فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا
ومدرسة دار الدعوة والإرشاد
كلمة الأستاذ عبد السميع البطل
في حفلة تأبين الفقيد
إن طريقة الوعظ والإرشاد ليست من الصناعات التي يستطيع كل إنسان أن
يزاولها في مهارة وحذق ، ولكنها ملكة من الملكات التي قد يحسنها قليل العلم ،
ويتخلف عنها أكثر الناس تحصيلاً ، وقد نشأ فقيدنا ونشأ معه الميل إلى وعظ العامة
وإرشادهم ، بما كان يتصدى له أولاً في صدر شبابه من قراءة الدروس في قريته
القلمون من أعمال طرابلس الشام ، ثم بما كان من إنشائه المنار ثانيًا ، واستهدافه
بالإجابة على الأسئلة التي كانت تنحدر إليه كالسيل من الشرق والغرب ، في
المسائل المنوعة ، وجرأته وصراحته في تقديم النصيحة للملوك والأمراء وكبار
الحكام والعلماء - إحياء لسنة السلف - مما جعله أندى العلماء صوتًا ، وأبعد
المصلحين صيتًا ، وأسير المجددين ذكرًا ، وأكثر الكتاب أثرًا .
وقد قويت رغبته في أن يتولى هو نفسه تربية طائفة من الشبان يصنعون
على عينه ، يقوم بعضهم بواجب الدعوة إلى الإسلام ، ورد شبهات المعترضين
عليه ، متسلحين بما يتسلح به أمثالهم من رجال الدعوة في الأمم الراقية ، من الجمع
بين علوم الدين ، وما لا بد منه من علوم الدنيا ، ويقوم الفريق الآخر بإرشاد
المسلمين إلى ما هو أجدى عليهم في دينهم ودنياهم ، مع خبرة بحال العصر ، وما
ينبغي أن يكون عليه المرشد من مسايرة الزمن .
كانت هذه أمنية تعتلج بنفسه منذ كان يتردد وهو طالب بطرابلس على مكتبة
المبشرين الأمريكيين ، يقرأ جريدتهم الدينية ، وبعض كتبهم ورسائلهم ، ويجادل
قسوسهم .
وفي سنة 1327 كان الخلاف بين الترك والعرب مستمرًّا ، فرأى أن يشخص
إلى الآستانة ليقضي على عقارب الفتنة ، متوسلاً إلى ذلك باتصاله بكبار الدولة
هناك ، وبما كان يكتبه من مقالات في جريدة ( إقدام ) وجريدة ( كلمة الحق ) ثم
في جريدة الحضارة ، ولشيء آخر شغفه حبًّا ، وكان مستهامًا به صبا ، وهو تأليف
جماعة لإنشاء مدرسة للدعوة والإرشاد .
اختار إمامنا أن تكون الآستانة مشرق ذلك النور ، ومبعث هذا الإصلاح ،
وقبلة التأليف بين العرب والترك ؛ ليكون المشروع بنجوة من مهابِّ السياسة
وأعاصير الفتنة ، وفي الآستانة سلخ عامًا كاملاً ، يروج للمشروع ، ويقنع به كبار
المسئولين ، فلقي أولاً ترحيبًا به ومعاضدة ، وتقرر أن تكفله وزارة الأوقاف ،
وتألفت الجماعة من كبار رجال الدولة للعمل وإعداده في تفصيل واسع لا محل
لبيانه هنا ، ولكن بعض الأيدي كانت تعمل من وراء الستار للنهي عنه والنأي
عنه ، فقضي عليه وهو جنين ، وعاد فقيدنا من الآستانة - كما كان يعود منها كل
مصلح - ساخطًا ناقمًا ، ولكنه لم ييئس من روح الله ، فجدد السعي هنا بمصر ،
وألف الجماعة ، واختير أعضاؤها من أهل الفضل والغيرة ، ووضع لها قانونًا من
أدق القوانين ، وعلم بالأمر الخديوي عباس الثاني فأكبره ، وأظهر رضاه عنه ،
وارتياحه له ، وأمدته الأوقاف بمبلغ من المال ، ووعدت بمضاعفته ، وتبرع له
كثيرون من ذوي الأريحية ، وأجمع العقلاء على استحسانه - بله وجوبه - وفتحت
المدرسة أبوابها في 12 من ربيع الأول سنة 1330 تيمنًا بعيد ميلاد النبي صلى الله
عليه وسلم ، وكان السيد وكيل الجماعة وناظر المدرسة ، بل كان عقلها المفكر ،
وروحها المدبر .
نجحت الفكرة إذًا بمصر ، ولقيت معاضدة الأمير واستحسان العقلاء ، ولكنها
لم تنجُ من إرجاف المرجفين ، وأذى المفسدين ، فلبس لها بعض الجرائد جلد النمر ،
وترصدها دعاة النصرانية ، وأنذرت القناصلُ دولَها عاقبتها ، أن مدرسة أنشئت
بمصر سيكون لها من الأثر في تنبيه المسلمين ما سيكون خطره عظيمًا .
كانت المدرسة ملتقى الطلبة من جميع الأجناس الإسلامية ، التقى فيها
المصري والمغربي ، والشامي والفلسطيني والعراقي ، والتركي والداغستاني ،
والهندي والجاوي والسومطري . وكان يفضل الأجنبي لحاجة بلاده إلى المتعلمين
أكثر .
كان الطلبة فريقين ، ففريق منتسب يحضر من الدروس ما يشاء ، ويتخلف
عما يشاء ، وفريق يحتم عليه حضور الدروس كلها ، ويبيت في المدرسة مكفي
الحاجة من مطعم ومسكن وكتب ، وكان لهذا الفريق نظام خاص يسلكه في معيشته
وتربيته ، منه أن يستيقظ طلبته قبيل الفجر للصلاة وتدبر القرآن ، ويؤدوا الفرائض
كلها في جماعة خلف إمام واحد ، ويكثروا من التنفل في الصلاة ، والصوم ،
ويروضوا نفوسهم على آداب الإسلام بقوة فيتحرجون من فعل خلاف الأوْلى ، ومن
ثبت عليه الكذب كان الطرد جزاءه ، وكانت المدرسة في قصر شريف باشا بالمنيل
على ضفة النيل الغربية عند قنطرة الملك الصالح فكان الطلبة لا ينزلون إلى مصر
إلا بإذن كتابي من الفقيد ، بعد أن يذكر طالب النزول كتابة سبب نزوله وموعد
غدوه ورواحه ، وكان يقول : ( إن الذي يكثر الاختلاف إلى القاهرة تبطل الثقة
به ) لذلك كنا نظل الأسبوع والأسابيع لا نغادر جزيرة الروضة ، وكان المجتمع
بالأمس غيره اليوم ، بل فوق ذلك كان يكلف كل طالب أن يحمل في جيبه مذكرة
يدون فيها أعماله حسنها وسيئها ؛ ليكون على نفسه حسيبًا ، ولأجل ذلك كان لا بد
أن يجتاز الطالب سنة تسمى السنة التمهيدية لاختبار أخلاقه وتزويده بالعلم والعمل ،
وكانت اللغة الفصحى هي لغة التخاطب كما كانت لغة الدرس ، ومن وصاياه أن
التزام الفصحى يومًا واحدًا خير من قراءة كتاب .
مضى على إنشاء المدرسة ثلاث سنين إلا قليلاً ، ثم اشتعلت نار الحرب
الكبرى وكانت أيامها النحسات ، فأُبعد الخديوي وكان لها عضدًا ، فغُلت الأيدي إلى
الأعناق ، وجمدت الأكف عن العطاء ، وأعطت الأوقاف قليلاً وأكدت ، ثم شحت
بالجباية واعتذرت .
عندئذ اضطرت المدرسة أن تكتفي بمن فيها من الطلبة ، ولم تقبل جديدًا ،
وألجأتها الضرورة الملحة أخيرًا ألا تلتزم ما كانت تلتزمه من نفقة المأكل والكتب ،
وظلت تجاهد في العنت في وناء وضعف سنتين ، ثم ودعت الحياة تاركة آثارًا
حسانًا وميراثًا عظيمًا ممن تربوا في أحضانها وعملوا جهدهم على تحقيق بعض
أغراضها ، وما أسف العقلاء على شيء أسفهم على حرمان الأمم الإسلامية من
ثمرات هذه المدرسة التي كانت موضع الرجاء في انتياش المسلمين مما تهوكوا فيه
من مفاسد البدع والخرافات والتقاليد والعادات ؛ حتى لقد كان أستاذنا يقول : ( لو
أني كتبت تاريخًا للمدرسة لكان فضيحة للأمة كلها ) يريد أن الأمة الإسلامية
المنبثة في الشرق والغرب لم تحسن احتضان هذا العمل المجيد ، والاضطلاع به
في حين تنفق الأمم الأخرى ملايين الجنيهات على جماعات الدعاة بسخاء واغتباط .
ولعلكم تحبون أن تعرفوا عمل السيد في المدرسة ، ولقد كان فيها مَعقِد الأمل ،
وقطب الرحى ، والقبلة التي تولى الوجوه شطرها ، كان لدروسه أعظم الأثر في
إصلاح النفوس ، وتثقيف الألسن ، كان يدرس التفسير ، فتتجلى روح الإلهام
الصادق ، والبصيرة النيرة ويدرس الحديث والتوحيد والكلام وحِكم التشريع ، وتعلم
الإنشاء ، ويمرن على الخطابة الارتجالية ، ويبصرنا بالأساليب الصحيحة وما
يهجنها من دخيل أو سوقي أو مبذول ، أو وضع للمفردات في غير موضعها ، وقرأ
قدرًا من البلاغة ، وكنا نطالع أمامه في مقالات العروة الوثقى .
