم، فإن روما قد بنيت من فوقه؛ وهذا ما سمعته في روما نفسها"(111). وليس منا من لم يعرف الحكم الصارم الذي نطق به في ذهوله روجر آسكم Roger Ascham العالم الإنجليزي الذي زار إيطاليا حوالي عام 1550:
"لقد كنت يوماً ما في إيطاليا نفسها، ولكني أحمد الله إذ لم أقم فيها إلا تسعة أيام؛ ومع هذا فإني شاهدت في هذا الزمن القصير، في مدينة واحدة، من الانغماس في الذنوب والتحرر من قيود الأخلاق أكثر مما سمعته يقال في تسعة أيام عن بلدتنا النبيلة لندن. لقد رأيت هناك أن في مقدور المرء أن يرتكب الخطايا دون أن يتعرض للعقاب ودون أن يهتم بخطاياه أي إنسان، وقد أوتي من الحرية في ارتكابها بقدر ما أوتي ساكن لندن من حرية في أن يختار دون لوم أن يلبس حذاء أو خفاً(112).
وهو يورد من الأمثال السائرة قولهم "إن الإنجليزي المتطلين هو الشيطان المجسد".
وإنا لنعرف عن فساد إيطاليا أكثر مما نعرفه عن فساد ما وراء الألب لأنا نعرف عن الأولى أكثر مما نعرف عن الثانية، ولأن غير رجال الدين من الإيطاليين لم يحاولوا قط أن يخفوا فسادهم، بل إنهم في بعض الأحيان ألفوا الكتب للدفاع عن هذا الفساد. على أننا نعود فنقول إن مكيفلي الذي ألف كتاباً من هذا النوع كان يرى أن إيطاليا "أكثر فساد من كل ماعداها من الأقطار، ثم يليها في ذلك الفرنسيون ثم الأسبان"(113). وكان يعجب بالألمان والسويسريين ويقول إنهم لايزالون يتصفون بكثير من فضائل الرجولة التي كانت لأهل روما القديمة. وفي وسعنا أن نقول بشيء من الحذر والتردد أن إيطاليا كانت أكثر من غيرها فساداً لأنها كانت أكثر ثراء، وأضعف حكما، وأقل خضوعا لسلطان القانون، وإنها كانت أكثر رقيا في ذلك التطور الذهني الذي يؤدي في العادة إلى التحلل من القيود الأخلاقية.
ولقد بذل الإيطاليون جهوداً مشكورة في مقاومة ذلك الانحلال. وكانت أقل هذه الجهود ثمرة هي قواعد النفقات التي وضعت في الدول الإيطالية كلها تقريباً والتي كانت تحرم الإسراف في الإنفاق على الملابس المتبهرجة، غير ما كان يتصف به الرجال والنساء من زهو وخيلاء كان أقوى من قوة القانون. وكان البابوات ينددون بالفساد الخلقي، ولكن
التيار القوي كان يجرفهم معه في بعض الأحيان، وكانت المحاولات التي يبذلونها لإصلاح مفاسد الكنيسة يحول دون نجاحها عدم رغبة الكهنة في الإقلاع عن عاداتهم السيئة أو محافظتهم على مصالحهم المكتسبة. على أنهم هم أنفسهم لم يبلغوا من الفساد المبلغ الذي يصورهم به المؤرخون المغالون، غير أنهم كانوا أكثر اهتماماً بإعادة سلطان البابوية السياسي منهم بإعادة صلاح الكنيسة الأخلاقي. وفي ذلك يقول جوتشيارديني: "إن الحبر الأعظم ليوصف بالصلاح ويمتدح إذا لم يكن أكثر شراً من غيره من الناس"(114). ولقد بذل وعاظ ذلك العصر العظام جهوداً جبارة لإصلاح ذلك الفساد؛ ونذكر منهم على سبيل المثال القديس برناردينو السينائي، وروبيرتودا لتشي Roberto da Lecce، وسان جيوفني دا كابستراتوا، وسفنرولا. ولقد كانت عظاتهم، وكان مستمعوهم، جزءاً من لون ذلك العصر وطبيعته. فقد كانوا ينددون بالرذيلة بأقوال مفصلة واضحة، أذاعت بين الناس شهرتهم وجذبت إليهم القلوب؛ وقد أقنعوا رجال الإقطاع بالتخلي عن عادة الأخذ بالثأر، وبالعيش في وئام وسلام، وحملوا الحكومات على أن تطلق سراح المدنيين المفلسين، وتسمح للمنفيين بأن يعودوا إلى أوطانهم آمنين؛ وعادوا بالآثمين الذين قست قلوبهم من الذنوب إلى ما أهملوه من الصلاة ومن مراعاة لقواعد الدين.
غير أن هؤلاء الوعاظ الأقوياء أنفسهم قد أخفقوا فيما كانوا يبتغون؛ فقد عادت إلى الظهور تلك الغرائز التي تكونت خلال مائة ألف عام قضاها الإنسان صياداً متوحشاً، حين خرجت من قشرة الأخلاق التي تشققت بعد أن فقدت تأييد العقيدة الدينية واحترام السلطة العليا والقانون الثابت المقرر. ولم يعد في مقدور الكنيسة التي كانت من قبل تحكم الملوك أن تحكم أو تطهر نفسها. وكان انهيار الحرية السياسية في دولة إثر دولة قد ثلم حدة الشعور الوطني الذي بث روح الحرية والنبل في حكومات مدن العصور الوسطى المستقلة؛ فلم نعد نرى إلا أفراداً بعد أن كنا نرى مواطنين. ووجد أولئك الأفراد أنفسهم محرومين من الاشتراك في حكم بلادهم، وبأيديهم ثروة ضخمة، فاتجهوا إلى طلب اللذات، حتى إذا داهمهم الغزو الأجنبي وجدهم، في أحضان العاهرات. وقد ظلت دول المدن قرنين من الزمان توجه قواتها، وحذقها، ودهائها، وغدرها، بعضها نحو بعض، حتى أصبح مستحيلا عليها، أن تضم شملها للوقوف أمام عدو لها مشترك. ولما أخفق الوعاظ أمثال سفنرولا في كل ما لجئوا إليه من وسائل لإصلاح الحال، أخذوا يدعون الله ليصب جام غضبه على إيطاليا، وتنبئوا بان روما سيحيق بها الخراب، وأن الكنيسة ستحطم وتتبدد(115). وملت فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا إرسال الخراج لسد نفقات الحروب التي تشنها الولايات البابوية، ولتمكين الإيطاليين من أن يحيوا حياتهم المترفة، وأخذوا ينظرون بعين الدهشة والحسد إلى شبه الجزيرة التي فقدت إرادتها وجردت من سلطانها، والتي تستهوي القلوب بجمالها وثرائها. وتجمعت الطيور الجارحة وأخذت تحلق في سماء إيطاليا توشك أن تنقض عليها لتشبع منها نهمها.
قصة الحضارة ج21 ص148-152، النهضة -> الصَّدعُ -> الانحلال الأخلاقي -> نظرة شاملة)
 
حروب المسيحية ضد نفسها في جزء بسيط من عالمها!
فرنسا تغزو ايطاليا
واخلاق الحرب البشعة الداخلية
نموذج بعد بعثة النبي بسبعة قرون
:"وكان نصف بيوت المالكين في أوربا يزخر وقتئذ بالدسائس الدبلوماسية يريد كل واحد منها أن يحرز قصب السبق في الاستيلاء على الغنيمة. ونادت فرنسا بأنها صاحبة الحق الأول، لأسباب كثيرة، منها أن جيان جاليدسو لسكونتي قد زوج ابنته فالنتينا (1387) من لويس أول دوق لأورليان، وكان ثمن هذه الصلة الطيبة المريحة بأسرة مالكة هو اعترافه بحقها وبحق الذكور من أبنائها في أن يرثوا دوقية مزيلان إذا لم يكن له وريث ذكر من صلبه؛ وتم ذلك فعلا حين توفي فيلبو ماريا فسكونتي (1447). فاستولى صهره فرانتشيسكو اسفوردسا حينئذ على ميلان بدعوى أنها من حق زوجته بيانكا ابنة فيلبو ماريا؛ ولكن شارل دوق أورليان طالب بعرش ميلان بوصفه ابن فالنتينا، ونادى بأن آل اسفوردسا مغتصبون، وألن تصميمه على الاستيلاء على الإمارة الإيطالية إذا ما حانت له الفرصة.
وفضلا عن هذا فإن شارل دوق أنجو كان قد حصل كما يقول الفرنسيون على مملكة نابلي من البابا إربان الرابع (1266)، مكافأة له على حماية البابوية من ملوك آل هوهنشتاوفن؛ ثم أوصت جوانا Joanna الثانية ملكة نابلي بهذه المملكة إلى رينيه Rene دوق أنجو (1435)؛ وكان ألفنسو صاحب أرغونة قد طالب بها بدعوى أن جوانا قد تبنته إلى وقت ما، أقام بالقوة بيت أرغونة على عرش نابلي. وحاول رينيه أن ينتزع المملكة منه ولكنه لم يفلح؛ وانتقل حقه القانوني فيها بعد موته إلى لويس التاسع ملك فرنسا؛ وفي عام 1482 دعا سكستس الرابع- وكان على خلاف مع نابلي- لويس للاستيلاء على ميلان وقال "إنها ملك له". وحدث في ذلك الوقت أن شن حلف من الدول الإيطالية الحرب على البندقية فلجأت في يأسها إلى لويس تطلب إليه أن يهاجم نابلي أو ميلان، وقالت إنها تفضل أن يهاجم الاثنتين. وكان لويس وقتئذ مشغولا بتوحيد فرنسا، ولكن ابنه شارل الثامن ورث حقه في نابلي واستمع إلى المنفيين من أهلها وإلى أنصار أسرة أنجو في بلاطه، وأدرك أن تاج نابلي كان منضما إلى تاج صقلية، وإن هذا مرتبط بتاج بيت المقدس. لهذا خطرت بباله تلك الفكرة الكبيرة، أو لعل أحداً أوعز إليه بها، وهي الاستيلاء على نابلي وصقلية، على أن يتوج بعدئذ ملكاً على بيت المقدس. ثم يقود حملة صليبية لقتال الأتراك. وحدت في عام 1489 أن قام النزاع بين أنوسنت الثامن وبين نابلي، فعرض إنوسنت المملكة على شارل إذا قدم للاستيلاء عليها. لكن الإسكندر الثالث (1494) حذر الملك من عبور الألب وإلا كان نصيبه الحرمان؛ غير أن الكردنال جوليانو دلا روفيري عدو الإسكندر- الذي حارب فيما بعد حين أصبح هو البابا يوليوس الثاني ليطر الفرنسيين من إيطاليا- قدم إلى شارل في ليون Lyons وحرضه على غزو إيطاليا وخلع الإسكندر. ووجه سفنرولا دعوة أخرى إلى شارل يرجو من ورائها أن يخلع هذا الملك بيرو ده ميديتشي عن عرش فلورنس والإسكندر عن عرش البابوية في روما، وقبل كثير من أهل فلورنس أن يتولى الراهب زعامتهم. وأخيراً عرض لدوفيكو صاحب ميلان على شارل أن يسمح له باختراق أملاك ميلان إذا ما اعتزم أن يوجه حملة إلى نابلي، وكان الباعث على هذا خوفه من أن تهاجمه نابلي نفسها.
ووجد شارل أن نصف إيطاليا يشجعه فأخذ يستعد لغزو نابلي. وأراد أن يحمي جناحيه أثناء الغزو فنزل عن أرتوا Artois وفرانش كمتيه Francho Compte إلى مكسمليان إمبراطور الدولة الرومانية، كما نزل عن رسيون Rousillote وسرداني Cerdagen إلى فرديناند ملك أسبانيا، ونفخ هنري السابع بمبلغ كبير من المال نظير تخليه عن المطالبة بمقاطعة بريطاني الفرنسية. وفي شهر مارس من عام 1494 حشد جيشه في ليون، وكان مؤلفاً من 18.000 من الفرسان، و 22.000 من المشاة، وسير أسطولا ليضمن ولاء جنوي لفرنسا، فاسترد في الثامن من سبتمبر بلدة رابلو Rapallo من قوة نابلية كانت قد نزلت بها؛ وروعت أنباء المذبحة الرهيبة التي أعقبت هذه المعركة الأولى إيطاليا كلها التي لم تتعود إلا المذابح المعقولة. وفي ذلك الشهر عينه عبر شارل وجيشه جبال الألب ووقف عن أستى Asti. وسار لدوفيكو صاحب ميلان، وإركولي صاحب فيرارا لمقابلته. وأقرضه لدوفيكو مالا؛ وعاقت إصابة شارل بالجدري تنفيذ خطة الغزو الموضوعة، فلما شفي قاد جيشه مخترقا أراضي ميلان إلى تسكانيا؛ وكان في وسع القلاع المقامة على حدود فلورنس أن تقاومه، ولكن بيرو ده ميديتشي جاء بنفسه ليسلمها إليه ومعها بيزا وليفورنو Livorno. وفي السابع عشر من نوفمبر اجتاز شارل ونصف جيشه مدينة فلورنس؛ وأعجبت جماهير الشعب بمنظر الفرسان الذي لم تشاهد مثله من قبل، وساءهم ما ارتكبه الجند من السرقات الصغيرة، ولكنهم ذهب عنهم الروع حين رأوهم يمتنعون عن السب والنهب. وفي شهر ديسمبر تقدم شارل نحو روما. لقد سبق أن نظرنا إلى لقاء الملك والبابا من وجهة نظر الإسكندر، وبقي أن نقول إن شارل سلك مسلكا معتدلا، فلم يطلب إلا أن يسمح لجيشه بحرية المرور في لاتيوم، وأن يتولى هو الوصاية على الأمير جم التركي السجين البابوي (وكان يمكن استخدامه مطالباً بالسلطنة وخليفة إذا ما سير حمله ضد الأتراك)، وأن يصحبه سيزارى بورجيا ليكون رهبنة لديه. ووافق الإسكندر على هذه الشروط، وزحف الجيش نحو الجنوب (25 يناير سنة 1495)، لكن بورجيا لم يلبث أن فر، وكان في وسع الإسكندر بعد فراره أن يعدل خططه الدبلوماسية.
وفي الثامن والعشرين من فبراير دخل شارل نابلي دخول الظافرين دون أن يلقى مقاومة. وسار في المدينة ومن فوقه مظلة من القماش الموشى بخيوط الذهب يحملها أربعة من أعيان نابلي. ويتلقى تحيات الجماهير. وأظهر رضاءه وتقديره بأن خفض الضرائب وعفا عمن قاوموا مجيئه؛ وأقر نظام الاسترقاق بناء على طلب الأعيان الذين كانوا يحكمون الأرض الواقعة وراء المدينة. وظن أن الأمن قد استتب له فأصبح آمناً مطمئناً، فتوانى وعمد إلى الراحة والاستمتاع بجو البلدة ومناظرها الجميلة، وكتب بلهجة حماسية إلى دوق بوربون يصف الحدائق التي كان يعيش في وسطها، والتي لا ينقصها إلا حواء كي تصبح جنة النعيم؛ وأبدى دهشته مما في المدينة من عمائر، وتماثيل، وصور زيتية، وأعتزم أن يأخذ معه إلى فرنسا طائفة ممتازة من الفنانين الإيطاليين؛ وإلى أن يحين ذلك الوقت بعث إلى فرنسا بسفينة محملة بالتحف الفنية المسروقة من المدينة. وسحرته نابلي بجمالها فأنسته كل شيء عن بيت المقدس وعن حربه الصليبية.
وبينما هو يلهو ويضيع الوقت سدى في نابلي، وبينما كان جيشه يستمتع نساء الشوارع والمواخير، فيصاب "بالمرض الفرنسي" أو ينشر هذا الداء الوبيل بين الأهلين، كانت المتاعب تتجمع من خلفه. ذلك أن أعيان نابلي حرموا في كثير من الحالات من ضياعهم التي انتزعت منهم لترد إلى ملاكها من أسرة أنجو أو للوفاء بما على شارل من ديون لخدمه، وذلك بدلا من أن يكافأ هؤلاء الأعيان على ما قدموا من معونة لخلع مليكهم السابق؛ يضاف إلى هذا أن جميع مناصب الدولة قد أعطيت للفرنسيين، ولم يكن شيء يستطاع الحصول عليه منهم إلا إذا قدم لهم من الرشاوى ما أغضب الأهلين لتجاوزه القدر الذي اعتادوا تقديمه. ثم أن جيش الاحتلال أضاف الإهانة إلى الأذى بما كان يظهره من احتقاره للشعب الإيطالي، فلم تمض إلا أشهر قليلة حتى خسر الفرنسيون ما قوبلوا به من ترحيب واستبدلوا به كرها يتربص بهم الدوائر، ويترقب الفرصة التي تتاح له لطرد الغزاة. فلما كان اليوم الحادي والثلاثون من شهر مارس انضم الإسكندر الرجل المرن الذي لا يكاد يتلقى الطعنة حتى يفيق منها، ولدوفيكو التائب النادم على ما فعل، وفرديناند الغضوب، ومكسمليان الغيور الحسود، ومجلس شيوخ البندقية الحذر، انضم هؤلاء في حلف للدفاع المشترك عن إيطاليا. ومضى شهر على الملك شارل وهو يجوس خلال نابلي يمسك الصولجان بإحدى يديه ويمسك بيده الأخرى كرة- نظنها تمثل الكرة الأرضية- قبل أن يدرك أن الحلف الجديد يعد جيشاً لقتاله. وفي الحادي والعشرين من مايو عهد أمر نابلي إلى ابن عمه كونت مونبنسييه Montpensier وزحف على رأس نصف جيشه نحو الشمال، فلما وصل ذلك الجيش البالغ عدده عشرة آلاف مقاتل إلى فورنوفو Fornovo القائمة على نهر تارو من أملاك بارما وجد أن جيشاً عدته أربعون ألف رجل بقيادة جيان فرانتشيسكو جندساجا مركيز مانتوا يسد عليه الطريق. وفي الخامس من يوليه سنة 1495 امتحنت قوة الجيوش الإيطالية والفرنسية وخططهما العسكرية لأول مرة. وأساء جندساجا إدارة المعركة وإن كان قد حارب ببسالة. فلم يشترك في القتال إلا نصف جنده؛ لم يكن الإيطاليون مستعدين من الناحية العقلية لقتال محاربين لا يرحمون من يقع في أيديهم، فولى الكثيرون منهم الأدبار؛ وضرب فارس بايار وهو صبي في العشرين من عمره أروع المثل لرجاله بشجاعته ومجازفته في القتال، وحتى الملك نفسه قاتل قتال الأبطال. وكانت المعركة غير حاسمة ادعى فيها كلا الطرفين أنه هو الظافر، وخسر الفرنسيون قافلة مؤنهم ولكنهم ضلوا المسيطرين على الميدان، ولما جن الليل تقدموا نحو أستى دون أن يلقوا مقاومة، وفيها كان ينتظرهم لويس دوق أورليان الثالث ومعه المدد، وفي شهر أكتوبر عاد شارل إلى فرنسا بعد أن خسر الكثير من سمعته ولكنه لم يصب بأذى شديد.
وكانت النتائج الإقليمية لهذه المعركة تافهة: أهمها أن جندسالو Gonzalo "القائد العظيم" طرد الفرنسيين من نابلي وكلبريا، وأعاد أسرة أرغونة إلى عرشها في شخص فيديريجو Federigo الثالث (1496). أما النتائج البعيدة لهذا الغزو فقد تجاوزت كل حد. فقد أثبت تفوق الجيش القومي على الجنود المرتزقة المأجورة، ويستثنى من هذا الحكم العام الجنود السويسريون المرتزقون وإن يكن هذا الاستثناء مؤقتاً قصير الأجل. ذلك أن أولئك الجنود السويسريون المسلحين بالحراب البالغ طولها ثماني عشرة قدماً والمنظمين في فرق متراصة متلاصقة كانت سداً منيعاً شائكاً أمام الفرسان الزاحفين. ولهذا قدر لأولئك الجنود أن يكسبوا كثيراً من الوقائع. ولكن هذه القوة الهائلة التي أعادت إلى الذاكرة صفوف المقدونيين المتراصة في حروب الإسكندر الأكبر لم تلبث أن أضحت عديمة الجدوى أمام تقدم المدفعية. ولعل هذه الحرب هي التي حدث فيها لأول مرة أن وضعت المدافع على العربات فأمكن بذلك توجيهها بسهولة في الاتجاهات المختلفة وتغيير مدى مرماها. وكانت هذه العربات تجرها الخيول لا الثيران (كما كانت العادة في إيطاليا حتى ذلك الوقت). وقد جاء الفرنسيون إلى الميدان- كما يقول جوتشيارديني- بعدد كبير من "مدافع الميدان والمدافع المدمرة التي لم تر إيطاليا مثيلا لها من قبل"(3). وقاتل الفرسان الفرنسيون أحفاد أبطال فرواسار، قتال الأبطال في فورنوفو، ولكن الفرسان أيضاً ما لبثوا أن خضعوا للمدافع. وهكذا تبدلت الحال عما كانت في العصور الوسطى؛ فقد كانت فنون الدفاع في تلك الأيام متقدمة على وسائل الهجوم، وكان هذا سبباً في عدم تشجيع الحروب. أما الآن فقد أخذت أساليب الهجوم تتقدم على أساليب الدفاع، وأصبحت الحرب من ثم أكثر سفكاً للدماء. وثمة نقطة أخرى عظيمة الخطر: تلك هي أن حروب إيطاليا قلما كانت حتى ذلك الوقت تشغل أهلها أنفسهم، وكانت تلحق الأذى بحقولهم أكثر مما تلحقه بأرواحهم؛ أما الآن فقد قدر لهم أن يروا إيطاليا كلها يحل بها الدمار وتخضب أرضها بالدماء؛ وعرف السويسريون في تلك الحرب التي دامت طوال العام ما تنطوي عليه سهول لمباردي من خصب ونماء، وطالما غزوها بعدئذ المرة بعد المرة. وأدرك الفرنسيون أن إيطاليا منقسمة ومشتتة وأنها تنتظر المغير الفاتح. نعم إن شارل الثامن قد ألقى بنفسه في أحضان العاشقات، وكاد يمتنع عن التفكير في نابلي، ولكن ابن عمه ووريثه كان أصلب منه عوداً، وما لبث لويس الثاني عشر أن عاود الكرة.تجدد الهجوم.
1496-1505
وأضاف مكسمليان "ملك الرومان"- أي الألمان- فصلاً آخر إلى هذه المسرحية، فلقد كان يؤلمه ويقض مضجعه أن يفكر في أن عدوته الكبرى، أي فرنسا، تعظم وتقوى، وتطوقه باستيلائها على إيطاليا. وكانت قد ترامت إليه أخبار غنى هذه البلاد وجمالها وضعفها، ولم تكن قد أصبحت بعد دولة، بل كانت شبه جزيرة. وكانت له هو أيضاً ادعاءات ومطالب في إيطاليا؛ فقد كانت مدن لمباردي لا تزال من الوجهة القانونية إقطاعيات تابعة للإمبراطورية، وكان من حقه قانوناً بوصفه رئيس الإمبراطورية الرومانية المقدسة أن يعطيها لمن يشاء؛ ألم يَرشُه لدوفيكو بالفلورينات وببيانكا أخرى لكي يمنحه دوقية ميلان؟ يضاف إلى هذا أن كثيرين من الإيطاليين دعوه إلى المجيء: فلدوفيكو والبندقية قد طلبا إليه (1496) أن يدخل إيطاليا ويساعدهما على صد هجوم فرنسي آخر يهدد البلاد، ولبى مكسمليان الدعوة ومعه عدد قليل من الجند، واستطاعت البندقية بدهائها أن تقنعه بالهجوم على ليفورنو، فرضة فلورنس الأخيرة على البحر المتوسط، وبذلك يضعف هذه المدينة التي لا تزال متحالفة مع فرنسا ومنافسة على الدوام للبندقية، وأخفقت حملة مكسمليان لأنها كانت يعوزها التنسيق والتأييد الكافي، فعاد إلى ألمانيا دون أن يستفيد من هذا الدرس إلا الشيء القليل (ديسمبر سنة 1496).
وفي عام 1498 أصبح دوق أورليان هو لويس الثاني عشر. وإذ كان هو حفيد فالنتينا فسكونتي فإنه لم ينس قط ما كانت أسرته تدعيه حقوق لها في ميلان؛ وإذ كان هو ابن عم شارل الثامن، فقد ورث مطالب آل أنجو في نابلي. ومن أجل هذا فإنه في يوم تتويجه اتخذ فيما اتخذ من ألقاب: دوق ميلان، وملك نابلي وصقلية، وإمبراطور بيت المقدس. وأراد أن يمهد السبيل لنفسه فجدد معاهدة سلام مع إنجلترا وعقد معاهدة مثلها مع أسبانيا؛ ثم أغرى البندقية فوقعت معه شروط حلف "للاشتراك في حرب ضد دوق ميلان لدوفيكو اسفوردسا وضد أي إنسان آخر عدا الحبر الأكبر بابا روما لكي يرد إلى صاحب الجلالة الملك المسيحي... دوقية ميلان ملكه الشرعي القديم"، ووعدها في نظير ذلك بكريمونا، والأراضي الواقعة شرق أدا. ثم عقد بعد شهر من ذلك التاريخ (مارس 1499) اتفاقاً مع المقاطعات السويسرية لكي تمده بالجنود نظير إعانة مالية قدرها عشرون ألف فلورين. وفي شهر مايو استدرج الإسكندر إلى محالفته بأن أعطى سيزارى بورجيا زوجة فرنسية يجري في عروقها الدم الملكي، ودوقية فالنتنوا Valntinois وقطع له عهدا بأن يساعده على استرداد الولايات البابوية. وشعر لدوفيكو بالضعف أمام هذه الأحلاف؛ ففر إلى النمسا، ولم تمض إلا ثلاثة أسابيع حتى اختفت دوقيته بعد أن اقتسمتها البندقية وفرنسا، وفي السادس من شهر أكتوبر سنة 1499 دخل لويس ميلان ظافراً ورحبت به إيطاليا كلها تقريباً عدا نابلي.
والواقع أن إيطاليا بأجمعها عدا البندقية ونابلي أضحت وقتئذ تحت سيطرة فرنسا أو نفوذها؛ فقد أسرعت مانتوا، وفيرارا، وبولونيا وأعلنت خضوعها واستسلامها؛ وتمسكت فلورنس بحلفها مع فرنسا لأنها رأت فيه الوسيلة الوحيدة لحمايتها من سيزارى بورجيا. وحتى فرديناند ملك أسبانيا، رغم ما بينه وبين الأسرة الأرجونية من وشائج القربى، عقد في غرناطة (11 نوفمبر سنة 1500) ميثاقاً سرياً مع ممثلي لويس يتضمن الاشتراك معه في فتح جميع إيطاليا الواقعة جنوب الولايات البابوية. وعاونهما الإسكندر السادس الذي كان بحاجة إلى معونة فرنسا لاسترداد هذه الولايات، بأن أصدر مرسوماً بابوياً خلع به فيدريجو الثالث ملك نابلي وأيد تقسيم مملكته بين فرنسا وأسبانيا.
وفي شهر يوليه عام 1501 زحف جيش فرنسي بقيادة استيورت دوبيني Stuart Daubigny الاسكتلندي، وسيزاري بورجيا، وفرانتشيسكو دي سان سفرينو الذي غدر بلدوفيكو بعد أن كامن من المقربين إليه، زحف هذا الجيش مخترقاً إيطاليا إلى كابوا واستولى عليها ونهبها، وتقدم صوب نابلي، ورأى فيديريجو أن أنصاره جميعاً قد انقضوا من حوله فسلم المدينة إلى الفرنسيين نظير قبوله لاجئاً آمناً في فرنسا ومعاشاً سنوياً. وفي هذه الأثناء استولى القائد الأكبر جندسالو القرطبي Gonzalo de Cordoba على كالبريا وأبوليا باسم فرديناند وإزبلا. وأرسل فيرانتي بن فيديريجو سجيناً إلى أسبانيا بناء على طلب فرديناند، وذلك بعد أن سلم تارنتو Taranto ووعده جندسالا بأن سيطلق سراحه. ولما أن اتصل الجيش الأسباني بالجيش الفرنسي على الحدود الواقعة بين أبوليا وأبروتسي قام النزاع بينهما على الحد الفاصل بين ما استولى عليه كل منهما؛ وقامت الحرب بين أسبانيا وفرنسا على تقسيم الأسلاب. واغتبط بذلك الإسكندر أيما اغتباط (يوليه سنة 1502)، وقال البابا لسفير البندقية: "لو أن الله لم يثر الخلاف بين فرنسا وأسبانيا، لما عرفنا الآن أين نكون؟".
وابتسم الحظ للفرنسيين في هذه الحرب الجديدة إلى حين، فقد اجتاحت قوات دوبني جنوبي إيطاليا كله تقريباُ: وحبس جندسالو جنوده في مدينة بارليتا الحصينة. وهنا وقعت حادثة من حوادث العصور الوسطى الطريفة ألفت شيئاً من البهجة على هذه الحرب المشئومة (13 فبراير سنة 1503). ذلك أن ضابطاً فرنسيا وصف الإيطاليين بأنهم شعب مخنث جبان دنيء، فثار قائد إحدى الفرق الإيطالية في الجيش الأسباني لهذه الإهانة وطلب أن يقاتل ثلاثة عشر من الفرنسيين مثلهم من الإيطاليين. واتفق على هذا، وأرجئ القتال، ووقف الجيشان المتحاربان يشاهدان النزال، بينما كان المحاربون الستة والعشرون يقتتلون حتى أثخِن الفرنسيون الثلاثة عشر بالجراح التي أعجزتهم عن مواصلة البراز ووقعوا أسرى في أيدي الإيطاليين، وأخذت جندسالو الشهامة الأسبانية التي لا تقل في بعض الأحيان عن القوة الأسبانية، فاقتدى الأسرى من ماله الخاص وردهم إلى جيشهم(6).
وأعادت هذه الحادثة الروح المعنوية لجنود القائد الأكبر، فخرجوا من بارليتا، وهزموا المحاصرين وبددوا شملهم، ثم هزموا الفرنسيين مرة أخرى عند تشيرنيولو Cerignolo. وفي السادس عشر من شهر مايو سنة 1503 دخل جندسالو نابلي دون أن يلقى مقاومة، ورحب به أهلها، وهم اللذين يستطيع كل منتصر أن يعتمد دائماً على ترحيبهم، وسير لويس الثاني عشر جيشاً آخر لقتال جندسالو، فالتقى ذلك القائد به على شاطئ كارجليانو، وأوقع به هزيمة منكرة (29 ديسمبر سنة 1503)؛ وغرق بيرو ده ميديتشي الذي كان يفر مع الفرنسيين في أثناء الفوضى التي أعقبت هذه الهزيمة؛ ثم ضرب جندسالو الحصار على جيتا Gaeta آخر معاقل الفرنسيين في جنوبي إيطاليا؛ وعرض على من فيها شروطاً سخية سرعان ما قبلوها (أول يناير سنة 1504)؛ وأظهر من الوفاء في المحافظة على هذه الشروط بعد أن جرد الفرنسيين من سلاحهم ما جعلهم يلقبونه بالقائد الظريف لأنه خرج عن جميع السوابق أشد الخروج(7). وعقد لويس مع الأسبان معاهدة بلوا Blois (1505)، التي أنقذ فيها شرفه ظاهرياً بأن نزل عن حقوقه في نابلي إلى قريبته جرمين ده فوا Germaine de Foix التي تزوجت بعدئذ فرديناند الأرمل وجاءت له بنابلي بائنة لها، وبذلك أضيف تاج نابلي وتاج صقلية إلى تيجان فرديناند النهم، وبقيت بعدئذ مملكة نابلي تابعة لأسبانيا حتى عام 1707...أضحى نصف إيطاليا الآن في أيدي الأجانب: فقد كان جزؤها الجنوبي ملكاً لأسبانيا، وجزؤها الشمالي الغربي الممتد من جنوى مجتازاً ميلان إلى حدود كريمونا في يدي فرنسا، وكانت الإمارات الصغرى خاضعة لنفوذ فرنسا، ولم يكن فيها بلد مستقل استقلالاً نسبياً سوى البندقية والولايات البابوية، ولطالما اشتبكتا في حري متقطعة للاستيلاء على مدن رومانيا)
قصة الحضارة ج21 ص155-166، النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> تجدد الهجوم
 
