التاريخ المحسوس لحضارة الإسلام وعصور اوروبا المظلمة من قصة الحضارة لديورانت أ. طارق منينة

من هو دانتي(5) الذي أهان الرسول(في الكوميديا الإلهية)
في نفس الوقت الذي كانت الحسنات القليلة في حياة دانتي تأتيه من الإسلام؟
تبدو آثار المنفى الذي تعرض له دانتي من المسيحيين على انتقام الملهاة.
(الملهاة المقدسة) تحت هذا العنوان يقول ديورانت عن دانتي:" وكان النفي في ملحمة حياة دانتي هو جحيمه، كما كانت دراساته وكتاباته هي مطهرة، وكانت آماله وحبه هما نجاته وسعادته اللتين لم تكن له غيرهما نجاة أو سعادة... ويشرح دانتي لكان جراندي في آخر الرسالة سبب تسميته ملحمته ملهاة-Commedia فيقول أن القصة انتقلت من الشقاء إلى السعادة، و (إنها كتبت بأسلوب مهلهل وضيع، باللغة العامية التي تتحدث بها ربات المنازل أنفسهن"(33).
وكانت هذه الملهاة الأليمة وهي "الكتاب الذي هزل فيه جسدي هذه السنين الطوال" شغله وسلوته في منفاه، ولم يفرغ منها إلاّ قبل موته بثلاث سنين. وقد لخص فيها حياته، وتعليمه، وآراءه الدينية، وفلسفته؛ ولو أنها احتوت فضلاً عن هذا ما كان في العصور الوسطى من فكاهة، ورقة، وشهوانية عارمة لجاز أن تكون من المؤلفات "الجامعة في العصور الوسطى". ذلك أن دانتي قد حشر في هذه المائة من الأناشيد المنجزة كل ما أخذه من العلم عن برونتو لاتيني، ولعله حشر فيها أيضاً ما تعلمه في بولونيا- حشر فيها كل ما كان هناك من فلك وعلم الكون، وطبقات الأرض، والتوقيت في عصر تمنعه المشاغل من أن يكون عصر علم. ولم يكن يؤمن فوق ذلك بجميع الأساطير المعماة الملغزة التي كانت تعزو معاني وقوة خفية للأعداد ولحروف الهجاء. فكان يقول مثلاً إن العدد 9 يميز بياتريس من غيرها لأن جذره التكعيبي هو 3 الذي جعله الثالوث رقماً مقدساً. وفي الجحيم تسع دوائر، وتسع طبقات في المطهر، وتسع طبقات كرية في الفردوس. ويستمد دانتي في رهبة واعتراف بالجميل قسطاً كبيراً من فلسفة أكوناس وعلوه الدينية، ولكنه لا يسير وراءه سيراً حقيقياً ولا يراعي الأمانة في النقل عنه. وما من شك في أن القديس تومس لم يكن يرتاح إلى الحجج الواردة في كتاب الملكية أو إلى رؤية البابوات في الجحيم، وإن تصوير دانتي لله بأنه نور وحب "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم"(23) لهو قول أرسطو انتقل إليه عن طريق الفلسفة العربية. وكان يعرف الشيء القليل عن الفارابي، وابن سينا، والغزالي؛ وأبن رشد؛ ويضع ابن رشد في المحيط الخارجي للجحيم، ولكنه يهز مشاعر المتينين بوضعه سيجر البرابنتي Siger de Brabant معتنق مذهب ابن رشد في الفردوس... وتؤكد الدراسات الحديثة ما استمده دانتي من المصادر الشرقية وبخاصة المصادر الإسلامية كقصة أردا فيراف التي تصف الصعود إلى السماء، ووصف الجحيم الوارد في القرآن،وقصة المعراج، ووصف الجنة والنار في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري؛ وفتوحات ابن عربي... ففي رسالة الغفران يصور المعري إبليس بعذب في الجحيم وهو مقيد بالأغلال، كما يصور الشعراء المسيحيين وغيرهم من "الكفرة" يعذبون فيها. وتستقبل صاحب القصة عند باب الجنة واحدة من الحور العين، اختيرت لترشده(38). وقد رسم ابن عربي في الفتوحات الحياة الآخرة رسماً دقيقاً، ووصف الجنة والنار بأنهما فوق بيت المقدس وتحتها مباشرة، وقسم النار والجنة إلى سبع طبقات، وصور مكان الملائكة المسبحين حول النور القدسي- وصف ذلك كله كما ورد في الملهاة المقدسة لا يفترق عنه في شيء(39) (ونقول هنا استطراداً إن ابن عربي كتب قصائد في الحب يفسرها المفسرون تفسيراً مجازياً دينياً)، ومبلغ علمنا أن شيئاً من هذه الكتابات العربية لم يكن قد ترجم قبل زمان دانتي إلى أية لغة يستطيع قراءتها.
وقد وردت في الآداب الدينية اليهودية والمسيحية غير المعترف بها أوصاف لرحلات أو رؤى في الجنة أو النار؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر ما ورد في وصفهما في الكتاب السادس من إنياذة فرجيل. ...ولقد أخذ عناصر وصفه أنى وجدها- من تومس، ومن شعراء الفروسية الغزلين، ومن مواعظ بطرس دميان النارية وما ورد فيها من وصف لعذاب الجحيم، ومن تفكيره الطويل في بياتريس في حياتها وبعد موتها، ومن صراعه مع السياسيين والبابوات، ومن العلوم القليلة التي اعترضت طريقه؛ ومن اللاهوت المسيحي وما ورد فيها عن سقوط آدم، وعن التجسد والخطيئة، والغفران، ويوم الحساب؛ ومن الفكرة الأفلوطينية- الأوغسطينية عن مدارج صعود الروح حتى تتحد مع الله. ومن توكيد تومس أن الرؤى الطوباوية هي الهدف الأخير الذي يغتبط به الأبرار؛ من هذا كله صاغ القصيدة التي وجدت فيها روح العصور الوسطى وما يحيط بها من رعب، وأمل، واغتراب صوتاً، ورمزاً، وصورة تعبر بها وتصورها."(قصة الحضارة ج17 ص321-326، عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> الملهاة المقدسة -> الجحيم).
 
من هو دانتي(6) الذي أهان الرسول(في الكوميديا الإلهية)يعرض ديورانت ملهاة دانتي باختصار
"وجدت نفسي وأنا في منتصف طريق حياتنا في غابة مظلمة كانت الجادة فيها غير واضحة ومفقودة"(42). وبينما كان دانتي يجول في هذه الظلمة إذ التقى بفرجيل "أستاذي ومرشدي الذي أخذت عنه وحده الأسلوب الجميل الذي شرفت به"(43). ويخبره فرجيل أن السبيل السليمة الوحيدة للخروج من الغاية هي اجتياز الجحيم والمطهر؛ فإذا ما صحبه دانتي فيهما فسيقوده إلى أبواب الفردوس، "حيث يتولى إرشادك من هو أجدر مني وأكرم". ويضيف إلى هذا في صراحة أنه جاء ليقدم العون إلى الشاعر بأمر بياتريس. ويمران خلال فتحة في سطح الأرض إلى أبواب الجحيم، نقشت عليها هذه الألفاظ المريرة: "من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة؛ ومن خلالي يدخل الإنسان الآلام السرمدية؛ ومن خلالي يدخل الإنسان بين الأجناس الضالة. لقد حركت العدالة خالقي الأعلى؛ وصنعتني القوة الإلهية هي والحكمة العليا والحب الأزلي. ولم يخلق قبلي سوى الأشياء الأزلية، وأنا باقية أبد الدهر؛ فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار!".
والجحيم فتحة تحت الأرض تمتد إلى مركزها. ويصورها دانتي بخيال قوي يكاد يبلغ الغاية في الاكتئاب: فهي هاوية سحيقة مظلمة مرعبة، بين صخور ضخمة قاتمة؛ تتصاعد من منافذها الأبخرة والروائح الكريهة، وتجتاحها السيول الجارفة، وبها بحيرات ومجار؛ وعواصف من المطر، والثلج، والبرد؛ ومشاعل من لهب؛ وتزمجر فيها الرياح والزمهرير الذي يجمد فيه الدم والجسد؛ وبها أجسام معذبة، ووجوه كالحة مقطبة؛ ويشقها صراخ وأنين يقف لهما الدم في العروق. وفي أعلى مكان في هذه الفتحة الجهنمية يقيم من لم يكونوا أخياراً أو أشراراً، ومن وقفوا على الحياد بين الخير والشر. أولئك يعاقبون بآلام خسيسة، تلسعهم الزنابير، ويأكلهم الدود، ويحرق قلوبهم الحسد والندم، وهؤلاء يزدريهم دانتي الذي لم يقف على الحياد في يوم من الأيام.
"الرحمة والعدالة تزدريانهم، ونحن لا نتحدث عنهم، بل نلقي نظرة عليهم ونمر بهم". ويعمل الجائلان إلى نهر أكرون Acheron في باطن الأرض، ويعبره بهما كارون Charon الذي يعمل في ذلك المكان من أيام هومر فإذا عبراه وجد دانتي نفسه في المحيط الخارجي للجحيم حيث يقيم الصالحون الذين لم يعمدوا، ومنهم فرجيل وجميع الصالحين من عبدة الأوثان، وجميع اليهود الصالحين إلا عدداً قليلاً من أبطال العهد القديم الذين أطلقهم المسيح حين زار هذا المحيط الخارجي ورفعه إلى السماء. وكل ما يعذب به هؤلاء هو رغبتهم الأبدية في مصير خير من مصيرهم، وعلمهم بأنهم من ينالوا هذا المصير. وفي هذا الموضع من الجحيم شعراء وثنيون يعظمهم كل المقيمين فيه - هومر، وهوراس، وأوفد، ولو كان؛ وهؤلاء يرحبون بفرجيل ويحلون دانتي المكان المقدس بينهم، ثم يقول دانتي: وأنظر إلى أعلى "فأرى سيد العارفين يجلس بين أسرة الفلاسفة" أي أرسطو يحيط به سقراط، وأفلاطون، ودمقريطوس، وديجين، و هرقليقوس، وأنكسغوراس وأنبادقليس، وطاليس، وزنون، وشيشرون، وسنكا، وإقليدس، وبطليموس، وأبقراط، وجالينوس، وابن سينا، وابن رشد"الذي ألف الشرح العظيم"(48). وما من شك في أنه لو كان دانتي مطلق الحرية في رأيه لوضع في الجنة هذه الفئة النبيلة كلها، ومن بينها فلاسفة المسلمين المخالفين له الدين.
ثم يقوده فرجيل إلى الدائرة الثانية، حيث تتقاذف الرياح العاتية الذين ارتكبوا خطايا جسدية شهوانية لا يستريحون منها أبداً. وهنا يشاهد دانتي باريس، وهِلِين، وديدو، وسميراميس، وكليوبطرة، وترستان، وباولو، وفرانسسكا. وقصة فرانسسكا كما يرويها دانتي تتلخص في أن فرانسسكا دا بولنتا الجميلة أريد لها أن تتزوج جيانسيتو مالا تستتا Gianciotto Malateste الشجاع المشوه لتقضي بزواجها على نزاع قام بين أسرة بولنتا سادة رافنا، وأسرة مالتستا سادة ريميني. هذا هو الجزء المؤكد في القصة، أما بقيتها فغير مؤكدة. فهناك رواية يقبلها الكثيرون تقول إن باولو Paolo الوسيم أخا جيان سيتو يدّعي أنه هو الخطيب، وأن فرانسسكا تعاهده على أن تتزوج به، ولكنها تجد في يوم العرس أنها تزف على الرغم منها إلى جيان سيتو. ثم لا يمضي إلاّ القليل من الوقت حتى تستمتع بحب باولو؛ ويقبض عليها جيان سيتو ويقتلها في تلك اللحظة (حوالي 1265). وتُقَص فرانسسكا داريميني قصتها وهي تتأرجح في الريح خيالاً بلا جسد إلى جانب روح حبيبها غير المجسد:
"إن أشد ما يحزن الإنسان أن يذكر أيام الهناء حين يقترب منه الشقاء... كنا في يوم من الأيام نتسلى بقراءة لانسلت، وكيف استبد به الهوى. وكنا في تلك الساعة وحدنا ولا يوجد بالقرب منا ما نرتاب فيه. وكثيراُ ما كانت أعيننا تتبادل النظرات في أثناء هذه القراءة، وذهب اللون من خدودنا وتبدلت صورتها. ثم وقعت أعيينا على نقطة في الكتاب واحدة، وذلك حين وصلنا إلى تلك القبلة المشتهاة التي طبعها في هيامه ونشوته فتى برح به الوجد. وفي تلك اللحظة طبع وهو يرتجف قبلة على شفتيَّ، طبعها ذلك المحب الذي لن يفارقني قط. لقد كان الكتاب وكاتبه كلاهما مبعوثين من عند الحب. ولم نقرأ شيئاً في صحفه بعد ذلك اليوم"(47).
ويتملك الأسى دانتي حين يسمع هذه القصة فيغمى عليه، ثم يفيق فيجد نفسه في الدائرة الثالثة من الجحيم، حيث يستقر من كان ذنبهم النَّهم في حمأة تحت عاصفة دائمة من الثلج، والبرد، والمياه القذرة، وحين ينبح في وجوههم سر بيروس Cerberus ويمزقهم إرباً بأنيابه الثلاثية. ثم يهبط فرجيل ودانتي إلى الدائرة الرابعة، حيث يقيم أفلوطس Plutus؛ وهنا يلتقي المبذرون والبخلاء ويقتتلون، ويلقى بعضهم على بعض أثقالاً ضخمة في حرب سيسفية Sisyphean ويسير الشاعران بأزاء نهر استيكس Styx المظلم الذي يغلى ماؤه، حتى يصلا إلى الدائرة الخامسة؛ حيث يقيم من كان ذنبهم الغضب ملطخين بالأقذار، يضربون أنفسهم ويمزقون أجسادهم. والذين كان ذنبهم الكسل والتراخي يغمرون في ماء البحيرة الأستيجية Stygiam الآسن، وتعلو سطحها الطيفي فقاعات من زفيرهم. وينقل فليجاس Phlegyas على سطح البحيرة حتى يصلا في الدائرة الثالثة إلى مدينة ديس Dis، أو الشيطان Lucifer، حيث يشوى الملحدون في قبور ملتهبة؛ ثم يهبطان إلى الدائرة السابعة، وهناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف تحت راية المنوتور Minotaur يكادون على الدوام يغرقون في نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. ويريان قسم من هذه الدائرة المنتحرين ومنهم بيرو دل فنيPiero delle Vigne ، وفي قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار. ويلتقي دانتي بين السدوميين بمعلمه القديم برونتو لاتيني- وهو مصير لا يليق بشخص كان هادياً لدانتي وصديقاً له وفيلسوفاً.
وتظهر عند طرف الدائرة الثامنة هولة مروعة تحمل الشاعرين وتنحدر بهما إلى هاوية المرابين؛ وفي أحد أخوار هذه الهاوية يشاهدان طائفة عجيبة من الآلام السرمدية يعذب بها من يغوون النساء، والمتملقون والمتجرون بالوظائف الدينية. وهؤلاء المتجرون يعلقون من أرجلهم في حفر لا تظهر منها إلا سيقانهم، ويلحس اللهب أقدامهم تدليلاً لهم. ومن بين هؤلاء المتجرين البابا نقولاس الثالث (1277 - 1280)؛ ويندد دانتي أشد التنديد بسوء أعمال هذا البابا وغيره من البابوات؛ ويصور نقولاس هذا صورة فذة جريئة فيقول إن البابا يحسب أن دانتي هو بنيفاس الثامن (المتوفي عام 1303) وأن قدومه إلى الجحيم متوقع في أية لحظة من اللحظات(48). ويتنبأ نقولاس بأن كلمنت الرابع (المتوفي عام 1314) سينضم إليهم بعد زمن قليل. وفي الخور الرابع من الدائرة الثامنة يقيم من يدعون معرفة الغيب، ورءوس أولئك الأقوام مثبتة في أعناقهم ومتجهة نحو ظهورهم. ويطل الشاعران من جسر - "ماليبلج Malebolge"- فوق الخور الرابع فيريان من تحتهما مختلسي الأموال العامة يسبحون إلى أبد الدهر في بحيرة من القار في درجة الغليان. أما المنافقون فلا ينقطع مرورهم حول الخور السادس في أردية من الرصاص مطلية بالذهب. ويشاهد في الممر الوحيد الذي يخترق هذا الخور قيافي مصلوباً وملقى على الأرض بحيث لا يستطيع أحد اجتياز الطريق إلا إذا وطئ جسده. وفي الخور الرابع يعذب اللصوص بأفاع سامة؛ وهنا يتعرف دانتي على عدد من الفلورنسيين، ويشاهد عقد قائم فوق الخور الثامن لهيباً يحرق جلوده مثيري السوء، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب؛ ويرى من بين هؤلاء أديسيوس المخادع. وفي الخور التاسع يستقر النمامون والعاملون على الانشقاق تنتزع أطرافهم طرفاً بعد طرف.
وفي الخور العاشر من الدائرة الثامنة يرقد المزورون، والمزيفون، والكيميائيون الكاذبون، يئنون من أوجاع مختلفة، وتملأ الهواء من حولهم رائحة كريهة هي رائحة العرق والصديد، وأنين المعذبين يملأ الهواء بأصوات كقصف الرعد.
وينتهي مطاف الشاعرين بالدائرة التاسعة وهي الدرك الأسفل من الجحيم، ومن عجب أن توصف بأنها هوة واسعة من الجليد؛ وفيها يدفن الخونة في الجليد إلى أذقانهم، وتتجمد دموع الألم فتصبح قناعاً متبلوراً فوق وجوههم. ومن بين هؤلاء يرى كونت أجولينو دلا غراردسكا Count Ugolino della Gheardesca الذي خان بيزا مشدوداً أبد الدهر إلى رجييري Ruggieri كبير الأساقفة، الذي سجنه هو وأبناءه وأحفاده وتركهم كلهم يموتون جوعاً. والآن يستند رأس أجولينو على رأس كبير الأساقفة، ويظل رجييري إلى الأبد يضع رأس أجولينو وفي مركز الأرض أي في قاع فتحة الجحيم الآخذة في الضيق يرقد الشيطان (لوسفر) الجبار مدفوناً في الجليد إلى وسطه يرفرف بجناحين ضخمين مثبتين في كتفيه، ويذرف من وجوهه الثلاثة التي تقسم رأسه دموعاً من الدم المتجمد من شدة الزمهرير، ويمضغ في كل فك من فكوكه الثلاثة أحد هؤلاء الخونة: بروتس، وكاسيوس، ويهوذا Judas. ."(قصة الحضارة ج17 ص326-332، عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> الملهاة المقدسة -> الجحيم).
 
من هو دانتي(7) الذي أهان الرسول(في الكوميديا الإلهية)
آلام الضطهاد والمنافي التي تعرض لها دانتي والحالة المزرية لإيطاليا تظهر في الملهاة بهذه الصيغة
"أي إيطاليا المستعبدة! يا موطن الأحزان! يا سفينة بغير دليل في مهب العاصفة الهوجاء! يا سيدة انتزعت منها ولاياتها الجميلة، ولم تعد إلاّ ماخوراً دنساً! إن هذا الروح الرقيق قد حفزه الصوت الجميل الصادر من بلده العزيز أن يحيي رجلاً من أهل وطنه مرحباً به مبتهجاً بلقائه. وفيك يقيم الأحياء من أبنائك يقتتلون؛ يأكل الواحد منهم لحم أخيه من الغل والحقد؛ نعم ما أشد الضغن الذي يملأ قلوب من يحيد بهم جدار واحد وخندق واحد. ألا أيها البائس الحزين طف بشواطئ بجارك، ثم عد إلى نفسك فاسألها هل يستمتع جزء منك بالسم الحلوة؟ وماذا يفيدك إذا كان جستنيان قد (أحيا القانون الروماني) من أجلك، وهل ينفعك أن يصلح العنان إذا كان السرج (بغير مَلك)؟ أيها الخلائق، يا من يجب عليكم أن تظلوا مخلصين أوفياء، أجلسوا قيصر في السرج إذا شئتم أن تستجيبوا لأمر الله"(قصة الحضارة ج17 ص334، عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> الملهاة المقدسة -> الجحيم)..
 
حكم ديورانت على ملهاة دانتي
:" وقصارى القول أن نصف الأهوال التي كانت تزعج الأنفس في العصور الوسطى قد جمعت في هذه القصة الدموية. وكلما أمعن الإنسان في قراءة صحفها الرهيبة ازداد رعباً على رعب حتى تطغى عليه نتيجة هذا الرعب آخر الأمر فلا يعود يطيقها. وإن ذنوب الإنسان وجرائمه في هذا العالم وفي جميع عوالم الكون وسلامه لأقل من غضب الإله وانتقامه بالصورة التي يتخيلها الشاعر. وإن فكرة دانتي عن الجحيم لهي منتهى ما وصل إليه لاهوت العصور الوسطى من فظاعة."(قصة الحضارة ج17 ص332، عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> الملهاة المقدسة -> الجحيم)..
ويقول ديورانت ص343-344):" ومع هذا كله فإن قصيدته أعظم كتب العصور الوسطى، ومن أعظم كتب التاريخ بأجمعه. ذلك بأن تجمع قوتها وغزارة مادتها تدريجياً خلال أغانيها البالغ عددها مائة أغنية تجربة لا يستطيع قارئ أكمل قراءتها أن ينساها؛ وهي كما قال فيها كارليل Carlyle أعظم القصائد إخلاصاً؛ فليس فيها شيء من الادعاء، أو الملق، أو التواضع الكاذب، أو الخنوع، أو الجبن؛ بل إن أقوى رجال ذلك العصر، ومنهم البابا الذي يدّعي أنه صاحب السلطان الأعلى، يهاجمون بقوة وحرارة ليس لهما في الشعر كله مثيل. وفيها فضلاً عن هذا كله خيال وثّاب يسري فيها كلها ويبعث فيها القوة، ويغالب شيكسبير لينتزع منه لواء الشعر: فيها صور واضحة حية لأشياء لم يرها الأرباب أو البشر؛ ووصف الطبيعة لا تستطيعه إلاّ روح يقظة قوية الملاحظة مرهفة الحس؛ وقصص قصيرة، كقصة فرانسسكا وأجلينو، تجمع المآسي العظيمة في حيز صغير دون أن تترك منها شيئا ذا بال. نعم إن هذا الرجل خلو من الفكاهة، ولكن فيه حُبًّاً ظل حتى أحالته المصائب لاهوتاً.
 
قال ديورانت :"وشيء آخر خليق بالذكر، وهو أن رجال العصور الوسطى كانوا ضحية للهمجية، ثم صاروا هم أنفسهم الغالبين للهمجية، وأمسوا بعدئذ المنشئين لمدنية جديدة"(قصة الحضارة ج17 ص347، عصر الإيمان -> المسيحية في عنفوانها -> دانتي -> الملهاة المقدسة -> الجحيم)
والسؤال الآن : من قلب حالهم وبأي علوم، وممن أتت؟ وهل يأتي التغيير من فراغ؟
وهل علوم الرومان نفعت أو المسيحية الرومانية أو مابعدها وقد بقيت قرونا طوالا لم تحرك ساكنا؟
لماذا لم تنشئ المسيحية نفسها أ تصنع هذا التحول وقد حكم عليها ديورانت نفسه بالعائق والمعرقل؟
ولماذا لم تفعله-التحول- الامبراطورية الرومانية وثنية كانت أو مسيحية؟
هنا يبدو أن الخيط (الأبيض.. من الفجر)قد وضح قليلا.
 
تراث يشمل علوم المسلمين ومخترعاتهم وطريقة تفكيرهم وعلومهم تجاه الكون والمادة والطب
:"وفي الحق ان تراث العصور الوسطى العلمي تراث متواضع،ولكنه يشمل فيما يشمل الأرقام الهندية، والطريقة العشرية، وفكرة العلوم التجريبية، وقسطاً كبيراً من العلوم الرياضية والجغرافيا، والفلك، والبصريات. وفي العصور الوسطى كشف البارود، واخترعت النظارات، والبوصلة البحرية، والساعة ذات الرقاص ، وتقطير الكحول - الذي يبدو أشد المخترعات لزوماً للإنسان! وفيها ارتقى أطباء العرب واليهود بالطب اليوناني، وحرر الرواد المسيحيون الجراحة من فنون الحلاقين؛ ونصف المستشفيات التي تقوم الآن في أوربا أنها من منشئات العصور الوسطى وإما أنها مؤسسات باقية من ذلك العهد جددت في العصور الحديثة، ولقد ورث العلم الحديث من طريقة التفكير في العصور الوسطى نزعته الدُّوَلية، وقسطاً غير قليل من لغته الدُّوَلية"(قصة الحضارة ج17
ص351، عصر الإيمان -> تراث العصور الوسطى)
 
فردريك الثاني ألهب رجال النهضة.. لاتنسى مصدر إلهامه الأهم؟
"ورفع الحكام العظام أمثال...وفردريك الثاني...، رفع هؤلاء دولهم من بلاد تجري على العادات والتقاليد إلى دول تتبع القوانين، كما رفعوا شعوبهم إلى مستويات جديدة من الحضارة في العصور الوسطى. وانبعثت في القرن الثالث عشر فلسفة وعلوم جديدة تغلبت على النزعات الصوفية التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر...وإن الروح التي كانت متأججة في أثناء القرن الثاني عشر لهي نفسها التي أثارت روح الكبرياء والكفاح في المدن الإيطالية خلال عصر النهضة؛ كذلك كان النشاط والخلق القوي اللذان امتاز بهما إنريكو دوندولو Enrico Dnodolo، وفردريك الثاني، وجريجوري التاسع هما اللذين تلتهب بهما صدور رجال النهضة"(قصة الحضارة ج17 ص353، عصر الإيمان -> تراث العصور الوسطى)
 
ماهي حدود مملكة فريدريك الثاني الذي نشر فيها علوم المسلمين؟
"وأعطيت مملكة فردريك الثاني بعد هزيمته هو وآل هوهنشتوفن بقوة جيوش البابوات ودهائهم السياسي، وكانت تشمل جميع إيطاليا الممتدة جنوب الولايات البابوية - نقول أعطيت هذه المملكة إلى بيت أنجو الذي كان يمثلهم شارل كونت بروفانس. وحكم شارل تلك البلاد بوصفه ملك نابلي وصقلية. ثم انتزع بيت أرغونة صقلية من ابنه شارل الثاني"(قصة الحضارة المجلد 18 ص14، النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> نابلي وبوكاتشيو)
 
روما في القرن الرابع عشر المسيحي
:"وكانت روما عاصمة العالم بلداً خليقاً بالرثاء، فقد غادرتها البابوية إلى أفنيون منذ عام 1309، ولم يبق فيها من الموارد الاقتصادية ما يفي حتى بذلك المجد الوسط الذي عرفته تلك المدينة في القرن الثالث عشر...والمتسولون يجوبون شوارع المدينة. وقطاع الطرق واللصوص يكمنون في الطرق العامة، والزوجات يُختطفن من أزواجهن. والراهبات يُغتصبن، والحجاج ينهبون، وكل من في المدينة يحمل السلاح(13). وكانت أسر الأشراف القديمة-آل كولنا، وأرسينى، وسافلي، وأنيبالدى، وجيتانى، وفرنجيبانى- تتنازع فيما بينها، وتلجأ إلى العنف تارة وإلى الدسائس والمكائد تارة أخرى، للظفر بالسيادة السياسية في مجلس الشيوخ الألجاركى الذي كان يحكم روما. وكانت الطبقات الوسطى قليلة ضعيفة، وجمهرة الشعب خليطا مهوشاً من عشرات الشعوب يعيشون على حال من الفقر المدقع يشل كل قواهم ولا يبعث فيهم أقل رغبة في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تدهورت قبضة البابوية الغائبة على المدينة فلم تعد أكثر من سلطة اسمية نظرية لمندوب بابوي لا يعنى أحد بشأنه(قصة الحضتارة ج18 ص19)النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> شاعر البلاط
 
وصف مافعله الطاعون في القرن الرابع عشر
:" ما كان للموت الأسود الذي اجتاح أوربا بأكملها في عام 1348 وما بعدها من آثار في مدينة فلورنس. ويبدو أن المرض قد نشأ من خصب السكان الآسيويين وقذارتهم وما انتابهم من الفقر بسبب الحرب، والضعف بسبب المجاعة، فأمتد الوباء من بلاد العرب إلى مصر، ومن البحر الأسود إلى روسيا وبلاد بيزنطية، ثم نقله تجار البندقية، وسرقوسة، وبيزا، وجنوي، ومرسيليا وسفنها من القسطنطينية والإسكندرية وغيرهما من ثغور الشرق الأدنى بمساعدة البراغيث والفئران إلى إيطاليا وفرنسا. وأكبر الظن أن سني القحط المتعاقبة التي حلت بأوربا الغربية -1333-1334، 1337، 1342، 1345-1347- قد أوهنت ما كان للفقراء من قوة المقاومة، ثم نقل الوباء إلى سائر الطبقات(39). وأنتشر الوباء في صورتين: طاعون رئوي مصحوب بحمى عالية، وبصاق دموي ويؤدي إلى الموت في خلال ثلاثة ايام من بدء الإصابة، ودملي مصحوب بحمى وخراجات وجمرات ويؤدي إلى الموت في خلال خمسة أيام. وقضى الطاعون في هجماته المتعاقبة على نصف سكان إيطاليا بين عامي 1348 و 1365 (40) وكتب مؤرخ إخباري حوالي عام 354 يصفه فقال: لم يكن يصحب الجثث إلى قبورها أحد من أهل المتوفى أو أصدقائه القساوسة أو الرهبان، ولم تطن تتلى عليها صلاة الجنازة... وحفرت في كثير من أنحاء المدينة خنادق ألقيت فيها الجثث، وغطيت بطبقة رقيقة من التراب، وتلتها طبقة بعد طبقة حتى امتلأ الخندق ثم بدئ بحفر خندق جديد. وقد دَفَنْتُ أنا أنيولو دي تورا Agnolo di Tura... بيدي خمسة من أبنائي في خندق واحد، وفعل هذا بعينه كثيرون غيري. وكانت الطبقة التي غطيت بها جثث بعض الموتى رقيقة إلى حد جعل الكلاب تخرجها وتنهشها، وتنشر أعضاءها في جميع أنحاء المدينة. ولم تدق أجراس، ولم يبك الموتى مهما فدح الخطب لأن كل أنسان تقريباً كان يترقب الموت... وكان الناس يقولون إن "هذه هي آخر العالم " يؤمنون بما يقولون... ويبدأ بوكاتشيو كتاب ديكمرون بوصف مروع للطاعون يقول فيه:
ولم يكن الاتصال بالمرضى أو التحدث إليهم وحدهما ينقلان العدوى إلى الأصحاء، بل يبدو أن مجرد لمس ثياب أولئك المرضى أو أي شئ آخر مسوه أو استعملوه كان يكفي لنقل المرض... وكان أي شئ مما يملكه الموتى أو المصابون بهذا الوباء إذا أمسه حيوان,... مات بعد وقت قليل... وتلك أمور شاهدتها بعيني رأسي. وقذفت هذه المحنة الرعب في قلوب الناس جميعاً... فتخلى الأخ عن أخيه، والعم عن أبن أخيه.. وكثيراً من هذا وما لا يكاد يصدقه العقل، وهو أن بعض الآباء والأمهات رفضوا أن يزوروا أبناءهم أنفسهم أو يعنوا بهم كأنهم ليسوا منهم... وأفترس المرض في كل يوم آلافاً من عامة الشعب لأنهم لم يجدوا من يرعاهم أو يعمل لإنقاذهم، وماتوا وهم لا يكادون يجدون ملجأ أو معونة. ولفظ الكثيرون منهم آخر أنفاسهم في الطرقات، ومات كثيرون غيرهم في بيوتهم ولم يعرف جيرانهم خبر موتهم إلا من رائحة أجسامهم المتعفنة لا من أية وسيلة أخرى، وامتلأت المدينة بهؤلاء وأولئك وغيرهم من الأموات. وأخرج الجيران جثث الموتى من منازل اصحابها ووضعوها أمام أبوابها مدفوعين إلى ذلك بخوفهم أن يتعرضوا هم للخطر بسبب تعفن هذه الجثث لا بأي شعور بالرحمة نحو هؤلاء الأموات، ولهذا كان المارة وبخاصة في الصباح يرون من الجثث ما يخطئه الحصر. وكانوا حينئذ يجيئون بالتوابيت فإذا أعوزتهم جاءوا بألواح من الخشب وحملوا عليها. ولم يكن الأمر مقصوراً على أن يحمل التابوت الواحد جثتين أو ثلاث جثث متجمعة، أو أن يحدث هذا مرة واحدة، بل إنك لتستطيع أن تجد توابيت كثيرة وقد وضع فيها الزوج وزوجته، وأخوان أو ثلاثة أخوة، وأب وابنه، وما إلى هذا وأمثاله... ووصل الأمر إلى حد لم يكن الناس معه يحصون من مات من الخلائق إلا كما يحصى الناس عدد الماعز في هذه الأيام(قصة الحضارة ج18 ص52-56،-> النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> ديكمرون)
 
في مقارنة بين الشاعر دانتي وبين كاتب من فلورنسيا الإيطالية وهو بوكاتشيو وبين ملهاة دانتي وكتاب بوكاتشيو المسمى ديكمرونقال ديورانت
":وبين تعصب دانتي وما قاله عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وخليق بنا أن نوازن بينه وبين تعصب دانتي وما قاله عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)(46). وفي القصة الثانية من قصص ديكمرون نرى اليهودي يحنات يعتنق الدين المسيحي بعد اقتناعه بالحجة التي أوردها فلتير وهي أن المسيحية دين منزل من عند الله ما في ذلك شك، لأنها قد بقيت بعدما فشا بين رجال الدين من فساد في الأخلاق، وارتشاء، وبيع للمناصب الدينية. ويسخر بوكاتشيو بالنسك، والطهارة، والاعتراف الديني، والمخلفات المقدسة، والقساوسة، والرهبان، وجماعات الإخوان، والراهبات، وإضفاء صفة القداسة على الصالحين. ويرى أن الكثرة الغالبة من الرهبان قوم مراءون منافقون، ويسخر من "البلهاء " الذين يقدمون لهم الصدقات (الكتاب السادس، القصة العاشرة). أما أكثر هذه القصص بذاءة وفحشا فهي التي تروى كيف أشبع الشاب ماستو Masetto الشَّبِق شهوة دير للنساء بأكمله (الكتاب الثالث-القصة الأولى). وفي قصة أخرى يروى بوكاتشيو كيف زنى الراهب رينلدو Rinaldo بزوجة رجل، ثم يسأل راوي القصة: "ومَن مِن الرهبان لا يفعل هذا " (الكتاب السابع القصة الثالثة) ... ولا يزال ديكمرون من روائع الأدب العالمي...وقد ارتفع نثره بالأدب الإيطالي إلى مستوى لم يسم عليه قط، وهو نثر قد يكون في بعض الأحيان معقداً أو مزخرفاً، ولكنه في معظمها بليغ، جذل، لاذع، مطرب، صاف صفاء النبع الجبلي. إنه كتاب في حب الحياة"( قصة الحضارة ج18 ص58، النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> ديكمرون)
 
تحت عنوان ديكمرون يعرض ديورانت بعض ماكتبه الايطالي المعاصر لدانتي وهو الكاتب بوكاتشيو الذي الف الكتاب الذي سماه ب ديكمرون والذي روى مالحق بايطاليا من طاعون القرن الرابع عشر "كانت فلورنس هي المدينة التي أحرزت فيها الآداب الإيطالية أعظم انتصاراتها، ففيها خلع جوندسيلي Guenzelli وكفلكنتي Cavalcanti في أواخر القرن الثالث عشر على الأغنية صورتها المصقولة، وأرسل دانتي الشاعر الفلورنسي أولى نغمات شعر الملاحم الإيطالي وآخرها في الحنين إلى فلورنس ... وفيها ألف بوكاتشيو أعظم كتاب في النثر الإيطالي ... واستقر بوكاتشيو في فلورنس عام 1340 ...بوكاتشيو وهو في السابعة والثلاثين من عمره لم يكن مسيحياً متعصباً لمسيحيته. وخليق بنا أن نوازن بينه وبين تعصب دانتي وما قاله عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)(46). وفي القصة الثانية من قصص ديكمرون نرى اليهودي يحنات يعتنق الدين المسيحي بعد اقتناعه بالحجة التي أوردها فلتير وهي أن المسيحية دين منزل من عند الله ما في ذلك شك، لأنها قد بقيت بعدما فشا بين رجال الدين من فساد في الأخلاق، وارتشاء، وبيع للمناصب الدينية. ويسخر بوكاتشيو بالنسك، والطهارة، والاعتراف الديني، والمخلفات المقدسة، والقساوسة، والرهبان، وجماعات الإخوان، والراهبات، وإضفاء صفة القداسة على الصالحين. ويرى أن الكثرة الغالبة من الرهبان قوم مراءون منافقون، ويسخر من "البلهاء " الذين يقدمون لهم الصدقات (الكتاب السادس، القصة العاشرة). أما أكثر هذه القصص بذاءة وفحشا فهي التي تروى كيف أشبع الشاب ماستو Masetto الشَّبِق شهوة دير للنساء بأكمله (الكتاب الثالث-القصة الأولى). وفي قصة أخرى يروى بوكاتشيو كيف زنى الراهب رينلدو Rinaldo بزوجة رجل، ثم يسأل راوي القصة: "ومَن مِن الرهبان لا يفعل هذا " (الكتاب السابع القصة الثالثة) ... ولا يزال ديكمرون من روائع الأدب العالمي...وقد ارتفع نثره بالأدب الإيطالي إلى مستوى لم يسم عليه قط، وهو نثر قد يكون في بعض الأحيان معقداً أو مزخرفاً، ولكنه في معظمها بليغ، جذل، لاذع، مطرب، صاف صفاء النبع الجبلي. إنه كتاب في حب الحياة، وقد استطاع بوكاتشيو في غمرة أكبر كارثة حلت بإيطاليا في مدى ثمانين عاما أن يجد في نفسه من الشجاعة ما يستطيع به أن يرى الجمال، والفكاهة، والطيبة، والمرح لا تزال تمشي على الأرض... ولقد ترجم إلى جميع اللغات الأوربية، ونقل هانز ساكس Hans sachs ولسنج Lessing، ومليير Moli?re ولافنتينLa Fontaine، وتشوسر Chaucer، وشكسبير نقل هؤلاء كلهم صحفا منع أعجبوا بها كل الإعجاب. وسيظل الكتاب متعة للقراء بعد أن يكون جميع شعر بترارك قد انطوى في عالم الكتب التي يمدحها الناس ولا يقبلون على قراءتها"( قصة الحضارة ج18 ص50-60، النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> ديكمرون)
 
صلة مدينة البندقية الايطالية في القرن الرابع عشر بالمسلمين، ولابد أنها شاركت في نقل العلوم الإسلامية
:" بعث الدوق جيوفني فيكونتي في عام 1354 بترارك إلى البندقية ليفاوضها في عقد الصلح مع جنوي.
... وكان أهلها من أشد الناس حرصاً على الكسب يتحدون البحار بإقدامهم وبسالتهم، شقوا لتجارة جنوي طرائق في البحر المتوسط إلى تونس، ورودس، وعكا، وصور، وإلى ساموس، ولسبوس، والقسطنطينية، واخترقوا البحر الأسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الاسود إلى بلاد القرم وطربزون، واجتازوا مضيق جبل طارق والمحيط الأطلنطي إلى رون وبروج. وهؤلاء المغامرون من رجال الأعمال هم الذين ابتدعوا قبيل عام 1340 طريقة القيد المزدوج (حساب الدوبيا) في إمساك الدفاتر...وكانت البندقية أغنى دول إيطاليا وأقواها بعد ميلان، وكانت حكومتها أقدر الحكومات وأكثرها حزماً بلا استثناء. واشتهر صناعها اليدويون بجمال مصوغاتهم، وكانت كثرتها خاصة بتجارة مواد الترف. وكانت دار صنعتها البحرية تضم 16.000 رجل، و 36.000 بحار يسيرون 3300 سفينة حربية وتجارية. وكان الذي يسرون سفائنها بالمجاديف رجالا من الأحرار لا من العبيد كما جرت بذلك العادة في القرن السادس عشر. وكان تجار البندقية يغزون جميع الأسواق من بيت المقدس إلى أنتويرب، ويتاجرون مع المسيحيين والمسلمين على السواء، ولا يميزون بين أولئك وهؤلاء، وجروا على أنفسهم اللعنات البابوية التي كانت تتساقط عليهم كما يتساقط الظل على الأرض... وكانت هذه التجارة العظيمة الواسعة تعتمد على الأموال الخاصة يجمعها ويستثمرها المرابون الذين أطلق عليهم في القرن الرابع عشر لقب "المصرفيين" Bancherii"( قصة الحضارة ج18 ص70-71، النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> البندقية وجنوى)
 