ولشد ما كانت دهشتنا أول العهد به حين سمعنا لأول مرة لغة فصيحة عالية
الأسلوب مرتجلة ، وغوصًا على معاني المفردات في دقة ، والتقاطًا لفرائد البلاغة
في دروس التفسير وغيرها ، واستخراجًا لكوامن العبر من ثنايا الآيات البينات ، بل
لشد ما كان عجبنا حين كنا نراه يبكي في المواضع التي تستدر الدمع ، والذين
عاشروا السيد يعلمون أنه كان أسيفًا رقيق القلب ، سخيًّا بالدمع سخاءه بالمال ،
وكان يقول ، وكتب في ( المنار والأزهر ) أنه كان يقرأ وِرد سحر أول اشتغاله
بالتصوف فإذا مر ببيت المنبهجة [1] :
ودموع العين تسابقني ... تجري من جفونك كاللجج
ولم يبك ، تركه ولم يقرأه لئلا يكون كاذبًا فيخجل أمام ربه .
كان السيد مغرمًا بالاستطراد الطويل في غير ملل ، فبينما يكون موضوع
الدرس تفسيرًا أو حديثًا ، أو حكمة تشريع مثلاً ، إذا به يحتال للدخول في باب
السياسة أو الاجتماع أو تاريخ الفرق ومذاهب المبتدعين أو ما أشبه ذلك ، فنخرج
من الاستطراد بكليات عظيمة تزيدنا بصيرة وثقافة .
وقد لا تعجب هذه الطريقة رجال التربية الحديثة ، ويرونها معيبة بالمدرس ،
مضيعة للطالب ؛ ولكن هذا يرجع فيما أرى إلى عدة أسباب ؛ فهو قد قرأ كتب
المتقدمين ، وتغلغل فيها ، وهضمها ، وتمثلت فيه ، فتأثر بها ، وتلك كانت طريقتهم ،
وكان ريان من العلم شبعان ، فكانت تتدافع المسائل في صدره فلا يستطيع لها
كبحًا .
وسبب ثالث كان أحيانًا ما يصرح به ، وهو أنه قليل الثقة بدوام المدرسة ،
ويخشى أن يفوته شيء يريد أن يقوله فلا تواتيه الفرصة ؛ لذلك كان يتلمس
الاستطراد تلمسًا ، وأذكر أن بعض إخواننا من كبار علماء الأزهر حملته مرة هذا
الاستطرادات في مجلس معه - وكانت شفَتْ كثيرًا مما بنفسه - على أن يطلب إليه
أن يقدم درسًا خاصًّا في بيته ليلة في الأسبوع ففعل ، وكان يحضره كثير من أذكياء
علماء الأزهر وأساتذة المدارس العالية والثانوية والابتدائية .
ثم لعلكم تحبون أن تقفوا على شيء من حال طلبتها بعد أن آل أمرها إلى ما
عرفتم ، وأقول لكم : إن منهم المشتغل بالتربية والتعليم ، والمشتغل بالصحافة
والتحرير ، والمشتغل بالوعظ والإرشاد ، والمتصل بالملوك ورجال السياسة .
وحسبكم أن تعلموا أن الناموس الخاص لجلالة ابن سعود أحدهم ، بل حسبكم
أن تعلموا أن زعيم القدس الكبير السيد أمين الحسيني ممن يتشرفون بالانتساب إليها .
هذه لمحة خاطفة عن تلك المدرسة التي أصبحت كمنشئها في ذمة التاريخ ،
وهناك مدرسة الفقيد الكبرى التي عكس مناره من أشعتها على العالم أربعين سنة ،
تبوأ فيها بحق مقام الإمامة ، وخلف ميراثًا عظيمًا يشرع للناس طرق الإصلاح ،
ويبصرهم بكتاب الله وهدى رسوله ، وقد أصبح له تلاميذ ومريدون يعدون بالألوف ،
وصار له حزب قوي في الأزهر ممن قبضوا قبضة من أثره ، وإنه لميراث عظيم ،
شغل فقيدنا حياته في جمعه وادخاره ، وترك ذرية ضعافًا لا سند لهم إلا الله
وإخلاصه ، وأقول - والألم يحز في النفس - إن المنار قد مات بموت صاحبه أو
كاد ، ولا غرو فقد كان السيد أمة وحده في علمه ، ودينه ، وكفايته وصبره ، والثقة
به ، والبذل في سبيل الله ، ولسنا بواجدين من يملأ بعض فراغه في بعض ما نهدَ
له ، وفي العالم الإسلامي علماء يعدهم الناس بالألوف ، فيالله للأمة الفقيرة .
ولقد كان السيد جديدًا دائمًا ، غير آسن ، كما كان يتجلى ذلك في كتاباته
وأحاديثه ، اتصلت به ما يناهز ربع قرن اتصالاً وثيقًا ، طالبًا وصديقًا ؛ فما أذكر
أني وردت شرعته يومًا - على كثرة الورود - إلا وصدرت بجديد في العلم أو
الأدب أو شئون الحياة ، أحسن الله عزاء الأمة فيه ، وبوأه منازل الكرامة مع الذين
أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا .
__________
(1) وكنت أود في هذا المقام لو يتسع الوقت للكلام على السيد رشيد الأديب والسيد رشيد الصوفي الناسك .
قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ
في تأبين السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله
داعٍ إلى الحق غالت صوتَه النوبُ ... أصيب في فقده الإسلام والعرب
وكوكب من سماء الفضل حين هوى ... هوى منار الهدى وانثالت الكرب
وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى ... من ثكله شرف الأعراق والنسب
قضى الإمام فوجه الحق مكتئب ... مما دهاه وطرف الهدي منتحب
والحزن مستعر النيران متصل ... والصبر منقطع الأوصال منقضب
والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ ... والبر والدين والأخلاق والأدب
ومعقل العلم والعرفان مضطرب ... يكاد من برحاء الهول ينقلب
والشرق يندب والأقطار واجفة ... كأنما دب فيها الويل والحرب
يا ناعي الحي حق ما رويت لنا ... أن الإمام حواه الترب أم كذب
ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى ... كن المنايا من الأفلاك تقترب
كادت تضل عقول فيه من جزع ... تقول : هل مات أم دارت به الشهب
أم راح يبغي سماء عن سماوته ... أم استسر فقامت دونه الحجب
لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد ... أعيا وقد يستريح الدائب الدرب
دعاه ومذ لبت الألباب دعوته ... هفا بها لمغاني قدسه الأرب
والبدر مهما تناهى في تنقله ... في الفلك فهو إلى مغناه منقلب
لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت ... مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب
فرُب ليل طواه كله نسك ... ورُب يوم قضاه كله قُرَب
ورُب خافية الأعلام نائية ... يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب
ألقى عليها شعاعًا من بصيرته ... بدت به وهي في عين النهى كثب
ورُب سنة هدى قد تكنفها ... وهمٌ ورانت على أنوارها الريب
أعادها برزة للناس هادية ... كما انجلت عن سنا أقمارها السحب
ورُب آيات تنزيل سرائرها ... ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب
سما إليها وعانى سترها فبدا ... للمستريبين من تفسيرها عجب
يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه ... من روعة الحق سلطان فيتئب
وغارة في سبيل الله ظافرة ... يهفو لها المجد والإسلام والحسب
قد شنها منه ماضي العزم ينجده ... من حزمه وحجاه جحفل لجب
دارت على محور البرهان دورتها ... حتى تجلت وهو في أرجائها قطب
ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي ... والحق مرتفع الرايات منتصب
في ذمة الله نفس ما ألم بها ... رضا لغير رضا الخلاق أو غضب
وهمة ما نأى عن باعها أمل ... ولم يفتها من العلياء مطلب
لهفي على القائم الهادي إذا خفيت ... معالم الحق أو ضنت به العصب
ومن إذا نابَتِ الإسلامَ نازلة ... علا به الجد والإقدام والدأب
وإن دجا الخطب واسودت جوانبه ... بدت لنا فيه من آرائه شهب
القانت العف والأطماع دانية ... والمقدم الندب والأهوال تصطخب
والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا ... فيه إذا جد بالمستهتر اللعب
والقائل الصدق لا يدنو به رغب ... في قوله لا ، ولا ينأى به رهب
فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها ... ولا ثنى عزمه مال ولا نشب
غايات مبدئه الإيمان في عمل ... وروح نهضته الإقدام والغلب
سائل به الليل هل شقت غياهبه ... عن مجاهد مثله لله يحتسب
وسائل العلم والعرفان : هل رفعت ... لمثله في ذرى عليائهما الرتب
وهل شكا الوطن المحزون نكبته ... إلا ولباه ذاك المشفق الحدب
يا صاحب القلم الكافي بفتكته ... يوم التناضل ما لم تكفه القضب
إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم ... وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب
( أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة ) ... أما توافت لك الآثار والكتب
أما إقالتك أيام محجلة ... يبلى المدى وهي في آثارها قشب
لك المواقف يختال الزمان بها ... والباقيات على الأيام والخطب
السائرات مسير النيرات هدى ... والساطعات وآفاق النهى كهب
والخالدات فما إن فاتها زمن ... والدائبات فما إن مسها نصب
والملقيات على سمع الورى عبرًا ... تمشي على ضوئها الأجيال والحقب
منار هديك برهان يقوم على ... أشكله عمد الإصلاح والطنب
وغيث تفسيرك المأثور سلسلة ... من منبع الوحي والإلهام ينسكب
ذخران للدين والدنيا إذا جليا ... للناس حفهما الإعجاب والعجب
قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا ... هداهما وعيون الدهر ترتقب
هيهات قد خمد النور الذي يرتقبوا ... وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا
تبكيك أبناء عدنان وإخوتهم ... والمسلمون إذا مستهم النوب
كنت الرجاء لهم إن عوزت عدد ... تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب
وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب ... من الجهاد على أفرنده ندب
يبكون نعيك في تأليف وحدتهم ... تقيم في نظمها طورًا وتغترب
ركبت في مبتغاهم كل سابقة ... واليوم بعدك لا سرج ولا قتب
فدتك من عثرة الأيام شرذمة ... راموا علاك فما نالوا ولا قربوا
جروا وراءك حتى حُزتها رتبًا ... أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا
مقصرين فلم يقضوا حياتهم ... كما قضيت ، ولم تذهب كما ذهبوا
ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ ... منه البطائح واهتزت به الهضب
ذهبت برا بأوطان وفيت لها ... تكاد إثرك عن أوطانها تتب
غادرتها وهي أوزاع ممزقة ... يعيث منتدب فيها ومغتصب
تدعوك للنجدة الغراء رازحة ... يؤدها المضنيان الهم والوصب
إذا رأت بعدك الآمال مخفقة ... طغى من الوجد في أحشائها لهب
تؤم قبرك مثوى رحمة وهدى ... للبر في لحده مغنى ومضطرب
كنز من الحكمة العلياء قد ضربت ... من الجلال على أركانه قبب
يكاد حين تحييه ضمائرنا ... يصبو إليها صدى منه وينجذب
إذا أطافت به أوحى لها مثلاً ... من الثبات وشملاً ليس ينشعب
وإن شكَت خطبها كادت جوانبه ... تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب
يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم ... ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا
من لي بأيامك اللاتي نعمت بها ... دهرًا يظللني من دوحها عذب
أيام أرشف من صفو الرسائل أو ... نجوى الحديث كئوسًا ما بها لغب
واهًا لها ، قد مضت فاليوم لا رسل ... تفي أمانة نجوانا ولا كتب
أحس أن نميز الماء في كبدي ... يحيله الحزن جمرًا فهو يلتهب
وأن سوداء قلبي حين أذكرها ... تفور من مقلتي دمعًا وتنسرب
سأحفظ العهد ، فاحفظه ، وأنثر من ... فيض الشؤون رثاءً ليس ينقضب
ولو نظمت الثريا في رثائك ما ... قضيت للحق إلا بعض ما يجب
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ
* * *
تاريخ هذا العدد
الحق أننا طبعنا هذا العد في أوائل ربيع الأول سنة 1355 وأواخر شهر مايو
سنة 1936 ؛ وذلك لنعوض للقراء ما فاتهم من أعداد لإكمال المجلد الخامس
والثلاثين .