يتبع حروب ايطاليا وعداء بابوي
يتبع غزو فرنسا لايطاليا
قال ديورانت:"حلف كمبريه
1508-1516 أضحى نصف إيطاليا الآن في أيدي الأجانب: فقد كان جزؤها الجنوبي ملكاً لأسبانيا، وجزؤها الشمالي الغربي الممتد من جنوى مجتازاً ميلان إلى حدود كريمونا في يدي فرنسا، وكانت الإمارات الصغرى خاضعة لنفوذ فرنسا، ولم يكن فيها بلد مستقل استقلالاً نسبياً سوى البندقية والولايات البابوية، ولطالما اشتبكتا في حري متقطعة للاستيلاء على مدن رومانيا. ذلك أن البندقية كانت تتوق إلى المزيد من الأسواق وإلى موارد الثروة في شبه الجزيرة لتعوض ما استولى عليه الترك من أسواقها ومواردها أو هددته طرق الملاحة البحرية إلى الهند عن طريق المحيط الأطلنطي. ولهذا اغتنمت فرصة موت الإسكندر ومرض سيزارى بورجيا للاستيلاء على فائنزا، ورافنا، وريميني، وأخذ يوليوس الثاني يضع الخطط لاستعادتها لنفسه؛ فأقنع لويس ومكسمليان في عام 1504 بأن يضعا حداً لنزاعهما الذي يخالف تعاليم الدين المسيحي، وأن ينضما إليه في مهاجمة البندقية، وأن يقتسما فيما بينهما أملاكها في شبه الجزيرة(8). ولم يجد مكسمليان في نفسه ما يمنعه من قبول هذا العرض، لكن خزائنه كانت خاوية، ولم تحقق هذه المؤامرة نتيجة ما. غير أن الفكرة ظلت تراود يوليوس وظل هو يحاول إخراجها إلى حيز الوجود.
ففي العاشر من ديسمبر دبرت مؤامرة كبرى في كمبريه ضد البندقية، انضم إليها الإمبراطور مكسمليان لأن البندقية كانت قد انتزعت جورتسا Goriza، وتريست، وبردينوني، وفيومي من سيطرة الإمبراطور، وتجاهلت حقوقه الإمبراطورية في فيرونا وبدوا، وأبت عليه وعلى جيشه الصغير حرية المرور إلى روما لتحقيق الهدف الذي طالما تمناه وهو أن يتوّجه البابا إمبراطوراً. وانضم لويس الثاني عشر إلى هذا الحلف لأن النزاع فجر بين فرنسا والبندقية حول اقتسام شمالي إيطاليا. وانضم إليه كذلك فرديناند ملك أسبانيا لأن البندقية أصرت على الاحتفاظ ببرنديزى، وأترانتو Otranto وغيرهما من ثغور أبوليا التي ظلت عدة قرون جزءا من مملكة نابلي، ولكن البندقية استولت عليها أثناء المتاعب التي لاقتها البندقية في عام 1495. وانضم يوليوس للحلف (1509) لأن البندقية لم تكتف برفض الجلاء عن رومانيا، بل إنها فضلا عن ذلك لم تتردد في الجهر برغبتها في الاستيلاء على فيرارا- التي تقر بأنها إقطاعية بابوية. وكانت الخطة التي وضعتها الدول الأوربية وقتئذ هي أن تستولي فيما بينها على جميع أملاك البندقية أرض إيطاليا، فتسترد أسبانيا ما كان لها من المدن على شاطئ البحر الأدرياوي، ويسترد البابا إقليم رومانيا، ويحصل مكسمليان على بدوا، وفيتشندسا وتريفيزو، وفريولي، وفيررنا، ويستولي لويس على بيرجامو وبريشيا، وكريما، وكريمونا، ووادي نهر أدا. ولو قدر النجاح لهذه الخطة لانمحت إيطاليا من الوجود، ولوصلت فرنسا وألمانيا إلى نهر البو، وكادت أسبانيا تصل إلى التيبر، ولأحاطت أملاك الأجانب بالولايات البابوية وضيقت عليها الخناق ولحُطمت البندقية التي كانت وقتئذ خط الدفاع ضد زحف الأتراك. ولم تتقدم دولة إيطالية لمعونة البندقية في هذه الأزمة الطاحنة، ذلك أنها كانت قد أغضبتها كلها تقريباً بجشعها، حتى أن فيرارا نفسها التي كانت ترتاب فيها بحق خذلتها وانضمت إلى الحلف، وعرض جندسالو النبيل، الذي أقاله فرديناند من منصبه بغلظة وجفاء، خدماته على البندقية ليكون قائداً لجيوشها، ولكن مجلس شيوخها لم يجرؤ على قبول هذا العرض، لأن أمله الوحيد في البقاء هو أن يفصل من الحلف أعضاءه واحداً بعد واحد. ولم تكن البندقية تستحق العطف وقتئذ لأنها وقفت بمفردها أمام قوات ضخمة لا قبل لها بها، ولأن أغنياءها الأوفياء وفقراءها المجندين كافحوا جنياُ إلى جنب بإصرار وعزم لا يكاد يُتصور، فانتصروا في الميدان نصرا كلفهم ما لا يطيقون. وعرض مجلس الشيوخ أن يرد فائنزا وريميني للبابوية، ولكن يوليوس الغاضب الثائر رد على هذا العرض بقرار الحرمان وأرسل جنوده ليستولوا من جديد على مدن إقليم رومانيا، بينما كان زحف الفرنسيين يرغم البندقية على تركيز قواتها في لمباردي. وهزم الفرنسيون البنادقة عند أنيادلو في معركة من أشد المعارك هولا وأكثرها إراقة للدماء في أيام النهضة (14 مايو سنة 1509)، قتل فيها ستة آلاف رجل في يوم واحد. واستدعى مجلس السيادة في ساعة محنته ويأسه جنوده إلى البندقية وتركوا الفرنسيين يحتلون أراضي لمباردي، وجلوا عن أبوليا ورومانيا، واعترفت فيرونا وفيتشندسا، وبدوا بأنها لم يعد في وسعها أن تحميها، وأطلقت لها كامل حريتها في أن تسلم للإمبراطور أو تقاومه حسبما تختار. وانقض مكسمليان بأكبر جيش شهدته تلك البلاد حتى ذلك الوقت- فقد كانت عدته نحو 36.000 مقاتل- وضرب الحصار على بدوا. وسبب الفلاحون المحيطون بالمدينة لجيش الإمبراطور أكثر ما يستطيعون من المتاعب، وحارب أهل بدوا نفسها ببسالة تشهد بصلاح الحكم الذي كانوا يستمتعون به تحت راية البندقية. ونفذ صبر مكسمليان، وكان على الدوام شديد الحاجة إلى المال، فغادر الميدان وهو غاضب مشمئز إلى التيرول، وأصدر يوليوس أمره فجأة إلى جنوده أن ينسحبوا من الحصار، وعادت بدوا وفيتشندسا مختارتين إلى سيطرة البندقية، وسرح لويس الثاني عشر جيشه بعد أن حصل على نصيبه من الأسلاب.
وكان يوليوس قد أدرك قبل ذلك الوقت أن انتصار الحلف انتصاراً كاملاً إذا تم كان هزبمة للبابوية، لأنه يترك البابوات تحت رحمة دولتين
من دول الشمال، وبدأت حركة الإصلاح الديني فيهما تفصح عن نفسها. ولهذا فإنه عندما عرضت عليه البندقية أن تجيبه إلى كل ما يطلب "قبل ما عرضته عليه وكان قد أقسم أنه لن يقبل" (1510). وبعد أن استرد كل ما يرى أنه ملك حق مشروع للكنيسة، أصبح حراً في أن يوجه غضبه نحو الفرنسيين الذين كانوا وقتئذ يسيطرون على لمباردي وتسكانيا، فكانوا بذلك جيراناً للولايات البابوية غير مرغوب فيهم. وأقسم وهو في ميرندولا ألا يحلق لحيته حتى يطرد الفرنسيين من إيطاليا. وهكذا طالت اللحية الفخمة الجليلة التي تظهر في صورة رافائيل. ونادى البابا وقتئذ في إيطاليا بذلك الشعار المثير: "ليخرج البرابرة!" Fuori I barbari!، ولكنه نداء جاء بعد فوات الأوان. واعتزم أن ينفذ خطته فألف في 11 أكتوبر سنة 1511 "حلف الوحدة المقدسة" منه ومن البندقية وأسبانيا، ثم ما لبث أن ضم إليه سويسرة وإنجلترا. ولم ينته شهر يناير سنة 1512 حتى استردت البندثية مدينتي بريشيا وبرجامو بمعاونة الأهلين الفرحين المستبشرين. واستبقت فرنسا معظم جنودها في بلادها للدفاع عنها إذا ما هاجمتها إنجلترا وأسبانيا.
غير أن قوة فرنسية واحدة بقيت في إيطاليا بقيادة شاب جريء في الثانية والعشرين من عمره من رجال البلاط يدعى جاستون ده فوا Gaston de Foix. ومل هذا الشاب الخمول والجمود، فسار على رأس جيشه وفك الحصار أولا عن بولونيا ثم هزم البنادقة في إيزولا دلال اسكالا Isoal della scala ثم استعاد بريشيا، وأحرز أخيراً نصراً مؤزراً ولكنه غالي الثمن عند رافنا (11 أبريل سنة 1512). وخضبت ميدان القتال دماء عشرين ألف قتيل، وأصيب جاستون نفسه، وهو يحارب في الصفوف الأمامية، بجراح مميتة.
ونال يوليوس بالمفاوضة ما كان قد خسره في ميدان القتال؛ فقد أقنع
مكسمليان أن يوقع هدنة مع البندقية، وأن ينضم إلى الاتحاد الذي تألف لقتال فرنسا، وأن يستدعي الأربعة آلاف من الجنود الألمان الذين كانوا جزءاً من الجيش الفرنسي. ثم زحف السويسريون بتحريضه على لمباردي بقوة تبلغ عشرين ألفاً. وتقهقرت القوات الفرنسية، التي أفقدتها الانتصارات عدداً كبيراً من أفرادها، وتخلت عنها الفرقة الألمانية، أمام جحافل السويسريين والبنادقة والأسبان المحدقين بها، وارتدت إلى جبال الألب، بعد أن تركت حاميات قليلة في بريشيان، وكريمونا، وميلان، وجنوي. وهكذا استطاع الاتحاد المقدس بعد شهرين من الهزيمة التي كانت تبدو ماحقة في رافنا أن يطر الفرنسيين من أرض إيطاليا بفضل الدبلوماسية البابوية، وسماه الإيطاليون محرر إيطاليا.
وعقد المنتصرون مؤتمر مانتوا (في أغسطس سنة 1512) لتوزيع الأسلاب، وفيه أصر يوليوس على أن تعطى ميلان إلى مسيمليانو اسفوردسا Masaimiliano Sforza ابن لدوفيكو، ونالت سويسرا لوجانو Lugano والإقليم االواقع عند رأس بحيرة مجيوري؛ وأرغمت فلورنس على أن يسترد عرشها آل ميديتشي واستعاد البابا كل الولايات البابوية التي استولى عليها آل بورجيا، ثم حصل فضلا عن هذا على بارما، وبياتشند، ومودينا، ورجيو، ولم ينج من قبضة الحبر الأكبر إلا فيرارا. ولكن يوليوس أورث خلفه مشكل كثيرة. أولها أنه لم يطرد الأجانب حقيقة من إيطاليا: فقد كان السويسريون لا يزالون مستولين على ميلان بوصفهم حراساً لاسفوردسا؛ ولا يزال الإمبراطور يطالب بفيتشندسا وفيرونا مكافأة له، وأما فرديناند الكاثوليكي أكثر المساومين دهاء فقد دعم قوة أسبانيا في جنوبي إيطاليا. وكانت قوة فرنسا وحدها هي التي قضى عليها في إيطاليا. فقد سير لويس الثاني عشر جيشاً آخر للاستيلاء على ميلان، ولكن السويسريين بددوا شمله عند نوفارا Novara وقتلوا من رجاله ثمانية آلاف (6 يونيه سنة 1513). ولم يكن باقياً للويس عند وفاته من أملاكه الإيطالية التي كانت من قبل رحبة إلا موطئ قدم مزعزع في جنوى.
ولكن فرانسس الأول أراد أن يسترد هذه الأملاك جميعها. وكان إلى هذا قد سمع (كما يؤكد لنا برانتوم Brantome) أن سنيورا كليريتشي الميلانية Signore Clerice of Milan أجمل نساء إيطاليا، وتحرق شوقا إليها(9). ولهذا زحف في شهر أغسطس من عام 1515 على رأس جيش مؤلف من أربعين ألف رجل وتسلق بهم ممراً جديداً في جبال الألب؛ وكان ذلك أكبر جيش شهدته هذه المعارك. وتقدم السويسريون لملاقاته؛ ونشبت بين الجيشين معركة عنيفة في مارنيانو على مبعدة أميال قليلة من ميلان، ودامت يومين كاملين (13-14 ديسمبر سنة 1515). وحارب فيها فرانسس نفسه حرب الأبطال ومنحه الفارس بابار في ميدان المعركة نفسه لقب فارس تكريماً له واعترافاً ببسالته. وترك السويسريون وراءهم في أرض المعركة 13.000 قتيل، وتخلوا هم واسفوردسا عن ميلان، ووقعت المدينة مرة أخرى غنيمة في أيدي الفرنسيين.
وطلب مستشارو ليو العاشر في تقبلهم وترددهم نصيحة مكسفلي. فحذرهم من أن يقفوا موقف الحياد بين الملك والإمبراطور بحجة أن البابوية ستكون حقيقة لا حول لها أمام المنتصر، كما لو كانت قد اشتركت في القتال؛ وأشار بعقد اتفاق مع فرنسا بوصفها أهون الشرين(10)، وأمر ليو بالعمل بهذه النصيحة؛ وفي الحادي عشر من ديسمبر عام 1515 اجتمع فرانسس والبابا في بولونيا ليضعا شروط الاتفاق. ووقع السويسريون صلحاً شبيهاً بهذا مع فرنسا؛ وانسحب الأسبان إلى نابلي؛ وحاقت الخيبة مرة أخرى بالإمبراطور، فسلم فيرونا للبندقية. وهكذا انتهت (1516) حروب حلف كمبريه الذي بدل فيه المشتركون مواقفهم كأنهم في مرقص؛ وعادت الأحوال في آخر الأمر في جوهرها كما كانت في أوله؛ ولم يفصل قط في شيء إلا في أن تكون إيطاليا هي الميدان الذي تتطاحن فيه الدول الكبرى وتنشب فيه بينها معركة أملا في السيادة على أوربا. وسلمت البابوية بارما وبياتشندسا لفرنسا، واستردت البندقية أملاكها في شمالي إيطاليا، ولكنها حل بها الخراب ماليا؛ وخربت إيطاليا ولكن الفنون والآداب ظلت فيها مزدهرة، سواء كان ذلك بدافع الحادثات المفجعة أو بقوة الماضي الرضي الهنيء. لكن المستقبل كان يخبئ لها أفدح الكوارث.
قصة الحضارة ج21 ص166-172، النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> حلف كمبريه
 
ماذا قال البابا الهولندي أدريان السادس -في عصر النهضة- عن روما عاصمته بعد أن ذهب اليها ليكون بابا روما :"واشمأزت نفسه مما شاهده في روما من الفساد الجنسي ومن بذيء القول والكتابة، وقال ما قاله لورندسو ولوثر من أن عاصمة المسيحية بؤرة أقذار ومظالم. ولم يكن يعنى أقل عناية بما عرضه عليه الكرادلة من روائع الفن القديم، وندد بالتماثيل ووصفها بأنها من بقايا الوثنية، وسور قصر بلفدير الذي كان يحتوي على أحسن مجموعة في أوربا من التماثيل الرومانية القديمة(19). وكان يفكر فوق ذلك أن يضيق الخناق على الكتاب الإنسانيين والشعراء، فقد خيل إليه أنهم يعيشون ويكتبون كما يعيش ويكتب الوثنيون الذين نفوا المسيح. ولما أن هجاه فرانتشيسكو بيرني بأقذع الألفاظ ووصفه بأنه هولندي همجي عاجز عن فهم ما ينطوي عليه الفن الإيطالي والآداب والحياة الإيطالية من ظرف ورقة، أنذره أدريان هو وأمثاله بأنه سوف يغرق جميع الهجائين في نهر الثيبر...ولم يشأ أن يتهم الكرادلة أنفسهم بالرذيلة، ولكنه اتهمهم بأنهم يتركون الرذيلة تتفشى في قصورهم دون أن تلقى عقاباً. وطالبهم بأن يضعوا حداً لترفهم، وأن يقنعوا بإيراد أقصاه 6000 دوقة (75.000 دولار) في العام...ولما أن انتهز الطغاة المطرودون من بلادهم فرصة سياسة البابا السليمة فاستولوا على زمام السلطة في بيروجيا، وريميني وغيرهما من الولايات البابوية، أهاب أدريان بالإمبراطور شارل وبالملك فرانسس أن يتصالحا أو في القليل أن يتهادنا، ويشتركا في صد الأتراك الذين كانوا يستعدون لغزو رودس. ولكن شارل فضل أن يوقع مع هنري الثامن ملك إنجلترا معاهدة ونزر Windsor (19 يونية سنة 1522) التي تعهدا فيها بالاشتراك في الهجوم على فرنسا، وفي الحادي والعشرين من ديسمبر استولى الأتراك على رودس آخر معاقل المسيحية في شرقي البحر المتوسط، وترددت الإشاعات بأنهم يضعون الخطط للنزول بأبوليا والاستيلاء على إيطاليا المضطربة المختلة النظام. ولما اعتقل بعض الجواسيس الأتراك في روما بلغ الهلع بين السكان حداً أذكر الناس بالخوف الذي انتشر فيها حين توقعت أن يغزوها هنيبال بعد انتصاره في كاني عام 216 ق.م. وكان مما أترع الكأس ألما لأدريان أن الكردنال فرانتشيسكو سدريني كبير وزرائه وموضع ثقته، ونائبه الأول في المفاوضات التي كانت تهدف إلى عقد صلح أوربي، أخذ يدبر في السر مع فرانسس هجوماً فرنسياً على صقلية. ولما أن كشف أدريان المؤامرة، وترامى إليه أن فرانسس يحشد الجند على حدود إيطاليا، خرج عن الحياد وعقد حلفاً بين البابوية وشارل الخامس. وبعد أن تحطم جسمه وروحه على هذا النحو أصابه المرض ومات في الرابع عشر من سبتمبر عام 1623.
قصة الحضارة ج21 ص177-181 النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> أدريان السادس
:"وكان مولده من أسرة وضيعة في أوترخت Utrecht (1459)، وأشرب حب العلم والتقى من طائفة "إخوان الحياة المشتركة" في ديفنتر، Deventer والفلسفة المدرسية واللاهوت في لوفان Louvain؛ واختير في الرابعة والثلاثين من عمره مديراً لتلك الجامعة، ثم عين في سن السابعة والأربعين مربياً لشارل الخامس، وفي عام 1515 أرسل في بعثة إلى أسبانيا، وفيها أعجب فرديناند بمقدرته الإدارية، وباستقامته الخلقية إعجاباً حمله على تعيينه أسقفاً لطرطوشة. ولما توفي فرديناند ساعد أدريان الكردنال اكسمينس Ximenes على أن يحكم أسبانيا أثناء غيبة شارل؛ وفي عام 1520 أصبح نائباً للإمبراطور على قشتالة. وظل وهو يتدرج في معارج الرقي متواضعاً معتدلاً في كل شيء عدا قوة العقيدة، بسيطاً في معيشته، يتعقب الملحدين بحماسة جمعت قلوب الشعب على حبه. ووصلت أنباء فضيلته إلى روما فاختار ليو كردنالا، ولما انعقد المجلس المقدس بعد وفاة ليو رشح أدريان للجلوس على كرسي البابوية، وكان ذلك فيما يظهر على غير علم منه، وأكبر الظن أنه كان بتأثير شارل الخامس. وفي الثاني من شهر يناير سنة 1522 اختير للجلوس على كرسي البابوية رجل من غير الإيطاليين لأول مرة منذ عام 1378، ومن التيوتون لأول مرة منذ عام 1161. "قصة الحضارة ج21 ص177- النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> أدريان السادس
 
بابا آخر ابن زنى -كلمنت السابع-وحروب مسيحية- مسيحية ونهب روما
وقتل عشرات الآلاف من أهلها
في معارك تشترك فيها الباباوية بعد موت البابا الهولندي-انظر المنشور السابق- ايام لوثر وسليمان القانوني وماذا فعل القانوني
يقول ديورانت :" واتخذ له من المستشارين جيان ماتيو جيرتى Gianmatteo Giberti الذي كان يميل إلى فرنسا، ونيقولوس فن اسكونبرج Nikolaus von Segonberg الذي كان يميل إلى الإمبراطورية، وترك عقله مشتتاً بين الرجلين، ولما أن قرر الانحياز إلى فرنسا- قبل أسابيع قليلة من الكارثة التي حلت بها في بافيا- استنزل على رأسه وعلى بلده كل ما يتصف به شارل من مكر ودهاء، وكل ماله من قوة، وكل ما يثور في قلوب الجيش البروتستنتي من غضب دفين صبه على روما.
وكانت الحجة التي يبرر بها كلمنت موقفه أنه يخشى قوة الإمبراطور وفي يده لمباردي ونابلي؛ ويرجو بانحيازه إلى فرنسا أن يحصل على صوتها حين يعرض شارل فكرته التي تراوده وتقلق خاطره وهي تأليف مجلس عام في أمور الكنيسة. ولما عبر فرانسس جبال الألب بجيش جديد قوامه 26.000 من الفرنسيين، والإيطاليين، والسويسريين، والألمان، واستولى على ميلان، وحاصر بافيا، وقع كلمنت سراً شروط حلف مع فرانسس (12 ديسمبر سنة 1524) في الوقت الذي كان يؤكد فيه لشارل وفاءه ومودته؛ ثم ضم فلورنس والبندقية إلى هذا الحلف، وأجاز لفرانسس المنتصر على كره منه أن يجمع الجند من الولايات البابوية. وأن يرسل جيشاً ليحارب نابلي مخترقاً أراضي البابا. ولم يغفر له شارل قط هذه الخديعة، وأقسم قائلاً: "لأذهبن إلى إيطاليا، وأثأر لنفسي ممن أساءوا إلي، وعلى رأسهم البابا الجبان النذل. ولعل مارتن لوثر سيصبح رجلا ذا شأن في يوم من الأيام"(25). وفكر بعض الناس وقتئذ في اختيار لوثر بابا، وأشار عدد ممن يحيطون بالإمبراطور أن يطعن في اختيار كلمنت بحجة أنه ابن غير شرعي(26).
وسير شارل جيشاً ألمانياً بقيادة جورج فن فرندسبرج Georg von Frundsberg وماركيز بيسكارا Marquis of Pescara ليهاجم الفرنسيين خارج بافيا. وعطلت الحركات العسكرية الضعيفة عمل المدفعية الفرنسية، في الوقت الذي كانت فيه نيران البنادق الأسبانية تهزأ برماح السويسريين؛ وكاد الجيش الفرنسي أن يفنى عن آخره في موقعة من أشد المواقع الحاسمة في التاريخ (24-25 من فبراير سنة 1525). وسلك فرانسس في هذه المحنة مسلك الشهامة والكرامة: فبينما كان جيشه يتقهقر إذا هو يقفز في وسط صفوف العدو ويقتل بيده منهم مقتلة عظيمة؛ ولما قتل جواده من تحته لم ينقطع عن القتال، حتى إذا خارت قواه آخر الأمر، ولم يعد يقوى على المقاومة، وقع في الأسر مع عدد من ضباطه. وكتب من خيمة بين المنتصرين إلى أمه رسالة كثيراً ما يقتبس نصف عباراتها المقتبسون، قال فيها "لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف- وإلا بدني فهو سليم". وأمر شارل وكان وقتئذ في أسبانيا أن يرسل الملك ليسجن في قلعة قرب مدريد.
وانحازت ميلان إلى الإمبراطور، وشعرت إيطاليا كلها أنها أصبحت تحت رحمته، ونفحته دولة إيطالية في إثر دولة بالرشا المختلفة لكي يسمح لها بالبقاء. وخشي كلمنت أن يغزو جيش الإمبراطور بلاده، وأن يثور الشعب في فلورنس على آل ميديتشي، فخرج من حلفه مع فرنسا وأمضى (في أول أبريل سنة 1525) معاهدة مع شارل ده لانوى Charles de Lannoy عامل شارل على نابلي، تعهد فيها البابا والإمبراطور بأن يتعاونا فيما بينهما؛ فيحمي الإمبراطور آل ميديتشي في فلورنس ويرضى أن يقيم فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا نائباً عنه في ميلان؛ على أن يدفع البابا لشارل مقابل إهاناته السابقة له، وضماناً لخدمات الإمبراطور المستقبلية، مائة ألف دوقة ...وفي الثاني والعشرين من مايو وقع فرانسس، وكلمنت، والبندقية، وفلورنس، وفرانتشيسكو ماريا اسفوردسا حلف كنياك، وتعهدوا فيه بإرجاع آستي، وجنوي إلى فرنسا، وإعطاء اسفوردسا ميلان إقطاعية فرنسية، وأن ترد إلى كل ولاية إيطالية كل ما كان لها من أملاك قبل الحرب، وأن يُفتدى الأسرى الفرنسيون بمليو كرون، وان تمنح نابلي لأي أمير إيطالي يرضى أن يؤدي عنها إلى ملك فرنسا جزية سنوية مقدارها 75.000 دوقة. ووجهت دعوة رقيقة إلى الإمبراطور لتوقيع هذا الاتفاق؛ وقرر الحلف الجديد أنه إذا رفض الإمبراطور توقيع شروطه، حاربه حتى يطرد هو وجميع قواته من إيطاليا(28).
وندد شارل بالحلف وأعلن أنه يناقض الأيمان المقدس الذي أقسمه فرانسس، كما يناقض شروط المعاهدة التي وقعها كلمنت مع لانوى. وإذ كان هو غير قادر على الذهاب إلى إيطاليا في ذلك الوقت، فقد كلف هوجو ده منكادا Hugo de Moncada بأن يجتذب كلمنت إلى صفه بالوسائل الدبلوماسية، فإذا عجز أثار ثورة على البابا يقوم بها آل كولنا وسكان روما. وقام منكادا بهذه المهمة أحسن قيام، وأوثق صلات المودة بين كلمنت وآل كولنا، وأقنع البابا بأن يسرح الجنود الذين يقومونه بحراسته، وسمح لآل كولنا بأن يمضوا في تآمرهم للاستيلاء على روما. وبينما كانت المسيحية ماضية في الغدر والاقتتال على هذا النحو، كان الأتراك بقيادة سليمان القانوني يضربون أهل المجر الضربة القاسية في موهاكس Mohacs (29 أغسطس سنة 1526)، ويستولون على بودابست (10 سبتمبر). وارتاع كلمنت لخوفه من أن لا تصبح أوربا بروتستنتية فحسب، بل مسلمة أيضاً، فأعلن إلى الكرادلة أنه يفكر في الذهاب إلى برشلونة بنفسه ليطلب إلى شارل أن يعقد الصلح مع فرانسس، وأن يضم العاهلان قواتهما لمحاربة الأتراك. وكان شارل في ذلك الوقت يجهز أسطولاً، يقصد به كما قيل في روما، أن يغزو إيطاليا ويخلع الباباوفي العشرين من سبتمبر دخل آل كولنا روما ومعهم خمسة آلاف جندي، وتغلبوا على ما لقوا من مقاومة ضعيفة، ونهبوا قصر الفاتيكان، وكنيسة القديس بطرس، وبورجو فتشيو القريبة منها، وفر كلمنت إلى قلعة سانت أنجيلو. وجرد قصر البابا من كل ما فيه بما في ذلك الصور التي رسمها رافائيل على أقمشة الجدران وسرق تاج البابان فسه، والأواني المقدسة، والمخلفات المدخرة، والملابس البابوية الثمينة؛ وخرج جندي استخفه المرح فارتدى ثوب البابا الأبيض، وقلنسوته الحمراء، وأخذ يوزع البركات البابوية بوقار ساخر(30). وفي اليوم التالي رد منكادا لكلمنت التاج البابوي، وأكد له أن الإمبراطور لا يضمر للبابوية إلا الخير، وأرغم البابا المرتاع أن يوقع هدنة مع الإمبراطورية تدوم أربعة أشهر، وأن يعفو عن آل كولنا.
ولم يكد منكادا ينسحب إلى نابلي حتى حشد كلمنت قوة بابوية جديدة قوامها سبعة آلاف جندي، أمرها في آخر شهر أكتوبر بأن تزحف على حصون آل كولنا، وطلب في الوقت نفسه إلى فرانسس الأول وهنري الثامن أن يمداه بالعون، فأما فرانسس فقد بعث إليه يعتذر ويسوف، وأما هنري فقد كان منهمكا في الواجب الثقيل واجب إنجاب ابن يخلفه، ولهذا لم يرد بشيء. وكان ثمة جيش بابوي آخر في الجنوب أعجزته عن العمل سياسة التسويف الغادرة في ظاهرها التي جرى عليها فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الذي لم ينس أن ليو العاشر أخرجه من دوقيته، ولم يكن يرى في سماح أدريان وكلمنت له بالعودة إليها والبقاء فيها فضلا لهما كبيراً يشكره لهما. وكان مع هذا الجيش قائد أعظم منه بسالة هو الشاب جيوفني ده ميديتشي الوسيم الخلق ابن كترينا اسفوردسا الذي ورث عنها روحها العالية والذي سمى جيوفني دلي باندي نيري- جيوفني ذا الرباط الأسود- لأنه هو وجنوده قد لبسوا شرائط سوداً حزناً على موت ليو(31). وكان جيوفني هذا يتحرق شوقاً إلى قتال ميلان، ولكن فرانتشيسكو ماريا تغلب عليه...
نهب رومة 1527
وكان شارل لا يزال مقيماً في أسبانيا يحرك منها بيادقه التي يسيطر عليها سيطرة الساحر من بعيد. ومنها أمر عماله بأن يحشدوا جيشاً جديداً. فاتصل هؤلاء بجورج فن فرندنسبرج الزعيم التيرولي المغامر، الذي كانت جنوده الألمانية المرتزقة قد ذاعت شهرتها في الآفاق. ولم يكن في وسع شارل أن يعرض على هذا الزعيم المغامر وجنوده إلا القليل من المال، ولكن عماله منوهم بالنهب الكثير في إيطاليا. وكان فرندسبرج لا يزال كاثوليكيا بالاسم، ولكنه كان شديد العطف على لوثر، ويكره كلمنت لأنه في رأسه عدو الإمبراطورية اللدود. ورهن هذا الزعيم المغامر قصره وسائر أملاكه، وحتى حلى زوجته نظير مبلغ 38.000 جولدن . واستطاع بهذا المال أن يجمع عشرة آلاف من الرجال الراغبين أشد الرغبة في المغامرة والنهب، ليس منهم من يتردد أن يحطم حربته فوق رأس البابا؛ ويقال إن منهم من كان يحمل حبلا معقوداً ليشنقه به(32). وفي نوفمبر من عام 1526 عبر هذا الجيش المرتجل الجبال وزحف على بريشيا، وجازى ألفنسو دوق فيرارا البابوية على ما بذلته من جهود متكررة لخلعه، بأن أرسل إلى فراندسبرج أربعة من أقوى مدافعه...وعبر غوغاء فرندسبرج نهر ألبو كما فعل جوفني ونهبوا حقول لمباردى الغنية نهباً بلغ من شدته أن السفراء الإنجليز وصفوا أرضه بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت بأنها "أشقى أرض وجدت في العالم المسيحي في وقت من الأوقات"(33). وكان قائد جيش الإمبراطور وقتئذ في ميلان هو شارل دوق بوربون، الذي عين وقتئذ قائداً أعلى للجيوش الفرنسية لما أظهره من البسالة في مارنيانو. وكان شارل هذا قد خرج على فرانسس حين حرمته أم الملك، حسب اعتقاده، من أراضيه الخاصة؛ فانحاز إلى الإمبراطور، وكان له نصيب في هزيمة فرانسس في بافيا، وعين دوقاً لميلان. وأراد وقتئذ أن يجند جيشاً لمساعدة شارل ويؤدي له مرتباته، ففرض من الضرائب على أهل ميلان ما كاد يقتلهم قتلا، وكتب إلى الإمبراطور يقول إنه استنزف دماء المدينة ؛ وكان جنوده الذين أسكنهم في بيوت أهلها لا يفتئون يضايقون بالسرقة، والمعاملة الوحشية، وهتك الأعراض، مما حمل كثيرين منهم على أن يشنقوا أنفسهم أو ينتحروا بإلقاء أنفسهم من الأماكن العالية في الشوارع(34) وفي أوائل شهر فبراير من عام 1527 خرج بوربون على رأس جيشه من ميلان، وضمه إلى جيش فرندسبرج بالقرب من بياتشندسا. واتجه هذا الجيش المختلط الذي بلغت عدته الآن 22.000 جهة الشرق متتبعاً طريق إيميليا، متجنباً المدن الحصينة، ولكنه ينهب كل ما يجده في طريقه ويترك البلاد وراءه قاعاً صفصفاً.
ولما تبين كلمنت أن ليس لديه من الجنود ما يكفي لصد الغزاة، توسل إلى لانوي أن يعمل لعقد هدنة. وجاء هذا الحاكم من نابلي ووضع شروط هدنة مدتها ثمانية أشهر: وتتضمن أن يقف كلمنت وكولنا الحرب ويتبادلا ما فتحاه من الأرضين. ودفع البابا ستين ألف دوقة يرشو بها جيش فرندسبرج حتى يبقى خارج الولايات البابوية. ورأى كلمنت أنه أوشك على الإفلاس، وظن أن فرندسبرج وبوربون سيراعيان شروط الاتفاق الذي وقعه نائب الإمبراطور بشرف وأمانة، فخفض جيش روما إلى ثلاثمائة جندي لا أكثر. غير أن جنود بوربون السارقين النهابين ثاروا غضباً حين سمعوا بشروط الهدنة. ذلك أنهم ظلوا أربعة أشهر يقاسون آلاف الصعاب وكل ما يأملونه هو نهب روما؛ وكانت كثرتهم الغالبة ترتدي الآن أسمالا بالية، وتمشي حافية الاقدام؛ وكانوا كلهم جياعاً ولم يتناول منهم أحد مرتبه. ولهذا أبوا أن يُشتروا بمبلغ تافه لا يزيد على ستين ألف دوقة، يعرفون أنه لن يصل إلى جيوبهم منه إلا جزء قليل. وإذ كانوا يخشون أن يوقع بوربون شروط الهدنة، فقد حاصروا خيمته، ورفعوا عقيرتهم قائلين: "الأجور! الأجور!" واختفى بوربون في مكان آخر، ونهب الجند خيمته، وحاول فرندسبرج أن يهدئ ثورة غضبهم، ولكنه أصابته نوبة تشنجية في أثناء هذه المحاولة. ولم يشترك بعدها في الحملة حتى مات بعد عام واحد من ذلك الوقت. وتولى بوربون القيادة العليا على شرط أن يزحف على روما. وفي التاسع والعشرين من مارس بعث برسله إلى لانوي وكلمنت يبلغهما أنه لا يستطيع كبح جماح جنوده، ولهذا فهو مرغم على نقض الهدنة.
وأدركت روما أخيراً أنها هي الفريسة الضعيفة المقصودة. وفي يوم خميس الصعود (8 أبريل) بينما كان كلمنت يمنح بركته لجموع محتشدة تبلغ عشرة آلاف نفس أمام كنيسة القديس بطرس، إذ صعد شخص متعصب متهور، لا يلبس إلا ميدعة من الجلد، فوق تمثال القديس بولص وصاح في وجه البابا قائلا: "أيها النّغل اللائط! إن روما ستدمر بسبب خطاياك؛ فكفر عن ذنوبك وارجع عن غيك! وإذا لم تصدقني فسترى بعد أربعة أشهر ما يحل بها". وفي مساء يوم عيد الفصح أخذ هذا الزاهد الناسك- بارتولميو كاروسي Bartolommeo Carosi الذي يطلق عليه اسم براندانو Brandano- يطوف بالشوارع وهو يصيح: "روما، كفري عن ذنوبك! إنهم سيعاملونك كما عامل الله سدوم وعمورة"...وفي السادس من مايو اقتربت جموع بوربون من الأسوار مستترة بالضباب، ولكنها صدت عنها بوابل من الرصاص، وأصيب بوربون نفسه برصاصة قضت عليه لساعته تقريباً. ولكن هذا لم يمنع المهاجمين من أن يعاودوا الهجوم، لأنهم لم يكن أمامهم غير واحدة من اثنتين، فإما أن يستولوا على روما وإما أن يموتوا جوعاً. واتفق أن عثروا على موقع ضعيف في خط الدفاع، فاخترقوه عنوة، وتدفقوا إلى داخل المدينة، وحارب حرس رومة، والحرس السويسري ببسالة ، ولكنهما أبيدا عن آخرهما. وفر كلمنت، ومعظم الكرادلة المقيمين في المدينة ومئات من الموظفين إلى قلعة سانت أنجيلو حيث حاول تشيليني وغيره أن يوقفوا زحف الغزاة بنار المدفعية. ولكن الغزاة دخلوا المدينة من اتجاهات مختلفة أوقعت الارتباك في صفوف المدافعين، فمن المهاجمين من سترهم الضباب، ومنهم من اختلطوا بالفارين اختلاطاً لم تستطع معه مدافع القلعة أن تضربهم من غير أن تقتل معهم التي فقدت قوتها المعنوية، وما لبثت المدينة أن أصبحت تحت رحمة الغزاة.
ولما اندفع هؤلاء في شوارعها أخذوا يقتلون كل من واجهوه في طريقهم دون أن يفرقوا بين الرجال، والنساء، والأطفال. واشتد تعطشهم إلى سفك الدماء، فدخلوا مستشفى سانتو اسبيرتو (الروح القدس) وملجأ اليتامى فيه، وذبحوا كل من فيهما من المرضى كلهم تقريباً. ثم اتجهوا إلى كنيسة القديس بطرس، وذبحوا من لجأوا إلى هذا الحرم المقدس، ونهبوا بعدئذ كل ما استطاعوا أن يصلوا إليه من الكنائس والأديرة، وحولوا بعضها إلى إسطبلات لخيولهم، وقتلوا مئات من القساوسة، والرهبان، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وجردت كنيسة القديس بطرس والفاتيكان من أعلاهما إلى أسفلهما من كل ما فيهما، وربطت الخيول في حجرة رافائيل(36). ونهب كل بيت في روما وحرق الكثير منها عجا اثنين لا أكثر هما قصر الكانتشيلريا Cancelleria الذي كان يشغله الكردنال كولنا، وقصر آل كولنا الذي لجأت إليه إزبلادست، ومعها بعض أغنياء التجار، ونفح هؤلاء زعماء الغوغاء بخمسين ألف دوقة لينجوهم من الهجوم، ثم سمحوا لألفين من اللاجئين أن يحتموا وراء الأسوار. وأدى كل قصر من القصور الفدية نظير حمايته، ولكن هذه القصور نفسها هاجمتها جماعات أخرى واضطرت أن تفتدي نفسها من جديد. وقد حدث في معظم البيوت أن
اضطر من فيها جميعاً إلى افتداء أنفسهم بمبلغ محدد؛ فإذا لم يوفوا به كله تعرضوا لألوان من العذاب، وقتل منهم آلاف، وألقى بالأطفال من النوافذ العليا، لكي يضطر آباؤهم إلى إخراج ما اكتنزوه من المال وأخفوه، حتى غصت الشوارع بالقتل. وشهد الثرى دومينيكو صاحب الملايين بعينيه أبناؤه يقتلون، وابنته يهتك عرضها، وبيته يحرق، ثم انتهى الأمر بقتله هو نفسه. ويقول بعض الواصفين: "ولم تكن في المدينة كلها نفس فوق الثالثة من العمر لم تضطر إلى أن تبتاع سلامتها بالمال"(37).
وكان نصف الغوغاء المنتصرين من الألمان، لم يكن يشك معظمهم في أن البابوات والكرادلة لصوص، وأن ثروة الكنيسة في روما سرقة ونهب من الأمم، وفضيحة للعالم. وأرادوا هم أم يخففوا من هذه الفضيحة، فاستولوا على جميع ما في الكنائس من ثروة منقولة بما فيها الأواني المقدسة، والتحف الفنية، وخرجوا بها ليذيبوها أو يفتدوا بها أنفسهم، أو يبيعوها. أما المخلفات المقدسة فقد تركوها مبعثرة على الأرض. وارتدى أحد الجنود الأثواب البابوية، ولبس غيره قلانس الكرادلة، وقبلوا قدميه، ونادى جماعة من الغوغاء في الفاتيكان بلوثر بابا. وكان اتباع مذهب لوثر من اليجدون لذة خاصة في نهب أموال الكرادلة، وتقاضى فديات عالية منهم نظير تركهم أحياء، وتعليمهم مراسم دينية جديدة. ويقول جوتشارديني إن بعض الكرادلة "أركبوا دواب قذرة حقيرة، وأديرت وجوههم نحو ذيولها وعليهم ملابس مناصبهم وشاراتها، وطاف الغوغاء ببعضهم في شوارع المدينة معرضين لأقسى ضروب السخرية والاحتقار. وعذب بعض من لم يستطيعوا جمع كل ما طلب إليهم من مال الفداء تعذيباً قضى على حياتهم في التو والساعة أو بعد أيام قلائل"(38). وانزل أحد الكرادلة في قبر من القبور وهدد بأنه سيدفن حياً إن لم يأت بالفدية في زمن محدد؛ وجاء هذا المال في اللحظة الأخيرة(39). ولم يلق الكرادلة الألمان، الذين ظنوا أنفسهم بمنجاة من شر أبناء وطنهم، خيرا مما لقيه غيرهم. وهتكت أعراض الراهبات والمحصنات من النساء في بيوتهم أو في الأديرة نفسها، أو حملن ليشبع فيهم جماعات من الجند شهواتهم بوحشية في أماكنهم(40). وهوجمت النساء على أعين أزواجهن أو آبائهن؛ وأستبد اليأس بكثيرات من الفتيات بعد هتك أعراضهن فأغرقن أنفسهن في نهر التيبر(41).
وكان الدمار الذي حاق بالكتب، والمخطوطات، ونفائس الفن يجل عن الوصف. واستطاع فليبرت Philibert، أمير أورنج Prince of Orange الذي تولى وقتئذ قيادة هذه الحشود المختلة النظام، أو ما يشبه قيادتها، استطاع هذا الأمير أن ينقذ مكتبة الفاتيكان باتخاذها مقراً لقيادته، ولكن كثيرا من مكتبات الأديرة والمكتبات الخاصة التهمتها النيران، وضاعت بذلك كثير من المخطوطات القيمة. ونهبت كذلك جامعة روما وبدد شمل موظفيها. وشهد العالم كولوتشي بيته يحترق عن آخره هو وما جمعه فيه من المخطوطات وروائع الفن. وأبصر الأستاذ بالدوس تعليقاته الجديدة على كتاب بلني تتخذ لإشعال نار في معسكر الناهبين. وفقد الشاعر ماروني Marone قصائده، ولكنه كان أسعد حظاً من غيره؛ أما الشاعر باولو بمباتسي Paolo Bombatsi فقد قتل؛ وعذب العالم كرستوفور مارتشيلو Cristoforo Marcello بنزع أظافر يديه ظفراً بعد ظفر، أما الفنانان بيرينو دل فاجا Perino del Vaga، وماركنتوريو ريمندي Marcantorio Raimoudi وكثيرون غيرهما فقد عذبوا وجردوا من كل ما يمتلكون، وتفرق شمل مدرسة رافائيل فلم يبق لها وجود.
وليس من المستطاع إحصاء عدد من قتلوا في هذه الكارثة المدلهمة؛ وكل ما نستطيع أن نقوله أن ألفي جثة ألقيت في نهر التيبر من شاطئه الذي تقع عليه الفاتيكان؛ وأن 9.800 من الموتى دفنوا؛ وما من شك في أن عدداً آخر كبيراً من الناس قد قتل. وتقدر قيمة المنهوبات تقديراً متواضعاً بأكثر من مليون دوقة، وقيمة ما دفع من مال الفداء بثلاثة ملايين، وقدر كلمنت مجموع الخسائر بعشرة ملايين (125.000.000 دولار)(43).
ودام السلب والنهب ثمانية أيام، كان كلمنت في خلالها يشاهده بعينيه من أبراج سانت أنجيلو؛ ويتوسل إلى الله كما توسل إليه أيوب المعذب: "فلماذا أخرجتني من الرحم، كنت قد أسلمت الروح ولم ترني عين"(44)! وامتنع وقتئذ عن حلق لحيته، فلم يحلقها بعد ذلك أبداً، وظل سجيناً في القلعة من 6 مايو إلى 7 ديسمبر سنة 1527، وهو يأمل أن تأتيه النجاة من جيش دوق أربينو، أو من فرانسس، أو هنري الثامن. وسر شارل، وكان لا يزال وقتئذ في أسبانيا، عند سماعه بسقوط روما، ولكنه روع حين ترامت إليه أنباء وحشية الناهبين، وتنصل من تبعة هذه المنكرات، ولكنه أفاد كل الإفادة من ضعف البابا وخذلانه. وفي السادس من شهر يونيه أرغم ممثلوه- وقد يكون ذلك على غير علم منه- كلمنت بأن يوقع شروط سلم مهينة، وافق البابا بمقتضاها على أن يؤدي لهم وللجيش الإمبراطوري 400.000 دوقة، وأن يسلم إلى شارل مدائن بياتشتدسا، وبارما، ومودينا، وقصور أستيا، وتشفيتا فيتشيا، وسانت أنجيلو نفسها؛ وأن يبقى سجيناً في هذه القلعة الأخيرة حتى يسلم المائة والخمسين ألفا الأولى من هذا المبلغ، ثم ينقل بعدئذ إلى جائيتا Gaeta أو نابلي، حتى يقرر شارل نفسه مصيره. وسمح لجميع من كانوا في قلعة سانت أنجيلو بمغادرتها ماعدا كلمنت وثلاثة عشر من الكرادلة، الذين صحبوه إليها، وعهد إلى الجنود الأسبان والألمان بحراسة الحصن، وأبقوا البابا على الدوام تقريباً محصوراً في جناح ضيق منه، وصفه جوتشيارديني في 21 يونيه بقوله: "إنهم لم يتركوا له فيه من المتاع ما يساوي عشرة اسكودوات . وأسلم كل ما كان قد أخذه معه في فراره من الفضة والذهب إلى آسريه ليوفي بذلك مائة ألف دوقة من مال الفداء. وفي هذه الأثناء استولى ألفنسو صاحب فيرارا على رجيو ومودينا اللتين كان لفيرارا فيهما حقوق من أقدم الأزمنة، كما استولت البندقية على رافنا. وطردت فلورنس آل ميديتشي للمرة الثالثة وأعلنت يسوع المسيح ملكا على الجمهورية الجديدة، وبدا أن صرح البابوية كله مادياً وروحياً آخذ في الانهيار، وحركت مأساة هذا الخراب أسى الناس جميعاً حتى الذين كانوا يشعرون بأن خيانات كلمنت، وآثام البابوية، وشره حكومتها، وترف رجال الدين، ومظالم روما، كانت كلها خليقة ببعض العقاب. وسمع سادوليتو، وهو آمن مطمئن في كاربئتراس Carpentras بسقوط روما فروعه النبأ، وتحسر على مضي تلك الأوقات الحلوة الهادئة التي جعلها بمبو، وكستجليوني، وإزبلا، ومائة من العلماء، والشعراء، وأنصار العلم والفن، موطناً لهما حتى بلغا فيها ذروة مجدهما. وكتب إرازمس لسادوليتو يقول: "لم تكن كعبة الدين المسيحي، ومهد النفوس النبيلة، وموطن الآداب والعلوم والفنون فحسب، بل كانت أيضاً أم الأمم. وكم من الناس كانت أعز عليهم وأحلى لهم، وأعظم قيمة لديهم، من بلادهم نفسها!... ألا إن هذا الخراب لم يكن في الحقيقة خراب بلدة واحدة، بل كان خراب العالم أجمع"
قصة الحضارة ج21 ص183-198، النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي ->فصل كلمنت السابع، وفصل نهبَ رومة
 
الفأر ب 12 دولار
بعد نهب روما في الحرب المسيحية-المسيحية في القرن السادس عشر اي بعد بعثة النبي بعشرة قرون تقريبا انتشر الطاعون والنهب واصبحت روما مدينة الرعب والفساد كان هذا في عصر البابا ابن الزنى -كلمنت السابع-ولوثر وسليمان القانوني
ودمر المسيحيون فلورنس :"قاست فيها لمدينة الأهوال، فقد شح فيها الطعام حتى بيع الفأر أو القط بما يعادل اثني عشر دولاراً ونصف دولار"
يقول ديورانت عن الاحداث كلها
:"فشا الطاعون في روما عام 1522 ونقص عدد سكانها إلى 55.000، وما من شك في أن حوادث القتل، والانتحار، والهرب في أثناء الحرب قد أنقصتهم أيضاً إلى أقل من 40.000 في عام 1527. وفي شهر يوليه من هذا العام الأخير جاء الطاعون مرة أخرى في أشد شهور العام قيضاً، وانضم إلى القحط والجحافل المخربة فأصبحت روما مدينة الرعب، والفزع، والخراب. وامتلأت الكنائس والشوارع مرة أخرى بجثث الموتى، ترك الكثير منها يتعفن في الشمس، وكانت الروائح الكريهة المنبعثة من الرمم والأقذار قوية إلى حد لم يطقه السجانون والمسجونون ففروا من أسوار القلعة إلى حجراتهم، وحتى في داخل الحصن مات الكثيرون من الوباء، وكان من بينهم خدم البابا. ولم يفرق الطاعون بين الأهلين والغزاة. فمات من الالمان 2500 في روما في 22 يوليه سنة 1527، وأهلك الزهري، والملاريا، وسوء التغذية نصف عدد الجيش.
وشرع أعداء شارل يفكرون جدياً في إنقاذ البابا. وكان هنري الثامن يخشى ألا يمنحه الحبر السجين إذناً بتطليق كترين الأرغونية، فأرسل الكردنال ولزي إلى فرنسا ليفاوض فرانسس في الوسائل التي تتبع لإطلاق سراح كلمنت، وفي أوائل شهر أغسطس عرض الملكان على شارل الصلح و 2.000.000 دوقة على شرط أن يطلق سراح البابا والأمراء الفرنسيين، وأن ترد الولايات البابوية إلى الكنيسة. فلما رفض شارل هذا العرض، عقد فرانسس وهنري معاهدة أمين (18 أغسطس) التي تعهدا فيها بمحاربة شارل، وما لبثت البندق
واستولت القوات الفرنسية على جنوى وبافيا ونهبت المدينة الثانية نهباً يكاد يكون تاماً، ولا يقل عما أوقعه الجيش الإمبراطوري بروما، وخشيت مانتوا وفيرارا الفرنسيين القريبين منهما أكثر مما كانتا تخشيان البعيد عنهما، فانضمتا أيضاً إلى الحلف؛ غير أن القائد الفرنسي لوترك Lautrec عجز عن دفع رواتب جنده ولم يجرؤ على الزحف بهم على روما.
وأمل شارل في أن يسترد مكانته في العالم المسيحي الكاثوليكي، وأن يهدئ من تحمس الحلف المطرد الزيادة، فوافق على إطلاق سراح البابا مشترطاً ألا يقدم كلمنت أية مساعدة إلى الحلف، وأن يدفع من فوره إلى الجيش الإمبراطوري في روما 112.000 دوقة، وأن يقدم الرهائن ضماناً لحسن سلوكه. وجمع كلمنت المال اللازم، ببيع مناصب الكرادلة. ومنح الإمبراطور عشر أيراد الكنيسة في مملكة نابلي، وفي السابع من ديسمبر، غادر كلمنت سانت أنجيلو بعد أن قضى في السجن سبعة أشهر وتخفى في زي خادم، واتخذ سبيله وهو ذليل خارج روما إلى أرفينو، لا يشك من يراه في أنه رجل محطم.
وفي أربينو أسكن قصراً مخرباً خر سقفه، وتعرت جدرانه وتشققت، تصفر الريح في جوانبه. ولما قدم عليه السفراء الإنجليز ليحصلوا لهنري على طلاق زوجته، وجدوه مكوماً في الفراش، وقد اختفى نصف وجهه الممتقع الضامر تحت لحية طويلة خشنة. وفي هذا القصر قضى البابا الشتاء، ثم نقل بعده إلى فيتيربو. وفي السابع عشر من يناير جلا الجيش الإمبراطوري عن روما بعد أن حصل من شارل على كل ما يستطيع الحصول عليه منه، لأنه كان يخشى فتك الطاعون، واتخذ هذا الجيش سبيله جنوباً إلى نابلي. وزحف لوترك وقتئذ بجيشه جنوباً، مؤملاً أن يحاصر نابلي. ولكن الملاريا كانت قد أهلكت عدداً كبيراً من رجاله، وقضى هو نحبه، وتقهقرت جيوشه المختلة النظام نحو الشمال (29 أغسطس سنة 1528). وفقد كلمنت كل أمل في معونة الحلف، فعرض على شارل أن يستسلم له استسلاماً تاماً، وفي السادس من شهر أكتوبر سمح له بالعودة إلى روما. وروعه أن رأى أربعة أخماس بيوتها قد هجرها أصحابها، وآلاف المباني قد تخربت؛ وذهل الناس إذ رأوا ما أحدثه الغزو الذي دام سبعة أشهر في عاصمة العالم المسيحي.
ويبدو أن شارل فكر في وقت ما في خلع كلمنت، وضم الولايات البابوية إلى مملكة نابلي، واتخاذ روما عاصمة لإمبراطوريته، وأنزل البابا منزلته الأساسية وهي أن يكون اسقف روما وخاضعاً للإمبراطور(47). ولكن هذا إذا حدث كان من شأنه أن يدفع شارل إلى أحضان اللوثرين في ألمانيا؛ ويوقد نار الحرب الأهلية في أسبانيا، ويثير فرنسا، وإنجلترا، وبولندا، والمجر لمقاومته بجميع قواها المتحدة. ولهذا تخلى عن ذلك المشروع، واتجه إلى جعل البابوية حليفته التي تعتمد عليه، وعونه الروحي في تقسيم إيطاليا بينهما. ولهذا عقد مع البابا معاهدة برشلونة (29 يونيه سنة 1529) التي نزل فيها البابا عن أشياء كثيرة هامة: منها أن يرد للكنيسة الإمارات التي انتزعت منها، وأن يعيد بالسياسة أو بالقوة أقارب البابا الميديتشيين في فلورنس، وحتى فيرارا نفسها وعد أن يعيدها إلى البابا. ووافق البابا في نظير هذا على أن يمنح شارل مُلك نابلي بصفة رسمية، وأن يجيز للجيوش البابوية حرية المرور في الولايات البابوية، وأن يلتقي بالإمبراطور في بولونيا في العام التالي ليثبتا قواعد الصلح وينظما إيطاليا.
وبعد قليل من ذلك الوقت التقت مرجريت عمة شارل ونائبته في حكم الأراضي الوطيئة بلويزة أميرة سافوى، وأم فرانسس. واستعانتا بعدد من السفراء والمندوبين، ووضعتا صيغة معاهدة كمبريه (3 أغسطس سنة 1529) بين الإمبراطور والملك. وبمقتضى هذه المعاهدة أطلق شارل الأمراء الفرنسيين نظير فدية مقدارها 1.200.000 دوقة؛ وتخلى فرانسس باسم فرنسا عن جميع مطالبه في إيطاليا، وفلاندرز، وآرتوا، وأراس، وتورناي(48). وبهذا ترك حلفاء فرنسا في إيطاليا تحت رحمة الإمبراطور. ومن أغرب الأشياء أن هذه كانت أول زيارة لإيطاليا يقوم بها شارل؛ ذلك أنه فتح تلك البلاد قبل أن يراها. ولما ركع أمام البابا في بولونيا، وقبل قدم الرجل الذي مرغه في الثرى، كان ركوعه هذا هو المرة الأولى التي أبصر فيها كلا الرجلين صاحبه- الرجل الذي يمثل الكنيسة في عهد اضمحلالها ، والرجل الذي يمثل الدولة الحديثة الناشئة المنتصرة- وفارق كلمنت جميع كبريائه، وغفر جميع ما لحقه من إساءات؛ ولم يكن من ذلك بد؛ فلم يكن في وسعه آنئذ أن يتطلع إلى عون فرنسا؛ وكان لشارل جيش لا يقاوم في جنوبي إيطاليا وشماليها، ولم يكن يستطيع إعادة فلورنس لآل ميديتشي دون مساعدة الجيوش الإمبراطورية؛ وكان في حاجة إلى مساعدة الإمبراطور ضد لوثر في ألمانيا، وضد سليمان القانوني في الشرق... وأراد شارل أن يوطد دعائم هذه التسويات كلها فدعا جميع الإمارات إلى الانضمام إلى اتحاد من جميع أجزاء إيطاليا للدفاع المشترك عنها ضد الهجوم الخارجي- ماعدا هجوم شارل نفسه- وهي الوحدة التي سعى إليها دانتي عند الإمبراطور هنري السابع، وبترارك عند الإمبراطور شارل الرابع؛ وها هي ذي الآن تتحقق بالخضوع المشترك إلى دولة أجنبية. وبارك كلمنت هذا الاتفاق كله، وتوج شارل إمبراطوراً بأن وضع على رأسه تاج لمباردي الحديدي، وتاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة الإمبراطوري البابوي (22-24 فبراير سنة 1530).
وسجل حلف البابا والإمبراطور بدماء فلورنس. وتفصيل ذلك أن كلمنت اعتزم أن يعيد إلى أسرته ما كان لها من سلطان فدفع 70.000 دوقة إلى فليبرت أمير أورنج (الذي أبقاه سجيناً)، لينشئ بها جيشاً يجتاح به جمهورية الأثرياء التي أقيمت هناك في عام 1527. وسير فليبرت للقيام بهذه المهمة عشرين ألفاً من الجنود الألمان والأسبانيين، الذين اشترك الكثيرون منهم في نهب روما(49). واحتلت هذه القوة بستويا وبراتو Prato في شهر ديسمبر سنة 1529 وضربت الحصار على فلورنس. وأراد أهل المدينة البواسل أن يعرضوا المهاجمين لنيران المدفعية الفلورنسية، فدمروا كل بيت، وحديقة، وجدار، في مسافة تمتد ميلا كاملا حول حصون المدينة؛ وترك ميكل أنجيلو أعمال الحفر التي كان يقوم بها في قبور آل ميديتشي ليبني الحصون والأسوار أو يعيد بناء ما كان قد تهدم منها. ودام الحصار سبعة أشهر قاست فيها لمدينة الأهوال، فقد شح فيها الطعام حتى بيع الفأر أو القط بما يعادل اثني عشر دولاراً ونصف دولار(50). وسلمت الكنائس آنيتها، وسلم الأهلون صحافهم، وتبرعت النساء بحليهن، كي تحول كلها إلى نقود لابتياع المؤن أو الأسلحة. وأخذ الرهبان الملتهبون وطنية أمثال الراهب بنيديتو دا فويانا Benedetto Da Foiana يرفعون روح الأهلين المعنوية بعظاتهم الدينية. وفر رجل شجاع من أهل المدينة يدعى فرانتشيسكو فيروتشي إلى خارجها، ونظم قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل هاجم بهم المحاصرين لكنه هزم وخسر من جنوده ألفي رجل، وأسر هو نفسه، وجيء به أمام فيريدسيو مارمليدي Fadrizio Marmalidi وهو قائد من أهل كلابريا كان على رأس الخيالة في جيش الإمبراطور. وأمر مارمليدي أن يؤتى بفيروتشي Ferucci مقبوضاً عليه أمامه، وأخذ يدفع الخنجر في صدره حتى فارق الحياة(51). وأخذ القائد الذي استأجرته فلورنس ليتولى قيادة المدافعين عنها، وهو مالاتستا بجليوتي، يتفاوض لعقد اتفاق غادر مع المحاصرين، فأدخلهم المدينة، وصوب مدافعه نحو الفلورنسيين. واضطرت المدينة بتأثير الجوع واختلال النظام إلى التسليم (12 أغسطس سنة 1530).
وأصبح ألسندرو ده ميديتشي دوقاً على فلورنس وجلل أسرته العار بما ارتكبه من أعمال النهب وما أظهره من قسوة، فعذب مئات من الذين حاربوا دفاعاً عن الجمهورية، أو نفوا منها، أو قتلوا تقتيلا. وأرسل الراهب بنيديتو إلى كلمنت، فأمر هذا بسجنه في قلعة سانت أنجيلوا، وفيها سجن الراهب حتى هلك من الجوع كما تقول إحدى الروايات التي لا يوثق بصحتها(52). وحل مجلس السيادة الذي كان يتولى حكم المدينة، وأطلق من ذلك الوقت اسم بالاتسو فيتشيو (Palazzo Vacchio أي قصر فيتشيو) على بالاتسو دلا سنيوريا (Palazzo della Sagnoria أي قصر السيادة)؛ وأنزل الناقوس الضخم العظيم الذي يزن أحد عشر طناً والمسمى بالبقرة La Vacco والذي ظل أجيالا طوالا يدعو الناس من البرج الجميل إلى الاجتماع- أنزل هذا الناقوس من موضعه، وحطم تحطيما؛ "حتى لا تستمع بعدئذ إلى صوت الحرية العذب" كما يقول أحد كتاب اليوميات المعاصرين
قصة الحضارةج21 ص199-204 النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> شارل المنتصر
 