حالة ايطاليا المزرية جدا في القرن الرابع عشر المسيحي
المناخ الذي عاش فيه دانتي!!
:" تتبعنا تنقل بترارك وبوكاتشيو في أنحاء إيطاليا، لكن إيطاليا من الوجهة السياسية لم يكن لها وجود، بل الذي كان موجوداً هو دول- المدن، وهي قطع ممزقة حرة في أن تهلك نفسها في الأحقاد والحروب. فقد دمرت بيزا منافستها التجارية أملفى، ودمرت ميلان بياتشنوسا، ودمرت جنوي وفلورنس بيزا، ودمرت البندقية جنوي، وانضمت بعد هذا العهد نصف أوربا إلى الجزء الأكبر من إيطاليا لتدمر البندقية. وأدى انهيار الحكومة المركزية على أثر غزوات البرابرة، و "الحروب القوطية " التي ثار عجاجها في القرن السادس، وانقسام شبه الجزيرة بين لمبارديا وبيزنطية، وتهدم الطرق التجارية الرومانية، والنزاع بين اللمبارد والبابوات، وبين البابوات والإمبراطورية، وخوف البابا أنه إذا قامت سلطة عليا في إيطاليا تمتد من الألب إلى صقلية، فإن قيامها يجعل البابا أسيراً ويخضع رئيس أوربا الروحي إلى رئيس الدولة السياسي، كل هذا فكك وحدة إيطاليا ومزقها كل ممزق. ولم يقتصر أشياع البابوات وأشياع الأباطرة على تقسيم إيطاليا شيعاً، بل قسموا فضلا عن ذلك كل مدينة تقريباُ إلى جلف وجبلين Guelf & Ghibelline، ولما أن شبت نار النزاع بين الطائفتين استخدم الشعارين القديمين منافسون جدد، وظلت نيران الأحقاد مشتعلة في جميع مناحي الحياة. فكان إذا وضع الجبلين الريش في ناحية من قبعاتهم وضعها الجلف في الناحية الأخرى، وإذا اتخذ الجبلين وردة بيضاء شارة لهم اتخذ الجلف شارة حمراء. وانتزع الجبلين في ميلان تمثالاً للمسيح من محراب في كنيسة واحرقوه لأن وجهه كان متجهاً إلى ما ظنوه ناحية الجلف، وفي برجامو الجبلينية اغتال مضيفون بعض ضيوفهم من الكلبريين لأنهم تبينوا من اسلوب أكلهم الثوم أنهم من الجلف(60). وبعث ضعف الأفراد وخور عزيمتهم، واضطراب الأمن بين الجماعات، وخداع الغرور، بعث هذا في النفوس دوام الخوف، والارتياب، والكراهية، واحتقار المخالفين، والأجانب، والأغراب.
ونشأت دولة- المدينة الإيطالية من هذه العقبات القائمة في سبيل الوحدة، فلم يكن الناس يفكرون إلا في مدينتهم، ولم يكن أحد يفكر في إيطاليا بوصفها وحدة وكُلاًّ إلا قليل من الفلاسفة أمثال مكيفلي Machiavelli أو شاعر مثل بترارك، وكان تشليني في القرن السادس عشر نفسه يشير إلى أهل فلورنس بقوله إنهم "رجال من أمتنا " وإلى فلورنس بأنها: "وطني ". وكان بترارك، الذي تحرر بفضل إقامته بالبلدان الأجنبية من الوطنية المحلية الضيقة يأسف لهذه الحروب التافهة، والانقسام المتفشي في بلده، وتوسل في أنشودة بليغة عنوانها: بلادي إيطاليا إلى أمراء إيطاليا أن يهبوها السلم والوحدة:
أي بلادي إيطاليا!- وإن كانت الألفاظ لا تجدى
التي لا يحصى عديدها، والتي تمزق صدري،
بيد أنه قد يخفف من آلاميأن أتغنى بأحزان التيبروبالمظالم التي حلت بلآرنو حين أطوف وأنوحبشواطئ البو المحزنة أترنم بقصائدي...ويلاه! أليست هذه هي الأرض التي وطئتها قدمي أول ما وطئت؟أليس هذا هو المكان الذي دُللت فيه برفقوأنا مستريح في المهد، وربيت به في عز وحنان؟ويلاهّ أليست هذه بلادي-التي أعزهالما بيني وبينها من روابط البنوةوالتي يثوى في ثراها أبواي؟فهلا بعثت هذه الفكرة الحنونةبعض الأسى في قلوبكم القاسيةفنظرتم إلى أحزان الشعب،الذي يرجو منكم، بعد الله، أن تنقذوه؟فإذا ما عطفتم وأذعتم،فإن الفضيلة سترفع رأسها عالية،وتتأهب للحرب العوانضد قوى الغضب العمياءولن يطول الزمن الذي تحترب فيه القوتان غير المتكافئتين،لا! لا! إن اللهب القديمالذي رفع اسم إيطاليا إلى السماكين لم ينطفئ بعد.وكان بترارك يحلم أن يستطيع ريندسو Rienzo توحيد إيطاليا، فلما أن خاب أمله فيه اتجه كما اتجه دانتي إلى عاهل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان هذا العاهل من الوجهة النظرية الوارث من غير رجال الدين لجميع السلطات الزمنية التي كانت للإمبراطورية الرومانية الوثنية في بلاد الغرب. ومن أجل هذا فإنه لم يمض إلا قليل من الوقت على انسحاب ريندسو من ميدان العمل (1347) حتى وجه بترارك رسالة مثيرة إلى شارل السادس ملك بوهيميا، الذي كان بوصفه "ملك الزمان " الوارث لعرش الإمبراطورية. وقال الشاعر في هذه الرسالة: "فليأت الملك إلى رومة ليتوج فيها إمبراطوراً، وليتخذ روما لابراج عاصمة لملكه، وليرجع إلى إيطاليا "حديقة الإمبراطورية " الوحدة، والنظام، والسلم (61). ولما اجتاز شارل جبال الألب في عام 1354 دعا بترارك لمقابلته في مانتوا Mantua واستمع في رقة وبشاشة إلى ما وجهه إليه من دعوات تردد أصداء نداء دانتي الحار إلى جده هنري السابع. ولكن شارل لم يكن لديه من القوة ما يكفي لهزيمة جميع طغاة لمبارديا، وجميع اهل فلورنس والبندقية، فأسرع إلى روما. ولم يكن البابا فيها وقتئذ، فعمل على أن يتوج نائبه، ثم قفل راجعاً إلى بوهيميا، وجد في بيع المناصب الدينية وهو عائد إلى بلاده. وسافر اليه بترارك في براج بعد عامين من ذلك الحادث، في سفارة من ميلا، ولكن هذا اللقاء لم تجن منه إيطاليا ثمرة تستحق الذكر.
ولعل نهضة ما لم تكن قد وجدت إذا ما تحقق أمل بترارك. ذلك أن تقطيع أوصال إيطاليا كان مما ساعد على قيام النهضة، فالدول الواسعة الرقعة توطد النظام وتدعم السلطان أكثر مما تنشر لواء الحرية وترعى الفنون. أضف إلى هذا أن لاتنافس التجاري بين المدن الإيطالية كان هو الذي بدأ واتم عمل الحروب الصليبية في تنمية اقتصاد إيطاليا وثروتها. ولسنا ننكر أن تعدد المراكز السياسية قد ضاعف من عدد المنازعات بين المدن، ولكن هذه المنازعات الصغرى في مجموعها لم تسبب من هلاك في الأنفس وخراب في البلاد قدر ما سببته حروب مائة السنين في فرنسا. ولسنا ننكر كذلك أن استقلال المدن قد أضعف من قدرة إيطاليا على صد غارات الأجانب عليها، ولكنه ولد منافسة نبيلة بين المدن والأمراء لرعاية الثقافة، والحرص على التفوق في فنون العمارة، والنحت، والتصوير، والتعليم، والمنح التعليمية، والشعر. لقد كان في إيطاليا النهضة، كما كان في ألمانيا القوطية، مراكز كثيرة مثل باريس.
ولسنا في حاجة إلى المبالغة لكي نقدر ما كان لبترارك وبوكاتشيو من فضل في التمهيد إلى النهضة: لقد كان كلاهما لا يزال أسيراً لأفكار العصور الوسطى. وكان القَصّاص العظيم في عنفوان شبابه يسخر من فساد أخلاق رجال الدين واتجارهم بمخلفات القديسين، ولكن ىلاف الآلاف من رجال العصور الوسطى ونسائها كانوا يفعلون فعله، وقد اصبح أكثر استمساكاً بالدين واصطباغاً بصبغة العصور الوسطى في الأيام التي أخذ يدرس فيها اللغة اليونانية. وكان بترارك يصف نفسه بحق بأنه واقف بين عهدين(63). وكأنه بهذا كان يتنبأ بما سوف يكون. فقد كان يقبل قواعد الكنيسة التحكمية في الوقت الذي كان يشن فيه حرباً شعواء على أخلاق بابوات أفنيون، وكان يحب الآداب القديمة في أواخر عصر الأيمان، كما كان جيروم Jerome يحبها في بدايته، وكان في قرارة نفسه غير راض عن هذا الحب(قصة الجحضارة ج18 ص 81-،85 النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> نظرة عامة)
 
ايطاليا في ثلاثة قرون من القرن الثايي عشر الى القرن الرابع عشر وعلاقة بالاسلام والمسلمين ولابد
التجارة تفتح الآفاق
:" وكانت الجامعات الكبرى هي التي أخذت منذ عام 1100 تنقل إلى شباب أوربا قدراً من التراث العقلي والأدبي للجنس البشري. وكانت نشأة الفلسفة الانتقادية عند إرجينا Erigena وأبلار، وإدخال دراسة أرسطو وابن رشد في مناهج الجامعات ودعوة أكوناس الجريئة إلى إثبات كل العقائد المسيحية تقريباً على اساس العقل، وما تلاها بعد قليل من اعتراف دنزاسكوتس Duns Scotus بأن الكثرة الغالبة من هذه العقائد خارجة عن نطاق العقل، كان هذا كله سبباً في نشأة صرح الفلسفة المدرسية العقلي ثم تحطيمه بعدئذ، وفي ترك المسيحيين المتعلمين أحراراً يحاولون التأليف من جديد بين الفلسفة الوثنية ولاهوت العصور الوسطى من جهة، وتجارب الحياة من جهة أخرى. وكان تحرر المدن من عوائق الإقطاع، واتساع نطاق التجارة، وانتشار الاقتصاد القائم على النقود،- كانت كل هذه قد سبقت مولد بترارك،. وعلم روجر ملك صقلية، وفردريك الثاني، دع عنك خلفاء المسلمين وسلاطينهم، علم هؤلاء كلهم حكام البلاد أن يضيفوا سنا المجد إلى السلطان بمناصرة الفن، والشعر، والعلوم، والفلسفة. وقد احتفظ رجال العصور الوسطى ونساؤها، رغم قلة منهم كانت منهمكة في شئون الدار الآخرة، دون حياء بما طبع عليه الإنسان من سرور بملاذ الحياة البسيطة، وكان للرجال الذين صوروا، وشادوا، ونحتوا تماثيل الكنائس الكبرى ... وكان الأساس الأخلاقي قد وضع هو الآخر: فقد أخذ ازدياد الثروة يحطم القيود الأخلاقية القديمة، وشجع الاتصال بالبلاد الإسلامية عن طريق التجارة والحروب الصليبية نزعة التسامح في الانحراف بالقواعد الدينية والاخلاقية عن المعتقدات والأساليب التقليدية. وكان لإعادة الكشف عن العالم الوثني ذي الحرية النسبية في التفكير السليم نصيب في تحطيم عقائد العصور الوسطى ومبادئها الأخلاقية، ولهذا كله تقهقر الاهتمام بالحياة الآخرة أمام المشاغل الزمنية، البشرية، الدنيوية"(قصة الحضارة ج18 ص86-87، النهضة -> تمهيد -> عصر بترارك وبوكاتشيو -> نظرة عامة)
 
الصراع بين الباباوات وتغير الدول ومرحلة جديدة وعالم دانتي الواقعي
:"نقل البابا كلمنت الخامس في عام 1309 مقر البابوبة من روما إلى أفنيون، وكان كلمنت هذا رجلاً فرنسياً، وكان قبل أن يجلس على كرسي البابوية أسقفا لبوردو، وكان الفضل في اختياره لمنصبه عائدا إلى فليب الرابع ملك فرنسا الذي أثار دهشة العالم المسيحي بهزيمة البابا بنيفاس الثامن، وبعدم اكتفائه بهذه الهزيمة بل اضاف إليها القبض عليه، وإذلاله، ومنع الطعام عنه حتى كاد يميته جوعا. ولم يكن كلمنت ليأمن على حياته في روما التي كانت تحتفظ لنفسها دون غيرها بالحق في إساءة معاملة البابا، والتي اغتاظت من وقاحة الملك البادية في عدم احترامه إياه، يضاف إلى هذا أن الكرادلة الفرنسيين كانوا يؤلفون وقتئذ أغلبية كبيرة في المجمع المقدس ويأبون أن يضعوا أنفسهم تحت سلطان إيطاليا. ولهذا كله أقام كلمنت بعض الوقت في ليون وبواتييه، ثم أتخذ مقامه في أفنيون القائمة على الضفة الأخرى لنهر الرون المقابلة لأرض فرنسا كما كانت في القرن الرابع عشر، وكان يرجو بذلك أن يكون أقل خضوعا لفليب في إقليم يمتلكه ملك نابلي بوصفه كونت بروفانس.
وكانت الجهود الجبارة التي بذلتها البابوية من أيام جريجوري السابع (1073-1085) إلى أيام بنيفاس الثامن (1294-1303) لإنشاء دولة عالمية أوربية بإخضاع الملوك للبابوات- كانت هذه الجهود قد أخفقت، وانتصرت القومية على النزعة الاتحادية النظرية، وحتى في إيطاليا نفسها رفضت جمهوريات فلورنس والبندقية، ودول المدن في لمبارديا ومملكة نابلي سيطرة الكنيسة عليها، وأطلت برأسها مرتين جمهورية في روما، وأخذ مغامرون من العسكريين أو السادة الإقطاعيين-من أسر بجليون Baglioni، وبينتيفجل Bentivogli، وملاتيستا Malatestas، ومنفريد Manfredi، واسفورادسا Sforaza، واخذ هؤلاء وأولئك يستبدلون في الولايات البابوية الأخرى عجرفتهم العسكرية بنواب الكنيسة. وكانت البابوية أثناء مقامها في روما تستخدم مكانتها العظيمة التي استحوذت عليها قرونا طوالا، وكانت الأمم قد اعتادت أن تعظمها وتخضع لسلطانها، وتبعث لها بالأموال، أما بابوية يختار لها باستمرار أحبار فرنسيون (1305-1378)، يكادون سجناء عند ملوك فرنسا، ويقرضون هؤلاء الملوك أموالا طائلة ليشنوا بها حروبهم، أما بابوية من هذا الطراز فقد بدت لألمانيا، وبوهيميا، وإيطاليا، وإنجلترا أنها قوة معادية لها، وأنها سلاح نفساني في يد الملكية الفرنسية. وأخذت تلك الأمم تغفل ما تصدره هذه البابوية من اوامر الحرمان ومن اللعنات وتزداد جرأة على هذا كلما مضت الأيام، ولا تهبها إلا شيئاً من التبجيل الآخذ في النقصان على كره منها متزايد باستمرار.
وأخذ كلمنت الخامس يعمل في صبر وأناة للتغلب على تلك الصعاب، ولم يخضع لفليب الرابع إلا أقل ما يستطيع من الخضوع، وكان فليب هذا يسلط فوق رأس كلمنت سيف التهديد، بأن يكشف للعالم عن سلوك بنيفاس الثامن ومعتقداته الدينية بع أن توفى هذا البابا. واشتدت حاجة البابا إلى المال فأخذ يبيع الرتب الكهنوتية إلى من يعرض فيها أغلى الأثمان... وحمى أرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova الطبيب العظيم من الاضطهاد لخروجه على أصول الدين القويم، وأعاد تنظيم الدراسات الدينية في جامعة منبلييه على أساس النصوص اليونانية والعربية، وحاول أن ينشئ كراسي للغات العبرية، والسريانية، والعربية في الجامعات-وإن لم يفلح في هذه المحاولة... وكتب دانتي إلى الكرادلة الطليان يحرضهم إلى أن يصروا على اختيار بابا إيطالي وعلى إعادة مقره إلى روما، ولكن عدد الكرادلة الإيطاليين لم يكن يتجاوز ستة، فلما انعقد المجلس المقدس في حجرة مقفلة في كربنتراس Carpentras القريبة من أفنيون احتاط به الغوغاء من أهل غسقونية Gascony وأخذوا يصيحون :"الموت للكرادلة الإيطاليين!" وهوجمت بيوت أولئك الكرادلة، وأشعل المتجمهرون النار في البناء الذي انعقد فيه المجمع المقدس، وفتح الكرادلة لأنفسهم ممراً في الجدار الخلفي، وفروا من الغوغاء والنيران. ولم تبذل أي محاولة أخرى لانتخاب البابا مدة سنتين، ثم رفع الكرادلة آخر الأمر في اجتماع لهم عقد في ليون بحماية الجنود الفرنسيين إلى كرسي البابوية رجلاً كان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، لا يكاد يخطئ من يظن أنه لن يطول به الأجل، ولكنه قدر له أن يحكم الكنيسة ثمانية عشر عاماً بحماسة، وفظاظة، ونهم لا يشبع، وإرادة حديدية(قصة الحضارة ج18 ص89-92،النهضة -> تمهيد -> البابوات في أفنيون -> الأسر البابلي)
 
صدق الله
الباباوية كسلطة قمع ونفوذ شامل وسؤال مكبوت : لماذا لجأت أوروبا الى التخلص من ذلك الكهنوت البشع؟
:" واراد بندكت الثاني عشر أن يوجد مسكنا للبابا وأعوانه، ولتلك الوزارات، والهيئات، والموظفين، والخدم، فبدأ بتشييد قصر البابوات... . واجتمع حول هذا القصر، في قصور أخرى أقل منه شأنا، وبيوت كبيرة وصغيرة، وأكواخ حقيرة، عدد كبير من رجال الدين، والمبعوثين، والمحامين، والتجار، والفنانين، والشعراء، والخدم، والجنود والمتسولين، والعاهرات على أختلاف طبقاتهن من المحظيات المثقفات إلى عاهرات الحانات. وسكن هنا لأول مرة أساقفة الطائفة غير المؤمنة الذين عينوا في المراكز التي آلت إلى غير المسيحيين. وفي وسعنا نحن الذين اعتدنا الضخامة في كل شيء أن تتصور مقدار المال الذي لا بد منه لإقامة هذا الصرح الضخم وكل ما يحيط به: لقد كان عدد البابوات لا تكاد ترسل إليهم شيئاً، واقتصرت ألمانيا التي شجر النزاع بينها وبين يوحنا الثاني والعشرين على إرسال نصف الخراج الذي اعتادت أن ترسله، وأما فرنسا التي كادت البابوية تصبح أسيرة لها تحت رحمتها فقد خصت جزءاً كبيراُ من إيراد الكنيسة الفرنسية بالأغراض الدنيوية، واستدانت المبالغ الطائلة من البابوية لتمول بها حرب مائة السنين... وكانت الحكومات الزمنية في أوربا تنظر بعين الخوف والسخط إلى أداة البابوات المالية(7).
وثار الاحتجاج من كل ناحية، ولم يكن أقلها عنفا ما جاء من رجال الكنيسة أنفسهم. من ذلك ما كتبه الحبر الأسباني ألفارو بلايو Alvaro Pelayo هو من انصار البابوية الموالين لها في رسالة رثاء الكنيسة يظهر فيها اسفه ويقول "كلما دخلت حجرات رجال الدين في البلاط البابوي، رأيت السماسرة والقساوسة منهمكين في وزن المال وعده وهو مكدس أكداسا أمامهم... إن الذئاب هي المسيطرة على الكنيسة، وهي تطعم من دماء القطعان المسيحية(8(. وهال الكردينال نابليوني أرسيني Nopoleone Orsini أن يجد جميع أسقفيات إيطاليا موضعا للمبادلة أو دسائس الأسر في أيام كلمنت الخامس. وكتب إدورد الثالث ملك إنجلترا، وكان هو نفسه بارعا في فرض الضرائب- كتب يذكر كلمنت السادس أن "خليفة الرسل إنما جاء ليقود خراف الرب إلى المرعى لا ليجزها(9)، وسن البرلمان الإنجليزي عدة قوانين يحد بها من حق البابوات في فرض الضرائب في إنجلترا. وكان الجباة البابويون في ألمانيا يطاردون، ويقبض عليهم، ويسجنون، وتبتر أطرافهم ويشنقون في بعض الأحيان. وأقسم قساوسة كولوني، وبُن، وأكسانتن Xanten، ومينز في عام 1372 ألا يؤدوا العشور التي طلبها إليهم جريجوري الحادي عشر. وفي فرنسا حل الخراب بكثير من أملاك الكنيسة بسبب ما أصابها من كوارث الحرب، والموت الأسود، ونهب اللصوص وقطاع الطرق، وما كان يفرضه عليها جباة البابا، وهجر كثير من الأساقفة أبرشياتهم. ورد البابوات على هذه الشكاوي بقولهم ان الإدارة الكنسية تتطلب هذه الأموال كلها، وإن العمال الصالحين الذين لا يرتشون يندر وجودهم، وإنهم أنفسهم يخوضون بحارا من المتاعب. وأكبر الظن أن كلمنت السادس حين أقرض فليب السادس ملك فرنسا 592.000 فلورين ذهبي، (14.800.000 دولار) والملك جون الثاني 3.517.000 فلورين أخرى (أي 87.925.000 دولار) إنما فعل ذلك مرغما(10). واحتاج البابوات نفقات طائلة لاسترداد الولايات البابوية التي فقدوها في إيطاليا، ولذلك كانت الخزانة البابوية تعاني عجزا دائما في إيرادها على الرغم من جميع ما فرضته من الضرائب، وأنقذ البابا يوحنا الثاني عشر تلك الخزانة بأن أدى إليها 440.000 فلورين من أمواله الخاصة، وباع إنوسنت السادس صحافة القضية، وجواهره، وتحفه الفنية، وأضطر إربان الخامس أن يقترض 30.000 فلورين من كرادلته، وكان جريجوري الحادي عشر عند موته مدينا بمائة وعشرين ألف فرنك.
ويقول الناقدون إن عجز مالية البابوات لا يرجع إلى النفقات المشروعة بل يرجع إلى ضروب البذخ التي كانت سائدة في بلاط البابوات وصنائعهم. فقد كان كلمنت السادس مثلا محوطاً بأقاربه من الذكور والإناث يرتدون أثمن الثياب والفراء، وبطائفة من الفرسان، والأتباع والجنود المسلحين، والقساوسة، والحجاب، ورجال التشريعات، والموسيقيين، والشعراء، والفنانين، والاطباء، والعلماء، والخياطين، والفلاسفة، والطباخين من كانوا موضع حسد الملوك. وكان هؤلاء جميعاً البالغ عددهم قرابة أربعمائة شخص يطعمون، ويكتسون، ويسكنون، ويتقاضون مرتبات من بابا مولع بالإسراف لم يعرف في يوم من الأيام ماذا يتطلبه جمع. وكان كلمنت يرى نفسه حاكما من واجه أن يقذف الرعب في قلوب رعاياه، وأن يؤثر في نفوس السفراء بضروب "الاستهلاك البادي للعيان" كما يفعل الملوك. وكان لا بد للكرادلة أيضاً، وهم مجلس الدولة الملكي وأمراء الكنيسة في الوقت عينه، أن يكون لهم ما يليق بمكانتهم وسلطانهم من مظاهر، فكانت حاشيتهم، وبطانتهم، ومآدبهم حديث أهل المدينة. ولعل الكردنال برنارد الجرفيزي Bernard of Garves قد جاوز في التنعم والأبهة الحد المعقول حين أستأجر واحدا وخمسين مسكنا تقيم فيها حاشيته، وفعل فعله الكردنال بطرس البنها كي Peter of Banhac الذي كان في خمسة من اسطبلاته العشرة تسعة وثلاثون حصاناً من أحسن طراز منعمة مستريحة. ونهج هذا النهج عينه الأساقفة أنفسهم، وكانت لهم هم أيضاً قصور فخمة مليئة بالمهرجين، والبزاة، والكلاب، على الرغم من احتجاج المجالس المقدسة في الأقاليم.
وتخلقت أفنيون وقتئذ بأخلاق حاشية الملوك وآدابها. فانتشرت فيها ضروب الخسة والسفالة، يشهد بذلك ما كتبه جويوم دوران Guillaume Durand أسقف مندى Mende إلى مجلس فينا يقول: قد يكون إصلاح الكنيسة كلها مستطاعا إذا بدأت كنيسة روما تطهر نفسها مما فيها من قدوة سيئة... تصم رجالها وصمة تتسرب عدواها إلى الناس كلهم... ذلك أن كنيسة الله المقدسة، وخاصة كنيسة روما أقدسها جميعا، قد ساءت سمعتها... في كل مكان، وأخذ الناس جميعا يصيحون ويذيعون في الخارج أن كل من تضمهم إلى صدرها من أعلاهم إلى أقلهم شأنا قد امتلأت قلوبهم طمعا... ومن الأمور الواضحة التي تلوكها الألسنة أن جميع المسيحيين يتخذون رجال الدين أسوأ قدوة لهم في الجشع، لأن هؤلاء الرجال يأكلون من موائد اشد ترفا وأعظم فخامة، وأكثر صحافا من موائد الأمراء والملوك(11).
واستنفد بترارك، وهو من دانت له أساليب البلاغة، كل ما في معاجم اللغة من الفاظ السباب التي وصم بها أفنيون فقال عنها إنها:
بابل العاصية، جحيم الأرض، بالوعة الرذيلة، ومستودع أقذار العالم. لا تجد فيها إيماناً، ولا إحساناً، ولا ديناً، ولا خوفاً من الله...لقد تجمعت فيها جميع أقذار العالم وخباثته... ترى كبار السن من رجالها يندفعون غير مبالين إلى أحضان فينوس، لا يبالون بكبر سنهم أو كرامتهم، أو مالهم من سلطان، بل يرتكبون كل عار، كأن مجدهم كله لا يعتمد على صليب المسيح، بل يقوم على المأكل والمشرب، والسكر، والدعارة ... فالفسق، ومضاجعة المحارم، وهتك الأعراض، والزنا هي أعظم المباهج الشهوانية لمهازل رؤساء الكنيسة وليس في مقدورنا أن نغض الطرف عن هذه الشهادة الصادرة من شاهد عيان لم يحد طوال حياته عن طريق الدين، وإن لم تخل من المبالغة والحقد الشخصي. ومن واجبنا فوق ذلك أن نقص منها بعض الشيء لصدورها من رجل يبغض أفنيون لأنها اختطفت البابوبة من إيطاليا، وكان يطلب الهبات من بابوات أفنيون، وينال منها الكثير، ويطلب المزيد، رجل رضى أن يعيش مع السفاح فيكونتي عدو البابوية، وكان له هو نفسه ولدان غير شرعيين. ولم تكن الأخلاق في روما، التي كان بترارك يلح على البابوات في أن يعودوا إليها، خيراً مما كانت في أفنيون وقتئذ، إلا لأن الفقر كان معواناً على العفة. ولم تصف القديسة كترين السنائية أفنيون بالوضوح الذي وصفها به بترارك، ولكنها أخبرت جريجوري الحادي عشر أنها إذا جاءت إلى البلاط البابوي كانت "خياشيمها تقتحمها روائح الجحيم"(13).
ووجد في هذا الانحلال الأخلاقي بابوات كثيرون خليقون بمنصبهم الرفيع، يفضلون آداب المسيح على آداب زمانهم. وإذا ذكرنا أنه لم يوجد بين بابوات أفنيون السبعة إلا واحد عاش معيشة اللذة الدنيوية، وواحد آخر هو يوحنا الثاني والعشرون، أخذ نفسه بحياة الزهد والتقشف مهما يكن من شراهته وقسوته، وآخر هو جرجوري الحادي عشر كان في السلم مضرب المثل في التقوى وسمو الأخلاق وإن كان في الحرب قاسياً لا يرحم، وأن ثلاثة-بندكت الثاني عشر، وإنوسنت السادس، وإربان الخامس يكادون يكونون في حياتهم قديسين أطهاراً- إذا ذكرنا هذا لم يكن من حقنا أن نلقى تبعة جميع الرذائل التي تجمعت في أفنيون البابوية على كاهل البابوات. لقد كانت الثروة سبب هذه الرذائل، وقد كانت لها هي هذه النتائج بعينها في أماكن أخرى- في روما أيام نيرون، وروما أيام ليو العاشر، وباريس في عهد لويس الرابع عشر، ونيويورك وتشكاجو في هذه الأيام، وكما أننا نجد الكثرة الغالبة من رجال هاتين المدينتين الأخيرتين ونسائهما تعيش عيشة صالحة طيبة، أو ترتكب ما ترتكبه من الآثام في اعتدال، فإن من حقنا أن نفترض أن المحامي المعوج، والقاضي غير النزيه، والكردنال الذي يريد الدنيا، والقس الذي لا يراعى واجبات مهنته، كانوا شواذاً يبرزون في وضوح أكثر مما يبرز أمثالهم في أي مكان آخر، لنه كان يشرف عليهم ويصفح عنهم في بعض الأحيان كرسي الرسول، غير أن هذه الفضائح كان فيها من الحقيقة ما يكفي إذا ضم إلى فرار البابوات من روما للقضاء على منزلة الكنيسة وسلطانها. وكأنما أراد بابوات أفنيون أن يحققوا ظن الناس فيهم، بأنهم لم يعودوا كما كانوا قوة عالمية، بل أضحوا آلات طيعة في يد فرنسا، فاختاروا 113 كردنالا فرنسياً لمجمع الكرادلة المؤلف من 134 كردنالا(14). وكان هذا من أسباب تغاضي الحكومة الإنجليزية عن هجمات ويلكف Wyclif القاسية على البابوية. كذلك رفض الناخبون الألمان بعد ذلك الوقت كل تدخل من جانب البابوات في انتخاب ملوكهم وأباطرتهم، ولما أن رفض رؤساء الأديرة في اسقفية كولوني عام 1372 أن يؤدوا العشور إلى البابا جريجوري الحادي عشر، أعلنوا جهرة أن الكرسي الرسولي قد أنحط إلى الدرك الأسفل من الاحتقار، حتى بدأ أن المذهب الكاثوليكي في تلك الديار مهدد باشد الأخطار. أما غير رجال الدين فهم في حديثهم عن الكنيسة يظهرون لها ضروب الاحتقار، لأنها تخلت عما تعودته في الأيام الماضية، فلا تكاد تختار رسلها من الواعظين أو المصلحين، بل تختارهم من الرجال المتباهين، الماكرين، الأنانيين، الشرهين. ويقد بلغت الحال من السوء درجة ينذر معها أن تجد مسيحيين إلا بالاسم"(15).
لقد كان الأسر البابلي للبابوات في أفنيون، وما تلاه من انقسام في البابوية، هو الذي مهد السبيل إلى الإصلاح الديني، وكانت عودة البابوات إلى إيطاليا هي التي أرجعت لهم مكانتهم وأجلت الكارثة التي حلت بهم قرنا من الزمان.
"(قصة الحضارة ج18 ص95-102، النهضة -> تمهيد -> البابوات في أفنيون -> الأسر البابلي)
 
نموذج نقدمه للعلمانيين الذين تكلموا عن يوم السفيفة وكذبوا زورا ان المهاجرين خطفوا السلطة من الانصار
النموذج المعروض هو تقريبا بعد ثمانية قرون من بعثة النبي وربما كان ذلك في زمن ابن تيمية مع العلم اني لو عرضت تاريخ اوروبا قبل وبعد البعثة الى القرن الالتاسع عشر لراينا العجب العجاب وكلها مثل مقطعنا هذا
قال ديورانت:"وكان كلمنت السادس البابا الظريف قد عين جريجوري الحادي عشر أبن أخيه كردنالا وهو في الثامنة عشر من عمره، ورسم قسا في التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1370، ثم اختير بابا في الثلاثين من ديسمبر وهو في سن التاسعة والثلاثين. وكان غزير العلم، مولعا بشيشرون، وقد جعلته الأقدار رجل حرب وكفاح، قضى مدة بابويته في إخماد الثورات العنيفة. ذلك أن غربان الخامس كان يخشى ألا يثق البابا الفرنسي بالإيطاليين، فاختار عدداً كبيراً من الفرنسيين مندوبين عنه لحكم الولايات البابوية. ووجد هؤلاء الحكام أنفسهم في بيئة معادية لهم فشادوا الحصون لمقاومة الشعب، وجاءوا بأعوان لهم كثيرين من الفرنسيين، وفرضوا ضرائب باهظة، وآثروا الغطرسة على الكياسة والدهاء. وحدث أن أخذ ابن أخ للمندوب البابوي في بروجيا يطارد امرأة متزوجة مطاردة بلغ من عنفها أن سقطت المرأة من نافذة وقضت نحبها وهي تحاول الفرار منه. ولما جاء وفد إلى المندوب البابوي يطلب إليه عقاب أبن أخيه رد عليه بقوله "علام هذه الجلبة كلها؟ هل تظنون أن الفرنسي خصى؟"(20) وأثار مندوبو البابا بوسائل كثيرة متنوعة كراهية الشعب إلى حد دفع كثيراً من الولايات إلى الانتفاض عليهم في عام 1375 واحدة بعد واحدة. ورفعت القديسة كترين صوتها نائبة عن إيطاليا فألحت على جريجوري أن يعزل أولئك "الرعاة الأشرار الذين يسممون حديقة الكنيسة ويعيثون فيها فسادا"(21): وتزعمت فلورنس هذه الحركة وهي التي كانت في العادة حليفة البابوية، ونشرت راية حمراء كتبت عليها بأحرف ذهبية كلمة الحرية، فلم يحل عام 1376 حتى لم يبق مواليا للبابا من مدن إيطاليا إلا واحدة بعد أن كان عدد المدن التي تعترف للبابا بزعامته المدنية والروحية أربعا وستين مدينة في عام 1375، وخيل إلى العالم أن جميع ما عمله ألبرنوز قد ذهب أدراج الرياح، وأن البابوية قد خسرت مرة أخرى جميع إيطاليا الوسطى:
واتهم جريجوري، بإيعاز الكرادلة الفرنسيين، أهل فلورنس بأنهم يتزعمون الثورة عليه، وأمرهم بالخضوع إلى المندوب البابوي، فلما عصوا امره حرمهم من الدين، ومنع إقامة الخدمات الدينية في مدينتهم، واصدر مرسوماً يعلن فيه أن جميع الفلورنسيين خارجون عن القانون، وأحل لأي إنسان في أي مكان أن يستولي على أملاكهم ويتخذهم أرقاء. وحاق الخطر الانهيار بصرح التجارة والمال الفلورنسي كله، واعتقلت إنجلترا وفرنسا من فورهما من فيهما من الفلورنسيين واستولتا على أملاكهم وكان رد فلورنس على هذا أن صادرت جميع أملاك الكنيسة الموجودة في أراضيها، وهدمت مباني محكمة للتفتيش، وأغلقت أبواب المحاكم البابوية، وزجت في السجن، وشنقت في بعض الأحيان، القساوسة المعاندين، وبعثت بنداء إلى أهل روما تدعوهم فيه أن ينضموا إلى الثورة، ويقضوا على جميع ما للكنيسة في إيطاليا من سلطة زمنية. وبينما كانت روما لا تزال تتردد في الأمر، إذ قطع جريجوري لزعمائها وعدا صريحا بان يعيد البابوية إلى روما إذا ظلت موالية له. وقبل أهل روما هذا الوعد واعتصموا بالسلم.
وكان البابا في خلال ذلك قد سير إلى إيطاليا قوة من الجنود البريطانيين المرتزقين الجفاة بقيادة "الكردنال المندوب البابوي ربرت من أهل جنيفا"(22). وخاض ربرت غمار الحرب بوحشية لا يكاد يصدقها عاقل، من ذلك أنه لما استولى على كازينا Casena بعد أن قطع على نفسه عهدا بالعفو عن أهلها قتل بالسيف كل من كان فيها من رجال ونساء وأطفال(23). وكان جون هوكودك يقود جنود المرتزقة في خدمة الكنيسة، فذبح هو الآخر في فائندسا Faenza أربعة آلاف من أهلها لارتيابه في أن البلدة تريد الانضمام إلى الثورة. وارتاعت القديسة كترين السينائية من هذه الأعمال الوحشية، ومن مصادرة الأملاك من الجانبين، ومن انقطاع الخدمات الدينية في جزء كبير من إيطاليا، فكتبت إلى جريجوري تقول:
نعم أن عليك أن تسترد الاملاك التي خسرتها الكنيسة، ولكن عليك أكثر من هذا أن تسترد جميع الخراف التي هي كنز الكنيسة الحقيقي والتي تحل بها الفاقة بحق إذا خسرتها... عليك أن تضرب الناس بسلاح الصلاح، والحب، والسلم، فإذا فعلت كسبت به أكثر مما تكسب بسلاح الحرب. وأنا حين أسال الله عن خير الطرق لنجاتك، وإعادة الكنيسة إلى حالها الأولى، وعودة العالم أجمع، لا أجد جواباً غير كلمة السلم! السلم! فبحق المنقذ المصلوب عد إلى السلم
قصة الحضارة ج18 ص106-108)
 
محاكم التفتيش في القرن الرابع عشر
"الفصل ظاهرتين مختلفتين من ظواهر الحياة المسيحية في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر هما محكمة التفتيش والقديسون. والإنصاف يقتضينا أن نذكر أن الكثرة الغالية من المسيحيين كانت تعتقد وقتئذ أن الكنيسة التي أقامها أبن الله، وأنه هو الذي وضع عقائدها الأساسية، ومن ثم فأن أية حركة تقوم للقضاء عليها- أياً كانت الأخطاء التي يرتكبها الآدميون الذين يصرفون شئونها-إنما هي خروج على السلطة القدسية وخيانة للدولة الزمنية التي كانت الكنيسة درعها الأخلاقي الواقي. وإذا لم تثبت هذه الفكرة الأساسية في عقولنا لم نستطع فهم تلك الوحشية التي دفعت رجال الدين وغير رجال الدين إلى الاشتراك معا في القضاء على دعوة الإلحاد التي أثار عجاجها (حوالي عام 1303) دلتشينو النوفاري Dolcino of Novara وأخته الحسناء مرجريتا Margherita.
وقد قسم دلتشينو التاريخ، كما قسمه يواقيم الفلوري Joachim of Flora إلى فترات شهدت الفترة الثالثة منه الممتدة من عهد البابا سلفستر الأول (314-335) إلى 1280 فساد الكنيسة بسبب ما كان لها من ثراء دنيوي. ويقول دلتشينو إن البابوات جميعا من أيام سلفستر كانوا غير مخلصين إذا استثنينا منهم سلستين الخامس Celestine... وأضحت البابوية في عهد بنيفاس الثامن هي العاهر التي وصفها سفر الرؤيا. وتزعم دلتشينو طائفة جديدة من الأخوان تدعى "إخوان بارما الرسوليين" رفضت سلطات البابوات، وورثت خليطاً من العقائد عن الباتارينيين Patarines، والولدنسيين Weldenses، والفرنسيس الروحيين. وكانوا يدعون أنهم يلتزمون بالعفة المطلقة، ولكن كل واحد منهم كان يعيش مع امرأة يسميها أخته. وأمر كلمنت الخامس محكمة التفتيش أن تحاكمهم، ولكنهم رفضوا المثول أمامها، وسلحوا أنفسهم، واتخذوا موقفهم في أسفل جبال الألب البيدمنتية. وسيرت محكمة التفتيش عليهم جيشا، ونشبت بين الجانبين معارك حامية الوطيس، وانسحب الإخوان إلى ممرات في الجبال حوصروا فيها حتى نفذ طعامهم، فأخذوا يأكلون الفئران والكلاب، والأرانب البرية، والكلأ، ثم هوجم معقلهم الجبلي أخيراً، وخر ألف منهم قتلى وهم يحاربون، وحرق منهم عدة آلاف (1204). ولما سيقت مرجريتا إلى مكان الحرق، كانت لا تزال رائعة الجمال على الرغم من ذبول جسدها، وبلغ من جمالها أن عرض عليها رجال من ذوي المكانة أن يتزوجوها إذا تخلت عن إلحادها، ولكنها رفضت تلك العروض وأكلتها النار على مهل. واستبقى دلتشينو وزميل له يدعى لنجينو ليحاكما محاكمة خاصة، وأركبا عربة طافت بهما فرتشلي Vercelli، وقطع لحمهم جزءاً فجزءاً بالكلاليب أثناء هذا الموكب، وانتزعت أطرافهما وأعضاء تناسلهما من جسميهما ثم تركا آخر الأمر ليموتا(26).
ويلذ لنا أن نتحول عن هذه الوحشية إلى ما عكفت عليه المسيحية من بث روح التقوى والصلاح في نفوس الرجال والنساء. ذلك أن القرن الذي شهد ما حل بأفنيون من ضروب المحن والفساد أخرج أيضاً مبشرين أمثال جيوفني دا مونتي كرفينو Giovanni da Monte Corvino وأودريك البردينوني Oderic of Pordenone اللذين حاولا أن يهديا الهنود والصينيين إلى الدين المسيحي، ولكن الصينيين كما يقول إخباري فرنسيسي أصروا على اعتقادهم "الخاطئ بأن في وسع أي إنسان أن ينجو وهو في مذهبه(27). وكان ما أفاده العالم من هذين المبشرين في علم الجغرافية أكثر مما أفاده منهما في شئون الدين"(قصة الحضارة ج18 ص111-113، النهضة -> تمهيد -> البابوات في أفنيون -> الحياة المسيحية).
 
تحت عنوان(النهضة الفلورنسية ) كتب ديورانت:" وفي هذه النهضة بالذات كانت أموال التجار، ورجال المصارف، والكنيسة، تؤدي منها أثمان المخطوطات التي أحيت العهد القديم. على أن هذه المخطوطات لم تكن هي التي حررت عقل النهضة وحواسها، بل كان الذي حررها هو النزعة الزمنية غير الدينية التي انبعثت من نشأة الطبقات الوسطى، وقيام الجامعات، وانتشار العلم والفلسفة، وما أثمرته دراسة القانون من تقوية الأذهان وتوجيهها وجهة واقعية، وما أدى إليه ازدياد العلم بالعالم من اتساع أفق العقل ومجاله. وارتاب الإيطالي المتعلم في قواعد الكنيسة التعسفية، ولم يرهبه الخوف من نار الجحيم، ورأى رجال الدين منهمكين في ملاذ الدنيا انهماك غيرهم من الناس، فحطم بذلك الإيطالي المتعلم الأغلال العقلية والخلقية، وتحررت حواسه من تلك القيود، فابتهجت في غير حياء بكل ما يمثل الجمال في المرأة، والرجل، والفن، وجعلته هذه الحرية الجديدة مبدعا خلاقا خلال قرن من الزمان عجيب (1343-1534)، قبل أن يقضي عليه مما انتشر فيه من فوضى أخلاقية، ونزعة فردية انحلالية، واسترقاق قومي، وكانت الفترة الواقعة بين العهدين هي النهضة"(قصة الحضارة ج18 ص120-121).النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> مسرح الحوادث)
هذه الجملة تحتاج تعليق
ذلك ان ديورانت يحكي فعلا الواقع في عصر النهضة الاوروبي
وماهكذا كان النموذج الاسلامي في بلاد الاسلام وفي مدة حضارتنا طويلة الامد
بل كانت السلطة الزمنية هي من انشاء علوم ديننا ومقاصده وآدابه وكلياته
 
مفهوم الحرية -عند الشعوب-في فلورنسيا في القرن الخامس عشر
"لقد كان الفلورنسيون يحبون الحرية، ولكن كان معنى الحرية عند الفقراء حرية السادة الفلورنسيين في أن يحكموهم، وكان معناها عند الأغنياء حريتهم في أن يحكموا المدينة والبلدان التابعة لها دون ان تقف في سبيلهم عوائق من قبل الإمبراطورية، أو البابوية، أو الإقطاع. وكان من عيوب هذا الدستور التي لا يستطيع أحد أن ينكرها او يجادل بها فيها قصر المدة التي يحتفظ فيها الحكام بمناصبهم، وما يحدث في هذا الدستور نفسه على الدوام من تغيرات. وقد ترتب على هذين العيبين قيام الأحزاب، وتدبير المؤامرات، وأعمال العنف، والاضطرابات، ونقص الكفاية، وعجز الجمهورية عن أن تضع وتنفذ السياسة الثابتة الطويلة الأجل الشبيهة بتلك السياسة التي أدت إلى استقرار الأمور في البندقية وإلى زيادة قوتها. أما النتيجة الطيبة فكانت خلق جو مكهرب من النزاع والنقاد، زاد من حيوية الأهلين، وقوي إحساسهم، وعقلهم، وذكائهم، وأثار خيالهم، وجعل فلورنس مدى قرن من الزمان الزعيمة الثقافية للعالم الغربي.
قصة الحضارة ج18 ص129
 
ايطاليا-فلورانس القرن الخامس عشر وصلتها بالمسلمين
"كانت السياسة في فلورنس هي الصراع بين الأسر الغنية بعضها وبعض... وتوفي جيوفني دي ميدتشي في عام 1428 وترك لابنه كوزيمو اسماً رفيعاً وأكبر ثروة في بلاد تسكانيا-179.221 فلورينا(4.480.525؟ دولار)(31). وكان كوزيمو قد بلغ وقتئذ التاسعة والثلاثين من عمره، وأصبح خليقاً بأن يواصل مغامرات المؤسسة الواسعة النطاق. ولم تكن هذه الأعمال مقصورة على الشؤون المصرفية، بل كانت تشمل إدارة ضياع واسعة، ونسج الحرير والصوف، والقيام بتجارة متنوعة تربط الروسيا بأسبانيا واسكتلندة ببلاد الشام، والإسلام بالمسيحية. ولم يكن كوزيمو وهو يشيد الكنائس في فلورنس يرى شيئاً من الإثم في عقد الاتفاقات التجارية، وتبادل الهدايا الغالية، مع سلاطين الأتراك. وكانت الشركة تحرص بنوع خاص على أن تستورد من بلاد الشرق السلع الصغيرة الحجم الكبيرة القيمة كالتوابل، واللوز، والسكر، وتبيعها هي وغيرها من الغلات في عشرات من الثغور الأوربية"(قصة الحضارة ج18 ص 131-132، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> كوزيمو أبو البلاد)
 
ايطاليا- فلورنسيا وترجمات الكتب العربية أو غيرها في عهد كوزيمو وغيره
:" قسم كوزيمو مجموعة الكتب بين مكتبة دير القديس ماركو ومكتبته. وكانت هذه المجموعات كلها في متناول المدرسين والطلاب من غير أجر. وذلك يقول فاركي Varchi المؤرخ الفلورنسي مع المغالاة التي تدفعه إليها وطنيته:
إذا كانت الآداب اليونانية لم يجر عليها النسيان التام ذيله فتصاب الإنسانية من جراء هذا النسيان بخسارة فادحة، وإذا كانت الآداب اللاتينية قد بعثت بعثاً جديداً فجنى الناس من وراء ذلك فوائد لا حد لها ولا تقدر قيمتها، فإن إيطاليا كلها، بل والعالم بأجمعه، مدينان بذلك إلى حكمة آل مدييتشي، وعطفهم، وحبهم، لا لأحد سواهم(21).
وما من شك في أن عملية البعث العظيمة كانت بدايتها أعمال المترجمين العظماء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأعمال الشراح العرب، وكتابات بترارك وبوكاتشيو، ثم واصل هذا العمل العلماء وجامعوا المخطوطات أمثال سالوتاري Salutari، وترا فرساري Traversari، وبروني Bruni، وفلا Valla، وكان هذا كله قبل كوزيمو. كذلك واصل هذه الأعمال نقولي، وبجيو، وفيليلفو Filelfo، والفنسو الأفخم ملك نابلي، ومائة غيرهم من معاصري كوزيمو، بل واصلها أيضاً منافسه بلا استرتسي في منفاه وواصلوها كلهم مستقلين عن كوزيمو. ولكننا إذا لم نقصر حكمنا على كوزيمو أبى البلاد بل مددناه حتى شمل أبناءه لورندسو الأفخم، وليو العاشر، وكلمنت السابع لم يسعنا إلا أن نعترف بأن آل ميديتشي لم تضارعهم في مناصرة العلم والفن أية أسرة في تاريخ البشرية المعروف بأجمعه"(قصة الحضارة ج18 ص 137-138، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> كوزيمو أبو البلاد).
 