الكاتب : محيي الدين رضا
فقيد العرب والإسلام
كان دائم العمل
( 2 )
إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن
كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر
الأهلية ، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو
يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً .
وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام 1907 وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر
عام 1922 ، فكنت أدهش من عمله المتواصل : يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا
فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة ، ثم
يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن
يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة ، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة
الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم
يأوي إلى فراشه قليلاً ، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل ، وقد
يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل ، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من
المسودات التي جمعت من مجلته ( المنار ) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في
مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة
سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي .
قلت : إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا ، وأحيانًا يخرج إلى
النزهة في تلك الساعة الهادئة ، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل
أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا ، وقد اتخذ هذه الخطة
ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح ، ويسير في تلك الساعة حاسر
الرأس وقد يكون الجو باردًا .
وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن
أو يسبح الله كثيرًا . ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء
المجاورة يقلدونه فيها .
ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها
الشبان ، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل
الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره ، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء ،
ولو أنه - رحمه الله - نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل
في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف ، لزاد عمله نحو النصف ، ولكان
محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه ، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه
وإتقانه وإبداعه .
الإتقان في العمل
وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء ، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة
والخاصة . وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس
المتقنة للموضوعات والأعلام ، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة ، بل
وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث
العثور على طلبته بسرعة .
وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته ، لو تيسر له العثور على من
يعملها له لوفر جزءًا من وقته .
وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال
مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية ، فقد كان - رحمه الله -
يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء
فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه ، ثم أرتب كل حرف
ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع .
وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل ؛
ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها ؛
ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع .
هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر ؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في
عملها ، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله .
ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية ، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في
مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد ، وأما إتقان
مطبخه فذلك حديث الجميع ، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان
يتفكه بقوله : ( إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من
البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا ) .
وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية ؛ فقد
كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر ، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره
من غير كلفة ؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها
الأيام البيض ؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا
استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه .
عطفه وكرمه
ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز ، وكان
الوقت وقت شهر رمضان ، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق
مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه ، ويقف
فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة ، قالت مرة جدتي - والدته - : ( إن محيي
الدين يجزع من رمضان كثيرًا ) فقال لها ضاحكًا : ( الله يحفظك يا والدة ، أنت
سمينة تتغذين من شحوم جسمك ، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع
النهوض والعمل ) .
وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم ؛ فكان يعطيني في العيد
ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار
ينفح أولادي بالنقود ، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم
نقودًا ، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان
بائسًا ، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة ، وقال له : ( إنني لا أتصدق عليك ، وإنما
يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين ، وعندما توسر ترده إليه ) وبذلك أخذ
الجنيه ، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد .
ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة ، ولم يكن يذكر ذلك لأحد
ما ؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع ، وهنا أنقل للقراء كتابًا
ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي ، قال - حفظه الله - :
عزيزي السيد محيي الدين :
حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد ، فإنا لله وإنا إليه
راجعون .
كان سمع نبأ وفاته - رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها
في جدة في الراديو ، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون
فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي ، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت
وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء ، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا
الخبر ، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع ، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في
مساجدهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء
وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد
العظيم ، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته ، وقابلهما برضوانه ، وجعلهما
في فسيح جناته .
أذكره - رحمه الله - حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في
أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص ، وكان - رحمه الله - يمثل بعمله
الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم : (إنك لتحمل الكل وتكسب
المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت -
يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا ، ولولاه رضي
الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي ، وكذلك كان يمثل
بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم ( وتعين على نوائب
الدهر ) وكان - رحمه الله - يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة
وتعرض ، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه ، وكان - رحمه
الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة ، وما أعظم فقر العالم
الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان - رحمه الله - مرابطًا عليه
يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه .
* * *
هذا ما كتبه عالم صوفي جليل ، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من
نواحي عظمة فقيدنا ، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه ، رحمه
الله ؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في
النهضة الإسلامية العربية .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحزين
... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
هذا سؤال طالما ردده المصلحون , وكثيرًا ما حاروا في الإجابة عنه وعظمت
دهشتهم حين رأوا المسلمين ينحدرون إلى هوة الضعف والاستكانة مع كثرة عددهم
وخصب أرضهم وتعدد وسائل النجاح عندهم .
وقد أجاب على هذا السؤال عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه ( لماذا تأخر
المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) إجابة شافية جامعة مانعة , وأبان بأنصع برهان وأقوى
دليل أسباب نجاح المسلمين الأولين وفشل المسلمين الآخرين , وكشف عن سر تقدم
الغربيين واليابانيين . والكتاب في بابه حجة دامغة ، وصفحة مجيدة ، وليس لمسلم
غناء عنه ، فنشكر لعطوفة الأمير عمله العظيم ، ونحض جميع المسلمين على قراءة
كتابه النافع ، وهو يباع بمكتبة الحلبي بجوار المشهد الحسيني ، وثمنه خمسة قروش .
جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي ، ننشره مع رده فيما
يلي :
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد فإن احتجاب المنار بموت صاحبه -
عليه رحمة الله تعالى - كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا ، بل حزنهم
العميق ، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط ، بل كان ذلك لما علمه قراء
المنار من الميل مع الحق أينما كان ، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة
الحق وبيانها وإيضاحها ، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار - عليه رحمة الله -
مع كثير من أخص أصدقائه ؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق
صديقه أو جميع الناس ، ولم نعهد فيه - رحمة الله عليه - مداهنة ولا محاباة ،
وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة
المحمدية . فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله
تعالى - ستحيي حياتها الأولى ، وإلا فاسم المنار وحده لا يغني شيئًا .
لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام ،
فماذا افتيتم ؟ إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور
في أعداد المنار السابقة ، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه ، وينسى
برنامجه ؟ لقد قلتم يا سيدي الأستاذ إن كلتا المجلتين على الحق ! ! ! ولا يعقل فيما
نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا
على الحق ! لا ، ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب . نرجو أن
تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار ، إن كنتم تنصرون
الحق لله وفي سبيل الله ، والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قارئ
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه ،
وبعد ، فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته ، وكنت
أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف في سبيل البحث عن الحقيقة ، ولعله -
وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق ، بدون نظر إلى
الصلات الخاصة بين المتباحثين ، فنحن نحسن الظن ، ونشكر للأخ الفاضل خطابه ،
مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًّا للانتقاد في المنار ؛
حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة ، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه
الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه ، ولا إقذاف ، ولا تجهيل ، ولا
تضليل ؛ ولتكمل به أنفسنا ، فإن الكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه - صلوات الله
وسلامه عليهم - ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص ، ونسأل
الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا ، ويحملنا على الصواب والسداد ، وإلى الكاتب
وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب :
( 1 ) نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق ،
وبني على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما
ويثبته الآخر ، ثم يقال أنهما جميعًا على الحق ؛ وحضرته لهذا يرجو أن نصارح
بالحق في أي الجهتين هو ؟
ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا ، إن كان قد
جاء به من تصريحنا بأن الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى
الخير ، فليس معني هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه ،
والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق ، وأن موضوع
الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا ، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين
أحدهما محق والآخر مبطل ، بل قد يكونان مخطئين جميعًا هو ما صرحنا به
بوضوح ، فإن فريقًا تغالى في التأويل ، وفريقًا تغالى في الجمود ، ورأى السلف في
ذلك - وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب ، وهو رأينا الذي أوضحناه
في مقالنا - أن مذهب السلف ترك الخوض في هذه المعاني ، مع اعتقاد تنزيه الله-
تبارك وتعالى - عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت ، وتفيوض علم
حقائقها إلى الله ، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل ، وألزم نفسه
غير ما ألزمه الله به ، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه ، وأوهم سامعه
جواز نسبة صفات المخلوفين إلى الخالق .
فإن قال ( هو استقرار يليق بجلاله ) فهو إذن لم يأتِ بشيء ، والأولى أن
يقف عند النص ، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله ، مع
اعتقادهم عدم المشابهة ، وتفويض الحقيقة إلى الله ، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع
تصرف اللفظ عن ظاهره ، فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب
إليه السلف في معية الحق - تبارك وتعالى - بعلمه لا بذاته . تلك أمور فصلناها
وقررناها ، ولمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا
به ، فبها وبذلك حققنا رجاء الكاتب ، وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين ،
فأين القصور إذن ؟
( 2 ) هذا من حيث موضوع النزاع ورأي المنار فيه بالذات ، وأظن أن فيما
نقلنا في باب التفسير في هذه المعاني كفاية ، ومن أراد الاستزادة زدناه ؛ حتى يعلم
أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق ، ولا ينسى برنامجه من الصدع به ، ولا
يناقض نفسه في الصواب ، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب بعض ما فاته
معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها ونريد أن نسير بها عليه في
حاضرها :
صرح صاحب المنار بقاعدة ، وأسماها قاعدة المنار الذهبية ، فقال : ( نتعاون
فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه ) ، فمواطن الخلاف يا سيدي
يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن ، وذلك ما سنسير عليه - إن شاء الله - .
وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود ، وينعى على
أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة
الواضحة بغير برهان بين أيديهم ، إلا أن هذا قول فلان وفلان ، فهل يريدنا حضرة
الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله ؟ أم يريدنا متبعين للدليل
والحق ، ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار ؟ وأظن أن حضرة الكاتب
يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك - رضي الله عنهما - وكلاهما في
جلالة قدره ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح ،
ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا ، وأن يكون له رأيه ومذهبه .
فنحن مع المنار وصاحبه - عليه رحمة الله ورضوانه - في الأصول
الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته ، وفيما وضح الحق
فيه واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر ، ولا
يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار - رحمه الله - في الأمور التي لم يقم عليها
الدليل أن ينبهنا لما فاتنا ، والله الموفق للصواب .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة ، وتغيرت الأوضاع الدولية
في أوروبا ؛ فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا ، وحل محله ميثاق روسي
ألماني ، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم أن يتفق الهر هتلر - وهو
الذي بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية ، وانطوى لها على أشد
حالات الخصومة والبغض - مع زعماء هذه الشيوعية التي ندد بها ونال منها ؛
ولكن القوم في أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية ، وسرعان ما ينسون المبادئ
والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة ، وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا
فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة ، وردت إنجلترا وفرنسا على
ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا ، وسوق الجيوش إلى الميدان الغربي ، حيث
رابطت أمام خط سيجفريد الألماني ، وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا
بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية ، وبذلك تم للجيوش
الألمانية والروسية أن تقضي على استقلال بولونيا ، وتتوزع فيما بينها أرضها ،
وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت في باريس من جديد ، ومهما كان من
حلاف بين الروس والألمان على خط الحدود فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد
قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا .
والذي نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفًا
من المسلمين ، غالبيتهم في أنحاء فيلنو ونوجرديك ، وقد أقاموا في بولونيا منذ
القرن الخامس عشر الميلادي ، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر
دينهم بتمام الحرية ، فأخلصوا لها كل الإخلاص ، وحاربوا في صفوفها واشترك
عدد كبير من ضباطهم - وهم معروفون بالشجاعة والإقدام شأن المسلم المجاهد -
في الحرب الأخيرة ، ودافعوا كثيرًا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام في بولندا ،
وفيها يقيم المفتي الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش .
والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية ، فهل تدع حكومة
السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا في عهد الحكومة
البولونية ؟ أم أنهم سيعملون على بلشفتهم ويحاربونهم في عقائدهم ويهدمون ما بقي
لهم من مساجد ومعابد ، كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا
بولندا في أواخر القرن الثامن عشر ؟ من واجب الحكومات الإسلامية - وبخاصة
الحكومة التركية التي هي على صلة بالروس ، والتي هي أقرب حكومات المسلمين
إلى بولندا - أن تتحرى ذلك ، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة
المتمسكة بدينها القديم ، ولا ندري هل تصغي حكومة تركيا إلى هذا النداء ، أم
تعتبره شأنًا إسلاميًّا خاصًّا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة ( لا
دينية ) ؟
كان اجتياح بولندا سببًا في تخوف دول البلقان ، وفي تردد تركيا بين
المعسكرين المتخاصمين محور موسكو برلين تارة ، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة
أخرى ، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر ، ولم تحدد موقفها تحديدًا صريحًا
بعد ، وأخذت اليابان ترقب هي الأخرى مجرى الحوادث ، وأعلنت أمريكا سخطها
على عمل ألمانيا ، ولم تعترف بالحالة الواقعة في بولندا الآن ، واعتبرت الحكومة
البولونية القائمة في فرنسا حكومة شرعية ، واعترفت بها ، وارتفعت صيحات
بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب ، ولا
ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء ، وما سيكون لها من النجاح - وإن كان
أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء سوف لا يرويها إلا
الدم المتفجر من البشرية الذبيحة .
ذلك هو الموقف الدولي عامة ، فما موقف العالم الإسلامي خاصة ؟ ! لقد قدمنا
أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع ان يرتبط بالدول التي تسمي نفسها
ديمقراطية وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطًا وثيقًا ، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها
اشتباكًا قويًّا ، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه
المصالح ، مقدرة للموقف تمام التقدير ، منزهة عن العبث والكيد الرخيص
والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة ، وأخذت الحكومات
المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص .
ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلاً واحدًا على تقديرها لهذا
الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية ، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح
والإطراء في الخطب والمقالات التي لا تقدم ولا تؤخر ، فسوريا الجنوبية ( فلسطين )
لا تزال قضيتها حيث هي ، لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا ،
ولا كتابه للحاكم البريطاني ، ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا
إنجلترا من الخلف ، ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية في الاتفاق مع
خصوصها أو التقرب إليهم ، وكان أقل مقتضيات رد الجميل في مثل هذا الموقف
أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالاً بالإفراج عن المعتقلين ، والتصريح بالعودة
للمبعدين ، والعفو الشامل عن المسجونين ، وإعادة النظر في سياستها بالنسبة
للحقوق العربية الواضحة .
وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه ، ولم تظفر إلى الآن
من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل ، بل حوكم كثير من
رجالاتها ، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين .
وسوريا الوسطى ( لبنان ) تغير فيها نظام الحكم تغيرًا تامًّا ولو إلي حين كما
يقول المندوب الفرنسي ، وأوقف دستورها ، وحكمت حكمًا أجنبيًّا مباشرًا أو ما
يقرب منه .
وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع
هذا القطر الشقيق وبخاصة فرنسا التي شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع
عن حدودها أمام خط ماجينو إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين
والسنغاليين .
إن شعوب العالم الإسلامي قسمان ، قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر ،
وهذا لا يملك أمر نفسه ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقًا خاصة ، فهو تحت رحمة
الأقدار ، ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته .
وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية ، فمن واجبه في هذه الظروف العصبية -
حكومات وشعوبًا - أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفآجات ، فلا يتورط
في خطوات وخصومات هو في غنًى عنها ولا تعود عليه بشيء ، وليلتزم الحدود
التي رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات ، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع في
إعداد العدة وتقوية نفسه تقوية تنفعه في المستقبل وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد
أن تضع الحرب أوزارها ، وعليه كذلك أن يكون مطمئنًا هادئًا ، فإننا إن لم نستفد
من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا ، والصلح خير لنا ،
والحرب ليست بضارة بنا { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ( البقرة :
216 ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر ، حفظه الله :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فقد طالعنا في بعض الجرائد الإسلامية مقالات حول طائفة القاديانية ، وحول
وجود بعض من ينتسبون إليها بالأزهر الشريف لطلب العلم ، وأن فضيلة شيخ
الأزهر قد ألف لجنة من بعض كبار العلماء للتحري عن مذهب هذه الطائفة , ولم
نعلم نتيجة هذا التحقيق بعد ، فنرجو التكرم ببيان موجز عن عقائد هذه الجماعة ,
وعن الفرق بين القاديانية والأحمدية ، وعن نشأتهم ، وعن واجب المسلمين إزائهم ،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فهمي أبو غدير
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية الحقوق
الحمد لله ، وصلى الله علي سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم :
( 1 ) رأس هؤلاء الجماعة رجل هندي اسمه غلام أحمد ، ولد عام 1839م ،
ومات عام 1908 م بقاديان من أعمال بنجاب الهند ، ادعى أنه المسيح الموعود
به , وأن روح الله قد حلت فيه ، وأنه المهدي المنتظر ، وأنه أوحي إليه بكثير من
اللغات ومنها الإنكليزية ، وخلط ذلك بكثير من الدعاوى الفارغة التي تتناقض مع
أصول الإسلام كل المناقضة ، وقد وجدت السياسة الإنكليزية فيه مطية من مطاياها
في التفريق بين الشعوب ، وأغرته ، وأمدته بالمال والجاه ، حتى كان قضاة المحاكم
الإنكليز يتساهلون معه في الأحكام في القضايا التي وقعت عليه وعلى أتباعه في
جرائم كثيرة ، وفي نظير هذه المساعدات من الدولة الإنكليزية أصدر هذا المدعي
فتاوى صريحة بسقوط أحكام الجهاد ، بل وصرح بأن من يرفع السيف في وجه
إنجلترا آثم مرتكب لأكبر الجرائم ، وقد وقعت بينه وبين علماء الهند الفضلاء
مناظرات ومجادلات عدة ، ووقعت بينه وبين صاحب المنار السيد محمد رشيد
رضا - رحمه الله - محاورات ، وتناول السيد هذا الموضوع في كثير في أعداد
المنار ، وترى بعض هذه المقالات في الأجزاء الخامس ، والسادس ، والسابع من
المجلد الحادي والثلاثين .
وقد كان من عادات هذا المسيح المدعي أن يدعو مناظريه إلى المباهلة ، وأن
يجعل موت خصمه قبله دليلاً على انتصاره وبالعكس ، وقد مات سنة 1905 بعد
أن زعم قبل ذلك أن أجله قد انتهى ، فمكث بعد هذا الزعم ثلاث سنوات ، وقد بنى
مقبرة بقاديان وادعى أن من دفن بها سيدخل الجنة بشرط أن يتبرع بربع ماله .
وأبقى الله فضلاء العلماء الذين قاموا ببيان زيفه وغلطه ، فما كانت هذه التمويهات
لتكون دليلا ً على حق ، أو هادمة لباطل ، ولكنه الإفلاس من الدليل ، وقد قام
برياسة جماعته من بعده ابنه بشير محمود ، ومقره الآن قاديان من البلاد الهندية ،
وتنسب الطائفة إلى أبيه فتسمى الطائفة الأحمدية .
( 2 ) وقد انقسمت هذه الطائفة الأحمدية إلى فريقين : فريق اعتقد النبوة
لغلام أحمد وصدق بكل ما قاله ، وهؤلاء هم أحمدية قاديان ، ورئيسهم ابنه بشير ،
وفريق اعتقد فيه أنه مصلح مجدد ، وأخذ ببعض مزاعمه دون البعض على حد
اعترافهم وقولهم - والله أعلم بحقيقة ما يضمرون ، وإن كانت كل أعمالهم تدل على
أنه لا فرق بينهم وبين إخوانهم السابقين - وهؤلاء هم أحمدية لاهور ، ولسانهم
الناطق السير محمد علي صاحب ترجمة القرآن ، وهو غير مولانا محمد علي
رحمه الله . وكلام الفريقين بعيد عن أصول الدين ؛ فإنه إذا كان غلام أحمد قد
صرح بأنه نبي ، وبأنه يوحى إليه ، وصرح بغير ذلك من الطوام والفظائع ، فهل
يغني شيئًا عن اللاهوريين أن يقولوا إننا نعتقد أنه مجدد ؟ وأي القولين يصدق
الناس ، قول المتبوع الذي يصرح بنبوة نفسه ، أم قول التابعين الذين لا يبلغون به
هذه المرتبة ؟ لو كان هؤلاء صادقين لرجعوا إلى الحق ، ولوافقوا جمهور أئمة
المسلمين ، ولبرءوا إلى الله من هذا الرجل براءة الذئب من دم ابن يعقوب .
( 3 ) والغريب في أمر هذه الجماعة أنها تلبس على المسلمين بأمرين : أولهما
نشاطها في الدعوة إلى نحلتها بزعم أنها دعوة إلى الإسلام ، وتشجيع الإنكليز
وإغراؤهم من وراء ذلك ، وإلا فلما لا يبرز هذا النشاط قويًّا إلا في بلاد الإنكليز
وما يلحق بها ؟ والثاني مجادلتهم للمبشرين وهدمهم لمزاعم دعاة النصرانية ، وهم
في هذا مهرة مجيدون ، وهدم الباطل سهل ميسور ، وهم يستغلون هذا الانتصار
ليقولوا للمسلمين إننا أخلص الناس للإسلام ، وها أنتم ترون كيف نهزم دعاة
النصرانية ، ويخفون عنهم أنهم إن هدموا عقائد النصرانية فهم لا يبنون عقائد
إسلامية ؛ ولكن عقائد خيالية لعل النصرانية خير منها ، وفيما يلي نموذج من أقوال
رئيس هذه الطائفة في كثير من المسائل ، وفي إسقاط الجهاد وتحريم رفع السيف
في وجه الإنكليز :
( 1 ) قال غلام أحمد في رده على صاحب المنار بكتاب أسماه ( الهدى
والتبصرة لمن يرى ) يذم العلماء لأنهم لم يؤمنوا بمسيحيته الموعودة ، ويعلن أن
رفع السيف على الإنكليز جرم عظيم :
( وقد أمروا أن يتبعوا الحكم الذي هو نازل من السماء ، ولا يتصدوا له
بالمراد ، فما أطاعوا أمر الله الودود ، بل إذا ظهر فيهم المسيح الموعود فكفروا به
كأنهم اليهود ، وقد نزل ذلك الموعود عند طوفان الصليب ، وعند تقليب الإسلام كل
التقليب ، فهل اتبع العلماء هذا المسيح ؟ كلا ، بل أكفروه وأظهروا الكفر القبيح ،
وأصروا على الأباطيل ، وخدموا القسوس ، فأخذهم القسوس ، وشجوا الرءوس ،
وأذاقوهم ما يذيقون المحبوس فرأوا اليوم المنحوس . سيقول العلماء إن الدولة
البريطانية أعانت القسوس ، ونصرتهم بحيل تشابه الجبل الركين لينصروا
المسلمين في جميع العالمين .
والأمر ليس كذلك ، والعلماء ليسوا بمعذورين ، فإن الدولة ما نصرت القسوس
بأموالها ، ولا بجنود مقاتلين ، وما أعطتهم حرية أكثر منكم ليرتاب من كان من
المرتابين ، بل أنشأت قانونًا سواء بيننا وبينهم ، ولها حق عليكم لو كنتم شاكرين .
أتريدون أن تسيئوا إلى قوم أحسنوا إليكم ، والله لا يحب الكفارين الغامطين ،
ومن إحسانهم أنكم تعيشون بالأمن والأمان ، وقد كنتم تخطفون من قبل هذه الدولة
في هذه البلدان ، وأما اليوم فلا يؤذيكم ذباب ولا بقة ولا أحد من الجيران ، وإن
ليلكم أقرب إلى الأمن من نهار قوم خلت قبل هذا الزمان ، ومن الدولة حفظة عليكم
لتعتصموا من اللصوص وأهل العدوان ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ! وإنا
رأينا من قبلها زمانًا موحشًا من دونه الحطمة ، واليوم بجنتها عرضت علينا الجنة ،
نقطف من ثمارها ، ونأوى إلى أشجارها ؛ ولذلك قلت غير مرة إن الجهاد ورفع
السيف عليهم ذنب عظيم ، وكيف يؤذي المحسن من هو كريم ؟ ! من آذى محسنه
فهو لئيم ) .
هذا كلام المسيح الموعود عن طغاة الاستعمار المنكود ، فهل يدافع الإنجليز
عن أنفسهم في كل مكان بأكثر من هذا الهذيان ، اللهم إن هذا هو البهتان ، وانظر
إليه كيف ينفي عن الإنجليز مساعدة المبشرين وهم أعضادهم في كل وقت ، لا
ينكرون ذلك ولا يخفون ما هنالك ، بل يساعدونهم في كل حين بأوقاف المسلمين ،
وما أنباء التبشير في السودان الآن وفي غير السودان من قبل ببعيد عن هذا المسيح
الموعود ؛ ولكن الغرض يعمي ويصم .
وقد نشرت مجلة الفتح الغراء في العدد 664 بتاريخ 10 جمادى الآخرة سنة
1358 استفتاء لعلماء الهند ، جاء به كثير من أقوال هذا المدعي المكفرة ، مثل قوله :
( إني نبي ، وأنا المخصوص بالنبوة في هذه الأمة ) من كتاب حقيقة الوحي ،
ص 391 له .
وقوله : ( خاطبني الله بقوله : اسمع يا ولدي ) من كتاب البشرى ، ص 94
له .
وقوله ( كان المسيح متعودًا على الكذب والافتراء ) من كتاب ضميمة أنجام
آتهم ، ص 17 .
وهكذا من هذه التخريفات وقد أفتى علماء الهند الفضلاء بكفره لهذه الأقوال
الشائنة ، وذيلت هذه الفتيا بتوقيعات كثير من الأفراد والطبقات العلمية في جميع
بلاد الهند تقريبًا ، وفي كثير من بلدان الإسلام .