بلاد غربية تنفصل -إنجلترا، والدنمرقة، والسويد، ونصف ألمانيا، وجزء من سويسرا-عن الكنيسة في التطورات العلمانية وتحديدا في آخر حياة كليمنت السابع(البابا ابن الزنى)
:"خاتمة عصر
1528-1534
لم يمت كلمنت إلا بعد أن يدل سياسته مرة أخرى، وبعد أن تُوج ما أصابه من كوارث بخروج إنجلترا من قبضة الكنيسة (1531). ذلك أن انتشار ثورة لوثر في ألمانيا قد خلق لشارل الخامس متاعب وأخطاراً، كان يرجو أن تخف ...كذلك ساء كلمنت أن الإمبراطور قد منح فيرارا مدينتي رجيو ومودينا، فولى وجهه مرة أخرى شطر فرانسس، وقبل عرضاً تقدم به فرانسس ...لقد كان هنري الثامن، وقت تتويج البابا، لا يزال حامي حمى الدين الصحيح ضد لوثر؛ ولم تكن الثورة البروتستنتية قد اقترحت حتى ذلك الوقت تغييراً أساسياً في العقائد، بل كان كل ما طلبته هو إصلاحات في شؤون الكنيسة شرَعها مجلس ترنت Trent نفسه لها في الجيل التالي. تلك هي الحال وقت تتويجه، أما عند وفاته (25 سبتمبر سنة 1534)، فقد كانت إنجلترا، والدنمرقة، والسويد، ونصف ألمانيا، وجزء من سويسرا، كانت هذه كلها قد انفصلت انفصالاً تاماً عن الكنيسة، وكانت إيطاليا قد خضعت لسلطان أسبانيا خضوعاً شديد الخطر على التفكير الحر والحياة الحرة اللذين تمتاز بهما النهضة خيراً كانا أو شراً. وما من شك في أن عهده كان شر العهود كلها في تاريخ الكنيسة. لقد ابتهج كل انسان حين جلس كلمنت على كرسي البابوية، كما ابتهج كل إنسان عند موته، وكم من مرة دنس غوغاء روما قبره
قصة الحضارة ج21 ص218-219، النهضة -> الصَّدعُ -> الانهيار السياسي -> خاتمة عصر)
 
الفن الفارع من الروح وضلال أوروبا ، في عصر النهضة، من المسيحية إلى ظلمات العلمانية الضالة وانتصار الإسلام.
:"إذا ما ألقينا نظرة على فن البندقية إبان مجده، وحاولنا في حياء أن نقدر ما كان له من شأن في تراثنا الفني، حق لنا أن نقول على الفور إن فن فلورنس وفن روما هما وحدهما اللذان يضارعانه في جودته، وبهائه، واتساع مجاله. ولسنا ننكر أن مصوري البندقية، ومنهم تيشيان نفسه لم يتعمقوا كما تعمق الفنانون الفلورنسيون في أسرار مشاعر الناس، وأسباب يأسهم، ومآسيهم، وانهم كثيراً ما أولعوا باللباس والجسد ولعاً حال بينهم وبين الوصول إلى الروح. ولقد كان رسكن على حق حين قال إن الدين الحق قد ذوى غصنه من أدب البندقية بعد بليني(38). ولم يكن البنادقة هم الملومين إذا ما أخفقت الحروب الصليبية، وانتصر الإسلام وانتشر في الآفاق، وانحط شأن البابوية أثناء إقامتها في أفنيون وفي اثناء الانقسام البابوي، ثم استحالة البابوية إلى سلطة دنيوية في عهد سكتس الرابع واسكندر السادس، ثم انفصال ألمانيا وإنجلترا آخر الأمر عن الكنيسة الرومانية، وإذا ما أدى هذا كله إلى إضعاف إيمان الخلق حتى المؤمنين أنفسهم، فلم يبق الكثير من النفوس القوية فلسفة خير من فلسفة الأكل والشرب والزواج ثم الزوال.
قصة الحضارة ج21 ص287،> النهضة -> الخاتمة -> أفول نجم البندقية -> نظرة شاملة
 
انحطاط عهد النهضة 1534-1576
...
اضمحلال إيطاليا
لم تكن الحروب التي اندلع لهيبها لغزو إيطاليا قد خبت نارها بعد ولكنها قد غيرت وجه إيطاليا وطبيعة أهلها، فالأقاليم الشمالية قد خربت تخريباً جعل مبعوثي هنري الثامن يشيرون عليه بأن يتركها لشارل عقاباً له على ما فعل بها. ونهبت جنوي، وفرضت على ميلان ضرائب فادحة قاتلة، وأخضع حلف كمبريه مدينة البندقية، كما أضعفها وأذلها فتح الطرق التجارية الجديدة، وقاست روما، وبراتو، وبافيا الأمرين من جراء السلب والنهب؛ وانتشرت المجاعة في فلورنس واستنزفت مواردها المالية، وكادت بيزا تدمر نفسها في كفاحها لنيل حريتها، وأما سينا فقد أنهكتها الثورات، كما أفقرت فيرارا نفسها في نزاعها الطويل مع البابوات، وأتت بما يغض من كرامتها بتحريضها على الغزو المستهين لروما. وحل بمملكة نابلي ما حل بلمباردي من سلب ونهب وتخريب على أيدي الجيوش الأجنبية، وذوى غصنها الرطيب زمناً طويلاً كانت فيه خاضعة للأسر الحاكمة الأجنبية، وصقلية؛ وما أدراك ما صقلية؟ لقد أضحت معششاً لقطاع الطرق، وكانت السلوى الوحيدة
لإيطاليا هي أن خضوعها لشارل الخامس قد أنجاها في أغلب الظن من اجتياح الأتراك لها وانتهابهم إياها.
وانتقلت السيطرة على إيطاليا إلى أسبانيا بمقتضى اتفاقية بولونيا (1530) عدا أمرين اثنين: أولهما أن البندقية الحذرة احتفظت باستقلالها، وثانيهما أن البابوية، بعد أن حد من سلطانها، قد أيدت سيادتها على ولايات الكنيسة. فأما نابلي، وصقلية، وسردينية، وميلان، فقد أصبحت تابعة لأسبانيا يحكمها ولاة من قبلها. وأما سافوي ومانتوا، وفيرارا وأربينو وهي التي كانت عادة تؤيد شارل أو تغضى عن فعله فقد سمح لها بان تحتفظ بأدواقها المحليين على شريطة أن يسلكوا مسلكاً حسناً في علاقاتهم بالإمبراطور. واحتفظت جنوى وسينا بشكلهما الجمهوري، ولكنهما خضعتا للحماية الإسبانية، وأرغمت فلورنس على قبول فرع آخر من آل ميديتشي حكاما لها، استبقوا لأنهم تعاونوا مع أسبانيا.
وكان فوز شارل مرحلة أخرى من مراحل انتصار الدولة الحديثة على الكنيسة، لأن ما بدأه فيليب الرابع عام 1303 في فرنسا، قد أتمه شارل ولوثر في ألمانيا، وفرانسس الأول في فرنسا، وهنري الثامن في إنجلترا، وقد حدث هذا كله في عهد بابوية كلمنت. ذلك أن دول أوربا الشمالية لم تكتشف ضعف إيطاليا وحسب، بل إنها فضلا عن ذلك قد زال عنها خوفها من البابوية؛ فقد أضعف إذلال كلمنت ما كان يشعر به الناس فيما وراء الألب من احترام للبابوات، وهيأ عقولهم للخروج على سلطان للكنيسة الكاثوليكية.
وكان سلطان الأسبان على إيطاليا نعمة عليها وبركة من بعض الوجوه، فقد قضى هذا السلطان إلى حين على الحروب التي كانت تقوم بين الدويلات الإيطالية بعضها وبعض. كما قضى من عام 1559 حتى عام 1796 حتى عام 1796 على المعارك التي كانت تدور رحاها بين الدول الأجنبية فوق الأراضي الإيطالية؛ وأتاح للأهليين نظاماً سياسياً متصلا بعض الاتصال، وهدأ من حدة الانفرادية العارمة التي أوجدت النهضة ثم قضت عليها آخر الأمر. فأما الذين كانوا يرجون النظام ويسعون إليه فقد ارتضوا هذا الخضوع الذي أنجاهم من الفوضى؛ وأما الذين كانوا يعتزون بالحرية فقد حزنوا لما أصابها بهذا السلطان. ولكن أكلاف السلم مع الخضوع للأجنبي وما فرضته على الإيطاليين من عقوبات، سرعان ما أضرت باقتصاد إيطاليا وحطمت روحها المعنوية، ذلك أن الضرائب الفادحة التي فرضها الولاة للاحتفاظ بمظاهر الأبهة لأنفسهم ولأداء رواتب الجند ونفقاتهم، وصرامة قوانين أولئك الولاة، واحتكار الدولة للحبوب وغيرها من ضروريات الحياة، كل هذا أضر بالصناعة والتجارة، يضاف إلى هذا أن الأمراء الإيطاليين ساروا هم أيضاً على سنة الولاة الأجانب ففرضوا أفدح الضرائب وأشدها فتكاً بالنشاط الاقتصادي الذي كان يمدهم بحاجتهم من المال، وذلك لكيلا لا يكونوا أقل من الولاة خيلاء وترفاً. واضمحلت شؤون النقل البحري إلى حد لم يعد في وسع السفن الإيطالية الكبيرة أن تحمي نفسها من قراصنة البربر الذين كانوا يهاجمون السفن والسواحل، ويأسرون الإيطاليين ويبيعونهم عبيداً لسراة المسلمين، ولم يكن الجنود الأجانب الذين يقيمون في بيوت الإيطاليين على الرغم من سكانها، أقل إضراراً بالإيطاليين من القراصنة أنفسهم؛ فقد كان هؤلاء يجهرون باحتقارهم لهذا الشعب الذي لم يكن له من قبل نظير وحضارته التي لم تبلغ شأنها حضارة أخرى سابقة؛ وكان لهؤلاء حظ وافر فيما اتسم به ذلك العصر من انحلال في الأخلاق الجنسية.
وحلت بإيطاليا كارثة أخرى، كانت أشد وقعاً عليها من أضرار الحرب والخضوع إلى الأسبان؛ تلك هي أن الطواف برأس الرجاء الصالح (1488)، وافتتاح الطريق المائي الكامل إلى الهند (1498)، قد أنقصا نفقات النقل بين الأمم الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي وبلاد آسية الوسطى والشرق الأقصى عنها في الطريق المتعب فوق جبال الألب إلى جنوى أو البندقية، ومن ثم إلى الإسكندرية، ثم بطريق البر إلى البحر الأحمر، ثم بالبحر مرة أخرى إلى الهند. يضاف إلى هذا أن سيطرة الأتراك على هذا الطريق الثاني قد جعلته غير مأمون، ومعرضاً لأن تفرض على من يتبعونه الضرائب والرسوم الفادحة، كما كان معرضاً لهجمات القراصنة، وللحروب، وينطبق هذا بعينه وبدرجة أكبر على الطريق المار بالقسطنطينية والبحر الأسود. وكانت نتيجة هذا التحول أن اضمحلت تجارة البندقية وجنوى وحال فلورنس المالية بعد عام 1498، ولم يحل عام 1503 حتى كان البرتغاليون يبتاعون من فلفل الهند قدراً لم يجد معه التجار البنادقة والمصريون من هذه السلعة ما يستطيعون إصداره(1). وكانت نتيجة ذلك أن صعد ثمن الفليفل بمقدار ثلث ثمنه الأصلي في سوق البندقية التجارية، على حين أنه كان يباع في لشبونة بنصف الثمن الذي يطلبه التجار في البندقية! ولهذا شرع التجار الألمان يهجرون متاجرهم على ضفة القناة الكبرى، وينقلون مشترياتهم إلى البرتغال. وكاد الحكام البنادقة يحلون هذه المشكلة في عام 1504 حين عرضوا على حكومة الممالك القائمة وقتئذ في مصر الاشتراك معها في مشروع يهدف إلى إعادة القناة القديم بين دال النيل والبحر الأحمر، ولكن استيلاء الأتراك على مصر في عام 1517 قضى على هذا المشروع.
وفي ذلك العام نفسه علق لوثر مقالاته الثورية على باب كنيسة وتنبرج، وكان الإصلاح الديني سبباً ونتيجة من أسباب اضمحلال إيطاليا الاقتصادي ونتائجه. أما أنه سبب لهذا الاضمحلال فيرجع إلى قلة وفود الحجاج ونقص إيراد الكنيسة من الأمم الشمالية إلى روما؛ وأما أنه نتيجة فلأنه استبدل بطريق البحر المتوسط ومصر إلى الهند الطريق المائي كله، ونشأت التجارة الأوربية مع أمريكا التي أغنت بلاد المحيط الأطلنطي وكانت من أسباب فقر إيطاليا. فقد أخذت التجارة الألمانية يزداد انتقالها في نهر الرين إلى مصبه في بحر الشمال، ويقل تنقلها فوق الجبال إلى إيطاليا، وأضحت ألمانيا مستقلة تجاريا عن إيطاليا، وهكذا كان اتجاه التجارة نحو الشمال والقوة الجاذبة نحو الشمال سبباً في انتزاع ألمانيا من المحيط التجاري والديني الإيطالي، واكتسابها القوة والإرادة اللتين أمكنها بهما أن تقف على قدميها بمفردها.
وكان لكشف أمريكا آثار في إيطاليا أطول مدى مما كان لطريق الهند الجديد. فقد أخذت أمم البحر المتوسط تضمحل بعد هذا الكشف وتترك راكدة في سير الركب الآدمي وانتقال التجارة؛ وبرزت أمم المحيط الأطلنطي إلى مكان الصدارة، بعد أن اغتنت من تجارة أمريكا وذهبها. وأحدث هذا انقلاباً في الطرق التجارية أعظم من أي انقلاب آخر سجله التاريخ منذ فتحت بلاد اليونان القديمة لسفنها طريق البحر الأسود إلى أواسط آسيا بعد انتصارها على طروادة. ولم يضارع هذا الانقلاب ويفقه فيما بعد إلا ما حدث من انقلاب في الطرق التجارية على أثر استخدام الطائرات في النصف الثاني من القرن الحالي.
وكان العامل الأخير في اضمحلال النهضة هو حركة الإصلاح المضادة. فقد أضافت هذه الحركة إلى اضطراب أحوال إيطاليا السياسية وانحلالها الخلقي، وإلى خضوعها لسلطان الأمم الأجنبية وما حل بها من الخراب على أيدي هذه الأمم، وإلى تحول التجارة منها إلى أمم المحيط الأطلنطي، وإلى ما خسرته من الموارد بسبب حركة الإصلاح الديني، نقول إن هذه الحركة أضافت إلى هذا كله تبدلا قوياً. ولكنه تبدل طبيعي في أحوال الكنيسة وفي مسلكها. ذلك أن حركة الإصلاح الديني الألمانية، وانفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية، وزعامة أسبانيا في القارة الأوربية، قد قضت على "اتفاق السادة المهذبين" الذي لم تصغ نصوصه أو تدون، والذي لم يدركه فيما نظن العاملون به، وهو اتفاق كانت الكنيسة بمقتضاه، في أثناء ثرائها واطمئنانها على سلطانها، تسمح بقسط كبير من حرية التفكير للطبقات المفكرة، على شريطة ألا تحاول هذه الطبقات إضعاف إيمان الناس أو خلق الاضطراب فيه، لأن هذا الإيمان هو الخيال الذي لاغنى عنه لحياتهم، وهو مصدر نظامها وسلوتها. فلما شرع الناس أنفسهم ينبذون عقائد الكنيسة وسلطانها عليهم، ولما كسب الإصلاح الديني أنصاراً له معتنقين مبادئه في إيطاليا نفسها، أوشك صرح الكثلكة كله أن يتصدع من أساسه؛ وأجابت الكنيسة على هذا- وكانت ترى نفسها دولة، فسلكت كما تسلك كل دولة يتعرض كيانها للخطر، فبدلت خطتها من التسامح والحرية إلى تحفظ الخائف المرتاع وفرضت قيوداً شديدة على التفكير، والبحث، والنشر، والقول. وكانت السيطرة الأسبانية تفرض الآراء الدينية والسياسية مجتمعة؛ وكان لها نصيب في تحويل كثلكة عصر النهضة اللينة إلى تزمت الكنيسة الصارم الذي إلتزمته بعد مجلس ترنت (1545-1563). وجرى البابوات الذين جاءوا بعد كلمنت السابع على السنة التي سار عليها الأسبان وهي توحيد الكنيسة والدولة واستخدام القوة الناشئة من هذا التوحيد في السيطرة الصارمة على الحياة الدينية والعقلية.
وكما أن رجلاً أسبانياً هو الذي كان سبباً في إنشاء محكمة التفتيش حين هددت ثورة الأليجنسيين الدينية في القرن السادس عشر سلطان الكنيسة في جنوبي فرنسا، وكان من نتائج هذا التهديد أن قامت طوائف دينية جديدة لخدمة الكنيسة وتجديد حماسة المسيحيين الدينية؛ حدث أيضاً في القرن السادس عشر أن جاءت إلى إيطاليا صرامة محكمة التفتيش الأسبانية، وكان رجل أسباني هو الذي أنشأ نظام اليسوعيين- الجزويت (1534)- تلك الجمعية العجيبة، التي لم تكتف بقبول الإيمان التقليدية القديمة، إيمان الفقر، والعفة، والطاعة، بل تجاوزت ذلك إلى الخروج إلى العالم لتنشر الدين الصحيح، ولتكافح في كل مكان من العالم المسيحي الإلحاد أو الخروج على الدين. وكانت حدة الجدل الديني في عهد الإصلاح، وكان تزمت المبادئ الكلفنية وعدم تسامحها، واضطهاد المذهبين المتعاديين أحدهما للآخر في إنجلترا، كان هذا كله مشجعاً على وجود تعسف مقابل له في إيطاليا(3)، وحلت مبادئ إجناشيوس ليولا Ignatius Loyala وجهاده الديني محل مبادئ إرزمس الحرة المتحضرة؛ ذلك أن الحرية ترف لا يكون إلا مع الأمن والسلم.
واتسع نطاق الرقابة على المطبوعات التي بدأت أيام البابا سكتس الرابع فوضعت في عام 1559 قوائم بالكتب المحرمة لخطرها على الدين أو الأخلاق، وأنشئ مجلس لوضع قوائم التحريم في عام 1571. ويسر استعمال الطباعة أعمال الرقابة، ذلك أن مراقبة الطابعين العموميين كانت أيسر من مراقبة الأفراد النساخين. وحدث في البندقية التي كانت تكرم وفادة اللاجئين المفكرين والسياسيين أن شعرت الدولة نفسها بما في الانقسام الديني من ضرر على الوحدة الاجتماعية والنظام، ففرضت (1527) رقابة على المطبوعات، وانضمت إلى الكنيسة في منع نشر المطبوعات الروتستتنتية، وقاوم الإيطاليون هذه الخطط في أماكن متفرقة؛ وبلغ من حنقهم على واضعيها أن الجماهير من أهل روما ألقت بتمثال البابا بولس الرابع بعد موته (1559) في نهر التيبر، وأحرقت المقر الرئيسي لمحكمة التفتيش، وظلت النار مشتعلة فيه حتى دمرته عن آخره(4). لكن هذه المقاومة لم تكن منظمة بل كانت مفردة منقطعة، وغير ذات أثر فعال، وبذلك انتصر الطغيان، واستحوذت على روح الإيطاليين التي كانت من قبل مرحة، مبتهجة، متدفقة، نزعة من الاكتئاب، والتشاؤم، والاستسلام، حتى لقد صارت عادة لبس الثياب السود- القلنسوة السوداء، والصدارة السوداء، والجورب الأسود، والحذاء الأسود- صارت هذه العادة طراز إيطاليا التي كانت في سالف الأيام مولعة بالألوان الزاهية، كأن الشعب قد اتشح بالسواد حداداً على المجد الذي زال والحرية التي ماتت(5).
وصحب هذا الارتكاس الذهني بعض التقدم الخلقي. فقد تحسن سلوك رجال الدين بعد أن بعثت فيهم المذاهب المتنافسة روح الحمية، فقام البابوات ومجلس ترنت بإصلاح كثير من مساوئ الكنيسة. وليس من السهل أن نقول هل حدث تحسين مثل هذا في أخلاق غير رجال الدين؛ ويبدو أن من السهل جمع بعض الشواهد الدالة على الشذوذ الجنسي، وعلى وجود أبناء غير شرعيين، وعلى مضاجعة المحارم، وعلى ظهور الآداب البذيئة، والفساد السياسي، والسرقة، والجرائم الوحشية في إيطاليا بين عامي 1534-76 كما كانت تحدث فيها من قبل(6). وتدل سيرة بينفينوتو تشليني Beyenuto Cellini الذاتية على أن الفسق، والزنا، والسطو، والاغتيال كانت تمتزج بعقائد ذلك العصر. وبقي القانون الجنائي على ما كان من قسوة في سابق العهد: فالتعذيب كثيراً ما كان من الوسائل التي يلجأ إليها في استخلاص الشهادة من الشهود ضد البريئين، كما كان يلجأ اليه لانتزاع الاعتراف من الملتهمين، وكان لحم القاتلين لا يزال ينتزع بالكلابات المحمية الحمراء قبل أن يشنقوا(7).وكانت عودة الاسترقاق بوصفه نظاماً من النظم الاقتصادية الكبرى من أعمال ذلك العهد، وشاهد ذلك أن البابا بولس الثالث حين أعلن الحرب على إنجلترا في عام 1535 قرر في هذا الإعلان أن أي جندي بريطاني يؤسر في هذه الحرب يصح أن يتخذ رفيقاً بحكم القانون(8)، ونشأت حوالي عام 1550 عادة استخدام العبيد والمذنبين لجر سفن التجارة والحرب.
قصة الحضارة ج21 ص289-296، النهضة -> الخاتمة -> انحطاط عصر النهضة -> اضمحلال إيطاليا
 
إيطاليا متأثرة!!
الدليل على وصول العلم الإسلامي أثناء وقبل المعارك الداخلية في أوروبا إلى إيطاليا ومدنها الكبرى وشبابها.
مثال عالم الطب (جيروم كاردان Jerome Cardan (جيرومينو كاردانو Geromino Cordano)
وهو من :"ذكر أسماء عشرة رجال قال إنهم أصحاب أكبر العقول في التاريخ ولم تكن كثرتهم الغالبة من المسيحيين: أرخميدس، وارسطو، وإقليدس، وأبولونيوس البرجاوي، وارشيتاس التارنتومي Archytas of Tarentum والخوارزمي، والكندي، وابن جبير، ودنزاسكوتس، ورتشرد اسوينزهد Richard Swineshead- وكلهم من العلماء ما عدا دنزاسكوتس"تحت عنوان العلم والفلسفة قال ديورانت:"ظلت إيطاليا تتقدم في العلوم غير ذات الأثر في اللاهوت تقدماً معتدلا إلى الحد الذي يمكن أن تتقدمه أمة يغلب عليها الميل إلى الفن والأدب، وتنفر من النزعة العقلية التي قطعت الصلة بالضمير. وتزدان تلك الفترة القصيرة بأسماء فارولي Varoli، ويوستاتشيو Eustachio، وفالوبيو Fallopio الذين برزوا في علم التشريح الحديث. وكشف نقولو تارتاجليا Niccolo Tartaglia طريقة لحل معادلات الدرجة الثالثة؛ وأسر بطريقته إلى جيروم كاردان Jerome Cardan (جيرومينو كاردانو Geromino Cordano) الذي نشرها على أنها طريقته هو (1545) وتحداه تارتاجليا أن يدخل معه في مبارزة جبرية، يعرض فيها كلاهما إحدى وثلاثين مسألة يحلها الآخر. وأخفق التلميذ ونجح تارتاجليا، ولكن كاردان كتب سيرة لنفسه عجيبة فاتنة خلدت اسمه على مر الأيام.
وتبدأ السيرة بالصراحة العجيبة التي تسري فيها من أولها إلى آخرها:
ولدت في الرابع والعشرين من سبتمبر سنة 1501 مع أن أدوية لإجهاض أمي قد جربت ولم تفلح كما سمعت... ومع أن المشتري كان في الأوج والزهراء كانت تسيطر على طالعي، فإني لم أصب بعاهة تمنعني من العمل الدائم، إلا في أعضائي التناسلية، ولهذا فإني ظللت في سن الحادية والعشرين إلى الحادية والثلاثين عاجزاً عن مضاجعة النساء، وكثيراً ما رثيت لمصيري وحسدت كل من عداي على حسن حظه؟!
ولم تكن هذه عاهته الوحيدة؛ فقد كان يتهته في كلامه، وظل طول
حياته يشكو بحة الصوت والرشح في الحلق، وكثيراً ما كان يصاب بعسر الهضم، وخفقان القلب، والفتق، والمغص، وزحار البطن، والبواسير، والنقرس، والحكة في الجلد، وسرطان في حلمة الثدي اليسرى، وأصيب بالطاعون، والحمى الثلاثية، وكانت تنتابه "فترة سنوية من الأرق تدوم نحو ثمانين يوماً". "وفي عام 1536 أصابني انطلاق البول بدرجة مدهشة كبيرة، ومع أني قد مضى علي نحو أربعين عاماً أقاسي شر هذا الداء، فأفرز من البول ما بين ستين ومائة أوقية في اليوم، فإني أعيش سليماً فيما عدا ذلك"(13).
وإذ كان قد وهب كل هذه التجارب الطيبة، فقد صار طبيباً ناجحاً، داوى نفسه من كل داء تقريباً إلا داء الغرور، واشتهر بأنه أكثر من يُسعى إليه من الأطباء في إيطاليا، وكان يطلب من بلاد بعيدة مثل اسكتلندة ليداوي رئيس أساقفة عجز عن مداواته نفس الأطباء، فشفاه هو من مرضه. وألقى وهو في الرابعة والثلاثين من عمره محاضرات عامة في العلوم الرياضية بميلان، كما ألقى محاضرات في الطب وهو في سن الخامسة والثلاثين. وفي عام 1545 نشر كتاباً يدعى الفنون الكبرى Ars Magna استعار عنوانه من ريمند للي Raymond Lully، أضاف فيه معلومات قيمة إلى علم الجبر الذي لا يزال يتحدث عن "قاعدة كاردان" لحل المعادلات التكعيبية، ويبدو أنه هو أول من قال إن معادلات الدرجة الثانية قد تكون لها جذور سالبة. وقد بحث هو مع تارتاجليا وقبل ديكارت بزمن طويل في إمكان استخدام الجبر في الهندسة(14). وبحث في كتابه De Subtilitate Rerum، (1551) في موضوع التصوير بالألوان، ولخص في De Rerum Varietate،(1557) المعلومات الطبيعية المعروفة في أيامه، وهو مدين في هذين الكتابين بالشيء الكثير لمخطوطات ليوناردو التي لم تكن قد نشرت وقتئذ(15). وقد ألف وسط أمراضه، وأسفاره، ومتاعبه الشديدة المرهقة 230 كتاباً، طبع منها حتى الآن 138 كتاباً، وقد أوتي من الشجاعة ما يكفي لإحراق بعضها.
وعلم الطب في جامعتي بافيا وبولونيا، ولكنه كان يخلط علمه بالمعلومات السحرية الخفية، وبالزهو الصارخ الذي أفقده احترم زملائه. وقد خصص مجلداً كبيراً لبحث العلاقات بين الكواكب ووجه الانسان، وبلغ من الخبرة والسخف في تفسير الأحلام ما بلغه فرويد Freud، كما بلغ من قوة الأيمان بالملائكة الحافظين ما بلغه الراهب أنجليكو، ولكنه مع ذلك ذكر أسماء عشرة رجال قال إنهم أصحاب أكبر العقول في التاريخ ولم تكن كثرتهم الغالبة من المسيحيين: أرخميدس، وارسطو، وإقليدس، وأبولونيوس البرجاوي، وارشيتاس التارنتومي Archytas of Tarentum والخوارزمي، والكندي، وابن جبير، ودنزاسكوتس، ورتشرد اسوينزهد Richard Swineshead- وكلهم من العلماء ما عدا دنزاسكوتس، وخلق كاردان لنفسه مائة عدو، وجلب على نفسه ألف تهمة مزورة، وكان تعيساً غير موفق في زواجه، وحاول عبثاً أن ينقذ ابنه الأكبر من الإعدام لأنه سم زوجة خائنه، ثم انتقل إلى روما في عام 1570، واعتقل فيها إما لأنه مدين، وإما لأنه ملحد، أو لكلتا التهمتين معاً، ولكن جريجوري الثالث عشر أطلق سراحه ورتب له معاشاً سنوياً.
كتب وهو في سن الرابعة والسبعين كتاب سر حياتي De vita propria liber- وهو إحدى ثلاث سير ذاتية ألفت في تلك الفترة من الزمن في إيطاليا. وقد حلل نفسه في هذا الكتاب بثرثرة وأمانة قريبتين كل القرب من ثرثرة منتاني وأمانته- حلل جسمه، وعقله وخلقه، وعاداته، وميوله، ما يحب وما يكره، فضائله، ورذائله، وأسباب شرفه وعدم شرفه، واخطاءه ، ونبوءاته، وأمراضه، وتقلباته، وأحلامه؛ وهو يتهم نفسه، بالعناد، والحقد، وعدم الألفة مع بني جنسه، والتسرع في أحكامه، والخصام، والغش في لعب الميسر، والميل إلى الانتقام، ويذكر: "تبدل الحياة الفاجرة التي كنت أحياها في العام التي كنت أحياها في العام الذي كنت فيه مديراً لجامعة بدوا"(16). ويذكر قوائم: بالأشياء التي أشعر أنني أخفقت فيها" وخاصة حسن تربية أبنائه، ولكنه أيضاً يورد أسماء ثلاثة وسبعين كتاباً ذكر فيها اسمه، ويحدثنا عما كان له من كثير من ضروب العلاج الناجحة والتنبؤات الصادقة، وعن مقدرته الفائقة في المناقشات. وهو يأسف لما أصابه من ضروب الاضطهاد، وللأخطار "التي أحاطت بي بسبب أرائي التي لا تتفق مع السنين المألوفة"(17). ويسأل نفسه، "أي حيوان أراه أشد غدراً، وخسة، وخداعاً من الإنسان؟" ثم لا تجيب عن هذا السؤال، ولكنه يسجل أشياء كثيرة توفر له السعادة، منها التغير، والطعام، والشراب، وركوب البحر، والموسيقى، ومناظر الدمى المتحركة، والقطط، والعفة، والنوم، ويقول: "إذا نظرت إلى جميع الأغراض التي قد يبلغها الإنسان، خيل إلي أن أعظم ما يسبب لي السرور منها هو الاعتراف بالحقيقة"(18). وكان مطلبه المحبب إليه هو دراسة الطب، الذي ابتكر فيه كثيراً من أنواع العلاج المدهشة. ذلك أن الطب كان هو العلم الوحيد الذي تقدم تقدماً ملحوظاً في هذه الفترة من فترات الاضمحلال في إيطاليا. وقد قضى أعظم علماء ذلك العصر كثيراً من السنين في إيطاليا يتعلمون ويعلمون- كوبرنيق من 1496 إلى 1506، وفيساليوس Vesalius من 1537 إلى 1546، ولكننا ليس من حقنا أن نختلسهما من بولندا وفلاندرز لنزيد بذلك من تكريم إيطاليا. وقد شرح ريالدو كولمبو Realdo Colombo الذي خلف فيساليوس في منصب أستاذ التشريح في جامعة بدوا دورة الدم في الرئتين في كتابه ده ره أناتمكا Dere Anatomica (في التشريح)، وأكبر الظن أنه لم يكن يعلم أن سفيرتوس Severtus قد وضع هذه النظرية نفسها قبله باثنتي عشرة سنة. وكان كولمبو يشرح جثث الموتى من الآدميين في بدوا وروما، دون معارضة من رجال الدين كما يلوح(19). ويبدو كذلك أنه كان يشرح الكلاب. وكشف جبريلي فاليبو، أحد تلاميذ فيساليوس القنوات النصف الدائرية والعصب السمعي للأذن، والقناتين اللتين تسميان باسمه واللتين تنقلان البيض من المبيض إلى الرحم، كذلك كشف بارتولميو أوستاكيو القناة الأوستاكية في الأذن والصمام الأوستاكي في القلب، ونحن مدينون له أيضاً باكتشاف العصب المبعّد، والأجسام الفوكلية (التي فوق الكليتين)، والقناة النحرية. ودرس قسطندسو فارولى Constanzo Varoli قنطرة فارولي- وهي كتلة من الأعصاب عند السطح السفلي للمخ.
وليس لدينا أرقام نعرف منها ما كان للكشوف الطبية من أثر في إطالة العمر في عصر النهضة. ولكننا نعرف أن فارولي توفي في الثانية والثلاثين من عمره، وأن فالبيو مات في سن الأربعين، وكولمبو في الثالثة والأربعين، وأوستاكيو في سن الخمسين. ثم نعرف بعكس هذا أن ميكل أنجيلو عاش حتى بلغ التاسعة والثمانين، وأن تيشيان عاش إلى التاسعة والتسعين.
(قصة الحضارة ج21 ص299-303، النهضة -> الخاتمة -> انحطاط عصر النهضة -> العلم والفلسفة)
 
ديورانت يصف الشعب المصري وقياده
"إن حكم الدولة في أثناء اضمحلالها أسهل من حكمها في إبان شبابها، ذلك أن نقص الحيوية يكاد يجعل أهلها يرحبون بالخضوع"
قصة الحضارة ج21 ص313، النهضة -> الخاتمة -> انحطاط عصر النهضة -> صحوة السحر في فلورنس)
تعليق كان يصف فلورانس الايطالية في التاريخ1534-1574
 
تدفق العلوم والأفكار
علوم الإسلام أيضا تستحق هذا الوصف(تتسلق الحبال وتخترق البحار إلى فرنسا، وألمانيا، وفلاندرز، وهولندا، وإنجلترا.)
هل يمكن أن نمضي على منوالنا فنضع نصا مساويا لهذا النص -التالي من كلام ديورانت- يرسم الملامح المدهشة لإنتقال العلم الإسلامي في الغرب ، وصعود العلوم من أسبانيا ثم إيطاليا إلى الشمال الأوروبي!!، وهناك عشرات الأمثلة قدمناها!
قال ديورانت:"وقضى عصر النهضة حين أحيا الثقافة اليونانية- الرومانية القديمة، على سيطرة العقلية الشرقية على أوروبا، وهي السيطرة التي دامت ألف عام كاملة، وانتقلت أنباء التحرر العظيم من إيطاليا مجتازة مائة من المسالك تتسلق الحبال وتخترق البحار إلى فرنسا، وألمانيا، وفلاندرز، وهولندا، وإنجلترا....وظل تيار الأفكار، والأخلاق، والفنون نحو مائة عام يتدفق من إيطاليا نحو الشمال، فكانت أوربا الغربية كلها من عام 1500 إلى عام 1600 تعترف بأن هذه البلاد أم الحضارة الجديدة في العلم، والفن، والآداب "الإنسانية"، التي حنت عليها وأرضعتها لبانها، ونشأتها. وحتى فكرة الرجل الكامل السميذع، والفكرة الأرستقراطية عن الحياة والحكم، قد جاءتا من الجنوب لتصوغا آداب الناس وأشكال الدول في الشمال. وهكذا كان القرن السادس عشر، الذي اضمحلت فيه النهضة في إيطاليا، عصر نماء ووفرة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وفلاندرز، وأسبانيا.
قصة الحضارة ج21 ص364، النهضة -> الخاتمة -> حاشية
 
صوت الإسلام وحضوره المادي والعقلي والروحي والفني والجمالي والتقني، وسط حروب المسيحية، لو تتذكرون محاور وصول العلم الإسلامي، ومنه محور اسبانيا(مكث هناك 800 عام!!!!)، ومنه محور من تعلم على علوم المسلمين(بيكون، في النص التالي)
قال ديورانت
:"وطغت على أثر النهضة إلى حين شدة النزاع بين حركتي الإصلاح وإصلاح المعارض، والجدل القائم بين المذاهب والحروب الدينية؛ وظل الناس قرناً من الزمان يحتربون ويسفكون الدماء لكي يكونوا أحراراً يعتقدون ما يشاءون ويعبدون كما يحبون، أو كما يشاء ويحب لهم ملوكهم؛ وبدا أن صوت العقل قد خفت تحت أسنة الجهاد الديني، لكن هذا الصوت لم يسكن كل السكون، فإن رجالا من أمثال إرزمس، وبيكن، وديكارت ظلوا في خلال هذا الدمار المفجع يرددون هذا الصوت في شجاعة، ويرفعون به عقيرتهم من جديد وفي قوة متزايدة؛ وصاغه اسبونزا صياغة جديدة فخمة رائعة، فلما أقبل القرن الثامن عشر ولدت روح النهضة الإيطالية مرة أخرى في عصر الاستنارة الفرنسي. وظل هذا اللحن يتردد من فلتير وجبن Gibbon إلى جوته وهين Heine، إلى هوجو وفلوبير، إلى تين وأناطول فرانس خلال الثورات والثورات المضادة، والتقدم والرجعية، يبقى بعد الحرب بريقة ما، ويرفع في أناة من مكانة السلم وشأنها. وإنا لنجد اليوم في كل مكان في أوربا والأمريكيتين، أرواحاً متحضرة قوية- متزاملة متآلفة في بلد العقل- تتغذى وتعيش على ذلك التراث، تراث حرية العقل، والإحساس بالجمال، والتفاهم المتسم بالتواد والتعاطف، أرواحاً تعفو عن مآسي الحياة، وتستمتع بمباهج الحواس، العقل والروح، ويستمعون بقلوبهم على الدوام أغاني النهضة العذبة وسط أناشيد الحقد، وأعلى من جلجلة المدافع"
.قصة الحضارة ج21 ص364، النهضة -> الخاتمة -> حاشية
 
لعلكم تذكرون صرخة الفارو الأسباني من تعلم الشباب الأوروبي لعلوم المسلمين بل تغزلهم بالشعر العربي
فهاهو مرة أخرى يحكي لنا في سطر واحد حال الكنيسة يوم الإسلام العظيم
يقول ديورانت تحت عنوان(الكنيسة في الحضيض
1307-1417 ) :"وقد رفع الأسقف الأسباني الفارو بلايو عقيرته بقوله: "إن الذئاب تسيطر على الكنيسة وتمتص دماء الشعب المسيحي".
قصة الحضارة ج22 ص19، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> الكنيسة في الحضيض
 
لماذا يشتم العلمانيون الإسلام فيجعلون سلطان العلماء الروحي أو حتى السلطة الزمنية في الإسلام مستمدة من الله مباشرة على الرغم من أنها سلطة اجتهادية في غير ثوابت الإسلام، لماذا يشتمون الإسلام والعلماء بالزعم أن العلماء وحكام الإسلام مثل الكهنوت الغربي.
النص التالي يفضح المساواة الظالمة.
يقول ديورانت:"وفي عام 1372 أقسم رجال الدين في كولون وبون، واكسانتن ومانز ألا يدفعوا مال الصدقات الذي فرضه عليهم جريجوري الحادي عشر.
على أن البابوات ظلوا رغم هذا التمرد والعصيان يؤكدون سلطانهم الاستبدادي على ملوك الأرض، وحدث حوالي عام 1324 أن كتب اجستينو ترينفو المشمول برعاية يوحنا الثاني بعد العشرين رسالة في الدفاع عن رجال الدين رداً على الهجمات التي وجهها إلى البابوية مرسليوس من أهل بدوا ووليم أوكام. ويقول أجرستينو في هذه الرسالة إن سلطان البابا من سلطان الله وهو نائبه في الأرض، وإن طاعته واجبة وإن أثم أشد الإثم، ومن حق مجلس الكنيسة العام ا، ينزله عن عرشه إذا ثبت كفره وإلحاده، فإذا لم يرتكب هذا فمهما يكن ذنبه فإن سلطانه لا يعلوا عليه إلا سلطان الله وحده وهو أعلى من سلطان جميع ملوك الأرض. ومن حقه أن يخلع الملوك والأباطرة إذا شاء وإن عارض في ذلك رعاياهم أو منتخبوهم، ومن حقه أن يلغي قرارات الحكام الدنيويين وأن لا يعبأ بدساتير الدول. وكل ما يصدره الأمراء من قرارات تظل غير ذات أثر إلا إذا وافق البابا عليها. والبابا أعلى مقاماً من الملائكة وهو خليق بأن يعظم كما تعظم العذراء ويعظم القديسون. وقد ارتضى البابا يوحنا كل هذا لأنه في رأيه النتيجة المنطقية لما يعتقده الناس كافة من أن الكنيسة قد أنشأها ابن الله، وعمل بهذا المبدأ بإصرار لا يتحول عنه أبداً.
قصة الحضارة ج22 ص20، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> الكنيسة في الحضيض)
أما تكملة النص فهو:"على أن فرار البابوات من رومة وخضوعهم لفرنسا قد قوض سلطانهم وحط منزلتهم، وكأنما أراد بابوات افنيون أن يعلنوا على الملأ خضوعهم لسلطان فرنسا فاختاروا من بين 124 كردنالاً 113 فرنسياً.
واستشاطت الحكومة الإنجليزية غضباً من كثرة القروض التي منحها
البابوات ملوك فرنسا أثناء حرب مائة العام، ومن أجل ذلك تغاضت عن مطاعن ويكلف على البابوية؟ ورفض المنتخبون الألمان الذين كانوا يختارون الإمبراطور أي تدخل من جانب البابوات في المستقبل في اختيار الملوك والأباطرة. وفي عام 1372 اتفق رؤساء الأديرة في كوموني وأعلنوا على الملأ أن "الكرسي الرسولي قد انحط إلى درجة من الاحتقار تجعل المذهب الكاثوليكي يبدو معرضاً لأشد الأخطار". وفي إيطاليا استولى على الولايات البابوية-لايتوم رامبريا، وولايات الحدود، ورومانيا-رؤساء جند مغامرون يظهرون الطاعة بالاسم للبابوات ولكنهم يحتفظون لأنفسهم بإيراد هذه الولايات كله. ولما بعث أريان الخامس مندوبين من قبله إلى ميلان ليعلنوا الفيسكنتي بقرار الحرمان، اضطرهما برنابو أن يأكلا هذا القرار-بما فيه من ورق وخيوط من الحرير وأختام من الرصاص(1362). وعمدت فلورنس في عام 1376 حين قام النزاع بينها وبين البابا جريجوري الحادي عشر إلى مصادرة كل ما للكنيسة من أملاك في أراضيها، وأغفلت محاكم الابروشيات وهدمت أبنية محاكم التفتيش وزجت من قاومها من القساوسة في السجن أو قتلهم شنقاً، وأهابت بإيطاليا أن تضع حداً لكل سلطان الكنيسة الزمني.
واتضح من ذلك الوقت أن بابوات افنيون أخذوا يخسرون أوربا كلها مقابل خضوعهم لفرنسا وإخلاصهم لها. فلما كان عام 1377 أعاد جريجوري الحادي عشر البابوية إلى روما.
 
حروب الكنيسة وانقسامها ووصف طرفها من أطرافها للآخر بالملحد
وقول ديورانت:"وكان الإسلام الآخذ وقتئذ في الانتشار يسر من هذا الانحلال الذي يدب في جسم العالم المسيحي."
النص
:"وتولى ربرت منصب البابوية وتسمى باسم كلمنت السابع واتخذ افينيون مقراً له ولكن اربان أصر من جهته على أنه البابا وجعل مقره مدينة روما. وكان الذي مهد السبيل إلى الانقسام البابوي (من 1378-1417) الذي بدأ على هذا النحو، والذي مهد السبيل لكثير من القوى هيأت العقول للإصلاح الديني وهو قيام الدولة القومية، فقد كان هذا الانقسام في واقع الأمر محاولة تبغي بها فرنسا أن تحتفظ بالمعونة الأدبية والمالية التي تمهدها بها البابوية في حربها ضد إنجلترا. وحذا حذو فرنسا في هذا نابلي وأسبانيا واسكتلندة. ولكن إنجلترا، وفلاندروز، وألمانيا، وبولندا، وبوهيميا، وبلاد المجر، وإيطاليا، والبرتغال اعترفت باربان، وأضحت الكنيسة المنقسمة على نفسها سلاحاً في أيدي المعسكرين المتنازعين وضحية لهما. ونادى نصف العالم المسيحي بأن النصف الآخر ملحد كافر مجدف في حق الله، محروم من حظيرة الدين. وادعى كل جانب أن المراسم الدينية التي يقوم بها القساوسة الجانب الآخر المعارض له لا نفع فيها ولا قيمة لها، وأن الأطفال الذين يعمدهم هذا الجانب أو ذاك، والتوبة التي تتم على أيديهم، والموتى الذين يفضون إليهم باعترافاتهم، كل هؤلاء يبقون مذنبين، مآلهم الجحيم-أو المطهر على أقل تقدير. وكان الإسلام الآخذ وقتئذ في الانتشار يسر من هذا الانحلال الذي يدب في جسم العالم المسيحي.
قصة الحضارة ج22 ص22،23، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> الكنيسة في الحضيض)
 
لذلك حاربوا وقاتلوا شعوبهم أولا ودعموا المستبدين!
:"لقد كان على البابوية أن تحكم ولايات دنيوية وأن تحكم الكنيسة الدينية، وكان على البابوات أن يكونوا رجال سياسة ملمين بشؤون الدنيا ولم يكونوا قديسين فحسب"
قصة الحضارة ج22 ص27، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البابوية المنتصرة
 
رزائل باباوية
:"وأخذت رذائل البلاط البابوي تزداد كلما قرب القرن الخامس عشر من نهايتهِ على الرغم من الجهود التي بذلها بابوات من أمثال نقولاس الخامس وبيوس الثاني وما بذله الصالحون من رجال الدين أمثال الكردنالين جوليانوسيزاريتي ونقلاس الكوزائي(16) فكان بولس الثاني يلبس تاجاً بابوياً تزيد قيمته على قيمة قصر عظيم، وجعل سكتس الرابع ابن أخيه من أصحاب الملايين، وأقحم نفسه في ميدان السياسة، وبارك المدفع الذي يحارب به وقائعه، وحصل على المال اللازم لحروبه ببيع المناصب الدينية إلى من يؤدي فيها أكبر الأثمان، واحتفل أنوسنت الثامن بزواج أبنائه في قصر الفاتيكان. وكان أسكندر السادس يرى أن بقاء رجال الدين بلا زواج خطأ يجب الإقلاع عنه كما كان يراه لوثر وكلفن، وكان له خمسة أبناء أو أكثر قبل أن يلتزم العفة وهو بابا، ولم يرَ رجال عصره فيما كان يتصف به من مرح وعدم استعفاف ما يؤخذ عليه كما قد يظن الناس، ذلك بأن الناس لم يكونوا يرون فيما يلجأ إليه رجال الدين سراً من علاقات غرامية أمراً غير مألوف، وكان كل ما تلأخذه أوربا على إسكندر السادس هو سياسته الخارجية التي لا يرعى فيها إلاً ولا ذمة وما تأخذه على سيزاري بورجيا هو قسوته في حروبه وأنه استرد للبابوية ولايتها وزاد الكرسي الرسولي قوة وأمده بالكثير من المال الذي يحتاجه. وقد اتبع آل بورجيا في هذه الخطط السياسية والمعارك الحربية جميع الخطط الحربية وأساليب الغدر وسفك الدماء التي صاغها ميكافيلي بعد قليل من ذلك الوقت في كتاب الأمير (1513) وقال أنها لا غنى عنها لتأسيس دولة قوية أو لتوحيد إيطاليا. وفاق البابا يوليوس الثاني سيزاري بورجيا فيما شنه من الحروب على البندقية النهمة الجشعة وعلى الفرنسيين الغزاة، وكان يفر كلما استطاع من سجن الفاتيكان، ويقود جيشه بنفسهِ ويحب الحياة الصعبة والحديث الخشن في المعسكرات الحربية. وهال أوربا أن ترى البابوية لا تكتفي بأن تصبح سلطة زمنية فحسب، بل أن تصبح فوق ذلك قوة عسكرية، غير أنها مع ذلك لم يسعها إلا أن تعجب بعض الإعجاب بقوة ذلك المحارب الذي أخطأت المقادير فجعلته بابا، وترامت الأنباء وراء جبال الألب عما كان يقدمه يوليوس من معونة للفن ومناصرة للممتازين من الفنانين أمثال رفائيل وميكل انجلو وكان يوليوس هو اليذ بدأ بناء كنيسة القديس بطرس الجديدة، وأول من منح صكوك الغفران للذين أسهموا في نفقات بنائها. وفي أيام ولايته قدم لوثر إلى رومة وأبصر بعينهِ المظالم. ذلك الاسم الذي أطلقه لورنزو ده ميدتيشي على عاصمة العالم المسيحي. لم يعد في أوربا حاكم يرى أن البابوية حكومة أخلاقية فوق الحكومات كلها تؤلف من الأمم كلها دولة مسيحية واحدة، وذلك لأن البابوية بعد أن صارت دولة دنيوية قد اصطبغت بالصبغة القومية. وتقطعت أوصال أوربا، كما تتطلب ذلك العقيدة الجديدة إلى أقسام صغيرة قومية لا تعترف بقانون أخلاقي منزل أو دولي وتردت في الحروب بين مختلف أقسام المسيحية ودامت خمسة قرون.
وإذا أردنا أن نصدر حكماً عادلاً على بابوات النهضة هؤلاء فإن علينا أن ننظر إليهم في ضوء الظروف المحيطة بهم في أيامهم، لقد كان في وسع شمالي أوربا أن تحس بأخطائهم لأنها كانت تمدهم بالمال ولكن الذين عرفوا ما كانت تفيض به إيطاليا بين عهدي نقولاس الخامس (1447- 1455)- ولو العاشر (1513) (1521) هم وحدهم الذين كانوا ينظرون إليها بعين التسامح ذلك أن أكثرهم قد ارتضوا عقيدة النهضة القائلة إن العالم وإن كان مسرحاً للدموع والمغويات الشيطانية يمكن أن يكون أيضاً منظراً ذا جمال وحياة قوية عارمة وسعادة سريعة الزوال عابرة وإن كان بعضهم صالحين أتقياء. ولم يكونوا يرون عيباً في أن يستمتعوا بنعيم الحياة والبابوية مجتمعين.
قصة الحضارة ج22 ص30،31،، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البابوية المنتصرة
 
:"البيئة المتغيرة
وبينما كانت الكنيسة يبدو عليها أنها آخذة في استعادة مجدها وسلطانها، كان يحدث في أوربا تغير اقتصادي وسياسي وعقلي يعمل بالتدريج على تقويض صرح المسيحية اللاتينية"
قصة الحضارةج22 ص34، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البيئة المتغيرة)
تعليق: وهل كان للإسلام مجهود كوني في تغيير البيئة؟
 
لم يحتاج الإسلام الربا لتنمية اقتصاد الناس بل نمت الدول بغيره أما في أوروبا فكان الربا يغزوها!
:"وكان لا بد للكنيسة أن ترضى بشيء من الشعوذة اللاهوتية المكشوفة إلى ما تحتمه ضرورة الأيام من فرض فوائد على القروض إذا كان لا بد لرؤوس الأموال أن تستخدم في توسيع دائرة الصناعة والمشروعات المالية، وما وافى عام 1500 حتى أصبح الناس يتجاهلون أوامر الكنيسة القاضية بتحريم "الربا".
قصة الحضارةج22 ص35، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البيئة المتغيرة)
 
حدث في حضارتنا وعالمنا الإسلامي (نمو الصناعة والتجارة وتكدس الأموال) واتساع دائرة الاقتصاد
لكن لم يحدث هذا -الترابط بين الكفر والانتقال للمجتمع الصناعي كما في الغرب -في الإسلام أيام ازدهار صناعاتنا وتجارتنا وعلومنا، فلما المقارنة الظالمة؟
:"وكان نمو الصناعة والتجارة وتكدس الأموال أثناء القرن الخامس عشر وانتقال العمال من الر يف إلى المدن وقيام طبقة التجار واتساع دائرة الاقتصاد من البيئة الصنفية المحلية حتى أصبح اقتصادياً قومياً ثم دولياً-كل هذا كان نذير شؤم للدين الذي كان يوائم أشد المواءمة نظام الإقطاع وما يطرأ على الحقول من تقلبات تبعث في النفس الكآبة والقنوط. وأخذ رجال الأعمال يحطمون القيود التي يفرضها سادة الإقطاع، وكان لا بد للكنيسة أن ترضى بشيء من الشعوذة اللاهوتية المكشوفة إلى ما تحتمه ضرورة الأيام من فرض فوائد على القروض إذا كان لا بد لرؤوس الأموال أن تستخدم في توسيع دائرة الصناعة والمشروعات المالية، وما وافى عام 1500 حتى أصبح الناس يتجاهلون أوامر الكنيسة القاضية بتحريم "الربا". ثم حل المحامون ورجال الأعمال شيئاً فشيئاً محل رجال الدين والأعمال في إدارة أعمال الحكومة، وأخذ القانون نفسه، بعد أن ظفر باسترداد تقاليده ومكانته اللتين كانتا له في عصر الإمبراطورية الرومانية، يسبق النظم الأخرى في الانتقال من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية ويتعدى يوماً بعد يوم عل نظم الحياة الكنسية التي كانت تخضع من قبل للقوانين الدينية وزادت سلطة المحاكم الزمنية واضمحلت سلطة محاكم الابرشيات.
عام 1500 حتى أصبح الناس يتجاهلون أوامر الكنيسة القاضية بتحريم "الربا".
قصة الحضارةج22 ص35، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البيئة المتغيرة
 
في عالم الإسلام تطورنا وإزدهرنا به، بل إن دنيانا المجيدة من ديننا المجيد
لكن في الغرب حاولوا التغلب على الكنيسة والإقطاع أثناء تغير المجتمعات بمزيد من الربا لتنمية الصناعات بعيدة عنها، والمدهش أن الكنيسة كانت تساهم -في مراحل-في إقراض الناس والمشروعات بالربا.
:"أصبح الناس يتجاهلون أوامر الكنيسة القاضية بتحريم "الربا". ثم حل المحامون ورجال الأعمال شيئاً فشيئاً محل رجال الدين والأعمال في إدارة أعمال الحكومة، وأخذ القانون نفسه، بعد أن ظفر باسترداد تقاليده ومكانته اللتين كانتا له في عصر الإمبراطورية الرومانية، يسبق النظم الأخرى في الانتقال من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية ويتعدى يوماً بعد يوم عل نظم الحياة الكنسية التي كانت تخضع من قبل للقوانين الدينية وزادت سلطة المحاكم الزمنية واضمحلت سلطة محاكم الابرشيات.
وأخذت الدولة الملكية الناشئة بعد أن بلغت طور الشباب وازداد ثراؤها بفضل ما تجمع لها من المال من التجارة والصناعة، أخذت تتحرر شيئاً فشيئاً من سيطرة الكنيسة وأخذ الملوك يعارضون في وجود المندوب البابوي أو القاصد الرسولي في بلادهم ل،ه لم يكن يعترب بسلطان غير سلطان البابا وبذلك جعل كنيسة كل أمة دولة داخل دولة. من أجل ذلك ضيقت القوانين التي صدرت في إنجلترا عام 1351 و1353 أشد التضييق سلطات رجال الدين في شؤون الاقتصاد والقضاء. وفي فرنسا احتفظ الملوك بعد إلغاء قرار بورج التنظيمي من الوجهة التظرية في عام 1516 بحقه في ترشيح كبار الأساقفة ورؤساء الأديرة وكبار رهبانها(17) وأصرت دولة البندقية على أن تعين هي من يشغلون المناصب الكنسية العالية في الأقاليم التابعة لها. وغلب فرديناند وإزابيلا البابوات على أمرهم فانتزعوا منهم حق تعيين من يشغلون كثيراً من المناصب الدينية الشاغرة في أسبانيا وفي الإمبراطورية الرومانية المقدسة حيث استمسك جريجوري السابع بحق البابوات في تعيين رجال رغم معارضة هنري الرابع"
قصة الحضارةج22 ص35، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البيئة المتغيرة)
 
تطورات ادت لنتحية الدين في الغرب وصعود الفكر اللاديني فيه وسيطرته على كل شئ
وتحجيم الباباوية، وفضح الكنسية..
فياترى مانصيب الإسلام في هذه النتيجة ومانصيب الفلاسفة والكنيسة نفسها؟
لقد سبق أن عرضنا نصوصا لديورانت عن فعل الإسلام الإيجابي في تحقير الباباوية وعقائد الكنيسة وتنشيط العلوم بل اختراعها وانتقال الطب وغيره للغرب وأمور كثيرة تسببت بكراهية دين الكنيسة الغالب بعد تلك الدماء التي استباحتها واستعباد الناس، وهلم جرا
يقول ديورانت:"وأخذت الدولة الملكية الناشئة بعد أن بلغت طور الشباب وازداد ثراؤها بفضل ما تجمع لها من المال من التجارة والصناعة، أخذت تتحرر شيئاً فشيئاً من سيطرة الكنيسة وأخذ الملوك يعارضون في وجود المندوب البابوي أو القاصد الرسولي في بلادهم ل،ه لم يكن يعترب بسلطان غير سلطان البابا وبذلك جعل كنيسة كل أمة دولة داخل دولة. من أجل ذلك ضيقت القوانين التي صدرت في إنجلترا عام 1351 و1353 أشد التضييق سلطات رجال الدين في شؤون الاقتصاد والقضاء. وفي فرنسا احتفظ الملوك بعد إلغاء قرار بورج التنظيمي من الوجهة التظرية في عام 1516 بحقه في ترشيح كبار الأساقفة ورؤساء الأديرة وكبار رهبانها(17) وأصرت دولة البندقية على أن تعين هي من يشغلون المناصب الكنسية العالية في الأقاليم التابعة لها. وغلب فرديناند وإزابيلا البابوات على أمرهم فانتزعوا منهم حق تعيين من يشغلون كثيراً من المناصب الدينية الشاغرة في أسبانيا...وكانت البيئة العقلية في الكنيسة نفسها في هذه الأثناء آخذة في التغير تغيراً ينذرها بأشد الأخطار. نعم إنها كانت لا تزال تخرج علماء مجدين ذوي ضمائر حية، ولكن المدارس والجامعات التي أنشأتها هي من قبل كانت قد أخرجت أقلية من الرجال المتعلمين لم تكن آراؤهم مما يرضي على الدوام القديسين. فها هو ذا القديس برناردينو حوالي عام 1420:
وإن كثيراً من الناس إذا ما نظروا إلى ما يرتكبه الرهبان والإخوان والراهبات وغير هؤلاء من رجال الدين لتشمئز نفوسهم، بل إنهم كثيراً ما يتزعزع إيمانهم، فلا يؤمنون بشيء أعلى من أسقف منازلهم ولا يرون أن ما ورد في الكتب عن الدين صادق صحيح بل يعتقدون أنه من اختراع الآدميين وليس وحياً من عند الله..فهم يحتقرون القربان المقدس ولا يؤمنون بوجود الروح ولا يخشون عذاب النار ولا يرغبون في نعيم الجنة، بل إن أهم ما تتعلق به قلوبهم هو الأشياء الزائلة ويعملون على أن يكون هذا العالم الأرضي هو جنتهم(19).
وأكبر الظن أن طبقة رجال الأعمال كانت أقل الطبقات صلاحاً واستمساكاً بالدين، ذلك أن الدين يضمحل على الدوام كلما زاد الثراء. فجوور (1325-1408) يقول إن تجار إنجلترا قلما يعنون بالحياة الآخرة ويقولون أن من يستطيع الحصول على نعم هذه الحياة ثم يتركه تفلت من يده فهو إنسان أبله فما من أحد يعرف أين يذهب بعد الموت أو من أي طريق
نذهب(20)، يضاف إلى هذا إن إخفاق الحروب الصليبية قد خلف في النفوس دهشة أخذت تتناقص على مهل يقول أصحابها كيف سمح رب المسيحية بأن ينتصر الإسلام وكان استيلاء الأتراك على القسطنطينية مما قوى هذه الشكوك، وكانت كتابات نقولاس الكورائي 1432 ولورند سوفلا 1439 التي قالا فيها إن "هيبة قسطنطين" زيف وزور، مما حط من مكانة الكنيسة وأضعف ما تدعيه لنفسها من سلطان زمني. وفوق هذا كله فإن اكتشاف الكتب اليونانية والرومانية القديمة ونشرها كان سبباً في تقوية الشكوك لأنه كشف عن عالم من العلوم والفنون ازدهرت قبل مولد الكنيسة المسيحية وهي التي أنكرت في مجلس لا تيران الخامس 1512-1517 إن النجاة غير مستطاعة خارج حظيرتها(21) كذلك أزاح كشف أمريكا وارتياد بلاد الشرق ارتياداً آخذاً في الاتساع، أزاح هذا وذاك الستار عن مائة أمة كانت ترفض الإيمان بالمسيح أو تتجاهله وكانت لها أديان أخرى لا تقل عن المسيحية إيجابية أو تأثيراً من الناحية الخلقية وجاء الرحالة العائدون من بلاد "الكفرة" ببعض العقائد والطقوس التي أخذت تنازع العبادات والعقائد المسيحية فأخذت هذه العقائد المتنافسة تصطرع في الأسواق وفي الثغور.
ثم إن الفلسفة نفسها التي كانت في القرن السادس عشر خاضعة لسلطان الدين وخامة طيعة له همها كله أن تجد أسباباً يقبلها العقل لمبادئ الدين القويم، قد حررت نفسها في القرن الرابع عشر على أيدي وليام الأوكهامي ومرسليوس من أهل بدوا وأصبحت في القرن السادس عشر فلسفته زمنية جريئة تجهز بتشككها بقيادة بمبو منشي ومكيافلي وجوتشياردين. وقد أذاع مكيافلي قبل أن يكتب لوثر رسالته بأربع سنين نبوءة فزع منها القوم قال:
"لو أن الدين المسيحي قد احتفظ به كما صدر عن مؤسسه لكانت دول العالم المسيحي أكثر اتحاداً وأعظم سعادة مما هي الآن وليس أدل على ضعفه من أقرب الناس إلى الكنيسة الرومانية التي هي صاحبة السلطة العليا في هذا الدين هم أقل الناس تديناً. وإن من ينعم النظر في المبادئ التي يقوم عليها هذا الدين ويرى ما بين هذه المبادئ وبين شعائرها الحاضرة وعباداتها من فرق كبير ليحكم من فوره بأن انهيارها أو يوم القصاص منها لآت عن قريب".
قصة الحضارةج22 ص36،38،، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> البيئة المتغيرة)
 
القرآن وعلم الله متحقق دوما في الرهبان(1)
ما يؤخذ على الكنيسة
تحت هذا العنوان قال ديورانت
" هل لنا أن نعيد هنا ذكرى التهم التي يوجهها الكاثوليك المخلصون إلى الكنيسة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر؟ إن أول هذه التهم وأشدها هي أنها كانت تحب المال وأنه كان لها منه أكثر مما يليق بها إذا أرادت أنفسها الخير وقد وجه مجلس نورنبرج في عام 1522 مائة تهمة منها أنها تمتلك نصف ثروة ألمانيا(23) وقد قدر مؤرخ كاثوليكي نصيب الكنيسة بثلث أموال ألمانيا وخمس أموال فرنسا(24) ولكن مدعياً عمومياً في برلمان فرنسا قدر ثروة الكنيسة في عام 1502 بثلاثة أرباع أموال فرنسا كلها(25) على أننا ليس لدينا من الإحصائيات ما نرجع إليه في هذه التقديرات أما في إيطاليا فإن ثلث شبه الجزيرة بطبيعة الحال كان ملكاً للكنيسة ونعني به الولايات البابوية، هذا فضلاً عما كان لها من الأملاك القيمة في غير تلك الولايات .
قصة الحضارة ج22 ص39، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> ما يؤخذ على الكنيسة
 
القرآن وعلم الله متحقق دوما في الرهبان(2)
ثروة الباباوية و الكنوز الحرام من الذهب والفضة وغيرها
"وكان لتجمع الثروة في يد الكنيسة ستة أسباب. أولها أن معظم من كانوا يوصون بأموالهم عند وفاتهم كانوا يتركون لها بعض المال وقاية لهم من نار جهنم، وإذا كانت الكنيسة هي التي تشرف على عمل الوصايا وإثباتها فإن رجالها كانوا في وضع يمكنهم من تشجيع أمثال هذه الوصايا. وثانيها أن أملاك الكنيسة كانت أكثر أماناً من كل ما عداها من انتهاب اللصوص والجنود والحكومات، ولهذا فإن بعض الناس كانوا ينزلون عن أراضيهم للكنيسة ليأمنوا عليها من ذلك النهب ثم يمتلكونها هم منها بوصفهم عمالاً للكنيسة عليها أن يؤول ما لهم من حقوق إلى الكنيسة بعد موتهم.ومنهم من كان يوصي ببعض أمواله أة بها كلها للكنيسة مشترطين أن تمدهم بما يلزمهم في حالتي المرض والشيخوخة فكانت الكنيسة بذلك تضمن لهم أماناً من الفقر في حالة العجز عن الكسب. وثالث هذه الأسباب أن الذين اشتركوا في الحروب الصليبية قد باعوا إلى الهيئات الدينية أرضهم أو رهنوها لها أو نزولا لها عنها كي يحصلوا على ما يلزمهم من المال في مغامراتهم. ورابع هذه الأسباب أن مئات الآلاف من الأفندية قد آلت إلى الكنيسة لأن طوائف الرهبان هي التي أصلحتها. وخامسها أن ما تمتلكه الكنيسة من الأرض لا يمكن أن ينتقل إلى غيرها-فلا يمكن أن يبيعه أو ينزل عنه أحد من رجالها إلا بوسائل غاية في التعقيد تجعل هذا في حكم المستحيل. وآخر هذه الأسباب أن أملاك الكنيسة كانت في العادة معفاة من الضرائب التي تفرضها الدولة على سائر الأملاك وإن كان بعض الملوك يرغمون رجال الدين على أداء بعض الإتاوات أو يجدون ذرائع قانونية لمصادرة أجزاء من ثروة الكنيسة غير مبالين بما يصبه عليهم رجال الدين من اللعنات، ولو أن أملاك الكنيسة أو الإيراد الناتج منها أو التبرعات التي لا حصر لها والتي كانت ترد إليها من المؤمنين برسالتها قد بقيت داخل حدود البلاد التي ينتمي إليها المتبرعون أو التي توجد فيها هذه الأملاك لكان تذمر الحكام في أوربا الشمالية أقل شدة مما شاهدناه، أما وإن هذه الثروة لم تبق داخل تلك الحدود فإن منظر الذهب الذي كان ينساب بآلاف الطرق من أوربا الشمالية إلى رومة كان مما يثير حنق هؤلاء الحكام.
قصة الحضارة ج22 ص38-40، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> ما يؤخذ على الكنيسة
القرآن وعلم الله متحقق دوما في الرهبان(3)
استهتار الرهبان وانحلال القساوسة
:"ولم يكن هذا التعدد في المناصب أخطر التهم التي وجهت للكنيسة بل كان أخطر منه ما اتهم به رجال الدين من فساد في الأخلاق. وها هو ذا واحد منهم هو أسقف تورشيلو (1458) يقول: أن أخلاق رجال الدين فاسدة يشمئز منها العلمانيون(36). وأصبح المنتمون إلى طوائف الرهبان الأربع التي أسست في القرن الثالث عشر-وهي طوائف الفرانشيسكان والدمنيك ورهبان الكرمل، والاوغسطينيين أصبح المنتمون إلى هذه الطوائف كلها ما عدا الأخيرة منها مستهترين في أخلاقهم شديدي الاستخفاف بما يتطلبه مركزهم من تقى وحسن نظام. وقد تبين أن قواعد الأديرة التي وضعها منشئوها الأولون المتحمسون أشد مما تطيقه الطبيعة البشرية التي أخذت تتحرر شيئاً فشيئاً من مخاوف ما وراء الطبيعة. وإذ كان آلاف الرهبان والإخوان قد استغنوا عن العمل اليدوي بفضل ما تجمع لهم من المال الكثير، فقد أهمل هؤلاء الخدمات الدينية وخرجوا من صوامعهم يجسون خلال الديار، ويتعاطون الخمور في الحانات ويتخذون لهم عشيقات. وها هو ذا راهب من الدمنيك يدعى جون بروميارد من رهبان القرن الرابع عشر يقوله عن إخوانه الرهبان:
إن أولئك الذين من واجبهم أن يكونوا آباء للفقراء...يشتهون ألذ الطعام، ويستمتعون بنوم الضحى...ويمنون على الناس بحضورهم صلاة الصباح أو القداس...وتراهم منهمكين في الطعام والشراب إذا لم نقل في الدنس والأقذار، حتى لقد أصبحت مجامع رجال الدين مواخير للفجار ومجتمعات من مهرجين(37).
وكرر أرازمس تلك التهمة نفسها بعد مائة عام من ذلك الوقت فقال: "إن كثيراً من أديرة الرجال والنساء قلما تختلف عن المواخير العامة(39)". ولسنا ننكر أن بترارك قد رسم صورة طيبة لما كان يسود دير الكرثوذيين الذي كان أخوه يعيش فيه من حسن نظام وتقى وأن كثيراً من الأديرة في هولندا وغربي ألمانيا قد احتفظت بروح الدرس والصلاح التي تألفت على أساسها "طائفة إخوان الحياة العامة" وصدر منها كتاب التشبه بالمسيح، ولكن نيوهانز تريتميوس، ينس وايرسينهايم (حوالي 1490) قد ندد برهبان هذا الجزء من ألمانيا المحيط بنهر الراين تنديداً عنيفاً أشد العنف فقال:
إن هؤلاء الرجال لا يبالون بالأيمان الدينية التي أقسموها..فإنهم لم يعدوا قط بأن يبروا بها...فهم يقضون النهار كله في الحديث القذر ويقضون وقتهم كله في اللعب والتهام الطعام..وإذا كانوا يمتلكون ثروة خاصة طائلة..فإن كل واحد منهم يعيش في مسكن خاص به..وليس فيهم من يهاب الله قط أو يحبه. ولا يفكرون قط في الحياة الآخرة ويؤثرون شهواتهم البدنية على مطالب الروح..ويحتقرون ما أقسموا عليه من التزام الفقر ويجهلون يمين العفة وينقضون يمين الطاعة.. وإن رائحة أقذارهم لتحيط بهم من كل الجوانب(41).
ولما أرسل جاي جوينو من قبل البابا لإصلاح أديرة البندكتيين في فرنسا كتب بعد عودته تقريراً يبعث الغم والاكتئاب في النفوس (1503) قال فيه إن كثيراً من الرهبان يلعبون الميسر ويكثرون من السباب، وترددون على الحانات، ويتسلحون بالسيوف، ويجمعون الأموال "ويحبون حياة السكيرين"، وهم أكثر تعلقاً بالدنيا من رجال الدنيا أنفسهم..ولو أنني أردت أن أقص كل ما وقعت عليه عيناي لملأت بذلك صحفاً طوالاً(42). وقد كانت نتيجة الفوضى المضطرة النماء في الأديرة أن أهمل الكثير أعمال الصدقات والخدمة في المستشفيات والقيام بشؤون التعليم وهي الأعمال العظيمة الخليقة بالإعجاب التي اغستحقوا من أجلها ثقة الناس وتأييدهم(43). ويقول البابا ليو العشر (1516) "لقد وصل اضطراب الأمور في أديرة فرنسا وحياة الاستهتار التي يحياها الرهبان إلى حد لم يبق لهم معه أي احترام عند الملوك أو الأمراء أو المتينين من الناس(44). وقد أجمل مؤرخ كاثوليكي وصف هذه المفاسد كلها كما رآها في عام 1490، ولعله كان مبالغاً بعض الشيء في قسوته فقال:
اقرأ ما يفيض به ذلك العهد من أدلة وشواهد-طرائف تاريخية وتعنيف ينطق به رجال الأخلاق، وهجاء يكتبه العلماء والشعراء، ومراسيم بابوية ومجامع دينية مقدسة-ماذا تجد في هذه كلها؟ إنك لتجد فيها نفس الحقائق ونفس الشكاوى..التحرر من حياة الأديرة ومن النظام والأخلاق الكريمة وما أكثر ما تجد في الأديرة من لصوص وفسقة، وإذا شئت أن تدرك ما في هذه الأديرة من فوضى فعليك أن تقرأ ما كشفت عنه البحوث القضائية من تفاصيل الحالة الداخلية للكثرة الغالبة من الأديرة الكبيرة...ولقد بلغت المساوئ المنتشرة في أديرة الكرثوذيين درجة أصبحت معها هذه الأديرة مضرب المثل في سوء السمعة في كل مكان تقريباً..أما أديرة الراهبات فقد اختفت فيها حياة الرهبنة عن آخرها...فاستحالت دور العبادة بسبب هذه المساوئ كلها بؤراً للفساد وسوء النظام(45).
أما رجال الدين غير المنتمين إلى طوائف الرهبان، فكانوا خيراً من الرهبان الإخوان، إذا تساهلنا في عادة التسري التي كانت شائعة بينهم، وكانت أكبر آثام قسيس الابرشية هي جهلة(46) ولكنه لم يكن يتقاضى إلا القليل الذي لا غناء فيه من الأجر وكان يرهق بالعمل ومن أجل هذا لم يكن يجد من الوقت أو المال ما يعينه على الدرس، وتدل التقوى الشائعة بين عامة الشعب على أنه كثيراً ما كان محبوباً مبجلاً. وكثيراً ما كان هؤلاء القساوسة يحنثون بقسمهم على أن يليلتزموا العفة والطهارة. ففي نورفولك بإنجلترا مثلاً نظرت المحاكم في ثلاث وسبعين تهمة خاصة بعدم العفة في عام 1499، وكان منها خمس عشر تهمة موجهة إلى رجال الدين، وفي ريبون كانت أربع وعشرون تهمة من 126 موجهة إلى رجال الدين، وفي لامبث كانت تسع تهم من ثمان وخمسين موجهة إلى رجال الدين، ومعنى هذا أن ثلاثاً وعشرون في المائة من مجموع هذه التهم موجهة إليهم مع أن رجال الدين كلهم كانوا في أغلب الظن أقل من اثنين في المائة من مجموع السكان(47). ومن رجال الدين من كانت لهم صلات جنسية بالتائبات من النساء(48). وكان للآلاف من القساوسة خطايا، وفي ألمانيا كان لهم كلهم تقريباً(49) وفي رومة كان هذا هو الأمر المتبع المألوف، وتقدر بعض التقادير عدد العاهرات فيها بسبعة آلاف من بين السكان الذين لم يكونوا يزيدون على مائة ألف(50). وها هو ذا مؤرخ كاثوليكي يقول:
لا غرابة وتلك حال أعلى طبقات رجال الدين أن تنتشر الرذيلة وينتشر الشذوذ باختلاف أنواعه بين طوائف الرهبان المنتظمة وبين القساوسة من غير الرهبان وأن يزداد هذا الانتشار يوماً بعد يوم. قصارى القول أن الفضيلة قد فقدت معناها على وجه الأرض..ولكن من الخطأ أن نظن أن فساد رجال الدين كان أسوأ في رومة منها في غيرها من المدن، ذلك أن لدينا أدلة تثبتها الوثائق على فساد أخلاق القساوسة في كل بلد تقريباً من بلدان شبه الجزيرة الإيطالية..فلا عجب، كما يقول كاتب معاصر والحزن يملأ قلبه إذا كان نفوذ رجال الدين قد أخذ ينقص تدريجياً وإذا كان الناس لا يكادون يظهرون أي احترام مهما قل لرجال الدين في كثير من الأقطار ذلك أن الفساد قد انتشر بينهم إلى حد أصبحنا نسمع معه اقتراحات يبديها البعض بالسماح للقساوسة بالزواج(15).
ويجدر بنا أن نقول إنصافاً لهؤلاء القساوسة غير المتعففين أن التسري الشائع بينهم لم يكن يعد دعارة بل إنه يكاد يكون تمرداً عاماً على قانون العزوبة التي فرضها البابا جريجوري السابع (1074) على رجال الدين وأرغمهم عليها إرغاماً. ولقد أخذ كهنة الكنيسة الرومانية يطالبون بأن يُسمح للقساوسة بالزواج شأنهم في ذلك شأن أمثالهم من كهنة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والروسية فقد ظلت هذه الكنيسة تسمح لقساوستها بالزواج بعد الانشقاق الذي حدث في عام 1054، إذ كان قانون الكنيسة الكاثوليكية لم يسمح لهم بهذا فقد لجأوا إلى عادة التسري. وها هو ذا هاردون أسقف انجيز يقول في تقرير له (1428) إن رجال الدين في ابرشيته لم يكونوا يرون في اتخاذ الحظايا إثماً. وأنهم لم يحاولوا قط أن يخفوا ذلك عن أعين الناس(52). وكان في بومراننا 1500 حالة من هذا النوع يعترف الأهلون بأنها لا غبار عليها، بل كانوا يشجعونها، لأنهم يرونها وقاية لبناتهم وزوجاتهم، وكان المألوف المتواضع عليه الاحتفالات العامة أن يعطى مكان الشرف للقساوسة وحظاياهم(53)، وحدث في شلزويج أن طرد أسقف من كرسيه لأنه حاول أن يحرم هذه العادة(54) (1499). ولما عقد مجلس كنتستانس اقتراح الكردنال زيلا أن تعود الكنيسة فتسمح لرجال الدين بالزواج إذا لم يكون مستطاعاً منعهم من اتخاذ الحظايا، وقال الإمبراطور سجسمند في رسالة له إلى مجلس بازل (1431) إن زواج رجال الدين سيصلح من أخلاق الناس بوجه عام(55)، ونقل المؤرخ بلاتينا أمين مكتبة الفاتيكان عن اينياس سافيوس قوله أن هناك أسباباً قوية في صالح بقاء رجال الدين عزاباً، ولكن هنا أسباباً أقوى منها في صالح زواجهم(56)، وجملة القول أن السجل الأخلاقي لرجال الدين قبل الإصلاح الديني يبدو خيراً مما هو إذا نظرنا إلى عادة اتخاذ الحظايا على أنها تمرد يغتفر لهم، على سنة مرهقة لا تطيقها الطبيعة البشرية، ولم تكن عند الحواريين الأولين، ولا تجري عليها الكنيسة الشرقية.
قصة الحضارة ج22 ص44-48،، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> ما يؤخذ على الكنيسة
 
القرآن وعلم الله متحقق دوما في الرهبان(4)
بيع الجنة بالشبر!!
الباباوية الكاذبة تبيع صك الغفران
:"أما الشكوى التي أشعلت نار الإصلاح الديني في آخر الأمر فقد كانت هي بيع صكوك الغفران. وتفصيلها أن من حق رجال الدين، السلطات التي خولها المسيح فيما بعد يبدو لبطرس (إنجيل متي 16، 19) والتي انحدرت من بطرس إلى رجال الدين بمقتضى هذه السلطات أن يغفروا للتائب المعترف بذنوب خطاياه وما يترتب عليها من عقاب في نار جهنم، ولكنهم لا يعفون أولئك المذنبين من التكفير عن خطاياهم أثناء حياتهم على ظهر الأرض. على أن الذين يستطيعون أن يثقوا بأنهم يموتون بعد أن يكفروا التكفير الواجب عن ذنوبهم كلها ليسوا إلا قلة صغيرة من الناس مهما اعترفوا بذنوبهم وطهرهم هذا الاعتراف، إن الذين يستطيعون أن يثقوا بذلك هم قلة صغيرة من الناس، أما الباقون فلابد أن يكفروا عما بقي من ذنوبهم بأن يقدموا عدداً من السمين في المطهر، الذي أوجده الإله الرحيم ليكون جحيماً مؤقتاً لهؤلاء المذنبين. لكن ثمة طائفة كبيرة من الأولياء الصالحين قد كسبوا بفضل خشوعهم وتقواهم واستشهادهم في سبيل الدين من الفضائل ما نرى في أكبر الظن زيادته على ما كفروا به عن ذنوبهم. وقد خلف المسيح وراءه بموته قدراً لا يحصى من الفضائل، وهذه الفضائل كما تقول الكنيسة، يمكن أن تعد بمثابة كنز يستمد منه البابا ما يشاء ليمحو جزءاً من الآثام التي ارتكبها الناس في الدنيا. ولم يكفروا عنها كل التكفير. وكانت الكفارة التي تضعها الكنيسة تتخذ في العادة صورة تكرار بعض الأدعية أو إخراج الصدقات أو الحج إلى بعض الأضرحة المقدسة، أو الاشتراك في حرب صليبية ضد الأتراك أو غيرهم من "الكفرة". أو التبرع بالمال أو العمل لبعض المشروعات الاجتماعية كتجفيف مستنقع، أو إنشاء طريق، أو بناء قنطرة، أو مستشفى، أو كنيسة. وكان استبدال غرامة مالية (فدية) بالعقاب البدني سنة مألوفة من عهد بعيد في المحاكم المدنية، ومن ثم فإن تطبيق هذه الفكرة على صكوك الغفران لم يغضب الناس في بادئ الأمر. وكان التائب المعترف، إذا أدى هذه الفدية أي إذا خرج عن بعض المال-لنفقات الكنيسة تسلم صك غفران جزئي أو كلي، ولم يكن هذا الصك يجيز له أن يرتكب ذنوباً جديدة، بل يمكنه من أن ينجو يوماً، أو شهراً، أو عاماً من عذاب المطهر، أو أن يعفى من جميع المدة التي كان لا بد له أن يقضيها في عذاب المطهر عقاباً له على ذنوبه لولا هذا الصك، ولم يكن الصك ليفي من جريمة الإثم، أما هذه الجريمة فقد كانت تعفى حين يغفر القس ذنب التائب النادم أثناء الاعتراف قبل الموت. فصك الغفران، والحالة هذه، معناه أن تعفو الكنيسة بعض العقوبات الدنيوية (أي غير الأبدية) التي يتعرض لها صاحب الخطايا التي غفر أثمها أثناء عملية الكفارة.
وسرعان ما تبدل شأن هذه النظرية البارعة المعقدة بفضل شذاجة الناس أو شراهة الغافرين الذين عهد إليهم توزيع صكوك الغفران أو ادعوا لأنفسهم حق توزيعها. وإذ كان يُسمح لهؤلاء الموزعين أن يحتفظوا لأنفسهم بجزء مما تدره من المال، فقد أغفل بعضهم الإصرار على توبة من يبتاعون الصكوك، أو اعترافهم بذنوبهم، أو صلواتهم، وتركوا لهم جريتهم الكاملة في أن يفسروا الصكوك بأنها تعفيهم من التوبة، ومن الاعتراف، ومن الغفران على يد القساوسة، وبأنهم يستطيعون الاعتماد كل الاعتماد تقريباً على ما يقدمون من المال. وقد وصل الأمر حداً جعل تومس جسكوني مدير جامعة اكسفورد يجأر بالشكوى ويقول:
يقول المذنبون في هذه الأيام: "لست أبالي كم أرتكب من الذنوب أما الله لأن من السهل علي أن أتخلص من كل ذنوبي ومما يترتب عليها من العقاب بالمغفرة وصكوك الغفران بمنحي إياها الباب الذي ابتاعها منه مستورة نظير أربع بنسات أو ست كاني أكسبها في لعبة تنس مع من في مقدرته أن يمنح هذا الغفران". ذلك أن بائعي هذه الصكوك يطوفون بالبلاد ويفرقون خطابات بالمغفرة نظير بنسين تارة ونظير جرعة من الخمر أو الجعة تارة أخرى...بل إنهم يعطونها نظير استئجار عاهر أو نظير الحب الدنس(75) ولقد ندد البابوات-بونيفاس التاسع في عام 1392، ومارتن الخامس في عام 1420 وسكستس الرابع في عام 1478-أكثر من مرة بهذه المساوئ وهذا الخطأ في التفكير ولكن حاجتهم إلى المال كانت أشد من أن يستطيعوا معها السيطرة المجدية على هذه العادات السيئة. وكثيراً ما أصدروا القرارات لأسباب عدة يتحير الفكر فيها مع إيمان رجال العلم بهذه النظرية واتهموا الكنيسة بأنها تستغل سذاجة الناس وآمالهم استغلالاً يجللها بالعار(58) وكانت اللغة الرسمية في بعض هذه الحالات كالصكوك التي عرضها يوليوس الثاني في عام 1510 أوليو العاشر في عام (1513) تحمل من المعاني ما يمكن تفسيره تفسيراً مالياً خالصاً(59). وقد وصف أحد الرهبان الفرنسيس من ذوي المراتب العليا وهو غاضب أشد الغضب كيف كانت الصناديق توضع في كنائس ألمانيا كلها لتتلقى الأموال من الذين لم تمكنهم ظروفهم من الذهاب إلى رومة ليشهدوا الاحتفال الذي أقيم فيها عام 1450 فاستطاعوا الآن أن تغفر لهم جميع ذنوبهم بالمال يلقونه في الصناديق ثم حذر الألمان قبل أن يحذرهم لوثر بنصف قرن فقال لهم إن صكوك الغفران وغيرها من الوسائل تستنزف موارهم وتنقلها إلى رومة(60) وحتى رجال الدين أنفسهم كانوا يشكون من أن صكوك الغفران كانت تقتنص الأموال إلى خزائن البابوات وكان خليقاً بهذه الأموال أن تستخدم في الأغراض الكنسية المحلية (61) ويلخص مؤرخ كاثوليكي هذا الموضوع كله بصراحة خليقة بالإعجاب فيقول:
إن النساوئ ذات الصلة بصكوك الغفران تنشأ كلها تقريباً من سبب واحد وهو أن المؤمنين بعد أن يشهدوا مراسيم التكفير وهي الشرط المقرر المعترف به لنيل المغفرة، ويطلب إليهم أن يقدموا من المال ما يتناسب مع ثرائهم وبذلك أصبح المال الذي يؤدى للأعمال الخيرية وهو الذي يجب أن يكون من الأعمال التي لا يلزم بها إنسان، أصبح هذا المال في بعض الحالات هو الشرط الأساسي لغفران الذنوب.. وكثيراً ما أصبح المال لا العمل الصالح هو الغاية المقصودة من الغفران ولسنا ننكر أن العبارات التي صيغت فيها قرارات البابوية يخيل إلى الإنسان معها أنها لا تحيد مطلقاً عن عقائد الكنيسة وإن الاعتراف والندم والأعمال الصالحة المنصوص عليها في هذه العقائد هي الشرط الأساسي لنيل المغفرة، إلا أن الجانب المالي كان يبدو واضحاً في جميع الأحوال وكان للهبات المالية المقام الأول في هذا الأمر كله مما يسربل الكنيسة بالعار ويجعلها مضغة في الأفواه. اتخذت صكوك الغفران شيئاً فشيئاً صورة الصفقات المالية، وأدى هذا إلى كثير من النزاع بين السلطات الزمنية التي كانت تتطلب على الدوام حظها من هذه الموارد(62).
ولا يقل عن بيع صكوك الغفران دلالة على حب الكنيسة للمال قبولها أو طلبها المال أو الهبات أو الوصايا نظير تلاوة الأدعية والصلوات التي يقولون إنها تقصر المدة التي تقتضيها روح الميت في المطهر لتعاقب عن ذنوبها وكان الصالحون الأتقياء من الناس يخصصون من أموالهم جزءاً كبيراً لهذا الغرض لتنجو به روح قريب لهم أو ميت فارق الحياة الدنيا أو ليقصروا المدة هم أنفسهم في المطهر بعد موتهم أو يلغوها إلغاءً تاماً. ولهذا أخذ الفقراء يشكون من أن عجزهم عن أداء الأموال نظير الأدعية والصلوات أو لابتياع صكوك الغفران بجعل الأغنياء على الأرض لا الوادعين هم الذين يرثون ملكوت السموات، ولقد كان كوليس حصيفاً حين امتدح المال لأن "من يمتلك المال يستطيع نقل الأرواح إلى الجنة" كما قال(63).
وازدادت الشكاوى من الكنيسة فبلغت ألفاً أو تزيد فقد غضب غير رجال الدين من إعفاء الكهنوت من الخضوع لقوانين الدولة ومن معاملة المحاكم الكنيسة للمذنبين من رجال الدين باللين الذي يعرض الدولة لأشد الأخطار.
قصة الحضارة ج22 ص48-52،، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> ما يؤخذ على الكنيسة
 
من تطرف الى تطرف
من المسيحية الأوروبية إلى العلمانية
رويدا رويدا
(هل تسبب الإسلام في فضح الرهبان والقساوسة، الإجابة نعم وديورانت ذكر كلاما في هذا قدمناه في موضعه)
إنه خط الكهنوت علماني أم نصراني .. ادعاء الصلة المباشرة مع الله او الاستحواذ على الدنيا ومافيها علمانيا
إنه خط الإنحراف بتعريف محمد قطب
:"وقد تجمعت كل هذه العوامل السالفة الذكر فكانت سبباً في ابتعاد أوربا عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في بداية القرن السادس. ويقول باستور في ذلك "إن احتقار غير رجال الدين وكراهيتهم للكهنة الفاسدين كان من أقوى العوامل في مروق الكثيرين من الدين(65)" وشكا أحد أساقفة لندن في عام 1515 من أن الناس يميلون إلى الإلحاد ميلاً بلغ من سوء العاقبة والانحطاط حداً جعلهم..ينددون بكل رجل من رجال الدين وإن لم يكن يقل طهراً وبراءة عن هابيل"(66) وها هو ذا ارازمس نفسه يقول إن لقب قس أو كاهن أو راهب أصبح يعد من أشد الإهانات(76) وفي مدينة فيينا أصبح منصب القس في العشرين سنة السابقة على الإصلاح لا يجد من يشغله مع أنه كان قبل ذلك الوقت خير ما يرغب فيه الأهلون(68). ولهذا كله رفع الناس عقيرتهم في جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني مطالبين بإصلاح "الكنيسة إصلاحاً يشمل رأسها وأعضاءها جميعاً". وكان الإيطاليون المتحمسون الثائرون أمثال البريشيائي ويواقم الفلوري، وسفنرولا الفلورنسي قد هاجموا مساوئ الكنيسة دون أن يخرجوا على المذهب الكاثوليكي ولكن اثنين منهم مع ذلك قد حرقوا وهم على قيد الحياة، غير أن الكاثوليك الصالحين ظلوا يأملون أن يتم الإصلاح على يد أبناء الكنيسة المخلصين الموالين لها وكان الكتاب الإنسانيون أمثال أرازمس، وكوليت، ومور، وبوديه يخشون ما يحدثه الهجوم العلني على الكنيسة من اضطراب أمورها واختلال نظامها، فقد كفاها ضعفاً أن ظلت الكنيسة اليونانية بعيدة عن الكنيسة الرومانية مصممة على هذا البعد كل التصميم، وكان كل تمزق في "ثوب المسيح الذي لادرز فيه يهدد كيان العالم المسيحي نفسه بالفناء وكم من مرة حاولت الكنسية مخلصة في معظم الأحوال أن تطهر صفوفها ومحاكمها وأن تسلك في شؤونها المالية مسلكاً يتفق مع الخلق الطيب ويسمو على أخلاق غير رجال الدين في تلك الأيام. ولطالما حاولت الأديرة أن تعود إلى قواعد نسكها القديم ولكن طبيعة الإنسان كانت تنقص كل ما يوضع من الدساتير وحاولت المجالس إصلاح الكنيسة ولكن البابوات عارضوها فأخفقت في أغراضها، وحاول البابوات أنفسهم أن يقوموا بذلك الإصلاح ولكن الكرادلة ورجال الإدارة البابوية هزموا أولئك البابوات ولقد شكا ليو العاشر نفسه في عام 1516 والحسرة تملأ قلبه من إخفاق هذه المحاولات ولسنا ننكر أن بعض المستنيرين من رجال الكنيسة أمثال نقولاس الكوزائي قد حققوا بعض الإصلاحات المحلية، ولكن هذه الإصلاحات نفسها كانت قصيرة الأجل. وأثار التنديد بمعايب الكنيسة والتشنيع عليها من أعدائها ومحبيها على السواء، ثائرة المدارس واضطربت له المنابر وفاضت به كتب الأدب، وأخذ يزداد يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ويستقر في ذاكرة الناس ويستثير غضبهم حنى قضى على ما كان للكنيسة في قلوب الناس من احترام وما كان باقياً من تقاليد واكتسحت أوربا ثورة دينية عارمة كانت أوسع مدى وأعمل أثراً من جميع الانقلابات السياسية التي حدثت في أيامنا الحاضرة.
قصة الحضارة ج22 ص53-54، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> الكنيسة الكاثوليكية الرومانية -> ما يؤخذ على الكنيسة
 
حروب انجلترا القرن الثالث عشر المسيحي ضد المسيحيين الآخرين في فرنسا واستكلندة وويلز
وطريقة قسم الملك امام الكاهن
:" أقسم إدوارد الثاني الملك السادس من آل بلا نتجت في الخامس والعشرين من فبراير سنة 1308 أثناء تتويجه أمام رجال الدين والنبلاء المجتمعين في دير وست منستر، القسم الذي تطلبه إنجلترا في كبرياء من جميع ملوكهاكبير أساقفة كنتربري: سيدي هل تمنح أهل إنجلترا وتحتفظ لهم وتؤكد لهم بقسمك القوانين والعادات التي منحها إياهم ملوك إنجلترا الأقدمون أسلافك الصالحون المتدينون وخاصة القوانين والعادات والامتيازات التي منحها لرجال الدين والشعب سلفك الملك العظيم القديس إدوارد؟
الملك: إني أمنحهم إياها وأعدهم بها.
كبير الأساقفة: سيدي هل تؤيد أمام الله وأمام الكنيسة المقدسة لرجال الدين وللشعب السلم والوئام في سبيل الله بكل مالك من قوة.
الملك: نعم سأؤيدها.
كبير الأساقفة: سيدي هل تعمل على أ، تكون جميع أحكامك متصفة بالعدالة الحقة والمساواة والحزم والرحمة والصدق وتسهى لها بجميع قواك.
الملك: سأفعل ذلك.
كبير الأساقفة: هل تعد بأن تستمسك بالقوانين والعادات الصالحة
التي قد تختارها بلادك وأن تحافظ عليها وهل تدافع عنها وتقويها تكريماً لله وتعظيماً له بأقصى ما لديك من قوة؟.
الملك: أوافق على ذلك وأعد به(1).
وبعد أن أقسم الملك على ومسح بالزيت المقدس وكرس حسب الأصول المرعية عهد بالحكم إلى موظفين مرتشين عاجزين وصرف حياته في اللهو مع بيزجافستون الغلام الذي كان يعشقه. لهذا ثار عليه أعيان البلاد وقبضوا على جافستون وذبحوه (1312) وأخضعوا إدوارد وإنجلترا لحكم الأقلية الثرية والإقطاعية.
ولما عاد إدوارد يجلله الخزي والعار بعد أن هزم على أيدي الاسكتلنديين في بنوكبيرن (1314) أخذ يواسي نفسه بحب جديد هو حب هيو المبذر الثالث. وتآمرت زوجته ازابلا الأميرة الفرنسية التي أهملها مع عشيقها روجردي مورتمر على خلعه عن العرش (1326). ثم اغتاله أحد رجال مورتمر في قلعة بركلي (1327)، وتوج ابنه إدوارد الثالث ملكاً على إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره...فلما كان عام 1295 كان إدوارد الأول يحارب فرنسا واستكلندة وويلز فاشتدت حاجته إلى المال والرجال
قصة الحضارة ج22 ص56،57،، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الحكوم
 
ديدنهم الحرب
"وكانت الحروب تعد وقتئذ أسمى أعمال الملوك وأنبلها، وكان من يتقاعدون عن الحروب من الملوك يحتقرون، وقد خلع من ملوك إنجلترا ثلاثة يتصفون بهذه الصفة، وكان الموت الطبيعي عاراً لا يستطيع معه إنسان ما أن يبقى حياً، إذا جاز لنا أن نتجاوز بعض الشيء عما في هذا القول من مفارقة تاريخية، وكان كل فرد من أبناء الأسرة الأوربية الشريفة يدرب على الحرب، ولم يكن يستطيع أن ينال السلطان أو الأملاك إلا بالشجاعة في الحروب والحذق في استعمال السلاح. وكان الأهلون يقاسون الأهوال من جراء الحروب، ولكنهم قلما كانوا هم أنفسهم يخوضون غمارها حتى اعتلى هذا الملك العرش، ونسي أبناؤهم ذكرى آلامها، وأخذوا يستمعون إلى قصص الفروسية القديمة التي تروي أمجاد الفرسان، ويتوجون بأحسن الأكاليل رؤوس ملوكهم الذين يريقون من دماء الأجانب أكثر قدر مستطاع.
ولما عرض إدوارد أن يفتح فرنسا لم يكد يجرؤ أحد من مستشاريه على أن يشير عليه بالتراخي والصلح، ولم ترتفع صيحة السلام من ضمائر الأمة إلا بعد أن استمرت الحرب جيلاً من الزمان، وأثقلت كاهل الأهلين حتى الأغنياء منهم بالضرائب الفادحة. وكاد استياء الشعب يبلغ حد الثورة حين تبدلت حملات إدوارد من نصر إلى هزيمة وهددت الاقتصاد القومي بالخراب. وكان إدوارد هذا قد ظل حتى عام 1370 يفيد في الحرب والسياسة من حكمة السير جون تشاندوس وولائه وإخلاصه في خدمته. فلما توفي هذا البطل حل محله في مجلس الملك دوق لا نكستر ابن الملك وهو الذي كان
يطلق عليه اسم جون جونت وهو الاسم المشتق من غانت أو غنت التي ولد فيها. وأسلم جون بإهماله حكم البلاد إلى القراصنة السياسيين الذين أثروا على حساب الشعب، ورفع البرلمان عقيرته يطلب الإصلاح، وأخذ الصالحون من الرجال يدعون الله على الأمة سعادتها بالتعجيل بموت الملك، وكان في مقدور ابن آخر من أبنائه يسمى الأمير الأسود-ولعل هذا الاسم مأخوذ من لون درعه-أن يبعث روح القوة والنشاط في الحكومة، ولكنه فارق هذا العالم في عام 1176 على حين أن حياة الملك قد طالت بعد وفاته.
وأصدر "البرلمان الصالح" في ذلك العام قرارات ببعض الإصلاحات، وزج في السجن باثنين من المجرمين وأمر بطرد أليس بروز من البلاط، وأخذ على الأساقفة عهداً بأن يحرموها من حظيرة الدين إذا عادت إلى البلاط مرة أخرى. ولما انتهت الدورة البرلمانية أغفل إدوارد قراراته، وأعاد جون جونت إلى سابق سلطانه وأليس برز إلى فراش الملك، ولم يجرؤ أحد من الأساقفة على أن يوجه إليها التأنيب أو اللوم. ثم رضي الملك العنيد آخر الأمر أن يموت (1377)، وخلفه على العرش ابن للأمير الأسود وتسمى باسم ريشارد الثاني، وكان غلاماً في الحادية عشرة من عمره. وكانت البلاد حين تولى الحكم تضطرب فيها عوامل الفوضى الاقتصادية والسياسية وتختمر فيها أسباب الثورة الدينية.
قصة الحضارة ج22 ص61-62، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الحكوم
 
القرآن وعلم الله متحقق دوما في الرهبان والقساوسة والباباوات(5)
يأكلون أموال الناس بالباطل
ويكنزون الذهب والفضة
:"أما الذي كان يقض مضاجع غير رجال الدين ويفت في عضدهم هم ورجال الحكم على السواء فهو الزيادة المطردة في ثروة الكنيسة الإنجليزية وتداولها بين أيدي رجال الدين. نعم إن رجال الدين كانوا يسهمون بأداء عشر إيرادهم للدولة، ولكنهم كانوا يصرون على ألا تفرض عليهم ضريبة إلا بموافقة مجامعهم الدينية. ذلك أنهم كانوا يجتمعون بأشخاصهم أو بمن يختارونهم للنيابة عنهم، في مجامع يرأسها كبير أساقفة كنتربري ويورك، وذلك فضلاً عن انهم كان لهم ممثلون في مجلس اللوردات هم أساقفتهم ورؤساء الأديرة، وكان رجال الدين يقررون في هذه المجالس كل الأمور ذات الصلة بالدين أو برجاله وقد جرت العادة على أن يختار الملك أكبر موظفي الدولة من بين رجال الدين بوصفهم أعظم الطبقات علماً في إنجلترا. وكانت القضايا التي يقيمها العلمانيون على رجال الدين، والتي تمس أملاك الكنيسة، ترفع إلى محاكم الملك، ولكن محاكم الأساقفة كانت هي المختصة بالنظر في الجرائم التي يرتكبها رجال الدين. وكانت الكنيسة في كثير من المدن تؤجر أملاكها للأفراد، وتطالب أن يكون لها السلطة القضائية الكاملة على هؤلاء المستأجرين، حتى إذا ارتكبوا جرائم عادية . وكانت هذه كلها أمور تضايق الأهلين، ولكن أكثر ما كان يضايقهم هو انتقال الثروة من الكنيسة الإنجليزية إلى الباباوات، أي انتقالها في القرن الرابع عشر إلى افنيون أي إلى فرنسا نفسها. وقد قدرت الثروة الإنجليزية التي حصل عليها البابا بأكثر من التي حصلت عليها الدولة أو الملك.
وتألف في بلاط الملك حزب مناهض لرجال الدين، وسنت شرائع تجعل القسط الذي تسهم به الكنيسة في نفقات الدولة أكبر وأعظم ثباتاً مما كان. ولما كان عام 1333 أبى إدوارد الثالث أن يستمر في أداء الجزية التي تعهد جون ملك إنجلترا عام 213 بأدائها للباباوات، وفي عام 1351 حاول البرلمان في "قانون الشروط" أن يضع حداً لسلطان الباباوات على موظفي الكنيسة الإنجليزية وإيراد ممتلكاتها. ونص "قانون السجن والمصادرة" (1353) على أن يحرم من حماية القانون كل إنجليزي يتقاضى في المحاكم الأجنبية (البابوية) في جميع المسائل التي يرى أنها في دائرة اختصاص السلطة الدنيوية. وفي عام 1376 شكا مجلس العموم رسمياً من أن جباة البابوية في إنجلترا يبعثون إلى البابا بمبالغ طائلة من المال، وان الكرادلة الفرنسيين غير المقيمين في إنجلترا يحصلون على إيرادات كبيرة من كراسي الأسقفية الإنجليزية.
قصة الحضارة ج22 ص63-64، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> جون ويكلف
 
الانجليز يستحمون كل اسبوعين-كان ياماكان
انجلترا في القرن الرابع عشر قيل الثورة الكبرى1381
فقر وقذارة وامراض واستحمام من مياة الآبار لكن الماء(كان أثمن من أن يضيعوه في الاستحمام كل أسبوع)
:"كان عدد سكان إنجلترا وويلز في عام 1307 يقدر تقديراً غير موثوق به بثلاثة ملايين من الأهلين، أي أنه قد ارتفع ارتفاعاً بطيئاً من 2.500.000 وهو ما كان يطن أنه عدد السكان سنة 1066 وهذان الرقمان يوحيان بأنه قد حدث تقدم بطئ أيضاً في الفنون الزراعية والصناعية-وتحديد قوي لعدد السكان بسبب القحط، والمرض والحروب-في جزيرة زراعية ضيقة الرقعة، لا ينتظر منها بمواردها الخاصة أن تعول عدداً كبيراً من الأهلين. وأكبر الظن أن ثلاث أرباع السكان كانوا من الزراع، وأن نصف هؤلاء السكان كانوا من أرقاء الأرض، وكانت إنجلترا من هذه الناحية متأخرة عن فرنسا بقرن من الزمان...وكان السيد الإقطاعي يحتم على الفرسان الذين يدينون له بالولاء وعلى أتباع هؤلاء أن يخدموه ويدافعون عنه، ويلبسوا ثياب زينته الخاصة...وكان جميع الذكور من سكان المدن في إنجلترا معرضين لأن يجندوا للعمل في الأعمال العامة، ولكن كان في وسع الأغنياء منهم أن يشتروا أنفسهم بالمال. وكان الأهلون بوجه عام يعيشون في فقر مدقع، وإن لم يبلغ فقرهم في أغلب الظن من الشدة ما كان عليه في أوائل القرن التاسع عشر، وكان المتسولون في البلاد كثيرون، وقد نظموا أنفسهم تنظيماً يقصد به حماية مهنتهم وحكمها، وكانت الكنائس، والأديرة، ونقابات الحرف تقدم قليلاً من الصدقات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وفاجأ البلاد-وهذه حلها-الوباء المعروف في الموت الأسود، ولم يكن هذا الوباء كارثة حلت بها فحسب، بل كاد يكون ثورة اقتصادية. ذلك أن سكان إنجلترا كانوا يعيشون في جو يصلح للزراعة والإنبات ولكنه يضر بالصحة فقد كانت الحقول خضراء طوال أيام السنة، ولكن الأهلين كانوا يقاسون آلام النقرس، والروماتزم، والربو، وعرق النسا، وذات الرئة، والاستسقاء، وأمراض العين والجلد. وكانت الطبقات كلها تتخم معدتها بالطعام (إن وجدته) وتدفئ أجسامها بالمشروبات الكحولية. وقد وصفهم رتشارد رول في عام 1340 بقوله: "قلما يصل الآن أحد منهم إلى سن الأربعين، وأقل من تلك القلة من يصل إلى سن الخمسين". وكانت النظم الصحية العامة بدائية، فكانت روائع المدابغ العامة، وحظائر الخنازير، والمراحيض تفسد الهواء، وكان الأثرياء وحدهم هم الذين يحصلون على الماء الجاري من أنابيب تمتد إلى بيوتهم، أما كثرة السكان فكانوا ينقلونه من القنوات المغطاة أو من الآبار، وكان أثمن من أن يضيعوه في الاستحمام كل أسبوع. ولهذا كله كانت الطبقات الدنيا ضحايا سهلة للأوبئة التي كانت تفتك بالأهلين من حين إلى حين من ذلك أن الطاعون الدملي انتقل في عام 1349 من نورماندي إلى إنجلترا وويلز ثم انتقل بعد عام من ذلك الوقت إلى اسكتلندة وايرلندة، ثم عاد إلى إنجلترا في أعوام 1361، 1368، 1375، 1382، 1390، 1438، 1464، وقضى في هذه السنين كلها على ثلث سكان البلاد، وهلك فيه ما يقرب من نصف رجال الدين، ولعل بعض المساوئ التي شكت منها الكنيسة الإنجليزية فيما بعد ترجع إلى اضطرارها إلى حشد رجال في خدمتها حشداً سريعاً، وكانت تنقصهم الكفايات التي ينتجها التدريب والخلق القويم، وكان لهذه الظروف أسوأ الأثر في الفن، وتوقف بناء الكنائس أو كاد نحو جيل من الرومان، وفسدت الأخلاق، وانحلت روابط الأسر، وطغت العلاقات الجنسية على القيود التي حاول نظام الزواج أن يقيدها بها مراعاة لمصلحة النظام الاجتماعي، ولم تجد القوانين مشرفين ينفذونها، وكثيراً ما يتجاهلونها.
وتعاون الطاعون مع الحرب للتعجيل باضمحلال النظام الإقطاعي، فقد هجر كثيرون من الزراع الأراضي التي كانوا يستأجرونها ونزحوا إلى المدن بعد أن فقدوا أبناءهم وغيرهم ممن كانوا يساعدونهم في فلاحتها، واضطر الملاك إلى أن يستأجروا عمالاً أحراراً، يؤدون لهم ضعفي ما كانوا يؤدونه قبل من الأجور، وأن يغروا عندهم مستأجرين بشروط خير من الشروط السابقة، وأن يستبدلوا بالمال الخدمات الإقطاعية. وإذ كان الملاك أنفسهم قد اضطروا إلى ابتياع كل ما يشترونه بأثمان عالية، فقد اضطروا إلى أن يطلبوا إلى الحكومة أن تتدخل لتثبيت موازنة الأجور. واستجاب المجلس الملكي إلى هذا الطلب بأمر أهم ما جاء فيه:
لما كان قسم كبير من أفراد الشعب وبخاصة طبقة العمال والخدم قد ماتوا أخيراً بسبب الوباء...
قصة الحضارة ج22 ص78-82، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الثورة الكبرى -> مقدمة
 
أسباب الثورة الإنجليزية (الثورة الكبرى1381) ثم حدوثها في كل مكان ثم الانقلاب عليها الى حين!!
قال ديورانت
:"ولما كان الكثيرون يرفضون العمل إلا في نظير أجور باهظة، بل إن بعضهم يفضلون التوسل والتعطل على العمل لكسب أقواتهم، فقد نظرنا نحن فيما قد يحدث فيما بعد من اضطراب مخزن من نقص في الأيدي العاملة وبخاصة بين العمال والفلاحين، وبعد مناقشة هذه المسائل، اتفقنا مع كبار رجال الدين وأعيان البلاد، ورجال العلم واستعنا بهم وتبادلنا وإياهم المشورة أمرنا بما هو آت:
1- كل شخص صحيح الجسم تقل سنة عن ستين عاماً، وليست له
(وسيلة) للعيش، وإذا طلب إليه (شخص آخر أن يعمل) يجب عليه أن يقوم بخدمة من يطلب ذلك إليه، وإلا زج به في السجن حتى يقدم من يضمن قيامه بالعمل.
2- إذا غادر الخدمة عامل أو خادم قبل الوقت المتفق عليه، حكم عليه بالسجن.
3- لا يعطى الخادم إلا الأجور القديمة لا أكثر منها.
4- إذا تقاضى صانع أو عامل أجراً يزيد على ما كان يتقاضاه عادة زج به في السجن.
5- يجب أن تباع مواد الطعام بأسعار معقولة.
6- ليس لإنسان أن يعطى شيئاً لمتسول يستطيع العمل.
لكن العمال وأصحاب الأعمال أهملوا هذا القرار إهمالاً واسعاً اضطر معه البرلمان أن يصدر (في التاسع من فبراير سنة 1351 ("قانون العمال" الذي ينص على ألا تزيد الأجور على ما كانت عليه في عام 1346، والذي حدد أثمان عدد كبير من السلع والخدمات وقرر وجوب استخدام الآلات. ثم صدر قانون آخر في عام 1360 ينص على جواز إرغام الزراع الذين يتركون الأرض التي تعاقدوا على زراعتها أو استئجارها قبل انتهاء الموعد المحدد للعقود أو الإيجار على العودة إليها، كما ينص على أن لقضاء الصلح إذا شاءوا أن يسموا هؤلاء المخالفين على جباههم. واتخذت فيما بين عامي 1377، 1381 إجراءات أخرى مختلفة في قسوتها، ولكن الأجور ارتفعت على الرغم من هذه القوانين والقرارات، غير أن الأحقاد التي ولدتها هذه الأعمال في صدور العمال ورجال الحكم أثارت النزاع بين الطبقات وكانت سلاحاً جديداً في أيدي دعاة الفتنة.
وكان للثورة التي تأجج لهيبها على أثر هذه الحوادث أكثر من عشرة مصادر، فقد أخذ الزراع الذين كانوا لا يزالون من أرقاء الأرض يطالبون
بحريتهم، وطالب المستأجرون بأن يحددوا إيجار الأرض بأربعة بنسات (1.67 دولار) للفدان الواحد في السنة. وكانت بعض البلدان لا تزال خاضعة للسادة الإقطاعيين، وكانت هذه تتوق إلى أن تتمتع بالحكم الذاتي، وكان العمال في البيئات المحررة يكرهون الأقلية الغنية من التجار، كما كان التجار المتنقلون يتذمرون من فقرهم وعدم اطمئنانهم على مصادر رزقهم. وكان الزراع في الريف، والعمال في المدن، بل كان قساوسة الأبرشيات أنفسهم-كانوا هؤلاء جميعاً ينددون بسوء الحكم في السنين الأخيرة من عهد إدوارد الثالث، والسنين الأولى من عهد رتشارد الثاني، ويتساءلون لم توالت الهزائم على الجيوش الإنجليز بعد عام 1369، ولم تجن الضرائب الفادحة لتميل هذه الهزائم نفسها. وكان أشد حقدهم ينصب على سدبري كبير الأساقفة وعلى روبرت هاليز وهما كبيرا وزراء الملك الشاب وجون جونت ويتهمونهم بأنهم أنصار الفساد والعجز في دوائر الحكومة وأجدر من يجب أن توجه إليهم التهم.
ولم يكن لواعظ اللورد (أتباع ويكلف) إلا أقل صلة بهذه الحركة، ولكن نصيبهم كان هو تهيئة الأذهان للثورة، فقد كان جون بول زعيمها الفعلي يكرر أقوال ويكلف ويحبذها، وكان وات تيلر يطالب كما كان يطالب ويكلف بالاستيلاء على أملاك الكنيسة. وكان بول، "قس كنت المجنون" (كما كان يلقبه فرواسار)، يعلم الشيوعية لجماعة المصلين معه، وقد صدر قرار بحرمانه من حظيرة الدين في عام 1366. فأصبح بعدئذ واعظاً جائلاً يندد بالمال الحرام الذي جمعه الأحبار والأعيان، ويطالب بعودة رجال الدين إلى الفقر الذي يدعو إليها الإنجيل ويسخر من الباباوات المتنافسين الذين كانوا بانشقاقهم يقتسمون ثياب المسيح. وتعزو إليه الرواية المتواترة ذلك البيت المشهور: حيث كان آدم يحفر وكانت حواء تقيس من كان وقتئذ السيد العظيم
أي حيث كان آدم يحفر الأرض وحواء تعمل على النول، هل كان في الجنة أقوام مقسمون طبقات، وكان فرواسار ينقا الآراء المعزوة إلى بول في طول يد على شدة عطفه عليها، وإن كان في الوقت نفسه محباً لطبقة الأشراف البريطانيين:
أصدقائي الأعزاء إن الأمور لا تستطيع أن تسير في إنجلترا سيراً حسناً حتى يصبح كل شيء مشاعاً، وحتى لا يكون في البلاد سادة ولا أتباع، وحتى لا يكون الملاك سادة إلا بقدر ما نكون نحن، ألا ما أسوأ ما يعاملوننا به. ولأي سبب يتحكمون فينا ويسترقوننا هذا الاستراق؟ ألسنا جميعاً أبناء آدم وحواء؟ وأي شيء يستطيعون أن يظهروه لنا ليسودوا به علينا؟...إنهم ليسموننا عبيداً، وإذا لم نقم بخدمتهم ضربونا بالسياط..فلنذهب إلى الملك ونحتج إليه، فهو شاب وفي مقدورنا أن نحصل منه على جواب فيه الخير لنا، فإذا لم نحصل عليه فلنعمل بأنفسنا لإصلاح أمورنا .
وقبض على "بول" ثلاث مرات وكان في السجن عندما اندلعت الثورة. وبلغ السخط مداه بضريبة الرؤوس التي فرضت عام 1380، وأشرفت الحكومة على الإفلاس، وكادت تخسر جواهر الملك المخزونة، وألحت الحرب في فرنسا مطالبة بأموال جديدة. ففرضت على الشعب ضريبة مقدارها 100.000 جنيه تجبى من كل نفس تناهز الخامسة عشرة من العمر. واتخذت عناصر الثورة المفرقة بهذه الضريبة الجديدة. وتنكب آلاف الناس طريق الحياة، وكانت حصيلة الضريبة أقل من المطلوب بكثير..وأرسلت الحكومة مندوبين آخرين للكشف عن الممتنعين عن دفع الضريبة فجمع العامة قواهم متحدين إياهم، ورجموا عملاء الملك إلى خارج مدينة برنتود عام (1381)، وحدث مثل ذلك في مدن فوينج
دكورنجهام وسنت الينز. وعقدت اجتماعات شعبية للاحتجاج على الضريبة في لندن، وأرسل المجتمعون إلى الثائرين في الريف يشجعونهم ويدعونهم أن ينضموا إلى الثائرين في العاصمة وبذلك يرغمون الملك على ألا يكون هناك رقيق في إنجلترا.
ولقي فريق من الجباة عند دخولهم مدينة كنت مقاومة عارمة، وفي السادس من يونية سنة 1381، حطم جماعة من الغوغاء غياهب السجن في دوشستر، وأطلقوا سراح المسجونين، ونهبوا القلعة. وانتخبوا الثوار في اليوم التالي وات تيلر قائداً لهم. ولا يعرف شيء عن ماضيه قبل ذلك، ومن الواضح أنه كان جندياً مسرحاً، لأنه نظم الجمع المشتت للقيام بعمل موحد، واكتسب طاعته السريعة لأوامره.
وفي الثامن من يونية هاجم الجمع الهائج دور المبغضين إليه من الإقطاعيين والمحامين وموظفي الحكومة، وقد تسلح بالقسى والسهام والهراوات والفؤوس والسيوف، وتلقى مدداً من المتطوعين من جميع قرى كنت تقريباً. وفي اليوم العاشر دخل هذا الجمع مدينة كانتر بري فرحب به أهلها ونهب قصر سدبري كبير الأساقفة، وفتح أبواب السجن، وانتهب دور الأغنياء. وهكذا انظم سكان الجانب الشرقي من كنت بأسره إلى الثورة، وأخذت المدن تنضوي تحت لواء الثورة، واحدة بعد أخرى، وبادر الموظفون المحليون إلى الفرار من وجه العاصمة.. ولجأ الأغنياء إلى مناطق أخرى من إنجلترا، أو اختبئوا في أماكن بعيدة عن طريق الثائرين، أو تجنبوا الأخطار الأخرى بتقديم المساعدة بصورة ما إلى الثورة.
وفي اليوم التالي وجه تيلر جيشه إلى لندن. فلما بلغ مدلستون أفرج عن "جون بول" فانظم إلى فريق الفرسان وأخذ يقدم إليه عظاته كل يوم وقال الآن يبدأ حكم الديمقراطية الذي طالما حلم به ودافع عنه، وتزول جميع الفوارق الاجتماعية، ولن يكون هناك بع الآن أغنياء وفقراء، إقطاعيون وعبيد، بل يكون كل إنسان ملكاً في ذاته(61). ونشبت في الوقت نفسه ثورات مماثلة في نورفولك وسفولك وبيفرلي وبردجوتر وكمبردج واسكس ويدلسكس وستسكس وهرتفورد وسومرست وجز الشعب في يوري سانت ادموند رأس كبير الرهبان وهو الذي حافظ بصلابته على حقول الدير الإقطاعية على المدينة. وقتل المتمرد لشستر عدداً من التجار الفلورنسيين، وظناً منهم أنهم يقطعون الطريق على التجارة البريطانية. وأتلفوا ما وقع تحت أيديهم من الأضابير والعقود أو الوثائق التي تسجل الملكية الإقطاعية أو العبودية، وهكذا أحرق الأهالي في كمبردج وثائق الجامعة، وألقوا في مدينة ولدام كل وثيقة في محفوظات الدير طعمة للنيران.
وفي الحادي عشر من يونية أشرف جيش الثوار الذي نصفه من اسكس وهرتفورد على الضواحي الشمالية لمدينة لندن، وفي الثاني عشر بلغ ثوار كنت مدينة سوزوارك، على الشاطئ الثاني من التيمز مباشرة. ولم يبدأ أنصار الملك مقاومة منظمة واختبأ رتشارد الثاني وسدبري وهيلز في الحصن.وبعث تيلر إلى الملك يطلب مقابلته ورفض طلبه. وأغلق وليام ولورث عمدة لندن أبواب المدينة، ولكن الثوار في داخلها أعادوا فتحها. وفي الثالث عشر رحب الشعب بقوات كنت التي دخلت العاصمة فانظم إليها آلاف العمال. وأمسك تيلر بزمام جموعه في حزم، ولكنه هدأ من ثورتها بأن سمح لها أن تحاصر قصر جون اف جونت. فلم يسرق منه شيء، وقتلت الجماهير شخصاً من المتمردين حاول أن يسرق كأساً من الفضة. بيد أن كل شيء قد دمر، وألقي بالأثاث الفاخر من النوافذ، ومزقت الستائر النفيسة خرقاً، وسحقت الجواهر سحقاً، وأتت النيران على القصر كله، وتناست الجموع بعض المتمردين الذين استبد بهم الطرب وسكروا حتى غابوا عن الوعي في أقبية فذهبوا طعمة للنيران. ثم تحول الجيش بعد ذلك إلى تمبل، وهي قلعة رجال القانون في إنجلترا، وتذكر الفلاحون أن هؤلاء الفقهاء هم الذين صاغوا صكوك عبوديتهم، أو صادروا ممتلكاتهم في مقابل الضرائب، فوضعوا هناك أيضاً محرقة تلتهم الوثائق، وأشعلوا النيران في المباني حتى أتت عليها. وقوض السجن في نيوجيت كما دمر الأسطول. وانظم المسجونون السعداء إلى الغوغاء، وألح التعب على الجموع من الجهود المضنية التي بذلتها لتجمع انتقام قرن كامل في يوم واحد فرقدت في ظاهر المدينة ونامت.
وفي المساء رأى مجلس الملك أن يسمح له بالحديث مع تيلر وهو خير من الرفض على كل حال. وأرسل دعوة إلى تيلر وأتباعه لمقابلة رتشارد في الصباح التالي في ضاحية شمالية تُعرف بـ"مايل اند". وبعد بزوغ الفجر من اليوم الرابع عشر من يونية، ركب الملك، وكان في الرابعة عشرة من عمره، إنقاذاً لحياته، فخرج من القلعة يصحبه جميع مستشاريه ما عدا سدبري وهيلز الذين خافا أن تتعرض حياتهما للخطر. وشقت الجماعة الصغيرة طريقها وسط الجماهير المعادية إلى مايل اند، حيث تجمع الثائرون من اسكس، وتبعهم فريق من جيش كنت على رأسه تيلر الذي أدهشه استعداد رتشارد للاستجابة لجميع المطالب. وهي أن تلغى العبودية في كل أنحاء إنجلترا، وتزول جميع الأعباء والخدمات الإقطاعية، وتحدد قيمة إيجار العقار كما طلب المؤجرون، ويعلن عفو عن جميع الذين اشتركوا في الثورة. وبادر ثلاثون من الكتاب في صياغة مواثيق الحرية والعفو لجميع المناطق التي ثار أهلوها. وبيد أن الملك رفض مطلباً واحداً، وهو أن يسلم للشعب وزراءه وغيرهم من الخونة. وأجاب رتشارد بأن جميع الأشخاص المتهمين بإساءة استعمال السلطة سيحاكمون طبقاً للإجراءات التي ينظمها القانون، ويعاقبون إذا ثبت أدانتهم.
ولما لم يقنع تيلر بهذه الإجابة، ركب في فرقة مختارة من رجاله واتجهوا مسرعين إلى القلعة فوجدوا سدبري يرتل القداس في الكنيسة. فسحبوه إلى الفناء وبسطوه على الأرض ورقبته على كتلة من الخشب. ولم يكن جلاده حاذقاً، ففصل رأسه عن جسده بثماني ضربات من الفأس. ثم جز المتمردون رأس هيلز واثنين آخرين. وثبتوا على رأس كبير الأساقفة تاجه بمسمار نفذ من الجمجمة، ووضعوا الرؤوس على أسنة الرماح، وساروا بها في أنحاء المدينة، ثم علقوها على باب جسر لندن وانقضى ما بقي من ذلك النهار في سفك الدماء. وطالب تجار لندن، الذين أبو المنافسة الفلمنكية الجماهير أن تقتل كل فلمنكي تجده في العاصمة. وكان يقدم إلى المشكوك في جنسيته الخبز والجبن، ويطلب إليه أن يسميهما، فإن نطق اسميهما بلهجة فلمنكية دفع حياته ثمناً لذلك. وقتل في ذلك اليوم نيف ومائة وخمسون من التجار وأصحاب المصارف الغرباء في مدينة لندن وسقط كثير من رجال القانون الإنجليز، وجباة الضرائب وأنصار جون أف جونت بضربات الفؤوس في ثورة انتقامية لا تميز بين مذنب وبرئ. وقتل الصبيان في مختلف المهن والصناعات معلميهم والمدينون دائنيهم. وحتى إذا جاء منتصف الليل انسحب المنتصرون لينعموا بالراحة مرة أخرى بعد أن أشبعوا نهمهم.
وأبلغ الملك بهذه الأحداث فعاد أدراجه إلى مايل اند، ولم يتجه إلى البرج، بل إلى جناح والدته بالقرب من كنيسة سانت بول وقفل في الوقت نفسه عدد كبير من فرق اسكس وهرتفورد راجعين إلى ديارهم، ابتهاجاً بالمواثيق التي سجلت حريتهم. وفي الخامس عشر من يونية بعث الملك رسالة مهذبة، إلى فلول الثوار، يطلب إليهم في ظاهرة شمثفيلد خارج الدرجيت. ووافق تيلر على ذلك ولما كان رتشارد يخاف على حياته فقد قام بالاعتراف وتناول الأسرار المقدسة قبل الموعد المضروب، ثم ركب في حاشية تتألف من مائتي رجل أخفوا سيوفهم تحت أرديتهم غير العسكرية. وتوجه تيلر إلى شمنفيلد ولم يكن معه غير رفيق واحد يحرسه. وتقدم بمطالب جديدة غير معروفة على التحقيق ويبدو أنها كانت تتضمن مصادرة أملاك الكنيسة وتوزيع دخلها على الشعب. وأعقب ذلك نزاع، فقد وصف أحد حاشية الملك، تيلر بأنه لص فأمر تيلر مساعده، بقته فوقف العمدة ولورث في الطريق فما كان من تيلر إلا أن طعن ولورث الذي أنقذه الدرع المستور تحت عباءته وطعن ولورث بخنجره تيلر وأنفذ أحد سراة رتشارد سيفه في تيلر مرتين فعاد تيلر إلى رجاله صائحاً الخيانة، وسقط ميتاً عند أقدامهم فذهلوا من هذه الخيانة المفضوحة وأعدوا سهامهم وتأهبوا لإطلاقها. ومع أن عددهم كان قد أخذ في النقصان إلا أنهم ظلوا قوة لا يستهان بها وقد أحصاهم فروسافرت بعشرين ألف رجل من المحتمل أنهم كانوا يستطيعون الإحداق بحاشية الملك. ولكن رتشارد خرج إليهم في شجاعة وهو يصيح "أيها السادة، أتقتلون مليككم؟ سأكون رئيسكم وقائدكم، وستنالون مني ما تطلبون. وليس عليكم إلا أن تتبعوني إلى الحقول بعيداً " ومضى غير واثق أوعوا كلامه؟ أيتركونه حياً؟ وتردد الثوار. ثم اتبعوه واختلط معظم الحرس الملكي بهم.
أما ولورث فقد ركض بفرسه عائداً إلى المدينة، وأصدر أوامره إلى شيوخ النواحي الأربع والعشرين أن ينضموا إليه بكل القوات المسلحة التي يستطيعون حشدها. وكان كثيرون من المواطنين الذين عطفوا على الثورة أول الأمر قد أخذوا يحسون القلق من جراء أعمال القتال والتخريب، وشعر كل امرئ، يمتلك عقاراً أن أملاكه وحياته في خطر، وهكذا وجد العمدة لفوره جيشاً تحت إمرته يتألف من سبعة آلاف رجل كأنما انشقت عنهم الأرض. فعاد بهم إلى شمثفيلد، وهناك لحق بهم الملك وأحاط به، وعرض عليه أن يعمل السيف في الثائرين. فأبى رتشارد، فهم الذين وهبوا له الحياة عندما كان تحت رحمتهم، وهو لا يريد أن يبدو أقل منهم كرماً وقد أعلن إليهم أنهم أصبحوا أحراراً يستطيعون أن يرحلوا بسلام. وسرعان ما انقشع الذين بقوا من ثوار اسكس وهرتفورد، واختفى عصاة لندن في ديارهم، ولم تبق إلا ثلة كنت فاعترض رجال ولورث المسلحون، طريقهم إلى داخل المدينة ولكن رتشارد أمر أن لا يمسهم أحد بسوء، فتركوا المدينة آمنين، ثم اضطرب نظامهم ثانية على طول طريق كنت القديم. وعاد الملك إلى والدته، التي رحبت به ودموع الفرحة بسلامته في عينيها. وقالت: "آه، يا بني الصحيح، كم تحملت من الألم والعذاب من أجلك اليوم. "فأجاب الصبي": حقاً يا سيدتي أنني أحس ذلك جيداً، ولكن عليك الآن أن تبتهجي وتحمدي الله، لأنني اليوم استعدت ميراثي وكان مفقوداً، واستعدت ملك إنجلترا أيضاً(63).
وأصدر رتشارد في اليوم نفسه وهو الخامس عشر من يونية-وربما كان ذلك بتأثير العمدة الذي أنقذه-قراراً، ينفي من لندن، كل امرئ لم يقض فيها السنة الماضية بأسرها وإلا تعرض للموت صبراً. وأخذ ولورث وجنوده يفتشون في الطرقات والمساكن عن الغرباء، وقبضوا على كثيرين وقتلوا البعض..وكان بينهم رجل يدعى ستروا، اعترف، تحت وطأة التعذيب من غير شك، أن رجال كنت رسموا خطتهم لينصبوا تيلر ملكاً. وجاء في الوقت نفسه وفد من ثواراسكس إلى ولتام وطلبوا من الملك تصديقاً رسمياً للوعود التي قطعها على نفسه في الرابع عشر من يونية. فأجاب رتشارد بأن هذه الوعود قد صدرت بالإكراه، وليس في نيته أن يبقي عليها، وأخبرهم بنقيض ما توقعوا "لا تزالون أوغاداً، وستظلون أوغاداً"، وتوعد بالانتقام الرهيب من كل رجل يظل على عصيانه المسلح(64). ودعا المندوبون الناخبون أتباعهم أن بعثوا الثورة من جديد، فاستجاب البعض بيد أن رجال ولورث أبادوهم في مذبحة هائلة في الثامن والعشرين من يونية.
وألغى الملك المغيظ الحانق في الثاني من يولية جميع المواثيق وعهود الأمان التي أصدرها إبان الثورة، ومهد الطريق إلى تحقيق قضائي عن هوية زعماء الفتنة وأعمالهم. فقبض على المئات، وحوكموا، وقتل مائة وعشرة أو اكثر. واعتقل جون بول في كفنتري، فاعترف جريئاً بدوره القيادي في الثورة، ورفض أن يطلب العفو من الملك. فشنق، وسحل، وقطعت جثته أربعة، ووضعت رأسه مع رأس تيلر وجاك سترو في مكان رأسي سديري وهيلز لتزين جسر لندن. وفي الثالث عشر من نوفمبر عرض رتشارد على البرلمان تقريراً عن أعماله، وقال، إذا كان المجتمعون من الأساقفة والأعيان والعامة يرغبون في تحرير رقيق الأرض، فإنه يرغب في ذلك أيضاً. ولكن كان جلهم من أصحاب الأراضي، الذين لا يستطيعون أن يقبلوا حق الملك في تجريدهم من أملاكهم، وكانت نتيجة التصويت وجوب الإبقاء على جميع العلاقات الإقطاعية"(65). وعاد الفلاحون المنهزمون إلى محاريثهم، والعمال المنحوسون إلى مغازلهم.
قصة الحضارة ج22 ص82-92، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> الثورة الكبرى -> مقدمة
 
معلومة عن فرنسا عام 1300
:"لم تكن فرنسا عام 1300 المملكة العظيمة التي تصل إليها حدودها اليوم من القناة الإنجليزية إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن الفوج والألب إلى المحيط الأطلسي. وكانت تصل شرقاً إلى نهر الرون فقط. ولقد ضمت في الجنوب الغربي، مساحة كبيرة-جوين وجاسكونيا-إلى التاج الإنجليزي بزواج هنري الثاني من اليانور من أسرة اكويتين (1152)، وفي الشمال أخذت إنجلترا إقليم بونثيو، ومعه ابيفيل، ومع أن الملوك الإنجليز استولوا على هذه الأراضي باعتبارها إقطاعيات، تابعة للملوك الفرنسيين إلا أنهم فرضوا عليها سيادتهم الكاملة. أما بروفانس والدوفينية والكونتية الحرة فقد كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان أباطرتها من الألمان في العادة. ولقد حكم الملوك الفرنسيين حكماً غير مباشر، عن طريق أقربائهم الإمارات، فالوا وأنجوا وبوربون وأنجوليم. وحكموا حكماً مباشراً الربوع الآتية باعتبارها التزاماً ملكياً، وهي نورمانديا وبيكاردي وشامباني، وبواتو وأوفرن ومعظم لانجويدوك، وجزيرة فرنسا-وهي "الجزيرة" التي على الجانب الشمالي من وسط فرنسا وتتركز حول باريس. وكانت أرتو وبلوا ونيفبر وليموج، وأرمانياك ووفالنتينوا يحكمها سادة إقطاعيون يخضعون لملوك فرنسا خضوعاً اسمياً حيناً ويحاربونهم حيناً آخر. وكانت بريتاني وبرجنديا وفلاندرز إقطاعيات فرنسية، ولكنها كانت كما أسماها شكسبير "أقرب إلى الدوقيات الملكية"، تتصرف كأنها دول مستقلة في الواقع. ولم تكن فرنسا قد أصبحت فرنسا بعد.
قصة الحضارةج22 ص113، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> فرنسا تحاضر -> المشهد الفرنسي
 
هولندا القرن الرابع عشر وحياة ضنك تحت الغزو الفرنسي
:"وكانت أهم الإقطاعات الفرنسية وأكثرها تقلباً، في مستهل القرن الرابع عشر، كونتية فلاندرز. ولم تنافس إيطاليا في تقدمها الاقتصادي في أوربا بأسرها شمالي جبال الألب، سوى فلاندرز. وكانت حدودها تتذبذب في غير انتظام في الزمان والمكان، وحسبنا أن نشير إليها، بأنها الإقليم الذي يضم بروج وجنت وبيرز وكورتراي. وتوجد شرقي شيلد، دوقية برابانت، التي كانت تضم وقتذاك انتورب وميشلين (مالين) وبروكسل وتورناي ولوفين. وتقع جنوبي فلاندرز الأسقفيتانالمستقلتان: لييح وكامبراي، وكونتية هانو حول فالنسين. وتضم فلاندرز ومع التوسع برابانت ولييج وكامبراي وهانو. وتقع إلى الشمال سبع مقاطعات صغيرة، تؤلف تقريباً هولندا كما نعرفها اليوم. ولم تستطع هذه الأقاليم الهولندية أن تبلغ أوجها حتى القرن السابع عشر، عندما اتسعت إمبراطوريتها، إذا صح التعبير، من رمبرانت إلى بتافيا. وكانت فلاندر وبرابانت عام 1300 قد خنقتها الصناعة والتجارة وحرب الطبقات ووصلت قناة، طولها اثنا عشر ميلاً بروجيس ببحر الشمال، تمخرها مائة سفينة كل يوم، تأتي بالتجارة من مائة ميناء في ثلاث قارات، ويعد اينياس سيلفيوس، مدينة بروجيس، واحدة من أجمل المدن الثلاث في العالم. وألف صاغة بروجيس، فرقة كاملة من حرس المدينة، ونساجو جنت، سبعة وعشرين فرقة من قواتها العسكرية، التي بلغ مجموعها 189.000 رجل. وكانت المنظمة النقابية في القرون الوسطى، وهي التي منحت الصانع كرامة الحرية، والاعتزاز بالحذق، تفسح الطريق في صناعات النسيج والمعادن في فلاندرز وبرابانت لنظام رأسمالي يمد فيه الممول رأس المال والمواد والآلات إلى عمال المصانع الذين يأخذون أجرهم بالقطعة، ولم تعد النقابة تحميهم وأصبح الالتحاق بالنقابة باهظاً، وأصبح آلاف العمال رجال تراحيل-عمال اليومية-يتنقلون من بلد إلى آخر، ومن مصنع إلى مصنع، ولا يجدون إلا عملاً مؤقتاً ويحصلون على أجور تفرض عليهم العيش في مساكن قذرة. ولا تسمح لهم إلا بالقليل من المتاع لا يتجاوز الملابس التي يرتدونها. وظهرت أفكار شيوعية بين العمال والفلاحين، وتساءل الفقراء، لماذا فرض عليهم أن يعيشوا جائعين وصوامع النبلاء ورجال الدين تطفح بالغلال؟ وحكم على جميع اللذين لا يعملون بأيديهم بأنهم من الطفيليين. وشكا أصحاب الأعمال بدورهم، من الخطر الذي يتهدد أموالهم، ومن عدم الاستقرار في الحصول على مواد الصناعة وموسميتها، ومن تعرض شحناتهم للغرق، وتذبذب الأسعار في السوق، ومن الحيل التي يلجأ إليها المتنافسون، والإضراب المتكرر الذي يرفع الأجور والأسعار، واضطربت العملة، فقلت أرباح رجال الأعمال، إلى حد العجز عن الوفاء بالديون. وناصر لويس دي نيفير أمير فلاندرز، أصحاب الأعمال. فثار العامة في بروجز وبيرز يؤيدون الفلاحين المجاورون، وخلعوا لويس، ونهبوا الكنائس، وذبحوا نفراً من أصحاب الملايين. فما كان من الكنيسة إلا أن أصدرت قراراً بحرمان المناطق الثائرة، ومع ذلك فقد أرغم الثائرون القساوسة على ترتيل القداس، وانتحل أحد الزعماء نشيداً يسبق ديودورو بأربعمائة وخمسين سنة، يقسم بأنه لم يقنع حتى يشنق آخر قسيس.. واستغاث لويس بمولاه، ملك فرنسا، فجاء فيليب السادس، وهزم القوات الثائرة في كاسل (1328)، وشنق عمدة بروجز، وأعاد المقاطعة، وجعل فلاندرز تابعة لفرنسا.
قصة الحضارة ج22 ص114،115، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> فرنسا تحاضر -> المشهد الفرنسي
 
حرب المائة سنة وسببها وبدايتها
:"مات شارل الرابع بلا خلف من الذكور (1328) فانتهت بموته دولة الملوك من أسرة كابيتان وعرض إدوارد الثالث، الذي اعتلى عرش إنجلترا قبل ذلك بعلم، على مجلس النبلاء في فرنسا، مطالبته بالعرش الفرنسي، باعتباره حفيداً لفيليب الرابع، وأقرب الأعقاب الأحياء لهيوكابت، فرفض المجلس، على أساس أن أم إدوارد لا تستطيع أن تنقل إليه تاجاً استبعدت هي نفسها عنه بقرار التوريث الذي صدر عامي 1316، 1322. وفضل البارونات عليه ابن أخ لفيليب الرابع، وهو الكونت فالو، وبذلك يكون فيليب الرابع هو الذي بدأ أسرة فالو المالكة، التي حكمت فرنسا، إلى أن استهل هنري الرابع أسرة البربون عام 1589. واعترض على هذا الاختيار إدوارد، ولكنه جاء إلى "أمين" عام 1329، وأعلن خضوعه وأقسم يمين الولاء لفيليب الرابع باعتباره مولاه الإقطاعي على جاسكونيا وجويين وبونثيو. ولما أنضجت إدوارد السنون، وزاد دهاؤه، ندم على خضوعه وحلم مرة أخرى بالجلوس على عرشين في وقت واحد. وأكد له مستشاروه، بأن فيليب الجديد مستضعف، يدبر وشيكاً للخروج في حملة صليبية إلى الأراضي المقدسة. وظهر أن الوقت مناسب للبدء في حرب المائة عام....وطالب إدوارد عام 1337 رسمياً من جديد بالعرش وكان رفض طلبه السبب المباشر للحرب. وأصبحت نورمانديا، بعد فتحها إنجلترا تابعة ...للملوك الإنجليز، مائة وثمانية وثلاثين عاماً، وأعاد فيليب الثاني فتحها باس م فرنسا (1204) ورأى كثير من النبلاء الإنجليز، الذين انحدروا من أصل نورماندي، في الحرب المقبلة محاولة لاستعادة موطنهم الأصلي واقتطع فيليب الرابع وشارل الرابع جزءاً من مقاطعة جوين الإنجليزية التي كانت عامرة بالكروم، وكانت تجارة النبيذ في بوردو مورداً ثميناً لإنجلترا حتى مات في الدفاع عنها إلى حين عشرة آلاف إنجليزي. أما اسكتلندا فكانت شوكة في جنب إنجلترا، وتحالف الفرنسيون مراراً معها في حروب مع إنجلترا. وكان بحر الشمال عامراً بالسمك، فادعى الأسطول الإنجليزي السيادة على هذه المياه في القناة وخليج بسكاى واستولى على السفن الفرنسية التي سولت لنفسها أن تسخر هذا الادعاء الأول بالسيادة الإنجليزية على البحار. وكانت فلاندرز منفذاً حيوياً للصوف البريطاني، وأنف النبلاء الإنجليز الذين يجز الصوف من أغنامهم والتجار الذين يصدرون هذا الصوف، أن تعتمد سوقهم الأساسية على النية الطيبة لملك فرنسا.
وأمر كونت فلاندرز عام 1336 بحبس جميع البريطانيين هناك، ويبدو أن فيليب السادس أيد هذا العمل وقاية من الدسائس الإنجليزية. فرد إدوارد الثالث على ذلك بأن أمر بالقبض على جميع الفلمنكيين في إنجلترا.وتحريم تصدير الصوف إلى فلاندرز وما هو إلا أسبوع حتى توقفت المغازل الفلمنكية لافتقارها إلى المادة الخام، وتزاحم العمال في الطرقات مطالبين بالعمل. واتحد العمال اليدويون والآليون في جنت معلنين خروجهم عن طاعة الكونت، وانتخبوا متآمرا دعيا هو جاكوب فان ارتفليد حاكماً على المدينة، وأيدوا سياسته التي تنشد صداقة إنجلترا وصوفها (1337) فألغى إدوارد الحظر، وفر الكونت إلى باريس، وأقر أهل فلاندرز جميعاً ديكتاتورية أرتفيلد ووافقوا على الانضمام إلى إنجلترا في حربها مع فرنسا. وفي نوفمبر عام 1337 سار إدوارد الثالث على تقاليد الفروسية وأرسل إلى فيليب السادس إعلاناً رسمياً بأن إنجلترا ستشرع في الحرب بعد ثلاثة أيام. وكان أول لقاء له أهميته في حرب المائة سنة، معركة بحرية في سلويز بعيداً عن الساحل الفلمنكي (1340)، حطم فيها الأسطول الإنجليزي مائة زاثنتين وأربعين سفينة من المائة والاثنتين والسبعين التي تؤلف الأسطول الفرنسي
قصة الحضارة ج22ص118-120، الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر والعصيان الكبير -> فرنسا تحاضر -> الطريق إلى كريسي
 
عودة
أعلى