بداية الإنسانيون وغيرهم في ايطاليا وفلورانسافي القرن الخامس عشر
يأخذون العلم والطب والملاحظة والتجرية والمخترعات والنظافة من الإسلام ثم يرتدون على أعقابهم رفضا للمسيحية الى اليونان والرومان
:"الإنسانيون .. لقد كان حكم آل مديتشي أو كان زمانهم هو العهد الذي أستحوذ فيه الإنسانيون على عقل إيطاليا واستأثروا به، وحولوه من الدين إلى الفلسفة، ومن السماء إلى الأرض، وكشفوا فيه للجيل المندهش المنذهل عن ثراء الفكر الوثني والفن الوثني، ولقد أطلق على هؤلاء الناس الذين جنوا بالعلم جنوناً منذ ايام أريستو Ariosto(22) البعيدة اسم الإنسانيين umanisti. لأنهم كانوا يسمون دراسة الثقافة القديمة الإنسانيات umanita أو الآداب الأكثر إنسانية Litera humaniores (لا الأكثر رحمة). وأضحت الدراسة الصحيحة الخليقة بالبشر في أيامهم هي الإنسان نفسه بكل ما يكمن في جسمه من قوة وجمال، وما في حواسه ومشاعره من بهجة وألم، وما في عقله من جلال واهن، دراسته من هذه النواحي كلها كما تظهر موفورة كاملة ابعد حد في آداب اليونان والرومان وفنونهم القديمة. وهذه هي الإنسانيات.
لقد كانت الكتب اللاتينية كلها تقريباً، وكثير من الكتب اليونانية الموجودة عندنا في هذه الأيام، معروفة عند علماء العصور الوسطى المنتشرين في بقاع مختلفة من أوربا، وكان أهل القرن الثالث عشر يعرفون أكابر الفلاسفة الوثنيين. ولكن ذلك القرن قد غفل أو كاد عن الشعر اليوناني، وكانت طائفة كبيرة من الكتب القديمة القيمة التي نجلها الآن مهملة في مكتبات الأديرة أو الكنائس الكبرى... فقد شرع الناس يدرسون هذه النصوص المكتشفة، ويفاضلون بها، ويصححونها، ويشرحونها، وقامت من أجل ذلك حملة امتدت من لورندسو فلا Lorenzo Valla في نابلي إلى سيرتومس مSir Thomas More في لندن، وإذ كانت هذه الجهود تتطلب في كثير من الأحيان علماً باللغة اليونانية، فقد أرسلت إيطاليا-ونهجت نهجاً فيما بعد فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا-تستدعي مدرسين للغة اليونانية، وتعلم أورسب، وفيليلفو تلك اللغة في بلاد اليونان نفسها، ولما جاء مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras إلى إيطاليا (1397) مبعوثاً إليها من بيزنطية، وأقنعته جامعة فلورنس بالانضمام إلى اساتذتها ليكون أستاذاً للغة اليونانية وآدابها... غير أن استيلاء الأتراك على الأراضي المحيطة بالقسطنطينية شيئاً فشيئاً بعد عام 1356 كان من العوامل التي حملت العلماء اليونان على الانتقال نحو الغرب. وكان من الذين فروا من العاصمة الشرقية عند سقوطها قسطنطين لسكارس Constantine Lascaris، وقد جاء ليعلم اللغة اليونانية في ميلان (1460-1465)، ونابلي، ومسينا (1466-1501)، وكان كتابه في النحو أول كتاب يوناني طبع في إيطاليا في عهد النهضة.
ولم يمض إلا وقت قليل على وجود هؤلاء العلماء جميعاً، وتلاميذهم، ونشاطهم الحماسي في إيطاليا، حتى ترجمت كتب الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية إلى اللغة اللاتينية ترجمة أكمل، وأدق، وأبلغ مما ترجم منها في القرنيين الثاني عشر والثالث عشر... لكن هذه الثورة قد اعقبتها شئ من رد الفعل. ذلك أنه كلما زاد ما كشفته إيطاليا من تراثها الأدبي القديم غلب على إعجاب الإنسانيين ببلاد اليونان فخرهم بأدب روما القديمة وفنها، ولهذا أحبوا اللغة اللاتينية واتخذوها أداة لأدب حي، فجعلوا أسماءهم لاتينية، وجعلوا مصطلحات عباداتهم وحياتهم المسيحيتين رومانية: فصار أسم الله يوبتر Luppiter، وأسم العناية الإلهية فاتوم Fatum والقديسين ديفي Divi، والراهبات vestales والبابا بنتفكس مكسيموس (الحير الأعظم Pontifex maximus)، وصاغوا أسلوب نثرهم على غرار أسلوب نثرهم على غرار أسلوب شيشرون، وشعرهم على غرار شعر فرجيل وهوراس، وبلغ بعضهم مثل فيليفو، وبوليتيان بأسلوبهم درجة من الرشاقة تكاد تعادل رشاقة الأقدمين. وهكذا أخذت النهضة تعود ادراجها من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومن أثينة إلى روما، وبدا كأن خمسة عشر قرناً من الزمان قد أخذت تطوى طيا، وكأن عصر شيشرون، وهوراس، وأوفد، وسنكا، قد ولد من جديد. وأصبح الأسلوب وقتئذ أعظم شأنا من المعنى، وغلبت الصورة على المادة، وترددت أصداء خطب العصر الماضي المجيد مرة أخرى في أبهاء الإيطالية بدل اللاتينية، ولكنهم كانوا يحتقرون لغة المسالي والمغاني ويرونها لاتينية فاسدة منحطة (وفي الحق أنها تكاد تكون كذلك)، ويأسفون لأن دانتي آثر اللغة الدارجة. وقد جوزي الإنسانيون على فعلتهم هذه بأنهم فقدوا اتصالهم بمصادر الأدب الحية... وانتشرت الحركة الإنسانية في جميع أنحاء إيطاليا... وولد كارلو مارسبيني Corlo Marsuppini في ارتسو كما ولد فيها بروني وخلفه في أمانة مجلس السيادة، وقد روع أهل زمانه بأن كان يحفظ نصف الآداب اليونانية والرومانية عن ظهر قلب... ولما عين سفيراً لدى روما، ونابلي، والبندقية، وجنوي افتتن به كل من رآه، وكسب في هذه المدن كلها صداقة أهلها لحكومته بفضل ثقافته، وسخائه، واستقامته.
وكان هؤلاء الرجال على بكرة أبيهم ما عدا سالوناري من أعضاء الندوة التي تجتمع في بيت كوزيمو بالمدينة أو بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه. وكان لكوزيمو بالمدينة أو في بيته الريفي، وكانوا يتزعمون الحركة العلمية أثناء سلطانه.... وكان أعظم الكتاب الإنسانيين نشاطاً وأكثرهم سبباً للمتاعب هو بجيو براتشيوليني Poggio Bracciolini. وقد ولد لأبوين فقيرين بالقرب من أرتسو (1380)، وتلقى تعليمه في فلورنس، ودرس اللغة اليونانية على ما نيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras، وكان يكسب عيشه بنسخ المخطوطات، وصادقه سالوتاري وعطف عليه، وعين في الرابعة والعشرين من عمره كاتباً في المحكمة البابوية في رومة، وقضى السنين الخمسين التالية يعمل في البلاط البابوي، ولم ينل في خلال هذه المدة كلها شيئاً من الرتب الدينية حتى أصغرها، ولكنه كان يرتدي الثياب الكهنوتية. وقدر له القائمون على البلاط نشاطه فأرسلوه في أكثر من عشر بعثات، وكثيراً ما كان يحيد من عمله فيها ليبحث عن المخطوطات القديمة، وقد يسر له منصبه في الأمانة البابوية الوصول إلى الكنوز المخبوءة في المكتبات التي كان يحرص عليها أشد الحرص أو كانت تهمل أشد الإهمال في أديرة القديس جول St. Gall ولانجر Langers، وفينجارتن Weingarten وريتشنو Rsichenau وقد بلغت غنائمه من هذه المكتبة حداً من الثراء جعل بروني وغيره من الكتاب الإنسانيين يحبونه أعظم تحية ويرون أن أعماله كانت من المعالم البارزة في تاريخ ذلك العصر. ولما عاد بجيو إلى روما كتب لمارتن الخامس Martin V دفاعاً مجيداً عن عقائد الكنيسة، ومع أنه كان في المجتمعات الخاصة يسخر مع غيره من موظفي البلاط البابوي من العقائد المسيحية(29). وقد كتب عدة محاورات ورسائل بلغة لاتينية غير مصقولة ولكنها منعشة مطربة، يندد فيها برذائل رجال الدين، بينما كان هو يرتكب تلك الرذائل إلى أقصى حد تمكنه منه موارده. ولما أن غاب عليه الكردنال سانتا أنجيلو وجوده أبناء له، وهو ما لا يليق برجل يرتدي الثياب الكهنوتية، وأن له عشيقة، وهو أمر لا يليق حتى برجل من غير رجال الدين، رد بجيو على ذلك بقحته المعهودة: »إن لي ابناء وذلك أمر يليق بغير رجال الدين، وإن لي عشيقة وتلك إحدى عادات رجال الدين القديمة(30). ولما بلغ الخامسة والخمسين من عمره هجر عشيقته التي ولدت له أربعة عشر طفلاً، وتزوج بفتاة في سن الرابعة عشرة. وكاد في هذه الأثناء أن يكون هو مؤسس علم الآثار الحديث، لأنه جد في جمع القديم من النقود، والنقوش، والتماثيل، وعنى بوصف ما كان باقياً من الآثار الرومانية القديمة بدقة العلماء المبرزين. وقد صحب البابا أوجنيوس الرابع Eugenius V إلى مجلس فلورنس وتنازع مع فرانتشسكو فيللفو، وتبادل مع السباب بأقبح الألفاظ، ولم يتورع عن أن يتهمه بالسرقة، والكفر بالله، واللواط.... ولا جدال في أن المسيحية قد فقدت قبل ذلك الوقت من الناحيتين الفقهية والأخلاقية سلطانها على طائفة كبيرة من الإنسانيين الإيطاليين ربما كانت هي الكثرة الغالبة منهم. نعم إن طائفة منهم أمثال ترافرساري، وبروني، ومانتي في فلورنس، وفتورينو دا فلتري Vittorino da Felter في مانتو، وجوارينو دا فرونا Guarino da Verona في فرارا، وفلافيو بيوندو Flavio Biondo في روما قد بقوا أوفياء مخلصين لدينهم، إلا أن الثقافة اليونانية التي تكشف للكثيرين غيرهم والتي دامت ألف عام كاملة، وبلغت الذروة العليا في الأدب، والفلسفة، والفن مستقلة تمام الاستقلال عن اليهودية والمسيحية، نقول إلا أن هذه الثقافة كانت ضربة قاضية على إيمانهم بالعقيدة الدينية التي علمها القديس بولس، بالعقيدة القائلة أن »لا نجاة خارج الكنيسة«. واصبح سقراط وأفلاطون في نظر هؤلاء قديسين من غير رجال الدين، وبدت لهم أسرة الفلاسفة اليونان أعلى درجة كذلك خيل إلى هؤلاء أن روما الإمبراطورية أعظم نبلاً وكرامة من انزواء المسيحيين المؤمنين في صوامع الأديرة، كما أن الحرية التي اتسم بها تفكير اليونان في أيام بركليز والرومان في عهد أغسطس قد أفعمت عقول كثيرين من اٌلإنسانيين بالحسد الذي حطمفي قلوبهم العقائد المسيحية التي تحث على التذلل، والإيمان بالدار الآخرة، والعفة، وأخذوا يتساءلون عما يدعوهم إلى إخضاع أجسامهم، وعقولهم، وأرواحهم إلى قواعد رجال الكنيسة الذين انقلبوا وقتئذ رجالا دنيويين، وأخذوا هم أنفسهم يمرحون ويطربون. وكانت العشرة القرون التي انقضت بين قسطنطين ودانتي في نظر هؤلاء الإنسانيين، غلطة يؤسف لها أشد الأسف، وخروجا، كالخروج الذي يصفه دانتي على نفسه، عن الصراط المستقيم... وظل تأثير الكتاب الإنسانيين القوة المسيطرة على الحياة العقلية في أوربا الغربية نحو مائة عام. فقد كانوا هم الذين قووا إدراك الكتاب لجمال الشكل والتركيب، وعلموهم أساليب البلاغة، وزخرف القول، وما للأساطير القديمة من سحر وفتنة، وما للاقتباس من الكتاب الأقدمين من قوة، وعلموهم التضحية بالمعنى في سبيل سلامة العبارة وجمال الأسلوب. وكان افتتانهم باللغة اللاتينية هو الذي عاق تطور الشعر والنثر الإيطاليين مدى قرن كامل (1400-1500)، وهم الذين حرروا العلم من سلطان الدين، ولكنهم أخروا تقدمه بعبادتهم الماضي، وباهتمامهم الشديد بالكم في العلم بدل الملاحظة الموضوعية والتفكير الإبتكاري. ومن أغرب الأشياء أن أقل ما لهؤلاء الكتاب من نفوذ هو الذي كان في الجامعات"(قصة الحضارة ج18 ص139-152، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> الإنسانيون)
 
معلومة لااجد لها مكان لكن قد تفيد
ايطاليا-فلورنسيا -ليون باتستا ألبرتي Leon Battista Alberti
"فقد ولد في مدينة البندقية لأب منفي من فلورنس، ثم عاد إلى فلورنس، حين أعيد إليها كوزيمو، وشغف حباً بفنها، مومسيقاها، وندواتها الأدبية والفلسفية... وكان البرتي، كما كان ليوناردو بعد نصف قرن من أيامه، أستاذاً أو في القليل ممارساً ماهراً، في أكثر من عشرة ميادين-في الرياضة والميكانيكا، والعمارة، والتصوير، والموسيقى، والشعر، والتمثيل، والفلسفة، والشرائع المدنية والكنسية"(قصة الحضارة ج18 ص194-195، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> نشأة آل ميديتشي -> متنوعات أشتات)
 
ايطاليا بعد منتصف القرن الخامس عشر وصراع مسيحي-مسيحي على مدن ودول.و
كبير اساقفة بيزا يقتل يقوم بعمليات قتل في الكنيسة ثم معارك وشنق
:" وزاد آل مديتيشي ثراء على ثرائهم حين رأس لورندسو (1471) وفداً من أهل فلورنس قدم إلى روما ليهنئ سكتس Sixtus الرابع بارتقائه عرش البابوية، ورد سكتس على هذه التهنئة بأن جدد تعيين ممثل بيت ميديتشي مديراً للأموال البابوية، وكان بيرو قد حصل قبل خمس سنين من ذلك الوقت على حق استغلال المناجم البابوية القريبة من سفيتا فيتيشيا وكانت تخرج حجر الشب الثمين المستعمل في صباغة الأقمشة وصقلها، وكان استغلال هذه المناجم يدر عليه أموالاً طائلة.
وواجه لورندسو بعد قليل من عودته من روما أولى أزماته الكبرى التي لم يفلح كل الفلاح في معالجتها. وتفصيل ذلك أن منجماً من مناجم الشب في ناحية فلتيرا Volterr- وهي جزء من أملاك فلورنس- قد أجر إلى بعض المتعهدين أكبر الظن أنهم كانوا ذوي صلة بآل ميديتشي. فلما تبين لأهل فلتيرا أن المنجم يدر ربحاً موفوراً طالبوا بأن يكون للبلدية قسط من هذا الربح. فأحتج المتعهدون على هذا الطلب، ورفعوا امرهم إلى مجلس فلورنس الأعلى. وزاد المجلس المشكلة تعقيداً حين أمر بأن يذهب الربح بأجمعه إلى بيت مال دولة فلورنس كلها. واعترضت فلتيرا على هذا الأمر، وأعلنت استقلالها، وقتلت عدداً من الأهلين الذين عارضوا في انفصالها عن فلورنس.وأشار توماسو سودير يني Tommaso Soderini بتسوية الخلاف بالتوفيق بين الطرفين، ولكن لورندسو رفض ما عرض عليه من وسائل التوفيق، وكانت حجته أن ذلك يشجع الفتن وحركات الانفصال في أنحاء أخرى من الدولة، وأخذ بهذا الرأي، وأخمدت الفتنة بالقوة القاهرة، وأفلت زمام جنود فلورنس المرتزقين، ونهبوا المدينة الثائرة فلم يسمع لورندسو إلا أن يعجل بالذهاب إلا فلتيرا، ويبذل جهده لإعادة النظام وإصلاح ما فسد من الأمور، ولكن ذلك العمل بقي وصمة في سجل حكمه. ولم يتردد الفلورنسيون في أن يغفروا له قسوته على فلتيرا، وامتدحوا نشاطه حين أنقذ المدينة من المجاعة في عام 1472 باستيراد مقادير موفورة من الحبوب. وسرهم فوق ذلك حين عقد حلفاً ثلاثياً مع البندقية وميلان لكي يحتفظ بالسلم في شمالي إيطاليا غير أن البابا سكتس لم يرض كل الرضى عن هذا العمل، ذلك أن البابوية لا يمكن أن تعيش مطمئنة على سلطتها الزمنية الضعيفة إذا كانت على أحد جانبي الولايات البابوية دولة قوية موحدة في شمالي إيطاليا، ومملكة نابلي القوية تحف بها من الجانب الآخر. ولما عرف سكتس أن فلورنس تحاول ابتياع مدينة إيمولا واقليمها (وهي الواقعة بين بولونيا ورافنا) ارتاب في أن لورندسو يعمل لبسط أملاك فلورنس حتى تصل إلى البحر الأدرياوي. فما كان من سكتس نفسه إلا أن عجل بشراء إيمولا Imola ليجعل منها الحلقة التي لا غنى عنها في سلسلة المدن الخاضعة لسلطان البابوات من الناحية القانونية، وإن كانت قلما خضعت لهم فعلاً. وقد استعان في هذا العمل بخدمات شركة باتسي Pazzi المصرفية وبأموالها، وكانت هذه الشركة وقتئذ أقوى منافس لآل ميديتشي. ثم نقل من فلورنس إلى باتسي الامتيازات التي تدر الربح الموفور والخاصة بتصريف شئون المالية البابوية، ولم يكتف بذلك بل عين رجلين من أعداء الميديتشين-جيرولامو رياريو Girolamo Riario حاكماً لإيمولا وفرانتشسكو سلفياني Francesco dalviati كبيراً لأساقفة بيزا، وكانت وقتئذ من أملاك فلورنس. ورد لورندسو على ذلك في ساعة غضبه بعمل عاجل طائش لم يكن كوزيمو ليرضي به: ذلك أنه أتخذ الوسائل المؤدية إلى انهيار شركة باتسي، وأمر بيزا أن تمنع سلفياني من الجلوس على كرسي الأسقفية. واستشاط البابا غضباً من هذا العمل، ووافق على مؤامرة دبرها آل باتسي، ورياريو، وسلفياني يبغون بها إسقاط لورندسو، وقد أبى أن يوافق على اغتيال عدوه الشاب، ولكن المتآمرين لم يجدوا في هذا التأنق عقبة تحول بينهم وبين غرضهم، فدبروا أمر قتل لورندسو وجوليانوا أثناء القداس الذي سيقام في الكنيسة الكبرى في يوم عيد الفصح (26 أبريل من اعم 1478)، في اللحظة التي يرفع فيها القس القربان المقدس غير مبالين بمخالفة ذلك العمل للأصول الدينية المرعية. وأتفق على أن يستولي سلفياتي وجماعة آخرون على البلاتسو فيتشيو ويطردوا مجلس فلورنس الأعلى.
وجاء لورندسو إلى الكنيسة في اليوم المحدد لا يحمل سلاحاً وليس معه حرس جرياً على سنته، وتأخر جوليانو عن الموعد المضروب، فذهب إليه فرانتشسكو ده باتسي وبرناردو بنديني، وكانا قد تعهدا باغتياله، وأخذا يمزحان معه، واقنعاه بالذهاب إلى الكنيسة، وفيها وبيننا كان القس يرفع يده بالقربان المقدس طعنه بنديني جوليانو في صدره، فسقط على الأرض مدرجاً بدمه، وانقض عليه فرانتشسكو واخذ يكيل له الطعنات بعنف أدى إلى جرح ساقه هو. وهاجم أنطونيو دا فلتيرا Antonio da Volterra وقسيس يدعى استفانوا لورندسو بخنجريهما، فاتقى الضربات بذراعيه، ولم يصب إلا جرح خفيف، ثم أحاط به أصدقاؤه وساروا به إلى إحدى غرف المقدسات في الكنيسة، وفر المعتديان من الجمهور الغاضب، وحمل جوليانو بعد موته إلى قصر آل ميديتشي. وبينما كانت هذه الأحداث تقع في الكنيسة زحف سلفياتي كبير الأساقفة، وياقوبو دة باتسي ومائة من أتباعهما المسلحين نحو البلاتسا (قصر) فيتشيو، وحاولوا أن يثيروا الشعب ويضموه لهم بصياحهم الشعب! الحرية! ولكن الشعب التف حول آل ميديتشي في هذه الأزمة ورد عليهم بندائه لنحي السكرات!- وهي شارة آل ميديتشي، ولما دخل سلفياتي القصر طعنه سيزاري بتروتشي حامل الشعار، وشُنق ياقوبو دة بجيو Jacopo di Poggio ابن الكاتب الإنساني المعروف في إحدى نوافذ القصر، وقبض كبار الحكام في عزم وشجاعة على عدد آخر من المتآمرين الذين ارتقوا الدرج، وألقوا بهم من النوافذ، فمنهم من مات شدة الاصطدام بالأرض ومنهم من أجهز عليه الشعب رجماً بالحجارة. ولما ظهر أمامهم لورندسو ومن حوله عدد كبير من الحراس عبر الشعب عن فرحته بنجاته بغضبه العنيف على كل من ارتاب في أنه كانت له يد في هذه المؤامرة، واختطف فرنتشسكو دة باتسي من فراشه، وكان قد خارت قواه من كثرة ما نزف من دمه، وشنق إلى جانب كبير الأساقفة, الذي أخذ يعض كتف فرانتشسكو وهو يعالج سكرات الموت. . وجرت جثة ياقوبو دة باتسي كبير الأسرة المبجل عارية في شوارع المدينة وألقيت في نهر الآرنو Arno. وبذل لورندسو كل ما يستطيع ان يبذله لتخفيف حنق العامة وتعطشهم للدماء، وأنقذ حياة عدد من الذين اتهموا ظلماً بالاشتراك في المؤامرة، ولكن الغرائز الكامنة حتى في المتحضرين لا تستطيع ان تترك هذه الفرصة السانحة لها لتعبر عن نفسها وهي آمنة وخافية عن الأعين في زحمة الجماهير.
وهال سكستس الرابع أن يشنق كبير الأساقفة على هذا النحو، فاصدر قراراً بحرمان لورندسو، وحامل الشعار، وكبار الحكام في فلورنس، ووقف جميع الخدمات الدينية في كافة أملاك المدينة، واحتج عدد من رجال الدين على قرار الحرمان، وأصدر وثيقة ينددون فيها البابا وملأوها بأشنع ألفاظ السباب(3)،وبعث فرانتي Ferrante أي فرديناند الأول ملك نابلي بناء على طلب البابا وفداً إلى فلورنس يدعو مجلسها الأعلى وأهلها إلى أن يسلموا لورندسو إلى البابا أو ينفوه من المدينة على الأقل. ونصح لورندسو المجلس بإجابة طلب فرديناند، ولكن المجلس رد عليه بأن فلورنس مستعدة لان تتحمل أية محنة تنزل بها وألا تغدر بزعيمها فتسلمه إلى الأعداء. فما كان من سكتس وفرانتي إلا أن أعلنا الحرب على فلورنس (1479). وهزم ألفنسو ابن الملك جيش فلورنس بالقرب من بجيوبنسي Poggiobonsi وأخذ يعيث في الريف فساداً. gthslashألفاظألفاظ ألفا
وما لبث أهل فلورنس أن أخذوا يتذمرون من فدح الضرائب التي فرضت عليهم لأداء نفقات الحرب، وأدرك لورندسو أنه ما من جماعة تطول تضحيتها بنفسها من أجل فرد واحد. فأستقر رأيه في هذه الأزمة الخطيرة من تاريخ حياته على قرار لا يستقر عليه سواه ولم يسبق أن أتخذ مثله من قبل. ذلك أنه ركب البحر من بيزا إلى نابلي، وطلب أن يؤخذ إلى الملك. وأعجب فرانتي بشجاعته، فقد كان الرجلان يحتربان ولم يحصل لورندسو على تصريح بضمان حياته في سيره، لم يكن معه سلاح ولاحرس. وأكثر من هذا أن فرانتشسكو بسينيو الزعيم الحربي المغامر الذي دعا إلى نابلي لينزل ضيفاً على مليكها قد اغتيل غدراً وخيانة من وقت قريب بأمر من الملك نفسه. واعترف لورندسو بصراحة بالصعاب التي كانت فلورنس تواجهها، ولكنه أوضح شدة الخطر الذي يحيق بنابلي إذ قوى سلطان البابوية بتمزيق أملاك فلورنس، لأن البابوية إذا تم لها هذا استطاعت أن تصر على طلبها القديم وهو أن تكون نابلي إقطاعية من مصلحة إيطاليا في تلك الأزمة أن تنقسم على نفسها وأن تمزقها الأحقاد والحروب الداخلي. ولم يرتبط فرانتي مع لورندسو بشيء، ولكنه مر بأن يحجز لورندسو كما يحجز الأسير والضيف الكريم.
وزادت الانتصارات المستمرة التي نالها ألفنسو على جيوش فلورنس وإلحاح سكتس المستمر بأن يرسل لورندسو إلى روما أسيراً بابويا، زادت هذه وتلك مهمة لورندسو صعوبة على صعوبتها. وبقي أمر زعيم فلورنس ثلاثة أشهر طوال معلقاً لا يبت فيه، وكان يدرك أن إخفاقه في مهمته سيؤدي في أكبر الظن إلى قتله وإلى القضاء على استقلال فلرونس. وكان في هذه الأثناء قد كسب صداقة الكثيرين بكرمه وسخائه، ودماثة أخلاقه، وبشاشته، وكان ممن كسب صداقتهم الكونت كارفا Count caraffa وزير الدولة، فأخذ هذا يدافع عن قضيته. وقدر فرانتي أعظم التقدير ثقافة أسيره، ونبل خصاله، فها هو ذا كما يلوح رجل مهذب كريم، فإذا عقد الصلح مع رجل على شاكلته فإن ذلك سيضمن لنابلي صداقة فلورنس طوال حياة لورندسو على أقل تقدير. ولهذا وقع معه معاهدة، وأهداه جواداً كريماً، وسمح له بأن يركب البحر من نابلي. ولما علمت فلورنس أن لورندسو جاء بالصلح رحبت به ترحيباً فخماً اعترافاً منها بجميله. واستشاط سكتس غضباً، وأراد أن يواصل الحرب بمفرده، ولكن محمدا الثاني فاتح القسطنطينية أنزل جيشاً له في أترانتو Otranto (1480)، وهدد باجتياح إيطاليا، والاستيلاء على حصن المسيحية اللاتينية نفسه. فما كان من سكتس إلا أن دعا أهل فلورنس للمفاوضة في شروط الصلح. وقدمت وفودهم إلى البابا ما يجب له من فروض الطاعة، وأخذ هو يؤنبهم أشد التأنيب، ثم عفا عنهم. وأقنعهم بأن يجهزوا خمس عشرة سفينة لمحاربة الأتراك، وعقد الصلح معهم، واصبح لورندسو من ذلك الحين سيد تسكانيا لا ينازعه في ذلك منازع"(قصة الحضارة ج18 ص203-208،، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> العصر الذهبي -> تنشئة لورندسو).
 
ايطاليا-مخطوطات وترجمات واعجاب بالعلم العربي ونشاط في فلورانس عجيب وياتُرى ماذا كانت المجلدات ال (تسعة وثلاثين والف مجلد منها ستون وأربعمائة باللغة اليونانية) خصوصا أن الكونت جيوفني بيكو دلا ميرندولا أعجب بالتفكير العربي فمن أين إطلع عليه؟!!!
قال ديورانت:" وبينما كان لورندسو يحي الأدب الإيطالي، كان في الوقت عينه يواصل في جد وحماسة مشروعا جده فيجمع كا ما يستطيع من الكتب الأدبية اليونانية والرومانية القديمة ليفيد منها العلماء في فلورنس. من ذلك أنه بعث بوليتيان Politian وجون لاسكارس John Lascaris إلى كثير من المدن في إيطاليا وخارجها لشراء المخطوطات القديمة، وقد جاء لاسكارس من دير واحد عند جبل آثوس Mt. Athos بمائتي مخطوط، منها عشرون لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في أوربا الغربية. ويقول بوليتيان إن لورندسو كان يود لو سمح له بأن ينفق كل ثروته، بل ويرهن أثاث بيته ليبتاع الكتب. وكان يستأجر النساخين لينسخوا له ما لا يستطيع شراءه من المخطوطات، ويجيز في نظره ذلك لغيره من المولعين بجمع الكتب أمثال ماثياس كورفينوس Matthias Corvinus ملك المجر وفد ريجو Federigo دوق أربينو أن يرسلوا نساخين من عندهم ليعيدوا نسخ ما في مكتبة آل ميديتشي من مخطوطات.. وقد ضمت هذه المجموعة بعد موت لورندسو إلى المجموعة الأخرى التي وضعها كوزيمو من قبل في دير سان ماركو، وكانت المجموعتان تضمان في عام 1495 تسعة وثلاثين والف مجلد منها ستون وأربعمائة باللغة اليونانية. وخطط ميكل أنجيلو فيما بعد داراً فخمة لهذه الكتب، وأطلق عليها الخلف أسم لورندسو فسماها المكتبة اللورنتيانية Bibliotheca Laurentiana... وهرع العلماء إلى فلورنس بعد أن أغراهم بذلك اشتهار آل ميديتشي وغيرهم من أهل فلورنس بما يغدقونه عليهم من الهبات، واتخذوا هذه المدينة عاصمة الثقافة الأدبية... وكانت الشخصية الساحرة الجذابة التي لا يعلو عليها إلا لورندسو نفسه هي شخصية الكونت جيوفني بيكو دلا ميرندولا. وكان مولده في البلدة (القريبة من ميدونا) التي أذاع اسمه شهرتها، ثم تلقى العلم في بولونيا وباريس، وكان يستقبل بأعظم مظاهر التكريم في بلاط الملوك والأمراء في أوربا كلها تقريباً، حتى أقنعه لورندسو آخر الأمر أن يتخذ فلورنس موطناً له. وكان عقله الحريص على العلم المتحمس له ينتقل من فرع منه إلى فرع- من الشعر، إلى الفلسفة، إلى العمارة، إلى الموسيقى،-وقد وصل في كل فرع منها إلى درجة غير قليلة من البراعة. حتى قال عنه بوليتيان إن الطبيعة قد كملته فجمعت فيه كل مواهبها... تعجب به النساء ويحبه الفلاسفة، لا يقل جمال خُلقه عن وسامة خَلْقه، بلغ الدرجة العليا في جميع الصفات الذهنية. وكان عقله مفتوحاً لجميع الفلسفات والأديان، لا يسعه ولا يوائمه أن يرفض أي نظام أو أي إنسان، ومع أنه نبذ التنجيم في السنين الأخيرة من حياته، فإنه رحب بالتصوف وبالسحر...وكان يجد في التفكير العربي واليهودي كثيراً مما يدعو إلى الإعجاب، وكان من بين أساتذته وأصدقائه المكرمين عدد كبير من اليهود(16). وكان من بين ما درسه أسرار القبلة اليهودية، واعترف في غير مماحكة، ولا تكلف بما يعزى إليها من قدم، وجهر بأنه وجد فيها أدلة تقطع بألوهية المسيح. وإذا كان من ألقابه الإقطاعية أنه »كونت كنكورديا« Count of Cpncordia فقد أخذ على عاتقه ذلك الواجب السامي واجب التوفيق بين ديانات الغرب العظمى -اليهودية، والمسيحية، والإسلام-ثم التوفيق بينها وبين أفلاطون، ثم بين أفلاطون وأرسطو. واكن كل من عرفه يتودد إليه ويتملقه، ولكنه ظل إلى آخر حياته القصيرة يحتفظ بتواضعه الساحر الفنان الذي لا تضارعه إلا ثقته القوية المخلصة بدقة علمه وبقوة العقل الإنساني.
ولما قدم إلى روما في الرابعة والعشرين من عمره (1486)، أذهل القساوسة. والعلماء بأن نشر مجموعة مكونة من تسعمائة قضية تشمل المنطق، وما بعد الطبيعة، واللاهوت، وعلم الأخلاق، والرياضيات، والطبيعة، والسحر، والقبلة، وتضم فوق ذلك البدعة الدينية السمحة القائلة بأنه ما دامت أعظم خطيئة ارتكبها الإنسان محدودة غير أبدية، فإنها لا يمكن أن تستحق العقاب الأبدي. وجهر بيكو باستعداده للدفاع عن أية قضية من هذه القضايا وعنها جميعاً في أية مناقشة عامة ضد أي إنسان، وعرض أن يقوم بأداء جميع نفقات السفر لمن يريد أن يتحداه أيا كان البلد الذي يأتي منه. وقد مهد لهذه المباراة الفلسفية المقترحة بإعداد رسالة ذائعة الصيت عرفت فيما بعد باسم:(في كرامة الإنسان De hominis dignitale) عبر فيها بحماسة الشباب عن آراء الكتاب الإنسانيين في النوع الإنساني وهي الآراء التي تناقض معظم ما يراه أهل العصور الوسطى. وقد كتب بيكو في ذلك يقول: »من الأقوال المألوفة في المدارس أن الإنسان عالم صغير نتبين فيه جسماً امتزجت فيه العناصر الأرضية، بالروح السماوية، والنفس النباتية بحواس الحيوانات الدنيا والعقل الإنساني، وعقل الملائكة، وصورة الإله«(17)، ثم قال على لسان الله نفسه تلك العبارة التي الإنسان العظمى ليس بعدها سعادة... وهي انه يستطيع أن يكون ما يريد أن يكون. أن الحيوانات لتحمل معها من أجسام امهاتها من اللحظة التي تولد فيها كل ما هو مقدر لها أن تكونه، والأرواح العليا (الملائكة) هي منذ البداية... ما سوف تكونه إلى أبد الدهر، لكن الله أبا الكون قد وهب الإنسان منذ مولده أصول كل الإمكانيات وكل نوع من أنواع الحياة(18).
ولم يجرؤ أحد على أن يقبل تحدي بيكو فيناقشه في قضاياه المتعددة الأنواع، ولكن البابا إنوسنت الثامن وسم ثلاثاً من هذه القضايا بالإلحاد، وإذا لم تكن هذه القضايا الثلاث إلا جزءاً صغيراً من مجموع قضاياه، فإن بيكو كان يسعه أن ينتظر من البابا الرأفة به، وفي الحق أن إنوسنت لم يقف من هذه المسألة موقف الإصرار والمعاندة، ولكن بيكو أصدر تصريحاً رجع فيه عن أقواله فيها وإن يكن رجوعاً تكتنفه الحيطة والحذر، وسافر إلى باريس حيث عرضت عليه جامعتها أن تحميه من البابا، فلما كان عام 1496 أبلغ البابا إسكندر السادس المعروف بظرفه ودماثة خلقه بيكو أنه قد نسي كل شيء، فعاد بيكو من فوره إلى فلورنس، وأصبح من أخلص أتباع سفنرولا، وتخلى عن سعيه وراء التبحر في العلوم عامة، وأحرق مجلداته الخمسة في الغزل "(قصة الحضارة ج18 ص216-222، النهضة -> النهضة الفلورنسية -> العصر الذهبي -> الأدب (عصر بوليتيان)
 
قال ديورانت:...وأثار ضحك الإسلام الآخذ في الانتشار وسخريته
"الانشقاق البابوي
1378-1417
أعاد جريجوري الحادي عشر البابوية إلى روما؛ ولكن هل تستطيع البابوية البقاء فيها؟ وكان المجمع الذي انعقد لاختيار من يخلفه مؤلفاً من ستة عشر كردنالا، لم يكن منهم إيطاليين غير أربعة، وقدم إليهم ولاة الأمور في المدينة معروضاً يطلبون إليهم فيه أن يختاروا رجلاً من أهل روما ، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون إيطالياً؛ وأرادوا أن يؤيدوا هذا المطلب فاجتمعت طائفة منهم خارج الفاتيكان، وأنذرت المجتمعين بأنها ستقتل جميع الكرادلة غير الإيطاليين إذا لم ينتخب للبابوية أحد أبناء روما؛ وارتاع لذلك المقدس، فأسرع باختيار بارتولميو برنيانو Baratolommao Prignano، (1378) كبير أساقفة باري وتسمى باسم إربان السادس، ثم ولوا هاربين طلباً للنجاة، ولكن روما قبلت هذه الترضية(1).
وحكم إربان السادس المدينة والكنيسة بنشاط استبدادي عنيف، فعين هو أعضاء مجلس الشيوخ وكبار موظفي البلدية، وأخضع العاصمة الثائرة المضطربة للطاعة والنظام، وروع الكرادلة بأن أعلن عزمه على إصلاح الكنيسة، وانه سيبدأ هذا الإصلاح من أعلى؛ وبعد أسبوعين من هذا الإعلان ألقى عظة عامة حضرها الكرادلة أنفسهم ندد فيها بفساد أخلاقهم وأخلاق كبار رجال الدين، ولم يترك نقيصة إلا رماهم بها. وقد أمرهم ألا يقبلوا معاشاً، وأن يقوموا بجميع الأعمال التي تحال إلى المحكمة البابوية دون أجور أو هدايا أيا كان نوعها. ولما تذمر الكرادلة وأخذوا يتهامسون مستائين قال لهم: "إياكم وهذا اللغو"، فلما احتج عليه الكردنال أرسيني Orisini قال له البابا إنه أبله لا يعقل، ولما اعترض عليه كردنال ليموج Limoges هجم عليه إربان يريد أن يضربه. وسمعت القديسة كترين بهذا فبعثت إلى البابا الثائر تحذره وتقول له: "افعل ما تريد أن تفعله باعتدال... وحسن نية، وقلب مسالم، لأن التطرف يدمر ولا يبني؛ وإني أستحلفك بحق الرب المصلوب أن تكبح بعض الشيء جماح هذه الحركات السريعة التي تدفعك إليها طبيعتك"(2). واصم إربان أذنه عن سماع هذا النداء، وأعلن عزمه على تعيين عدد من الكرادلة الإيطاليين يكفي لأن يجعل لإيطاليا أغلبية في مجلس الكرادلة.
واجتمع الكرادلة الفرنسيون في أنانيي، ودبروا الثورة، فلما كان اليوم التاسع من أغسطس عام 1379 أصدروا منشوراً يعلنون فيه أن انتخاب إربان باطل لأنه تحت ضغط غوغاء روما، وانضم إليهم جميع الكرادلة الطليان، وأعلن المجمع على بكرة أبيه في يوم 20 سبتمبر أن ربرت الجنيفي هو البابا الحق. واتخذ ربرت مقامه في أفنيون وتسمى باسم كلمنت السابع، أما إربان فقد تمسك بمنصبه الديني الأعلى وظل مقيماً في روما. وكان الانقسام البابوي الذي بدأ على هذه الصورة نتيجة أخرى من النتائج التي أسفر عنها قيام الدولة القومية، فقد كان في واقع الأمر محاولة من جانب فرنسا للاحتفاظ بعون البابوية الذي لا غنى لها عنه في حربها مع إنجلترا وفي كل نزاع مقبل مع ألمانيا أو إيطاليا. وحذت نابلي، وأسبانيا، واسكتلندة حذو فرنسا، ولكن إنجلترا، وفلاندرز، والمانيا، وبولندة، وبوهيميا، وهنغاريا، والبرتغال رضيت بإربان، وأضحت الكنيسة ألعوبة في أيدي المعسكرين المتنافسين. وبلغ هذا الاضطراب غايته، وأثار ضحك الإسلام الآخذ في الانتشار وسخريته؛ فقد كان نصف العالم المسيحي يرى أن النصف الآخر زنادقة مجدفون، خارجون على الدين. ونددت القديسة كترين بكلمنت السابع وقالت إنه هو يهوذا؛ وأطلق القديس فنسنت فرر St. Vincent Ferrer الاسم عينه على إربان السادس(3). وادعت كلتا الطائفتين أن القربان المقدس الذي تقمه الطائفة الأخرى باطل، وأن الأطفال الذين تعمدهم، والتائبين الذين تتلقى اعترافهم، والموتى الذين تمسحهم، يبقون في حالة من الخطيئة الأخلاقية، ملقين في الجحيم أو في الأعراف إذا عاجلهم الموت. وبلغت العداوة بين الطائفتين درجة لا تعادلها إلا العداوة في أشد الحروب مرارة وعنفاً، ولما أن ائتمر كثيرون من كرادلة إربان الجدد عليه ليقتلوه لأنه عاجز شديد الخطورة أمر بالقبض على سبعة منهم، وعذبهم، ثم أعدمهم (1385).
ولم يحسم موته (1389) هذا النزاع، ذلك أن الأربعة عشر من الكرادلة الذين بقوا في معسكره اختاروا بيرو توماتشيلي Piero Tomacelli لمنصب البابوية، وتسمى بعد اختياره بونيفاس التاسع، وأطالت الأمم المنقسمة انقسام البابوية هذا، ولما مات كلمنت السابع (1394) رشح كرادلة أفنيون بيرو ده لونا Piero de Luna ليكون هو بندكت الثالث عشر، واقترح شارل السادس ملك فرنسا أن يستقيل البابوان كلاهما، ولكن بندكت لم يقبل هذا الاقتراح. فلما كان عام 1399 أعلن بونيفاس التاسع إقامة عيد عام في السنة التالية؛ وإذ كان يعلم أن كثيرين ممن ينتظر منهم أن يقدموا للاشتراك في هذا العيد سيبقون في أوطانهم بسبب ما يسود تلك الأيام من فوضى وأخطار، خول وكلاءه في الأقاليم ـ أن يمنحوا كل ما يترتّب على الحج للاحتفال بالعيد من غفران للذنوب وامتيازات لكل مسيحي يعترف بذنوبه، ويتوب، ثم يهب الكنيسة الرومانية المال الذي يتطلبه السفر إلى روما. ولم يكن جباة هذه الأموال رجال دين ذوي ضمائر حية نزيهة، فقد كان كثيرون منهم يعرضون الغفران دون أن يتلقّوا اعترافاً ما؛ ولامهم بونيفاس على فعلتهم، ولكنّه كان يحس بأنه ما من أحد غيره يستطيع أن يفيد من المال الذي جمع بهذه الطريقة أحسن مما يفيده منه هو، ولم "يرو بونيفاس تعطّشه إلى الذهب"(4) كما يقول أمين سرّه وسط ما كان يعانيه من آلام الحصوة المبرحة. ولمّا أراد بعض الجباة أن يغتالوا بعض هذا المال أمر بتعذيبهم حتى يردوه إليه. ومزقت جماهير روما الغاضبة غيرهم من الجباة لأنهم سمحوا لبعض المسيحيين أن ينالوا الغفران دون أن يأتوا الى روما لينفقوا فيها نقودهم(5). وبينا كانت الاحتفالات قائمة على قدم وساق حرضت أسرة كولنا الشعب على أن يطالب بعودة الحكم الجمهوري، فلما رفض بونيفاس هذا الطلب، قادت هذه الأسرة جيشاً مؤلفاً من ثمانية آلاف محارب هجمت بهم عليه؛ وقاوم البابا الطاعن في السن الحصار بعزيمة ماضية في سانتا أنجيلو، وانقلب الشعب على آل كولنا، وتفرق جيش المتمردين، وزج واحد وثلاثين من زعماء الفتنة في غيابة السجون. ووعد واحد منم بالعفو والابقاء على حياته إذا رضى بأن يكون جلاد الباقين؛ فرضى بهذا العمل وشنق الثلاثين الباقين ومنهم أبوه وأخوه(6).
وشبت نار الفتنة من جديد لما مات بونيفاس واختير إنوسنت السابع لمنصب البابوية (1404) وفر إنوسنت إلى فتيربو Viterbo وهجم الغوغاء من أهل روما بقيادة جيوفني كولنا على قصر الفاتيكان، وأعملوا فيه السلب والنهب، ولطخوا شارات إنوسنت بالوحل، وبعثروا السجلات البابوية والقرارات التاريخية في شوارع المدينة (1405)(1) ثم تراءى للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار ، فعقد للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار، فعقد صلحا مع إنوسنت، فعاد إلى روما ظافراً ومات فيها بعد أيام قليلة من عودته (1406).
ودعا خلفه جريجوري الثاني عشر بندكت الثالث عشر إلى الاجتماع به في مؤتمر. وعرض بندكت أن يستقيل إذا رضى جريجوري أن يقوم هو أيضاً بنفس العمل، ولكن أهل جريجوري أشاروا عليه بألاّ يوافق على هذا الاقتراح؛ فما كان من بعض الكرادلة إلا أن انسحبوا إلى بيزا، ودعوا إلى عقد مجلس عام يختار بابا بترضية العالم المسيحي قاطبة. وحث ملك فرنسا مرة أخرى بندكت على أن يستقيل، فلما رفض ذلك للمرة الثانية أعلنت فرنسا عدم ولائها له، واتخذت موقف الحياد بين الطرفين المتنازعين. ولما تخلى كرادلة بندكت عنه فر إلى أسبانيا، وأنضم هؤلاء الكرادلة إلى الذين تخلوا عن جريجوري، وأصدروا جميعاً دعوة إلى مؤتمر بعقد في بيزا في الخامس والعشرين من شهر مارس عام 1409.
قصة الحضارة ج20 ص3-7،النهضة -> النهضة في رومة -> أزمة الكنيسة -> المجالس والبابوات)
 
لاشك أن انتقال العلوم الإسلامية لأوروبا انتقلت أيضا ومن وجهة أخرى بطريق مشابه لنقل علوم الفلسفة كما وردت طريقة نقلها في-ثنايا- النص التالي
ومعلوم أن العلوم الإسلامية انتقلت بطرق مختلفة ومتنوعة لكني أتكلم عن طريقة النقل كما تشابهت مع مافي نصنا هذا
قال ديورانت:"نقوس الخامس
1447-1455
نشأ توماسو بارنتوتشيلي Fommosso Parentucelli نشأة فقيرة في سار دسانا، ولكنه استطاع بطريقة ما أن يلتحق بجامعة بولونيا، وأن يقضي فيها ست سنين. ولما نفذ ماله غادرها إلى فلورنس واشتغل مربياً خاصاً في بيتي رينلدو دجلي ألبتسي Rinaldo degli Albizzi وبلاده استرتسي Palla de Strozzi. ولمّا كثر ماله عاد إلى بولونيا وواصل الدرس وحصل وهو في سن الثانية والعشرين على درجة دكتور في اللاهوت. وعيّنه نقولو دجلي البرجاتي Niccolo degli Albergati، كبير أساقفة بولونيا مشرفاً على شئون بيت رياسة الأسقفية وأخذه إلى فلورنس ليكون في خدمة يوجنيوس الرابع حين كان هذا البابا يقضي عهد منفاه الطويل. واصبح هذا القس في السنين التي قضاها بفلورنس من أصحاب النزعة الإنسانية، دون أن يخرج بذلك على المبادئ المسيحية، وصار صديقاً حميماً لبرتي، ومارسوبيني، ومانتي، وأورسبا، وبجيو، وانضم إلى مجتمعاتهم الأدبية. وسرعان ما التهب قلب تومس ساردسانا، كما كان الإنسانيون يسمّونه، بنار تحمسهم للآداب القديمة، فكان ينفق كل دخله تقريباً في شراء الكتب، ويقترض المال لابتياع المخطوطات الغالية الثمن، وجهر بأمله في أن يمكّنه ماله يوماً ما من أن يجمع في مكتبة واحدة جميع الكتب العظيمة في العالم. وترجع نشأة مكتبة الفاتيكان إلى هذا المطمع العظيم(9). واستخدمه كوزيمو في عمل فهارس المكتبة المرقسية، وابتهج توماسو لوجوده بين مخطوطاتها؛ وقلّما كان يعرف أنه يعد نفسه لأن يكون أول بابوات النهضة.
وظل عشرين عاماً يقوم بخدمة ألبرجاتي في فلورنس وبولونيا. فلمّا
مات كبير الأساقفة (1443) عيّن يوجنيوس بارنتونشيلي خلفاً له؛ ثم عيّنه البابا بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت كردنالاً متأثراً في ذلك بعلمه، وصلاحه، ومقدرته الإدارية. وانقضى عام آخر، ومات يوجنيوس،ووجد الكرادلة أنفسهم في مأزق حرج بين أحزاب أرسيني وكولنا فرفعوا بارنتوتشيلي إلى عرش البابوية. وصاح هو في وجه فسبازياتو دا بستتشي Vespasiano da Bisticci قائلاً: "منذا الذي كان يظن أن عاملاً فقيراً يدق الجرس عند قسيس يصبح بابا، ويحدث بذلك الاضطراب في صفوف المتكبرين؟"(10) وابتهج الإنسانيون في إيطاليا بهذا الاختيار ونادى أحدهم فرانتشيسكو بربارو Franceso Barbaro بأن رؤيا أفلاطون قد تحققت: فقد أصبح الفيلسوف ملكاً.
وكان لنقولا الخامس - وهذا هو الاسم الذي اختاره لنفسه - ثلاثة أهداف: أن يكون بابا صالحاً، وأن يعيد بناء روما، وأن يحيي الآداب والعلوم والفنون القديمة. وسلك في أعمال منصبه السامي مسلك التواضع والكفاية العظيمة، لا يكاد ينقطع عن مساع شئونه ساعة من ساعات النهار، واستطاع أن يحتفظ بعلاقات الود والصداقة بين كل من ألمانيا وفرنسا. وأدرك البابا المعارض فليكس الخامس أن نقولاس لن يلبث أن يكتسب ولاء العالم المسيحي كله، فتخلّى عن جميع دعاواه،و عفا عنه نقولاس فضلاً منه وكرماً؛ وانتقل المجلس الثائر الآخذ وقتئذ في الانحلال من بازل إلى لوزان ثم انفض (1449)؛ وانتهت بذلك حركة المجالس الكنسية، وانشعب الصدع الذي حدث في البابوية. غير أن المطالبة بإصلاح الكنيسة ظلت تجيء من وراء جبال الألب؛ وأحس نقولاس بأنه عاجز عن القيام بهذا الإصلاح أمام معارضة جميع ذوي المناصب الكبيرة الذين سيفقدون مناصبهم حتماً إذا ما تم هذا الإصلاح المنشود. وكان يأمل أن الكنيسة إذا ما تزعمت حركة إحياء العلوم، ستستعيد م كان لها من مكانة فقدتها في أفنيون، وفي عهد الانشقاق. ولسنا نعني أن مناصرته للعلوم كانت منبعثة عن غايات سياسية، فنحن لا يخالجنا شك في أنها كانت رغبة صادقة تكاد تكون هياماً؛ فقد قام في أيامه الأولى برحلات شاقة فوق جبال الألب بحث فيها عن المخطوطات، وكان هو الذي كشف في بازل عن مؤلفات ترتليان.
والآن وقد امتلأت خزائنه بإيرادات البابويةـ فقد شرع يبعث العمال إلى أثينة والقسطنطينية، وإلى كثير من المدن في ألمانيا وإنجلترا ليبحثوا عن المخطوطات اليونانية واللاتينية، وثنية كانت أو مسيحية؛ ويشتروها أو ينسخوها. وحشد في الفاتيكان طائفة كبيرة من النساخين والناشرين، ولم يكد يترك كاتباً إنسانياً في إيطاليا إلاّ استدعاه إلى روما. وفي ذلك يقول فسبازيانو معجباً به وإن كان في قوله كثر من المبالغة: "وأقبل العلماء من جميع أنحاء العالم على روما في أيام البابا نقولاس، بعضهم من تلقاء أنفسهم، وبعضهم إجابة لطلبه"(1).وكافأهم على أعمالهم بسخاء لا يقل عن سخاء خلفاء المسلمين الذين تهز مشاعرهم نغمات الموسيقى أو قصائد الشعراء. من ذلك أن لورندسو فلا الخاضع لسلطان البابا تلقّى 500 دوقة (12.500؟ دولار) لأنه ترجم كتاب توكيديدس إلى اللغة اللاتينية، ونال جوارينو دا فيرونا 1500 دوقة نظير ترجمة استرابون، ومنح نقولو بيترتي Niccolo Petrotti خمسمائة دوقة نظير ترجمة بوليوس، وكلّف بجيو بترجمة كتاب ديودور الصقلي؛ وأغلر ثيودورس جادسا Theodorus Gasa بالمجيء من فيرار ليخرج ترجمة لكتب أرسطو؛ ومنح فيليلفو بيتاً في روما، وضيعة في الريف،وعشر آلاف دوقة ليترجم الإلياذة والأوديسة إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ضخامة هذه المكافآت أن تردد بعض العلماء في قبولها، ولكن البابا تغلّب على التردد بأن حذّرهم بشيء من الفكاهة قائلاً" "لا ترفضوا، فقد لا تجدوا نقولاس آخر"(
...ولمّا كثر عدد كتبه - حتى بلغ أخيراً 824 مخطوطاً لاتينياً و352 مخطوطاً يونانياً - وضمّت هذه الكتب إلى مجموعات البابوات السابقين نشأت مشكلة المكان الذي توضع فيه هذه المجلدات الخمسة الآلاف - أكبر مجموعة من الكتب في العالم المسيحي -
قصة الحضارة ج20 ص 32-35،النهضة -> النهضة في رومة -> النهضة تستحوذ على إيطاليا -> نقولاس الخامس)
 
البابا ابن الحرام مثال على حال كثير من الباباوات
إسكندر السادس
"يبدو كأنه إمبراطور حتى وهو يبارك الجموع المحتشدة...وبدأ أعماله بداية حسنة. فقد حدثت في روما في الستة والثلاثين يوماً بين موت إنوسنت وتتويج الإسكندر مائتان وعشرون من حوادث الاغتيال التي عرفت. ولكن البابا الجديد ضرب المثل بأول قاتل قبض عليه؛ فقد شنق هذا المجرم، وشنق معه أخوه، وهدم بيته، وارتضت المدينة هذه القسوة، وأخفت الجريمة رأسها؛ وعاد النظام إلى روما، وأبتهجت إيطاليا كلها إذ وجدت يداً قوية تقبض على أزمة الشئون(16).
...وكان الإسكندر في ذلك الوقت يواجه المشاكل السياسية القائمة أمام بابوية تكتنفها القوى الإيطالية التي تأتمر بها من كل جانب. وكانت الولايات البابوية قد وقعت مرة أخرى في أيدي طغاة محليين، يدعون أنهم خدام الكنيسة ولكنهم انتهزوا الفرص التي أتاحها لم إنوسنت الثامن فاستردوا الاستقلال الفعلي الذي فقدوه هم وأسلافهم في عهد ألبرنوز أوسكستس الرابع.وكانت الدول المجاورة للمدن البابوية قد استولت على بعض هذه المدن، فاستولى نابلي مثلاً على سورا Sora وأكويليا في عام 1467، استولت ميلان على تورلي في عام 1488.ولها كان أول واجبات الإسكندر هو أن يخضع هذه الولايات تحت حكم بابوي مركزي، يفرض عليها الضرائب، كما أخضع ملوك أسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا السادة الإقطاعيين. وكانت هذه هي المهمة التي عهد بها إلى سيزاري بورجيا والتي أنجزها بسرعة وقسوة جعلت مكيفلي يعجب به ويدهش من مقدرته.
وكان أقرب إلى روما وأشَّد مضايقة للبابا وإقلاقاً لراحته النبلاء أشباه المستقلين الخاضعون للبابا نظرياً والمعادون له والخطرون عليه فعلاً. "
قصة الحضارة ج20 ص78،النهضة -> النهضة في رومة -> آل بورجيا -> إسكندر السادس
وقال ديورانت :"الآثم ..وحمدت له روما حسن إدارته الداخلية ونجاحه رغم تردده في سياسته الخارجية، ولامته لوماً خفيفاً على مغامرات حبه، ولوماً عنيفاً على سعيه لتوفير الثراء لأبناءه، وحقدت عليه لتعيينه في مناصب الدولة بروما حشداً كبيراً من الأسبان كان منظرهم الأجنبي ولغتهم الأجنبية مثاراً لغضب الإيطاليين. وكان عدد ضخم من الأسبانيين من أقارب البابا قد هرعوا إلى روما "حتى لم تعد مائة بابوية تكفي ذلك الحشد من أبناء الأعمام"؛ كما يقول شاهد عيان(27). وكان الإسكندر وقتئذ قد أصبح إيطالياً كاملاً في ثقافته، وسياسته، وأساليبه ولكنه لا يزال يحب أسبانيا، ويتحدث بالإسبانية أكثر مما يجب مع سيزاري ولكريدسيا، ورفع إلى مقام الكردنالية تسعة عشر أسبانياً، وأحاط نفسه بخدم ومساعدين قطلانيين، حتى لقبه الإيطاليون الحاسدون آخر الأمر "البابا الهجين"(28) يشيرون بذلك إلى انحداره من يهود أسبانيين اعتنقوا المسيحية. ورد الإسكندر على هذا بقوله إن كثيرين من الإيطاليين، وبخاصة في مجمع الكرادلة، قد غدروا به، وإنه لا بد أن يجمع حوله طائفة من الأنصار يرتبطون معهم برباط الولاء الشخصي القائم على علمهم بأنه هو حاميهم الأوحد في روا.
وكان هو، وأمراء أوربا حتى زمن نابليون، يقولون هذا القول عينه ليبرروا ترقية أقاربهم إلى مناصب الثقة والسلطان. وقد ظل البابا فترة من الوقت يأمل أن يعينه ابنه جيوفني على حماية الولايات البابوية، ولكن جيوفني ورث عن أبيه حسه المرهف نحو النساء غير مصحوب بقدرته على حكم الرجال. وأدرك الإسكندر أن ابنه سيزاري دون سائر أبناءه هو الذي أوتي العزيمة والصرامة اللتين لا بد منهما لخوض غمار السياسة الإيطالية في ذلك العصر المليء بالعنف، فخلع عليه عدداً كبيراً من المناصب الدينية تدر عليه إيراداً يفي بنفقات هذا الشاب ذي السلطان المطرد الزيادة. وحتى لكريدسيا الظريفة نفسها اتخذت أداة سياسية، فالفت نفسها وقد ارتقت إلى حكم إحدى المدن أو إلى فراش الدوق جليل الشأن. وكان البابا يحب لكريدسيا حباً أدى ببعض المغتابين النمامين إلى اتهامه بمضاجعتها وتصويره بالوالد الذي ينافس أبناءه في عشقها(29). وقد حدث في مرتين اضطر فيهما ألكسندر إلى الغياب عن روما أن عهد إلى لكريدسيا بحجرة في الفاتيكان وخولها حق فض رسائله وتصريف جميع الشؤون العادية. وكان تخويل النساء مثل هذه السلطة كثير الحدوث في بيوت الحكام بإيطاليا - كما حدث في فيرارا، وأرمينو، ومانتوا - ولكن هذا العمل روع روما نفسها وهي المتخمة بالمفاسد. ولما أن قدم جيوفري وسانتشيا من نابولي بعد زفافهما، خرج سيزاري لكريدسيا لاستقبالهما، وهرول الأربعة إلى الفاتيكان، وسعد الإسكندر بقربهم. وفي ذلك يقول جوتشيارديني Guicciardini " لقد اعتاد غير الإسكندر من البابوات أن يخفوا فضائحهم بأن يسموا أبنائهم أبناء أخواتهم، ولكن الإسكندر كان يسره أن يعرف العالم كله أنهم أبناءهوكانت روما قد غفرت للبابا علاقته بفانتسا الساذجة، ولكنها دهشت لعلاقته بجويليا التي تنقلت من عشيق إلى عشيق. واشتهرت جويليا فرنيزي Gullia Farnese بجمالها الرائع وخاصة بشعرها الذهبي؛ فإذا أرسلته ووصل إلى قدميها كان له منظر يلهب دم رجال أقل توقداً من الإسكندر. وكان أصدقاؤها يلقبونها "الجميلة La Belle". ويصفها سانودو Sanudo بأنها "محبوبة البابا، وأنها فتاة رائعة الجمال، قوية الإدراك، رحيمة، ظريفة(31). ووصفها إنفيسورا في عام 1493 فقال إنها شهدت مأدبة زواج لكريدسيا في الفاتيكان، وسماها "محظية الإسكندر؛ وأطلق ماتارتسو المؤرخ البيرولوجي هذا اللقب ذاته على جويليا ولكنه في أغلب الظن كان ينقل عن إنفيسورا، وسماها أحد الظرفاء الفلورنسيين في عام 1494 "عروس المسيح Sposa di Cristo" وتلك عبارة لا تطلق عادة إلاّ على الكنيسة(32). وقد حاول بعض العلماء أن يطهروا اسم جويليا بحجة أن لكريدسيا التي دل البحث عن نقاء سريرتها - ظلت صديقتها إلى آخر أيامها، وأن أرسينو أرسيني Orsino Orsini زوج جويليا بنى معبداً تكريماً لذكراها الشريفة(33). وولدت جويليا في عام 1492 ابنة سميت لورا Laura، قيدت رسمياً منسوبة إلى أرسيني، ولكن الكردنال ألسندرو فارنيزي اعترف بأن الطفلة ابنة الإسكندر نفسه(34) . وينسب إلى البابا أيضاً ابن غامض خفي ولد له من امرأة أخرى حوالي عام 1498 ويعرف في يومية بركهار باسم الطفل رومانوس Infans Romanus،(35). وليست نسبته إلى البابا مؤكدة، ولكن زيادة واحد أو نقصه في عدد أولئك الأبناء أمر غير ذي بال.
وليس ثمة شك في أن الإسكندر هذا كان رجلاً شهوانياً حار الدم إلى درجة لا تتفق قط مع العزوبة. والشواهد على ذلك كثيرة: منها أنه أقام احتفالاً عاماً في الفاتيكان مثلت فيه مسلاة (فبراير، 1503)، وأنه استمتع في هذه المناسبة بكثير من ضروب الملاهي، وسره أن يلتف حوله عدد من النساء الرائعات الجمال، وأن يجلسن على مقاعد منخفضة عند قدميه.ذلك أنه كان رجلاً، ويبدو أنه كان يشعر بما يشعر به كثيرون من رجال الدين في تلك الأيام، وهو أن فرض العزوبة على رجال الدين خطأ وقع فيه هلدبراند، وأن الكرادلة أنفسهم يجب أن يسمح لهم بأن يستمتعوا بلذة صحبة النساء، وإحنهن. وكان يظهر لفانتسا مشاعر الحنان الزوجي، ولعله كان يظهر لجويليا الحب الأبوي. لكن إخلاصه لأبنائه، الذي كان يتغلب في بعض الأحيان على إخلاصه لمصالح الكنيسة، يمكن أن يتخذ حجة تبرر بها حكمة القانون الكنسي الذي يفرض العزوبة على القسيسين.
وكان الإسكندر في السنين الوسطى من ولايته، وقبل أن يطغى عليه فيها سيزاري بورجيا، تتصف بكثير من الفضائل. نعم إنه كان في تصريف الشئون العامة مهيباً ذا شمم وكبرياء، ولمنه في أحواله الخاصة مرحاً، طيب السريرة، بشوشاً، حريصاً على الاستمتاع بالحياة، يستطيع أن يضحك ملء شدقيه حين يرى من نافذة غرفته استعراضاً للرجال المقنعين "ذوي أنوف مزيفة طويلة كبيرة الحجم في شكل عضو التذكير"(36).
وكان وقتئذ بديناً إلى حد ما إذا جاز لنا أن نثق بصورته وهو يصلي التي رسمها له بنتورتشيو والتي يبدو لنا أنها صورة صادقة. ومع هذا فإن كل ما كتب عنه يشهد بأنه كان مقتصداً في طعامه وشرابه، وأن مائدته كانت تبلغ من البساطة حداً ينفر منه الكرادلة(37).وأنه لم يكن يرعى حق بدنه أثناء قيامه بالشئون الإدارية، فكان يقضي في العمل جزءاً كبيراً من الليل، ويراقب بجد ونشاط شئون الكنيسة في جميع أنحاء العالم المسيحي.
ترى هل كان استمساكه بالدين المسيحي تصنعاً ورياءً؟ أكبر الظن لا. ودليلنا على ذلك أن رسائله حتى التي تختص منها بجويليا مليئة بعبارات التقى التي لم تكن من مستلزمات الرسائل الخاصة(38). ولقد كان هو رجل نشاط وعمل تغلبت عليه أخلاق زمانه السهلة غير المتحرجة، حتى لم يكن يرى، إلاّ في القليل النادر من الأوقات، أن ثمة تناقضاً بين حياته وبين مبادئ الأخلاق المسيحية. وكانت كمعظم الذين يستمسكون بقواعد الدين كاملة، يسلك مسلك رجال الدنيا كاملاً. ويبدو أنه كان يشعر أن البابوية في الظروف المحيطة بها في عهده تحتاج إلى حاكم سياسي لا إلى ولي من أولياء الله الصالحين. وكان يعجب بالتقى والصلاح، ولكنه كان يظن أن هذا من مستلزمات الرهبنة والحياة الخاصة، لا من صفات يضطر إلى أن يعامل في كل خطوة من خطواته طغاة، دهاة، يعملون للكسب والسلطان، أو دبلوماسيين غادرين لا ذمة لهم ولا ضمير. وانتهى به الأمر إلى اتباع جميع أساليبهم، واصطناع أكثر ما تحوم حوله الريب من حيل من سبقوه في البابوية.
واضطرته حاجته إلى المال لأداء نفقات حكومته وحروبه، فباع المناصب، واستولى على ضياع الموتى من الكرادلة، واستغل عيد سنة 1500 أتم استغلال، فكان الإعفاء من الواجبات الدينية والإذن بالطلاق يمنحان على أنهما عملان مربحان في المساومات السياسية. مثال ذلك أن لادسلاس ملك المجر دفع 30.000 دوقة نظير إلغاء زواجه ببياتريس أميرة نابلي؛ ولو أن هنري الثامن قد وجد بابا كالإسكندر يتعامل معه، لبقى إلى آخر أيامه حامي حمى الدين. ولمّا لاح أن العيد سيخفق من الناحية المالية لأن الذين كانوا يريدون الحج قعدوا في منازلهم خوفاً من اللصوص، أو الوباء أو الحروب، لم يشأ الإسكندر أن يخسر ما قدره لنفسه من مال، وجرى على سنة أسلافه البابوات، فأصدر مرسوماً بابوياً (4 مارس سنة 1500) يفصل فيه ما يستطيع المسيحيون أداءه من المال ليحصلوا على الغفران الذي كانوا سيحصلون عليه بالحج إلى رومة؛ وبأي ثمن يستطيع التائبون أن يغفر لهم زواجهم من المحارم؛ وكم يؤدي رجل الدين لكي يغفر له بيع المناصب أو "الشذوذ"(39). وأمر في السادس عشر من ديسمبر أن يمد العيد حتى يوم الغطاس. ووعد الجباة دافعي المال بأن أموالهم ستستخدم في حرب صليبية على الأتراك، ووفىبهذا الوعد بالنسبة إلى الأموال المجموعة من بولندة والبندقية، ولكن سيزاري بورجيا استخدم ما تجمع من الأموال فيما شنه من الحروب لاستعادة الولايات البابوية(40).
وأراد الإسكندر أن يزيد حفلات العيد جلالاً فعين في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1500 اثني عشر كردنالاً جديداً بلغ مجموع ما أدوه ثمناً لمناصبهم 120.000 دوقة؛ ويقول جوتشيارديني إن هذه المناصب "لم يرق إليها أكثر الناس جدارة بها بل كانت من نصيب من يؤدون فيها أغلى الأثمان"(41). ثم عين في عام 1503 تسعة كرادلة آخرين حصل منهم على أثمان مجزية(42). وأنشأ كذلك في هذه السنة ذاتها ثمانين منصباً في الحكومة البابوية لا موجب لها على الإطلاق، وبيع كل منصب من هذه المناصب بسبعمائة وستين دوقة كما يقول جوستيانينيGuistianini سفير البندقية وأحد أعداء البابا(43). ولصق أحد الهجائين على تمثال بسكوينو (1503) هذا الهجاء اللاذع: "إن المفاتيح ومذابح الكنائس والمسيح يبيعها الإسكندر؛ وحق له أن يبيعها، فقد أدى هو ثمنها"(44).
وكان القانون الكنسي ينص على أن تعود أملاك رجال الدين إلى الكنيسة بعد وفاتهم، إلاّ إذا قضى البابا غير هذا(45). وكان الإسكندر يقضي بغير هذا على الدوام إلاّ إذا كان المتوفى من الكرادلة. واستجاب الإسكندر لضغط سيزاري بورجيا وإلحاحه فجعل الاستيلاء على الثروة التي يتركها وراءهم كبار رجال الكنيسة من المبادئ العامة المقررة، وجاءت بهذه الطريقة أموال موفورة إلى بيت المال. وخدع كثيرون من الكرادلة البابا بمنح هبات كثيرة من أموالهم قبل وفاتهم، ومنهم من عمد في أثناء حياته إلى إنفاق أموال كثيرة لإعداد أنصاب تذكارية لهم تبقى بعد موتهم. ولمّا مات الكردنال ميشيل (1503) جرد عملاء البابا من فورهم بيته من كل ما كان فيه، وقبض البابا ثمنه، إذا صدقنا ما يقوله جوستنيانا، البالغ مائة وخمسين ألف دوقة. وكان مما يشكو منه الإسكندر أنه لم يتسلم منه نقداً سوى 23.832 دوقة(46).
وسنرجىء هنا البحث المفصل فيما يعزى للإسكندر أو سيزاري بورجيا من دس السم لكبار رجال الكنيسة الذين تطول أعمارهم، ولكننا نقبل مؤقتاً النتيجة القائلة بأنّا "لا نجد قط دليلاً يثبت أن الإسكندر قد دسّ السم لإنسان"(47). على أن قولنا هذا لا يثبت براءته، وربما كان هو أمهر من أن يترك وراءه للتاريخ ما يدينه؛ لكنه مع ذلك لم ينج من الهجائين والنمامين، وغيرهم من الظرفاء الذين كانوا يبيعون نكاتهم القاتلة إلى أعداءه، وقد رأينا كيف كان سنادسارو يسلط شعره القاتل المقفى على البابا وولده أثناء النزاع الذي شجر بين البندقية ونابلي؛ كذلك سخر أنفيسورا قلمه للتشنيع على البابا خدمةً لآل كولنا، وكان جيرونيمو منشيوني Geronimo Mancioni في يد بارونات سافلي أقوى من فرقة عسكرية. وكان من الوسائل التي استخدمها الإسكندر نفسه في حروبه مع نبلاء كمبانيا، أن أصدر في عام 1501 مرسوماً بابوياً يفصل فيه الجرائم التي ارتكبها آل سافلي وكولنا. وكان أشد من هذا مبالغة - الرسالة الذائعة الصيت التي كتبها منتشيوني والمسماة "رسالة إلى سلفيوسافلي" يعدد فيها رذائل الإسكندر وسيزاري بورجيا وجرائمهما. وقد نشرت هذه الوثيقة في مدى واسع، وكان لها أثر كبير في تصوير الإسكندر بصورة وحش في قسوته وشذوذه(48). وفاز الإسكندر في حرب السيف، ولكن أعداءه النبلاء، الذين لم يكبح جماحهم عدوه البابا يوليوس الثاني ظفروا به في حرب القلم ونقلوا صورته التي صوروه بها إلى التاريخ.
ولم يكن يبالي قط بالرأي العام، وقلما كان يرد على السباب التي ضاعفت من غير رحمة عيوبه الحقة. لقد عقد الرجل العزم على إقامة دولة قوية، وكان يظن أن هذه الدولة لا تقام بالأساليب المسيحية. وكان استخدامه لأدوات السياسة المأثورة التقليدية - الدعاوة، والخداع، والدسائس، والنظام، والحرب - لابد أن يسيء إلى أعيان روما، ودول إيطاليا الذين يرون أن من مصلحتهم أن يسود الضعف والفوضى في البابوية نفسها وفي ولاياتها. وكان الإسكندر في بعض الأحيان يقف ليحكم على حياته حسب المقاييس الإنجيلية، ثم يقر بأنه كان يبيع الرتب الكهنوتية، وأنه فاسق، وأنه قضى بالحرب على حياة بني الإنسان. وقد فقد مرة مبادئه المكيفلية التي لا تقيد صاحبها بالتبعة الأخلاقية، واعترف بذنوبه وأقسم أن يصلح من أمره وأمر الكنيسة.
وكان يحب ابنه جيوفني حباً يفوق لكريدسيا نفسها؛ ولما أنبه ابنه بدرو لويس حرص الإسكندر على أن يهب جيوفني دوقية غنية في أسبانيا.
وكان من اليسير أن تحب فتاة هذا الصبي، فقد كان وسيماً، رقيقاً، مرحاً. ولكن الأب الشفوق بولده لم يكن يرى أن الشاب خلق للحب بل للحرب؛ ولهذا عينه قائداً للجند، وأثبت القائد الشاب أنه غير كفء لهذا العمل، فقد كان جيوفني يرى أن امرأة جميلة أثمن من فتح مدينة. وفي الرابع عشر من شهر يونية تعشى مع أخيه سيزاري وغيره من الضيوف في بيت أمه فاثندسا، وافترق جيوفني عن سيزاري وسائر الضيوف وهو عائدون، وقال إنه يريد أن يزور سيدة من معارفه. مع البابا في حرب(50)؛ ويقول بعض الثرثارين النمامين إن جيوفني غازل أخته لكريدسيا، وإن مقتله كان بأيدي بعض أتباع زوجها جيوفني اسفوردسا(51). ولم يتهم أحد في ذلك الوقت سيزاري بورجيا، ويبدو أن سيزاري، وهو وقتئذ في الحادية والعشرين من عمره، كان على أتم وفاق مع أخيه؛
قصة الحضارة ج20 ص92-99، النهضة -> النهضة في رومة -> آل بورجيا -> الآثم)
 