( 4 ) أما حادثة الأزهر ، فخلاصتها أن طالبين ألبانيين ممن ينتسبون إلى
هذه الطائفة ، اندرجا في سلك طلبة القسم العام ، وتنبه لهما بعض اليقظين من
الطلبة ، فأبلغوا أمرهما إلى الجهات المختصة في الأزهر ، فأُجري تحقيق بمعرفة
شيخ القسم العام ، ثم ألفت لجنة للكشف عن حقيقة هذا المذهب ، وقد أمد بعض
الغيورين هذه اللجنة بكثير من كتب هذه الطائفة ، التي تصرح بضلالها ومِحالها .
وكلمتنا لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الأزهر الأجلاء - وعلى رأسهم
فضيلة الأستاذ الأكبر - أن الأمر أهون من ذلك كله ، والحق واضح بيِّن ، ووجود
هذين الطالبين بين الطلبة فيه خطر محقق ، ذلك إلى أنهما يستخدمان نسبتهما
للأزهر وحملهما لاسم طلب العلم فيه استخدامًا خبيثًا في تأييد نحلتهما الضالة الهدامة .
وقد ذاع الأمر الآن في مصر وفي غير مصر من بلاد الإسلام ، وعلى يد هذين
الطالبين وأمثالهما ممن يشايعهما في ألبانيا ذاع السفور والتحلل من عقدة الإسلام ،
ورأي الأزهر رأي رسمي ، يتخذه الناس حجة في كل أقطار العالم ، فتبعة فتواه في
هذا كبيرة عظيمة ، ومسئوليته في هذا لا يعلم مداها إلا الله .
نرجو أن تضع اللجنة نصب عينها هذه الحقائق ، وأن تقذف هذه الفتنة بالحق
الواضح فتدمغها ، فإذا هي زاهقة ، وأن تأخذ بالحزم فتقصي عن حرم الأزهر كل
طالب لا خير فيه للإسلام ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
* * *
( في العدد القادم )
ورد علينا سؤالان : أحدهما خاص باستحضار الأرواح ، والثاني خاص بما
قيل في خطيئة آدم عليه السلام ، نرجئ الكلام فيهما إلى العدد القادم .
العقل الباطن - حقيقة التدين الزائف - الصابئة قديمًا وحديثًا
في نفوس البشر ركام كثيف من الغرائز المرسلة والنزعات المشبوبة
والشهوات الجامحة ، تأتلف جميعًا لتصوغ العمل الإنساني فيما تشاء له من قوالب ،
ولتلونه بما تحب له من صبغة .
وليست النفس حين تتحرك لإدراك غاية قصدت إلى تحقيقها باذلة جهدًا يكلفها
العنت أو يشعرها ألم السعي ، ما دامت حرارة الرغبة تمدها بالوقود فتدفعها ،
وطلاب اللذة يحدوها مزخرفًا لها الغرض البعيد حتى تظفر به وتطمئن إلى مناله .
ذلك هدى العقل الباطن وحده - كما اصطلح علماء النفس - حيث لا جديد في
فطرة الإنسان العتيدة على ما ذرأها الله وقبلما تدركها قيود الدين فتكبح من جماحها ،
وتعاليمه فتهذب من ميولها ، وأنظمته فتمحق من فوضاها وتكفكف تأبيها على الخير .
ثم تسير بها وجهة أخرى ، أو ذلك عمل الإنسان لذاته وتفانيه في عبادة هواه ،
ونسيانه المطلق لله الكريم ، وانبعاثه في الدنيا كائنًا طياشًا أحمق ، صفرًا من كل
غاية يمجده الانتهاء إليها والاكتمال في جوارها { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ( الجاثية : 23 ) .
هذا النفاذ البالغ إلى كل شيء ، والذي تضحمل أمامه الحواجز وتذوب
الأسيجة ، وهذا الاندفاع العنيف الدائب يتعجل النهاية ويتجشم إدراكها ، هو مرد
السلوك كله عند كثير من علماء النفس ، حتى قال ( فرويد ) مكتشف العقل الباطن :
( إن العقل المفكر لا يقوم إلا بخدمة اللاشعور ، ولا يمكن أن يستجيب لغير ندائه ،
ولا أن يستمع لغير أوامره ) .
قد يكون هذا القول صحيحًا على إطلاقه في كل نفس لم يزكها الإسلام ، ولم
تسمُ بها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ
كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } ( الرعد : 19 ) .
ولكنه قلما يصدق على النفس المسلمة التي يحرق إيمانها خبث العقل الباطن ،
حتى إذا أتى عليه استقام مع طبيعة النفس في مظهر ديني بحت . ألم يكن عمر بن
الخطاب رضى الله عنه غضوبًا في جاهليته ثم في إسلامه ؛ ولكن شتان ما بين
غضب تستخفه الحمية الطائشة لأوهى الأسباب ، وبين غضب غالٍ يثور لحق الله
وإعلاء دينه وليلعن الكفر ويستذل أهله ، والواقع أن جوهر النفس الأصيل يبقى كمًّا
ويبقى كذلك كيفًا إن لم نحسب تغير البواعث وتغير الأهداف ، وهو ما يتناوله الدين
من أساسه وتجهد الرسالات كلها في تحقيقه .
وقبل أن نقرر نصيب النفس المسلمة من هذا التغيير المنشود ، نقف لحظة
لنلمح خلالها النفس اليهودية والنفس المسيحية ، ولنرى مقدار تأثر النفسين في
حياتيهما بالدين .
* * *
لأمر ما كانت ( النفس اليهودية ) مرتعًا للدعوات المشينة والدسائس الساقطة ،
وكانت حياتهم بين الأمم التي رماها القدر بهم تشبه حياة الطفيليات التي تعيش على
حساب الجسم لتسرق منه غذاءه وتمنع عنه نماءه ، ويبدو أن نقمة الله التي حاقت
بشعوب إسرائيل حرمتهم للأبد عناصر الحياة الإنسانية العالية رغم ما تزعمه هذه
النفوس وتدعيه من علائق وثيقة بالله .
ذكرت إحدى الصحف اليومية منذ شهور نبأ مظاهرة قام بها العمال اليهود في
القدس ، كانوا يهتفون في أثنائها طالبين الخبز ، ويهددون - إن لم تجب مطالبهم -
بترك اليهودية ! ! قد يدعو إلى العجب أن يهون دين على أتباعه حتى يبيعوه
برغيف ؛ ولكن الأمر لا يستدعي دهشة ، فاليهودي لا يحس بأنه منقاد لعقيدة مقدسة
لها حرمتها ولها جلالها ، وليس ثمة إلا لقب يورث يحمله وهو على أهبة تركه إن
عارض شيئًا من متاع الدنيا الذي يجتذبه كل حين ، وإذا كان الدين قد هزمه انفعال
الجوع هنا ، فقد انهزم من قبل أمام سورة الحقد المضطرم في نفوس آبائهم لما
سألهم الأميون من العرب عن دين محمد ، فزعم الأحبار المؤمنون ! أن الوثنية خير
منه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } ( النساء : 51 ) ولما جحدوا
الرسالة الكريمة وقد استيقنتها أنفسهم { حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ } ( البقرة : 109 )
كيف يستقيم سلطان الدين على نفوس من يعتنقونه إذا كانت هذه النفوس
صريعة لكل نزوات الهوى وأعراض الحياة ومفاتن الرياسات الفارغة ؟ وأي شيء
مما يطلبه العقل الباطن قد منع عنه بل اقتصد في إجابته ؟ وأين مكان التغير الذي
يفرضه الدين حتمًا على دوافع العمل وغاياته ليكون عملاً دينيًّا لا شيء قط ؟
* * *
ولنهبط إلى أغوار النفس المسيحية لنسبرها ، إنني في " شَبْرَا " أشهد كثيرًا من
حفلات الصلاة أيام الآحاد ، وكيف يثير القسيس انفعال المصلين بالترنيمات الحزينة
والأنشدة الحنون ، على حين ينعكس اللهب الخافت المسترسل من مئات الشموع
على صدور التماثيل الخرساء الجامدة ، وتردد جدران الكنيس أصداء جرسه الثائر
الذي يطغى أحيانًا على هينمة الشمامسة وترجيع الجمهور المسحور .
هذا النوع من السيطرة على النفس غير جديد ، ولم تزل الغابات منذ آلاف
السنين تدوي بطبول الكهنة وتعاويذ السحرة ممن يمثلون الديرة بين الزنوج الأغبياء ،
ولا تزال معابد الهنود حافلة بهذه المظاهر الأخاذة التي نقلها المسيحيون بأمانة
بالغة إلى مذابحهم ومحاريبهم ، ولكن ما جدوى هذا كله ؟ ومتى كان الدين جوقة
موسيقى وبضعة ألحان يندس بينها قليل أو كثير من التعاليم والوصايا التافهة ؟
لذلك كانت النفس المسيحية في ساعات الكنائس غيرها في مواجهة شئون
الحياة ، عندما تبرز في حقيقتها المجردة وطبيعتها الأصيلة ، وقد طاش سحر
النواقيس والشموع وارتدت إنسانًا ضعيفًا تستبد به نوازعه القاسية ، وهل يظن أن
المرأة المسيحية جاهدت عواطفها كثيرًا عندما عرضت في مباريات الجمال ،
وكانت تود ألا تُعرض ؟ أو أن الرجل المسيحي جاهد شهواته كثيرًا قبل أن يحتضن
امرأة غيره في صالات الرقص ، وكان يود أن يبتعد ؟
إنما تحيا النفس المسيحية في جو طليق مما تريده من حرية تستبيح كل شيء ،
لا ظل فيها لرهبة ولا سلطان ، وليست شهادة ( كارل ماركس ) للإسلام إلا ضربًا
من التفكير الحر ، ولا تخرصات ( فولتير ) إلا مثلاً للتقليد الأحمق ، ولا كلمات
( جبران ) عن نبي العرب إلا فنًّا من الخيال السمج ، ولا عدد ( الشرق والإسلام )
الذي أصدرته إدارة الهلال إلا مظهرًا للثقافة التي يتاجر بها الأدباء ، وهؤلاء
المسيحيون أبعد ما يكونون عن التقيد بغير حاجات نفوسهم ، ورغائبها المادية
والمعنوية ، وقد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وغفلوا عما بعد ذلك من حقائق
لو أنهم التفتوا إلى شيء منها لأثار في نفوسهم على الأقل ميلاً إلى التطلع
والاكتشاف .