تبع المنشور السابق
سيزاري بورجيا ابن البابا إسكندر السادس ابن الحرام -في زمن ميكافيلي-ومهر امرأة مدن كاملة للتملك ومن ثم غزوها!!!
:"سيزاري بورجيا
وكان لدى الإسكندر أسباب كثيرة للفخر بالابن الذي أصبح الآن أكبر أبنائه، فقد كان سيزاري أشقر شعر الرأس واللحية...وتدرج سيزاري في المراتب الكهنوتية الصغرى، ولكنه لم يصبح قط قساً. ولما كان قانون الكنيسة يحرم الأبناء غير الشرعيين من الكردنالية، فقد أعلن الإسكندر بمرسوم صادر في 19 م سبتمبر سنة 1493 أنه ابن شرعي لفاندسا ودارنيانو d'Arignano. ولم يكن من الأمور الهينة أن يصفه البابا سكستس الرابع في مرسوم أصدره في 16 أغسطس سنة 1482 بأنه ابن "ردريجو، الأسقف ونائب رئسي المحكمة". وغض الجمهور النظر عن هذا التناقض، واكتفى بالابتسام. فقد اعتاد أن يرى الأكاذيب القانونية تستر الحقائق التي لم يحن بعد وقت إعلانها.
وسافر سيزاري إلى نابلي في عام 1497 بعد قليل من وفاة جيوفني، مندوباً من قبل البابا، وكان من حظه أن توّج ملكاً من الملوك. ولعل لمس التاج قد أثار وقتئذ عواطفه، فلمّا عاد إلى روما ألح على أبيه أن يسمح له بالتخلي عن منصبه الكنسي؛ ولم تكن ثمة وسيلة لتخليه عنه إلاّ بأن يعترف الإسكندر صراحة أمام مجمع الكرادلة بأن سيزاري ابن غير شرعي له. وهذا ما صرح به فعلاً، وأعقبه إعلان يقول إن تعيين النغل الشاب كردنالاً مخالف للقانون (17 أغسطس عام 1498)(57). ولمّا عادت إلى سيزاري بنوته غير الشرعية، أنهمك بكليته في الأعمال السياسية. وكان الإسكندر يرجو أن يرضى فدريجو Federigo الثالث ملك نابلي بسيزاري زوجاً لابنته كارلتا Carlotta؛ ولكن فدريجو كانت له ميول غير هذه الميول. وساء ذلك البابا أشد إساءة، فولى وجهه شطر فرنسا يرجو أن يستعينها على استعادة الولايات البابوية. وواتته الفرصة حين طلب إليه لويس الثاني عشر أن يبطل زواجاً أرغم عليه في شبابه وادعى الآن أنه لم يصل إلى غايته. ولما حل شهر أكتوبر من عام 1479 أرسل الإسكندر ابنه سيزاري إلى فرنسا يحمل إلى الملك مرسوماً بالطلاق ومائتي ألف دوقة يخطب بها زوجة له. وسر لويس هذا الطلاق، وسره فوق ذلك إذن البابا بزواج آن البريطانية أرملة شارل الثامن، فعرض على سيزاري يد شارلوت دالبرت Chorlotte'd Albert أخت ملك نبرة؛ ولم يكتف بهذا بل منح سيزاري لقب دوق فلنتنوا Valentinois وديوا Diois، وهما مقاطعتان فرنسيتان للبابوية عليهما بعض الحق القانوني. وفي شهر مايو من عام 1499 تزوج الدوق الجديد فلنتينو Valentino - وهو الاسم الذي تسمى به بعدئذ في إيطاليا - شارلوت الثرية؛ الحسناء، الطيبة؛ وأقامت رومة،
حين أبلغها الإسكندر النبأ، معالم الأفراح، وأطلقت الألعاب النارية ابتهاجاً بزواج أميرها. وأوجب هذا الزواج على البابوية أن تعقد حلفاً مع ملك يستعد علناً لغزو إيطاليا ويستولي على ميلان ونابلي. وبذلك لم يكن جرم الإسكندر في عام 1499 أقل من جرم لودفيكو وسفونارولا في عام 1494. وأفسد هذا الحلف جميع أعمال الحلف المقدس الذي كان للإسكندر يد في عقده سنة 1495 ومهد السبيل لحروب يوليوس الثاني. وكان سيزاري بورجيا من بين الأعيان الذين ساروا في ركاب لويس الثاني عشر إلى ميلان في السادس من أكتوبر سنة 1499، وقد وصف كستجليوني الذي كان فيها وقتئذ دوق فلنتينو بأنه أطول رجال حاشية الملك قامة وأعظمهم جمالاً(58). ولم يكن كبرياؤه يقل عن مظهره. وقد نقش على خاتمه: "أفعل ما يجب أن تفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون". أما سيفه فقد نقشت عليه مناظر من حياة يوليوس قيصر؛ وكان يحمل شعارين: فكان على أحد وجهيه: "ألقى النرد" وعلى الوجه الآخر: "إما قيصر أو لا أحد"(59).
ووجد الإسكندر أخيراً في هذا الشاب الجريء والمحارب السعيد القائد الذي ظل يبحث عنه زمناً طويلاً ليقود قوات الكنيسة المسلحة ويستعيد بها الولايات البابوية. وأمده لويس بثلاثمائة من حملة الرماح الفرنسيين، وجند أربعة آلاف من الغسقونيين والسويسريين، وألفين من المرتزقة الإيطاليين. وكان هذا جيشاً أقل مما يحتاج إليه للتغلب على اثني عشر من الحكام المستبدين، ولكن سيزاري كان تواقاً إلى هذه المغامرة. وأراد البابا أن يضيف الأسلحة الروحية إلى الأسلحة العسكرية، فأصدر مرسوماً يعلن فيه ذلك الإعلان الخطير وهو أن كترينا اسفوردسا وابنها أنافيانو يمتلكان إمولا وفورلي - وبندلفو مالاتستا يمتلك ريميني - وجويليو فارانو Giulio Varano يمتلك كمرينو - وأستوري منفريدي Astorre Manfredi يمتلك فائندسا - وجويدويلدو يمتلك أربينو - وجيوفني اسفوردسا يمتلك بيزارو - لأنهم اغتصبوا أرضين، وأملاكاً وحقوقاً تختص بها الكنيسة قانوناً وعدلاً، وأنهم جميعاً طغاة مستبدون أساءوا استخدام سلطتهم، واستغلوا رعاياهم، وأن عليهم الآن أن يتخلوا عن أملاكهم أو يطردوا منها قوةً واقتداراً(60). ولربما طاف بخاطر الإسكندر - كما يتهمه بعضهم - أن يضم هذه الإمارات كلها في مملكة واحدة يحكمها ابنه. ولكنه لم يكن يفكر جدياً في هذا العمل، ذلك أنه كان يدرك بلا ريب أن خلفاءه لن يسكتوا، وأن الدول الإيطالية لن تسكت، زمناً طويلاً على هذا الاغتصاب الذي هو أشد مخالفة للقانون، وأكثر بغضاً لهم، من أي حكم يراد أن يحل محله. وربما كان سيزاري نفسه يحلم ببلوغ هذه الغاية؛ وكان مكفيلي يرجو تحقيقها، ويسره أن يرى يداً قوية مثل يد سيزاري توحد إيطاليا وتخرج مها جميع الغزاة؛ غير أن سيزاري نفسه ظل حتى آخر أيام حياته يعلن أنه لا غاية له غير أن يسترد ولايات الكنيسة للكنيسة، وأنه يقنع بأن يكون حاكماً على رومانياRomagna من قبل البابا(61).
وزحف سيزاري على رأس جيشه في شهر يناير من عام 1500 على فورلي بعد أن اجتاز جبال الأبنين؛ وسلمت إمولا من فورها لمندوبه، وفتح أهل فورلي أبوابها ترحيباً به، ولكن كترينا اسفوردسا فعلت ما فعلته قبل اثني عشر عاماً من ذلك الوقت فامتنعت هي و حاميتها في القلعة ودافعت عنها دفاع الأبطال. وعرض عليها سيزاري شروطاً سهلة، ولكنها آثرت أن تقاتل، واستطاعت القوات البابوية بعد حصار قصير أن تقتحم القلعة وتعمل السيف في رقاب المدافعين عنها. وأرسلت كترينا إلى روما، واستضيفت ضيفة لا ترغب فيها في جناح بلفدير بقصر الفاتيكان، وأبت أن تنزل عن حقها في حكم فورلي وإمولا، حاولت الفرار، فنقلت إلى سانت أنجيلو؛ ثم أطلقت سراحها بعد ثمانية عشر شهراً، وآولت إلى دير للنسا. وكانت امرأة باسلة، ولكنها كانت سليطة صخابة(62)، وحاكمة إقطاعية من أسوأ طراز ، وكان رعاياها وغيرهم من أهل رومانيا Romagna يرون أن قيصر منتقم بعثه الله ليطهر البلاد من الظلم والاستبداد اللذين داموا عصوراً طوالاً"(63).
ولكن انتصار سيزاري الأول كان قصير الأجل، فقد تمرد جنوده الأجانب لأنه لم يجد ما يكفي من المال لأداء أجورهم، وما كاد يسترضيهم، حتى استدعى لويس الثاني عشر الفرقة الفرنسية لتساعده على استرداد ميلان التي استعادها لدوفيكو من وقت قريب. وسار سيزاري على رأس الباقين من جنوده إلى روما، واستقبل فيها استقبالاً لا يكاد يقل مهابة عن استقبال القواد الرومان المنتصرين. وابتهج الإسكندر بانتصار ابنه، وفي ذلك يقول سفير البندقية: "إن البابا أكثر ابتهاجاً مما رأيته في أي وقت من الأوقات"(64). وعين سيزاري نائباً عن البابا في المدن المفتوحة، وشرع من ذلك الحين يدفعه الحب الشديد إلى قبول نصائح ولده؛ وامتلأت خزائنه بالأموال التي جمعها من عيد روما ومن بيع مناصب للكرادلة، واستطاع سيزاري بفضلها أن يضع خطة حملة أخرى. وكان أول ما عمله أن عرض مبلغاً مغرياً من المال على باولو أرسيني ليقنعه بأن ينضم هو ورجاله إلى القوات البابوية؛ وجاء باولو كما جاء على أثره عدد آخر من النبلاء. وبهذه الضربة الماهرة قوى سيزاري جيشه، وحمى روما من غارات البارونات أثناء غياب الجيوش البابوية وراء الابنين. ولعل هذه المغريات نفسها، وما بذله لمناصريه من وعود بالغنائم هي التي ضمن بها خدمات جيان بولو بجليوني سيد بورجيا وجنوده، واستخدم بها فيتيلتسو فيتلي Vitelozzo Vitolli ليقود مدفعيته. وبعث إليه لويس الثاني عشر بلواء صغير من حملة الرماح، ولكن سيزاري لم يعد يعتمد على الإمدادات الفرنسية. فلما تم له هذا الاستعداد هاجم في سبتمبر من عام 1500 بتحريض الإسكندر القصور التي يحتلها آل كولنا وسفلى المعادين له في لاتيوم. واستسلمت له هذه القصور الحصينة واحداً بعد واحد، وسرعان ما كان في مقدور الإسكندر أن يطوف وهو آمن طواف المنتصر بالأقاليم التي فقدتها البابوية من زمن طويل؛ واستقبل في كل مكان بالترحاب من الشعب(65)، لأن رعايا البارونات الإقطاعيين لم يكونوا يحبونهم.
ولمّا بدأ سيزاري حملته الكبرى الثانية (أكتوبر عام 1500) كان تحت إمرته جيش مؤلف من 14.000 جندي، ومعه حاشية من الشعراء، وكبار رجال الدين، والعاهرات لخدمة جنوده. وعرف بنيلفو مالاتستا أنهم زاحفون على ريميني فأخلاها قبل ووصلهم إليها، وفر جيوفني اسفوردسا من بيزارو، ورحبت المدينتان بمقدم سيزاري وعدتاه محرراً لهما، لكن استوري مانفريدي قاومه في فائندسا، وأيده أهلها بإخلاص ولاء؛ وعرض عليه بورجيا شروطاً للتسليم كريمة رفضها منفريدي؛ ودام حصار المدينة طوال الشتاء، ثم استسلمت فائندسا آخر الأمر بعد أن وعدها سيزاري بأن يكون رحيماً بأهلها جميعاً. وكان مسلكه مع أهلها بعد استسلامها حسناً، وأثنى على منفريدي ودفاعه القوي ثناءً مستطاباً أحبه من أجله - كما يبدو - القائد المهزوم ولبث معه ضمن حاشيته أو أركان حربه. وفعل هذا الفعل نفسه أخر أصغر لأستوري، وإن كان هو ومنفريدي قد أجيز لهما أن يذهبا إلى حيث شاء(66)، وظلا شهرين يسيران في ركاب سيزاري في جميع تجواله، ويعاملان معاملة إجلال ولكنهما ما أن وصلا إلى روما حتى زج بهما فجأة في قصر سانت أنجيلو الحصين، حيث بقيا عاماً كاملاً، حتى إذا كان اليوم الثاني من شهر يونيه سنة 1502 قذفت مياه نهر التيبر بجثتيهما على الشاطئ. ولسنا نعرف السبب الذي من أجله قتلهما سيزاري أو الإسكندر، وستظل هذه الحادثة كغيرها من الحوادث الكثيرة التي تبلغ المائة عدا من الأسرار الغامضة التي لا يسبر غورها إلاّ العارفون.
وأخذ سيزاري بعد أن أضاف "رومانيا" إلى ألقابه يدرس الخريطة، وقرر بعد دراستها أن يتم الواجب الذي عهد به إليه أبوه. وكان قد بقى عليه أن يستولي على كينو وأربينو. ولا شك في أن أربينو كانت بابوية في شرائعها، ولكنها كانت دولة نموذجية من جهة النظر السياسية في تلك الأيام؛ وبدا أن من العار أن يخلع عن عرشها شخصان محبوبان مثل جويدويلو وإلزبتا، ولعلهما في هذه الأيام الأخيرة كان يقبلان أن يكونا نائبين عن البابا بالاسم وبالفعل معاً. ولكن سيزاري كان يدعى أن تلك المدينة تسد أسهل طريق له إلى البحر الأدريادي، وأن في مقدورها إذا وقعت في أيد معادية له أن تقطع عليه سبل الاتصال مع سيزارو وريمني. ولسنا نعرف هل وافق الإسكندر على هذه الحجج؛ ويبدو أن ذلك بعيد احتمال، لأنه أقنع جويدويلدو في ذلك الوقت بأن يعير جيش البابوية مدافعه(67). وأقرب من هذا إلى العقل أن سيزاري خدع أباه، أو بدل خططه. وسواء كان هذا أو ذات فإنه بدأ حملته الثالثة في الثاني عشر من يونيه عام 1502 وبصحبته ليوناردو دافنشي كبيراً لمهندسيه؛ وكان متجهاً في الظاهر نحو كميرينو Camerino. لكنه بدل خطته على حين غفلة، فاتجه نحو الشمال، واقترب من أربينو بسرعة لم يجد معها حاكمها المريض متعساً من الوقت للعرب إلاّ بشق الأنفس. وترك هذا الحاكم المدينة تسقط في يدي سيزاري دون أن تدافع عن نفسها (21 يونيه).وإذا كان هذا الفتح قد تم بعلم الإسكندر وموافقته، فإنه يكون من أدنأ أنواع الغدر وأوجبها للاحتقار في التاريخ، وإن كان مكفيلي يبتهج بما ينطوي عليه من مكر ودهاء. وعامل المنتصر أهل المدينة برقة شبيهة برقة السنانير، ولكنه استحوذ على ما كان للدوق المغلوب من مجموعات فنية ثمينة وباعها ليؤدي بها رواتب جنده.
واستولى قائده فيتيلي Vitelii في هذه الأثناء على أردسو التي كانت تابعة لفلورنس من زمن طويل،ويبدو أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه وعلى مسئوليته. وارتاع مجلس السيادة فأرسل أسقف فلتيرا، ومعه مكفيلي، ليستغيث بسيزاري في أربينو. واستقبلهم القائد بلطف كان له الفضل في بلوغه ما يصبو إليه. فقد قال بهم: "إني لم آت إلى هنا لأكون طاغيةً مستبداً، بل جئت لأقضي على الطغاة المستبدين"(68). ووافق على أن يمنع زحف فيتيلي، وأن يعيد أردسو إلى طاعة فلورنس، وطلب في نظير هذا ان توضع سياسة محددة المعالم للصداقة المتبادلة بينه وبين فلورنس. وظل الأسقف أنه مخلص في قوله، وكتب مكفيلي إلى مجلس السادة بحماسة غير دبلوماسية يقول:
إن هذا السيد جليل عظيم، وإنه ليبلغ من الجرأة حداً يبدو معه كل مشروع مهما عظم شأنه صغيراً في عينه. وهو يحرم نفسه من الراحة ليظفر بالمجد ويستحوذ على الأمصار، ولا يجد الخطر ولا التعب سبيلاً إلى نفسه. وهو يصل إلى المكان الذي يريده قبل أن يدرك الناس من نواياه؛ وهو يكسب محبة جنوده، وقد اختارهم من أحسن الناس في إيطاليا. وأدى هذا كله إلى نصره وقوته، وساعده على ذلك حظه الموفق على الدوام"(69).
وسلمت كميرينو في 20 يوليه إلى قواد سيزاري، وعادت الولايات البابوية بابوية كما كانت من قبل. وحكمها سيزاري بنفسه أو على أيدي نوابه حكماً صالحاً يبرر ما كان يدعيه من أنه تل عروش الطغاة؛ وبلغ من ذلك أن هذه المدن كلها، إذا استثنينا منها أربينو فائندسا، حزنت لسقوطه(70). وسمع سيزاري أن جيان فرنتشسيسكو جندساجا (أخا إلزبتا وزوج إزبلا) ذهب هو وجماعة من الأشخاص البارزين إلى ميلان ليستعدوا عليه لويس الثاني عشر، فأسرع باختراق إيطاليا، وواجه أعداءه، ولم يلبث أن استعاد رضا الملك (أغسطس سنة 1502). ومما هو جدير بالملاحظة أن يجمع أسقف، ومليك، ودبلوماسي اشتهر يجمع هؤلاء على الإعجاب بسيزاري ويؤمنوا بعدالة مسلكه وأهدافه. لكن إيطاليا كانت مع ذلك لا تخلو من رجال في أماكن مختلفة منها يتمنون سقوطه. فالبندقية مثلاً، وإن كانت قد منحته مواطنيتها الفخرية، لم يكن يسرها أن تعود الولايات البابوية قوية كما كانت من قبل، وأن تسيطر على جزء كبير من شاطئ البحر الأدريادي. وامتعضت فلورنس وهي تفكر أن فورلي التي لا تبعد عن أرضها أكثر من ثمانية أميال كانت في يدي شاب عبقري في شئون السياسة والحرب مجرد من الضمير ولا يحسب حساباً للعواقب. وعرضت بيزا عليه أن يتولى أمرها؛ فرفض هذا العرض في أدب؛ ولكن من يدري، فقد يبدل خطته كما بدلها وهو في طريقه لكميرينو. وربما كانت الهدايا التي بعثت بها إزبلا له ستاراً يخفي ما تشعر به هي ومانتوا من استياء لاغتصابه أربينو. ولقد خربت انتصاراته بيوت آل كولنا وسافلي، وكذلك آل أرسيني وإن لم يصب هؤلاء ما أصاب بيوت الأسرتين الأوليين، وكانوا جميعاً يترقبون الساعة التي يستطيعون فيها أن يكونوا حلفاً معادياً له. ولم يكن "أحسن رجاله"، الذين قادوا فيالقه ونالوا له النصر، واثقين من أن خطوته التالية لن تكون هي الهجوم على بلادهم هم أنفسهم، ومنها ما كانت تطالب به الكنيسة. وكان جيان بولو بجليوني ترتعد فرائصه فرقاً من استحواذ سيزاري على بورجيا، كما كانت ترتعد فرائص جيوفني بنتيفجليو لحكمه بولونيا؛ وكان باولو أرسيني، وفرانتشيسكو أرسيني، ودوق جرافيو يتساءلون كم من الزمن يمضي قبل أن يفعل سيزاري بآل أرسيني ما فعله بآل كولنا. وقد ثارت ثائرة فيتيلي بعد أن اضطر إلى التخلي عن أردسو، فدعا هؤلاء ومعهم ألفيرتو Oliveretto صاحب فرمو ويندلفو بيتروتشي صاحب سينا وممثلين لجويدوبلدو للاجتماع في لامجيوني La Mageone على بحيرة تراز ميني Lake Trasimeen (سبتمبر سنة 1502). واتفقوا في هذا الاجتماع على أن يوجهوا جيوشهم ضد سيزار ي فيقبضوا عليه، ويخلعوه، ويقضوا على حكمه في رومانيا وأقاليم التخوم، ويعيدوا الأمراء الذين تلت عروشهم. وكانت هذه مؤامرة قوية واسعة النطاق، لو أنها نجحت لكانت سبباً في القضاء على الخطط التي أحسن تدبيرها الإسكندر وولده.
وبدأت المؤامرة بسلسة من الانتصارات الباهرة. فقد نظمت الفتن في أربينو وكميرينو واستعين على تنظيمها بأهل المدينتين، وطردت الحاميات البابوية منهما، وعاد جويدوبلدو إلى قصره (18 أكتوبر سنة 1502)؛ ورفع الأمراء الساقطون رؤوسهم في كل مكان، وأخذوا يضعون الخطط لاستعادة ما كان لهم من سلطان. ووجد سيزاري فجاءة أن قواده يعصون أوامره، وأن قواه قد نقصت إلى حد يستحيل عليه معه أن يحتفظ بفتوحه، واسعفه الحظ في هذه الأزمة فمات الكردنال فيراري Ferrari، وأسرع الإسكندر فاستولى على الخمسين ألفاً من الدوقات التي تركها وراءه، وباع بعض المناصب التي كان الكردنال يتولاها، وأعطى ما حصل عليه إلى سيزاري، فبادر هذا بتجييش جيش جديد قوامة ستة آلاف جندي. وأخذ الإسكندر في ذلك الوقت يتفاوض وحده مع المتآمرين، وبذل لهم وعوداً سخية، ورد الكثيرين منهم إلى طاعته، فلم ينته شهر أكتوبر حتى عقدوا جميعهم الصلح مع سيزاري. وكان هذا عملاُ دبلوماسياً رائعاً مدهشاً؛ وقبل سيزاري معذرتهم بصمت المتشكك المرتاب، ولم يفته أن يلاحظ أن آل أرسيني لا يزالون يستولون على حصون دوقية أربينو وإن كان جويدوبلدو قد فر منها مرة أخرى.
وفي شهر ديسمبر حاصر قواد سيزاري تنفيذاً لأمره بلدة سنجاليا القائمة على البحر الأدرياوي، وسرعان ما استسلمت المدينة، ولكن قائد الحصن أبى أن يسلمه إلاّ لسيزاري نفسه، فأرسل رسولاّ إلى الدوق في سيسينا، فاستحث الخطى بإزاء الساحل ومن ورائه ثمانمائة من أشد جنوده إخلاصاً له. فلما بلغ سنجاليا حيا زعماء المؤامرة الأربعة - فيتيدلدسو فيتلي، وباولو، وفرانتشيسكو أرسيني، وألفرتو - تحية طيبة في الظاهر، ودعاهم إلى مؤتمر يعقدونها معه في قصر الحاكم؛ فما جاءوا أمر بالقبض عليهم، وأمر في تلك الليلة نفسها (31 ديسمبر سنة 1502) بخنق فيتلي وألفرتو. أما باولو وفرانتشيسكو أرسيني فقد أودعا السجن حتى يفاوض سيزاري أباه في شأنهما؛ ويبدو أن آراء الإسكندر كانت تتفق مع آراء ولده؛ وفي اليوم الثامن عشر من يناير أعدم الرجلان.
وازدهى سيزاري بضربته الحاذقة في سنجاليا؛ فقد كان يظن أن من حقه على إيطاليا أن تشكره إذ أنجاها بهذه الوسيلة الطريفة من أربعة رجال لم يكتفوا بأن يكونوا إقطاعيين مغتصبين لأراضي الكنيسة، بل كانوا فوق ذلك مستبدين رجعيين ظالمين لرعاياهم الضعفاء المساكين. ولربما أحس بقليل من وخز الضمير لأنه اعتذر عن فعلته لمكيفلي بقوله: "إن من الخير أن نقتنص الذين أثبتوا براعتهم في اقتناص غيرهم"(72). ووافقه مكيفلي على هذا أتم الموافقة؛ وكان في ذلك الوقت يرى أن سيزاري أعظم الناس بسالة وحكمة في إيطاليا كلها. ويرى باولو جيوفيو paolo Giovio، المؤرخ والأسقف، في القضاء على المتآمرين الأربعة "حيلة من أظرف الحيل"(73). وأرادت إزبلا دست أن تضمن لنفسها النجاة فأرسلت تهنئ سيزاري على فعلته، كما أرسلت إليه مائة قناع يتسلى بها "بعد كفاحه وتعبه في هذه الحملة المجيدة"، وأثنى لويس الثاني عشر على هذه الضربة ووصفها بأنها "عملاً خليقاً بأيام روما المجيدة(74)".
وكان في وسع الإسكندر وقتئذ أن يعبر عن غضبه الشديد من المؤامرة التي دبرت ضد ولده، ومن المدن التي استردتها الكنيسة، فادعى أن لديه من الأدلة ما يثبت أن الكردنال أرسليني قد ائتمر مع أقاربه لاغتيال سيزاري(75)، ثم أمر باعتقال الكردنال وطائفة أخرى من المشتبه فيهم (3 يناير سنة 1503)، واستولى على قصره وصادر كل أملاكه. وقضى الكردنال نحبه في السجن في الثاني والعشرين من فبراير، ولعل موته كان بسبب اهتياج أعصابه وانهيار قواه، وإن كانت روما تقول إن البابا قد سمه.
وأشار الإسكندر على سيزاري أن يستأصل شأفة آل أرسيني بأجمعهم من روما وكمبانيا؛ لكن سيزاري لم يكن مثله شديد الرغبة في هذا العمل، ولعله هو أيضاً كان منهوك القوى؛ فأجل عودته إلى العاصمة بعض الوقت، ثم شرع على كره منه (76) في محاصرة حصن جيوليو أرسيني الحصين في تشيري Ceri (14 مارس من عام 1503). واستخدم في هذا الحصار - ولعله استخدم في غيره أيضاً - بعض الآلات الحربية التي اخترعها ليوناردو. ومن هذه الآلات برج متحرك يتسع لثلاثمائة رجل، ويمكن رفعه إلى أعلى أسوار العدو(77). واستسلم جويليو، ورافق سيزاري إلى الفاتيكان يطلب إليها الصلح؛ وارتضى الإسكندر أن يصطلح على شرط أن ينزل آل أرسيني عن جميع قلاعهم في الأملاك البابوية؛ وقبل جويليو هذا الشرط. وكانت بروجيا وفيمو قد قبلتا في هدوء حاكمين عليهما بعث بهما سيزاري. ولم تكن بولونيا قد استردت بعد، لكن فيرارا ارتضت مسرورة أن تكون لكريدسيا دوقة لها. وإذا استثنينا هاتين الإمارتين الكبيرتين - وهما اللتان شغلتا خلفاء الإسكندر - استطعنا أن نقول إن البابوية استردت أملاكها بتمامها، وبهذا وجد سيزاري بورجيا نفسه وهو في الثامنة والعشرين من عمره يحكم مملكة لا يضارعها من حيث اتساع رقعتها في شبه الجزيرة إلاّ مملكة نابلي؛ وأجمع الناس كلهم على أنه أقوى رجال إيطاليا وأعلاهم شأناً.
وظل بعدئذ وقتاً ما هادئاً هدوءاً غير معتاد في الفاتيكان. ولقد كنا نتوقع أن يرسل في ذلك الوقت في طلب زوجته، ولكنه لم يفعل. وكان قد تركها في فرنسا عند اسرتها، وكانت قد ولدت له طفلاً في أثناء غيابه
في الحرب؛ وكان يكتب إليها ويرسل لها الهدايا أحياناً، ولكنه لم يرها بعد قط. وعاشت دوقة فالنتنوا عيشة متوسطة منعزلة في بورج Bourge أو في قصر لاموت في La Motte feuilly في الدوفينيه؛ يداعبها الأمل في أن يبعث في طلبها أو أن يأتي هو إليها.ولمّا أن نكب وتخلى عنه من حوله حاولت أن تذهب هي إليه، ولمّا مات علقت الستر السوداء على بيتها، وظلت تلبس ثياب الحزن عليه حتى توفيت. ولعله كان يبعث في طلبها فيما بعد لو أنه أتيحت له فترة من السلم دامت أكثر من بضعة أشهر، وأكثر من هذا احتمالاً أنه لم يكن ينظر إلى زواجه بها إلاّ على أنه صفقة سياسية لا أكثر، وأنه لم يكن يشعر نحوها بشيء من الحنان. ويبدو أنه لم يكن بفطرته حنوناً إلاّ بقدر معتدل، وأنه كان يحتفظ بهذا القدر للكريدسيا التي كان يحبها حباً هو كل ما يستطيع أن يحب به امرأة. وشاهد ذلك أنه وهو يسرع من أربينو إلى ميلان مع لويس الثاني عشر ليخادع بذلك أعداءه، خرج عن خط سيره ليزور أخته في فيرارا وكانت وقتئذ في أشد حالات المرض. ووقف عند فيرارا مرة أخرى وهو عائد من ميلان، واحتضنها بين ذراعيه، بينما كان الأطباء يحجمونها، وبقى معها حتى زال عنها الخطر(78). وجملة القول أن سيزاري لم يكن قد خلق للزواج؛ وكانت له عشيقاته، ولكن عشقه لم يدم لأيهن طويلاً؛ وسبب ذلك أن حرصه على السلطان كان يستنفذ كل جهوده، فلا يترك لأية امرأة مكاناً تنفذ منه إلى نفسه وتستولي على عواطفه.
ولمّا كان في روما كان يعيش معيشة العزلة، ويكاد يكون مختفياً عن الناس؛ وكان يقضي الليل في العمل وقلما كان يراه أحد بالنهار. ولكنه كان يشتغل بجد حتى في الوقت الذي يبدو أنه يستريح فيه من عناء الأعمال؛ وكان يفرض رقابة شديدة على عماله في الولايات البابوية، ويعاقب من يسيئون استخدام سلطتهم، وأمر بإعدام واحد منهم لقسوته واستغلاله نفوذه؛ وكان على الدوام يجد من الناس من يحتاجون إلى أن يعلمهم كيف يحكمون رومانيا أو يحافظون على النظام في روما. وكان الذين يعرفونه يقدرون ذكاءه، وقدرته على أن ينفذ مباشرة للب الموضوع الذي يعالجه، واغتنامه كل فرصة تتيحها له الظروف وإقدامه على العمل السريع الحاسم المثمر. وكان محبوباً من جنده، لأنهم كانوا يعجبون في السر بنظامه الذي ينجيهم من المهالك بقسوته: وكانوا يوافقون كل الموافقة على كل ما يلجأ إليه من الرشا، وأساليب المكر والخداع التي قلل بها من عدد أعدائه وأضعف بها عنادهم، وأنقص من عدد المعارك الحربية التي خاضها جنوده وعدد قتلاهم فيما خاضوه منها(79). وكان الدبلوماسيون يغصبون إذ يجدون أن هذا القائد الشاب السريع الحركة الذي لا يهاب الردى يفوقهم في القدرة على التفكير والمحاجة والدهاء، وأن في مقدوره إذا دعت الحاجة أن يكون مثلهم في الكياسة والفصاحة والفتنة.
وقد جعلته نزعته إلى السرية هدفاً سهلاً للهجائين في إيطاليا، وللشائعات الوقحة التي كان في وسع السفراء المعادين أو الأشراف الساقطين أن يخترعوها عنه أو ينشروها. وليس في استطاعتنا الآن أن نميز الحقيقة من الخيال في هذه التهم الفظيعة. ومن هذه الأقوال الواسعة الانتشار أنه كان من عادة الإسكندر وولده أن يعتقلا الأغنياء من رجال الكنيسة لتهم تذاع عنهم، ثم يطلقاهم إذا أدوا مبالغ كبيرة من المال فدية أو غرامة. فقد قيل مثلاً إن أسقف تشيوينا سجن في قلعة سانت أنجيلو بدعوى أنه ارتكب جريمة لم تذع حقيقتها، ثم أطلق سراحه بعد أن دفع للبابا عشرة آلاف دوقة(81).
وليس في وسعنا أن نقول أهذه عدالة أم لصوصية؛ ولكننا إنصافاً للإسكندر يجب ألاّ ننسى أنه كان من عادة المحاكم الكنسية والمدنية في تلك الأيام أن تحم في الجرائم بغرامات كبيرة تؤدى للمحكمة بدل السجن الذي يكلف الدولة نفقات باهظة. ويقول جوستنياني سفير البندقية وفيتوربو سوديرني سفير فلورنس إن اليهود كثيراً ما كانوا يعتقلون متهمين بالإلحاد، وإن الطريقة الوحيدة التي يستطيعون بها إثبات إيمانهم هي أداء مبالغ ضخمة للخزانة البابوية(82). وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن روما اشتهرت في تلك الأيام بحسن معاملة اليهود، ولم يكن أي يهودي يعد من الملاحدة، أو يقدم لمحكمة التفتيش لأنه يهودي.
وتتهم كثير من الشائعات آل بورجيا بتسميم الكرادلة لتعجل بعودة ضياعهم إلى الكنيسة. وخيّل إلى الناس أن بعض هذه الحوادث ثابت صحيح - يؤيد صحته التواتر لا البراهين - ولذلك ظل المؤرخون البرتستنت بوجه عام يصدقونه حتى زمن يعقوب بركها ردت (1818-1897) الفطن الأريب(83)؛ وكان باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي يعتقد أن "من الأمور المرجحة كل الترجيع أن سيزاري سم ميشيل ليحصل بذلك على ما يريده من المال"(84). وقد بنى حكمه هذا على أن مساعد شماس في عهد يوليوس الثاني (وهو الشديد العداء للإسكندر) يدعى أكوينو دا كلوريدو Aquino da Colloredo أقر بعد أن عذب أنه سم الكردنال ميشيل بتحريض الإسكندر وسيزاري(85). وقد يعذر مؤرخ في القرن العشرين إذا شك في اعترافات تنتزع من صاحبها بالتعذيب؛ ولقد أثبت إحصائي مغامر أن نسبة الوفيات بين الكرادلة لم تكن في أيام الإسكندر أعلى منها في العهود السابقة له أو اللاحقة(86)؛ ولكن الذي لا شك فيه أن روما كانت في الثلاث السنين الأخيرة من حكمه ترى أن أشد الأخطار أن يكون الرجل كردنالاً وغنياً(87). وقد كتبت إزبلا دست إلى زوجها تحذره بأن يكون حريصاً كل الحرص فيما يقوله عن سيزاري لأنه " لا يتردد مطلقاً في أن يدبر المؤامرات للقضاء على ذوي قرباه"(88). والظاهر أنها
صدقت القصة التي تروى عن قتله دوق غنديا. وكان الثرثارون من أهل روما يتحدثون عن سم بطيء المفعول يسمونه الكنتريلا Cantarela أهم عناصره الزرنيخ، ويقولون إنه إذا وضع مسحوقه في الطعام أو الشراب - وحتى في نبيذ العشاء الرباني نفسه - فإنه يحدث موتاً بطيئاً يصعب تبع سببه. غير أن المؤرخين في هذه الأيام يرفضون بوجه عام ما يروى من القصص عن الموت البطيء في أيام النهضة ويرون أنها من خلق الخيال، وإن كانوا يعتقدون أن آل بورجيا في حالة أو حالتين قد سموا بعض الكرادلة الأغنياء"(89) . وقد تؤدى البحوث في مستقبل الأيام إلى تكذيب هذه الحالات بأجمعها.
قصة الحضارة ج20 ص103-121، النهضة -> النهضة في رومة -> آل بورجيا -> سيزاري بورجيا
 
البابا ابن الحرام إسكندر السادس متعفن عند موته
:"وتوفي البابا في الثامن عشر من أغسطس؛ وما لبثت جثته أن أصبحت سوداء اللون كريهة الرائحة، تؤيد زعم من يشيعون بأنه مات مسموماً. ويقول بركهارد إن النجارين والمجدفين كانوا يتفكهون، ويجدفون وهم يجدون من الصعب عليهم أن يحشروا الجثة المنتفخة في التابوت الذي أعد لها(111). ويضيف الثرثارون أنهم رأوا شيطاناً صغيراً ساعة أن مات الإسكندر يحمل روحه إلى الجحيم(112).
وأبتهج أهل روما لموت البابا الأسباني؛ وانتشر الشغب في المدينة، وطرد "القطلانيون" منها أو قتلوا وهم في طريقهم إلى خارجها، ونهب الغوغاء بيوتهم، وحرق مائة بيت منها. ودخل المدينة جنود آل كولنا وأرسني المسلحون في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من أغسطس غير عابئين باحتجاج مجمع الكرادلة. وفي ذلك يقول جوتشيارديني الوطني الفلورنسي:
"وتجمع أهل روما بسرعة لا يكاد يصدقها الإنسان، وتزاحموا حول جثة الباب في كنيسة القديس بطرس، ولم يكن في مقدورهم أن يشبعوا عيونهم من منظر ذلك الأفعوان الهالك الذي طمس على قلوب العالم كله، وأعمى بصائره بمطامعه التي تجاوزت كل حد، وبغدره البغيض، وما أرتكبه من أعمال القسوة الرهيبة التي لا يحصى لها عدد، وفجوره الوحشي، وعرضه للبيع كل ما هو مقدس وغير مقدس دون تفرقة بين هذا
وذاك(113). ويتفق مكيفلي مع جوتشيارديني فيقول إن الإسكندر:
لم يؤثر عنه إلاّ الخداع، وإنه لم يكن يفكر في غير هذا طول حياته كلها، ولم يقسم قط إنسان أيماناً أقوى من أيمانه بإنجاز الوعود ثم ينقض هذه الأيمان فيما بعد، ولكنه مع هذا نجح في كل شيء لأنه كان ملماً كل الإلمام بهذا الجزء من العالم(114).
وقد بينت هذه الأحكام على فرضين أساسيين أولهما أن القصص التي كانت تروى في روما عن الإسكندر صادقة، وثانيهما أن الإسكندر لم يكن محقاً في سلوك السبل التي سلكها لاستعادة الولايات البابوية. ويشترك المؤرخون الكاثوليك في الطعن على أساليب الإسكندر وأخلاقه، وإن كانوا يدافعون عن حقه في استعادة سلطان البابوية الزمني. ومن ذلك ما يقول باستور الأمين:
"إن الناس بوجه عام يصفونها بأنه حيوان لا إنسان، ويلصقون به كل أنواع الجرائم الشنيعة. ولكن البحث النقدي الحديث يحكم عليه حكماً أعدل من هذا،وينفي عنه بعض ما يلصق به من أشنع التهم؛ غير أننا وإن كان م واجبنا أن نكون حذرين في قبول القصص التي يرويها معاصرو الإسكندر عنه دون بحث وتحقيق، وإن كان الفكهون الحاقدون من الرومان قد وجدوا متعة لهم في أكل لحمه ميتاً دون رحمة، فوصفوا حياته في مطاعنهم الشعبية ونكاتهم الشعرية أوصافاً قذرة لا يصدقها إنسان، نقول إنه وإن كان من واجبنا أن نكون حذرين في قبول هذا كله فإن ما ثبت عليه من هذه التهم ليضطرنا إلى رفض ما يبذل في هذا الأيام من محاولات ترمي إلى تبرئته، لأن في هذه المحاولات عبثاً بالحقيقة لا يليق... ويستحيل علينا من وجهة النظر الكاثوليكية أن نتجاوز الحد اللائق في لوم الإسكندر وتعنيفه.
وكان المؤرخون البروتستنت كراماً في حكمهم إلى الإسكندر، فاصطنعوا معه اللين في بعض الأحيان. فقد كان وليم رسكو William Roscoe من أوائل الذين قالوا كلمة طيبة عن البابا وذلك في كتابه الشهير حياة ليو العاشر وبابوية (1827):
"مهما تكن جرائمه، فإن الذي لا شك فيه إنها قد بولغ فيها كثيراً، فليس ثمة من ينكر أنه قد صرف جهوده في رفع شأن أسرته، وأنه استخدم السلطة التي أسبغها عليه منصبه في فرض سيطرته الدائمة على إيطاليا في شخص ابنه، ولكن يبدو أننا نظلم الإسكندر إذا وصمناه بقسط خاص غير عادي من السفالة والإسفاف في الوقت الذي كان فيه أمراء أوربا كلهم تقريباً يحاولون تحقيق مطامعهم بوسائل لا تقل إجراماً عن وسائله. فينا كان لويس ملك فرنسا، وفرديناند ملك أسبانيا يتآمران للاستيلاء على مملكة نابلي واقتسامها بينهما، ويستخدمان في ذلك أساليب من الغدر لا يمكن أن نوفيها ما تستحقه من المقت واللعنات، فإن للإسكندر بلا ريب أن يظن نفسه محقاً في كبح جماح البارونات المشاكسين، الذين ظلوا أجيالاً طوالاً يمزقون أملاك الكنيسة بالحروب الداخلية،و في إخضاع صغار الأمراء في رومانيا، وهم الذين كانوا يعترفون له بحق السيادة عليهم، والذين حصل معظمهم على أملاكهم بوسائل لا نجد لها ما يبررها، وهي أبعد عن العدالة من الوسائل التي استخدمها هو ضدهم. أما التهم التي يعتقد بصدقها كثيرون من الناس، وما يعزى إليه من الصلة الإجرامية بينه وبين أخته... فليس من العسير أن نثبت بعدها عن الصواب. يضاف إلى هذا أن رذائل الإسكندر كان يصحبها، وإن لم يعوضها، كثير من الصفات الطيبة العظيمة التي يجب ألاّ نم بها صامتين في حكمنا على أخلاقه... وإن أشد الناس عداوة لها لا ينكرون أنه ذو عبقرية فذة، وذاكرة عجيبة، وأنه كان فصيح اللسان، يقظاً، بارعاً في تصريف جميع شئونه(116)".
وقد أوجز الأسقف كريتن Creighton أخلاق الإسكندر وأعماله بما يتفق بوجه عام مع حكم رسكو عليه، وكان أكثر رأفة به من باستور(117). وثمة حكم آخر متأخر عن حكم هؤلاء جميعاً وهو أرحم به منهم ونعني حكم العالم البروتستنتي رتشرد جارنت Richard Garnett في تاريخ كيمبردج الحديث: "لقد كسبت أخلاق الإسكندر بلا ريب من بحوث المؤرخين المحدثين. وقد لكان من الطبيعي أن يظهر بمظهر الظلم والفجور رجل اتهم بهذه الجرائم الكثيرة، وكان بلا ريب مصدر الكثير من الفضائح. غير أ، هذا الوصف أو ذلك لا يليق به. لقد كان العامل الأساسي في أخلاقه كلها فطرته الغزيرة الفياضة. ويسميه سفير البندقية الرجل "الجسدي" وهو لا يقصد بهذا أن يعزو إليه أية نقيصة من النقائص الخلقية، بل يقصد أنه رجل حاد الطبع، عاجز عن السيطرة على عواطفه وانفعالاته النفسية. وكانت طبيعته هذه مبعث الحيرة للإيطاليين الهادئين غير دوي العواطف الجياشة من رجال الصنف الدبلوماسي الذي يكثرون بين الحكام ورجال السياسة؛ وقد أساءوا كثيراً إلى الإسكندر بعجزهم عن فهمه على حقيقته، مع أنه في واقع الأمر لم يكن أقل إنسانية من معظم أمراء زمانه بل كان يفوقهم كثيراً في هذا المجال. وكانت هذه الغريزة الجسدية العارمة مصدر كثير من الخير والشر فيه. ذلك أنها قد ساقته إلى شهوانية عارمة من نوع ما، وإن كان في نواح أخرى معتدلاً زاهداً، وسبب ذلك أنه لم تكن تقيده مبادئ أخلاقية قوية أو أفكار روحية مستمدة من الدين. أما في صورتها التي هي أدعى إلى الإجلال والتقدير، وهي حبه لأسرته فقد ساقته هذه النزعة إلى الاعتداء على جميع مبادئ العدالة، وإن لم يفعل حتى في هذه الناحية أكثر من قيامه بعمل ضروري محتوم لا يمكن أداؤه "بالماء المقدس" كما قال أحد عماله. لكن دماثة أخلاقه ومرحه قد أبعداه عن الاستبداد بالمعنى العادي لهذا اللفظ... فقد كان في العادة يعنى بمصالح شعبه من الناحية المادية، ولهذا يعد منخير الحكام في زمانه، وكان في حكمه يضارع خير حكام تلك الأيام من الناحية العملية. غير أن عدم تقيده في سياسته بالمبادئ الأخلاقية قد أفسد عليه ما كان يستطيع أن يدركه ببصيرته القوية النفاذة، ذلك أنه كانت تعوزه الحكمة العليا التي تمكنه من أن يدرك خصائص الفترة التي يعيش فيها ويتنبأ بمجريات أمورها، ولم يكن يعرف للمبدأ معنى"(118).
والذين لهم ما للإسكندر من إحساس مرهف بمفاتن النساء ورشاقتهن لا تطاوعهم نفوسهم على أن يقذفوه بالحجارة بسبب عشقه وهيامه بالنساء، ذلك أن ما يؤخذ عليه في هذه الناحية قبل أن يرتقي عرش البابوية لم يكن فيه من الفضائح أكثر مما في مغامرات إينياس سلفيوس Aeneas Sylius المحب إلى المؤرخين، أو يوليوس الثاني الذي أكرمته الأيام فغفرت له آثامه. ولم يسجل التاريخ أن هذين البابوين قد عينا بعشيقاتهما وأبنائهما كما عنى الإسكندر بعشيقاته وأبنائه. والحق أن الجو الذي كان يحيط بالإسكندر كان فيه من خصائص الأسرة والمنزل ما كان يجعله رجلاً خليقاً بالاحترام إلى حد ما، لو أن قوانين الكنيسة وعادات إيطاليا في عصر النهضة، وألمانيا وإنجلترا في زمن الإصلاح الديني، قد أجازت زواج رجال الدين. ذلك أن خطاياه لم تكن خطايا ارتكبها ضد الطبيعة البشرية، بل كانت ضد القواعد التي تلزم رجال الدين بأن يظلوا عزاباً، وهي القواعد التي رفضها نصف العالم المسيحي بعد قليل من ذلك الوقت. وليس في مقدورنا أن نقول إن صلته بجويليا فرنيزي كانت صلة جسدية؛ ومبلغ علمنا أن فائندسا، ولكريدسيا، وزوج جويليا لم يعترضوا قط على هذه الصلة؛ ولعلها لم تكن أكثر من المتعة البسيطة التي يجدها الرجل السوي فيما تستمتع به امرأ ة جميلة من جاذبين ومرح وحيوية.
ومن واجبنا حين نحكم على أعمال الإسكندر السياسية أن نفرق بين غاياته ووسائله. فأما غاياته فقد كانت كلها غايات مشروعة- هي استعادة "ميراث الرسول بطرس" (وأهم ما فيه لا تيوم القديمة) من البارونات الإقطاعيين أصحاب النظام الفاسد المضطرب،وأن يسترد من الطغاة المغتصبين الولايات التي هي من أملاك الكنيسة من أقدم الأزمنة. وأما الوسائل التي استعان بها الإسكندر وسيزاري على تحقيق هذه الغايات فقد كانت هي بعينها التي استعانت بها جميع الدول الأخرى في ذلك الوقت وذلك المكان - الحرب، والدبلوماسية، والخداع، والغدر، وخرق المعاهدات، والتخلي عن الحلفاء. لقد كان ترك الإسكندر الحلف المقدس، وشراؤه الجنود الفرنسيين والمعونة الفرنسية بتسليم ميلان لفرنسا، من الجرائم الكبرى في حق إيطاليا؛ وأن هذه الوسائل لتشمئز منها نفوسنا إذا استخدمها البابا تعهد أن يحافظ على مبادئ المسيح. وأياً كان الخطر الذي تتعرض له الكنيسة في أن تصبح خاضعة لسلطان حكومة مسيطرة عليها - كما خضعت لفرنسا أيام وجودها في افنيون - إذا ما فقدت أملاكها، فقد كان أفضل لها أن تضحي بسلطتها الزمنية كلها، وأن تعود فقيرة كما كان صيادو الجليل، من أن تلجأ إلى الأساليب الدنيوية لتحقيق أغراضها السياسية. ذلك أنها حين لجأت إلى هذه الوسائل ووفرت لها ما يلزمها من المال قد كسبت دولة وخسرت ثلث العالم المسيحي.
ولنعد إلى سيزاري بورجيا فنقول إنه بعد أن شفى شفاءً بطيئاً من المرض الذي قضى على حياة البابا، وجد نفسه محوطاً بما لا يقل عن عشرة أخطار لم يكن يتوقعها. ومن ذا الذي كان يتنبأ بأنه هو وأباه سيعجزان كلاهما عن العمل في وقت واحد. فبينا كان الأطباء يحمونه استرد آل كولنا المخلوعون من رومانيا، تشجعهم البندقية يطالبون باستعادة إماراتهم؛ وكان غوغاء روما الذين أفلت الآن زمامهم بعد أن مات الإسكندر يتحفزون لنهب الفاتيكان في أية لحظة من اللحظات. وينهبون الأموال التي يعتمد عليها سيزاري في أداء رواتب جنده. فلم ير سيزاري بداً من أن يرسل عدداً من الرجال المسلحين إلى الفاتيكان؛ وأرغم هؤلاء الكردنال كسانوفا Cassanuova بقوة السيف على أن يسلمهم ما في الخزانة من الأموال؛ وهكذا فعل سيزاري ما فعله يوليوس قيصر قبل خمسة عشر قرناً من ذلك الوقت. فقد جاء إليه الجند بمائة ألف دوقة ذهباً، كما جاءوا إليه بصحاف وجواهر قيمتها ثلاثمائة ألف دوقة؛ وأرسل في الوقت عينه سفناً وجنوداً ليمنع بها الكردنال جوليانو دلا روفيري أقوى أعدائه من الوصول إلى روما؛ وكان يحس بأنه إن لم يستطع إقناع المجمع المقدس بانتخاب بابا من أنصاره فقد ضاعت كل آماله.
وأصر الكرادلة على أن يجلو جنود سيزاري وآل أرسيني وكولنا عن روما حتى يستطيعون أن يختاروا البابا الجديد في جو خال من الإرهاب. ووافق الأطراف الثلاثة على هذا المطلب، فانسحب سيزاري ورجاله إلى تشفيتا كستلانا Civita Castellana، في الوقت الذي دخل فيه الكردنال جوليانو روما، وتزعم في مجمع الكرادلة القوى المعادية لآل بورجيا. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1503 اختارت الأحزاب المتنافسة. في مجمع الكردنال فرانتشيسكو بكولوميني Francesco Piccolomini بابا مرضاة لجميع الأطراف المتنازعة، وتسمى باسم بيوس الثالث،تكريماً لعمه إبنياس سلفيوس. وكان بيوس رجلاً غزير العلم طيب الخلق، وإن كان أيضاً أباً لأسرة كبيرة(119). وكان وقتئذ في الرابعة والستين من عمره مصاباً بخراج في ساقه. وكان من أصدقاء سيزاري ولذلك سمح له بالعودة إلى روما، ولكن بيوس مات في الثامن عشر من شهر أكتوبر.
قصة الحضارة ج20 ص130-136، النهضة -> النهضة في رومة -> آل بورجيا -> انهيار سلطان آل بورجيا
 
القائد العسكري -صار بابا ايضا! وهو يوليوس الثاني 1503 - 1513 - صار او كان القائد العسكري للبابا -إسكندر السادس-ابن الحرام أو الآثم بتعبير ديورانت، والباباوية لم تكن منصب روحي فقط وانما قيادة دول بالحديد والنار ضد اخوانهم المسيحيين
النص التالي نموذج وهو في سياق ماسبق
:"إذا ما وضعنا أمامنا صورة رفائيل الفاحصة العميقة ليوليوس الثاني حكمنا من فورنا بأن جوليانو دلا روفيرى كان من أقوى الشخصيات التي جلست على كرسي البابوية...وهذا هو الرجل الذي ظل عشر سنين يقذف بإيطاليا في أتون الحرب والاضطراب، والذي حررها من الجيوش الأجنبية، وهدم كنيسة القديس بطرس القديمة، واستدعى برامنتى ومائة غيره من الفنانين إلى رومة؛ وكشف، ونمى، ووجه مايكل أنجيلو ورفائيل، وقدم للعالم على أيديهم كنيسة للقديس بطرس جديدة، وسقفاً جديداً لمعبد سستينى وقاعات الفاتيكان. ذلك رجل ليس كمثله كثيرون في الرجال.
وأكبر الظن أن طبعه الحاد كان يميزه منذ نشأته. وكان مولده بالقرب من سافونا Savona، لسكستس الرابع، وقد وصل إلى الكردنالية في السابعة والعشرين من عمره، وظل فيها قلقاً ساخطاً ثلاثا وثلاثين سنة قبل أن يرقى إلى المنصب الذي كان يرى أنه حقه الواضح، ولم تكن عنايته باليمين التي أقسمها بأن يبقى عزباً أكثر من عناية معظم زملائه(1) فقد قال كبير حجابه في الفاتيكان بعدئذ إن يوليوس الثاني لم يكن يسمح بأن تقبل قدمه لأن "المرض الفرنسي" كان يشوهها(2). وكانت له ثلاث بنات غير شرعيات(3)، ولكن مشاغله الكثيرة في محاربة الإسكندر لم تكن تتيح له وقتا ما لإظهار العطف الأبوي الذي كان يظهره الإسكندر نفسه والذي كان يغضب المنافقين من بني الإنسان. وكان يكره الإسكندر لأنه في رأيه دخيل إسباني، ولا يرى أنه يليق للبابوية، ويسميه نصابا، ومغتصبا(4)، وقد بذل كل ما في وسعه لخلعه، ولم يتورع حتى من استعداء فرنسا على إيطاليا ودعوتها إلى غزوها. وكان الإسكندر يشن الحرب باسمه أما يوليوس فكان يخوضها بشخصه، فقد لصبح البابا ابن الستين من العمر جنديا، وكان ارتداء الثياب العسكرية أيسر له من المسوح البابوية، وكان يحب المعسكرات وحصار المدن، وتصويب المدافع ومشاهدة الهجمات توجه أمام عينيه. وكان يسع الإسكندر أن يعبث ويلعب؛ أما يوليوس فكان يجد اللعب من أشق الأعمال لأنه يحب أن يواجه الناس برأيه فيهم؛ "وكثيراً ما كانت لغته تتجاوز كل الحدود في وقاحتها وعنفها" و "كان هذا العيب يزداد زيادة واضحة كلما تقدمت به السن"(5). ولم تكن شجاعته، كما لم تكن لغته، تعرف لها حدا؛ وكان حين تنتابه العلة المرة بعد المرة أثناء حروبه يحير أعداءه إذ يستعيد صحته وينقض عليهم مرة أخرى... كان يحذو حذو الإسكندر في بيع المناصب الكنسية والترقي إلى الدرجات العليا فيها، وقد أغضب ألمانيا ببيع صكوك الغفران وبناء كنيسة الرسول بطرس(6). وكان حسن الإدارة لموارده المالية، وينفق المال في شؤون الحرب وعلى الفن في وقت واحد، وترك لليو في خزانته بعض المال الزائد على حاجته. وقد أعاد النظام الاجتماعي إلى روما بعد أن ضعف هذا النظام في السنين الأخيرة من بابوية الإسكندر، وحكم ولايات الكنيسة حكما صالحا امتاز بالحكمة في تعيين الموظفين وحسن توجيههم؛ وسمح لآل أرسيني وكولنا بالعودة إلى احتلال حصونهم، وسعى لكسب ولاء هاتين الأسرتين القويتين بالزواج بينهما وبين أقاربه.
ولما ارتقى كرسي البابوية وجد ولايات الكنيسة مضطربة، ووجد أن نصف أعمال الإسكندر وسيزاري بورجيا قد تصدعت؛ فقد استولت البندقية على فائندسا، ورافنا، وريميني (1503)، وعاد جيوفني اسفوردسا إلى بيزارو، وأصبح آل بجليوني مرة أخرى سادة في بروجيا، وآل بنتيفجلي سادة في بولونيا. وكان ما فقده من إيراد هذه المدن يهدد الإدارة البابوية بالإفلاس، وكان يوليوس يتفق مع الإسكندر في أن استقلال الكنيسة الروحي يتطلب امتلاكها الدائم للولايات البابوية؛ وارتكب من أول الأمر الخطأ الذي ارتكبه الإسكندر إذ استعان بفرنسا - وبألمانيا وإسبانيا أيضاً- على أعدائه الإيطاليين. ووافقت فرنسا على أن ترسل ثمانية آلاف من جنودها نظير تعيين ثلاثة من رجالها الدينيين في مناصب الكرادلة؛ ووعدت نابلي، ومانتوا، وأربينو، وفيرارا، وفلورنس بأن ترسل إمدادات صغيرة. وفي أغسطس من عام 1506 خرج يوليوس من روما على رأس قوته الصغيرة -المكونة من أربعمائة فارس، ومن حرسه السويسري، وأربعة كرادلة. وعين جويدو يلدو، دوق أربينو الذي عاد إلى حكمها، قائداً عسكرياً للجيوش البابوية، ولكن البابا سار على رأسها بنفسه- وكان ذلك منظراً لم تره روما من عدة قرون. وظن جيان باولو بجليوني أنه لا يستطيع هزيمة هذا الحلف، فجاء إلى أرفيتو، واستسلم للبابا، وطلب إليه المغفرة. وزمجر الإسكندر قائلا: "إني أغفر لك خطاياك الجسدية ولكني سأعاقبك عليها جميعا حين ترتكب أول خطيئة صغرى"(7).
واعتمد يوليوس على سلطته الدينية فدخل بروجيا بحرس قليل العدد، وكان في استطاعة بجليوني أن يأمر رجاله بالقبض عليه وإغلاق أبواب المدينة وهو في داخلها، ولكنه لم يجرؤ على هذا العمل. ودهش مكيفلي، وكان وقتئذ قريباً منه، إذ أضاع بجليوني هذه الفرصة التي كان يستطيع فيها أن "يعمل عملاً خالد الذكر؛ فقد كان في وسعه أن يكون أول من يظهر للقساوسة عدم احترام الناس لمن يحيا حياتهم ويحكم مثل حكمهم، وكان في مقدوره أن يضرب ضربة تبلغ من العظمة حدا يرجح ما فيها من إثم، وكل ما قد يعقبها من أخطار"(8). وكان مكيفلي يعارض في أن تكون للبابوية سلطة زمنية كما كان يعارض في ذلك معظم الإيطاليين، ويعارض كذلك البابوات الذين كانوا ملوكاً. ولكن بجليوني كان أيضاً يخشى على حياته ويعرف قيمها، ولعله كان يرى أن نجاة روحه أجل شأناً من شهرته بعد موته.
ولم يقض يوليوس في بروجيا إلا وقتاً قصيراً، فقد كانت بولونيا هدفه الحقيقي؛ ولهذا قاد جيشه الصغير في الطرق الوعرة واجتاز به جبال الأبنين إلى سيزينيا، ثم انقض على بولونيا من الشرق؛ بينما كان الفرنسيون يهاجمونها من الغرب. وأيد يوليوس هذا الهجوم بمرسوم بابوي يقضي بحرمان آل بنتيفجلي وأشياعهم، ويعرض فيه الغفران الشامل على كل من يقتل أي واحد منهم. وكان هذا طرازاً جديداً من الحرب، ولم يجد معه بنتيفجلي بدا من الفرار، ودخل يوليوس المدينة في هودج محمول على أكتاف الرجال، وحياه أهلها تحية محررهم من الظلم والاستبداد (11 نوفمبر سنة 1506). فلما تم له ذلك أمر مايكل أنجيلو بأن يقيم له تمثالاً في مدخل سان بيترونيو San Petronio، وعاد بعدئذ إلى روما وسار في شوارعها راكباً عربة النصر وحياه أهلها تحية قيصر المنتصر.
ولكن البندقية كانت لا تزال تمتلك فائندسا، ورافنا، وريميني؛ وكانت عاجزة عن أن تقدر روح البابا الحربية. وجازف يوليوس بإيطاليا في سبيل الاستيلاء على رومانيا، فاستنجد بفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا لإخضاع البندقية ملكة البحر الأدرياوي. وسنرى فيما بعد استجابتها في حلف كمبريه (1508) لهذه الدعوة، وأنهم لم يحرصوا على مساعدة يوليوس بل كانوا يحرصون على تقطيع أوصال إيطاليا؛ أما يوليوس فإنه بانضمامه إلى تلك الدول قد غلب غضبه الحق من البندقية على حبه إيطاليا. وبينما كان حلفاؤه يهاجمون البندقية بجيوشهم وجه إليها يوليوس مرسوماً بالحرمان واللعنة يعد من أصرح المراسيم وأقواها في التاريخ كله. وكتب النصر ليوليوس، وردّت البندقية المدن المختلسة إلى الكنيسة، وقبلت أشد الشروط إذلالاً لها، وتلقى مندوبوها غفران البابا ومحو اللعنة في موكب طويل آلم أرجلهم وركبهم أشد الألم (1510). وندم يوليوس في ذلك الوقت على استنجاده بالفرنسيين، فبدل سياسته معهم وأخذ يعمل على طردهم من إيطاليا، وأقنع نفسه بأن الله يبدل سياسته المقدسة تبعاً لهذا. ولما أن أبلغه السفير الفرنسي نبأ انتصار الفرنسيين على البنادقة، وأضاف إلى هذا النبأ أن "هذه إرادة الله" رد عليه يوليوس مغضباً بقوله "إن هذه إرادة الشيطان".
ثم حول نظراته العسكرية نحو فيرارا. فها هي ذي إقطاعية بابوية لا ينكر أحد تبعيتها له، ولكن الإسكندر اكتفى منها بعد خطبة لكريدسيا بجزية رمزية. يضاف إلى هذا أن الدوق ألفنسو، بعد أن انضم إلى فرنسا في الحرب ضد البندقية بناء على طلب البابا، رفض أن يعقد الصلح معها بناء على طلب البابا نفسه، وبقى حليفاً لفرنسا. ولهذا صمم يوليوس على أن تصبح فيرارا ولاية بابوية بقضها وقضيضها. وبدأ حملته بمرسوم بابوي بحرمانها من حظيرة الكنيسة (1501)، وبهذا المرسوم أصبح صهر أحد البابوات ابناً جائراً ومصدر
هلاك ودمار في نظر بابا آخر. واستولى يوليوس على مودينا دون عناء كبير، وبمساعدة البندقية. وبينما كان جنود البابا يستريحون في المدينة ارتكب هو خطأ موبقاً بذهابه إلى بولونيا؛ حيث وردت إليه الأنباء على حين غفلة بأن جيشاً فرنسياً يقف على أبوابها بأوامر تقضي بمساعدة ألفنسو. ولم يكن في وسع الجيوش البابوية أن تقوم بمساعدته لبعدها وقتئذ عن المدينة، ولم يكن في داخل بولونيا أكثر من تسعمائة جندي، كما أنه لم يكن من المستطاع الاعتماد على مقاومة أهل المدينة للغزاة الفرنسيين لأن المندوب البابوي الكردنال ألدوزي Alidosi كان قد سامهم الخسف. وتملك اليأس فترة من الوقت يوليوس وكان وقتئذ مصاباً بالحمى وطريح الفراش، ففكر في أن يتجرع السم(10)، وأوشك أن يوقع مع فرنسا صلحاً مذلاً، وإذا المدد يصل إليه من إسبانيا والبندقية. وارتد الفرنسيون، وبعث يوليوس وراءهم بمنشور مقذع يحرمهم فرداً وجماعة من حظيرة الدين.
وكانت فيرارا في ذلك الوقت قد سلحت نفسها تسليحاً قوياً رأى يوليوس معه أن قواه لا تكفي للاستيلاء عليها. غير أنه لم يشأ أن يحرم وقتئذ من مجده العسكري فسار بنفسه على رأس جيش إلى حصار ميراندولا Mirandola، وهي مركز أمامي من مراكز دوقية فيرارا. (1511). ومع أنه كان وقتئذ في السادسة والثمانين من عمره، فقد سار فوق الثلج الكثيف الطبقات، وخالف السوابق الماضية بأن خاض غمار الحرب في الشتاء، ورأس المجالس العسكرية الفنية، ووجه العمليات الحربية ومواقع المدفعية، وفتش على جنده بنفسه، وأولع بحياة الجندية، ولم يسمح لأحد بأن يفوقه في الشتائم والنكات العسكرية(11). وكان الجنود أحياناً يسخرون منه ويضحكون، ولكنهم كانوا في الأغلب الأعم يثنون على بسالته. ولما أن قتلت نيران العدو جندياً كان بجانبه، انتقل إلى موضع آخر من الميدان، ولما أن وصلت قذائف مدفعية ميراندولا إلى هذا الموضع الثاني، عاد إلى موضع الأول، وهز كتفيه المقوستين استخفافاً بخطر الموت. واستسلمت ميراندولا بعد مقاومة دامت أسبوعين، وأمر البابا بأن يعدم جميع من يوجد فيها من الجنود الفرنسيين؛ ولعل الطرفين قد دبرا معاً أن لا يوجد فيها أحد من أولئك الجنود. وحمى البابا المدينة من النهب، وفضل أن يطعم جيشه ويموله بأن يبيع ثماني كردناليات جديدة(12).
وذهب إلى بولونيا ينشد الراحة، ولكنه ما لبث أن حاصره فيها الفرنسيون مرة أخرى؛ ففر منها إلى ريميني، وأعاد الفرنسيون آل بنتيفجلي إلى الحكم. ورحب الأهلون بعودة حكامهم الظالمين المطرودين، ودمروا القصر الحصين الذي أنشأه يوليوس من قبل، وحطموا التمثال الذي أقامه له مايكل أنجيلو، وباعوا قطعه البرونزية إلى ألفنسوا دوق فيرارا. وصب هذا الدوق الصارم ذلك البرونز وصنع منه مدفعاً سماه لاجويليا تكريماً منه للبابا. ورماه البابا بقرار آخر حرم فيه كل من اشترك في القضاء على السلة البابوية في بولونيا. ورد الجنود الفرنسيون على هذا بالاستيلاء على ميرندولا من جديد؛ ووجد يوليوس في ريميني وثيقة موقعاً عليها من الكرادلة ملصقة بباب كنيسة سان فرانتشيسكو، تدعو إلى عقد مجلس عام في مدينة بيزا في أول سبتمبر من عام 1511، لبحث مسلك البابا.
وعاد يوليوس إلى روما محطم الجسم، تكتنفه المصائب من كل جانب ولكنه لم تذله الهزائم. وفي هذا يقول جوتشيارديني: لقد وجد البابا نفسه وقد خدعته آماله الكاذبة أشد الخداع؛ ولكنه كان يبدو في مظهره شبيهاً بما وصف به كتاب الخرافات القديمة أناتيوس Anataeus الذي كان إذا لمس الأرض كلما قطع أوصاله البطل هرقل عادت إليه قواه ومِرَّته. فقد كان للشدائد على البابا هذا الأثر نفسه؛ ذلك أنه حين كان يبدو في أشد حالات الانقباض واليأس، لا يلبث أن يستعيد نشاطه، ويعود مرة أخرى أصلب مما كان عوداً وأكثر مما كان ثباتاً وأقوى إصراراً وعزيمة.
وأراد أن يقوم بحركة مضادة لحركة الكرادلة المتذمرين، فدعا إلى عقد مجلس عام في قصر لاتران في التاسع عشر من إبريل سنة 1512. وظل يكدح ليلاً ونهاراً لينشئ حلفاً ضد فرنسا. وأوشك أن ينجح في غرضه وإذا هو يصاب بحمى شديدة الوطأة (17 أغسطس سنة 1511). وظل بين الحياة والموت ثلاثة أيام كاملة، حتى إذا كان اليوم الحادي والعشرون من شهر أغسطس أغمي عليه إغماءه بلغ من طولها أن استعد الكرادلة لعقد مجمع مقدس لاختيار خلفه. ودعا بمبيو كولنا Pompeo Colonna أسقف ريتي Rieti في الوقت عينه أهل روما إلى الثورة على حكم البابا مدينتهم وإعادة جمهورية ريندسو Rienzo. ولكن البابا أفاق من الإغماءه في اليوم الثاني والعشرين، وتغلب على أطبائه، وشرب جرعة كبيرة من النبيذ؛ ولشد ما أدهش جميع الناس، وخيب ظن الكثيرين منهم، بشفائه من مرضه؛ وزالت الحركة الجمهورية وعفت آثارها من روما. وأعلن يوليوس في الخامس من أكتوبر أنه أنشأ حلفاً مقدساً من البابوية، والبندقية، وإسبانيا، وفي السابع عشر من نوفمبر انضم إليه هنري الثامن ممثلاً إنجلترا. فلما حصل على هذا التأييد، جرد الكرادلة الذين دعوا إلى مجلس بيزا من مناصبهم، وحرم اجتماع هذا المجلس؛ ولما أذن مجلس السيادة في فلورنس بناء على أمر ملك فرنسا بأن يجتمع المجلس المحرم في بيزا؛ أعلن يوليوس الحرب على فلورنس وأخذ يعمل في الخفاء لعودة آل ميديتشي. واجتمع في بيزا سبعة وعشرون من رجال الكنيسة وممثلون لملك فرنسا، وبعض الجامعات الفرنسية، (5 نوفمبر 1911)؛ ولكن أهل المدينة غضبوا غضبة تنذر المجتمعين بالخطر، ولم تكن فلورنس نفسها راضية عن هذا العمل، فاضطر المجلس للانتقال إلى ميلان (12 نوفمبر) حيث كان في مقدور المؤتمرين المنشقين أن يتجملوا وهم آمنون سخرية الشعب تحت حماية الجنود الفرنسيين.
ولما كسب يوليوس هذه المعركة، معركة الأساقفة، عاد مرة أخرى إلى حرب السلاح، واستعد لها بأن ابتاع التحالف مع السويسريين الذين سيروا جيشاً ليهاجم الفرنسيين في ميلان؛ ولكن هذا الهجوم أخفق، وعاد السويسريون إلى بلادهم، فلما حل عيد الفصح في الحادي عشر من إبريل عام 1512 أوقع الفرنسيون بقيادة جاستن ده فوا Gaston de foix وبمعونة مدفعية ألفنسو القوية هزيمة منكرة بجيش حلف رافنا المختلط، وانتقلت رومانيا كلها تقريباً تحت سيطرة فرنسا. وتوسل كرادة يوليوس إليه أن يعقد الصلح، ولكنه أبى؛ واحتفل المجلس المنعقد في ميلان بهذا النصر المؤزر بأن أعلن خلع البابا؛ وضحك يوليوس من هذا الإعلان. وفي اليوم الثاني من شهر مايو حملوه في هودج إلى قصر لاتران، حيث افتتح مجلس لاتران الخامس، ولم يلبث إلا قليلاً حتى تركه يتطور تطوره البطيء، وأسرع هو إلى ميدان القتال. وفي اليوم السابع عشر من شهر مايو أعلن أن ألمانيا قد انضمت إلى الحلف المقدس ضد فرنسا. واشترى يوليوس السويسريين مرة أخرى فدخلوا إيطاليا عن طريق التيرول Tirol وزحفوا ليلقوا جيشاً فرنسياً أفسد نظامه النصر وموت قائده. وكان الزاحفون أكبر عدداً من الفرنسيين فترك هؤلاء رافنا، وبولونيا، وميلان نفسها، وانسحب الكرادلة المنشقون إلى فرنسا؛ وفر آل بنتيفجلي مرة أخرى، وأصبح يوليوس سيد بولونيا وإقليم رومانيا؛ وانتهز هذه الفرصة للاستيلاء على بارما، وبياتشندسا، وكان يأمل الآن أن يستولي على فيرارا التي لم يعد في وسعها أن تعتمد على مساعدة تأتيها من فرنسا. وعرض ألفنسو أن يأتي إلى روما ويطلب الغفران وشروط الصلح إذا أمنه البابا على حياته في الذهاب والعودة؛ وأجابه يوليوس إلى طلبه، وجاء ألفنسو، وتفضل البابا فغفر له؛ ولكنه لما رفض أن يستبدل بفيرارا بلدة أستي Asti الصغيرة، أعلن يوليوس أن ما وعده به من الأمان غير قائم، وأنذره بالسجن والاعتقال. وأحس فبريدسيو كولنا Fabrizio Colonna الذي كان مكلفاً بحراسة الدوق في مجيئه أن شرفه قد مس، فساعد ألفنسو على الهرب من رومة؛ فعاد إلى فيرارا بعد أن قاسى أشد الأخطار في الطريق، وفيها عاد مرة أخرى يسلح حصونه وأسواره.
وفي ذلك الحين أخذ يضمحل ما كان يتمتع به البابا المحارب من نشاط جبار، فآوى إلى فراش المرض في أواخر شهر يناير من عام 1513 مصاباً بعدة أدواء. وقال الثرثارون النمامون الذين لا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلوبهم إن مرضه هو النتيجة التي تعقب "الداء الفرنسي"، وقال غيرهم إن منشأه الإفراط في الطعام والشراب(14): ولما لم يفلح كل علاج في تخفيف وطأة الحمى، استسلم للموت، وأصدر التعليمات التي تتبع في موكب جنازته، وحث مجلس لاتران على أن يواصل عمله دون انقطاع، واعترف بأنه من أشد الآثمين، وودع الكرادلة، ومات شجاعاً كما عاش شجاعاً (20 فبراير 1513). وحزنت عليه روما بأجمعها، واحتشد لتوديع جثمانه وتقبيل قدميه جمع كبير لم يسبق له مثيل.
وبعد فليس في وسعنا أن نقدر منزلته في التاريخ إلا بعد أن ندرسه بوصفه محرراً لإيطاليا، ومشيداً لكنيسة القديس بطرس؛ وأكبر نصير للفن عرفته البابوية في تاريخها كله. غير أن معاصريه كانوا على حق حين نظروا إليه على أنه حاكم ومحارب أولاً وقبل كل شيء. فقد كانوا يخشون نشاطه الجبار، واندفاعه، ولعناته وغضبته الشديدة التي يبدو أنها إذا اندلع لهيبها لا تخمد أبداً. ولكنهم كانوا يشعرون أن وراء عنفه روحاً في وسعها أن ترحم وتحب . ولقد رأوه يدافع عن الولايات البابوية بقسوة وشدة غير مقيدة بمبدأ أو ضمير كما كان آل بورجيا يفعلون، ولكنه لم يكن يسعى إلى عظمة أسرته؛ وكان الناس جميعاً، إذا استثنينا أعداؤه وحدهم، يمجدون أهدافه، حتى في الوقت الذي كانوا يرتجفون فيه من ألفاظه، ويأسفون لما يلجأ إليه من وسائل. ولم يحسن يوليوس حكم الولايات التي استردها كما كان يحسنه سيزاري بورجيا، لأن ولعه الشديد بالحرب كان يحول بينه وبين إصلاح أداة الحكم؛ ولكن فتوحه كانت فتوح باقية على مدى الزمان، حتى لقد بقيت الولايات البابوية من ذلك الحين موالية للكنيسة إلى أن قضت ثورة عام 1870 على سلطة الباباوات الزمنية. ولقد أخطأ يوليوس - كما أخطأت البندقية، وكما أخطأ لدوفيكو والإسكندر، في استدعاء الجيوش الأجنبية إلى إيطاليا، ولكنه أفلح في ما لم يفلح فيه سابقوه ولاحقوه وهو تطهير إيطاليا من تلك القوات بعد أن أدت مهمتها. ولعله قد أضعف إيطاليا حين أنجاها من أعدائها، وعلم "البرابرة" أن في وسعهم أن يحاربوا حروبهم في سهول لمباردي ذات الشمس الساطعة. ولقد كانت في عظمته عناصر من القسوة، وكانت الرغبة في الكسب هي التي دفعته إلى مهاجمة فيرارا والاستيلاء على بياتشندسا وبارما. ولم يكن يحلم بالاحتفاظ بأملاك الكنيسة المشروعة فحسب، بل كان يحلم فوق ذلك بأن يجعل نفسه سيد أوروبا، والآمر المطاع للملوك. وقد شهر به جوتشيارديني لأنه "جاء للكرسي الرسولي بدولة استخدم فيها قوة السلاح، وسفك فيها دماء المسيحيين، بدل أن يعنى بأن يضرب للناس مثلاً في الحياة الصالحة"(16). ولكنا يصعب علينا أن ننتظر من يوليوس، في زمانه ومكانه، أن يتخلى عن الولايات البابوية للبندقية وغيرها من المعتدين، وأن يجازف بجعل الكنيسة تعتمد على الأسس الروحية دون غيرها، وذلك في الوقت الذي لم يكن فيه كل العالم الذي حوله يعترف بحق ما إلا للذين يسلحون أنفسهم بالقوة المادية. لقد كان هو ما يجب أن يكونه في ظروف وقته وفي الجو الذي كان يعيش فيه، ولقد غفرت له الأيام ما ارتكبه من ذنوب.
قصة الحضارة ج20 ص145-155، النهضة -> النهضة في رومة -> يوليوس الثاني -> المحارب
 
بذرة العلمانية التي كانت تحمل خرافات شعبية وكنسية!!!
:"وكثيرا ما كان الكتاب الإنسانيون أنفسهم يسلمون عقولهم لسخافات بيئتهم، وينثرون في الصحف التي تفيض بالفصاحة الشيشرونية روح هذه البيئة أو سخافاتها إن شئت. فها هو ذا بجيو مثلا يرتع ويمرح وسط النذر وغرائب المخلوقات كالفرسان الذين لا رؤوس لهم والذين يهاجرون من كومو إلى ألمانيا؛ أو آلهة البحار الملتحين الذين يخرجون من أعماق البحار ليختطفوا النساء الحسان من شواطئها(1). وها هو ذا مكيفلي المتشكك في الدين لا يستبعد أن يكون "الهواء مليئا بالأرواح" ويجهر باعتقاده أن الحوادث الخطيرة
تسبقها وتدل عليها خوارق الطبيعة، والنبوءات، والوحي، والعلامات التي تظهر في السماء(2). وكان أهل فلورنس الذين يظنون أن الهواء الذي يتنفسونه يجعلهم مهرة لا يجاريهم في ذلك غيرهم من الناس، يعتقدون أن جميع الحوادث الخطيرة تقع في أيام السبت، وأن السير إلى الحرب في شوارع معينة من المدينة يجر عليهم مصائب لا يستطيعون النجاة منها(3). واضطرب عقل بولتيمان من جراء مؤامرة باتسى Pazzi اضطرابا لم يسعه معه إلا أن يعزو إليها ما أعقبها من مطر مدمر, وعفا عن الشبان الذين أردوا أن يضعوا حدا للمطر، بأن أخرجوا جثة زعيم المؤامرة، وعرضوها في شوارع المدينة، ثم ألقوها في نهر الأردن.(4). وكتب مرسيلو فنشينو بدافع عن التنبؤ بالغيب، والتخمين، ووجود الشياطين، واعتذر عن عدم زيارة بيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola لأن النجوم وقتئذ لم تكن في اقترانها مبشرة بالخير(5). ولعل ذلك الاقتران كان وهما صوره له الخيال. وإذا كان يسع الكتّاب الإنسانيين أن يؤمنوا بهذا، فهل يحق لنا أن نلوم عامة الشعب الذين لا نصيب لهم من الفراغ ولم ينالوا حظا من التعليم إذا ظنوا أن العالم الطبيعي مليء بالقوى الخارقة وأن أداة لها تستخدمه لاغير. وكان سكان إيطاليا يعتقدون أن كثيرا من الأشياء من مخلفات المسيح أو الرسل حقا. وقد بلغت هذه المخلفات من الكثرة درجة يستطيع الإنسان معها أن يجد في الكنائس الرومانية في عهد النهضة أشياء تمثل جميع مناظر الأناجيل. فواحدة منها تدعى أن قطعة من قماط الطفل يسوع، وأخرى تقول إن بها عود دريس من مزود بيت لحم، وثالثة تزعم أنها تضم قطعاً من الأرغفة والسمك التي تضاعف عددها، ورابعة تنادي أن بها المائدة التي استخدمت في العشاء الأخير؛ وواحدة تعتقد أن بها صورة العذراء التي رسمها الملائكة للقديس لوقا(6). وكانت كنائس البندقية تعرض جسم القديس مرقص، وقطعة من ذراع القديس جورج وإحدى أذني القديس بولس، وبعض السمك المحمر الذي أكل منه القديس لورنس، وبعض الحجارة التي قتلت القديس استيفن(7).
وكان الاعتقاد السائد أن لكل جسم - بل لكل عدد وكل حرف - قوة سحرية. ويقول أرتينو إن بعض العاهرات الرومانيات كن يطعمن عشاقهن لحم الجثث البشرية المتعفنة يسرقنه من المقابر ليقوين به باههم(8). وكانت الرقى تستخدم لألف غرض من الأغراض؛ ويقول أبوليان إنك إذا تلوت الرقبة الصحيحة استطعت أن تقي نفسك شر الكلاب. وكانت الأرواح الخيرة والشريرة تملأ الهواء؛ وكثيراً ما كان الشيطان يظهر بنفسه أو يلبس جسم من ينيبه ليغوي أو يرهب، أو يخدع، أو ينفث القوة أو العلم فيمن يريد؛ وكان لدى العفاريت طائفة لا تنفد من العلم الخفي يستطيع المرء أن ينال منها إذا استطاع أن يستميلها إليه بطريقة خاصة. وظل بعض رهبان الكرمل المقيمين في بولونيا (حتى أدانهم سكستس الرابع في عام 1474) يعلمون الناس أن لا ضرر مطلقا من أخذ العلم عن الشياطين(9)، وكان السحرة المحترفون يعرضون رقاهم المجربة الصحيحة التي ينالون بها معونة الشياطين على من يؤدون ثمنها من الطالبين. وكان المعتقد أن الساحرات- ونقول الساحرات لأنهن كن في العادة من النساء- أقدر بنوع خاص على الاتصال بأولئك العفاريت الذين يقدمون هذا العون، وكن يعاملنهم كأنهم عشاقهن أو آلهة لهن. وكانت اللاتي خُلعت عليهن هذه القوى الشيطانية يستطعن- كما يعتقد الناس- أن يتنبأن بالمستقبل، ويطرن في أقصر اللحظات مسافات شاسعة، ويدخلن من الأبواب المغلقة صغيرة أو كبيرة، ويصبن بشرهن المستطير من يسيء إليهن من الناس. وكان في مقدورهن أن يبعثن في النفوس الحب أو البغض، ويحدثن الإجهاض، ويصنعن السم، ويحدثن الموت برقية أو نظرة.
وأصدر إنوسنت الثامن في عام 1484 مرسوما بابويا يحرم في الالتجاء إلى الساحرات، ويسلم فيه بصحة بعض ما يدعينه من القوى، ويعزو إليهن بعض العواصف والأوبئة، وشكا من أن بعض المسيحيين، الذين حادوا عن الشعائر الدينية الصحيحة، كانوا قد اتصلوا اتصالا جسميا بالشياطين، وأنهم استعانوا بالرقى، والعبارات السحرية المسجعة؛ واللعنات، وغيرها من الفنون الشيطانية. فاوقعوا ضرراً شديداً ببعض الرجال والنساء، والأطفال، والحيوانات(10). وأشار البابا على عمال محاكم التفتيش أن يكونوا يقظين حذرين من هذه الأعمال. ولم يفرض هذا المرسوم على الناس الإيمان بالسحر على أنه من العقائد الرسمية للكنيسة. ولم يبدأ به عقاب الساحرات؛ ذلك أن اعتقاد الناس بوجود الساحرات، وعقابهن في بعض الأحيان قد حدث قبل صدور هذا المرسوم بزمن طويل. وكان البابا حين أصدره أميناً على ما جاء في العهد القديم إذ يقول: "لا تدع ساحرة تعيش"(11). وكانت الكنيسة قد ظلت قروناً طوالاً تؤمن بإمكان تأثير الشياطين في الآدميين(12). ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحته ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحة هذا التأثير، وكان التحذير الذي وجهه لأعضاء محكمة التفتيش بعض الأثر في اضطهادات الساحرات(13). فقد حدث في العام الأول بعض هذا المرسوم أن حرقت إحدى وأربعون امرأة في كومو وحدها بتهمة أنهن من الساحرات(14). وقضى المفتشون في بريشيا عام 1486 على عدد من الساحرات المزعومات بأن يسلمن إلى السلطة الزمنية أي أن يعدمن، ولكن الحكومة رفضت تنفيذ الحكم، وغضب لذلك إنوسنت أشد الغضب(15). وسارت الأمور سيرا أكثر من هذا انسجاما بين السلطتين في عام 1510، فنحن نسمع أن 140 امرأة قد أحرقن في بريشيا متهمات بالسحر، وفي عام 1514 في بابوية ليو الرحيم الظريف أحرق ثلاثمائة أخريات في كومو(16).
وازداد عدد الأشخاص الذين يعتقدون. أو يعتقد غيرهم فيهم أنهم يمارسون السحر زيادة سريعة وبخاصة في إيطاليا الواقعة في جنوب جبال الألب، ولعل ذلك كان بسبب ما أحدثه الاضطهاد من استفزاز للنفوس أو لغيره من الأسباب. وأخذ الأمر يتفاقم حتى اتخذت صورة وباء في طبيعته وكثرة المصابين به. وقال الناس وقتئذ إن 25.000 شخص حضروا "سيتا للساحرات" على سهل قريب من بريشيا، وفي عام 1518 أحرق عمال محكمة التفتيش سبعين ساحرة مزعومة من أهل ذلك الإقليم. وزج آلاف في سجون المحكمة. واحتج مجلس السيادة في بريشيا على زج الناس جملة في السجون، وحال دون الاستمرار في قتل السحرة والساحرات، فما كان من ليو إلا أن أصدر مرسوما (15 فبراير سنة 1521)، يأمر فيه بحرمان أي موظف يأبى أن ينفذ دون تحقيق أو جدل أحكام عمال محكمة التفتيش، ووقف جميع الخدمات الدينية بين أية جماعة تمتنع عن هذا التنفيذ. وتجاهل مجلس السيادة هذا المرسوم، وعين أسقفين، وطبيبين من أهل بريشيا، وعامل من عمال محكمة التفتيش للإشراف على ما يحدث بعدئذ من محاكمات للسحرة والساحرات، وللبحث في عدالة ما صدر من أحكام سابقة؛ وخول هؤلاء الرجال دون غيرهم سلطة إصدار الأحكام على المتهمين. وأنذر مجلس السيادة المندوب البابوي بأن يضع حدا لإدانة الناس لكي يستطيع بذلك مصادرة أملاكهم(16). وكان هذا إجراء غاية في الجرأة ولكن الجهالة وشهوة القتل والتعذيب تغلبتا آخر الأمر، وظل إحراق الناس بتهمة السحر وصمة عار لا تمحى من تاريخ البشرية في القرنين التاليين، في البلاد البروتستنتية والكاثوليكية، وفي العالم الجديد والعالم القديم على حد سواء.
وكانت الرغبة الجنونية في معرفة المستقبل عوناً كبيراً للمتنبئين بحظوظ الناس بأنواعهم المألوفة- قراء الكف، ومفسري الأحلام، والمنجمين؛ وكان هؤلاء أكثر عددا وأعظم قوة في إيطاليا منهم في سائر أنحاء أوربا. وكادت كل حكومة إيطالية يكون لها منجم رسمي يحدد لها بالنظر في مواقع النجوم الأوقات الملائمة للبدء في المشروعات الهامة. ولم يشأ يوليوس الثاني أن يغادر بولونيا إلا بعد أن أنبأه منجمه أن الوقت ملائم لمغادرتها, وكان سكتس الرابع وبولس الثالث يطلبان منجميهما تحديد الساعات التي يعقدان فيها مؤتمراتهما الكبرى(16ب). وقد بلغ انتشار العقيدة القائلة بأن النجوم تسيطر على أخلاق البشر وشؤونهم حدا جعل كثيرا من اساتذة الجامعات في إيطاليا يصدرون في كل عام تنبؤات قائمة على أساس التنجيم(16حـ)، وكان من أفانين أرتينو المضحكة أن يحاكى هذه التقاويم التي يضعها أولئك العلماء. ولما أن أعاد لورندسو ده ميديتشى جامعة بيزا، لم يقرر ضمن مواد الدراسة فيها منهجا للتنجيم؛ ولكن الطلاب ضجوا طالبين وضع هذا المنهج، ولم يجد بداً من الخضوع لمطلبهم(16د). ووجه بيكو دلا ميندولا أحد العلماء الأعلام المحيطين بلورندسو هجوماً كتابياً شديداً على التنجيم، ولكن مرسيليو فتشينو الأغزر منه علماً دافع عنه. وصاح جوتشيارديني قائلا: "ألا ما أسعد المنجمين الذين يؤمن الناس بأقوالهم ولو صدقوا مرة واحدة وكذبوا مائة مرة على حين أن غيرهم من الناس يفقدون الثقة بهم إذا كذبوا مرة واحدة وصدقوا مائة مرة"(12هـ). لكن التنجيم مع ذلك كان ينطوي على شيء من التطلع نحو النظرة العلمية إلى الكون؛ وكان فيه إلى حد ما مهرب من الاعتقاد بوجود كون تسيطر عليه مشيئة الله أو نزعات الشياطين، ويهدف إلى العثور على قانون طبيعي شامل. ينسق المظاهر الطبيعية ويوفق بينها.
قصة الحضارة ج21 ص3-9، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفنون الخفية)
 
قتل النساء في عصر النهضة وماقبله بحجة انهن ساحرات
:"وكان الاعتقاد السائد أن لكل جسم - بل لكل عدد وكل حرف - قوة سحرية. ويقول أرتينو إن بعض العاهرات الرومانيات كن يطعمن عشاقهن لحم الجثث البشرية المتعفنة يسرقنه من المقابر ليقوين به باههم(8). وكانت الرقى تستخدم لألف غرض من الأغراض؛ ويقول أبوليان إنك إذا تلوت الرقبة الصحيحة استطعت أن تقي نفسك شر الكلاب. وكانت الأرواح الخيرة والشريرة تملأ الهواء؛ وكثيراً ما كان الشيطان يظهر بنفسه أو يلبس جسم من ينيبه ليغوي أو يرهب، أو يخدع، أو ينفث القوة أو العلم فيمن يريد؛ وكان لدى العفاريت طائفة لا تنفد من العلم الخفي يستطيع المرء أن ينال منها إذا استطاع أن يستميلها إليه بطريقة خاصة. وظل بعض رهبان الكرمل المقيمين في بولونيا (حتى أدانهم سكستس الرابع في عام 1474) يعلمون الناس أن لا ضرر مطلقا من أخذ العلم عن الشياطين(9)، وكان السحرة المحترفون يعرضون رقاهم المجربة الصحيحة التي ينالون بها معونة الشياطين على من يؤدون ثمنها من الطالبين. وكان المعتقد أن الساحرات- ونقول الساحرات لأنهن كن في العادة من النساء- أقدر بنوع خاص على الاتصال بأولئك العفاريت الذين يقدمون هذا العون، وكن يعاملنهم كأنهم عشاقهن أو آلهة لهن. وكانت اللاتي خُلعت عليهن هذه القوى الشيطانية يستطعن- كما يعتقد الناس- أن يتنبأن بالمستقبل، ويطرن في أقصر اللحظات مسافات شاسعة، ويدخلن من الأبواب المغلقة صغيرة أو كبيرة، ويصبن بشرهن المستطير من يسيء إليهن من الناس. وكان في مقدورهن أن يبعثن في النفوس الحب أو البغض، ويحدثن الإجهاض، ويصنعن السم، ويحدثن الموت برقية أو نظرة.
وأصدر إنوسنت الثامن في عام 1484 مرسوما بابويا يحرم في الالتجاء إلى الساحرات، ويسلم فيه بصحة بعض ما يدعينه من القوى، ويعزو إليهن بعض العواصف والأوبئة، وشكا من أن بعض المسيحيين، الذين حادوا عن الشعائر الدينية الصحيحة، كانوا قد اتصلوا اتصالا جسميا بالشياطين، وأنهم استعانوا بالرقى، والعبارات السحرية المسجعة؛ واللعنات، وغيرها من الفنون الشيطانية. فاوقعوا ضرراً شديداً ببعض الرجال والنساء، والأطفال، والحيوانات(10). وأشار البابا على عمال محاكم التفتيش أن يكونوا يقظين حذرين من هذه الأعمال. ولم يفرض هذا المرسوم على الناس الإيمان بالسحر على أنه من العقائد الرسمية للكنيسة. ولم يبدأ به عقاب الساحرات؛ ذلك أن اعتقاد الناس بوجود الساحرات، وعقابهن في بعض الأحيان قد حدث قبل صدور هذا المرسوم بزمن طويل. وكان البابا حين أصدره أميناً على ما جاء في العهد القديم إذ يقول: "لا تدع ساحرة تعيش"(11). وكانت الكنيسة قد ظلت قروناً طوالاً تؤمن بإمكان تأثير الشياطين في الآدميين(12). ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحته ولكن افتراض البابا حقيقة وجود السحر قد قوى الاعتقاد بصحة هذا التأثير، وكان التحذير الذي وجهه لأعضاء محكمة التفتيش بعض الأثر في اضطهادات الساحرات(13). فقد حدث في العام الأول بعض هذا المرسوم أن حرقت إحدى وأربعون امرأة في كومو وحدها بتهمة أنهن من الساحرات(14). وقضى المفتشون في بريشيا عام 1486 على عدد من الساحرات المزعومات بأن يسلمن إلى السلطة الزمنية أي أن يعدمن، ولكن الحكومة رفضت تنفيذ الحكم، وغضب لذلك إنوسنت أشد الغضب(15). وسارت الأمور سيرا أكثر من هذا انسجاما بين السلطتين في عام 1510، فنحن نسمع أن 140 امرأة قد أحرقن في بريشيا متهمات بالسحر، وفي عام 1514 في بابوية ليو الرحيم الظريف أحرق ثلاثمائة أخريات في كومو(16).
وازداد عدد الأشخاص الذين يعتقدون. أو يعتقد غيرهم فيهم أنهم يمارسون السحر زيادة سريعة وبخاصة في إيطاليا الواقعة في جنوب جبال الألب، ولعل ذلك كان بسبب ما أحدثه الاضطهاد من استفزاز للنفوس أو لغيره من الأسباب. وأخذ الأمر يتفاقم حتى اتخذت صورة وباء في طبيعته وكثرة المصابين به. وقال الناس وقتئذ إن 25.000 شخص حضروا "سيتا للساحرات" على سهل قريب من بريشيا، وفي عام 1518 أحرق عمال محكمة التفتيش سبعين ساحرة مزعومة من أهل ذلك الإقليم. وزج آلاف في سجون المحكمة. واحتج مجلس السيادة في بريشيا على زج الناس جملة في السجون، وحال دون الاستمرار في قتل السحرة والساحرات، فما كان من ليو إلا أن أصدر مرسوما (15 فبراير سنة 1521)، يأمر فيه بحرمان أي موظف يأبى أن ينفذ دون تحقيق أو جدل أحكام عمال محكمة التفتيش، ووقف جميع الخدمات الدينية بين أية جماعة تمتنع عن هذا التنفيذ. وتجاهل مجلس السيادة هذا المرسوم، وعين أسقفين، وطبيبين من أهل بريشيا، وعامل من عمال محكمة التفتيش للإشراف على ما يحدث بعدئذ من محاكمات للسحرة والساحرات، وللبحث في عدالة ما صدر من أحكام سابقة؛ وخول هؤلاء الرجال دون غيرهم سلطة إصدار الأحكام على المتهمين. وأنذر مجلس السيادة المندوب البابوي بأن يضع حدا لإدانة الناس لكي يستطيع بذلك مصادرة أملاكهم(16). وكان هذا إجراء غاية في الجرأة ولكن الجهالة وشهوة القتل والتعذيب تغلبتا آخر الأمر، وظل إحراق الناس بتهمة السحر وصمة عار لا تمحى من تاريخ البشرية في القرنين التاليين، في البلاد البروتستنتية والكاثوليكية، وفي العالم الجديد والعالم القديم على حد سواء.
وكانت الرغبة الجنونية في معرفة المستقبل عوناً كبيراً للمتنبئين بحظوظ الناس بأنواعهم المألوفة- قراء الكف، ومفسري الأحلام، والمنجمين؛ وكان هؤلاء أكثر عددا وأعظم قوة في إيطاليا منهم في سائر أنحاء أوربا. وكادت كل حكومة إيطالية يكون لها منجم رسمي يحدد لها بالنظر في مواقع النجوم الأوقات الملائمة للبدء في المشروعات الهامة. ولم يشأ يوليوس الثاني أن يغادر بولونيا إلا بعد أن أنبأه منجمه أن الوقت ملائم لمغادرتها, وكان سكتس الرابع وبولس الثالث يطلبان منجميهما تحديد الساعات التي يعقدان فيها مؤتمراتهما الكبرى(16ب). وقد بلغ انتشار العقيدة القائلة بأن النجوم تسيطر على أخلاق البشر وشؤونهم حدا جعل كثيرا من اساتذة الجامعات في إيطاليا يصدرون في كل عام تنبؤات قائمة على أساس التنجيم(16حـ)، وكان من أفانين أرتينو المضحكة أن يحاكى هذه التقاويم التي يضعها أولئك العلماء. ولما أن أعاد لورندسو ده ميديتشى جامعة بيزا، لم يقرر ضمن مواد الدراسة فيها منهجا للتنجيم؛ ولكن الطلاب ضجوا طالبين وضع هذا المنهج، ولم يجد بداً من الخضوع لمطلبهم(16د). ووجه بيكو دلا ميندولا أحد العلماء الأعلام المحيطين بلورندسو هجوماً كتابياً شديداً على التنجيم، ولكن مرسيليو فتشينو الأغزر منه علماً دافع عنه. وصاح جوتشيارديني قائلا: "ألا ما أسعد المنجمين الذين يؤمن الناس بأقوالهم ولو صدقوا مرة واحدة وكذبوا مائة مرة على حين أن غيرهم من الناس يفقدون الثقة بهم إذا كذبوا مرة واحدة وصدقوا مائة مرة"(12هـ). لكن التنجيم مع ذلك كان ينطوي على شيء من التطلع نحو النظرة العلمية إلى الكون؛ وكان فيه إلى حد ما مهرب من الاعتقاد بوجود كون تسيطر عليه مشيئة الله أو نزعات الشياطين، ويهدف إلى العثور على قانون طبيعي شامل. ينسق المظاهر الطبيعية ويوفق بينها.
قصة الحضارة ج21 ص6-9، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفنون الخفية)
 
يقول ديورانت عن فكر عصر النهضة الغربي:"لكن التنجيم مع ذلك كان ينطوي على شيء من التطلع نحو النظرة العلمية إلى الكون؛ وكان فيه إلى حد ما مهرب من الاعتقاد بوجود كون تسيطر عليه مشيئة الله أو نزعات الشياطين، ويهدف إلى العثور على قانون طبيعي شامل. ينسق المظاهر الطبيعية ويوفق بينه"
قصة الحضارة ج21 ص9، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفنون الخفية)
تعليق : لاحظ أن ماجعل عصر النهضة منفتح على القوانين السببية كان هو العلم الإسلامي.
ولم يكن هذا العلم في نشأته وعلومه ينكر مشيئة الله لأجل القوانين الكونية بل كان العلم بالقوانيين السببية او الطبيعية هو من تكوين علم المشيئة الإلهية نفسه، فلاتضاد بين الأمر الكوني لله والأخذ بالأسباب، فالله الخالق وذلك دعوة للنظر في خلقه وأسباب وعلل الكون واستخلاص النتائج ووضع النظريات
 
صحيح ان التنجيم كان قد تورط فيه بعض علماء الفلك عندنا وقد فند ابن القيم هذا الموضوع في كتاب مفتاح دار السعادة وحرر المسألة بصورة اسلامية متوازنة
 
اختلاط الفكر العلمي مع الفكر اللاديني الناشئ عن التحلل من الكنيسة والاوضاع السائدة ومع ان ديورانت كتب عشرات النصوص على مقاومة الكنيسة للعلم الا انه قال
تحت عنوان (العلوم ) قال ديورانت:"
لم يكن سبب تأخر العلوم هو مقاومة الكنيسة. بل كان ما يتمسك به الناس من خرافات وأوهام. ولم تكن الرقابة على النشر عقبة كأداء في سبيل العلم إلى أن قامت حركة الإصلاح المعارضة عقب مجلس ترنت (1545 وما بعدها)، فقد جاء سكستس الرابع إلى روما (1463) بأشهر منجم عاش في القرن الخامس عشر وهو جوهان ملر رجيو "مونس" Johan Muller ."Regiomontnus" وكان كوبرنيق في عهد البابا ألكسندر يدرس العلوم الرياضية والفلك في جامعة روما، ولم يكن كوبرنيق هذا قد وصل بعد إلى نظريته التي هزت كيان العالم والتي تقول بدوران الأرض في فلكها حول الشمس، ولكن نقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa كان قد أشار إليها قبل ذلك الوقت، وكلاهما من رجال الدين. وكانت محكمة التفتيش ضعيفة ضعفا نسبيا في إيطاليا طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وكان من أسباب هذا الضعف بعد البابوات عنها في أفنيون، وما قام بينهم من نزاع أثناء عهد الانشقاق، وما وصل إليهم من عدوى الاستنارة في عهد النهضة. وحدث في عام 1440 أن حاكمت محكمة التفتيش في ميلان أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi صاحب النزعة المادية، وبرأته مما عزى إليه، وحمى نصير جبريلي ده سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب الملحد من محكمة التفتيش مع أنه "اعتاد أن يقول إن المسيح ليس هو الله بل هو ابن يوسف"(67). وكان التفكير في إيطاليا أكثر حرية والتعليم فيها أكثر تقدما مما كانا في أي بلد آخر خلال القرن الخامس عشر وفي أوائل القرن السادس عشر. وكانت مدارسها التي تعلم الفلك، والقانون، والطب، والآداب ملتقى الطلاب من أكثر عشرة أقطار، ولما أن أتم تومس ليماكر Thomas Lamacrel الطبيب والعالم الإنجليزي دراسته الجامعية في إيطاليا وقفل راجعا إلى إنجلترا في جبال الألب الإيطالية مذبحاً، ودشنه وهو يلقي آخر نظرة على إيطاليا باسم هذه البلاد الأم الحنون للعلم منشئة الدراسات وجامعة العالم المسيحي التي يواصل فيها العلماء دراساتهم بعد تخرجهم.
وإذا لم يكن العلم قد تقدم خلال القرنين السابقين على أيام فيساليوس Vesalius، (1514-1564) إلا تقدما يسيرا في هذا الجو المشبع بالخرافات من أسفل، وبالتحرر العقلي من أعلى، فقد كان أكبر السبب في هذا أن المناصرة والتكريم كانا موجهين إلى الفن، والمنح مخصصة للادب، وللشعر، ولم تكن قد قامت بعد دعوة واضحة للأساليب والأفكار العلمية في حياة إيطاليا الاقتصادية والعقلية. وكان يسع رجلا مثل ليوناردو أن يكون ذا نظرة كونية شاملة، ويمس أكثر من عشرة علوم بعقلية الطُّلعَة المتشوف، ولكن البلاد كانت خالية من المعامل العلمية الكبرى، وكان تشريح الأجسام لا يزال في بدايته، ولم يكن ثمة مجهر يستعان به على دراسة علم الاحياء أو الطب، أو مرقب يكبر الكواكب ويأنى بالقمر على حافة الأرض. وكان حب الجمال السائد في العصور الوسطى قد نضج حتى عاد فنا فخما جليلا، ولكن لم يكن في تلك العصور حب للحقيقة ينمو حتى يصير علما، وكان كشف الآداب القديمة قد بعث في الناس نزعة أبيقورية متشككة تمجد القديم وتتخذه مثلا أعلى بدل أن تجعلهم يخلصون إخلاص الرواقيين للبحوث العلمية التي تهدف إلى تشكيل المستقبل. ذلك أن النهضة قد وهبت روحها للفن، ولم تترك للادب منها إلا القليل، وتركت أقل من هذا القليل للفلسفة، وأقل من هذا وذاك العلوم. ولهذا كان ينقصها من هذه الناحية ذلك النشاط العقل الأشكال والذي أمتاز به العصر الذهبي اليوناني من أيام بركليز وإسكلس إلى زينون الرواقي وارستاخوس الفلكي. ولم يكن في مقدور العلوم أن تتقدم حتى تمهد الفلسفة لها الطريق.
من أجل هذا كان من الطبيعي أن يجد القارئ، الذي يعرف عشرة من أسماء الفنانين، مشقة في تذكر اسم عالم إيطالي واحد في عصر النهضة عدا اسم ليوناردو, وهو لا يذكر اسم أمرجو فسيوتشي نفسه إلا إذا ذُكِّر به، وأما جليليو فهو من رجال القرن السابع عشر (1564-1642). والحق إنا لانجد أسماء خالدة في ذلك العصر إلا في الجغرافية والطب. ففي أولهما اشتهر أودريك البردنوني Oderic of Pordenone الذي سافر إلى الهند والصين للتبشير بالدين (حوالي عام 1321) وعاد عن طريق التبت وبلاد الفرس، وكتب وصفا لما شاهد، وأضاف معلومات كثيرة قيمة لما كتبه ماركوبولو قبل جيل من ذلك الوقت. ولاحظ باولو تسكانيلي Paolo Toscanelli الفلكي، والطبيب، والجغرافي مذنب هالي في عام 1456. ويقال إنه أمد كولمبس بالمعلومات وبالتشجيع في مغامرته لاجتياز المحيط الأطلنطي(16و). وقام أمرجو فسبوتشي الفلورنسي بأربع رحلات بحرية إلى العالم الجديد (1497 وما بعدها)، وقال إنه أول من كشف أرض القارة وأعد لها خرائط، نشرها مارتن وولد سيملر Martin Waldseemuller واقترح أن تسمى القارة "أمريكا"، وأعجب الإيطاليون بالفكرة وأذاعوها في كتاباتهم(16خ).
قصة الحضارة ج21 ص10-11، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> العلوم)
تعليق
هذا كله في القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر وقد كان الاسلام فيه العلمية دون العقلانية والإلحادية الملازمة ولابد في جو اوروبا للإباحية الجنسية لكل عصورها الحديثة
اما جاليليو وكوبرنيكوس وامثالهما فمن أين وصلت اليهم تلك العلوم ؟
ليس من عالم ملحد ابدا
ولكنه من عالم الاسلام المؤمن
 
"وكانت علوم الأحياء آخر ما نشأ من العلوم، لأن نظرية خلق الإنسان خلقاً خاصاً منفصلا عن سائر الكائنات- وهي التي كان يؤمن بها الناس كافة تقريبا- قد جعلت من غير الضروري ومن الخطر أن يبحث الناس في أصله الطبيعي. وكانت هذه العلوم تقتصر في الأغلب الأعم على البحوث والدراسات العلمية في علم النبات الطبي، وفلاحة البساتين، وتربية الأزهار، والزراعة. من ذلك أن بيترو ده كريستشندسي Pietro de Crescenzil نشر وهو في سن السبعين (1306) كتيبا في الجغرافية خليقاً بالإعجاب وإن كان قد تجاهل كتابات مسلمي أسبانيا في ذلك الميدان، وهي خير من كتابته. وأنشأ لورندسو ده ميديتشى في كاريجى Careggi حديقة شبه عمومية من النباتات النادرة الوجود، وأما أولى الحدائق العمومية المخصصة لعلم النبات فهي التي أنشأها لوكا غيني Luca Ghini في بيزا عام 1544. وكان للحكام ذوي النزعة الحديثة كلهم تقريبا حدائق للحيوان، كما كان الكردينال أبوليتو ده ميديتشى Ipolito de Medici يحتفظ بمعرض من الآدميين- هم طائفة من الهمج ينتمون إلى عشرين قومية مختلفة كلهم من ذوي الأجسام القوية الممتازة.قصة الحضارة ج21 ص12-13، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> العلوم)
تعليق
واختلط علم الاحياء بالنظريات المسبقة مثل نظرية دارون وقد بينت ذلك في كتابي اقطاب العلمانية ج2
 
الطب والتشريح
أوروبا تخاف من الطب خوفها من السحرة!!
والكنائس تنتقل بعلوم المسلمين من التعاويذ الى الطب مع كثرة الاطباء الدجالين!
:"الطب
وكان الطب أكثر العلوم ازدهاراً لأن الناس يضحون بكل شيء ماعدا الحرص على صحة الأجسام؛ وكان الأطباء ينالون من الثروة الإيطالية الجديدة قسطا موفورا مشجعا؛ فقد كانت بدوا مثلا تؤدى لواحد منهم ألفي دوقة في العام ليكون مستشارا طبيا لها، وتركته في الوقت نفسه حرا يتقاضى ما يشاء من الأجور في عمله الخاص. وكان بترارك الذي يعيش من مرتباته يندد أشد التنديد بأجور الأطباء العالية وبأثوابهم القرمزية وقلانسهم المصنوعة من فرو السنجاب(16). وخواتمهم البراقة ومهاميزهم الذهبية. وقد حذر بجد وحرارة البابا المريض كلمنت السادس من الوثوق بالأطباء فقال:
"أعرف أن الأطباء يحاصرون فراش مرضك، وطبيعي أن يملأ هذا قلبي خوفاً عليك. ذلك أن آراءهم متضاربة على الدوام؛ وأن من لا يجد منهم جديدا ينطق به يجلله عار التخلف عن غيره من الأطباء. وهم ينجرون بحياتنا لكي تذيع شهرتهم بما يستحدثون من جديد كما يقول بلني Plini. وحسب الواحد منهم أن يقول إنه طبيب لكي يؤمن الناس بكل كلمة يقولها، وليس هذا شأن الحرف الأخرى، مع أن كذبة الطبيب يكمن فيها من الأخطار ما لا يكمن في كذبة غيره. وهم يتعلمون مهنتهم على حسابنا، وحتى موتنا يهيأ لهم أسباب الخبرة، فالطبيب وحده من حقه أن يقتل الناس دون أن يخشى عقابا؛ ألا أيها الآب يا أرحم الراحمين! انظر إلى عصبتهم نظرتك إلى جيش من الأعداء، وأذكر القبرية المحذرة التي نقشها رجل بائس على شاهد قبره: "لقد مت من كثرة الأطباء!"
ولقد كان الأطباء في جميع البلاد والعهود المتحضرة ينافسون النساء فيما يمتزن به من أنهن أكثر من يشتهى بنو الإنسان أكثر من بهجون.
وكان الأساس الذي قام عليه تقدم الطب هو بعث التشريح. ذلك أن خدم الكنائس كانوا يتعاونون مع الأطباء كما كانوا يتعاونون مع الفنانين، فيقدمون جثث الموتى لتشرح في المستشفيات التي يشرف عليها أولئك الأطباء. فكان مندينو ده لوتسى Mondino de' Luzzi مثلا يشرح جثث الموتى في بولونيا وكتب كتابا في "التشريح Anatomia (1316) بقى مرجعا من أهم المراجع مدى ثلاثة قرون. على أنه كان يصعب على الأطباء مع ذلك أن يحصلوا على الجثث، وحدث في عام 1319 أن سرق بعض الطلاب في بولونيا جثة في إحدى المقابر وجاءوا بها إلى أستاذ في الجامعة شرحها أمامهم ليدرسوا أجزاءها، فسبق الطلاب للمحاكمة، ولكنهم برئوا، وأخذ ولاة الأمور المدنيون من ذلك الوقت يغضون الطرف عن استخدام جثث المشنوقين التي لا يطالب بها أحد في "التشريحات"(18). ويعزى إلى بيرينجاريودا كبرى Berengario de Capri، (1470-1550) أستاذ التشريح في جامعة بولونيا أنه شرح مائة جثة(19). وكان التشريح يحدث في جامعة بيزا منذ عام 1341 إن لم يكن قبله، وسرعان ما سمح به في جميع مدارس الطب بإيطاليا ومنها مدرسة الطب البابوية القائمة في روما، وأجاز سكستس السادس (1471-1484) هذا التشريح رسمياواستعاد التشريح في عهد النهضة على مهل تراثه المنسي في عهد اليونان والرومان الأقدمين؛ وحرره رجال أمثال أنطونيو بنيفيني Antonio Beniveni، وألسندرو أكيلنى Alessandro Achillnni ، وألسندرو بينيدتي Alessandro Beneditti وماركانطونيو دلانورى Marcantonio della Torre، حرره هؤلاء من سيطرة العرب، وعادوا به إلى جالينوس وأبقراط، وشكوا حتى في هذين العميدين المقدسين، وأضافوا إلى المعارف العلمية في الجسم البشري كل عصب، وعظم، وعضلة فيه. ووجه بينيفيني بحوثه في التشريح لمعرفة الأسباب الداخلية للأمراض، وكانت رسالته في الأسباب الخفية والعجيبة الأمراض وعلاجها (De abditis nonullis ac Mirandts Morborum et Canatiornm Causis 1507). أساس التشريح المرضى (الباثولوجي) وجعل فحص الجسم بعد الموت عاملا اساسيا في نمو الطب الحديث. وزاد فن الطباعة الجديد في هذه الأثناء سرعة تقدم الطب لأنه يسر انتشار الكتب الطبية وتبادلها بين الدول المختلفة.
وفي وسعنا أن نقدر بعض التقدير انتكاس العلوم الطبية في العالم المسيحي اللاتيني خلال العصور الوسطى إذا لاحظنا أن أعظم المشرحين والأطباء في ذلك العصر لم يكادوا يبلغون من العلم قبل عام 1500 ما بلغه أبقراط، وجالينوسن وسورانوس Soranus في الفترة المحصورة بين 450 ق.م و 200 بعد الميلاد. وكان العلاج في خلال العصور الوسطى لا يزال قائما على نظرية الأخلاط لأبقراط. وكانت الحجامة هي العلاج الشافي من كل العلل. وكانت أول محاولة معروفة لنقل الدم هي التي قام بها طبيب يهودي لعلاج البابا إنوسنت الثامن (1492)؛ وأخفقت هذه المحاولة كما قلنا من قبل. وكان الراقون لا يزالون يدعون لعلاج العجز الجنسي وفقدان الذاكرة بالرقى الدينية أو تقبيل المخلفات؛ ولعل سبب التجائهم إلى هذه الأساليب أن هذا العلاج الإيحائي كان يساعد على الشفاء في بعض الحالات. وكان الصيادلة يبيعون حبوبا وعقاقير عجيبة ويكثرون أموالهم بأن يضموا إلى سلعهم الكتب والورق، والأدهان، والحلوى، والتوابل، والحلى(21). وألف ميشيل سفنرولا والد الراهب الثائر رسالة الطب التجريبي (حوالي عام 1440) ورسائل أخرى أقصر منها، بحث في إحداها كثرة إصابة الفنانين العظام بالأمراض العقلية؛ وتحدث في رسالة أخرى عن مشهوري الرجال الذين طال عمرهم نتيجة تعاطيهم المشروبات الكحولية كل يوم. وكان الأطباء الدجالون لا يزالون كثيري العدد، ولكن القانون أصبح وقتئذ يعنى بتنظيم مهنة الطب أكثر من ذي قبل؛ فكانت العقوبات توقع على الذين يمارسون الطب دون أن يحصلوا فيه على درجة علمية؛ وكان حصولهم عليها يتطلب دراسة منهج فيه يدوم أربع سنوات (1500)؛ ولم يكن يسمح لأي طبيب بأن يشخص مرضا خطيرا إلا إذا ضم إليه زميلا له. وكانت شرائع البندقية تحتم على الأطباء والجراحين أن يجتمعوا كل شهر ليتبادلوا المذكرات الطبية، وأن يحتفظوا بجدة معلوماتهم بالاستماع إلى منهج في التشريح مرة كل عام على الأقل. وكان يفرض على طالب الطب وقت تخرجه أن يقسم بألا يطيل على مريض زمن مرضه، وأن يشرف على تحضير الدواء الذي يصفه له، وألا يشارك الصيدلي في الثمن الذي يتقاضاه نظير إعداد الدواء. وحدد هذا القانون نفسه (قانون البندقية الصادر في عام 1368) أجر الصيدلي نظير تحضير الدواء بعشرة صلديات(22). والصلدى عملة لا يستطاع الآن تقدير قيمتها. وقد وصلت إلى علمنا عدة حالات جعل فيها شفاء المريض شرطاً لتقاضي الطبيب أجره وذلك بناء على تعاقد خاص بينهما(23).
وأخذت الجراحة ينتشر صيتها انتشاراً سريعاً كلما اقترب سجل عملياتهم وآلاتها مما كان عليه من التنوع والانفاق في عهد المصريين الأقدمين. من ذلك ان برناردو دا رابلو Bernardo da Rapallo ابتكر الجراحة العجائبية لاستخراج الحصوة (1451)؛ واشتهر مريانو سانتو Mariano Santo بكثرة نجاحه في استخراج حصاة المثانة بالشق الجانبي (حوالي 1530) وابتكر جيوفني دا فيجو جراح يوليوس الثاني وسائل لربط الشرايين والأوردة خيرا من الوسائل التي كانت معروفة من قبل؛ وعادت الجراحة التعويضية التي كانت معروفة للأقدمين إلى الظهور في صقلية حوالي عام 1450؛ وكانت الأنوف، والشفاه، والآذان المشدوهة تصلح بترقيعها بالجلد المأخوذ من أجزاء أخرى من الجسم، وقد بلغ من إتقانها أن الناظر إليها لا يكاد يتبين خطوط الالتحام(24).
وأخذت أساليب الصحة العامة تتحسن تحسنا مطردا. من ذلك أن أندريا دندولو حين كان دوج البندقية (1343-1354) أنشأ أول لجنة بلدية معروفة للصحة العامة(25)، وحذت حذو البندقية في ذلك غيرها من المدن الإيطالية. وكانت هذه اللجان الخاصة بالصحة العامة تختبر جميع الأطعمة والعقاقير التي تعرض للبيع على الجماهير، وتأمر بعزل من يصابون ببعض الأمراض المعدية. ولما فشا الموت الأسود في أوربا منعت البندقية في عام 1374 جميع السفن التي تحمل أشخاصا يرتاب في أنهم مصابون بالمرض أو بضائع مشتبها في أنها مصابة به من الدخول في موانيها. وفي راجوسا Ragusa كان القادمون يحجزون في أماكن خاصة ثلاثين يوما قبل أن يسمح لهم بالدخول إلى المدينة. وكانت البضائع المشتبه فيها تعامل هذه المعاملة نفسها. وأطالت مرسيليا مدة الحجر الصحي (1383) (الكرنتينة la quarantine) فجعلته أربعين يوماً، وحذت البندقية حذوها في عام 1403(26).
وأخذت المستشفيات يتضاعف عددها بهمة رجال الدين وغير رجال الدين وغيرتهم، فأنشأت سينا في عام 1305 مستشفى اشتهر بسعته وبما كان يؤديه من خدمات، وأسس فرانتشيسكو اسفوردسا المستشفى الكبير Ospedalc Maggiore في ميلان (1456)، وحولت البندقية في عام 1423 جزيرة سانتا ماريا دي نادساريت Santa Maria di Nazaret إلى محجر صحي لإيواء المصابين بالجذام؛ وكان في فلورنس في القرن الخامس عشر ثلاثة وخمسون مستشفى(28)؛ وكانت هذه المؤسسات كلها تستمد معونة سخية من الهبات الخاصة والعامة؛ وكانت بعض المستشفيات مضرب المثل في روعة البناء وفخامته، ومنها المستشفى الكبير في ميلان؛ ومنها ما كان يزين جدرانه بالتحف الفنية المُلهِمة. واستخدم مستشفى كبا Ospedafe del Coppa في بستويا جيوفني دلا رُبيا ليشكل لجدرانه نقوشا من الصلصال المحروق تصف في وضوح نماذج من مناظر المستشفيات، وامتازت واجهة مستشفى البرءاء Ospedali degli Innocenti في فلورنس الذي خططه برونيلسكو بالمدليات الرائعة المصنوعة من الصلصال المحروق التي وضعها في البندريلات القائمة على عقود بابها أندريا دلاربيا. ولشد ما تأثر لوثر بما وجده في إيطاليا من معاهد طبية وخيرية في عام 1511، وهو الذي روع بما كان فيها من فساد خلقي. وقد وصف لنا في حديث المائدة مستشفياتها بقوله:
"المستشفيات في إيطاليا جميلة البناء مزودة أعجب التزويد بأحسن أنواع الطعام والشراب، ويعتنى فيها أحسن عناية بخدمة المرضى، وجدرانها مغطاة بالصور والنقوش. وإذا جاءها مريض نزعت عنه ملابسه بحضور كاتب يثبتها عنده بعناية وتحفظ في أمان. ثم يلبس المريض قميصاً أبيض اللون، ويخصص له سرير مريح عليه غطاء نظيف من التيل. ويحضر إليه على الفور طبيبان ويأتيه الخدم بالطعام والشراب في آنية نظيفة... ويزور المستشفى بالتناوب كثير من السيدات ويعتنين بالمرضى وهن محجبات الوجوه، حتى لا يعرف أحد كنههن؛ وتبقى كل واحدة منهن في المستشفى بضعة أيام، تعود بعدها إلى منزلها، وتحل غيرها محلها... وتضارع هذه المستشفيات في الجودة ملاجئ اللقطاء في فلورنس، حيث يعنى أكبر عناية بإطعام الأطفال وتعليمهم، وحيث يزودون بحلل متشابهة من الثياب ويلقون أعظم العناية بجميع أنواعها(29).
وكثيراً ما يكون من نحسس طالع الطب أن أمراضا جديدة تقابل تقدمه العظيم في العلاج- وتكاد تعقبه على الدوام. ومصداقا لهذا نقول إن الجدري والحصبة اللذين لا نكاد نسمع عنهما في أوربا قبل القرن السادس عشر أصبحا وقتئذ في مقدمة الأوبئة الأوربية. وقاست أوربا في عام 1510 أول وباء أنفلونزا سجله التاريخ في ربوعها. واجتاح إيطاليا في عامي 1505 و 1528 وباء من أوبئة التيفوس- وهو مرض لم يرد له ذكر قبل عام 1477. ولكن ظهور الزهري فجأة وانتشاره السريع في إيطاليا وفرنسا في أواخر القرن الخامس عشر كانا أكثر الظواهر رهبة وأشدها اختباراً لعلم الطب في عصر النهضة. ولسنا نعرف هل كان الزهري موجودا في أوربا قبل عام 1493 أو هل جاء إليها من أمريكا حين عاد منها كولمبس في ذلك العام، فتلك مسألة لا تزال مثار الجدل بين العلماء وليس هذا موضع البت فيها.
وتؤيد بعض الحقائق النظرية القائلة إنه مرض أصيل في أوربا؛ من هذه أن مومسا أقرت في محكمة بديجون أنها أقنعت أحد طلابها بعدم الاقتراب من لأنها مصابة بالمرض الكبير le gros mal، ثم لا نرى بعدئذ وصفا لهذا المرض في ذلك السجل(30). وفي الخامس والعشرين من شهر مارس سنة 1494 أمر منادى المدينة في باريس أن بأمر كل المصابين بـ البثرة الكبيرة(31).أن يخرجوا من المدينة. ولسنا نعرف ماذا كانت هذه "البثرة الكبيرة"، فلربما كانت هي الزهري نفسه. وفي أواخر عام 1494 غزا إيطاليا جيش فرنسي، واحتل نابلي في 21 فبراير من عام 1495، وسرعان ما فشا فيها بعدئذ وباء أطلق عليه الإيطاليون اسم الداء الفرنسي il morlo galolico يزعمون أن الفرنسيين قد جاءوا به إلى إيطاليا. وأصيب بهذا المرض كثيرون من الجنود الفرنسيين، ولما عاد هؤلاء إلى فرنسا في شهر أكتوبر من عام 1495 نشروا الوباء بين الأهلين؛ ولهذا سمى في فرنسا مرض نابلي Le mal de Naples لأن الأهلين افترضوا أن الجنود الفرنسيين قد أصيبوا به فيها. وفي السابع من عشر أغسطس عام 1495 أي قبل عودة الجيش الفرنسي من إيطاليا بشهرين أصدر الإمبراطور مكسميليان مرسوما ورد فيه ذكر المرض الفرنسي Malum Francicum؛ وغير خافٍ أن هذا "المرض الفرنسي" لا يمكن أن يعزى إلى الجيش الفرنسي الذي لم يكن قد عاد بعد من إيطاليا. وأخذ لفظ "المرض الفرنسي morbus gallicus" منذ عام 1500 يطلق على مرض الزهري في جميع أنحاء أوربا(32). ويحسن بنا أن نختتم هذه الفقرة بقولنا إن هذه كلها إشارات ولست أدلة قاطعة على أن الزهري كان موجودا في أوربا قبل عام 1493.
أما القول بأن أصل المرض أمريكي فقائم على تقرير كتبه طبيب أسباني يدعى راي دياز ده إزلا Rug Diaz da Izla بين عامي 1504 و 1506 (ولكنه لم ينشر إلا في عام 1539). وهو يقول إن قبطان سفينة أمير البحر أصيب في أثناء عودة كولمبس إلى أوربا بحمى شديدة مصحوبة بطفح جلدي مروع؛ ويضيف إلى ذلك قوله إنه هو نفسه عالج وهو في برشلونة بحارة مصابين بهذا المرض الجديد الذي لم يكن، على حد قوله، معروفا فيها من قبل. وقد قال إنه هو بعينه المرض الذي كانت تطلق عليه أوربا اسم "المرض الفرنسي" ويؤكد أن العدوى قد جاءت إليهم من أمريكا(33)، ومعروف أن كولمبس حين عاد من رحلته الأولى إلى جزائر الهند الغربية وصل إلى بالوس Palos في أسبانيا في الخامس عشر من شهر مارس سنة 1493. وقد لاحظ بنتور Pintor طبيب البابا اسكندر السادس في ذلك الشهر نفسه ظهور المرض الفرنسي لأول مرة في روما(34). ومرت سنتان كاملتان تقريبا بين عودة كولمبس واحتلال الفرنسيين نابلي- وهي مدة تكفي لانتشار الداء من أسبانيا إلى إيطاليا-؛ غير أننا لسنا واثقين من أن الوباء الذي اجتاح نابلي في عام 1495 هو الزهري عينه(35)، والعظام التي يمكن أن يفسر ما فيها من تغيرات على أنه من فعل الزهري جد نادرة في المخلفات الأوربية قبل عهد كولمبس، لكن عظاماً كثيرة من هذا النوع قد وجدت في أمريكا من مخلفات العهود السابقة لرحلة كولمبس ومهما يكن مصدر المرض الجديد، فإنه انتشر بسرعة مروعة، ويلوح أن سيزارى بورجيا قد أصيب به في فرنسا، كما أصيب به أيضاً كثير من الكرادلة ويوليوس الثاني نفسه؛ على أننا يجب أن ندخل في حسابنا إمكان انتقال العدوى به عن طريق الاختلاط البريء بأشياء أو أشخاص تحمل أو يحملون جرثومة المرض النشيطة. وكان الطفح الجلدي يعالج في أوربا من زمن بعيد بالمرهم الزئبقي؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد أصبحت مركبات الزئبق شائعة شيوع البنسلين في هذه الأيام. وكان الجراحون والدجالون يسمون بالكيميائيين لأنهم حولوا الزئبق إلى ذهب، واتخذت إجراءات للوقاية من الداء. من ذلك أن قانوناً صدر عام 1496 يحرم على الحلاقين قبول المصابين بالزهري أو استخدام الآلات التي استعملوها أو استعملت لهم. وتقرر فحص العاهرات مرارا أكثر من ذي قبل، وحاولت بعض المدن تجنب هذه المشكلة بطرد المومسات منها؛ فنفتهن فيرارا وبولونيا في عان 1496 بحجة أنهم مصابات "بنوع من الطفح السري يسميه بعضهم بجذام القديس أيوب"(38). ودعت الكنيسة إلى العفة لأنها هي طريق الوقاية الذي يحتاجه الناس وعمل بهذه النصيحة كثيرون من رجال الدين.
وكان أول من أطلق لفظ Syphilis (الزهري) على هذا الداء هو جرولامو فراكستورو Girolamo Fracastoro أحد الأشخاص ذوي المواهب المتعددة ولكنه مع ذلك من جلة العلماء في عصر النهضة.
قصة الحضارةج21 ص14-21، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الطب)
 
امتزاج العلمية مع العلمانية او الفلسفة الآيلة للعلمانية مع علوم الكون والطبيعة
:"ولما أن فصل أولئك الأطباء مهمتهم عن الكنيسة فصلا تاماً، أصبح الناس يجلونهم أكثر مما يجلون رجال الدين؛ فلم يكن كثيرون منهم مستشاري الأمراء، والأحبار، والملوك في الطب فحسب، بل كانوا إلى ذلك مستشاريهم السياسيين، وكثيرًا ما كانون رفاقهم المحببين. وكان كثيرون منهم من الكتاب الإنسانيين، ملمين بالآداب القديمة؛ يجمعون المخطوطات والروائع الفنية؛ وكثيرًا ما كانوا أصدقاء كبار الفنانين وثيقي الاتصال بهم. وآخر ما نقوله عنهم أن كثيرين منهم قد حققوا المثل الأبقراطي الأعلى وهو الجمع بين الفلسفة والطب ، فكانوا يتنقلون في يسر من موضوع إلى موضوع في دراساتهم وفي تعليمهم، ولبثوا في الهيئة المهنية الفلسفية المتآخية حافزاً لإخضاع أفلاطون، وأرسطو، وأكوناس- كما أخضعوا أبقراط، وجالينوس، وابن سينا- للفحص المتجدد، الجريء الذي يهدف إلى معرفة الحقيقة.
قصة الحضارة ج21 ص25 النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الطب)
:"الفلسفة
يبدو من أول نظرة أن النهضة الإيطالية لم تثمر محصولا موفوراً من الفلسفة، ذلك أن محصولها هذا لا يمكن أن يضارع ما أثمرته الفلسفة المدرسية الفرنسية في أيام عزها من عهد أبلار إلى عهد أكوناس، دع عنك "مدرسة أثينة الفلسفية". وأعظم الأسماء التي اشتهرت بها في الفلسفة (إذا تجاوزنا الزمن الذي يحدد عادة لنهاية النهضة) هو جيور دانو برنو Giordano Bruno (1548-1600)؛ وعمل هذا الرجل خارج نطاق الفترة التي ندرسها في هذا الكتاب. ويبقى بعد ذلك اسم بمبونتزي Pomponazzi، ولكن منذا الذي يعظم الآن هذا الصارخ المتشكك الجريء المسكين؟
وقد احتضن الإنسانيون مبادئ الثورة الفلسفية حين اكتشفوا ونشروا بحذر عالم الفلسفة اليونانية ولكنهم كانوا في معظم الأحوال- إذا استثنينا فلا Valla- أكثر دهاء وحرصاً من أن يعرضوا معتقداتهم جهرة. وكان أساتذة الفلسفة في الجامعات تقف في سبيلهم تقاليد الفلسفة المدرسية؛ ولهذا فإنهم بعد أن قضوا سبعة أعوام أو ثمانية يضربون في تلك البيداء انتهوا إما إلى الخروج منها إلى ميادين أخرى من الدراسة وإما إلى دفع أجيال أخرى إليها، بعد أن مجدوا لهم ما صادفوه من العوائق التي حطمت إرادتهم ووصلت بعقولهم سالمة إلى غاية عقيمة لا حياة فيها. ومن يدري لعل الكثيرين منهم أحسوا بقسط من السلامة العقلية والاقتصادية والاقتصار على المسائل الخفية الغامضة يصوغونها بعناية وحذر في مصطلحات مجدية غير مفهومة المعنى؟ وكانت الفلسفة المدرسية لا تزال في معظم الكليات الفلسفية خاضعة للتقاليد
قصة الحضارة ج21 ص26، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسفة
 
بلاد تعج بعلوم المسلمين
وإن اختلطت بتصورات مغلوطة جاءت من غير الإسلام
ابن رشد نموذجا
"وكان ابن رشد الرهيب ذلك الفيلسوف العربي المرعب، الذي ظل الفن الايطالي زمنا طويلا يصوره منكبا على وجهه تحت قدمي القديس تومس، كان ابن رشد هذا منافساً يدعو إلى غلبة الفلسفة الأرسطوطالية بلغ من قوته أن أضحت بدوا وبولونيا تعجان بإلحاده. وكانت بدوا هي التي أضاع فيها مرسيلوس، الذي تسمى باسمها، احترامه للكنيسة . وفي بدوا استقى فلبو ألجيري دانولا Algeri da Nola Filippo برونو المولود في نولا نفسها تلك الأخطاء المروعة التي لقى فيها ذلك المصير المحزن إذ ألقى به في برميل من القار وهو يغلي...تدعى De intllectu et daemonibus، (1492). وكان المتشككة يسعون في العادة إلى تهدئة ثائرة محكمة التفتيش بأن يفرقوا (كما كان ابن رشد يفرق) بين نوعين من الحقيقة- الدينية والفلسفية: فيقولون إن قضية من القضايا يمكن رفضها في الفلسفة إذا نظر إليها من ناحية العقل، ولكنها مع ذلك يمكن قبولها على أساس الإيمان إذا أخذنا بقول الكتاب المقدس أو الكنيسة. وعبر نيفو عن هذا المبدأ ببساطة كان فيها جريئا متهورا فقال: "يجب أن نتحدث كما يتحدث الكثيرون، ويجب أن نفكر كما يفكر القليلون(42). وبدل نيفو رأيه أو بدل أقواله لما تبدل لون شعره وتصالح مع مبادئ الدين القويم، وكان وهو أستاذ الفلسفة في بولونيا يجتذب الأعيان، وكرائم السيدات، وجماهير لا تحصى، محاضراته المصحوبة بالتهجم والسخرية، والمحلاة بالقصص والفكاهة. وأصبح من الناحية الاجتماعية أكثر معارضي بمبونتسى نجاحاً.
وكان بيترو بمبوتتسي، القنبلة المجهرية لفلسفة النهضة، ضئيل الجسم إلى حد جعل أصفياءه يسمونه بريتو Peretto - أي "بطرس الصغير". ولكنه كان كبير الرأس، عريض الجبهة، أقنى الأنف، صغير العينين، نفاذهما أسودهما، وكان رجلا يأخذ الحياة والفكر مأخذاً جدياً أليما. وقد ولد في مانتو (1462) ودرس الفلسفة والطب في بدوا، ونال الدرجتين فيهما وهو في سن الخامسة والعشرين، ولم يلبث أن أصبح أستاذاً في جامعة تلك المدينة نفسها وغمرته جميع تقاليد فلسفة بدوا المتشككة، وبلغت فيه غايتها، حتى قال في فانيني Vanini المعجب به: "لقد كان يحق إلى فيتاغورس أن يحكم بأن روح ابن رشد قد تقمصت جسم بمبونتسي(43). ويلوح أن الحكمة تكون على الدوام تجسيداً لحكيم قديم أو صدى لأقواله لأنها تبقى على الدوام دون أن يطرأ عليها تغيير بعد أن تمر بآلاف الأنواع المختلفة المتتابعة من الأغلاط.
قصة الحضارة ج21 ص28-29، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسفة
تعليق
كما كان في الحضارة الاسلامية من شارك فيها وهو مجوسي او نصراني او يهودي او شيعي له تصوراته عن العقيدة الخاصة به فكذلك يمكن ان تقول عن بعض مفاهيم ابن رشد بيد أن الأصل المشترك الذي أخذوا منه جميعا كان هو مفهوم المنهج التجريبي الذي قد يخالف بعض تصوراتهم الذهنية عن الغيب
من هنا نقول : أن من أنشأ النظرة التجريبية في العقل المسلم لم يكن إلا القرآن وآياته، وهي التي أحدثت إنقلابا كبيرا في طرق التصور وخلق اتجاها لرؤية الكون كما هو بعلله وأسبابه عند اهل الإسلام ثم كل من إختلط بهم وعاش معهم ونظر في العلوم المادية نظرهم.
 
إنشاء الجامعات وعداء بين الكنيسة والعلم الجامعي
ونموذج لعالم غربي جمع بين العلمية والإلحاد أو العلمانية
:"وكان بيترو بمبوتتسي، القنبلة المجهرية لفلسفة النهضة، ضئيل الجسم إلى حد جعل أصفياءه يسمونه بريتو Peretto - أي "بطرس الصغير". ولكنه كان كبير الرأس، عريض الجبهة، أقنى الأنف، صغير العينين، نفاذهما أسودهما، وكان رجلا يأخذ الحياة والفكر مأخذاً جدياً أليما. وقد ولد في مانتو (1462) ودرس الفلسفة والطب في بدوا، ونال الدرجتين فيهما وهو في سن الخامسة والعشرين، ولم يلبث أن أصبح أستاذاً في جامعة تلك المدينة نفسها وغمرته جميع تقاليد فلسفة بدوا المتشككة، وبلغت فيه غايتها، حتى قال في فانيني Vanini المعجب به: "لقد كان يحق إلى فيتاغورس أن يحكم بأن روح ابن رشد قد تقمصت جسم بمبونتسي...ومن عجب أنه بينا كان رأس بمبونتسي معلقاً في ميزان محكمة التفتيش، إذا صح التعبير، كانت ثلاث جامعات تتنافس للانتفاع بخدماته؛ ولعل في هذا التنافس دليلا على أن العداء بين الجامعات ورجال الدين كان لا يزال قائماً لم تنقطع أسبابه...وواصل بمبونتسي حملته التي يدعو فيها إلى التشكك في كتابين صغيرين لم ينشرهما في حياته. أرجع في أحدهما المسمى De incantione كثيراً من الظواهر الخارقة للطبيعة كما يزعم الناس إلى أسباب طبيعية. وكان سبب تأليفه أن طبيباً كتب إليه عن علاج شاف يقال إنه ثمرة رقى أو سحر، فأمره بيترو أن يشك في الأمر وكتب له يقول: "إن من السخف ومما يدعو إلى السخرية أن يحتقر الإنسان ما هو واضح وطبيعي لكي يلجأ إلى علة غير واضحة لا يؤكد صحتها أي احتمال موثوق به"(47). وهو بوصفه مسيحيا يؤمن بالملائكة والأرواح، ولكنه بوصفه فيلسوفا يرفضها، ويقول إن جميع العلل في عالم الله طبيعية. وهو يتأثر بتدريبه الطبي فيسخر بالاعتقاد الشائع في المصادر السحرية الخفية الشافية من الأمراض ويقول إنه لو كان في مقدور الأرواح أن تشفي أمراض الأجسام لكانت هذه الأرواح مادية أو كانت تستخدم وسائل مادية كي تستطيع أن تؤثر في جسم مادي، ثم يمضي فيصور في سخرية الأرواح السافية تهرول غادية رائحة ومعها ما لديها من جبس، ومرهم، وحبوب(48). على أنه يعتقد أن لبعض النباتات والحجارة قوة علاجية، ويصدق المعجزات الواردة في الكتاب المقدس، ولكنه يظن أنها كانت عمليات طبيعية، ويقول إن الكون تسيطر عليه قوانين ثابتة منسقة، وإن المعجزات ليست إلا مظاهر غير عادية لقوى طبيعية لا نعرف نحن إلا جزءاً من قدرتها ووسائلها، والناس يعزون إلى الأرواح أو إلى الله ما لا يستطيعون إدراكه بعقولهم(49). ويصدق بمبونتسي كثيرا مما ورد في التنجيم دون أن يرى في ذلك ما يتعارض مع هذه النظرة، نظرة العلل الطبيعية للأشياء؛ وهو لا يقول إن حياة الآدميين خاضعة لتأثير الأجرام السماوية فحسب، بل يضيف إلى ذلك أن جميع الأنظمة البشرية، ومنها الأديان نفسها، تنشأ، وتزدهر، وتضمحل بفعل المؤثرات السماوية، ويصدق هذا أيضا في رأيه على المسيحية، ويقول إن ثمة في تلك الأيام دلائل على أن المسيحية آخذة في الزوال(50)؛ ثم يقول بعدئذ إنه بوصفه مسيحيا يرفض هذا كله ويراه سخفاً وهراء.
أما كتابه الأخير De Fato فيبدو أنه أكثر اتفاقا مع الحقائق العلمية لأنه دفاع عن حرية الإرادة؛ وهو يعترف بأنه هذه الحرية لا تتفق مع علم الله بكل شيء ومعرفته بكل شيء قبل وقوعه، ولكنه يصر على اعتقاده بحرية الإنسان في نشاطه وعلى أنه لابد له أن يفترض في الإنسان قسطا من حرية الاختيار إذا كان للإنسان شيء من التبعة الأخلاقية. وكان في رسالته عن الخلود قد عالج إمكان نجاح أي قانون أخلاّ إذا لم يستند إلى العقاب والثواب تفرضهما قوة غير بشرية. وآمن بفخر شبيه بافتخار الرواقيين أن الفضيلة نفسها جزاء كاف للفضيلة، وليس ذلك الجزاء جنة بعد الموت(51)، ولكنه يقر بأنه لا يمكن حمل معظم الناس على مراعاة السلوك الحسن إلا بالاعتماد على الآمال والمخاوف يتلقونها من قوة غير بشرية. وهذا فيما يقول، هو الذي دعا كبار المشرعين إلى أن يغرسوّا في نفوس الناس الإيمان بوجود حالة في المستقبل تحل محل الشرطة التي لا يخلو منها مكان، وأكثر منها اقتصادا، ويبرر، كما يبرر أفلاطون تلقين الناس الخرافات والأساطير إذا كان في مقدورها أن تساعد على كبح جماح ما فطر عليه الآدميون من خبث...وكان في اللحظات التي هو فيها أكثر تواضعاً منه في غيرها يدرك ضيق مجال العقل البشري وما في الميتافيزيقيا من عبث شريف. وقد صور نفسه في سنيه الأخيرة رجلا منهوكاً هزيلا، حائرا، وشبه الفيلسوف بيروميثيوس الذي حكم عليه بأن يشد إلى صخرة وأن ينقر قلبه صقر لا ينقطع عن ذلك أبداً(55) لأنه أراد أن يسرق النار من السماء- أي أن يختطف المعرفة الإلهية. ويقول في هذا: "إن المفكر الذي ينقب عن الأسرار الإلهية الخفية ليشبه بروتيوس Proteus ... فمحكمة التفتيش تحاكمه بتهمة الإلحاد، والجماهير تسخر منه لأنه أبله"(56).
وأنهك الجدل الذي شغل كثيراً من وقته قواه وأضعف صحته، فكان ينتابه الداء في أثر الداء حتى اعتزم أخيراً أن يموت، فأختار إلى الانتحار أشق صورة من صوره: إذا آثر أن يموت جوعاً، فقاوم كل حجة يراد بها حمله على العدول عن قراره وكل تهديد وجه إليه، وتغلب على القوة نفسها وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام أو الشراب، فلما مضت على هذا النظام الصارم سبعة أيام شعر بأنه كسب المعركة التي تقرر حقه في أن يموت، وأن يستطيع وقتئذ أن يتكلم وهو آمن فقال: "إني أفارق الحياة مسروراً ولما سأله بعضهم: أنى تذهب؟ أجاب "إلى حيث يذهب جميع الخلائق الهالكين". ويبذل أصدقاؤه آخر جهودهم ليقنعوه بأن يتناول بعض الطعام، ولكنه أنى وفضل الموت (1525)(57). وأمر الكردنال جندساجا الذي كان تلميذاً له أن تنقل رفاته إلى مانتوا وأن توارى في ثراها، وأقام فيها تمثالا تخليدا لذكراه، وجرى في هذا على سنة التسامح التي تسود عصر النهضة.
ولقد عمد بمبونتسي إلى التشكك الذي ظل قرنين كاملين يحطم أسس العقائد المسيحية فصاغه في صورة فلسفية. واجتمعت عوامل كثيرة لتجعل الطبقات الوسطى والعليا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر "أكثر الشعوب الأوربية تشككاً"(58)، نذكر منها إخفاق الحروب الصليبية؛ انتشار الأفكار الإسلامية في العالم الغربي بتأثير الحروب الصليبية، والتجارة، والفلسفة العربية؛ وانتقال البابوية إلى أفنيون، وانقسامها السخيف على نفسها في عهد الانشقاق الكبير؛ وتكشف عالم وثني يوناني- روماني مليء بالحكماء والفن العظيم رغم خلوه من الكتاب المقدس ومن الكنيسة؛ وانتشار التعليم وتحرره المتزايد من السيطرة الكهنوتية؛ وفساد أخلاق رجال الدين ومنهم البابوات أنفسهم وانهماكهم في شؤون الدنيا مما يوحي بعدم إيمانهم بما يجهرون به من عقائد؛ واستخدامهم فكرة المطهر لجمع المال لأغراضهم الخاصة، ومعارضة طبقات التجار وأصحاب المال الناشئة لسيطرة رجال الكنيسة؛ وتحول الكنيسة من منظمة دينية إلى سلطة دنيوية سياسية، هذه العوامل كلها وكثير غيرها هي التي أدت إلى النتيجة السالفة الذكر...ويكاد نصف الأدب في العصور الوسطى يكون معارضا للكهنوت؛ وكان كثيرون من رؤساء العصابات المغامرة يجهرون بكفرهم(59)، كما كان رجال الحاشية Cortigiani أقل تدينا من العاهرات Cortigiane، وكان التشكك في أدب وظرف سمة السيد المهذب، والصفة التي ينبغي له أن يتصف بها(60). وكان بترارك يأسف لأن كثيرين من رجال العلم يرون أن تفضيل الدين المسيحي على الفلسفة الوثنية دليل على الجهل(61)؛ وتبين أن معظم أفراد الطبقة العليا في البندقية في عام 1530 يهملون أداء الواجبات الدينية في عيد الفصح أي أنهم لا يذهبون للاعتراف وللعشاء الرباني ولو مرة واحدة في العام(62). ويقول لوثر أنه وجد قولاً شائعاً بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا حين يذهبون للقداس: "هيا بنا نرتكب الخطأ الذي يرتكبه العامة"(63).
أما عن الجامعات فإن الحادثة الآتية العجيبة تكشف عن مزاج الأساتذة والطلبة: دُعى سيمونى بوردسيو Simone Porzio تلميذ بمبونتسي بعد وفاة أستاذه بقليل ليحاضر في بيزا، فأختار موضوعاً لمحاضراته كتاب المتيورولوجيا لأرسطو. ولكن المستمعين لم يعجبهم هذا الموضوع، وصاح بعضهم بعد أن نفذ صبرهم: "وماذا تقول في النفس؟ quid de anima". واضطر بوردسيو إلى أن يطرح كتغاب الميتوروجيا جانباً ويتناول كتاب النفس وسرعان ما كان المستمعون كلهم آذاناً صاغية(64). ولسنا نعرف هل جهر بوردسيو في تلك المحاضرة باعتقاده أن النفس البشرية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن نفس أسد أو نبات؛ ولكننا نعرف أن هذا هو ما كان يدعو إليه في كتابه العقل البشري De mente humana (65)؛ ويبدو أنه لم يصب بأي أذى من جراء دعوته هذه. وروى يوجينيو طرالبا
Euginio Tarralba، الذي اتهمته محكمة التفتيش الأسبانية في عام 1528، أنه كان في شبابه يأخذ العلم في روما على ثلاثة من المعلمين يقولون كلهم إن النفس هالكة(66). ودهش إرمس إذ وجد في روما أن المبادئ الأساسية للدين المسيحي كانت موضوعات للجدل المتشكك بين الكرادلة أنفسهم؛ وأن واحداً من رجال الكنيسة أخذ يشرح له سخف الاعتقاد بحياة في الدار الآخرة؛ وكان غيره يسخرون من المسيح والرسل؛ وكان غيرهم، كما يؤكد إرزمس نفسه، يقولون إنهم سمعوا كبار الموظفين البابويين ينكرون القداس ويسبونه(67).
قصة الحضارةج21 ص29-37 النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسف
 
بنص ديورانت محاور التأثير الإسلامي في العلوم على أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر
:"ولقد عمد بمبونتسي إلى التشكك الذي ظل قرنين كاملين يحطم أسس العقائد المسيحية فصاغه في صورة فلسفية. واجتمعت عوامل كثيرة لتجعل الطبقات الوسطى والعليا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر "أكثر الشعوب الأوربية تشككاً"(58)، نذكر منها إخفاق الحروب الصليبية؛ انتشار الأفكار الإسلامية في العالم الغربي بتأثير الحروب الصليبية، والتجارة، والفلسفة العربية
قصة الحضارة ج21 ص35، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسف
 
قال ويل ديورانت عن بدايات ظهور الفكر المتشكك العلماني الغربي واسبابه المجتمعة معا في الغرب
"واجتمعت عوامل كثيرة لتجعل الطبقات الوسطى والعليا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر "أكثر الشعوب الأوربية تشككاً"(58)، نذكر منها إخفاق الحروب الصليبية؛ انتشار الأفكار الإسلامية في العالم الغربي بتأثير الحروب الصليبية، والتجارة، والفلسفة العربية؛ وانتقال البابوية إلى أفنيون، وانقسامها السخيف على نفسها في عهد الانشقاق الكبير؛ وتكشف عالم وثني يوناني- روماني مليء بالحكماء والفن العظيم رغم خلوه من الكتاب المقدس ومن الكنيسة؛ وانتشار التعليم وتحرره المتزايد من السيطرة الكهنوتية؛ وفساد أخلاق رجال الدين ومنهم البابوات أنفسهم وانهماكهم في شؤون الدنيا مما يوحي بعدم إيمانهم بما يجهرون به من عقائد؛ واستخدامهم فكرة المطهر لجمع المال لأغراضهم الخاصة، ومعارضة طبقات التجار وأصحاب المال الناشئة لسيطرة رجال الكنيسة؛ وتحول الكنيسة من منظمة دينية إلى سلطة دنيوية سياسية، هذه العوامل كلها وكثير غيرها هي التي أدت إلى النتيجة السالفة الذكر.
قصة الحضارة ج21 ص35، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسفة
 
الحالة الغربية تحت التأثيرات التي ذكرها ديورانت -من قبل-في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر
البندقية الإيطالية كمثال
قال ديورانت:"وتبين أن معظم أفراد الطبقة العليا في البندقية في عام 1530 يهملون أداء الواجبات الدينية في عيد الفصح أي أنهم لا يذهبون للاعتراف وللعشاء الرباني ولو مرة واحدة في العام(62). ويقول لوثر أنه وجد قولاً شائعاً بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا حين يذهبون للقداس: "هيا بنا نرتكب الخطأ الذي يرتكبه العامة"أما عن الجامعات فإن الحادثة الآتية العجيبة تكشف عن مزاج الأساتذة والطلبة: دُعى سيمونى بوردسيو Simone Porzio تلميذ بمبونتسي بعد وفاة أستاذه بقليل ليحاضر في بيزا، فأختار موضوعاً لمحاضراته كتاب المتيورولوجيا لأرسطو. ولكن المستمعين لم يعجبهم هذا الموضوع، وصاح بعضهم بعد أن نفذ صبرهم: "وماذا تقول في النفس؟ quid de anima". واضطر بوردسيو إلى أن يطرح كتغاب الميتوروجيا جانباً ويتناول كتاب النفس وسرعان ما كان المستمعون كلهم آذاناً صاغية(64). ولسنا نعرف هل جهر بوردسيو في تلك المحاضرة باعتقاده أن النفس البشرية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن نفس أسد أو نبات؛ ولكننا نعرف أن هذا هو ما كان يدعو إليه في كتابه العقل البشري De mente humana (65)؛ ويبدو أنه لم يصب بأي أذى من جراء دعوته هذه. وروى يوجينيو طرالبا
Euginio Tarralba، الذي اتهمته محكمة التفتيش الأسبانية في عام 1528، أنه كان في شبابه يأخذ العلم في روما على ثلاثة من المعلمين يقولون كلهم إن النفس هالكة(66). ودهش إرمس إذ وجد في روما أن المبادئ الأساسية للدين المسيحي كانت موضوعات للجدل المتشكك بين الكرادلة أنفسهم؛ وأن واحداً من رجال الكنيسة أخذ يشرح له سخف الاعتقاد بحياة في الدار الآخرة؛ وكان غيره يسخرون من المسيح والرسل؛ وكان غيرهم، كما يؤكد إرزمس نفسه، يقولون إنهم سمعوا كبار الموظفين البابويين ينكرون القداس ويسبونه(67). أما الطبقات الدنيا فقد ظلت مستمسكة
قصة الحضارة ج21 ص36-37، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> الفلسفة
 
كيف تطور الفكر العلماني في ظل اسلام يزحف بعلمه وانواره مشككا في المسيحية ويضغط بعلومه الكونية والعقلية والمادية-تكنولوجيا ذلك الزمان الاسلامي الزاهر- كما في ظل حالة التشكك التي نتجت عن ظروف اوروبا الداخلية وحالة الجاهلية المسيحية المزرية
نضرب مثالا من داخل ايطاليا
:"إن عقل جوتشيارديني لهو خلاصة لما حدث في ذلك الوقت من تشكك منشؤه خيبة أمله وتكشف الغشاء عن عيني أهله. وكان هذا العقل من أقوى عقول زمانه، لا يطبقه ذوقنا لإسرافه في سخريته، ولا يتفق مع آمالنا لإفراطه في تشاؤمه، ولكنه عقل نافذ كالضوء الكشاف يجوب أطراف السماء، صريح صراحة الكاتب الذي قرر بحكمته ألا ينشر ما يكتب إلا بعد وفاته.
وكان فراتتشيسكو جورتشيارديني يستمتع منذ البداية بميزة مولده الأرستقراطي. فكاغن منذ طفولته يستمع إلى حديث المتعلمين باللغة الإيطالية الصحيحة، وقد تعلم أن يقبل الحياة كما هي بواقعية الرجل الواثق من مكانته وطمأنينة باله. وقد شغل عم والده منصب حامل شعار الجمهورية عدة مرات؛ كما تولى جده معظم المناصب الرئيسية في الحكومة واحداً بعد واحد؛ كان والده يعرف اللغتين اللاتينية واليونانية وقد شغل هو الآخر عدة مناصب دبلوماسية. وكتب فرانتشيسكو يقول إن "أشبينه هو مستر مرسيلو فتشينو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيون في العالم في أيامه"(68) ولم يحل هذا بين المؤرخ وبين أن يكون أرسطوطاليسي النزعة. ودرس القانون المدني وعن وهو في الثالثة والعشرين من عمره أستاذا للقانون في جامعة فلورنس. وكان كثير الأسفار، ولم يفته حتى أن يلاحظ "المخترعات العجيبة التي لا يتصورها العقل"، والتي ابتدعها هيرونيمس بوش Bosch Hieronymus فلاندرز(69) وتزوج ماريا سلفياتي Maria Salviati وهو في السادسة والعشرين من عمره "لأن آل سلفياتي كانوا، فضلا عن تراثهم العظيم، يفوقون غيرهم من الأسر في النفوذ والسلطان، وأنا مولع أشد الولع بهذه الأشياء"(70).
ولكنه مع ذلك كان شغوفا بالتفوق يروض نفسه على تأليف الكتب العظيمة في فن الأدب. وقد كتب وهو في السادسة والعشرين من عمره تاريخ فلورنس Storia Fiorentina وهو من أعجب ثمار عصر نرى فيه العبقرية التي امتلأ إناؤها بتراثها المستعاد، ولكنها تحررت من التقاليد، تناسب حرة كاملة في عشرات المسايل، وقد اقتصر هذا الكتاب على جزء قصير من تاريخ فلورنس، وهو الجزء المحصور بين عامي 1378 و 1509 ، ولكّنه عالج هذه الفترة بدقة في التفاصيل، وبحث للمراجع ونقد لها، وتحلي نفاذ للعلل، ونضوج ونزاهة في الحكم، وقدرة على القصص الواضح في لغة إيطالية حلوة؛ لم يرق إلى شيء منها تاريخ فلورنس Storie Fiorentine الذي كتبه ميكيفلي بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت في العقد السابع من حياته.
وأرسل جوتشارديني في عام 1512، وهو لا يزال شاباً في الثلاثين، سفيراً لفرديناند الكاثوليكي، ثم عينه ليو العاشر وكلمنت السابع في أوقات متعاقبة متلاحقة حاكما لرجيو إميليا، ومودينا، وبارما، ثم حاكما عاما على إقليم رومانيا كله، ثم قائداً عاماً لجميع الجيوش البابوية، وعاد إلى فلورنس في عام 1534 وأيد السندروده ميديتشي طوال الخمس السنوات التي فرض فيها هذا الوعد سلطته الاستبدادية على المدينة. وكانت له اليد الطولى في إقامة كوزيمو الأصغر دوقاً على فلورنس، ولما ذهب ما كان يأمله من السيطرة على كوزيمو هذا انسحب إلى قصره الريفي ليكتب في عام واحد المجلدات العشرة التي يتألف منها أعظم كتبه على الإطلاق وهو تاريخ إيطاليا Storia d' Italia. وهذا الكتاب أقل من كتابه الأول. في حلاوة أسلوبه وقوته. وكان جوتشيارديني في هذه الأثناء قد درس كتابات الأدباء الإنسانيين وانزلق إلى الاهتمام بالشكل وجمال اللفظ؛ ومع هذا كله فالأسلوب جزل يبشر بنثر جبن Gibbon مضرب المثل في البلاغة. وعنوان الكتاب الفرعي وهو تاريخ الحروب يقصر موضوعه على المسائل العسكرية والسياسية، ولكن ميدان البحث يتسع في الوقت نفسه حتى يشمل كل إيطاليا، وكل أوربا من حيث علاقتها بإيطاليا؛ وهذا أول تاريخ ينظر إلى نظام أوربا السياسي على أنه كل متصل. وجوتشيارديني يكتب في الغالب عما شاهده بنفسه، وإذا ما قرب الكتاب من نهايته فإنه يكتب عن الحوادث التي اشترك فيها بنصيب، وقد بذل جهودا كبيرة في جميع الوثائق؛ وهو أكثر دقة وأجدر بالثقة من مكيفلي. وكان إذا ما رجع إلى العادة القديمة، التي يرجع إليها معاصره الذي يفوقه شهرة، عادة اختراع الخطب ليلقيها أشخاص قصته، يقول بصراحة إن هذه الخطب ليست صحيحة إلا في جوهرها، وينص على أن بعضها حقيقي؛ وهو يستخدم هذه وتلك ليعرض على القاريء جانبي موضوع من موضوعات النقاش أو يكشف عن سياسة الدول الأوربية في الداخل والخارج. وهذا التاريخ الضخم وتاريخ فلورنس الباهر مجتمعين يرفعان جوتشيارديني إلى مقام أعظم مؤرخ في القرن السادس عشر. وكما أن نابليون كان شديد الرغبة في أن يرى الفيلسوف جيته، كذلك أبقى شارل الخامس في بولونيا الأعيان وقواد الجيش جالسين في حجرة الانتظار بينما كان هو يتحدث مع جوتسيارديني حديثاً طويلا، ويقولك "إن في وسعي أن أخلق عشرين نبيلا في ساعة، ولكني لا أستطيع إيجاد مؤرخ واحد في عشرين عاماً"(71).
أما من حيث هو رجل من رجال الدنيا، فإنه لم يكن ينظر بعين الجد إلى ما يبذله الفلاسفة من جهود لمعرفة أسرار الكون. وما من شك في أنه لو رأى ما يثيره بمبونتسي من حماسة لتبسم ساخراً منها. وكان يرى أن من العبث أن يثور بيننا النزاع حول خوارق الطبيعة لأن هذه الخوارق بعيدة عن مداركنا. والأديان كلها في رأيه تقوم على افتراض صحة الأساطير، ولكن هذا مما يمكن اغتفاره إذا كانت هذه الأديان تساعد على الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي والتأديب الأخلاقي؛ ذلك بأن الإنسان، كما يراه جوتشيارديني، أناني يعمل لنفسه، فاسد الأخلاق، خارج على القانون؛ ولهذا وجب أن توضع في سبيله، في كل خطوة يخطوها، عوائق من العادات، والأخلاق، والقوانين، والقوة، والدين في العادة أقل الوسائل الموصلة إلى هذه الغاية مدعاة للنفور. ولكن إذا ما فسد الدين حتى أصبح عاملاً على فساد الأخلاق بدلا من أن يكون سبباً في صلاحها، فإن المجتمع تسوء حالته لأن الدعامة الدينية التي يستند إليها قانونه الأخلاقي قد تقوضت من أساسها، ويكتب جوتشياديني في سجله السري يقول:
ليس ثمة من يبغض الطمع، والشره، ومظاهر الإفراط في القساوسة كما أبغضها أنا، وليس ذلك لأن كل الشرور بغيضة في ذاتها فحسب، بل لأن... هذه الشرور يجب ألا يكون لها مكان عند رجال يفترض فيهم أنهم ذوو علاقة خاصة بالله... ولقد كانت علاقتي ببعض البابوات مما جعلني أرغب في مثل عظمتهم مضحياً في سبيل ذلك بمصالحي نفسها. ولولا هذا الاعتبار لأحببت مارت لوثر كما أحب نفسي؛ وليس ذلك لأني أحب أن أكون حراً طليقاً من القيود التي تفرضها علينا المسيحية... بل لأني أحب أن أرى هذا الحشد من الأوغاد (questa caterva di scelerate) محصورين في نطاق الحدود الواجبة، فإما أن يحيوا حياة مبرأة من الإجرام أو حياة مجردة من السلطان(72).
ولكن أخلاقه مع ذلك قلما كانت خيراً من أخلاق القساوسة؛ وكان القانون الذي وضعه لحياته هو أن يكيف نفسه في كل ساعة حتى تتفق مع أقوى سلطة قائمة. أما مبادئه العامة فقد اختص بها كتبه، وفيها هي أيضا يستطيع أن يكون ساخراً سخرية مكيفلي: "إن الإخلاص مجلبة للسرور ويكسب صاحبه الثناء؛ أما الخداع فمجلبة للوم والكراهية، بيد أن أولهما أكثر نفعا للناس منه لصاحبه؛ ولهذا فإن من واجبي أن أثني على من كان أسلوب حياته متسما بالصراحة والإخلاص، فلا يلجأ إلى الخداع إلا في بعض الأشياء ذات الخطر العظيم، وفي هذه الحالة يكون الخداع أكثر نجاحا كلما كثرت محاولات الإنسان في أن يشتهر بين الناس بالإخلاص(73).
وكان ينفذ ببصره وراء دعاوى الأحزاب السياسية المختلفة في فلورنس ، ويرى أن كل حزب وإن نادى بالحرية إنما يسعى وراء السلطان: "يبدو واضحا لي أن الإنسان قد طبع على الرغبة في السيطرة على زملائه وإثبات تفوقه عليهم، ولهذا فما أقل من يحبون الحرية حباً يحول بينهم وبين تحين الفرصة المناسبة لحكم الناس وفرض السلطان عليهم. انظر عن كثب إلى سلوك الناس الذين يقيمون في مدينة واحدة، ولاحظ خلافاتهم وتقص أسبابها، تجد أن هدفهم التسلط عليهم لا طلب الحرية لهم. ولهذا ترى أن أكبر الأهلين مقاماً لا يسعون إلى الحرية، وإن كانوا لا ينفكون يلوكون هذا بلسانهم، بل كل ما يضمرونه في سرائرهم هو ازدياد سلطانهم وتفوقهم على غيرهم. أما الحرية عندهم فهي خداع وتصنع يخفى وراءه شهوة التفوق في السلطان والشرف(74).
وكان يحتقر جمهورية سدريتي التجارية التي اعتادت أن تحمى حريتها بالذهب لا بالسلاح، ولم يكن يؤمن بالشعب ولا بالديمقراطية.
"إن الحديث عن الشعب حديث عن الجنون، لأن الشعب وحش جبل على الاضطراب والأخطاء، ومعتقداته الباطلة بعيدة عن الحقيقة بعد أسبانيا عن الهند... وتدل التجارب على أن الأشياء قلما تحدث كما تتوقع الجماهير... وسبب ذلك أن النتائج... تعتمد في العادة على رغبة عدد قليل من الأفراد تختلف نواياهم وأهدافهم في جميع الأحوال تقريبا عن نوايا الكثرة وأهدافها"(وكان جوتشارديني مثلا كـآلاف في إيطاليا إبان عصر النهضة، لا إيمان لهم في شيء على الإطلاق، فقد واحب المسيحية، وعرفوا أضواء السياسة؛ ولم تكن لهم مثل عليا، أو أحلام؛ ألقوا بأنفسهم في أماكنهم لا حول لهم ولا طول بينما كانت الحرب والهمجية تكتسحان إيطاليا؛ وكانوا شيوخاً مفكرين تحررت عقولهم وتحطمت آمالهم، تبينوا بعد فوات الأوان أنه إذا ماتت الأساطير فلن تتحرر إلا القوة.
قصة الحضارة ج21ص38-43، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> جوتشيارديني)
 
في هذه الحالة المزرية من الحروب الداخلية في أوروبا واحتلال المدن وظهور حكام متشككين وفلاسفة ملحدين وباباوات مفسدين وعلوم اسلامية جعلت الرهبان والقساوسة والعلماء والأدباء يتشككون فيما هم عليه ظهر ميكافيلي وكتب كتبه تحت وقع ظروفه وظروف نجاحاته وخيباته(يمكنك مقارنة ماكتبه ابن خلدون أو حتى الغزالي في عزلته بما كتبه ميكافيلي مع النظر إلى حالة الإسلام وحضارته والصراع الذي حدث وتطور، وحالة الغرب والمسيحية فيه)
يقول ديورانت:"بقي من هذه الطائفة رجل واحد يصعب علينا أن نضمه إلى صنف بعينه، فقد كان دبلوماسيا، ومؤرخاً، وكاتباً مسرحياً، وفيلسوفاً، وأكبر مفكر ساخر في زمانه، ولكنه كان مع ذلك وطنيا متحمسا يتحرق رغبة في تحقيق مثل أعلى نبيل، أخفق في كل ما أخذ على عاتقه أن يقومه من الأعمال، ولكنه طبع التاريخ بطابع يكاد يكون أشد عمقاً مما طبعه به إنسان آخر في ذلك العصر.
كان نقولو مكيفلي ابن أحد المحامين في فلورنس- وكان هذا المحامي رجلا متوسط الثراء، يشغل منصبا صغيرا في الحكومة، ويمتلك بيتاً ريفياً صغيراً في سان كاستشيانو San Casciano على مسيرة عشرة أميال من المدينة. وتلقى الغلام التعليم الأدبي المعتاد، وتعلم أن يقرأ اللغة اللاتينية بسهولة، ولكنه لم يتعلم اللغة اليونانية. وراقه التاريخ الروماني، وأولع بليفي؛ ويكاد يجد لكل نظام سياسي، وكل حادثة في أيامه شبيهاً في تاريخ روما يوضح ذلك النظام وتلك الحادثة. وبدأ يدرس القانون، ولكن يبدو أنه لم يتم هذه الدراسة؛ وقلما كان يعنى بفن النهضة، ولم يظهر شيئا من الاهتمام حين كشفت أمريكا، ولعله كان يشعر بأن كل ما حدث بعد هذا الكشف أن مسرح السياسة قد اتسع، أما المسرحية فستبقى كما كانت وسيظل أشخاصها دون تغيير. وكان شغله الشاغل هو السياسة، فن الحصول على النفوذ، ولوحة الشطرنج التي تنتقل عليها قطع القوة والسلطان. وعين في عام 1498 وهو في التاسعة والعشرين من عمره أميناَ للديتشي دلا جويرا Dieci della Guerra- مجلس الحرب المكون من عشرة- وظل في هذا المنصب أربعة عشر عاماً.
وكان هذا المنصب في بادئ الأمر من المناصب المتواضعة- عمله جمع محاضر الجلسات، والسجلات، وتلخيص التقارير، وكتابة الرسائل؛ ولكنه كان يعمل في أداة الحكم، ويستطيع مراقبة سياسة أوربا من نقطة الملاحظة الداخلية، وكان في وسعه أن يحاول التنبؤ بالتطورات المقبلة بتطبيق معلوماته التاريخية.. وأحست روحه المتوثبة، العصبية، الطموحة، بأن الوقت دون غيره هو الذي يحتاجه لكي يرقى إلى القمة، ويسخر قوى الدولة العنيفة ضد دوق ميلان، ومجلس شيوخ البندقية، وملك فرنسا، وملك نابلي، والبابا، والإمبراطور. وما لبث أن أرسل في بعثة إلى كترينا اسفوردسا Caterina Sforza كونته إمولا وفورلي (1498). وأثبتت كترينا أنها أشد دهاء من أن تقع في حبائله، فعاد صفر اليدين بعد أن لاقى جزاءه. وجُرّب مرة أخرى بعد عامين، وصحبه في هذه التجربة فرانتشيسكو دلا كاساس في بعثة إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا. ومرض دلا كاسا، وكان على مكيفلي أن يرأس البعثة؛ فتعلم اللغة الفرنسية، وتنقل مع الحاشية من قصر إلى قصر، وبعث إلى مجلس السيادة من الأنباء اليقظة، والتحليلات الدقيقة، ما جعل أصدقاءه في فلورنس يثنون عليه ويقولون إنه أصبح دبلوماسياً ضليعاً.
وكانت نقطة الانقلاب في تطور ذهنه هي البعثة التي عين فيها مساعداً للأسقف سدريني وسافرت إلى سيزاري بورجيا في أربينو (1502). ولما استدعى إلى فلورنس ليلقى بياناً عنها بنفسه، احتفل بمنزلته الراقية التي بلغها في العالم بأن أتخذ له زوجة. وأرسل مرة أخرى إلى سيزارى في شهر أكتوبر، فالتقى به في إمولا، ووصل إلى بنجاليا Benigallia في الوقت الذي استطاع أن يرى فيه سعادة بورجيا بعد أن أفلح في اقتناص الذين ائتمروا به، أو خنقهم، أو سجنهم. وكنت هذه حوادث هزت مشاعر إيطاليا بأجمعها؛ أما أثرها في مكيفلي بعد أن التقى بالطاغية الباهر وجها لوجه، فقد كانت دروساً في الفلسفة. ذلك أن رجل الأفكار وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل الأعمال فكرمه هذا وعظمه، وتحرق قلب السياسي الشاب حسداً حين أدرك المسافة التي لابد له أن يقطعها من التفكير التحليلي النظري إلى العمل الرائع المحطم. فها هو ذا رجل يصغره بست سنين، قد قضى في سنتين اثنتين على أكثر من عشرة طغاة مستبدين، وأصدر الأوامر إلى أكثر من عشر مدن، وأثبت أنه الكوكب الوضاء في سماء زمانه؛ وما أضعف ما بدت الألفاظ أمام هذا الشاب الذي لم يكن ينطق منها إلا بالقليل، وكان ينطق بهذا القليل في ازدراء! وأصبح سيزارى بورجيا من تلك الساعة بطل فلسفة مكيفلي، كما أصبح بسمارك فيما بعد بطل فلسفة أخلاقية فوق الخير والشر، ونموذجاً للإنسان الأسمى.
ولما عاد مكيفلي إلى فلورنس في عام 1503 ، أدرك أن بعض رجال الحكومة يظنون أن بورجيا الجريء المتهور قد غلبه على أمره فبدل عقليته غير ما كانت. ولكن جهوده التي بذلها لتحقيق مصالح مدينته أعادت إليه احترام سديني حامل شعار المدينة ومجلس العشرة الحربي. وشهد في عام 1507 انتصار مبدأ من مبادئه الأساسية. فقد كان من زمن بعيد يقول إنه ما من دولة تحترم نفسها تقبل أن تعهد بالدفاع عن أراضيها إلى جنود مرتزقين، وذلك لأنها لا تستطيع الركون إليهم في الأزمات، ولأن في مقدور العدو المسلح بالقدر الكافي من الذهب أن يبتاعهم هم وقائدهم. ولهذا يرى مكيفلي أن يجب إنشاء قوة حرس وطني من أبناء البلاد، والأفضل أن تكون هذه القوة مؤلفة من الفلاحين الأشداء الذين ألفوا المشاق وعاشوا
في الهواء الطلق. ويجب أن تكون هذه القوة على الدوام حسنة التجهيز والتدريب، كما يجب أن تكون هي آخر خط للدفاع القوي الثابت عن الجمهورية. وقبلت الحكومة هذا المشروع بعد تردد طويل، وعهدت إلى مكيفلي أن ينفذه. فلما كان عام 1508 قاد حرسه الوطني إلى حصار بيزا، حيث أظهر براعة فائقة، وسلمت له بيزا، وعاد مكيفلي إلى فلورنس وقد بلغ ذروة مجده. وأرسل في بعثة أخرى إلى فرنسا (1510)، اجتاز فيها سويسرا، وأثار حماسته الاستقلال المسلح لدولة سويسرا الاتحادية، واتخذها مثلاً أعلى يريد أن يحققه لإيطاليا. ولما عاد من فرنسا أدرك المشكلة التي تواجهها بلاده: كيف تستطيع إماراتها المتفرقة أن تتحد لتدافع عن إيطاليا إذا ما قررت دولة متحدة مثل فرنسا أن تستولي على شبه الجزيرة بأجمعها.
وجاءت التجربة الكبرى لحرسه الوطني قبل الأوان. ذلك أن يوليوس الثاني قد استشاط غضبا من فلورنس لأنها رفضت الانضمام إليه في طرد الفرنسيين من إيطاليا، فأمر جيوش الحلف المقدس في عام 1512 أن تسقط حكومة الجمهورية وتعيد آل ميديتشي إلى العرش. وهزم حرس مكيفلي الوطني الذي عهد إليه الوقوف في خط الدفاع الفلورنسي عند براتو Prato وولى رجاله الأدبار أمام جنود الحلف المدربين. واستولى جنود الحلف على فلورنس، وانتصر آل ميديتشي، وفقد مكيفلي سمعته ومنصبه الحكومي، وبذل كل ما في وسعه لاسترضاء المنتصرين؛ وكان يسعه أن ينجح، لولا أن شابين متحمسين دبرا مؤامرة لإعادة الجمهورية، فاكتشف أمرهما، ووجد بين أوراقها ثبت يحتوي أسماء أشخاص يعتمدان على تأييدهم، ومن بينها اسم مكيفلي؛ فألقى القبض عليه، وعذب أربع دورات على العذراء؛ ولكنهم لم يجدوا دليلا على اشتراكه في المؤامرة فأطلق سراحه. وخشى مكيفلي أن يقبض عليه مرة أخرى، فانتقل هو وزوجته وأبناؤه الأربعة إلى بيت أسرته في سان كاستثيانو، حيث قضى السنين الخمس عشرة الباقية من عمره ماعدا السنة الأخيرة منها، يعاني الفقر ويعلل نفسه بالآمال، ولولا هذه الكارثة لما سمعنا به قط، لأن هذه السنين العجاف هي التي ألف فيها الكتب التي هزت مشاعر العالم كله.
قصة الحضارة ج21 ص44-48، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> الدبلوماسي
 
يتبع بقية النص السابق عن ميكافيلي:"وكانت هذه عزلة موحشة لرجل عاش في خضم بحر السياسة الفلورنسية. وكان احياناً يذهب راكباً إلى فلورنس ليتحدث مع أصدقائه القدامى، ويتحسس ما عسى أن يكون هناك من فرص للعودة إلى المناصب الحكومية. وكتب عدة مرات إلى آل ميديتشي في هذا الموضوع، ولكنه لم يتلق منهم جواباً، وقد وصف حياته في رسالة ذائعة الصيت إلى صديقه فتوري Vittori سفير فلورنس في روما، وأشار فيها إلى سبب تأليف كتاب الأمير فقال:
لقد ظلت منذ حلت بي الكارثة الأخيرة أحيا حياة هادئة في الريف؛ فأصحو في مطلع الشمس وأسير إلى إحدى الغابات حيث أقضي بضع ساعات أراجع فيها عمل الأمس؛ ثم أمضي بعض الوقت مع قاطعي الأشجار وأجد لديهم على الدوام متاعب يفضون بها إلىَّ سواء أكانت متاعبهم هم أو متاعب جيرانهم. فإذا غادرت الغابة ذهبت إلى نبع ماء ثم إلى حظيرتي التي أصطاد منها الطيور، وتحت إبطي كتاب دانتي، أو بترارك أو أحد الشعراء الذين هم أقل منهما شأناً مثل تيبلس Tibellus أو أوفد. وأقرأ في هذه الكتب عن عواطفهم الغرامية وقصص حبهم، فتذكرني بتاريخ حبي أنا؛ ويمر الوقت وأنا مبتهج مسرور بهذه الأفكار. ثم آوى بعدئذ إلى الفندق القائم على جانب الطريق، وأتحدث إلى المارة، وأسألهم أن أخبار الأماكن التي أقبلوا منها، وأستمع منهم إلى ما يحدثونني عنه وهو كثير، وألاحظ مختلف الأذواق والأوهام المستكنة في عقول بني الإنسان. وأصل بهذا إلى ساعة الغذاء فأبتلع في صحبة من معي ما عسى أن أجده في هذا المكان الصغير من طعام غير ذي شأن يفى به ما ورثته عن أبوي من مال قليل. وأعود بعد الظهر إلى الفندق حيث أجد في العادة صاحبه، وقصاباً، وطحاناً، واثنين من صانعي الطوب، فأختلط مع هؤلاء الأقوام الغلاظ طول النهار ألعب معهم النرد وغيره، وتثور بيننا آلاف المنازعات، ونتبادل كثيراً من السباب، ونتشاحن على أتفه النقود حتى تسمع أصواتنا في بلدة سان كاستشيانو. ويؤدي انغماسي في هذا الانحطاط إلى ضعف قواي العقلية، فأصب غضبي على القدر وبلواه...
وأعود إلى داري في المساء، وآوي إلى حجرة مكتبي؛ وأخلع عند بابها ملابسي الريفية الملطخة بالطين والأقذار، وأرتدي ثياب رجال البلاط؛ حتى إذا لبست ما يليق بي من الثياب دخلت الأبهاء القديمة لقدماء الرجال الذين يرحبون بي أحسن الترحيب، ويطعمونني الطعام الوحيد الذي أحبه وأرتضيه؛ والذي ولدت له، ولا أستحي من التحدث اليهم وسؤالهم عن بواعث أعمالهم، وتصل بهم إنسانيتهم إلى أن يجيبوا عن أسئلتي، وأقضي على هذا النحو أربع ساعات لا أشعر فيها بملل ولا أذكر فيها متاعب، ولا أعود أخشى الفقر أو أرهب الموت، لأن كياني كله يكون مستغرقاً فيهم. وإذ كان دانتي يقول إنه لا وجود لعلم دون أن يحتفظ الإنسان بما يستمع، فقد سجلت ما حصلت عليه من حديثي مع هؤلاء العظام وألفت منه كتيباً سميته في الامارة غرقت فيه إلى أبعد عمق أستطيعه من التفكير في هذا الموضوع، وبحثت فيه طبيعة الإمارة، وعدد أنواعها، وطريق الوصول إليها، والاحتفاظ بها، وسبب ضياعها؛ فإذا كنت تعني بشيء من عبئي، فإنك لن تجد في هذا مايسوؤك. ويجب أن يرحب به على الأخص كل أمير حديث العهد بالإمارة. ومن أجل هذا أهديه إلى فخامة جوليانو... (في ديسمبر سنة 1513)(76).
ونرجح أن مكيفلي قد اختصر القصة بقوله هذا. والظاهر أنه بدأ بوضع كتابه المسمى أحاديث عن العشرة الكتب الأولى للبغي، وأنه لم يتم شروحه للثلاثة الأولى منها. وقد أهدى هذه الأحاديث Discorsi إلى دسانوبي بونديلمنتي Zanobi Bunodelmonti وكوزيمو رتشيلي Cosimo Rucelli وقال: "أبعث إليك بأعظم هدية أقدمها لك. لأنها تشمل كل ما تعلمته بالتجربة الطويلة والدراسة المستمرة. ويشير إلى أن آداب القدامى وقانونهم وطبعهم قد بعثت من جديد ليستنير بها المحدثون في كتاباتهم وأعمالهم؛ وهو يقترح كذلك بعث مبادئ الحكمة القديمة، وتطبيقها على السياسة المعاصرة. وهو لا يستمد فلسفته السياسية من التاريخ، ولكنه يختار من التاريخ حوادث تؤيد النتائج التي قادته إليها تجاربه وأفكاره. ويأخذ أمثلته كلها تقريباً من ليفي، وتؤدي به سرعته أحياناً إلى إقامة حججه على الأقاصيص، ويستعين في بعض الأحيان بمقتبسات من بوليبيوس Polybius.
ولما سار بعض الخطى في أحاديثه أدرك أنها ستطول أكثر مما يجب، وأنها لن تتم إلا بعد زمن طويل، فلا تفيد في أن تكون هدية عملية لأحد الحاكمين من آل ميديتشي. لهذا قطع عمله ليكتب خلاصة تضم ما وصل إليه من النتائج ، لأن هذه تتاح لها فرصة لقراءتها أفضل من البحث المطول، وتكون أعود عليه بصداقة الأسرة القوية التي تحكم وقتئذ (1513) نصف إيطاليا. وهكذا وضع كتاب الأصول II principe (وهو العنوان الذي اختاره له) في عدد قليل من شهور هذا العام. وكان ينوي إهداءه إلى جوليانو دي ميديتشي، الذي كان يحكم فلورنس في ذلك الوقت، ولكن جوليانو توفي (1516)، قبل أن يصمم مكيفلي على إرسال الكتاب إليه، ولهذا غير صيغة الإهداء وبعث به إلى لورندسو، دوق أربينو؛ الذي لم يرسل إليه ينبئه بوصوله. وتداولت الأيدي المخطوط، وكتبت منه عدة نسخ خلسة، ولم يطبع إلا في عام 1532 بعد خمس سنين من موت المؤلف، وأصبح من ذلك الحين من أكثر ما يعاد طبعه من الكتب في أي لغة من اللغات.
وليس في مقدورنا أن نضيف إلى ما وصف به نفسه إلا صورة له لا يعرف مصورها محفوظة في معرض أفيزي. ويظهر فيها شخصا نحيل الجسم، شاحب الوجه، غائر الخدين، حاد العينين أسودهما، رقيق الشفتين مطبوقهما، تنم معارفه عن رجل تفكير أكثر مما هو رجل عمل، له من الذكاء الحاد أكثر مما له من الإرادة الطيبة والوداعة. ولم يكن في مقدوره أن يصبح دبلوماسياً صالحاً، لأنه لم يكن يسعه أن يخفي دهاءه، ولا أن يكون حاكماً قديراً لأنه كان مسرفاً في عنفه، يقبض على الأفكار بتعصب وعناد، كما يقبض في صورته على قفازيه اللذين يؤكدان مرتبته نصف الأرستقراطية، وهذا الرجل الذي كثيراً ما كتب كما يكتب الفيلسوف الكلبى، والذي كثيراً ما تنقلب شفتاه انقلاب الساخر المتهكم، والذي اعتاد الكذب حتى جعل الناس يظنونه يكذب حين يقول الحق(77)، هذا الرجل كان في خبيئة نفسه وطنياً شديد الحماسة، يرى أن مصلحة الشعب هي القانون الأعلى، ويخضع كل القوانين الأخلاقية لغاية واحدة هي توحيد إيطاليا وإنقاذها مما تعانيه.
وكان يتصف بكثير من الصفات غير المحبوبة؛ منها أنه لما أقبلت الدنيا على بورجيا اتخذه مثلاً أعلى، ولما انصرفت عنه سار وراء الجماهير وندد "بالقيصر" الساقط ووصفه بأنه مجرم و "عاص للمسيح"(78). ولما طرد آل ميديتشي لعنهم بأفصح عبارة، فلما عادوا إلى الحكم لعق أحذيتهم ملتمساً منهم منصباً. ولم يكن يزور المواخير قبل الزواج وبعده فحسب، بل كان يبعث إلى أصدقائه بأوصاف مفصلة لمغامراته فيها(79) وإن كثيراً من رسائله لتبدو فيها الغلظة والوقاحة واضحتين وضوحاً لم يجرؤ معه كاتب سيرته والمعجب به، الذي أطال في الترجمة له، على نشرهما، ولما قرب مكيفلي من سن الخمسين كتب يقول: "إن شباك كيوبد لا تزال تقتنصني، والطرق الوعرة لا تستنفذ صبري، والليالي السوداء لا توهن شجاعتي... إن عقلي كله لمتجه للحب اتجاهاً أحمد عليه فينوس"(80). تلك أشياء في وسعنا أن نغفرها له. لأن الرجل لم يخلق لكي يقتصر على زوجة واحدة؛ ولكننا لا نستطيع أن نغفر له بمثل هذه السهولة عدم وجود كلمة حنان واحدة موجهة إلى زوجته في كل ما بقي لدينا من رسائله وهو كثير؛ وإن كان هذا مما يتفق مع سنة تلك الأيام.
قصة الحضارة ج21 ص48-52، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> المؤلف والرجل
 
وأراد مكيفلي أن يجرب حظه في القصص فكتب قصة تعد من أحب الروايات للشعب في إيطاليا، وهي قصة بيلفاجور أرتشديافولو Belfagor arcidiavolo، التي تفيض بالفكاهة والهجاء يصبهما على الزواج. ثم تحول بعدئذ إلى كتابة المسرحيات، فألف أهم مسلاة ظهرت على مسرح النهضة الإيطالي وهي مسرحية مندراجولا Mandragola. وتضرب مقدمة هذه الرواية نغمة جديدة إذ يجامل فيها النقاد مجاملة لا عهد لهم بها من قبل:
"إذا شاء أحد أن يبعث الخوف في قلب المؤلف بالقدح فيه، فإني أحذره بأن المؤلف أيضاً يعرف كيف يقدح، بل إنه بارع في هذا الفن، وأنه لا يحترم أحداً في إيطاليا وإن كان ينحني ويتذلل لمن هم أحسن لباساً منه
قصة الحضارة ج21 ص53، النهضة -> الصَّدعُ -> الثورة العقلية -> مكيفلي -> المؤلف والرجل)
يضيف ديورانت:"والمسرحية تكشف عن أخلاق عصر النهضة كشفاً يروع الإنسان ويذهله. والمكان الذي تقع فيه حوادثها هو مدينة فلورنس، ومضمونها أن كليماكو Callimaco يسمع إنساناً يعرفه يمتدح جمال لكريدسيا زوجة نتشياس فيقرر أنه لابد من أن يغويها؛ وإن لم يكن قد رآها من قبل، وإن لم يكن يقصد بإغوائها إلا أن ينام هادئاً مستريح البال. ويقلقه أن لكريدسيا تشتهر بتواضعها بقدر ما تشتهر بجمالها، ولكن أمله يقوى حين يقال إن نتشياس يألم من أنها لا تحمل. ويرشو كليماكو صديقاً لكي يقدمه لنتشياس على أنه طبيب، ويدعى أنه سيخلط له مزيجاً يجعل في مقدور أية امرأة أن تحمل، ولكنه يعرف مع الأسف الشديد أن أي رجل يضاجعها بعد أن تتناوله سيموت بعد قليل، ويعرض عليه أن يقوم بهذه المغامرة المهلكة، ويرضى نتشياس أن يحل محله متبعاً في ذلك طيبة الخلق التقليدية التي يتصف به أشخاص القصص لمبتكريهم. غير أن لكريدسيا تناضل عن عفتها؛ وتتردد في أن ترتكب جريمتين في ليلة واحدة هما جريمة الزنا والقتل لكن الرجاء لن يخيب كله، ذلك أن أمها، في حرصها الشديد على أن يكون لابنتها خلف، ترشو راهباً فينصحها أثناء اعترافها بأن تنفذ الخطة؛ وتخضع لكريدسيا، وتشرب الدواء، وتنام مع كليماكو، وتحمل. وتختتم القصة خاتمة سعيدة لكل أشخاصها: فالراهب يطهر لكريدسيا، ويبتهج نتشياس لأنه أصبح له ولد مشكوك في بنوته، ويستطيع كليماكو أن ينام. والمسرحية ممتازة في بنائها، بديعة في حوارها، قوية في هجائها. وليس الذي يثير دهشتنا فيها هو ما موضوع الإغواء، الذي طالما رددته المسالي القديمة حتى مللناه، وليس هو ما تحتويه من تفسير الحب تفسيرا جسدياً شهوانياً، بل هو المحور الذي تدور عليه وهو استعداد الراهب لان يحلل الزنا نظير خمسة وعشرين دوقة؛ إن المسرحية قد مثلت في عام 1520 بنجاح عظيم أمام ليو العاشر. وقد بلغ من سرور البابا بها أن طلب إلى الكردنال جويليو ده ميديتشي أن يعهد إلى مكيفلي بعمل من نوع التأليف فاقترح جويليو أن يكون هذا العمل هو كتابة تاريخ لفلورنس وعرض عليه في نظير ذلك ثلاثمائة دوقة (3.750؟ دولاراً).
 
عودة
أعلى