فماذا يقول الإنسان مثلاً في بابا روما الذي زعموا أنه يعرف تقريبًا سبع لغات
ليس بينها العربية ؟ ! ما هذا النكوص عن البحث وراء الحقيقة ، وأي معنى تردد
في نفس الرجل فقعد به عن تعلم دين كان له مع دينه تاريخ رائع وهو الذي لم
يكسل عن تعلم أدنى اللغات ، ولكن لله سرًّا في تكوين بعض النفوس .
لعل فيما سبق ما يفسر حكم القرآن الصارم على أهل الكتاب ؛ حيث لم
يعترف بهذه المراسيم التي تنسب النفس إلى الإيمان وهي منه خواء ، فتحت أردية
الكهنوت الفضفاضة وما تشعر به من زهد وعزوف تتوارى نفوس خطرة { إِنَّ
كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ( التوبة : 34 ) ولمَّا كان لزامًا على المسلمين أن لا يتركوا دين الله يلتبس بأهواء
الناس ؛ حتى لا يختلط كذب الأرض بوحي السماء وفي هذا ما لا يخفى من الإساءة
إلى الدعوة الحقة وما يوقف انتشارها - أمر المسلمين بإعلان الحرب عليها حتى
يكشفوا زيفها { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ( التوبة : 29 ) وكذلك طرحت الفوارق الشكلية التي تميز
الكتابيين عن الوثنيين ، وأطلق أسم الكفر الصريح عليهم ليشمل الجميع على السواء
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ
شَرُّ البَرِيَّةِ } ( البينة : 6 ) .
على أنها قلة من الناس تلك التي لا تزال تخلص للكنائس المسيحية على
تفاوت مذاهبها ، وليس بين مئات الملايين من سكان أوروبا و أمريكا إلا عدد يسير
من المسيحيين الأقحاح يتعارفون على دينهم كما يتعارف اللصوص على كلمة السر ،
أما الكثرة العظمى منهم فقد ثارت على هذا ( النفاق الديني ) وآثرت أن تبقى
بعيدة عنه ، ولم تر أي حرج في أن تعيش مجاهرة بإلحادها ، معلنة حقيقة طواياها .
والحياة التي تجاهر بعداوتها للأديان - صحيحها وزائفها - ليست وليدة هذا
العصر ، بل هي متغلغلة في القدم { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } ( الجاثية : 24 ) ولكنا لا نظن هذا النوع السافل من الحياة
صادف الشيوع الذي وجده في القارتين المسيحيتين ، وجدير بنا أن نطلق اسم
( الصابئة ) على هؤلاء الذين ارتضوا الحياة الدنيا فَحَسْب أقصى نهايات آلامهم
وآمالهم ، ونظموا شؤونهم وصِلاتهم ومشروعاتهم على ذلك الأساس ، وفي الوضع
اللغوي والاستعمال العرفي ما يبرر هذا الإطلاق .
ولقد شهدت أوربا معركة عنيفة بين المسيحيين والصابئة منذ قرون تحت
ستار النزاع بين العلم والدين ، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمسيحية كانت بدء
تقوض النظام الكنسي وانهيار سلطانه ، ومن يومئذ لبس الصابئون ثياب العلماء
وتقدموا في ميادين العلوم الطبيعية تقدمًا مشهودًا ، وقبع القساوسة في الأديار لا
يستطيعون مطلقًا المساهمة في الحياة العامة بنصيب طائل ؛ ذلك أن العالم أنكر
عليهم أكثر من معيشة الانزواء والوحدة والاعتزال ، ولا ريب أن الصابئة هم رسل
الحضارة الحديثة ومناصروها ، وقادة العالم بها إلى سوء المصير ، تلك الحضارة
الغربية التي لم تعرف الدنيا شرًّا منها ؛ فلقد كان خيرًا للناس أن يعيشوا في أكواخ
تضاء بمشاعل الزيت وهم أطهار أبرار ، من أن تفرقهم أضواء الكهرباء بين
المسارح الضخمة والمراقص الفخمة ، ولكان خيرًا للناس أن يسيروا على الأرض
وهم أشراف من أن يطيروا في الهواء وهم لصوص ، ولكان خيرًا للناس أن
تستغرق أسفارهم الشهور الطويلة يقطعون مراحلها على أرجلهم أو على دوابهم وهم
قانعون راضون ، من أن يستخدموا هذه السيارات وغيرها من وسائل النقل وهم
على اتصالهم الميسور تقطعهم المطامع وتباعد بينهم شر بعد .
تلك لمحة عن حال الصابئة ، وهم - كما ينبغي أن نعتقد - أخطر أعداء
الإسلام وأشدهم شكيمة ، وليس بنافع في تطهير الأرض منهم إلا جهاد تتمثل فيه
عظمة الثورة الإسلامية الأولى وبطولتها وجراءتها ، وإذا كانت النفوس غير
المسلمة كما وصفنا مهما تقطع أمرها شيعًا ومهما تفرقت سبلها شرودًا ، لا تزال
آصرة تربط بين شيعها وسمة تجمع بين طرائقها ، هي آصرة الضلال المشترك
وسمة البطلان البعيد ، أو هي كما قدمنا أول البحث هذا الركام الكثيف من الغرائز
المرسلة والنزعات المشبوبة والشهوات الجامحة ، فإن في هذا خير تفسير
للاضطراب الاجتماعي والسياسي الذي نشهد انقلاباته في أوربا دائمًا ، والثورات
البيضاء والسوداء والحمراء التي تهز كيانها حينًا بعد حين .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الغزالي
... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية أصول الدين
كتب إليَّ كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل ،
وموقف الرجل منها ، ورأي الإسلام في ذلك ، وحث الناس على التمسك به
والنزول على حكمه .
لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا ، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في
الأمة ، فالمرأة نصف الشعب ، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير ؛
لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة ، وعلى الصورة التي
يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة ، وهي بعد ذلك المؤثر
الأول في حياة الشباب والرجال على السواء .
لست أجهل كل هذا ، ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى
للناس ، ينظم لهم كل شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس ،
أجل لم يهمل الإسلام كل هذا ، ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد ، بل بيَّن لهم
الأمر بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد .
وليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما
وواجب كل منهما نحو الآخر ، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس ؛ ولكن المهم
أن نسأل أنفسنا ، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام ؟
الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية
من حب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان .
ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد ، بل هم يحاولون
أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم
الأوروبية ، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا يخرجها عن
صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً ، ويجعلها نظمًا أخرى لا تتصل به بحال من
الأحوال ، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرًا من النصوص التي
لا تتفق مع أهوائهم .
هذا خطر مضاعف في الحقيقة ، فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون
المخارج القانونية لهذه المخالفة ، ويصبغوها بصبغة الحِلّ والجواز ، حتى لا يتوبوا
منها ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام .
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى ، وأن نعد
أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله - تعالى - ونواهيه ، وبخاصة في هذا الأمر الذي
يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة .
وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا
من أحكام الإسلام في هذه الناحية .
أولاً : الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات ،
وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا ؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها ،
واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته ، هي منه وهو منها : { بَعْضُكُم مِّنْ
بَعْضٍ } ( آل عمران : 195 ) وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية
كاملة ، وبحقوقها المدنية كاملة كذلك ، وبحقوقها السياسية كاملة أيضًا ، وعاملها
على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب ، يُشكر إذا أدى واجباته ،
ويجب أن تصل إليه حقوقه ، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا
المعنى وتوضحه .
ثانيًا : التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة
التي لا مناص منها بين الرجل والمرآة ، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل
منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما .
وقد يقال : إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال
ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة ، وذلك صحيح ؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن
يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئًا في ناحية فإنه قد عوضها خيرًا منه في
ناحية أخرى ، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر ،
وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي
كتكوين الرجل سواء بسواء ؟ وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن
الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به
الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة ؟
أعتقد أن الكونين مختلفين ، وأن المهمتين مختلفتين كذلك ، وأن هذا الاختلاف
لابد أن يستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكل منهما ، وهذا هو سر ما جاء في
الإسلام من فوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات .
ثالثًا : بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة
بينهما ، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع
واحتمال متاعب الحياة .
وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه ، وصرفه عن المعنى
الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه ،
ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام ، ولنسمع قول الله-
تبارك وتعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ( الروم : 21 ) .
وعلى ضوء هذه الأصول الثابتة ننظر إلى ما وضع الإسلام من نظم وطرائق .
... ... ... حسن البنا
((يتبع بمقال تالٍ))
حضرة المحترم رئيس تحرير المنار :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد ...
فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام ، وكيف يوسوس إليه الشيطان ؟
وكيف يتفق ذلك مع العصمة ؟ مع بيان توبته ، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن
ونهي في الظاهر صحيح ؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل
كما قال بعض المفسرين ؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به ؟ أفيدونا ، أثابكم الله ،
وغفر لنا ولكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عسكر
... ... ... ... ... ... ... ... معلم بملجأ بنها قليوبية
والجواب ، والله أعلم :
قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم - عليه السلام - وأنه خلقه
وسواه ونفخ فيه من روحه ، وأسكنه هو وزوجته الجنة ، ثم أمره ألا يأكل من
الشجرة { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } ( البقرة : 35 ) فوسوس لهما الشيطان
وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين ، فاغترا بنصيحته ، ونسي آدم ما عهد به
إليه ربه ، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما
كان من أمرهما فندما ، وألهمها الله - تبارك وتعالى - صيغة التوبة ، فقالا :
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( الأعراف :
23 ) فقبل الله توبتهما ، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى
الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها ، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين
الشيطان إلى يوم يبعثون ؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين ، ومن حذره
وخالفه فهو من المهتدين الناجين ، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين ،
ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم .
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } ( إبراهيم : 22 - 23 ) .
هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة ، ومنه تعلم :
( 1 ) أن خطيئة آدم - عليه السلام - هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى
أكل من الشجرة .
( 2 ) وأن توبته إنما كانت بإلهام الله - تبارك وتعالى - إياه أن يدعوه بما
جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( الأعراف : 23 ) ، وقد كان عن هذه التوبة أن
غفر الله له وتاب عليه ، كما قال - تبارك وتعالى - : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى } ( طه : 122 ) .
أما كيف يوسوس له إبليس ؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر
جِبِلِّيّ خِلقي فيها ، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا
عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه ؛ ولهذا لا
تقدح الوسوسة نفسها في العصمة ، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل
الخلقة ، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله -
تبارك وتعالى - مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر ، وسد مداخل الشيطان
إلى القلب وتضييق مجاريه ، وشغل القلب بذكر الله - تبارك وتعالى - { إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ( الإسراء : 65 ) . على أنه قد
ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ولا مانع من أن يكون إبليس قد
دخل الجنة بعد أن طُرد منها ، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله - تبارك وتعالى -
عاصيًا له ، وما زال يزين له الأكل من الشجرة ( ويفتله في الذروة والغارب ،
ويمنيه بمعسول الأماني ، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه ، وأنساه أنه
عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر ) .
وأما كيف يعصي آدم وهو نبي ، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب ؟
فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه :
الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان ، وسمي خطيئة أو معصية
وغواية لعلو منزلته ، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه ، وكلما قرب العبد
من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه .
وقد صرحت الآية بلفظ النسيان ، ويؤيد هذا قراءة { فَنُسِّيَ } ( طه : 115 )
بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله - تبارك وتعالى . وبهذا قال بعض
المفسرين ، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها .
والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا
الإلزام ، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا
إثم في تركه ، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة
في الآية الكريمة { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } ( البقرة : 35 ) .
والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة . ويرد على هذا أن القول بعدم
عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح ، ويرد عليه
كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب
وتوبة وإخراج من الجنة .
والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية . وإلى هذا
ذهب أبو بكر بن فورك ، قال : بدليل ما في آيات ( طه ) من ذكر المعصية قبل ذكر
الاجتباء والهداية . وهو كلام حسن ؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك
وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها ، وقد كان ذلك قبل الأكل
قطعًا ، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه
عليهم - معصومون من المعصية على كل حال ، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور
علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة .
والخامس - أن الله - تبارك وتعالى - أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه
إياها ، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها ، فأكل من شجرة
أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات ، وهذا تأويل حسن
وإن كان عليه مسحة التحايل .
وهناك تصوير تطمئن إليه النفس ، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة
أمر الله - تبارك وتعالى - قصدًا ، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك
وتعالى - قصدًا كذلك ، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية
والقصد ، مصداق قوله - تبارك وتعالى - : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا
وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } ( الحج : 37 ) .
ولا شك أن آدم - عليه السلام - حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى
المخالفة ولم يكن يسر العصيان ، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله -
تبارك وتعالى - بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه ، وقد خدعه قسم
إبليس له ، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير ، وإلى هذا المعنى أشار ابن
قتيبة ، فقال : أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه ،
والقسم له بالله إنه لمن الناصحين ، حتى دلاه بغرور ، ولم يكن ذلك عن اعتقاد
متقدم ونية صحيحة ، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه
ربه ، كما قالت الآية الكريمة : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل
لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ( الأعراف : 22 ) ، وحينئذ ألهمهما التوبة
فجأرا إلى الله - تبارك وتعالى - : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( الأعراف : 23 ) ، وهذا المعنى واضح مفهوم
في سياق الآيات كلها تقريبًا .
وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب
عليه ، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود ، ولا دليل عليه ،
والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة ، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من
هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق ، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا
يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها ، وهذا كلام لا غبار عليه ، وأما ما
زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل .
وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل ، فهو
قول مردود كذلك ، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل ، وإذا
جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها ، فقد صار ذلك ذريعة
للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة ، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية
شيئًا ، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر .
وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية ،
أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها ( دارون )
وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع ، وهذا كلام لا تدقيق فيه ،
ودعوى لا صحة لها ؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من
الحيوان ، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره .
كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا
يُثلج الصدر ، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس
الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء ؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع : ( أنا مقتنع
بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع ؛
ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير ) فهو هنا يشير إلى أمرين
هامين : الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث
التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها ، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد
في ذلك .
وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له : ( اسمح لي بأن أضيف إلى هذا
بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان
أصل الأنواع ) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة ؟ على
أن هذا ليس كل ما في الأمر ؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية
دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها ، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية ،
ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد ، وإليك بعض الشواهد
من كلام هؤلاء الناس أنفسهم :
( 1 ) قال الأستاذ فون باير الألماني ، وهو من أقطاب الفزيولوجيين
والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا ( علم الأجنة ) في كتاب أسماه
( دحض المذهب الداروني ) بالنص : ( إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من
القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان ،
وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد ،
يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي ) .
( 2 ) وقال الأستاذ فيركو الألماني موافقًا الأستاذ دوكانزفاج الفرنسي في
كتابه ( النوع الإنساني ) بالنص : ( يجب عليَّ أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية
التي حدثت في دائرة علم الأنترويولوجيا - علم التاريخ الطبيعي للإنسان - السابقة
على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا
فشيئًا ، فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع وهو الذي يجب أن يكون
الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه ، نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه ، فإن جماجم جميع
الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا
للغاية ، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء
إذا كان لهم رأس مثله .
وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه في أيامنا هذه
استطعنا أن نؤكد - بكل جرأة - بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال
العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين ، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا في
اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع ،
والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمي حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا
معه في وقت واحد ، ومهما كان الأمر فيجب عليَّ أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة
قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان ! ! على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط
انفصال نهائي آخر ؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد
أو من أي حيوان آخر ، بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية ) .
( 3 ) وقال الأستاذ إيلي دوسيون من العلماء الفيزيولوجيين عن مذهب
دارون في كتابه ( الله والعلم ) ما يأتي : ( بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين
سنة تلك المكافحات الحقة التي قصده بها خصومه ، قضي عليه قضاء غريبًا بأن
يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه ) ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه هربرت
سبنسر في هدم ناموس الانتخاب الطبيعي ، وما كتبه ( ويسمان ) في هدم ناموس
انتقال الصفات والخصائص المكتسبة ، وقد كانا عماد مذهب دارون .
هذا قليل من كثير جدًّا جدًّا من أقوال العلماء الأوروبيين في كتبهم ومجلاتهم
في نقض رأي يعتقده جامدو مقلدة الأوربيين عندنا كل شيء في العلم الحديث ،
ويتشدقون في الكلام عنه والذهاب إليه ، وليس ذلك كل ما في الأمر ، بل تغالى
بعض العلماء الأوربيين ، فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب .
فهل يحق لنا أمام كلام كهذا - مهما تغالينا في قيمته علميًّا ، فهو لم يخرج عن
أنه فرض من الفروض العلمية - أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن
الظاهر إلى التأويل والتمثيل ؟
ويعجبني كلام تقدم في هذا المعنى في تفسير المنار في سورة البقرة ، عند
قوله - تبارك وتعالى - : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ( البقرة : 30 ) جاء هناك ما نصه : ( كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو
الأصل فيُرد إليه الدليل السمعي ، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا ، والحق كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن كلاًّ من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي ،
فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا ، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب
ترجيح القطعي مطلقًا ، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول
على المعقول ؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما
ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التي يكثر فيها الخطأ جدًّا ، فظواهر الآيات
في خلق آدم مثلاً مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين
في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع )
ا . هـ .
على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلاً في الآيات ، وذكر الرأي القائل
بالتمثيل على أنه رأي الخلف ، ورأي الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف ، وأكد في عدة
مواضع أنه يقول بهذا الأخير . ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر ، فمن
المقصود هنا بالخلف ؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي ؟ سؤالان يحتاجان إلى
الجواب . على أن الذي يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها ،
وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله - تبارك وتعالى - علينا في كتابه ، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا