من كلام رشيد رضا في مجلة المنار

رجب - 1327هـ
أغسطس - 1909م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
التعصب الديني عند الإفرنج
كتبنا في الجزء الماضي نبذة في التعصب الديني عند الإفرنج ، بينَّا فيها أن
مهد الغلو فيه أوروبا لا آسيا ، وقبل أن ينشر الجزء ظهر في الجرائد الإفرنجية
المصرية ما يؤيد رأينا ويثبته .
أشاعت هذه الجرائد أنه وقع خلاف في لجنة الاحتفال بعيد الدستور العثماني
سببه الاختلاف في الدين ، وأن صاحب المنار قال في اللجنة : إنه لا يقبل أن يكون
رئيسها نصرانيًّا . وطفق محررو تلك الصحف يشنعون على هذا التعصب الإسلامي
الشرقي الذي تخيلوه فخالوه ، فشنعوا عليه كدأبهم وعادتهم وقياسهم على أنفسهم .
ويقال : إن بعض محرري تلك الصحف من السوريين ، وكأنهم لما تلقوا لغات
الإفرنج وآدابهم تفرنجوا ، فأخذوا منهم محضاء التعصب يحركون به ناره كلما
سنحت السوانح أو عنت البوارج ، وهاك ما قاله في ذلك جريدة ( النوفل ) نقلاً عن
ترجمة الأخبار لها : ( قلنا في عدد سالف : إن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار
ارتأى أنه يجب أن لا يرأس نصراني جمعية الاحتفال بالدستور العثماني ، والشيخ
رشيد هذا كان إلى اليوم يعد حرًا مريدًا للدستور ، عدوًّا لحكم السلطان عبد الحميد ،
وقد حارب الخليفة السابق بصفته مسلمًا باذلاً جهده في سبيل تقويض حكمه المبني
على الظلم والاعتداء والنهب والسلب والفتك بعباد الله ، وقد كان شديد اللهجة في
كتاباته إلى حد أنه ألزم أن يفر من تركيا ويلجأ إلى القطر المصري .
والآن قد تغيرت الأحوال واعتقل عبد الحميد في سجنه الحالي في سالونيك ،
محجوبًا نظره عن الإشراف على ما يجري في البلاد ، وأصبح تحول بينه وبين
الحياة ، وبينه وبين الطبيعة سيوف الحراس ، فقد هذا الظالم الذي طرده العالم من
بينهم قوته ، ولكن أولاً هل سقط مع عبد الحميد كل ما كان قائمًا في أيامه ؟ إننا لنشك
في ذلك ؛ لأنه إذا كان مثل الشيخ رشيد رضا يجعل بين المسلم والنصراني فارقًا ،
فماذا يفعل غيره ؟ أفلا يجوز أن نعتقد أن أحرار الأتراك ما كادوا يستولون على
كرسي السلطة حتى تناسوا مطالبهم القديمة بإقامة العدل وتأليه الحرية .
إن الشيخ رشيدًا سيندم على ما جاهر به ، غير أن ندمه لا ينفي أنه قال ما
قال ، ولقد أصبح الآن يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص إخوانهم
المسلمين ) . اهـ
( المنار ) لما اطلع أعضاء لجنة الاحتفال بعيد الدستور على هذه الكتابة ، كتبت
اللجنة إلى هذه الجريدة وسائر الجرائد التي ذكرت الخبر المختلق تكذيبًا له . ونحن
نزيد على هذا التكذيب كلمة نقولها لكاتب تلك النبذة في جريدة النوافل وهي :
قلتم : إنه يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص المسلمين لهم ،
بعد أن نقلت لهم صحفكم تلك الكلمة عن صاحب المنار دون صحفهم العربية ، وكان
من مقتضى التساهل الذي تدعونه أن لا يصدقوها عنه ؛ لما يعلمون بالاختبار
الطويل من تساهله ، وكتابته في الدعوة إلى الوفاق اثنتي عشرة سنة حتى باسم
الإسلام ، وسعيه مع بعض أصدقائه المسلمين في تأليف جمعية سياسية سرية مؤلفة
من جميع العناصر العثمانية ؛ لأجل جمع كلمتهم وتوحيد مصلحتهم ، أو كان ينبغي
لهم مع تصديقها أن يحملوها على غرض صحيح غير التعصب كأن يكون مراده - لو
صح الخبر - أن جعل الرئيس من كبراء المسلمين كأمراء البيت الخديوي مثلاً ،
يجعل للجنة من النفوذ والاحترام وقبول الدعوة إلى الاكتتاب ما لا يرجى مثله ، لو
كان الرئيس نصرانيًّا ؛ لأنه ليس في نصارى العثمانيين من له مثل هذا النفوذ . هكذا
شأن المتساهل يتروى ويتثبت في الخبر الذي يثير الخلاف وينافي الائتلاف ، فإن أيقن
بصدقه التمس له مخرجًا صحيحًا .
فإذا كان النصارى يعذرون على رأيكم بعدم الثقة بإخلاص أحد من المسلمين
لخبر يحتمل الصدق والكذب ، والقرائن تدل على كذبه ، ويحتمل على تقدير صدقه
أن يكون قيل لغرض صحيح لا للتعصب ، أفلا يعذر المسلمون بالأولى إذا كانوا
يرون الرجل من علماء دينهم وسلالة نبيهم والدعاة إلى الإصلاح الديني فيهم .
يقضي السنين الطوال وهو يدعوهم إلى التسامح والائتلاف مع النصارى وغيرهم
بالقول ، ويجعل نفسه قدوة في ذلك بالعمل ، ثم يرميه النصارى بالتعصب ويجعلونه
حجةً على عدم ثقتهم بأحد من المسلمين .
بلى ، ولكن نحمد الله تعالى أن كان أهل الشرق من المسلمين والنصارى لم
يصلوا إلى هذا الحد من التعصب الذي ينفثه فيهم كتاب الإفرنج والمتفرنجين منهم ؛
ولذلك رأينا الفريقين قد هزءوا بما كتب في تلك الجرائد الإفرنجية عن صاحب
المنار ، حتى قبل تكذيب اللجنة له .
__________
(12/499)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
ذو القعدة - 1327هـ
ديسمبر - 1909م

تعصب أوربا الديني والحج

تمهيد لمقالة من سنغافورة
أثبتنا في السنة الأولى من المنار أن الغلو في التعصب الديني ولد في أوربا ،
ثم أعدنا الكرة في هذا مرة بعد أخرى ، حتى في بعض أجزاء هذه السنة . ومن
العجيب أن نرى جرائدنا السياسية غافلة عن تنبيه أهل الشرق إلى هذا أو وجلة من
ذلك ، وأصحابها يرون ويسمعون ويقرءون كل يوم ما يؤيده ، حتى إن بعض الجرائد
الإفرنجية التى تصدر في مصر تسمعنا آنا بعد آن من آيات تعصبها عجبًا ، فهم
على جهلهم بالإسلام يطعنون في أحكامه الحكيمة العادلة ، ويحرفون بجهل أو بسوء
قصد بعض آيات القرآن ، كما فعلت أكثر من واحدة منهن في الصيف الماضي ،
بتحريف قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ( محمد : 4 )
الآية ، إذ أَوَّلُوهَا بأن الإسلام يوجب على المسلمين أن يقتلوا كل من لقوه من الكفار
في كل مكان وكل وقت ، سواء كان محاربًا لهم أم لا ، ولو كان هذا معناه لما عاش
أحد من الكفار في الممالك الإسلامية وقد كان المسلمون قادرين على إبادة مخالفيهم
من الشرق الأدنى ، ومن بعض بلاد أوربا أيضًا ، ولكنهم كانوا يعاملونهم بأفضل
مما تعاملنا به أوربا اليوم في جاوه و سنغافورة و الهند و تونس و الجزائر .
وإنما الآية في كيفية القتال مع الكفار المحاربين ، فهي تأمرنا أن نجعل قتل
عدونا في الحرب مغيًّا بالإثخان ، وأن نكف عن القتل إذا أثخنا وظفرنا ، ونكتفي
عند ذلك بأسرهم ، فكأنه يقول : اقتلوا في المعركة من يقاتلكم ما دمتم خائفين على
أنفسكم ، فإذا ظفرتم فكفوا عن القتل ، واإسروا المقاتلين أسرًا ، أفليس هذا منتهى
الرحمة ? بلى .. وهو يقول بعد ذلك في الأسرى من هذه السورة { فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ } ( محمد : 4 )
فهل بعد هذا من رحمة ورأفة في الحرب ؟ وهل يعترض على تلك الآية إلا كل
غال في التعصب ؟ وهو ما عليه الأوربيون ، وأفعالهم أدل على التعصب من
أقوالهم .
إن الإنكليز لم تستقر أقدامهم بمصر إلا وحاولوا أن يثبتوا في مؤتمر طبي ؛
كون الحجاز هو مهد الهيضة الوبائية ، وقد ضغطوا على الخديوي توفيق باشا ؛
ليكره طبيبه سالم باشا سالم بإقرار ذلك ، فأمره بأن يوافقهم فلم يفعل ، حتى أظهر
توفيق باشا مغاضبته إرضاء لهم ، ثم إنهم لما باعوا البواخر المصرية لشركة
إنكليزية بثمن لا يزيد على ثمن ما فيها من الأثاث والماعون ( الموبيليات ) ؛
وإن شئت قلت : وهبوها البواخر وأرصفتها ، حملوا الحكومة على إلزام حجاج
المصريين السفر في هذه البواخر دون غيرها ، وكانت الشركة تسيء معاملة
الحجاج الذين يركبون بواخرها ، ولكن الظلم الذى يكون في مصر ليس كالظلم الذى
يكون في مثل جاوه أو سنغافورة ، بل يكون ظلمًا مفضوحًا فيها وفي أوربا ؛ فلذلك
ولما بذل من السعي في تحسين معاملة الشركة للحجاج ، اتفق لورد كرومر مع
الحكومة المصرية على وضع نظام معتدل لنقل الحجاج المصريين في هذه البواخر ،
وكان أنفع تلك المساعي ما قام به مستر ويلفرد بلنت المستشرق الشهير ، وما كتبه
في ذلك إلى لورد كرومر ، وما نشر في الجرائد الإنكليزية ، فهذا التحسين لم يكن
من رحمة لورد كرومر ورأفته ، ولا من عدله وعدل حكومته ، ولكن كان أمرًا
اضطراريًّا لابد منه ، ولو كان ذلك من رحمة الحكومة أو عدلها لكان عامًّا في سنغافورة ، وفي كل بلاد لها سلطان عليها .
هذا ما نقوله تمهيدًا لرسالة جاءتنا من سنغافورة ، ورغب إلينا أن ننشرها في
عدة جرائد إذا أمكن ، وقد شدد الكاتب النكير فيها على الأوربيين ، وسمى تعصبهم
الحامل لهم على إهانة المسلمين وهضم حقوقهم تعصبًا صليبيًّا ، يعني أنه تعصب
لأجل المسيحية ، نعم .. إن المسيحية تتبرأ من مثل هذا العمل الذى يصفه صاحب
الرسالة ، بل هي تتبرأ من هؤلاء الإفرنج عباد المال والقوة ، وأعداء الضعفاء من
غير أبناء جنسهم ، ولكن ماذا يعتقد ، وماذا يقول مثل هذا الكاتب الذي رأى بعينيه ،
واختبر بنفسه تضييق هولاندا و إنكلترا على الحجاج دون غيرهم ، وهو يعلم كما
يعلم كل أحد أنه لا عذر لهم في ذلك ? أليس يعد معذورًا في كل ما قاله ؟ بلى وهذا
نص رسالته :
الحج
( أوربا والإسلام )
ماذا تريد أوربا من الإسلام وأهله ؟ إنها لم تزل تُحَارِبُنَا حَرْبًا صليبية كأشد
ما يكون من الحرب ، متحدة متناصرة من حيث ندري ولا ندري ، فإنها لا تسنح لها
فرصة إلا ووثبت على قطر ، فافترست استقلاله ، والتهمت ثروته ، واستعبدت
أهله ، ونشرت فيه الجراثيم الضارة المهلكة للعقول والأبدان والأموال ( الخمر والزنا
والقمار ) ، كل ذلك باسم الإنسانية ، وتأييد الحقوق ، وتأمين التجارة ، وحب الخير
و . و . و . وما هو إلا الكذب والخداع والغدر والاحتيال ، ولقد رابها ما ترى من
عطف المسلمين بعضهم على بعض ، ذلك العطف الذى يوجب الإسلام أن يكون
على أقوى ما يتصور ، ولكنه ويا للآسف لا يوجد منه الآن إلا اسم بدون مسمى ،
ومع ذلك لم يرق لدى أوربا الرحيمة ، فصاحت الصيحات المزعجة ، وسمته
التعصب الديني ، ونسبت إليه ما شاءت ، ولونته بما أحبت ، وصورته غولاً يبتلع
الإنسانية ويعيد الهمجية ، ولقد نجح مسعاها ، فأصغى إلى زورها من تربوا في
أحضانها من شبابنا ، وَمَنْ تخرج في مدارسها المحشوة بالرهبان والقسوس
وبالملاحدة ، فكانوا طليعة الأعداء وسلمًا لهم ، وحبالة يصطادون بها سخاف العقول
والجهال منا ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
كبر على أوربا المتمدنة أن تكون للمسلمين ندوة عامة وهو الحج ، يلتقي فيه
أهل الغرب منهم بأهل الشرق ، وأهل الجنوب بأهل الشمال ، فقامت لمحاربته ،
فقالت : إن الحجاز ينبوع الأمراض ، ولو أنصفوا لعلموا - وما أخالهم جاهلين - أن
الهند منذ ربع قرن لم يفارقها الطاعون ، وهفكوغ منذ 15 سنة كذلك ، وغيرها
كثير ، فلماذا لا تنظر أوربا إلى تلك الجهات وتقيم عليها الحجر ( الكورنتينات ) ،
بل تغض عنها النظر ، ولكنها في مقابل ذلك تشدد على من يأتي الحجاز أو رجع
منه ، كأنما هو ميكروب مجتمع ، سواء كانت الصحة هناك معتلة أو في أحسن حال ،
حتى صار مفهوم لفظ الحج ملازمًا لمفهوم الحجر الصحي والتطهير ! إذ لا انفكاك
عنه ولا سلامة منه ، مهما كانت صحة الحجاج جيدة .
سبحان الله ! لماذا كل هذه العناية ، ومزيد الرعاية من أساطين التمدن
الرحماء ؟ كلنا نعرف ونعتقد أنها أحقاد وسخائم صليبية ، قلبت أسماؤها تغريرًا
للبسطاء ، وسترًا عن أعين العمش ، وما كفاهم هذا ، حتى اجتمعوا فكادوا
للإسلام وأهله ، وخصوا سفر الحج بقانون مخصوص ! أترى الحامل على ذلك
كثرة المحبة والشفقة على الحجاج واختصاصهم بمزيد العطف ؟ هكذا قال أولئك
الساسة وادعوا :
والدعاوي ما لم تقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء
لو كان ما يقولونه مما يمكن أن يكون صدقًا ، لما خص أولئك الحجاج وحدهم
بهذه النعمة ، وحرم منها جميع المسافرين في أقطار الأرض كلها ، أترى ساسة
أوربا ؛ هان عليهم جميع الناس وأشفقوا على الحجاج فقط ؟ زه زه ! ! إننا نسألهم
لماذا يكون الإنسان حرًّا في سفره إلى الأقطار الأربعة ، بل وإلى القطب الجنوبى أو
الشمالى ومجاهل أفريقية وغيرها بلا شرط ولا قيد ، حتى إذا ما قيل : إنه يريد
الحج قيد بالسلاسل والأغلال ، وسيق إلى المحاجر ، واحتاج إلى اجتياز عقبات
وتحمل صعوبات ، أترى ذلك رحمةً وعدلاً ? بخ بخ ! ! لو كان الحامل لهم على
عملهم هذا هو الرحمة ؛ لكان المجلوبون كالأغنام من الهند وجاوة للعمل في أفريقية
وأستراليا في أعماق الأرض أحق برحمتهم من الحجاج ؛ لأنهم أكثر وأسوأ حالا
منهم .
قالوا إن كثيرًا من الحجاج جهال مغفلون ، فهم عرضة للضياع ، وقد صدقوا ،
وقالوا : إنهم لذلك خصوهم بقانون مفرد غريب رحمة بهم وقد كذبوا ، ولو كان
الأمر كذلك لكان الأحق بهذه الرحمة فلاحي روسيا والحبشان ، فلماذا لم يرحموهم
ويجربوا هذه القوانين النحسة فيهم ؟ مع أنا نرى أوربا تسوق الجيوش وتجهز
الأساطيل ، إذا أصاب النصارى من غيرهم أذى بحق أو أو بغير حق ، ولا نراها
ترحم المسلمين ، اللهم إلا في سفرهم إلى الحج ، ولكن رحمة مقلوبة ! فهل بلغ من
استخفاف أوربا أن ظنت أننا نصدقها في هذا ؟ عجب عجب ! !
هذه هولاندا تقتل أهل سمترا ظلمًا منذ أكثر من أربعين سنة ، ولم ينبس أحد
من وزراء أوربا ببنت شفة ! أتراهم لم يعلموا أنه لم يبق ملايين فيها إلا نحو
الربع ، كلا إنه من المستحيل أن يعلم بذلك كل أهل الدنيا ، ويجهله وزراء الدول
المتمدنة الرحيمة ، بل الحقيقة أن أولئك المقتولين المضطهدين مسلمون ، والقاتلين
الظالمين لهم نصارى .
قالوا : إن الحجاز محل الاستبداد والنهب والظلم ، وقد علموا أن وجود ذلك
مسقط لوجوب الحج أو مانع من دخول الحجاز وقد صدقوا ، ولكن ذلك كان في أيام
الطاغية راتب باشا ، وقد طار الاستبداد معه ، وقالوا : إنهم لذلك احتاطوا للمسافر
إليه , ولو رفعوا تلك الحواجز الآن ونسخوها ، لقلنا : إنهم صدقوا ، فكيف وقد
كذبوا أنفسهم بأنفسهم بثباتهم على العدوان ، والتشديد مع سبق الإصرار على ذلك !
ولسان الحال أفصح من لسان المقال .
إنهم بما سنوه من القوانين وأوجبوه من الشروط ، قد جعلوا الحجيج من
الأصناف المحتكرة ؛ كالأفيون والخمر ، فاختص بهم بعض الشركات القاسية
تسومهم الخسف وتنهب أموالهم ، فلقد كانت أجرة الذهاب من سنغافورة مثلاً إلى
جدة ، يتراوح بين 17 ريالاً إلى 20 ريالاً ، وهو الآن 110 ريالات ذهابًا وإيابًا !
ولو لم يقيدوه بالشروط المخصوصة لم يزد على ما كان إن لم ينقص ؛ لأن المراكب
التى تذهب من الصين إلى أوربا لا تعد كثرة ، وسطوحها فارغة ، وكذا كمراتها إن
لم تكن مراكب بريد ، ولا يكلفها أخذ الحجيج شيئًا إلا ساعات قليلة ، تنحرف بها
عن سبيلها حين إدخالهم جدة ، فيكون جل ما تكسبه من الحجاج أو كله ربحًا , ولكن
كيف وأنى ، وقد احتكروا بفضل رحمة الرحماء من صليبي أوربا ، وصاروا من
حقوق بعض الناس ، وبعض الشركات يورثونها من بعدهم ! ! أفلا تكون هذه
نخاسة من مخترعات القرن العشرين ؟ فهنيئًا مريئًا للأقوياء ما استحلوا من ظلم
الضعفاء ، إذ لا راحم للمسلم الضعيف ولا معين .
أما المراكب التى اختصت بأخذ الحجاج من سنغافورة وجاوة ، فلا كمرات
فيها ، ولقد رأيت أمراء هذه البلاد وأبناءهم يركبون ظهور تلك المراكب الوسخة
بين الفحم والبهائم مضطرين ، وقد اعتادوا صنوف النعم والرفاهة والنظافة ،
فيمرضون ويسقمون وكثيرًا ما يهلكون ، ويقاسون من العذاب والنكيل ما يرحمهم
عليه زبانية جهنم ، ولا يرحمهم محبو الإنسانية من الأوربيين ! وما هو ذنبهم ؟
هو ذنب عظيم ألا إنه هو قصدهم الحج وذهابهم إلى الحجاز ، وأوربا لا تحب ذلك ،
فهي تعاقبهم وتحجزهم في تلك المراكب العفنة ، ثم تسوقهم إلى المحاجر حيث
تعرى أبدانهم ويهانون ، ويتلف من أموالهم ما أبقته أيدي السراق والأمطار والأنواء ،
ولقد لقيت أحد كبراء هذه الجهات بعد خروجه من المحجر ، فرأيته كأنما نشر بعد
ما قبر ، ولو أراد أن يذهب بأحد مراكب البريد أو بمركب من غير مراكب الشركة
المحتكرة للحجيج ، لأقامت الحكومة عليه وعلى الباخرة التي تقله الدعوى ، وحكم
عليه وعليها بأشد أنواع العقوبات رحمة وشفقة ! !
لو فرضنا أن الحكومات الأوربية تحب أن تخدم الحجيج ، وأنها تعتقد أنهم
في منزلة القصار وعديمي الرشد ، لعملت معهم ما تعمله ، لو أرادت نقل قطيع من
البقر للذبح ، فإنها تعلن ذلك الأمر والشروط المرغوبة ، وتعطيه لمن يطلب أقل
أجرة عليه .
ولو فعلت هذا لما كانت تبلغ أجرة الحاج الواحد ذهابًا وإيابًا 40 ريالاً فيتوفر
لكل نفر من الحجاج من ركاب السطح 70 ريالاً ، وهي شيء كبير بالنسبة لفقر
الأهالي ؛ إذ الكثير منهم لا يقدر على توفير ذلك المبلغ في ثلاث سنين ،
ولكنهم عندها أذل من البقر ، ومعاملتها تفصح بهذا ، وكان يجب عليها أن تحتم
على من منحتهم نقل الحجاج إرجاع أجرة العودة إلى ورثة من مات ، ولكن الأمر
الآن بالعكس ، فأنا أكتب هذه الأسطر ، وأمامي أحد الأهالي وبيده 25 ورقة مات
أهلها ، وقد دفع أجرة العودة إلى واحد منهم 55 ريالاً ، ولكن الشركة ( الكمبانية )
أبت أن تدفع له ذلك ، واتفق مع أحد المنتسبين إليها أن يشتري منه تلك الأوراق
بعشرين ريالاً فقط ثم أبى ، وقال : بعها لمن يريد العودة من جدة ، ومعلوم أنها
هناك تباع بثمانية ريالات أو نحو ذلك ، والحكومة تساعد الأوربي الظالم على
الأهالي المساكين ، وذلك أيضًا رحمة وحنان ! !
نعم .. إن طرحها أمر تسفير الحجيج في المزاد كما قلنا مناف لحرية التجارة
ولكن ذلك مع نفعه للمساكين أقل إثمًا من انتهاكها لحرية الأشخاص ، يمنعهم من
السفر كما يشاؤون , فإذا جاز هذا ، جاز ذاك بالأولى قطعًا ، أما تقييدها حرية
الحجاج المساكين , وتركها لهم مربوطين بين يدي أولئك النخاسين الغلاظ الأكباد
فظلم ، من أشنع وأبشع أنصاف الظلم فيما نعتقد .
ويجب أن يستثنى من يركب الكمرات من كل قيد ، كما هو الحال بالهند
والصين ، ومن العجب أن يكون ركاب الدرجة الأولى والثانية وخدامهم مستثنين من
الحجر الصحى والتطهير مطلقًا هنا وفي الهند والصين ، ولا يستثنون إن سافروا
إلى الحجاز ! فماذا يفعل التعصب الأعمى ، قاتل الله الأغراض .
ومن الغريب أن مجلس ( المبعوثان ) المحترم ، لم يَنْبَس أحد من أعضائه ببنت
شفة في هذا الصدد ، وذلك إهمال أو جبن ، ولا نقول لأجل أن يتحقق مسلمو
الشرق ما يقوله أعداء جمعية الاتحاد والترقي الموقرة من بغضها لكل ما يتعلق
بالدين ؛ ليفصموا عرى اتحاد المسلمين من كل جهة ، فإننا نتحقق كذب هذا القول
بالنسبة لعقلاء القوم وفضلائهم ، وإذا كان فيهم زنادقة أو متفرنجة أو نصارى جهال
فإنني لا أبخل عليهم بنصيحة يتحققون صدقها : وهي أن منفعتهم كبيرة جدًّا في
تمسكهم بالاعتدال في كل حال ، وفي اجتلاب محبة المسلمين كلهم ، والسياسة
توجب عليهم الاجتهاد في ذلك ، ولهم بفرنسا قدوة حيث طردت قسوس الجزويت
من بلادها وحمتهم في الشرق ، فليتظاهروا بذلك لنفعه المقطوع به ، ولا يكونوا
السبب في خسارة الدولة أهم قوة ، يحسب لها عدوها ألف حساب وحساب ؛ فلهذا
نستصرخ بأعضاء ( المبعوثان ) الكرام ، وبأهل الجرائد وحملة الأقلام والعلماء
الأعلام ؛ ليقيموا الحجة ولا يسكتوا عن المطالبة بالحق والإنصاف ، فإن
أنصار الحق كثيرون في أوربا وغيرها ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سنغافورة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س . س . ي
(12/856)
 
ذو الحجة - 1327هـ
يناير - 1910م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

العرب والترك
[*]
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [ [**]

( 4 )
قد انشق ليل الاستبداد عن صبح الدستور ، والعثمانيون الذين في بلادهم نيام
يَغُطّون : بعضهم يرى أحلامًا مخيفة ، وبعضهم يرى أحلامًا سخيفة . والذين في
بلاد الحرية قيام يرقبون : بعضهم يتعلل بالآمال القوية ، وبعضهم يلهو بالأماني
الضعيفة ، فاستيقظ بصوت مؤذنه النائمون ، وحمد غِبّ سُراهم المجدون ، وعاود
الرجاء نفوس اليائسين ، وغادر العداء قلوب المتدابرين ، وأقبل المسلم بوجهه على
النصراني ، والتركي على الأرمني ، وعانق الشيوخ القسوس ، وصافحت الشعوب
الشعوب ، وأذن مؤذن بينهم { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } ( المائدة : 95 ) .
هكذا كان العثمانيون في نشوة من السرور العام ، الذي كاد يكون من أضغاث
الأحلام ، أو من خوارق العادات ، بعد انقضاء زمن المعجزات ، لتأليف الدستور
بين الشعوب الكثيرة المختلفة في الأديان والمذاهب والمشارب والعادات واللغات
والبقاع والتربية والتعليم ، وهي ضروب من الاختلاف لم تعهد في أمة ولا مملكة ،
وبعضها كاف لاستمرار الاختلاف والافتراق ، ومنع الاتحاد والاتفاق ، وإنهم لكذلك
وإذا بنبأة من بعض الترك بمصر ، ونبئات من كتابهم بالآستانة ، قد أجفلت الوادعين
الساكنين ، وروعت الآمنين المستبشرين .
كتب أحد شبان الترك المقيمين في القطر المصري مقالات في جريدة الأهرام
يفاخر فيها العرب بقومه وجنسه معبرًا عنهم بالملة المالكة ، متبجحًا بزعمه أنهم هم
وحدهم الذين أزالوا الحكومة الاستبدادية ، وأدالوا منها الدستور والحرية ، وأنهم هم
وحدهم الذين لهم الحق بالتمتع بثمرات الدستور الكاملة ، وليس للعرب ولا لغيرهم
من الأجناس أن يطمعوا في مساواتهم في مناصب الدولة وأعمالها ؛ لأن ولاياتهم
مستعمرات أو مستملكات للترك ! فيجب أن يكون قصارى حظ العرب من الدستور
أن يستريحوا من أعباء الظلم ، ويتذوقوا طعم العدل ، فيكونوا من الترك كأهل
الجزائر من فرنسا ، أو أهل الهند من إنكلترا .
هذه المعاني العالية كانت تصخ مسامع العرب أحيانًا في عصر الاستبداد ،
وقلما كانت تكتب ، ولا سيما في مثل مصر التي هي أرقى من جميع الولايات
التركية علمًا وعملاً وثروة وحرية ، وفيها الأقلام المرهفة والألسنة الذلقة ، والقلوب
الجريئة ، نعم .. كانت كتبت منذ بضع سنين في جريدة ( ترك ) التي كانت تصدر
في القاهرة ، محررة بأقلام نفر من أذكياء الترك ؛ كعلي كمال بك وجلال الدين بك
عارف أسرفت تلك الجريد في الفخر بجنس الترك معبرة عنهم بالملة المالكة ،
وحقرت العرب في سياق الكلام عن مراكش ، ونصبت الميزان للترجيح بين الترك
والعرب والخلافة العربية ، فجعلت العرب كلهم بمنزلة قبائل المغرب الأقصى ،
وفاخرتهم بالترك في مدارسهم ودواوينهم وقصورهم وجيوشهم ، وملأت مواضعها
بالفخر والتبجح ، ناسية ما يكتب فيها وفي غيرها من الجرائد العثمانية في البلاد
الحرة في وصف مظالم خليفتهم عبد الحميد خان وإفساده للمملكة ، وتخريبه للولايات
التركية والعربية والكردية والألبانية والرومية ، ومنعه للعلم ، وعيثه حتى في
الجيش ، وفرار كتاب جريدة : ( ترك ) وغيرهم من ظلمه إلى مصر العربية .
ولا أقول : إن كاتب تلك التبجحات الغثة الباردة ، نسي عدل الخلفاء الراشدين
وعلوم العباسيين في الشرق ، والأمويين في الغرب ، بل أقول : إنه عمي عن
البلاد التي أوى إليها ، والمدينة التي يطبع جريدته فيها ، وهو يرى العرب فيها
أرقى من قومه علمًا وثروة ومدنية ، ولكنني ذكرت تلك الجريدة يومئذ بخطئها :
في تحريك العصبية الجنسية التي أماتها الإسلام ، وبوجوب اتحاد العرب
والترك وضرر تفرقهم باختلاف الجنس ، وبأن العرب إذا فاخروا أي جنس
بجنسهم فإنهم يفخرونه ويبذونه :
هم الأولى إن فاخروا قال العلا ... بفي امرئ فاخركم عفر الثرى
هم الأولى جوهرهم إذا اعتزوا ... من جوهر منه النبي المصطفى
وإنما كتبت ذلك الرد في المنار على جريدة ترك ؛ لئلا يغريها السكوت عنها
بالتمادي في ذلك التبجح ، الذي يولد الأضغان ، ويؤرّث الأحقاد ، وينفر المصريين
وغيرهم من الدولة العلية ، ويفتح في المسلمين باب الشقاق باختلاف الجنسية ،
ولكن كتاب تلك الجريدة صاحوا بعد ردي صيحة أخرى ، ثم خفت صوتهم لأنني لم
أشأ أنْ تستمر المناظرة في ذلك .
ثم قام أحدهم جلال الدين بك عارف يوم احتفالنا بإعلان الدستور خطيبًا ،
فقال : إننا اليوم قد تنازلنا عن كلمة ( ترك ) وهي محبوبة لنا ، فكلنا عثمانيون لا
فرق عندنا بين الترك والعرب والروم والأرمن وغيرهم ، فصفقت الجماهير المختلفة
لقوله هذا تصفيقًا ، وكذلك قال غيره من سائر الخطباء العثمانيين ، ونادى لسان
الحال والمقال ؛ الدستور يجبُّ ما قبله كما ورد في الحديث الشريف : ( الإسلام يجبُّ
ما قبله ) .
فلما انبرى ذلك الكاتب التركي بعد ذلك لكتابة ما ذكرنا ، تذكر الناس ما كان
كتب من قبل وما كان يقال ، وأقبل العثمانيون بعضهم على بعض يتساءلون : قال
أكثر من واحد منهم : إن القوم لا يتركون ما يألفون ، وإنهم سيستبدون مجتمعين كما
استبد آحادهم ( كعبد الحميد ) منفردين ، وربما كان استبداد الجماعة أشد وأبقى من
استبداد الواحد . وقال الأكثرون : إن هذا إلا شاب مغرور ، لا يزال جذعًا في
السياسة ، وإن القرّح والبزَّل من ساسة الترك المحنكين لا يقولون بقوله ، ولا
يدينون برأيه ، ولكن لم يلبثوا أن سمعوا تلك النبئات الأخرى من جرائد العاصمة
( الآستانة ) ورأوا أعمالاً من الحكومة الجديدة ، استدلوا بها على التحامل على
العرب ، وهضم حق العربية ، فنفرت القلوب ، وساءت الظنون .
قامت بعض جرائد الآستانة تضرب على نغمة التغاير بين الترك والعرب ،
وتلغط بتلك الكلمات المنفرة ( ملة مالكة ، مستملكات ، استقلال العرب ، الخلافة
العربية ، بُغْض العرب للترك ، فَضْل الترك على العرب ، عَجْز العرب عن تدوين
لغتهم ، ونشر الإسلام خارج جزيرتهم ) إلى غير ذلك من الكلم الدال على الجهل
بالتاريخ ، أو تعمد العبث به فيما يضر ولا ينفع .
وكان من أشهر هذه المباحث التي حركت التغاير ، وأحدثت التنافر ، ما نشر في
جريدة ( إقدام ) من اقتراح تنقية اللغة التركية من الألفاظ العربية ، وما أودعه
بعض الكتاب في مقالات نشرت فيها عن السنوسية ، ومنها طعن بعض الجرائد في
المصريين وفي الدمشقيين خاصة ، أهل هذين المصرين هم أعظم العرب حضارة ،
وأوسعهم مدنية وفيهما السراة والأباة والعلماء والكتاب .
رب قول يصدر عن حسن نية ، ويكون جديرًا بأن يحترم وإن كان خطأ ،
يحدث من الأثر السيء ما لم يكن يراد به ، ويتفاقم ذلك بمقتضى الحال وطبيعة
الزمان ، وطريقة الأداء والتعبير ، وكذلك كان حظ اقتراح صاحب ( إقدام ) بدعواه
في تنقية التركية من الألفاظ العربية - يقول هو : إنَّ هذا بحث فني محض ، وإن
الغرض منه الاستغناء عن الألفاظ العربية التي يوجد في التركية ما يقوم مقامها .
ولكن لماذا طلب هذا المصلح اللغوي تطهير لغته من العربية دون الفارسية والفرنسية ،
ونقول : إن هذه الفلسفة مبتسرة ، كان يجب عدم الخوض فيها الآن ، وإن الكلام
عندما ينقل من لغة إلى أخرى ، ويتحدث به الخاص والعام ، يعرض له التحريف
والتبديل ، ويفسر بحسب الحال الغالبة ، فقد شاع في بلاد سورية ومصر وغيرهما
من البلاد أن بعض كتاب الترك يدعون قومهم إلى الابتعاد عن العرب ، حتى في
ترك الألفاظ العربية المستعملة في لغتهم ، وإنهم يعبرون عن ذلك بلفظ التطهير ،
كأنهم يرون اللغة العربية نجسة ، قد تدنست بها التركية ! ! وانتقل بعض الناس من
الملزوم إلى اللازم ، فقالوا : إن هذا الكلام يعد طعنًا في كتاب الله عز وجل
وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن هذه الدعوى قد تكون مقدمة لدعوة
أخرى تترتب عليها ، إذا أجيبت وعمل بها ، وهي الدعوة إلى الارتداد عن دين
الإسلام ؛ لأن أصله وأساسه من الكتاب العزيز والسنة السُّنِّيَّة ، وإنما هما باللغة
العربية ، والرسول الذي جاء به عربي صلى الله عليه وسلم .
إلى هذا الحد البعيد وصل سوء تأثير ذلك الاقتراح الفني ؛ لنشره في هذا
الوقت النحيف ( أو النازك كما تقول الترك ) الذي يجرحه مر النسيم ، ويدميه لمس
الحرير ، وقد ردت بعض الجرائد العربية على هذا الرأي ، فعرفه الناس وعدوه
ذنبًا للترك ، ولم يعلم السواد الأعظم منهم أن من كتاب الترك أنفسهم من رد على
مقترحه ، بأوسع مما رد به كتاب العرب .
وقد سمع أيضًا من جريدة طنين كلام في غمط العرب ، لم يكن كطنين الذباب
فيناسب اسم الجريدة ، بل كان كدوي المدافع وقصف الرعود ؛ لاشتهار هذه الجريدة
بأنها لسان جمعية الاتحاد والترقي ومظهر سياستها ، ومكان الجمعية من سياسة
الدولة معروف ، ولا سيما في أوائل العهد بالانقلاب ، فهذا من الأسباب القولية في
سوء التفاهم والتنافر بين الترك والعرب ، الذي نجم قرنه بعد الدستور ، فزلزل
الآمال الجميلة ، وأساء تعبير الأحلام اللذيذة ، وقد سمع شيء منها من بعض رجال
الحكومة الدستورية ؛ كطعن سليمان بك نظيف والي البصرة في الحزب الوطني
المصري ، وهو في مصر أثناء مروره بها في سفره إلى البصرة ، وقد اشتهر هذا
لرد جريدة الواء عليه ، ولكنه قال قولاً آخر شرًّا منه وأسوأ تأويلاً ؛ قال في سياق
الكلام على الفتن التي تحدث في جزيرة العرب ما مآله : إن الدولة مستعدة لسحق
أولئك العرب بالقوة القاهرة ، فإن عندها سبعة فيالق من الأبطال ! ! ! فهل يصح أن
يقال مثل هذا القول بمصر أو بغير مصر ؟ وهل تدرب الدولة الجند من أبناء الأمة
لأجل سحقها وتدميرها ! ؟ أم لأجل حمايتها وتعزيزها ؟ أما كان ينبغي له أن يقول :
إن أولئك العربان وغيرهم كانوا مرهقين بالظلم وسوء الإدارة ، وسنريهم العدل
والنظام ، فنجعلهم بذلك يتفانون في حب الدولة وطاعة الحكومة .
ومن أسباب سوء التفاهم أن كثيرًا من أحرار العرب الذين جاهدوا في سبيل
الدستور حق الجهاد ؛ ( ومنهم من هو معروف الاسم أو الشخص عند أكثر أحرار
الترك ) وكثيرًا من الفضلاء والكتاب الذين أظهروا الاحتفال بالدستور بخطبهم
ومقالاتهم ، جاءوا الآستانة زائرين ومختبرين ، وأكثرهم كانوا ممنوعين منها
ومحرومين ، فلم يعبأ بهم أحرار الترك ، ولا رأوا منهم عواطف الإخاء ، كما رأى
الأرمن مثلاً !
وأما الأسباب المتعلقة بحكومة العاصمة ؛ فمنها إسرافها في عزل أبناء العرب
من وظائفهم ، حتى إنها عزلت في وقت قصير زهاء بضعة عشر متصرفًا منهم ،
ومنها بخلها بالوظائف على طلابها منهم ، وجودها بها على غيرهم من العناصر
الأخرى ، ومنها تعجلها بأمور تشعر بتعمد إضعاف اللغة العربية ؛ كجعل المرافعات
في محاكم الولايات العربية باللغة التركية ، مع علمها بأن الناس يجهلونها في الغالب ،
حتى وكلاء الدعاوي ( المحامين ) ، وكجعل الكشوف ( البياننامه ) التي يقدمها
التجار من أبناء العرب في بلادهم إلى إدارة المكس ( الجمرك ) باللغة التركية أو
الفرنسية ، مع تعسر ذلك أو تعذره عليهم ، واقتضائه نفقات كانوا في غنى عن بذلها ؛
وكعدم قبول عرائض الشكوى بالعربية ، حتى في مجلس الأمة مع أن المشتكين
من الأمة ، وهي ذات لغات متعددة ، للعربية منها مكانة خاصة من حيث هي لغة
الدين الرسمي الذي يكفله مقام الخلافة ، كما سنبين ذلك بعد .
ومنها ما يتعلق بنظارة المعارف خاصة ؛ كإلغاء الدروس العربية من المكتب
الملكي في العام الماضي ( ولكنهم أعادوها في هذا العام ) ، وكجعل العربية في
المدارس الإعدادية اختيارية كاللغة الأرمنية واللغة الرومية ، وعدد دروسها كعدد
دروسهما ، مع كون العربية أصلاً من أصول اللغة الرسمية ، يحتاج إليها في إتقانها
أكثر مما يحتاج إلى اللغة اللاتينية لإتقان الفرنسية ، وكونها ينطق بها أكثر العناصر
العثمانية عددًا وأقلهم لها معرفة ، وكونها لغة الدين الإسلامي الذي هو الدين الرسمي
للدولة ؛ وكإرسال النظارة خمسة وسبعين تلميذًا من مكاتبها إلى أوربا ؛ لتحصيل
العلوم العالية ، ليس فيهم غير اثنين من أبناء العرب ، وكإرسالها معلمين من الترك
إلى مدارس البلاد العربية ؛ لأجل تعليم العربية نفسها وهم يجهلونها ، وكتعصب
بعض المعلمين في المكاتب العالية على أبناء العرب بسماعهم ما يجرح عواطفهم ،
حتى في الدروس .
ومنها ما يتعلق بنظارة الحربية ، كاستحضارها الضباط ولا سيما أركان
الحرب منهم من الولايات العربية إلى سلانيك والآستانة ، ثم تفريقهم في البلاد
التركية ، وكإخراجها بعض التلاميذ العرب من المكتب الحربي حتى بصورة إدارية
كما أشيع في مصر وغيرها .
ولعل الشبهة أو الشبه المتعلقة بنظارة الحربية أضعف من الشبه المتعلقة
بغيرها ، ولا أرى شيطان التفريق بين العنصرين يقبل وسواسه فيها ؛ فالحربية في
دولتنا هي أرقى ما فيها . فنسأل الله تعالى لها ولسائر النظارات أكمل التوفيق وأتم
النظام .
ومنها ما يتعلق بمجلس الأعيان ، فقد كان ينتظر أن يكون فيه أعضاء من
العرب ، ولو بعدد ولاياتهم إن لم نقل بحسب عدد نفوسهم ، ولكن ذلك لم يكن .
ومنها ما يتعلق بمجلس المبعوثين ، وهو المظهر الأكمل للمساواة والإخاء ،
ولكن أخباره في السنة الماضية لم تكن تدل على ما تحب من توثيق الرابطة بين
العرب والترك كسائر العناصر ، بل وجد العرب أمورًا منتقدة ، ووجوهًا متجهمة ،
وسمعوا من بعض إخوانهم كلامًا لا نحب أن يكتب ويطبع ، ونرجو أن يكون هذا
العام خيرًا من سابقه ، وأن يكون مجلسنا وسائر أمورنا العامة في ارتقاء دائم
بالإخاء الصحيح والمساواة مع الإخلاص بسعي الفضلاء ؛ محبي الوفاق من
العنصرين وسائر العناصر .
تلك كليات من أسباب ما سميناه سوء التفاهم بين الترك والعرب ، وفي ضمن
تلك الكليات جزئيات كثيرة .
لا أقول : إن كل ما روي من ذلك صحيح المتن والسند ، ولا أقول : إن ما
صح منها كان بسوء النية وتعمد هضم حقوق العرب ، ولكنني لا أستطيع أن أنكر
قول من يقول : إنها في مجموعها تفيد التواتر المعنوي ، الدال على أنه يوجد في
رجال الدولة ورجال الصحافة التركية أناس يسيئون الظن بالعرب ، ولا يعطونهم
حقوقهم ، ولا يعرفون قيمة اتحادهم بالترك واتحاد الترك بهم ، وإنه تتوقف عليه
حياة الدولة العثمانية وبقاؤها ، وإنَّ هذا الاتحاد تقتضيه طبيعة العنصرين الاجتماعية
وإن دار الخلافة والسلطنة هي الآلة التي يكون بها التركيب والتحليل ، وإن
الكيماويين الاجتماعيين الذين يحركون هذه الآله هم رجال الحكومة ورجال الصحافة
وإنه يجب في هذا الدور ؛ دور الانقلاب والتحول من الاستبداد إلى الدستور ؛ أن
يؤخذ على أيدي المحللين بسوء القصد أو بسوء الفهم ، حتى لا ينقل عن العاصمة
إلا ما يدل على إرادة المزج والتركيب والاعتصام والتأليف .
ولكن وجود هؤلاء الجاهلين بهذه الحقائق ، والمسيئين إلى العرب بأقوالهم
وأفعالهم ، لا ينافي كون العنصر التركي أخًا للعنصر العربي ومحبًّا له كما يحبه
هو ، ولذلك قلنا فيما سبق من نُبذ مقالنا هذا : إن التغاير والتنافر محصور بين
المتزاحمين على أعمال الدولة ومناصبها وبين رجال الصحافة وحملة الأقلام ،
وسأبين طريقة تداركه مع حفظ حرية الصحافة ، وتنفيذ قوانين الحكومة ، ولو
بترجيح الترك في المناصب ترجيحًا مقرونًا بالحكمة والذوق .
إن ما أشرت إليه من أسباب سوء التفاهم ، قد سرى في أكثر البلاد العربية ،
ولا سيما أرقاها وهي المصرية والسورية بسرعة الكهرباء ، وكثر حديث الناس فيه
وخاضت فيه الجرائد ولها العذر ، وتبارت فيه أقلام الكتاب والشعراء ، فيجب
تداركه قبل أن يعم نشره ، فيصل إلى سائر البلاد والبوادي ، وقبل أن تضعف حجة
أمثالنا من محبي الوفاق والساعين في الاتحاد ، الذين اجتهدوا ولا يزالون يجتهدون
في الاعتذار عن الحكومة ، وما كل عذر يقبل ، ولا سبيل إلى إيصال الأعذار إلى
الملايين .
إذا قلنا : إن الحكومة عزلت الجم الغفير من عمالها العرب ؛ لأنها تظن أنهم
من صنائع أبي الهدى وعزت العابد ، يقال لنا : ولماذا لم تعزل جميع رجال الدور
السابق وهم صنائع عبد الحميد ، وبقية رجاله من الترك ، وقد ثبت بالعيان
والبرهان أنهم خربوا المملكة ؛ لأن العمل كان في أيديهم ! ؟ وكم سألنا وسأل غيرنا
من الناس : ماذا ثبت على أبي الهدى وعزت العابد على الخيانات والأعمال
المخربة للدولة ؟ أما أنا فلا أعرف لهما ذنبًا خاصًّا وراء ثقة عبد الحميد بهما ، وما
نالا بها من مال وجاه ؛ إلا أن الأول آذاني وآذى أهل بيتي بسعيه أو سعايته .
والثاني : إذا كان لم يوافق على ذلك ، فإنه لم يعارض فيه ، فأنا على عدم حمدي
لأحد منهما ، وعدم دفاعي عنهما ، لا أرى من العدل عزل كل من نال عملاً في
الحكومة بجاههما ، وأعلم أن كثيرًا ممن عزل من العرب ، لم يكن له صلة بأحد
منهما ، وأنَّ بعض المنتمين إليهما لا يزالون في أعمالهم . وإنما أعذر الحكومة
بعض العذر بأن إكثارها من عزل العرب وغيرهم ؛ كان من بعض الاضطراب ،
الذي جاءت به طبيعة الانقلاب ، وقد آن أن أبين شيئًا من ضرر التنافر ، وطريقة
إزالة سوء التفاهم ، وقطع عروق التقاطع والتدابر ، وهو موضوع النبذتين
التاليتين .
***
( 5 )
ما كاد ليل الاستبداد ينجلي بصبح الدستور ، وتنقضي أيام الاحتفال بعيده في
فرح وسرور ، إلا وبادر كاتب هذا المقال إلى زيارة القطر السوري زائرًا ومختبرًا
للبلاد التي نشأ فيها ، وحجبه الظلم الحميدي عنها إحدى عشرة سنة ، فطفت المعاهد ،
وبلوت الأفكار والسرائر ، فما رأيت فيما رأيت للنزعة الجنسية العربية حركة ،
ولا سمعت فيما سمعت لها دعوة ، اللهم إلا نئيمًا لداعية الجمعية العربية العثمانية ،
منعكسًا عن الآستانة العلية ، لم يفهم منه معنى التفرقة ، ولم تشتد من الجمهور فيه
الرغبة ، وكنت مع هذا أنفر الناس عن هذه الجمعية ، وأتشاءم من تسميتها بالعربية
لئلا يفهم منها إخواننا الترك معنى العصبية الجنسية ، بل أقول طالبًا السماح والعفو
من مؤسسيها : إنني لم أكن أحسن الظن فيهم ، ولا أبرئهم من الأغراض الشخصية -
دون الجنسية - في عملهم .
وكنت أقول في خطبي ودروسي في البلاد : إنه يجب على كل بلد أو ولاية
عثمانية أنْ تعنى بترقية نفسها بالعلم والثروة ؛ لتكون عضوًا قويًّا عاملاً في بنية
الأمة ، ومددًا عظيمًا لتعزيز الدولة ، ولأجل انفراد أهلها بنفسهم ، أو اعتصامهم
بأبناء جنسهم ، ( أي الجنسية اللغوية لا السياسية ) فإن الأمم المستقلة في أحكامها
المختلفة في لغاتها ومذاهبها ومواقعها ، يتحد بعضها ببعض ليقوى الجميع بالمحالفة
فكيف تضعف الشعوب العثمانية نفسها وهي أمة واحدة - بالتفرق والمخالفة ؟ نعم ،
إن على العرب أن يحبوا لغتهم ، وأن يطالبوا الدولة بمساعدتهم ؛ لأن لغتهم في
الدرجة العليا من الارتقاء ، ولها في العلوم والآداب أفضل تراث ، وهي لغة الإسلام
التي يتدارسها المسلمون من جميع الشعوب والأقوام ، فهي رابطة الإخاء والمودة
المعنوية ، بين الملايين المذعنين للديانة والخلافة الإسلامية ، فترقية هذه اللغة خدمة
للدولة العلية وترقية لها ؛ فكنت أرى الجماهير يتقبلون كلامي بقبول حسن ، وما
كنت أرى أحدًا يعارضني بتوهم الفصل بين الترك والعرب .
هذا ما كانت عليه البلاد في العام الماضي ، وكانت قد نجمت قرون الخلاف
ولكن لم يشعر بها الجمهور ، فلما كثرت وكبرت كما بينا في النبذة الرابعة ، تنكر
الناس في سورية ومصر ، وخاضت في المسألة الجرائد العربية حتى في أمريكا ،
وتبارت فيها قرائح الشعراء وتجاوبت فيها الأصوات ، حتى عمت البلاد والجهات ،
فاهتزت بذلك النعرة العربية اهتزازًا شديدًا ، وصبغها بعضهم بصبغة الدين فكان
تأثيرها عظيمًا ، ومن المعاني التي نظمها الشعراء وخطب بها الخطباء ونشرت في
الجرائد المصرية ؛ أن الترك جاروا على لغة القرآن وعدوها من النجاسات ! !
فانفطرت القلوب ، وفاضت العيون ، وضج البيت والحرم ، وكاد الركن يتحطم ،
وشكا القبر المعظم ، وغضب الرب عز وجل .
فهل تظن حكوماتنا العليا وأصحاب الجرائد التركية في عاصمتنا أن هذه
الغارة الشعواء هين أمرها ، خفيف وزرها ، مأمون عواقبها ، إذا ألقي حبلها على
غاربها ؟ ؟ كلا ، إن من عرف حقيقتها ، وتفكر في عواقبها ، يعلم أن الأمر إدّ ،
والخطب جد ، وأنه يجب أخذه بربَّانه ، وتداركه في إبانه ، قبل أن يستقر في نفوس
العامة ، وتقتنع به الحاضرة والبادية .
إن لهذا العاجز على ضعفه صوتًا مسموعًا في البلاد العربية ، وفي غيرها من
البلاد الإسلامية ، وقد دافع بقدر طاقته عن الدستور والقائمين به ، حتى أزال كثيرًا
من شبهات المشتبهين ، ومكن الثقة في نفوس الجماهير من المتزلزلين ، وهو على
ذلك وعلى حرصه على الاتحاد والاعتصام بين جميع العناصر العثمانية ، لم يستطع
أن يقف في مجرى التيار الذي حركته تلك الأقوال والأفعال التي أشرنا إليها في
نفوس العرب ، كما وقف في مجرى التيار الذي حركه خلع عبد الحميد في بلاد
الهند وفي غيرها من البلاد ، بل رأيت أن هذا التيار قد تدفق من الدردنيل ، فلابد
من السعي إلى قطعه من هناك ، فكان أحد باعثين بعثاني على ترك عملي بمصر
في مثل هذا الوقت ، وتيممي عاصمة الملك كما سبق القول ، ( وأما الباعث الآخر ،
فسأبينه في مقال آخر أنشره في بعض الصحف التركية إن شاء الله تعالى ) .
أحمد الله أن كانت هذه الحركة محصورة في دائرة الغيرة على اللغة العربية
والمزاحمة في الوظائف والمناصب ، وصفوف المدارس والمكاتب ، وأنها لم تتعد
إلى مقام الخلافة ، ولا إلى أساس الحكم والسلطة ، ولم يجر على لسان منتقد ، ولا
خطيب ، ولا من قلم كاتب ، ولا شاعر دعوة إلى الانفصال من الترك ، أو
الاستقلال في الحكم ، ولهذا كان التدارك سهلاً ، وحسن التفاهم ميسورًا .
ما رأيت خطأ بعيدًا عن السياسة المثلى خارجًا عن قواعد علم الاجتماع ؛ مثل
خطأ رجال السياسة في الآستانة ، الذين يلغطون في الجرائد بذكر ( استقلال العرب
والدولة العربية ، والخلافة العربية ) يتهمون العرب بطلب ذلك ، ويعدونه جهلاً
منهم ؛ لأنه محال لتوقفه على المحال ، وهو اتفاق زعماء جزيرة العرب وشرفائها
من جهة ، وعلى مساعدة أوروبا من جهة أخرى ، وما كان خطأ الحكومة في
الإصغاء إلى الواشي ، والتحقيق في مسألة الشام في هذا العام ، إلا كخطأ الجرائد
أو أشد .
ذلك بأن هذه الأقوال والأعمال هي التي تشغل الأفكار بما كانت خالية منه ،
ويخشى أن توجه النفوس إلى ما كانت غافلة عنه ، وتعدها لما لم تكن مستعدة له ،
ألم تر أن علماء التربية يحرمون ذكر الألفاظ التي تدل على الرذائل ، وتثير كوامن
الشهوات ؛ لئلا يدعو التفكر فيها إلى الإقدام عليها ، حتى إن بعض الأوربيين
حذفوا من معاجم اللغة ولا سيما التي يراجع فيها التلاميذ مثل ؛ لفظ الخيانة والسرقة
كما أجمعوا على حذف ألفاظ الرَّفث ، وعلى هذه القاعدة جرى عبد الحميد في منع
الجرائد من كثير من الألفاظ التي توجه النفوس إلى ما يراه مخالفًا لسياسته ، ولا
نجيز للحكومة الدستورية أن تحذو وحذوه ، ولكن يجب عليها أن لا تكون هي
المثيرة لتلك الأفكار الضارة ، كما يجب مثل ذلك على الجرائد من غير أن يمنعها
منه القانون ؛ فهذا هو مدرك قولي في النبذة الأولى من هذا المقال : إنني لم أذكر
مسألة اقتراح شيخ لحج على أمراء العرب في المنار ، ولا في غيره من الصحف
( لاعتقادي أنه لا ضرر فيها ، وإنما الضرر في نشرها ، وخوض العامة بذكرها ؛
لما سأبينه بعد ) وهذا بيانه :
إن عظمة الدولة العثمانية وعزتها وسائر ما يرجى لها في مستقبلها الدستوري
يتوقف على العنصر العربي ؛ ما لا يتوقف على عنصر آخر من العناصر التي
نطلب اتحادها كلها حتى التركي منها ، فإن البلاد العربية المحضة أوسع من البلاد
التركية المحضة مساحة ، وأغزر ثروة ، وأحسن موقعًا ، وأشرف بقعة ؛ من حيث
هي مهبط الوحي ، ومثابة الأمم الإسلامية والنصرانية تهوي إلى زيارتها من كل فج
عميق .
وأهلها أقدر على الزراعة والصناعة والتجارة ، فمن تجارهم في الصين
والهند وجاوة وأستراليا وأمريكا من يملكون الملايين . وأما ذكاؤهم واستعدادهم
للعلم فهو أشهر من أن يوصف ، وأما القوة الحربية فيمكن للدولة أن تجند منهم
مليونًا أو أكثر من أشجع خلق الله ، وأصبرهم على القتال . ناهيك بفرسان العرب
وخيولهم إذا تدربوا على الفنون العسكرية الحديثة ، وهل تكون الدولة بمأمن من
مطامع أوربا في العراق إذا أصلحت أرض الجزيرة ( بين النهرين ) إلا بتجنيد
أولئك الأسود ، الذين يهابهم الموت ولا يهابونه . ولا تحتاج الدولة إلى نفقة كبيرة
في تجهيزهم عند الحاجة .
إن قوام الدول وعظمتها في هذا العصر على مقدار ثروتها ، وإنما ثروتها
مستمدة من الأمة ، وإن أرجى عناصر الأمة العثمانية لثروتها هو العنصر العربي ،
وإن ما بين النهرين ( دجلة والفرات ) من بلاده هو أخصب البقاع تربة ، أوفرها
غلة ، حتى قال هيرودتس شيخ المؤرخين : إنها كانت تؤتي غلاتها مضاعفة من
مائة ضعف إلى مائتي ضعف ، ثم كانت بعده هي ينبوع ثروة الدولة العباسية ، ولا
يكون اشتغالها وحفظها للدولة في هذا العصر إلا بالعرب ، وإن شاركهم غيرهم في
إصلاحها وثمرتها .
مركز الدولة في أوربا محفوف بالمشاكل والقلاقل ، مضطرب بالمطامع
والفتن ، ومركزها في الأناضول عرضة للفتن أيضًا ، فليس في ولاياتها أهدأ من
الولايات العربية الحضرية ؛ كبيروت وفلسطين والشام وحلب , وأما ما كان
يجري في الولايات التي تغلب عليها البداوة كاليمن ؛ فسببه سوء الإدارة ، وفساد
السياسة التي كانت عليها الدولة إلى آخر يوم من أيام الاستبداد ولما تصلح الحكومة
الدستورية من ذلك الفساد شيئًا ، بل لم تتق أسباب سوء التفاهم الذي ننشر أسبابه
في ظل الحرية بسرعة البرق ، فعليها أن تتدبر ، وتعلم علم اليقين أنه لم يجر إلى
هذا اليوم شيء من السعي ، ولا من التدبير لانفصال العرب من الترك ، ولم يمل
إلى ذلك أحد من المشتغلين بالسياسة العامة من العرب ، وأنه لا يوجد سبب من
الأسباب يوجههم إلى هذا إلا هضم إخوانهم في العاصمة لحقوقهم وأهمها التعالي
عليهم بالجنسية التركية ، والتقصير في حفظ لغتهم العربية .
سوء التفاهم محصور الآن في هذين الأمرين : تعالي التركي على العربي
بجنسه ، وإيثار نفسه عليه بأعمال الدولة ومكاتبها ، والتقصير في نشر اللغة العربية
فأما الأول فإنني أعذر الترك فيه من جهة ، وأعذل المتعصبين منهم على غيرهم من
جهة أخرى : أعذرهم من حيث إن المتعلمين منهم قد جروا على اتخاذ أعمال
الحكومة معاشًا وموردًا للرزق ، وهم قلما يحسنون عملاً آخر ، كما جروا على
حسبان ذلك حقًا خالصًا لهم من دون سائر العثمانيين ، الذين إذا نالوا منه شيئًا
فإنما يكون من إيثار الترك لهم على أنفسهم ؛ درءًا لمفسدة أو جلبًا لمصلحة ، فإن
كان الدستور قد ساوى بينهم وبين سائر العناصر في كل شيء ، فلا ننسى أن
تطبيق الدستور على الأمة يجب أن تراعى فيه الحكمة ، ومنها أن يكون بالتدريج
ولا سيما فيما يتعلق بتغيير العرف والمعاملات المتبعة والعادات المألوفة ، ومن هذا
الباب نلوم الحكومة في بعض المعاملات المخالفة للعرف ، التي يمكن تطبيقها على
القانون إذا أسرعت فيها قبل إعداد الأمة لها .
فإذا نحن طالبنا الحكومة أن تجعل أعمال الحكومة مشتركة بين العناصر
العثمانية ، على نسبة عدد كل عنصر منها ، نكون قد طلبنا الطفرة في التغيير ،
وقطعنا على متعلمي الترك أوسع أبواب الرزق التي ألفوا الدخول فيها ،
وجعلناهم دون سائر الشعوب العثمانية ، بعد أن كانوا فوقها من هذه الجهة التي
هي أشرف الجهات في نظرهم ، فهل من الحكمة أن يكون أول حظهم من الدستور
خسران أعظم شيء عندهم ؟ كلا ، إنني أرى جميع عقلاء العرب يفهمون هذا
ويقدرونه قدره ، وإنما ينكره ويتألم منه من هم مثل الترك في قصر همهم على
خدمة الحكومة ، واتخاذ ذلك وسيلة للمعيشة ، وهذه هي الجهة التي أعذل الحكومة
على عدم مراعاتها ، وأطالبها بأن تعدل في هؤلاء المنتظمين في سلكها ،
والمرشحين أنفسهم لذلك . وأنْ لا تشعر أحدًا منهم بأن جنسه علة للتحامل عليه ؛
رفقًا بهم ، وإقناعًا لهم ولغيرهم بأنها تنفذ الدستور بالعدل والمساواة بقدر الاستطاعة ؛
وتفاديًا من سوء التفاهم في هذا الدور الخطر دور التحول والانقلاب .
وليعلم الفريقان أن الحكومة الدستورية ، لا تكون موردًا واسعًا للرزق ، ولا
ينبغي أن تطلب وظائفها لأجل المعيشة ؛ لأن المرتبات الكبيرة فيها قليلة جدًّا ، وما
عداها لا يكاد يصل إلى درجة الكفاف ، ولا سيما مع نفقات الأسفار في هذه المملكة
البعيدة الأرجاء إذا بطلت الرشوة ، كما هو المنتظر من الإصلاح في عهد الدستور ،
وإنما كانت الحكومة بابًا من أبواب الثروة ؛ أيام كان الحاكم مستبدًّا نهابًا مستبيحًا
لجميع ما تصل إليه يده من أموال الأمة ، لا يخاف في ذلك دركًا ولا يخشى .
وإنني لأشفق على إخواننا من الترك ، وأخشى أن يكونوا في عهد الدستور
وراء الروم والأرمن المزاحمين لهم في عقر دارهم وفي عاصمة الملك ، إذا لم
ينزعوا من أذهان نبتتهم فكرة الارتزاق من الحكومة ، وقد كان المتعلمون من
المصريين على رأي المتعلمين من الترك في أيام الاستبداد المحض والظلم ،
وفي أوائل العهد بالحرية والعدل ، ثم لما عمرت البلاد ، صرنا نرى بعض
عمال الحكومة الذين يأخذون في كل شهر عدة ألوف من القروش راتبًا معينًا ، لا
يتخلف قبضه عن اليوم الأول من الشهر ، يستقيلون راغبين عن خدمة الحكومة إلى
الأعمال الحرة التي هي أوفر كسبًا ، وأوسع بابًا لتحصيل الثروة ، ونرى الذي
يتقاضى من الحكومة في كل شهر ثمانية آلاف وعشرة آلاف قرش يعد فقيرًا ؛
إذا لم يكن له مورد آخر من الزراعة مثلاً .
وأما التقصير في نشر اللغة العربية ، فلا أرى للحكومة فيه عذرًا معقولاً ، فإن
قيل : إن اللغة التركية هي اللغة الرسمية ، فما عداها من اللغات تجب فيه المساواة ،
فإذا رجحت الحكومة اللغة العربية على غيرها ، قام سائر العناصر يطالبونها
بمساواة لغتهم لها ، ويعدونها مقصرة معهم غير عادلة فيهم ! فالجواب عنه ، يعلم
مما أشرنا إلى بعضه قبل من مزايا العربية وخصائصها التي يمكن للحكومة أن
تحتج بها على أي عنصر ، يطلب مساواة لغته بها في المكاتب الرسمية ونزيده
إيضاحًا بالتفصيل بخمسة أمور:
( 1 ) إن العربية هي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وهما أصل
الدين الإسلامي الذي هو الدين الرسمي للملكة ، الذي يجب على خليفة المسلمين أن
ينشره ويحميه .
( 2 ) إن السواد الأعظم من أهل المملكة مسلمون ، يحتاجون إلى العربية في
فهم دينهم ، وطاعة ربهم فيما حث عليه من تدبر القرآن ، وليس لهم جمعيات دينية
تنشئ لهم المدارس كالنصارى ، فالحكومة الوارثة لهم هي المطالبة بتعليمهم .
( 3 ) إن الشريعة الإسلامية هي الينبوع الذي تستمد منه الأحكام التي يحكم
بها في الأحوال الشخصية والمدنية ، وتطبق عليها القوانين ، ومعظم كتبها التي
عليها الاعتماد في ذلك ، والتي يرجع إليها عند المشكلات هي باللغة العربية ،
فالدولة محتاجة في ذلك إلى تعليم هذه اللغة .
( 4 ) إن العنصر العثماني العربي هو أكبر العناصر ، وأبعدها عن معرفة
اللغة الرسمية للدولة ، ولا يتيسر تعميم هذه اللغة فيهم إلا بعد اتساع مالية الدولة
بعشرات من السنين . فإذا لم تعلم الحكومة اللغة العربية لمن تعدهم في مكاتبها
للوظائف ، كان نتيجة ذلك أن أكثر عمال الدولة في أوسع ولاياتها ، لا يعرفون لغة
الأهالي فيتعذر عليهم إقامة العدل والنظام .
ولا يقال : إنهم يستعينون على ذلك بالمترجمين ؛ لأنها لا تجد الذين يحسنون
الترجمة في كل مكان ، وإن وجدتهم كانت في حاجة إلى نفقات كثيرة لهم ، لا تحتاج
إلى أكثر منها لتعليم العربية ولا مندوحة عن أحد هذين الأمرين إلا بإبقاء الحكومة ،
كما كانت في شر أيام الاستبداد جمعيات نهب وسلب لا يهمها إلا ملء الجيوب ،
وأما الروم والأرمن وغيرهما من العناصر فاللغة الرسمية منتشرة بينهم ، لا تحتاج
الحكومة إلى المترجمين إلا في القليل من بلادهم ، وما ذلك بالأمر الشاق ولا
المتوقف على النفقات الكثيرة .
( 5 ) إن اللغة العربية أصل من أصول اللغة التركية الرسمية ، يقرب أن
يكون ثلث مفرداتها أو نصفها مستمدًّا منها ، ولا سيما المفردات في علوم الطب
والتشريح والنبات والحيوان ، فتعليم العربية في مكاتب الدولة يقوي تعليم اللغة
الرسمية ويمدها ، فالتركية أحوج إلى العربية من اللغة الفرنسية إلى اللغة اللاتينية ،
وإننا نرى الإفرنج يعلمون اللغة اللاتينية التي لا يوجد عندهم شعب يتكلم بها ؛ لأنها
من أصول لغاتهم ، فإعراض الترك عن تعليم العربية على كونهم أحوج إليها من
هذه الجهة ، وعلى ما لهم فيها من الفوائد الدينية والمدنية ، لا يظهر تعليله إلا بتعمد
إضعاف العربية ، وهذا شيء لا يرضى به جمهورهم ، وإن نزع إليه بعض
المتفرنجين المتعصبين ، الذين ليس لهم رأي ولا دين .
***
( 6 )
زبدة المقال وخاتمته
( 1 ) إن الجواذب التي تجذب الترك إلى العرب والعرب إلى الترك وتمزج
أحدهما بالآخر ، فيكونان عنصرًا واحدًا قويًّا نافعًا ؛ كالماء والهواء في كونه علة
للحياة والبقاء هي قوية جدًّا ؛ لأنها جامعة بين الأخوة الدينية والمصالح المدنية
والسياسية التي لا قوام للدولة بدونها .
( 2 ) إن الحوادث السابقة واللاحقة أعدت المشتغلين بالسياسة والبحث في
الأمور العامة ، والمتزاحمين في المكاتب والمناصب ، إلى شيء من سوء الفهم
والارتياب والظنة ، قواها في نفوس بعض الترك شبهات أوهمتهم أن العرب
يريدون الانفصال من الدولة العثمانية والاستقلال بأنفسهم ، وقواها في نفوس بعض
العرب أقوال منكرة ، قالها وكتبها بعض المشهورين من الترك ، وأعمال مستنكرة
من الحكومة لا يصح أن تعد أصلاً راسخًا في الدولة ؛ لأنها حدثت في عهد الانقلاب
والفتن التي اضطرت الدولة إلى الأحكام العرفية ، مع تبدل الوزارات وعدم انتظام
الأحزاب في مجلس المبعوثين الذي يرجع إليه الأمر كله .
( 3 ) إنه يمكن أن تنهض حجة قيمة على التباغض بين الترك والعرب ، إذا
وقع الشقاق بين المبعوثين في مسألة تعليم اللغة العربية أو مسألة المساواة بين
العنصرين المحتمة في القانون الأساسي ، ولكن هذا الشقاق ما وقع ولن يقع إن شاء
الله تعالى .
وقد حضرت مذاكرة بين فاضلين من المبعوثين أحدهما عربي والآخر تركي ،
فقال هذا : إنني أحب العرب أكثر من الترك ؛ لأن الذي يحبب إلى الترك هو
النزعة الجنسية الدنيوية ، وأما الذي يحبب إلى العرب فهو ديني ، الذي عليه مدار
سعادتي الأبدية ، أو ما هذا مؤداه .
( 4 ) إن الذين قد بدت البغضاء من أفواههم للعرب في معاهد السياسة
والحكومة ومكاتب التعليم ، هم على قلتهم ليسوا من العنصر التركي باليقين ، وإنما
أكثرهم أوشاب وأوزاع من عناصر شتى ، قد تتركوا وأسلموا من زمن بعيد أو
قريب ؛ لأجل مناصب الدولة ، فهم لا حظ لهم من الحياة إلا فيها ، فلا عجب إذا
أبغضوا كل من يزاحمهم عليها .
( 5 ) يجب على العقلاء السعي في إزالة سوء التفاهم وسد منافذه ، مهما كان
سببه ؛ لئلا يتمكن في نفوس العامة فيتعذر نزعه ، وتسوء مغبته .
***
ما به يكون التأليف بين العنصرين
يجب أن يتعاون على هذا التأليف الذي تتوقف عليه حياة الدولة كل من عقلاء
الأمة وعقلاء الحكومة ، ويجب أن تكون العاصمة هي البادئة بذلك ، صحافتها
وحكومتها العليا .
فأما الصحافة فيجب عليها أن تترك الخوض في مسألة الجنسية النسبية
واللغوية إلى الجنسية السياسية المعبر عنها بالعثمانية ، فتجعل هذه هِجّيرها بكرة
وعشيا ، وتجعل تلك نسيا منسيا ، ولا تذكر لفظ الترك والعرب ، ولا اسم غيرهما
من العناصر الأُخَر بكلمة تشعر بالترجيح أو التفضيل ، أو عصبية العنصر والقبيل ،
ولعمري ، إن أولئك الرجال الذين تبدلوا كلمة العثمانية ( بكلمة تركية ) ، فصاروا
يقولون ويكتبون ( لغة عثمانية ولايات عثمانية ) لهم أعلى في السياسة رأيًا ،
وأصح في علم الاجتماع حكمًا ، من هؤلاء الذين يقرعون الأسماع كل يوم بكلمة
( تركلر تركلر ) [1]، متوهمين أنه يمكن تحويل العناصر العثمانية إلى التركية ،
أو أنهم يمكن أن يتحدوا بشعوب التتار الروسية ، وتركستان الصينية ، ومن
الذين يريدون إزالة الألفاظ العربية من هذه اللغة الرسمية ، قال كمال بك
زعيم النهضة الحديثة : إننا اخترنا أحاسن الكلم من أرقى اللغات الشرقية ،
وهي العربية والفارسية والتركية فألفنا منها لغتنا العثمانية ، فهذه اللغة هي لغة
العثمانيين المشتركة ، ليس للترك حق الاختصاص بها والأثرة ، كما أن العربية
هي اللغة الإسلامية المشتركة بين العرب وبين الترك والفرس وأهل الهند والصين
والملاو وغيرهم من المسلمين ، فنحن العثمانيين لا نسمح لأحد أن يعبث بلغتنا
العثمانية ، ومن شاء أن يتعلم لغة تركستان فليتعلمها ، وهي غير لغتنا الرسمية ،
والأمة كلها تطالب مبعوثيها بصيانتها وحفظها ؛ لسهولة نشرها ، وكون أكثر كتبنا
ودفاترنا بها .
ومما يجب التنبيه عليه في هذا المقام ؛ اتقاء عزو ذنب بعض الأفراد إلى
الشعب أو العنصر على الإطلاق ، فإذا رأينا بعض الترك أو العرب أو الأرمن مثلاً
يعيب عنصرًا آخر ، أو يدعو إلى استقلال قومه ، فعلى الجرائد أن تنسب الذنب
إليه لا إلى جميع قومه وعلى هذه الطريقة جرينا في مقالنا هذا ، فقد برأنا العنصر
التركي الإسلامي من بغض العرب والتحامل عليهم ، وحصرنا ذلك في فئة من
الترك المشتركين في الغالب لا الخلّص .
كذلك يجب على الجرائد أن تتخول قراءها بالمقالات الداعية إلى اتحاد
العناصر العثمانية ، مع بيان فوائدها للجميع . وإذا اهتدت جرائد الآستانة إلى هذا
الصراط المستقيم ، تبعتها الجرائد السورية والمصرية ، وكان تأثير ذلك عظيمًا ،
وأحكم على العكس بحكم الطرد ، وينبغى لأصحاب الجرائد التركية أن يعنوا
بالاطلاع على الجرائد العربية المنتشرة ، ويترجموا المهم من مقالاتها في سياسة
الدولة العلية وإدارتها ، ويعلقون عليها ما يرون فيه المصلحة للتأليف ، وكذلك المهم
من أخبارها ، فمن العار على جرائد العاصمة أن لا يذكر فيها شيء عن الولايات
العربية ، إلا ما يكون من صُبابة الشركات البرقية ، أو الأخبار الرسمية ، وكل من
هذا وذاك رموز لا تعرف حقائق الأحوال ، ولا تبنى على مثلها الأحكام ، ولو قامت
هذه الجرائد بوظيفتها حق القيام ، لجعلت لها مراسلين في تلك الولايات ، فوق تتبع
الجرائد العربية وترجمة أخبارها .
وأما ما يجب على الحكومة فأهونه وأقربه أن تنصف الواقفين على أبوابها من
العرب طلاب الوظائف - وقليل ما هم - فتساوي بينهم وبين إخوانهم الكثيرين من
الترك ، وترقي بعضهم من رتبة القائمقام إلى رتبة المتصرف ، ومن هذه إلى رتبة
الولاية ، وأنْ تزيد أعضاءهم في مجلس الأعيان . وأهمه وأعظمه ينحصر في أمور :
( أحدها ) قطع عروق العصبية الجنسية من مكاتب الحكومة واستئصال
جذورها ، فإنني أسمع كل يوم من أخبار هذه المكاتب ما يشعر بأن فيها كيماويين
معنويين ، يحللون عناصر الوحدة العثمانية ، ويفرقون بعضها من بعض ، حتى بلغ
ببعض المعلمين الجهل أو سوء القصد أن قال بعضهم في الدرس : إن العرب كانوا
يجهلون علم الفلك ، وإن الترك هم الذين علموهم ذلك ، وهم الذين بنوا لهم المراصد !
وقال بعضهم : إنهم كانوا يجهلون فن الإحصاء ، حتى علمهم الترك إياه في زمن
المأمون ! وقال بعضهم : إنهم كانوا يجهلون الفلسفة ، وجل ما كتب بالعربية في
الفلسفة فهو من الترك ، فصار بعض الطلاب من العرب يترحمون على فيلسوفهم
المعري ، ويتناشدون لاميته المشهورة بل سمعت عن معلمي بعض المكاتب ما هو
شر من ذلك وأضر ، وأدهى وأمر ، فيجب على نظارة المعارف أن تختار لمكاتبها
من المفتشين المنصفين المهذبين ، من يكشف لها الحقيقة في ذلك ، وأن تعنى أشد
العناية بتطهير معاهد العلم من هذه المفسدة ، التي لا أرى شيئًا أضر على الدولة
منها .
إنه يسهل تقرير كل حقيقة فيها فضيلة لفرد أو أفراد من عنصر من العناصر ،
مع تحامي إهانة غيره ، لا سيما إذا كانت تلك العناصر قد وحدت بينها جنسية
أخرى أوسع من جنسية النسب واللغة ، كما جمع الإسلام العرب والفرس والترك
وغيرهم فجعلهم أمة واحدة . فهل جهل أولئك المعلمون المفرقون المحللون أنهم
يجنون بتلك النزعات على دولتهم المؤلفة من عدة أجناس أكبرها وأعظمها عنصر
العرب والترك ، فإذا هما انحلا تنحل والعياذ بالله ، ويجنون أيضًا على ملتهم
الإسلامية ، أم هم يرمون إلى ذلك ؟ وكذلك يجب أن تتيقظ سائر النظارات لمثل
ذلك ، فقلما يخلو شيء منها من أفراد متعصبين إلا باب المشيخة الإسلامية .
( ثانيها ) العناية بتعليم اللغة العربية في مكاتبها وفي المدارس الدينية في
العاصمة وغيرها ، فإن هذا يرضي العرب عامة ، ويسر جميع المسلمين ، ولا
يضر الترك ولا يضعف جنسيتهم ، كما أنه لم يضر الفرس ولم يضعف جنسيتهم
وهم أكثر عناية من الترك بهذه اللغة من حيث إنها لغة الدين ، وليسوا بمحتاجين
إليها لأجل الإدارة والسياسة ؛ إذ ليس في مملكتهم ولايات عربية .
ألا إن من المحال في هذا العصر تحويل عنصر إلى عنصر أصغر منه أو
أكبر ، فالحريص على جنسيته النسبية أو اللغوية في هذه الأمة العثمانية ، يجب أن
يكون أمينًا مطمئنًّا عليها ، والطامع من الترك في تحويل أضعف عنصر من
العثمانيين إلى العنصر التركي وإدغامه فيها ، إنما هو طامع في المحال .
والمتوسل إلى مطمعه بتعظيم قومه وتحقير غيرهم ، والتعصب لهم على
سواهم ، إنما يطلب الشيء من ضده أو من نقيضه . ولولا أن كلاًّ من أمتنا ودولتنا
لا يقوى على مثل هذه التجارب الاجتماعية ، لما كنت شديد الخوف من هذه
النزعة الجنسية فيها ، فإن من يكون له ولد عزيز هو محل رجائه في إرث مجده
وماله ، لا يسمح باختياره أن تجرب في جسمه الأدوية التي تجهل عاقبتها ، بَلْهَ
الأدوية التي يترجح خطرها ، وسوف يعلم المجربون أنهم هم الخاسرون ، إذا ظلوا
في طريقهم يهرعون وأخشى أن لا يظهر خطأهم إلا حيث يعز تلافيه وتداركه .
( ثالثها ) العناية بنشر العلوم والمعارف وأسباب العمران في الولايات
العربية ، كغيرها من الولايات من غير أدنى فرق يمكن أن يفسر بالتعصب الجنسي
وأرى أن تكثر الدولة من المدارس الصناعية والزراعية ، وتكتفي من المدارس التي
يتخرج فيها عمال الحكومة بقدر الحاجة .
( رابعها ) الإخلاص التام في تنفيذ القانون الأساسي . والقيام بهذا يجمع كل
ما يراد من إعطاء كل عنصر حقه ، فإن لم تفعل الحكومة هذا ، فإنها تهيج عصبية
جميع العناصر عليها ، حتى العرب الذين هم أشد ارتباطًا بالترك وإخلاصًا لهم ممن
سواهم ، وذلك هو البلاء المبين .
قد استخف الدستور أهل البلاد العربية ، فقاموا يطرون الترك ، ويحثون
الناس على تعظيم شأنهم ، والاتحاد بهم ، وتهافتوا على جمعية الاتحاد والترقي في
كل مكان ، حتى إن أهل لبنان أخذوا يتحدثون بالسعي إلى إلغاء امتيازهم ، بل كتب
أدباؤهم كثيرًا من المقالات في وجوب اتحادهم بسائر العثمانيين ومشاركتهم في
مجلس المبعوثين ، على أن بعض الاتحاديين قد شوهوا بعض تلك الاحتفالات بعيد
الدستور ؛ إذ نفثوا فيها بشيء من سموم التعصب ، كذلك الضابط الذي خطب في
حلب خطبة حقر بها العرب تحقيرًا ، وشهر بهم تشهيرًا ، ولكن أكثر الناس لم
يفهمها حق الفهم ، ولو ألقاها في بيروت أو الشام لكان ما لا خير فيه .
ظهرت أريحية العرب بسورية ومصر وغيرتهم في مقاطعة النمسا في
تجارتها وفي الاحتفالات بالدستور ، وقد ألفنا بمصر لجنة لأجل جمع الإعانات
الكبيرة للأسطول العثماني ، وضعت لذلك قانونًا ليكون جمع المال عامًّا ، ولكن تلك
النبئات التعصبية التي سمعت من دار السلطنة أضعفت الهمم . فإذا طال العهد على
هذا التنافر ، فإن خسارته المالية والمعنوية تكون أول بوادر شؤمه ، ونعوذ بالله من
أواخره .
ويسرني أن أبشر العرب بأنني رأيت من كبراء العاصمة ارتياحًا إلى حسن
التفاهم ، وإزالة أسباب التنافر ، ولا سيما من الصدر الأعظم حسين حلمي باشا
والعلماء الأعلام ، فأنصح لهم أن يكونوا عونًا لإخوانهم على هذا الزمان كما
نصحت للآخرين { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ( هود : 88 ) .
__________
(*) تابع لما نشر في ( 818 ج 11 ) من هذا المجلد .
(**) (آل عمران : 103) .
(1) كتب بعضهم في هذه الأيام مقالة في جريدة صباح بهذا العنوان يحرك بها النعرة الجنسية .
(12/913)
 
المحرم - 1328هـ
فبراير - 1910م​
الكاتب : محمد البشير النيفر
_
آدم أبو البشر
جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في ( تونس ) ما
يأتي :
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر ،
أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى .
إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده
من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم ،
وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من
مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل
بأصوله ، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة ( سنة
1327 ) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة
إليكم في ذلك ، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق .
قلتم : إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ( النساء : 1 ) .
أحدهما : أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر .
ثانيهما : أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين
ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد
أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن .
أما الأول : فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى
به التعبير بالناس ، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل
الناس على أهل مكة ، فالظاهر الحمل على العموم ، وليست الآية الكريمة كآية
الأعراف { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ( الأعراف : 189 ) الآية لوجهين :
الأول : أن سورة النساء مدنيّة ، وسورة الأعراف مكيّة .
ثانيهما : أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما
بين الآيتين !
وأما الثاني : فلأن القرآن الشريف ، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر
أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من
تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام - رحمه الله - وجريتم حفظكم الله على
طريقته في ذلك .
نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس
وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه
السلام ، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل
من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم .
أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم
من آدم وآدم من تراب ) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم
وشماله ، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك
المقر ولكن لم يهتم بها آدم - عليه السلام - ولا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم
يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم ، وأصرح من ذلك وهذا حديث
الشفاعة ( يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم
فيقولون أنت أبو الناس ) الحديث ، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر
أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع ، فهي
ظاهرة فيه ، ( والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع ) - كما يقول الأصوليون - ولو
ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن
يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني ، فإن كان الوجه عنده درء ما
عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب
أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا
يكدر مشربهم وينقض مذهبهم ؟
أما قولكم حفظكم الله تعالى : ( إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر
من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة
التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات ) فللعبد فيهما نظر .
أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل
يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم
علمية هذا البحث ، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون
باسم أن المسألة تاريخية ؟
وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر
اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث
وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن
التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا .
... ... ... ... ... ... كُتِبَ في 27 رمضان عام 1327 هـ
( المنار )
نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به
من المسائل بما يأتي :
( 1 ) إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال : إن القرآن
ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون
آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا ، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير
الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها ( مسألة أبوة آدم ) وإنما قصارى
رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام ،
ونحتاج إلى التأويل ، فعلى هذا يكن فهمه -رحمه الله - للآية ليس من تفسير القرآن
بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً ، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه
أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه
للطعن في القرآن في هذه المسألة .
( 2 ) قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين
فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما ، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما
استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة
بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك ، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده
مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة
الحجر أو سورة ( المؤمنين ) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل
عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب
ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا
في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء ، وإنما كان يحث على الاستقلال ،
وبعد هذا كله أقول : إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي
هذا من الوجوه والمسائل .
( 3 ) ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين : فأما المثار الأول وهو كون السورة
مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل
فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة
خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين
ومعولهم وهو ابن عباس - رضي الله عنه - وعبر الرازي عن مقابله بالأصح
ومقابل الأصح هو الصحيح ، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب
عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية ، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه
لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو
الأشخاص ، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم
يقم دليل على الخصوصية ، مثال ذلك في العرب قوله تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ } ( التوبة : 128 ) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة
لجميع البشر ، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض
المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة
البقرة وسورة النساء ، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام
بالإجماع ، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على
ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة :
( 4 ) وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم
لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية
الأولى من سورة النساء هي آدم ، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث
ولا يكون هو المراد منها ، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي
كونه أبا البشر ، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله : إنه ليس في القرآن نص
أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه .
( 5 ) أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس
مقام النبوة ، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن
يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته ، حتى نقول : إننا أَوَّلْنا آية
الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء ، فالصواب
أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما ؛ لأن لفظ النفس
ليس مرادفًا لكلمة آدم ؛ يوضح ذلك الوجه الآتي :
( 6 ) إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا
ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ ، ولكننا نقبل
ذلك التفسير إذا صح عندنا ، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى
{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى } ( القصص : 20 ) هو فلان بن فلان ، فإننا
نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول : إن لفظ رجل في الآية هو نص
أو ظاهر في ذلك الرجل المعين ؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم
هذا المعنى من اللفظ ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية
النساء بآدم ألبتة ، فكيف نقول : إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا ، وهو لم
يرد تفسير لها ؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في ( ص486م12 ) إن الذين فسروا
النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها ، بل من المسألة
المسلمة عندهم ، وهي أن آدم أبو البشر .
( 7 ) استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله
تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال
عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم
نكتة .
ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم
بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون
أنهم من ذرية آدم كأهل الصين ؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا
طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم ، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى
{ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ( المائدة : 68 )
فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن ، وقد أشارت
عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقالت ( يحذر ما صنعوا ) وقد بينا آنفًا أن توجيه الخطاب في القرآن إلى قوم أو
أناس معينين لا ينافي عموم التكليف فإذا فرضنا أن بني آدم هم العرب ومن كان
يساكنهم من أهل الكتاب وأن الخطاب في مثل تلك الآية خاص بهم لوجود النبي
بينهم فلا يمنع ذلك أن يَعْتَبِرَ بالموعظة التي في الخطاب مَنْ يدخل في الإسلام من
غيرهم ومن ذلك خطاب الأنصار بقوله تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا } ( آل عمران : 103 ) وهي هداية لجميع المسلمين أيضا كما قبلها وبعدها .
( 8 ) بعد هذا يمكن أن يقال إذا كان في البشر ألوف الألوف لا يعتقدون أنهم
أبناء آدم ، ولم يسمعوا باسم آدم فما هي نكتة خطابهم ودعوتهم إلى الإسلام بنسبتهم
إلى آدم والمأثور المعقول أن يخاطب الناس بما يعرفون وأن يحمل حديث العاقل للقوم
على ما يعهدون في مثل النداء فإن أراد إعلامهم بشيء مخالف لما يعتقدون جاء به
بصيغة الخبر المؤكد كما هي سنة القرآن المطابقة لقوانين البلاغة العليا ويشيرون إلى
هذا في أول كتب المعاني وفي صحيح البخاري من حديث علي موقوفًا ( حدثوا الناس
بما يعرفون ، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ؟ ) وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن
مسعود ( ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) .
وورد في الضعاف المتعددة الطرق عن ابن عباس مرفوعًا ( أُمرنا أن نكلم
الناس على قدر عقولهم ) ، وهذا الوجه أي كون كثير من البشر لا يعرفون آدم ولا
يعتقدون أبوته لهم هو العمدة في جزم الأستاذ الإمام بعدم حمل آية أول النساء على
هذه المسألة المشهورة عند العبرانيين والعرب مع كون لفظها ليس نصًا ولا ظاهرًا
فيها من حيث لفظها ، وقد أجاز أن يطبق كل قوم اعتقادهم عليها .
( 9 ) إن ما أوردتموه من الأحاديث ليس نصًا أُوصوليًا في المسألة فإن
المخاطبين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( كلكم من آدم ) لم يكن فيهم أحد من
الصينيين ولا من هنود أميركا ولا من ( أهل ملقا ) ولكن الحديث يكون هداية لهؤلاء
بعد دخولهم في الإسلام على الطريقة التي أشرنا إليها في بعض المسائل السابقة ،
وكذلك حديث الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم وشماله لا
تدل على كونه أبا لجميع البشر ، ولا يعارض هذا كونه صلى الله عليه وسلم لم يذكر
أنه رأى هنالك أو في مكان آخر نَسَم قوم آخرين من البشر كما أن ذكره لبعض
الأنبياء في ذلك الحديث لا يمنع أن يكون هنالك أو في مكان آخر أنبياء آخرون
فالحديث لم يرد في بيان مقر جميع أرواح البشر والأنبياء ، ولا دليل فيه على كون
ما رآه يكون دائمًا حيث رأى ، فقد ورد في مقر الأرواح أحاديث أخرى والظاهر أن
ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة قد مثل له حيث رآه لأجل أن يراه
والله أعلم حيث يكون في سائر الأوقات ، وقد مُثِّلَتْ له صلى الله عليه وسلم الجنة
في عرض الحائط وهي هي التي عرضها كعرض السماء والأرض ، وكذلك يقال
في حديث الشفاعة ، فإنَّ تَحدُّثَ ولد آدم بالذهاب إليه هو كتحدث اتباع كل نبي ذكر
في الحديث بالذهاب إليه ، ولا ينافي ذلك أن يكون في البشر أقوام آخرون لا يتحدثون
بالذهاب إلى أحد أو يتحدثون بالذهاب إلى أنبيائهم لرجائهم فيهم { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } ( فاطر : 24 ) .
( 10 ) إذا فرضنا أن هذه الأحاديث تدل وحدها أو مع غيرها على كون آدم
عليه السلام أبًا لجميع من وجد في الأرض من البشر بالنص أو بالظاهر فلا يقتضي
أن يكون ذلك تفيسر للقرآن إذا لم يكن لفظه نصًا ولا ظاهرًا في ذلك ، والأستاذ
الإمام لم يتعرض لما ورد من الأحاديث في المسألة وإنما اكتفى ببيان كون ما يعتقده
كثير من البشر في أصلهم ومنشئهم لا حجة فيه على القرآن إن صح ولا وجه لأن
يكون حائلاً دون إيمانهم به ولم يتعرض لمثل هذا في الأحاديث .
( 11 ) نحن نعتقد أن أسلوب القرآن في الإجمال والإبهام والإطلاق والعموم
هو من أقوى وجوه الإعجاز فيه وأسباب تعاليه عن تطرق الريب إليه وتحويم
الشبهات حوله ، وليس هذا الأسلوب بالصناعة التي يقدر عليها البشر فإننا نرى أعلم
العلماء منهم في علم أو فن يؤلف فيه كتابًا فلا يمر عليه إلا زمن قليل حتى يظهر له
ولغيره الاختلاف والخطأ فيه وقد مر ثلاثة عشرة قرنًا ونيف ولم يظهر في هذا
القرآن الذي جاء به النبي الأمي الناشئ في الأميين خطأ ولا اختلاف { وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ( النساء : 82 ) والأحاديث ليس لها هذه
المزية في الإعجاز وكثير منها منقول بالمعنى ومنها ما كان يقوله النبي صلى الله
عليه وسلم عن اجتهاد لا عن وحي ولا سيما المتعلق منها بأمور العالم دون أمور
الدين ، أفيصعب على بعض المسلمين إظهار هذه المزية لكتاب الله في بعض
المسائل على غير الوجه المشهور عندهم وإن لم ينقض ذلك المشهور في نفسه ،
وكان ينبغي للمنتقد أن يذكر ما عنده من الجواب لمن يوقنون بأن البشر من عدة
أصول كما تمنينا في ( ص 488م12 ) .
( 12 ) يقول المنتقد : إن شبهات الذين لا يؤمنون بالغيب على الآيات
الواردة في عالم الغيب أقوى من شبهات الذين ينكرون كون آدم أبًا لجميع البشر أو
يعتقدون أن لهم عدة آباء فهل تؤول آيات عالم الغيب ما لا يكدر مشربهم ولا ينقض
مذهبهم ، ونقول إن هذه الدعوى ممنوعة فالذين لا يؤمنون بالغيب لا يوردون
شبهات على عالم الغيب وإنما هم قوم تابعون لحسهم يقولون إننا لا نؤمن إلا بما نراه
أو نحس به وهو يعلمون أن عدم الإحساس بالشيء أو عدم العلم به لا يقتضي عدمه
في نفسه ومن تقوم عنده الحجة منهم على الوحي والنبوة لا يرى أخبار عالم الغيب
مانعة من إيمانه وما كنت أظن أن هذا يخفى على المنتقد الفاضل ولعله سرى إليه من
بعض المارقين الذين كفروا بالله ورسله تقليدًا لبعض الإفرنج إذ يسمعهم أو يسمع عنهم
إنكار الملائكة والجن ، فليسألهم عن دليل هذا الإنكار هل يجد عندهم دليلاً أو
شبه ؛ لالا ! وإنما يقولون إنه لم يثبت عندنا بالحس ولا بالدليل العلمي ، ونحن
المؤمنين نقول مثل ذلك ونزيد أنه ثبت عندنا بخبر الصادق الذي هو أصدق ممن
تثقون بخبرهم إذا قالوا لكم إن في الكون كذا كذا من الغرائب الطبيعية .
( 13 ) أُذَكِّر المُنْتقد بمسألة لا ينبغي أن ينساها المستقل في العلم الذي يعنيه أن
يفهم القرآن فهمًا صحيحًا وقد صرحنا بها في المنار من قبل ، وهي أن الاصطلاحات
الشرعية والفنية الحادثة بعد نزول القرآن والروايات والتقاليد المشهورة في تفسيره
هذان الأمران هما اللذان يحولان كثيرًا دون فهم القرآن بما تعطيه عبارته الفصحى
ويتبادر من أسلوبه الأعلى ، فيجب أن يكون القرآن فوق الاصطلاحات والمسلمات
كلها ، وأن يستعان على فهمه بالروايات الصحيحة التي لا تخل بما يتبادر من عبارته
وأسلوبه البليغ وحكمة كونه هداية لجميع البشر في كل زمان ومكان ، وإننا نرى كثيرًا
من المفسرين يخطئون عند غفلتهم عن هذه القاعدة ويخالفون الروايات المأثورة عن
السلف عند تنبههم لها إذا رأوا الرواية مخالفة لمنا يقتضيه الأسلوب العربي بحسب
فهمهم ، ومن ذلك ما سنراه في تفسير الجزء الثاني عن ابن جرير شيخ المفسرين
الأولين .
( 14 ) أما انتقاده - نفعنا الله بغيرته على العلم والدين - قولنا إن المسألة علمية
لا دينية فإنني أجيب عنه بالإيجاز وإن لم أتذكر أنني قلت هذا في تفسير الآية ولا أجد
وقتًا للمراجعة ، فأقول : إن ما يذكر في القرآن من أمور الخلق وعجائبه وأسراره
لا يراد به شرح أحوال المخلوقات ، وبيان ما هي عليه في الواقع تفصيلاً لأن هذا
ليس من مقاصد الدين وإنما يذكر على أنه من الآيات على قدرة الله وعلمه وحكمته
في خلقه ورحمته بعباده ، ومن المنبهات للانتفاع بما في هذه المخلوقات والشكر عليها ،
ولذلك يستعمل فيها المجاز والظواهر المتعارفة بين الناس وتحديد المسائل العلمية لا
يكون بمثل هذا كقوله تعالى { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ( الكهف : 86 ) فلا
يراد به أن ذا القرنين وجد الشمس تنزل من السماء فتغرب في عين حمئة من عيون
الأرض ، ومع هذا كله لا يكون خبر القرآن إلا صادقًا ، ولكننا لا نعرف أن أحدًا من
علماء المسلمين عنى كعنايتنا وعناية شيخنا الأستاذ الإمام بالدعوة إلى الاهتداء
بالقرآن كله وصرف معظم عنايتهم إلى ما كثر الإرشاد إليه في آياته كالبحث في
خلق السماوات والأرض وما فيهما من البحار والأنهار والجبال والنبات والدواب
وغير ذلك ، وكالسير في الأرض والاعتبار بسنن الله في أحوال الأمم بعد معرفة
تأريخها ، فإننا نرى علماء المذاهب الدينية فينا قد أهملوا أكثر ما أرشد إليه
القرآن ، وجعلوا الدين كله أو جله محصورًا في الأحكام العملية التي لم يعن القرآن
بها وهي أقل ما ورد فيه ولا سيما الأحكام الدنيوية كالبيوع والشركات والمخاصمات
فلا يقال لمثلنا : إن كل ما في القرآن دين ، وإن الدين لا يأذن لأحد أن يقول قولا لا
يصادق عليه القرآن فنحن الذين ندعو دائمًا إلى جعل حكم القرآن فوق كل حكم وهديه
فوق كل هدي وخبره فوق كل خبر ، وإنما يقال ذلك لغيرنا من علماء المسلمين الذين
قالوا حتى في الأحكام التي هي عندهم جل الدين ما لم يصادق عليه القرآن كقولهم إن
مدة الحمل تكون في الواقع المعتبر شرعًا أكثر مما حدده القرآن من مدة الحمل
والفصال جميعًا وقد رأى صديقنا المنتقِد ما كتبناه في ذاك بالجزء الأخير من المجلد
الماضي ، فإذا جاز أن يعتمد أئمة الفقه منا على قول بعض النساء اللواتي هن
مظنة الخطأ والكذب فيما لا يصادق عليه القرآن وقد نطق بغيره بناء على أن ما
نطق به يحمل على الغالب المعروف عند جمهور الناس فلم لا يجوز عند أتباعهم أن
يعتمد على قول جمهور العلماء الباحثين المدققين في مسألة علمية لم يرد في القرآن
نص فيها وإنما ذكرت مبهمة في سياق مقصد من مقاصده كحث الناس على أن
يتقوا الله في ذوي أرحامهم والضعفاء منهم لأنهم من أصل واحد أو جنس واحد
وعبر عن ذلك بالنفس الواحدة ، ولكنه لم يبين حقيقة تلك النفس على أننا لم نحمل
الآية ولا غيرها من الآيات على ما قاله أولئك العلماء الباحثون في أصول البشر
وخلقهم ، ولكننا اخترنا أن ندع ما أبهمه القرآن على إبهامه ( ص486م12 ) وهو
تنكير تلك النفس وعدم تعيينها أو فهمها مما يتبادر من اللفظ العربي بصرف النظر
عما وراءه من الروايات والتقاليد المسلمات التي ليست بنص عن المعصوم
في تفسيرها ( ص488م 12 ) .
( 15 ) وأما انتقاده الأخير على قولنا في تفسير النفس المتبادر من اللفظ فقد
بناه على ذكر لفظ الإنسانية في عرض كلامنا وتفسيره إياه بالمعنى المشهور بين
العامة ناسيًا ما فسَّرْناه به وما عبَّرْنا به في أول العبارة عنه من قولنا هو الماهية أو
الحقيقة التي بها كان إنسانًا ، ونعني بذلك الروح الإنسانية التي اتحدت بالجسد فصار
مجموعهما حيوانًا ناطقًا لولاها لم تكن هذه المواد الترابية التي تكون منها جسد
الإنسان خلقًا آخر حيًّا ناميًا متحركًا ، فهل يقول : إن هذه الحقيقة الإنسانية أمر
اعتباري ؟ كلا إنها خلق وجودي مستقل .
( 16 ) بعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه وزدنا فيه فوائد أثبتناها
في نسخة التفسير التي تطبع على حِدِّتِها منها أن لبعض الباحثين من المسلمين
العصريين رأيين آخرين في النفس الواحدة ، أحدهما أنها الأنثى ولذلك وردت مؤنثة
في كل آية وصرح بتذكير زوجها الذي خلق منها في بعض الآيات وثانيهما أنها
كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة وذكروا لذلك نظائر أثبتها العلم الحديث ,
فيراجع هذا في ( ص331 ج4 ) من التفسير وسيصدر بعد زمن قليل .
هذا ما سمح لنا به الوقت من إيضاح المسائل المتعلقة بهذا الانتقاد .
وصفوة القول : إن ما أوردناه في التفسير لا ينفي القول بأبوة آدم لجميع
البشر وقد وعدنا هنالك بتحرير هذه المسألة في موضع آخر من التفسير .
__________
(13/22)
 
صفر - 1328هـ
مارس - 1910م​
( الجامعة )
عاد فرح أفندي أنطون من أمريكا إلى هذه الديار وأصدر مجلته منذ ثلاثة
أشهر ، وقد جاءنا الجزء الأول والثاني من سنتها السابعة فألفيناهما حافلين بالمقالات
النافعة ، والبحث المقيد ، مطبوعين طبعًا نظيفًا على ورق جيد ، وعدد صفحات كل
جزء منها 65 وقيمة اشتراكها 60 قرشًا صحيحًا في مصر ، فنرحب بالجامعة في
حياتها الجديدة .


 
جمادى الأولى - 1328هـ
يونيه - 1910م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الإكراه على الإسلام بالسيف

س 27 من س . ع التلميذ في مدرسة الحقوق بالآستانة .
إلى فليسوف الإسلام وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الأغر مَتَّعَنِي الله بطول بقائه آمين .
رأينا في الجريدة التي يصدرها مجد عبيد الله مبعوث آيدين في الآستانة مسألة
عجبنا من صدورها من مسلم وازداد عجبنا ضعفين ؛ إذ سمعنا أن كاتبها صاحب تلك
الجريدة يعد من علماء الترك ، ثم ازداد عجبنا أضعافًا مضاعفة ؛ إذ بلغنا أن تلك
الجريدة تصدر بمساعدة الحكومة ونفقتها وهي هي الحكومة الدستورية المؤلفة من
هيئتين : إحداهما تسمى التشريعية ، وأخرى تسمى التنفيذية وكل منهما مؤلفة من
المسلمين وغير المسلمين .
تلك المسألة هي التي جعلها أعداء الإسلام أشد مطعن وهي ادعاء أن الإسلام
قام بالإكراه والإجبار لا بالدعوة والحجة ، وأنه يجب على المسلمين الآن أن يكرهوا
الناس على الإسلام بقوة السيف فقد قال في العدد الحادي عشر من تلك الجريدة
المسماة باسم ( العرب ) ما نصه :
( إن أكبر مرشد في الإسلام هو النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل كتاب
الله في يد والسيف في اليد الأخرى ، فكان إذا رأى من لا يقبل الحق الذي يدعوه إليه
في الكتاب أرغمه بالسيف ، فأنتم يا معشر المرشدين المكلفين بوظيفة الإرشاد
{ َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ( الأحزاب : 21 ) .
( ثم إن الخلفاء الراشدين والأمراء المرشدين الذين جاؤوا بعد النبي عليه
الصلاة والسلام قد اقتفوا كلهم هذا الأثر الجليل ) اهـ بحروفه إلا كلمة أسوة في
الآية الكريمة فكان مكانها في تلك الجريدة كلمة ( قدوة ) وهي بمعناها ، ولكن لا
يجوز نقل القرآن بالمعنى وما أظن أن صاحب الجريدة تعمد ذلك وإن كان يوجب
ترجمة القرآن ، لأنه لا يخفى عليه أن تعمد تغيير ألفاظ القرآن بمعناها في العربية
كفر وردة مقررة عن الإسلام .
فما قول المنار في هذه الدعوى ؟ أحق ما يقول محمد عبيد الله أفندي وبعض
الطاعنين في الإسلام من الإفرنج في هذه المسألة أم هو باطل ؟ إن قلتم بالأول فهل
تقولون أيضًا بما فرعه عليه محمد عبيد الله أفندي من وجوب قيام خليفة المسلمين
وجميع أمرائهم ومرشديهم بإكراه غير المسلمين بقوة السيف ( وما معناه من المدافع
والبنادق ) على قبول القرآن واتباعه أم لا ؟ إن قلتم : نعم فلماذا يترك الخليفة وغيره
من الأمراء والمرشدين حكم دينهم والتأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم ؟ وهل يجب
على مجلس المبعوثين في الدولة العلية أن يلزم الخليفة بذلك أم لا ؟ وإذا كان يجب
ذلك على المجلس وتركه فهل يكون أعضاء المجلس من المسلمين فاسقين بترك هذه
الفريضة أم ماذا يكون حكمهم ؟ وإن قلتم : لا يجب ذلك فكيف تقولون بالأصل دون
التفريع عليه ؟ أفتونا وعلمونا مما علمكم الله .
ج - الحمد لملهم الصواب ونقول وبالله التوفيق :
( إن تلك الدعوى التي ادعاها صاحب تلك الجريدة باطلة بأصولها وفروعها
ولا يقول بها من يعرف حقيقة الإسلام إلا إذا تعمد الكذب والبهتان بقصد إيقاع الفتن
بين المسلمين وغير المسلمين وإلجاء دول أوربا إلى الاتفاق على الإيقاع بالدولة
العلية ، ولا يعقل أن يأتي هذا من رجل عاقل له صفة رسمية في هذه الدولة ، فنحن
لا نبحث في قصد كاتب تلك الجمل التي نقلها السائل ولا في التأثير السيئ الذي
يخشى أن يثيره صدورها من مثله ، ولا في صحة ما شاع من إعانة الحكومة على
نشر جريدته ، وإنما نخص كلامنا فيما هو اللائق بباب الفتوى من بيان الحقيقة
فنقول :
بينا الحق في هذه المسألة في مواضع متعددة من المنار والتفسير خاصة
ولا سيما تفسير آيات القتال في سورة البقرة وكذا تفسير{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) منها فراجع تفسير{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا } ( البقرة : 190 ) الآيات من ص 203 إلى 212من جزء التفسير الثاني ،
وتفسير { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) من ص 35- 40 من جزء التفسير
الثالث ، ولا يذهبن ظنك إلى أن حكمنا على من يذهب إلى هذا الرأي بالجهل أو سوء
القصد حكم بدا لنا الآن نريد أن نلصقه بهذا الرصيف الجديد ، كلا إن هذا هو
رأينا منذ سنين طويلة فراجع إن شئت ص 205ج2 تفسير تجد فيها أن المسلمين لم
يكونوا في قتالهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدافعين وإننا قلنا بعد هذا
البيان ما نصه : ( وهل يصح أن يقال فيهم : إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة ، دون
الإرشاد والدعوة ، كلا لا يقول ذلك الأغر جاهل ، أو عدو متجاهل ، ولا تنس ما
نقلناه بعد ذلك عن الأستاذ الإمام في ص 210 ، 211 من هذا الجزء وكذا في ص
39 من الجزء الثالث من التفسير ومنه قوله في آخره : ( ولا التفات لما يهذي به
العوام ، ومعلموهم الطغام ؛ إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد
مطلوب لذاته فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم ) ، وإذا راجعت الجزء الرابع
من التفسير تجد فيه بيانًا لهذه المسألة أيضًا ، والأصل في هذه المسألة قوله تعالى :
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ } ( البقرة : 256 ) وهي مدنية وقوله
تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ( يونس : 99 ) ومثل قوله تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } ( الغاشية : 21-22 ) وقوله عز وجل : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ( ق : 45 ) وكذلك تقييد آيات القتال بجعله
دفاعًا والنهي عن الاعتداء فيه كآية ( 190 من سورة البقرة ) التي ذكرنا معظمها
آ نفًا والراجح في علم الأصول أن المطلق يحمل عليه المقيد وعليه الشافعية .
والسنة العملية تؤيد هذه النصوص الواضحة فإن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يأذن أحدًا من المسالمين له بحرب أبدًا ، وإنما كانت غزواته كلها دفاعًا فكان
المشركون قبل فتح مكة حربًا له وللمؤمنين ؛ آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم ،
وكانوا يجهزون الجيوش فيسوقونها إليهم في دار الهجرة ؛ ليستأصلوهم كما فعلوا في
بدر و أُحُد و الخندق فهم معهم في حرب دائمة يصيب منهم ويصيبون منه ، فلما
رضوا منه بالصلح عشر سنين فرح بذلك ورضي منهم بأشد الشرائط وأثقلها على
المؤمنين وهو في قوة ومنعة منهم قادر على الحرب وسبق له الظفر فيها ، ثم كان
المشركون هم الذين نقضوا الميثاق .
وقد بلغ من تقرير الإسلام للسلام أن شدد في المحافظة على عهوده إلى درجة
ليس وراءها غاية وهي أن المشركين الذين عاهدوا المسلمين المهاجرين إذا وقع
قتال بينهم وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وطلب هؤلاء المسلمين من إخوانهم
المهاجرين أن يعينوهم على المشركين المعاهدين لهم فإنه يحرم نقض عهدهم
بمساعدة المسلمين عليهم قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم
مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } ( الأنفال : 72 ) .
كنت أظن أن محمد عبيد أفندي من أوسع علماء الترك اطلاعًا على السيرة
النبوية الشريفة ؛ لأنه من أعلمهم باللغة العربية نفسها لإقامته الطويلة في البلاد العربية
فكيف راجت عليه هذه الدسيسة الأوربية والأوهام العامية ؟ ليأتنا بحديث واحد في
إثبات دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ القرآن في يد والسيف في
أخرى ويعرض القرآن على من يلقاه فإن آمن وإلا أنحى بالسيف على هامته ففلقها .
ما رأينا حديثًا في ذلك صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًًا بل لم نر ذلك في
الموضوعات التي كذبوها عليه صلوات الله وسلامه عليه !
هل يمكن أن يقول مثل عبيدالله أفندي إنه استنبط ذلك من حرب الصحابة ؛ إذ
كانوا يعرضون على من يتصدى لحربهم الإسلام فإن لم يجيبوا فالجزية فإن لم
يقبلوا كان السيف حكمًا بينهم وبينهم ؟ ! ما أراه يجرؤ على القول بأن هذا يؤيد قوله
ذاك وإن سلمنا له أنه من السنة المتبعة . إن اتباعهم لهذه الطريقة إنما كان بعد تقرير
الحرب والتصدي لها وإنما كان سبب الحرب بين الخلفاء الراشدين وبين الروم
والفرس اعتداء الروم والفرس لا اعتداء الصحابة العاملين بقوله تعالى : { وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) والذين صاروا بمقتضى هذه
الآية وأمثالها يكرهون القتال وإن فرض عليهم لضرورة المدافعة عن أنفسهم ودينهم
وتأمين دعوته كما شهد الله لهم بذلك في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } ( البقرة : 216 ) .
ذلك بأن الروم والفرس كانتا أمتي حرب وقد ضريتا بما جاورهما من جزيرة
العرب فأظلت سلطة كل منهما بعض العرب المجاورين لهما ، لذلك وللعصبية الدينية
ساءهما دخول أكثر العرب في الإسلام وتجدد دولة لهم تابعة لدين مبين فكان كل
منهما يهدد دعوة الإسلام في جواره ويعتدي على المسلمين فلم يكن للمسلمين بد من
محاربتهم ، ولما كان المسلمون يجوزون قبل الشروع في كل قتال أن يمتنع بأحد
السببين : إسلام المحاربين لهم أو الخضوع لهم بدفع شيء من المال لا يثقل دفعه إلا
على من وثق بقوته على الحرب ؛ لمنع دعوة الإسلام الجديدة من الانتشار في
الأرض ، فكانوا يعرضون أحد هذين الأمرين والحرب مقررة قبل ذلك بما سبق من
الاعتداء ، ولم يكن عرضها هو السنة المتبعة في الهداية والإرشاد ، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم دعا كسرى وقيصر وغيرهما إلى الإسلام ولم يهددهما بالسيف وإنما
دعاهما بالحكمة والموعظة الحسنة اتباعًا لما أمره الله تعالى به في قوله : { ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ( النحل : 125 ) .
لو ذكر محمد عبيدالله أفندي عبارته تلك في سياق الكلام عن الجهاد وأحكامه .
لتيسر لنا أن نتمحل لها تأويلا ولكنه ذكرها في سياق الإرشاد وذكر العلماء المرشدين
في صحيفة قال : إنه أنشأها لإرشاد العرب وحثهم على إرشاد العالم فما هي المناسبة
لذكر السيف والإرغام على قبول الحق وإنما موضع الحق القلوب وهي لا يصل
إليها السيف ، بل السيف وذكر السيف مما يزيدها نفورًا ، ويجعل بينها وبين الحق
حجرًا محجورا .
ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل فإن له شذوذًا في مسائل
أخرى دينية وتأريخية كادعائه أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما تمت ولا تتم إلا
بترجمة القرآن إلى جميع اللغات ، وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم
الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية وعن القرآن العربي المنزل من عند الله
تعالى آية للعالمين معجزًا للبشر على مر السنين ، بترجمته إلى التركية والفارسية
وغيرهما من اللغات .
وإن كان المترجم يترجم بحسب فهمه فيختلف مع غيره فيكون لكل أهل لغة
قرآن ، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المُنزل من عند
الله ولا يصح التعبد بتلاوتها ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن ، وقد سبق
لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين ، وكإنكاره أن للبشر أرواحًا مستقلة
هي غير الجسم المحسوس وأعراضه .
وقد ناظرته في ذلك بدار الشريف علي حيدر بك ناظر الأوقاف ، وكادعائه أن
جميع العرب مسلمون وإنكاره أن يكون في النصارى عربي واستدلاله على ذلك
بعبادتهم لرجل يهودي أو قال : إسرائيلي . ( يعني : السيد المسيح روح الله ورسوله
عليه الصلاة والسلام ) فلا عجب أن يشذ في مسألة السؤال ، ولكن العجب من جرأته
على نشرها في صحيفة تنشر في عاصمة المملكة حيث المحكمة العرفية العسكرية
المراقبة لكل ما يحدث التنافر بين العناصر العثمانية المختلفة في اللغات والأديان .
وللسياسة أسرار ولا بحث لنا فيها الآن .
مما يقوي فراستنا في سريان هذه المسألة إلى قائلها من بعض الكتب الأوربية
الطاعنة في الإسلام أنها تكاد تكون ترجمة لعبارة قالها بعض أولئك الطاعنين في
مؤلف له وأشار الأستاذ الإمام إلى الرد عليها في رسالة التوحيد فإنه بعد أن قرر قيام
الإسلام بالدعوة والحجة ، وانتشاره السريع ، بموافقته للفطرة ، قال رحمه الله تعالى
في الرد على قائل تلك العبارة وأمثاله ما نصه :
( قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه : إن الإسلام لم يطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى
اليدين والسيف بالأخرى يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف
بينه وبين حياته . سبحانك هذا بهتان عظيم ، ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من
دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الريبة في
جملته ، وإن وقع اختلاف في تفصيله ، وإنما أشهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن
أنفسهم ، وكفًّا للعدوان عنهم ، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ولم يكن من
المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم فكان الجوار طريق العلم بالإسلام
وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه .
( لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة مع كثرة الجيوش ووفرة
العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها وابتدأ ذلك العمل قبل ظهور الإسلام
بثلاثة قرون كاملة واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة أجيال أو يزيد فتلك
عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر مبلغ الإسلام في أقل
من قرن ، هذا ولم يكن السيف وحده بل كان الحسام لا يتقدم خطوة إلا والدعاة من
خلفه يقولون ما يشاؤون تحت حمايته مع غيرة تفيض من الأفئدة وفصاحة تتدفق عن
الألسنة ، وأموال تخلب ألباب المستضعفين ، إن في ذلك لآيات للمستيقنين .
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين : سلسبيل حياة نبع من القفار العربية ، أبعد
بلاد الله عن المدنية ، فاض حتى شملها فجمع شملها فأحياها حياة شعبية ملية ، علا
مَده حتى استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها ، وتعلو أهل الأرض
بمدنيتها ، زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح فانشقت عن
مكنون سر الحياة فيها ، قالوا : كان لا يخلو من غلب ( بالتحريك ) قلنا : تلك سنة الله
في الخلق لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي قائمة في هذا العالم
إلى أن يقضي الله قضاءه فيه ، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيى ميتها ،
وينقع غلتها ، وينمي الخصب فيها ، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة
فعلاها ، أو بيت رفيع العماد فهوى به ؟ )
(13/321)
 
رمضان - 1328هـ
أكتوبر - 1910م​
الكاتب : محمد عاكف أفندي
_
الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده
[*]

كنت كتبتُ رسالةً بيّنت فيها فساد زعم الذين يتَّهمون الشيخ جمال الدين
الأفغاني بالمروق ، وأوضحت بطلان هذا البهتان بأجلى بيان ، وطبعت تلك الرسالة
ونشرتها فتداولتها الأيدي ، واشتهرت بين الناس ، وبعد ذلك سمعنا ببهتان جديد ؛
وهو أن الأستاذ لم يكن مارقًا ولكنه كان وهّابيًّا .
عجبًا هل يعرف هؤلاء الذين يَهْرفون بما لا يعرفون معنى رَمْيهم الناس
بالمروق تارة وبالوهّابية تارة أخرى ؟ أم هل درى أولئك الخرّاصون الأفّاكون
ناشرو الإفك والبهتان أنهم بعملهم هذا يدخلون تحت طائلة قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ( النور : 19 ) إلخ ؟
وأما الوهّابية فهي بالحقيقة اسم للذين اعتنقوا هذا المذهب وهم معظم سكان
بلاد العرب ، ومذهبهم ليس بينه وبين مذهب الحنبلية فرق كبير .
عجبًا أَصَار من الدين عندنا أن نثق بكل كلام يراد به إيذاء أي شخص
والطعن عليه ؟ وكيف يجوز أن نعمد إلى رجل صحيح العقيدة صالح الأعمال ،
ونقول : إنه رجل صالح لكنه مارِق من الدين ، ثم يتلقّى الناس هذا القول وينتشر
من دون تروّ ولا نظر في أعمال وأحوال مَنْ نسب ذلك إليه ، فلا يمضي قليل زمن
حتى يشيع بين الناس بأن فلانًا مارق وأن فلانًا زنديق .
ثم كيف يجوز لنا الحكم بمجرد نقل قوم لا يعرفون من أحوال من يحكمون
عليه بهذه الافتراءات ، ولا من كلامه شيئًا يصحح حكمهم ؟
إننا نعلم أن أكبر جُرْم في الإسلام هو أن يحكم الإنسان على عقيدة إنسان آخر
ويتحكّم فيها ، وينسبه إلى الزندقة تارةً وإلى الوهّابيّة تارةً أخرى ؛ بمجرد
اختلاف في المشرب أو لأقل سبب ، مع أن الواجب الإسلامي يأمرنا باحترام عقيدة
مطلق إنسان ، ما دام يوجد دليل واحد على إسلاميته ضد تسعة وتسعين دليلاً على
الكفر ، وأنه لا يجوز الحكم بالكفر مع وجود ذلك الدليل .
إن اتهام كبار المصْلِحين بالوهَّابية في بلاد العرب ، وبالفرماسونية في بلاد
الترك ، وبالبابية في بلاد العجم ، وبالدهرية والمروق في بلاد الروسيا ، صار أمرًا
معروفًا ومشهورًا جدًّا . وإن تَعْجَبْ فعَجَب نعت خيرة رجال الإسلام بتلك النعوت
مثل جمال الدين الأفغاني ، مع أنهم هم وحدهم المعروفون بالمدافعة عن الدين
الإسلامي ، وهم أنفسهم المجتهدون في ترقية بنيه بتربيتهم تربية صحيحة ، وهم
الذين أفْنَوْا عمرهم الثمين بإنشاء المدارس ؛ ليجعلوا لأبناء أُمتهم حظًّا من العلوم التي
تنهض بهم من حضيض الذلّ إلى أَوْج العزّ ، وتؤهلهم للجهاد في معترك هذه الحياة
ليخرجوا من أسر المغلوبية .
إذا اعترض علينا معترض من أهل الملل الأخرى قائلاً : إنكم تتهمون أفضل
رجالكم وأَعْلمهم وأَعْقلهم وأَعْلاهم قدْرًا وأشدهم غيرة على ملتكم بالمروق والدهرية
والفرماسونية والوهابية ، مع أنهم لا يريدون لكم إلا الخير والرقي والسعادة فلماذا ؟
ألأن دينكم لا يجتمع مع العقل والعلم والفضل والأدب والحمية وحسن الخلق ؟ فماذا
يكون جوابنا ترى ؟ .
إذا بحثنا في تاريخ الرجال الغيورين في القطر المصري الذين يدأبون على
منفعة الإسلام ، ويخدمون المسلمين خدمة صادقة ، نجد أنهم تلامذة جمال الدين
الأفغاني ، وأنهم إنما نبغوا بفضل تربيته القويمة .
ولو كان الرجل مارقًا من الدين كما يقولون ؛ لَمَا قدر أن يُوجِد رجالاً ممتلئين
غيرة على الدين وأهله ، يخدمونه أجلّ الخِدَم ( لأن فاقد الشيء لا يعطيه ) ولا هَمَّ
لهم سوى ترقي الإنسانية بكل همة ونشاط .
إن جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى ، ضاقت عليه الأرض بما رحُبت ،
سواء كان في الأفغان أو العجم أو تركيا أو أوربا ، ولم يُسْمح له أن يقيم في إحدى
هذه البلاد ناعم البال منشرح الصدر ، ولو كان من محبي المال والجاه والمناصب
العالية لترك ما اضطهد لأجله ، وهو خدمة الإسلام الجلية وإلقاء الدروس النافعة
للعالم الإسلامي ، ولمّا حاول إيقاظ المسلمين من نومهم العميق المؤدي إلى النوم
الأبدي ؛ إن لم يُسْعف بالمنبِّهات من مثل إرشاد جمال الدين .
نعم .. لو أن جمال الدين ترك خدمة الإسلام ، واشتغل ببث أفكاره في العالم ،
ولم يعمد إلى إيقاظهم ، لانهالت عليه سُحُب الدنانير ، ولكان موضع الاحترام ،
وصاحب المقام الذى لا يرام في جميع البلاد .
ولكن تلك الروح العالية والإرادة القوية والنفس السامية ، لم تنزل به في هذا
الحضيض حضيض المجد الزائل ، فما زال مشمِّرًا عن ساعد الجِدّ ، مجتهدًا بترويج
مقاصده الخيرية ، يصارع الأيام ويكافح النوائب غير هيّاب ، ولا وجل وثَبَتَ في
موقف يتعذر على غيره الوقوف فيه ، حتى صح أن يقال عنه : إنه كان شهيدًا في
حياته ، وصدقت عليه عبارة كمال بك التركي ( أحسن شيء وأفضله في هذه
الدنيا أن يكون الإنسان شهيدًا في حياته ) .
هذا وإن الذين يفترون على جمال الدين الأفغاني بالمروق والوهابية ، تراهم لا
يألون جهدًا برمي الشيخ محمد عبده بأكثر مما رَمَوْه به ( كان الكفر والمروق على
نسبة النفع للأمة ) ، نعم .. إن لهؤلاء الأّفاكين مصنع كفر ، لا يفتأ يصوغ من حُلي
الكفر أجودها لهؤلاء الرجال العظام ، فأنا أرجو منهم بعد النظر في مؤلفات الشيخ
محمد عبده أن يثبتوا لي علامات الوهابية التي ينكرونها عليه ، ولو بأي صفة كانت
ويظهروها للملأ .
إن بعض الناس يقول : ( إنه لا موازنة بين زهد الشيخ محمد عبده وبين
علمه ) [1] ، وربما كان كذلك ، وهل إذا مضى الشيخ محمد عبده عمره معتكفًا
بالمساجد ، مواظبًا على صلاة النافلة ، أكان يفيد الإسلام أكثر مما أفاده ؟ إننا لا نظن
ذلك ، بل إن رَدّه على عالم إفرنجي مثل هانوتو ومُدافَعته عن حقوق الملايين من
المسلمين ؛ هي في نظرنا أحسن عملاً ، وأكثر ثوابًا من الاعتكاف وصلاة النافلة .
انظروا إلى قول عمر رضي الله عنه لأبي قلابة التابعي ( إن اكتسابك الرزق
لعيالك أحسن عندنا من إقامتك في المسجد ) وهل يعجز أبو قلابة عن تربية عياله
وأولاده في زمن يعيش فيه الناس بقليل من النفقة عيشة الرفاهية من غير تجشم
مشاق الكسب ؟ ومع ذلك فقد أمره عمر رضي الله عنه بالكسب ونهاه عن الإقامة
في المسجد .
أما محمد عبده فإنه لم يكن مثل أبي قلابة ، ولا هو في زمن مثل زمنه ، بل
هو في زمن يُحتاج فيه أن يشمر عن ساعد الجدّ ؛ لأجل تربية عائلة تبلغ الملايين
من الأشخاص .
ها نحن اليوم معشر المسلمين ليس لنا مثل جمال الدين ومحمد عبده ، وقد
مَضَيا إلى خالقهما ، وتركانا كالماشية بلا راع ، بل إننا أصبحنا واقفين موقف
الحَيْرى ، لا ندري ماذا نعمل ، ولا نهتدي طريق النجاة .
فالواجب عليها أن نذكر مثل هذين الأستاذين بالخير ؛ لأنهما خدما الدين ،
وكانا من حُماته ، وأن نسأل لهما من الله الرحمة والغفران ؛ لكي ينالا جزاء عملهما
الصالح .
نعم .. ويجب أن نعترف بفضلهما وإرشادهما ؛ لئلا تجهلنا الأجيال المقبلة
وتعيينا ، حيث إننا لا نعرف لأهل الفضل فضلهم ولأجل أن يعلم القوم الآخرون أننا
أناس نعرف فضل المصلحين وأننا لسنا ممن يَكْفرون بالنعم ، ويحسن أن أورد هنا
حكاية صغيرة ، وأجعلها ختامًا لهذا الموضوع ، وهو أنه قابلني قبل خمس سنوات
رجل إفرنجي ، وقال لي : ( إنكم قوم محرومون من معرفة الصناعة ، وأنتم
معذورون في هذا ، أما في عدم تفكّركم في معرفة قدر الرجال فلستم بمعذورين ، بل
إن هذا ذنب لكم لا يغتفر وهو من أشنع الذنوب { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
__________
(*) كتب محمد عاكف أفندي الكاتب المعروف هذه المقالة ونشرها بجريدة شُوَرى التي تصدر في
أوربنبورغ في الروسية تحت هذه العنوان فنقلناها عنها .
(1) عبارة الأصل مشوشة .
(13/709)
 
رمضان - 1328هـ
أكتوبر - 1910م​
الكاتب : علي أفندي فهمي محمد

الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية
[*]
( 1 )

] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [ [**]
إن الدين أعظم مهذب للنفوس ، وآثاره تظهر في الناس بقدر استعدادهم للخير
أو الشر ، وبهذا كان التدين الذي لولاه لَمَا ثبت دين ؛ إذ لو توحدت الفكرة الدينية
لزالت الصعوبات ؛ لأن كل فريق مضطر أن يناضل الآخرين ؛ ليثبت لهم أنه على
حق ، وما هي البراهين التي تحمله على تصديق فريق وتكذيب آخر ؟ لماذا نعتبر
والد إبراهيم مخطئًا في عبادة الأصنام ، ولماذا نحبذ فعل إبراهيم عليه السلام ؛
لتحطيمه تلك الأصنام وعبادته الحي القيوم الذي لا يغفل ، ولا ينام ؟ { وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } ( هود : 118 - 119 ) الآية .
يتأمل الإنسان فيما حوله من الكائنات ، فيجدها سائرة بنظام واحد ميسرة لما
خلقت له { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ( الملك : 3 ) ، وما الطبيعة
إلا ذلك الناموس الذي يخضع له كل شيء في الوجود ، وإني بقدر ما وصل إليه
بحثي أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الدين الطبيعي ، أو دين الفطرة التي فطر
الله الناس عليها ، ذلك هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وإن جميع مبادئه
موافقة للنواميس الطبيعية ، وإني أؤمل أن كل محب للحقيقية يسلّم معي بهذا
الاعتبار ، ويعترف بما للإسلام من المزايا النافعة والمبادئ الشريفة .
طَرَق كثير من كُتاب الغرب باب الكلام في الإسلام ، ونبيه عليه الصلاة
والسلام ، ومن سوء حظي أني لم أتمكن من الوقوف على آراء السابقين ، وإن فزت
ببعض آراء اللاحقين مثل دانيل ولوثر و ملانشون و هربولت ، ولكن أرى هؤلاء
الناس يتطاولون على ما ليس لهم به خبر ، شأن كثير من بني الإنسان في كل زمان
ومكان ، ليست دهشتي من الذين يذمون الإسلام مثل هانوتو ولورد كرومر بأكثر من
دهشتي لمارتين لوثر وهو ذلك الحرّ الأبيّ ، المفكر الذي كون المذهب البروتستاني
بالرغم من سلاسل وأغلال الفاتيكان في العصور الوسطى ، ولكن الأغراض
السياسية تسربت إلى نفوس هؤلاء الكتاب فأعمت بصيرتهم ، فلم يَخُطّوا إلا ما توحيه
إليهم أغراضهم . إلا أن الحق لا يعدم أنصارًا ، وإنا لذاكرون هنا في مقدمة هذه
الرسالة بعض آراء المصنفين من كُتَّاب الغرب في الإسلام ، والنبي صلى الله عليه
وسلم ليرى كل منصف أن الإسلام لا يعدم من الأعداء ظهيرًا ، وكفى بالله وليًّا
ونصيرًا .
كتب مستر جون ويغنبورت الرحالة الشهير في كتابه ( تاريخ محمد ) :
( هل في الإمكان إنكار فضل رجل ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) قام
بإصلاحات عظيمة خالدة لبلاده ؛ بأن جعل جميع أهلها يعبدون الله الواحد القهار ،
ويهجرون عبادة الأصنام ، ذلك الذي منع قتل الموءودة وحرم شرب الخمر ولعب
الميسر ) , وكتب إدوارد جيبون ( إن دين محمد خال من الشكوك والظنون ، والقرآن
أكبر دليل على وحدانية الله ، بعد أن نهى النبي عن عبادة الأصنام والكواكب . وهذا
الدين أكبر وأجلّ من أن تدرك أسراره العويصة عقولُنَا الحالية ) .
وكتب مستر ديفونويت في كتابه ( اعتذار إلى محمد والإسلام ) : ( إنه لَمِن
الحماقة أن نظن أن الإسلام قام بحد السيف وحده ؛ لأن هذا الدين الذي يهدي للتي
هي أَقْوم ، يحرم سفك الدماء ويأمر بالمعروف ونهى عن المنكر . ويجب أن نعترف
هنا بأن علوم الطبيعة والفلك والفلسفة والرياضيات التي أنعشت أوربا منذ القرن
العاشر مقتبسة ومقتطفة من القرآن ، بل إن أوربا مدينة للإسلام بأكثر من ذلك ؛ لأنه
الدين الذي أمر بالدستور والديموقراطية وينهى عن الاستبداد في قوله
تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى : 38 ) ، { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ( آل عمران : 159 ) ، منح الإسلام الإنسان جميع حقوقه المدنية ، ولتتذكر أوربا
أنها مَدِينة للمسلمين أنفسهم بحفظ آداب الغرب القديمة حينما كانت هي في ظلام
دامس ، فحفظوا آثار فلاسفة اليونان ، وأنشؤوا علوم الطب والهندسة وغيرها ،
وبعبارة أخرى إن المسلمين هم أساتذة أوربا أثناء همجيتها من القرن التاسع إلى
القرن الثالث عشر ) .
وكتب كاتب مقالة تحت عنوان ( الشرق والغرب ) جاء فيها : ( لقد ساوى
الإسلام بين جميع الناس في الحقوق السياسة ، ورفع عن كواهلهم الضرائب الفادحة
في قديم الزمان ، وحفظ لهم جميع حقوقهم ، وذم استعباد الإنسان للإنسان ) ومع ذلك
فإن ساسة أوربا وخصوصًا الإنجليز منهم ، لا يدخرون وسعًا في التطاول على
الإسلام ورميه بكل نقيصة ، وأنه داعية للتأخر بمناسبة وبغير مناسبة ، من ذلك أنه
عندما حصل اعتصاب طلبة الأزهر ، قالت ( التيمس ) والجرائد التي على شاكلتها
إن الأزهريين ميالون للتأخر ، وهذه الافتراءات تنافي ميل علماء الإسلام وتعاليمه
على خط مستقيم ، قال أحد فضلاء الإنجليز في إحدى الجرائد بهذه المناسبة : ( إننا
نعتقد أنه إذا كان ثمة دين خال من مبادئ التقهقر ؛ فما هو إلا الدين الإسلامي
الحنيف ) ، وهل يقدر إنسان على نسيان ما قام به علماء الأزهر وشيخ الإسلام نفسه
في أثناء تلك الحركة الدستورية التي قامت سنة 1882 ، مَن غير العلماء أصدر
قرارًا ضد توفيق باشا ، ألم يكن شيخ الإسلام في الآستانة هو الذي قال للسلطان :
( إن الشورى ليست من روح الإسلام فقط بل إنه يأمر بها أمرًا ، ومن قام في مجلس
المبعوثين وخطب الخطب العصماء بوجوب مساواة جميع العناصر العثمانية
بصرف النظر عن الملل والنحل في مصالح الوطن غير العلماء ؟ ) .
ولقد قام العلماء بمثل هذا العمل في روسيا ، فإنه لما كان الأرمن والتتر يفتك
بعضهم ببعض سنة 1905على مرأى من البوليس الروسي في باكو ، كان رجال
الدين المسلمون أول من نهض لحسم النزاع بين الطوائف والعشائر ، وها هم رجال
الدين الإسلامي يبذلون جهدهم في سائر البلاد ، ويحثون التتر على تشييد المدارس ؛
لنشر العلوم الحديثة لترقية أبنائهم وإلقاء المحاضرات التي تعصمهم عن ارتكاب
الآثام .
ولكن الحكومة لسوء الحظ ، تحاول إيقافهم عن مساعيهم الحميدة ؛ خوفًا من أن
يستنير الأهالي ، فيسعوا لإسقاطها أو يتوسعوا بطلب حقوقهم منها .
ومن عجيب ما يلاحظ أن مسيحيي تلك الجهة ومعظمهم من الفلاحين ، قد
تأثروا بإرشاد رجال الدين الإسلامي وسعيهم وراء العلوم والمعارف ، فدخل
الكثيرون منهم في دين الله أفواجًا ، واضطرت الحكومة أن ترسل إلى تلك النواحي
مرسلين خصوصيين ؛ لمقاومة تلك الحركة الضارة في نظرها . هذا هو الإسلام
وهؤلاء هم رجاله ، ومع ذلك فإن سواس الإنجليز لا يخجلون من أن يَصِمُوه
ويَصِمُوا رجاله بالتأخير والتقهقر .
ولا شك في أن آراء أولئك المنصفين من رجال الغرب أكبر حجة عليهم ؛ إذ
أقروا بأن هذا الدين القويم لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فتم بذلك قوله
تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
ولا عجب أن يقر أولئك الناس بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن
أقروا بعجزهم عن معارضة فَحْوى آيات الذكر الحكيم القائل : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 ) ، { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) ،
{ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) وهذه
الآيات مِصْداق للحديث الشريف ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) أو كما قال .
يدّعون أن الإسلام خال من الوطنية ، فهل يقتنع أولئك المفترون بما جاء في
الذكر الحكيم { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ
الأَصْنَامَ } ( إبراهيم : 35 ) ألا يخجلون من حكاية أبي رئبال الذي دل صاحب
الفيل على طريق وطنه وخان بلاده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم قبره ،
كما فعل هو ذلك بيده الشريفة ، ألم يأتهم نبأ الحديث المتداول ( حب الوطن من
الإيمان ) .
يدعون أن الإسلام دين تواكل وتقاعد لا عمل ولا نشاط فيه ، وهذا قول مردود ،
ودعوى كاذبة بنص الذكر الحكيم { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ( النجم : 39 )
والحديث المتداول على الألسنة أيضا ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك
كأنك تموت غدا ) والحديث الشريف ( ليس بخيركم من أخذ من هذه وترك هذه إنما
خيركم من أخذ من هذه وهذه ) يدعون أن الإسلام لا يلائم بعض العلوم الحديثة ، مع
أنها في الحقيقة ونفس الأمر فِرْية يدحضها ما حواه القرآن الشريف أصل هذه الدين
الحنيف ؛ من الحث على العلم والسعي واكتشاف أسرار الطبيعة ، قال تعالى :
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( النحل : 43 ) ، { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } (يونس : 101) ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ} ( الزمر : 9 ) ، { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِن شَيْءٍ } ( الأعراف : 185 ) ، { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ( الذاريات :
21 ) .
يزعمون أن الإسلام استعبد المرأة ؛ ويستدلون على ذلك بالحجاب أو النقاب ،
ولا يفقهون أن ذلك يُعْزى إلى العوائد التقليدية أكثر مما يعزى إلى الأصول الدينية ،
ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة ، فلم يجعلها متاعًا له كما يزعمون ؛ نظرًا
لإباحة الطلاق وتعدد الزوجات ، ولا يدرون أن هذه التصرفات تكون لأسباب غير
عادية ، وأنه إذا فرط فيها المسلمون فذلك راجع لأخلاقهم الشخصية ، وليس إفراطهم
هذا من الدين في شيء , قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } ( النساء : 3 ) إلى قوله تعالى { ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا } ( النساء : 3 ) ثم جاء بعد ذلك { وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ( النساء : 129 ) وفي حديث شريف ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) وفي قوله
تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( الروم : 21 ) فمن ذلك يرى المنصف
أن تعدد الزوجات والطلاق ، أمران يكادان يكونان محرمين في الإسلام .
لقد أباح الإسلام للمرأة حتى القضاء ، فماذا منحها غيره من الأديان من هذه
الجهة . ينكر هؤلاء القوم على المرأة مطالبتها بحقوقها بصفتها حقوقًا لا هبةً ، كما
هو الحاصل الآن في أمريكا وأوربا ، ثم يطنطنون باستعباد المرأة في الإسلام ،
وهي تطالبهم ببعض ما منَحه الإسلام لها فيسخرون منها ، جاء في الذكر الحكيم :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ } ( النساء : 34 ) وهي ميزة لا تكاد تذكر ، والسبب فيها أن الرجل بناء
على النظامات الكونية هو الذي يسعى ويكد ، وهي أكثر منه راحة في خدرها بوجه
العموم ، وهي معرضة للتأثيرات القلبية والنفسانية التي قد تتغلب على العقل ، فكان
الرجل في هذا المعنى كشكيمة لتطرف النفس والعقل .
يدعون أن الإسلام دين حرب وعداء ، لا سلام وصفاء ، ويقيمون على ذلك
دليلاً معكوسًا من الفتوحات التي نمت في صدر الإسلام ، ولو أبصر هؤلاء المدعون
لعلموا أن تلك الفتوحات لو تمت على أيدي غير المسلمين ؛ لأذيقت تلك الأمم التي
غلبت على أمرها أنواع الذل والمسكنة ؛ بناء على قواعد الاستعمار الأوربية التي لا
يسع المقام شرحها ، جاء في القرآن { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً
بَصِيراً } ( النساء : 58 ) هذا ما كان يعمل به الفاتحون من أمراء الإسلام ، أفلا
تخجل أوربا إذا قارنت به عملها اليوم في الشعوب التي أخنى عليها الدهر ، فوقعت
تحت سلطانها ، جاء في القرآن الكريم : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ( النحل : 125 ) ، { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ( التوبة : 33 ) ، { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا } ( البقرة : 256 ) ولم يكن القتال في الإسلام ؛ إلا لتأييد الدعوة
وللدفاع عنها ، قال تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) هذه بعض آيات من الذكر الحكيم ، فأين
أمرها مما قال المستر موط المرسل الأمريكى في خطاب ألقاه على جمهور من
المراسلين في الشرق الأدنى : ( بواسطة مئة رجل نظيركم يحتملون الصعاب
وعشرين ألف جنيه يقدر الله أن يلاشي الإسلام وينتاش بلاد العرب من قبضة
الشيطان ) .
إن نصارى الشرق لم يأمنوا الإكراه على ترك دينهم بفضل شجاعة أفرادهم
ولا بعجائب كنيستهم ، ولكن الذي وقاهم ذلك إنما هو ما أوردناه من الآيات القرآنية
فإنها ضمنت لهم سلامة استقلالهم الديني ، وصانت عقيدتهم من كل اعتداء ، ولو
كان المسلمون الآن كما كانوا في صدر الإسلام ، لما أمكن أولئك المرسلين أن يأتوا
بمعشار ما يفعلونه في الشرق الآن ، بل لانتشر الإسلام في سائر أنحاء العالم ؛ لأنه
دين مُساوِق للطبيعة ملائم للنوع الإنساني في جميع أطوراه ، يقبله كل عقل فطري
لم تدنسة التقاليد .
بل لو كان المسلمون الآن كما كانوا عليه في صدر الإسلام ، لما قَدَرَتْ أوربا
بأن تستعمر شبرًا واحدًا من بلادهم أو بلاد الشرق ، أو تستعبد قبيلة واحدة فيها ،
قال الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده : ( إن الأزهر كالأسد محبوس في
قفص ، والحكومة المصرية كالحارس على بابه ، فإذا فتح ذلك الباب كان أول
فريسة لذلك الأسد ذلك الحارس ) [1] ، ونحن نزيد على ذلك أنه لو فتح ذلك الباب ،
وتنسم ذلك الأسد نسيم الحرية ، لأعاد الشرق إلى الشرق والغرب إلى الغرب .
( لها بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لِعَليّ أفندي فهمي الكاتب المعروف .
(**) ( المائدة : 50 ) .
(1) المنار : تفتقر هذه العبارة إلى إثبات ورودها عن الأستاذ الإمام .​
(13/713)
 
ذو الحجة - 1328هـ
يناير - 1911م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
مشروع إحياء الآداب العربية
تقاومه جريدة قبطية
[*]

عزمت الحكومة المصرية على طبع بعض الآثار العربية من المصنفات النافعة
النادرة بالمال الخاص بدار الكتب المصرية ( الكتابخانة الخديوية ) ، وكان لديها في
الميزانية ألف جنيه ؛ لتنشيط الآداب العربية ، فقررت إضافته إلى المحبوس على
دار الكتب والاستعانة به على طبع تلك الآثار .
عَزْم شَرِيفٌ على عمل صالح يحمده كل أديب عربي ، ولا ينتقده عاقل
أعجمي ؛ لأن هذه الحكومة عربية والأمة الذي تحكمها عربية ، وهي حكومة غنية
تعد الألف الجنيه قليلة منها على مثل هذا العمل التي تنفق حكومات أوربة وشعوبها
في سبيله ألوفًا كثيرة من الجنيهات ، حتى صارت دور الكتب في بلادهم كباريس
و لندن و ليدن و برلين أغنى من دار الكتب المصرية بمصنفات سلفنا العرب من
المصريين وغيرهم ، وصاروا يطبعون من نفائسها ما نضطر إلى ابتياعه منهم بل
صرنا نرسل أولادنا ليتعلموا الآداب العربية في أوربا وهذا عار علينا عظيم .
لم تكن العناية ببذل المال على جمع الكتب العربية ونشرها قاصرًا على
الحكومات ورجال العلم من الأوروبيين ، بل رأينا بعض الجمعيات الدينية النصرانية
تفعل ذلك كجمعية اليسوعيين ، فقد رأينا مكتبتها في بيروت جامعة لنفائس الكتب
العربية التي يعز نظيرها في مكتبتنا المصرية ، وقد طبعت لنا كثيرًا من هذه
النفائس .
لا ريب في أن العمل الذي شرعت فيه الحكومة المصرية العربية جليل ، ولا
ريب في أن المال الذي خصصته له في هذه العام من ميزانيتها قليل ، فهي تتفق
أكثر منه في ضيافة أحد ضيوف الأمير يومًا واحدًا ، وتتفق أكثر منه في مساعدة
التمثيل الإفرنجي الذي يرى جمهور الأمة أن إثمه أكبر من نفعه ، وتتفق أكثر منه
في البحث عن أسماك النيل والوقوف على أنواعها ، وهو عمل قلما يوجد مصري
ينتفع به ، وإنما يُعَدُّ مثله من كماليات فروع العلوم في أوربا ، وأين نحن من مبادئ
أصول هذا الفرع الآن .
على هذا كله حمد العقلاء والأدباء مشروع الحكومة الجديد ، وهم يرجون منها
المزيد ، ولم يكن يخطر في البال أن يلقى هذا المشروع اعتراضًا ، ولا أن يصادف
امتعاضًا ، حتى سمعنا نعاب صاحب جريدة الوطن القبطية يدعو بالويل والثبور ،
وينعي على الحكومة المصرية عملها ، ويندب الشعب المصري مدعيًا أن الحكومة
تريد بهذا العمل إفساد آدابه ومنعه من العلوم والمعارف والآداب الصحيحة التي
ترقيه وتجعله من الشعوب العزيزة الراقية ، وزجه في ظلمات ( الخرافات
والسفاهات والسخافات والجهالات العربية ) وزعم الكاتب أنه لا يوجد في الكتب
العربية غير تلك المضار التي استفرغ كل ما في جوفه ، وجعله وصفًا لها وكل إناء
ينضح بما فيه .
رأيت في بعض الجرائد بعض عبارات جريدة الوطن البذيئة في هذه المسألة
وأطلعني بعض الناس على عدد منها ، رأيت الكاتب فيه لم يكتف بتحقير جميع
العرب ، والقدح في كل ما كتبوا وصنفوا ، حتى صرح بذم دينهم في ضمن ذلك ،
فقال في سياقه البذئ : ( وهل أصبح كل ما في مصر آداب العرب وتاريخ العرب
وحضارة العرب ودين العرب وكتب العرب وخرافات العرب وغلاطات العرب ،
وحرم علينا أن نلم بالمفيد ، وأن ينفق مالنا فيما يرقي الآداب والمعيشة ، ويرفعنا من
هذا الحضيض القذر إلى مقام الذين تطهروا من سخفافات الأجداد ) .. إلخ .
يعني الكاتب بدين العرب دين الإسلام ، وهو يريد أن يمحى الإسلام ولغته
وآدابهما في مصر وتحل محلها القبطية ، وهذا هو السبب الذي جعل مشروع طبع
الكتب العربية ينقض عليه انقضاض الصاعقة ، كما قال في مقالة يوم السبت 8 ذي
الحجة ، التي نقلنا هذه الجملة منها آنفًا ، وهي أهون ما كتب وأقله بذاء ، وما هو
بالمصاب الكبير في نفسه الذي يصعق له الناس ، فيصرعون فيقومون كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس لا يدرون ماذا يقولون .
صاحب الوطن جاهل بلغة العرب وآداب العرب وحضارة العرب ، وتاريخ
العرب ودين العرب لا يعرف من ذلك ما يجيز له الحكم في نفعها وضررها , لكن
الجهل وحده لا يستطيع أن يهبط بصاحبه إلى الدرك الأسفل الذي وقع فيه صاحب
الوطن ومن عاونه على تلك الكتابة ، وإنما ذلك الغلو في التعصب الديني وبغضه
لمسلمي وطنه جعله يصعق من كل شيء يستفيدون منه في دينهم ، وإن كان
نافعًا للبلاد المصرية .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها في هذه المسألة بإعلامه أن
اللغة العربية ليست خاصة بالمسلمين ، وإنما هي مشتركة بينهم وبين غيرهم في
نفس جزيرة العرب لا في مصر وحدها ، وقد كانت لغة لليهود والنصارى فيها قبل
ظهور الإسلام ، وقد صارت بعده اللغة الطبيعية لجميع العراقيين والسوريين
والمصريين وسائر القسم الشمالي من أفريقية ، وأنه ليس في استطاعة صاحب
جريدة الوطن وصاحب جريدة مصر القبطيتين ، ومن على رأيهما من المتعصبين
نسخها واستبدل القبطية بها ، وإذا كان الأمر كذلك وكان من البديهيات أن ارتقاء أمة
بدون ارتقاء لغتها وآداب لغتها من المحال ، وكان يجب ارتقاء المصريين عامة في
العلوم والفنون والمدنية كما يدعي ، فالواجب عليه أن يشكر للحكومة عملها في خدمة
آداب لغتها ولغة أمتها لا أن يصعق عند علمه بذلك .
لو كانت علته هي الجهل وحده ؛ لأمكن مداواتها بإعلامه بما قال منصفو
علماء الإفرنج في بيان فضل لغة العرب وآدابهم وحضارتهم كغوستاف لوبون
صاحب كتاب مدنية العرب ، و سديو صاحب تاريخ العرب ، و درابر وغيرهم ،
وقد سئل أحد علماء الإنكليز إذا أراد البشر أن يوحدوا لغتهم ، فأي اللغات تختار أن
تكون لغة جميع البشر ؟ قال اللغة العربية . وقد قال لي مرة مستر : ( متشل أنس )
الإنكليزي الذي كان وكيلا لنظارة المالية : ما أظن أنه يوجد في العربية شعر أرق
كالشعر الإنكليزي ، فقلت : وأنا أظن العكس ولا عبرة برأي ولا برأيك في ذلك ،
فيجب أن نرجع إلى بالعارف باللغتين ، صاحب الذوق في الشعرين ، ثم لقيت مستر
( بلنت ) الكاتب الشاعر الإنكليزي المشهور ، والذي نظم المعلقات السبع العربية
بالإنكليزية ، فذكرت له ذلك فقال : قل ( لمتشل أنس ) : إن العرب كانوا ينطقون
بالحكمة في شعرهم عندما كان الإنكليز مثل الوحوش يطوفون في الغابة عراة
الأجسام .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن الأمم الحية تبحث
عن الكتب القديمة في لغتها وكذا في لغة غيرها ؛ لأجل الوقوف على سير العلوم
والفنون والآداب فيها توسعًا في التاريخ وتحقيقًا لمسائله ، ولا سيما إذا كانت كتب
تلك اللغات من حلقات سلسلة المدنية والحضارة كاللغة العربية التي هي الحلقة
الموصلة بين المدنية الأوربية الحاضرة ، والمدنيات القديمة بإجماع العارفين .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه بما في الكتب العربية من
الآداب والفضائل ولو بالإجمال ، وبوجه حاجة الأمة التي تسير في طريق الارتقاء من
معرفة تاريخ لغتها وآثار سلفها فيه ، وبأن تكونها من شعوب كثيرة لها سلف آخرون
في النسب والدين أو المدنية ، لا ينافي حاجتها إلى إحياء آثار سلفها في اللغة ؛ لأن
رابطة اللغة هي التي تربط هذه الشعوب بعضهم ببعض ، وتجعل ارتقاءهم بها
وحياتهم العامة بحياتها .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن البشر متشابهون في
الصفات والأعراض البشرية ، وأن ذلك خيره وشره يظهر في لغاتهم ، فإذا كانت
عين التعصب أرته في بعض الكتب العربية طعنًا من مسلم في دين النصارى فيعلم
أن في الكتب العربية القديمة والحديثة طعنًا من النصارى في الإسلام مثل ذلك أو أشد ،
إذا كان قد عمي عما يكتبه هو وغيره من قومه في هذا العصر من الطعن في
الإسلام ، وحسبه منه العبارة التي نقلناها آنفًا التي جعل فيها دين العرب وآدابهم من
الأقذار التي قاءها في جريدته ، ويوجد في كتب الإفرنج من الطعن في الدين
الإسلامي والمسلمين ما هو أشد من ذلك وأقبح ، وكله بهتان لم يخطر على بال أحد
من أجهل جهلاء المسلمين بالإسلام ، وإذا كان قد رأى أو سمع أن في بعض الكتب
العربية مجونًا ؛ فليسأل المطلعين على اللغات الأوربية ، يخبروه أن في بعضها من
فنون المجون ما لم يكن يخطر على بال أحد من العرب ، ولا يجري على لسانه ولا
على قلمه ، وهل أنتنت الدنيا إلا بفواحش بغايا أوربة ، وبقيت لغاتهم منزهة عن
التعبير عن ذلك .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن طبع الحكومة
لبعض الكتب العربية ؛ لا تقصد أن تستغني به عما تستفيده من الإفرنج مما لا بد لنا
منه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية ، ولا أن تبطل به نظام التعليم في
المدارس ، فتعلم تلاميذها الجغرافيا والقديمة بدلاً من الجغرافية الحديثة مثلاً ، بل لا
نظن أن هذا مما يخفى عليه .
لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإطلاعه على نظام التعليم في
مدارس الحكومة التي يدعي أنها تريد قتل الأمة بجهالات العرب ، وإخباره بأن
نظارة المعارف قد أنشأت قلمًا جديدًا لترجمة الكتب المفيدة ، فهي إذا التفتت إلى
ترقية لغتها بإحياء تاريخها الماضي لفتة واحدة ، فقد نظرت إلى ترقيتها بإدخال
العلوم الأوربية فيها قبل ذلك ، ولك مدارسها شاهدة على ذلك ، وإنما قلم الترجمة
الجديد حسنة من حسنات الناظر الجديد أحمد حشمت باشا .
ليست علة صاحب جريدة الوطن هي الجهل فنداويها بما ذكرنا ، وما لم نذكر
من العلم الصحيح ، فإن الجهل وحده لا يستطيع إلى أن يهبط به إلى هذه الدركة من
الخذلان ، وإنما علته هي الغلو في التعصب القبطي وكراهة كل شيء ينفع الإسلام
والمسلمين وإن نفع غيرهم ولم يضرهم ، وقد بلغني وأنا في الآستانة أن التعصب قد
لج به وبزميله صاحب جريدة مصر في هذا العام ، حتى أنكر ذلك عليهما قومهما ،
وهذه العلة لا علاج لها ولا دواء ولكن يمكن تخفيف أعراضها بحكمة الحكومة
وعدلها أو بإظهار جمهور القبط السخط عليها إن كانوا يفعلون .
نشرنا هذه المقالة في المؤيد ، ثم إن الحكومة أنذرت صاحب جريدة الوطن
بهذا الذنب وكان قد أُنْذِر من قبل ، فإذا أتى بعد هذا بأي ذنب يعاقب عليه القانون
تقفل جريدته . وأما القبط فقد ظهر من جمهور كبير منهم أنهم راضون من وقاحة
جريدة الوطن وتهجمها ؛ ولذلك ساعدتها جريدتهم الثانية ( مصر ) على ذلك ،
وأيدتهما جريدة ( الأخبار ) أيضًا ، والظاهر أن القوم يريدون بهذا التهجم الذي لا
يعقل له سبب إحداث فتنة بين المسلمين والقبط ، يظنون أن ذلك يكون سبب
البطشة الكبرى من إنكلترا ، فلا تبقى للمسلمين في هذه الحكومة باقية .
__________
(*) ترى الكلام على هذا المشروع مفصلاً في موضع آخر من هذا الجزء .
(13/908)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
ذو الحجة - 1328هـ
يناير - 1911م
الدين والإلحاد والاشتراكية

نصر المقتطف
الإيمان على التعطيل
يظن الكثيرون أن صاحبي مجلة المتقطف من الملاحدة المعطلين ، وكنت أنا
أظن ذلك ، حتى اتفق من بضع سنين أن جرت بيننا مناظرة خاصة جر إليها الكلام
العادي ، وكنت أنا الموجب المثبت بالطبع ، وكان آخر قولي المقبول فيها وصفوته
أن هذه الكائنات في جملتها حادثة ، لم يكن شيء منها كما نعرفه الآن ، وفيها من
الإبداع والنظام ما يستحيل أن يكون حصل بالمصادفة ، أو يكون مصدره العدم
المحض ، بل يجب عقلاً أن يكون لهذا الإبداع والنظام العجيب في العوالم العلوية
والأرضية مصدر وجودي ، ولكن حقيقة هذا المبدِع المُوجد للنظام والحافظ له
مجهولة ، فنحن نسميه ( الله ) فإذا اعترف الماديون بما قلناه وسموا ذلك المبدع
( المادة ) ، فالاختلاف إنما يكون بالتسمية والألفاظ ، إلخ ما دار بيننا يومئذ ووافقني
فيه مناظري أو محدثني على إثبات وجود البارئ عز وجل ، وأن من كفر من علماء
أوربا بإله الكنيسة لا يمكنه أن يكفر بإله الطبيعة ، وأعني بإله الكنيسة الموصوف
بما تصفه به من الأقانيم والصفات ، وكنت أقول في نفسي بعد ذلك : هل الدكتور
يعقوب صروف مادي حقيقة ؟ وهل كانت مناظرته لي استرسالاً في هذا البحث
العلمي أم انتصارًا لاعتقاده أم اختبارًا لي .
ذكرت في كتابي ( الحكمة الشرعية ) الذي كان أول شيء ألفته أو كتبته في
المسائل العلمية الدينية والاجتماعية أن أجدر الناس بقوة الإيمان بالله تعالى علماء
الطبيعة الواقفون على ما لا يعرفه غيرهم من علماء الدين بنظام الكون وآيات الله
تعالى فيه وهم العلماء المشار إليهم في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } ( فاطر : 27-28 ) فلا ريب أن المراد بالعلماء
هنا العلماء بآياته تعالى ، وحكمه في نظام هذه الكائنات المذكورة في الآيات .
ثم رأيت في فاتحة جزء المقتطف الذي صدر في هذا الشهر مقالة علمية
لمحرر المقتطف ، يرد فيها على أحد المعطلين الاشتراكيين ، ويستدل على وجوده
تعالى بآياته في خلقه على طريقة القرآن لا على طريقة المتكلمين النظرية ، ويشرح
هذه الآيات شرحًا علميًا على طريقة علماء الكون في هذا العصر ، وقد أشار في هذه
المقالة إلى سبب كتابتها ؛ وهو ما نشره بعض المتعطلين في باب المراسلة والمناظرة
منه .
راجعنا باب المناظرة ، فرأينا فيه رسالة بإمضاء ( سلامة موسى ) ؛ يرتأي
فيها أن الحكومة المصرية لا يصلح حالها إلا بالسير على مذهب الاشتراكيين الذي
عنوانه ( لا رب ولا سيد ) ؛ أي لا دين ولا سلطة ، وقال الكاتب في رسالته ما نصه : ( ما هي اعتراضاتكم على الاشتراكية وعلى الالحاد ؟ ماتت بالأمس زوجة لصديق اشتراكي لي ، فشيعناها إلى القبر بلا صلاة ، وكان على عربة المائتة علم
كبير مكتوب عليه بحروف واضحة ، يكاد يقرأها الأعمى ( لا رب ولا سيد ) ، ولم
أر العالم اختل بذلك ولا الطريق تغيرت ولا الله ظهر ليثبت وجوده ) .
وقد علق المقتطف على هذه الرسالة تعليقًا وجيزًا ، ثم أيده بتلك المقالة ،
فرأينا أن ننقل في المنار كل ما كتبه تذكيرًا للعالم ، وعبرة للمقلدين في الكفر الذين
يقولون : لو كان أصل الدين حقًا لما أنكر وجود الله تعالى العلماء العارفون بنظام
الكائنات ، وقد كثر عندنا هؤلاء المقلدون الذين قال في مثلهم الشاعر العربي :
عُمْيُ القلوب عَمُوا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًا
وقد رأينا أن ننقل ما كتبه المقتطف في التعليق على رسالة ذلك الملحد أولاً ،
ثم ننقل مقالته التي أيد فيها الإيمان ، ثم نعقب ببعض ما كنا كتبناه في العام الماضي
في مسألة من المسائل التي ألم بها المقتطف ، وهي حال المتدينين في الفضيلة ،
وكون العمران مبنيًا على أساس الدين ، والكفر داعية الفساد والخراب ، وهذا نص
تعليقه على الرسالة .
( المقتطف )
نشرنا هذه الرسالة على جاري عادتنا من نشر رسائل المرسلين
ومناظرات المناظرين ، ولو كانت على غير رأينا ، والغرض من نشرها إطلاع
القراء على كيفية نظر الاشتراكيين في المسائل الاجتماعية ، ولا شبهة أن في
الاجتماع البشري مساوئ كثيرة يجب نزعها ، وأمراضًا مزمنة يجب علاجها ، وأن
الاشتراكية أفادت فائدة كبيرة في التنبيه إلى هذه المساوئ وهذه الأمراض ، ولكن
سير العمران لم يتوقف على الاشتراكية والمصلحون الذين لهم اليد الطولى في
إصلاح حال المجتمع لم يتبعوا خطة واحدة وطريقة مقررة ؛ فبعضهم أفاد المجتمع
بنشر المبادئ الأدبية ، وبعضهم أفاده بنشر المبادئ الدينية ، وبعضهم بالثورة على
المستبدين : ولا تفلح طريقة من الطرق ما لم تتهيأ وسائلها وتستعد الأمم لها ، وإلا
كانت كالضرب في الحديد البارد ، وعلمنا واختبارنا يدلاننا على أن الأمة المصرية
سائرة في الطريق الذي يكن سيره في هذا القطر للبلوغ إلى نزع المساوئ القديمة .
قلنا الأمة المصرية ولم نقل الحكومة المصرية ؛ لأن الحكومة جزء من الأمة ،
والموظفون الأجانب الذين فيها من الإنكليز وغيرهم ، لا يقلون عن الوطنيين اهتمامًا
بإصلاح البلاد ، والإصلاح المالي مقدم على الإصلاح العلمي دائمًا ، كما يشهد
تاريخ الاجتماع ، فلم يخطئ لورد كرومر في سياسته المالية ؛ أى تقديم الإصلاح
المالي على الإصلاح العلمي ؛ لأن الإنسان إذا أصلح ماله سهل عليه بعد ذلك تعليم
أولاده وإلا فلا ، والحكومة الغنية يسهل عليها إنشاء المدارس ونشر التعليم ، وأما
الحكومة الفقيرة فيصعب عليها ذلك أو يتعذر .
والتعطيل أي إنكار وجود الله ونسبة الإنسان إليه من مقوضات دعائم العمران
ولا عبرة بثبوت العمران الآن بين الأقوام الذين شاع التعطيل عندهم ؛ لأنهم تربوا
تربية دينة ؛ فرسخ في نفوسهم عمل الواجب وكراهة الكذب ، والاعتداء على الغير
ونحو ذلك من الشرور . ولكن إذا نزع مبدأ الحلال والحرام الديني تعذر وضع مبدأ
آخر يقوم مقامه ويرسخ رسوخه ؛ ولذلك يوجس المفكرون شرًّا مما ستصير إليه
حال أوربا و أميركا في أواخر هذا القرن إذا انتشر التعطيل فيهما ، هذا فضلاً عن
أن التعطيل غير معقول لذاته ، ففرضه خطأ علميًا كما هو ضرر اجتماعيًّا ،
والمجاهرة به تفضي إلى أكبر المضار على نوع الإنسان ) اهـ .
وهذه مقالته الافتتاحية :
آياته في خلقه
في باب المراسلة في هذا الجزء رسالة لكاتب يرى أن التعطيل : أي إنكار
وجود الخالق لا يضر أحدًا ، ونحن نرى أنه يأتي بأكبر المضار . ولكن هب أنه لا
يضر فهل هو معقول ؟
في إدارة المقتطف مطبعة أو آلة طباعة ، يديرها سير من الجلد تحركه
الكهربائية ، فتسحب الورق من لفتين كبيرتين وتمرَّه فوق حروف الطباعة بعد أن
تحبرها ، وتطبعه من وجهيه وتقص منه صفحتين بعد صفحتين ، وتضع إحداهما
داخل الأخرى ، وتلصقها بها وتطويهما طولاً وعرضًا أربع طيات ، فيخرج المقطم
منها مطبوعًا مقصوصًا ملصوقًا مطويًا . وهي تطبع كذلك اثني عشر ألف نسخة في
الساعة ، وتقصها وتلصقها وتطويها وتعدها تفعل ذلك كله من غير أن تساعدها يد أو
يرشدها عقل ، ولكن لقد اشتغلت عقول مئات العلماء وعملت أيادي ألوف من العمال
مدة سنين كثيرة إلى أن صارت هذه الآلة تعمل هذا العمل ، وحتى الآن لا يخرج
منها عدد واحد من المقطم إلا بعد أن تشتغل العقول وتعمل الأيادي في بلدان كثيرة
في عمل الورقة والحبر ، واستخراج الفحم الحجري وتوليد الكهربائية ، ناهيك بما
يلزم للآلات الكهربائية من المواد والعمال ، وبما لزم لسبك الحديد والنحاس
والرصاص والنيكل ونحو ذلك من المعادن التي دخلت في عمل آلة الطباعة ، وعمل
الحروف وعمل الآلات الكهربائية . ولو أحصينا جميع الذين اشتغلوا في عمل كل ما
يلزم لطبع جزء واحد من المقطم ؛ لبلغ عددهم ألوفًا وعشرات الألوف ، فمن يقول :
إن المطبعة تطبع الجريدة لذاتها ، وينكر كل ما وراءها من العقول يخالف كل
معقول .
يزرع القمح في هذا القطر في نحو مليون وربع مليون من الأفدنة ، ومساحة
الفدان أربعة آلاف ومئتي متر مربع ، ولا يقل عدد السنابل في المتر المربع من
مئتي سنبلة ، فعدد السنابل كلها التي تنبت كل سنة في القطر المصري وحده لا يقل
عن مليون سنبلة : أي أكثر من عدد كل سكان الأرض ست مئة ضعف ، وفي كل
سنبلة بل في كل حبة من حبوبها من الدقة في التركيب ، والحكمة في النوع
والصفات الموروثة والمكتسبة ، والاستعداد للنمو والتوليد ما لا يوجد عشر معشاره
في آلة الطباعة المشار إليها آنفًا ، فمن يستطيع أن ينكر وجود العقل الموجد لها
والمتولي شئونها ؛ ولو بإيجاد القوى التي تحرك كل دقيقة من دقائقها وكل ذرة من
ذراتها .
وإذا استنرت بنور الكيمياء ، وحللت دقائق حبة القمح ، رأيت أن كل دقيقة
منها مؤلفة من ملايين وملايين الملايين من الذرات الصغيرة كلها متحركة ولا تحرك
أجزاء آلة الطباعة ، وفيها من الصفات والخواص ما يميز القمح الصعيدي عن
البحيري والهندي عن البلدي . ثم إذا علمت أن ما يزرع من القمح في هذا القطر
ليس جزءًا من مئة مما يزرع في الأرض كلها ، ولا جزءًا من مئة ألف جزء مما
ينمو من سائر الحبوب والبزور ، رأيت أن عالم النبات وحده يذهل العقول ، حتى لا
ترى لها مندوحة عن الاعتراف بالقوة الخارقة المدبرة .
وعالم الحيوان لا يقل عن عالم النبات في غرائبه ، ترى في هذا الرسم حيوانًا
من أصغر الحيوانات الدنيا السابحة في الماء ؛ طوله جزء من ثلاثة آلاف جزء من
العقدة : أي لو جمع ثلاثة آلاف حيوان منه ، ونظمت طولاًَ في سطر واحد ، ما بلغ
طولها أكثر من عقدة بوصة ، فلا يرى إلا بالميكروسكوب ( المجهر ) ، راقب بعضهم
هذا الحيوان في العام الماضي ودرس طبائعه وكتب عنه يقول : رأيته أولاً كما في
الشكل الأول ، ومستطيلاً وله ذنب دقيق طويل ، وعند مغرز هذا الذنب في بدنه
ذنب آخر غليظ قصير فيسبح في الماء بتحريك هذين الذنبين ، وبعد أن يسبح مدة
تختلف من بضع دقائق إلى بضع ساعات ، يسكن ويصير كرويًا كما ترى في الشكل
الثاني ، ويبقى ذنبه الطويل متحركًا متمعجًا كالأفعى ، وحركته تجعل أمواجًا في
الماء تندفع إليه بما فيها من الميكروبات . وحينما تدنو هذه الميكروبات منه ينحني
عليها ذنبه الطويل ، وتنفتح لها فتحة بين الذنبين فتبتلعها ، على هذه الصورة يلقم
هذا الحيوان غذاءه ، وقد يلتقم حيوانات صغيرة من نوعه كما ترى في الشكل الثالث
والرابع ؛ فهو من الحيوانات المفترسة على صغر جسمه وحقارة قدره ، وقد التقم
واحد أمامي خمس حيوانات صغيرة من نوعه في تسع ساعات وقبض على ثلاثة
أخرى ليبتلعها . لكنها تملصت منه وهربت بعد أن كاد يفترسها ، وفي باطنه سائل
حامض يهضم ما يفترسه كما تهضم معدنا الطعام ، ثم يسكن مدة بعد ما يتغذى الغذاء
الكافي ، ويعود جسمه مستطيلاً كما كان أولاً ، وتكثر المادة الحبيبية فيه ، ويحدث له
حينئذ أمر من أمرين : إما أن يستدق من وسطه كما ترى في الشكل الخامس ، ثم
ينقسم إلى حيوانين مستقلين كما ترى في الشكل السادس ، كل منهما مثل الحيوان
الأول . وإما أن يتغير شكله وتضعف حركته ويأتي حيوان آخر يشبهه وهو في
شكله الأول ، ويلتصق به كما ترى في الشكل السابع ، فيمتزج الحيوانان امتزاج
التزاوج الحقيقي ، ويصيران حيوانًا واحد كرويًا فيزول ذنباه ، ويسكن مدة طويلة
ست ساعات أو أكثر ، ثم ينفجر من أحد جوانبه وتخرج البزور منه كما ترى في
الشكل الثامن ، وكل منها جزء من ثلاثين ألف جزء من العقدة ، وهذه البزور تعوم
في الماء وتنمو رويدًا رويدًا ، وبعد نحو ساعتين يتولد لكل منها ذنبان ويصير
حيوانًا كاملاً : أي أن هذه الحيوان الذي لا يرى بالعين لصغره ، يولد ويتحرك
ويتغذى ويتزوج ويلد حيوانات كثيرة من نوعه : إما بالانقسام وإما بالولادة .
وكم في مياه الأرض من الملايين وملايين من مثله ؟ وكم في هوائها وترابها
من مثل ذلك ؟ وكل حيوان منها يولد ويسعى ويأكل ويتغذى ويتزوج ويلد ، وفي
بنيته من الأعضاء والآلات ما يفوق آلة الطباعة المشار إليها آنفًا إتقانًا وإحكامًا ؛
عدا ما فيها من ذرات العقل المدبر والأعصاب التي تشعر وتدير حركات الحيوانات ،
وتكيفها حسب الأحوال التي تعرض لها حتى تهاجم وتدافع وتفترس وتهضم
وتتغذى وتتزاوج وتتوالد .
وما هي هذه الحيوانات الميكرسكوبية بالنسبة إلى الحيوانات الكبيرة ؛ بالنسبة
إلى الأسماك والطيور والزحافات ، وإلى الحيوانات العليا كالهر والأسد والفرس
والفيل ، بل بالنسبة إلى الإنسان سيد المخلوقات في هذه الأرض ، فهل يعقل أن
ليس في الكون قوة خالقة مدبرة أوجدت هذه الكائنات أو أوجدت القوى التي توجدها
وتدبرها وتدير حركاتها ؟ .
هذه هي بعض الآيات البينات التي لا يغضي عقل الإنسان عنها وعن ما تدل
عليه ، إلا إذا تكلف الإغضاء تكلفًا ، أو كان خاملاً لا يفكر ولا يقيس ولا يستنتج )
اهـ .

( المنار )
رأينا أن نعيد هنا ما كنا كتبناه في قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ( النساء : 13 ) في
معنى ما جاء في تعليق المقتطف عن ضرر الكفر وإفساده للعمران ، وبيان أن
الإيمان بالله تعالى لا يكفي لحفظ العمران من إفساد الكفر ، حتى يضم إليه الإيمان
بالوحي والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو :
الأستاذ الإمام : طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها ؛ لأنه إنما يأمرنا بما
يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة ، وإنما يذكر
الرسول مع طاعة الله ؛ لأن من الناس من كانوا يعتقدون - قبل اليهودية وبعدها ،
وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم - أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله وعمله عن الوحي ،
يقول أحدهم : إنني أعتقد أن للعالم صانعًا عليمًا حكيمًا ، وأعمل بعد ذلك بما يصل
إليه عقلي من الخير واجتناب الشر ، وهذا خطأ من الإنسان ، ولو صح ذلك لما كان
في حاجة إلى الرسل ، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته
النوعية إلى هداية الدين ، وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية
الحواس والوجدان والعقل ، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيًا لهداية أمة
من أممه ، ومرقيًا له بدون معونة الدين .
أقول : يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة : أننا نرى كثيرًا من أفراد
الناس لا يدينون بدين ؛ وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب وحسن الأعمال
التي تنفعهم وتنفع الناس ، حتى إن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان
الناس كلهم مثله ، بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في
آدابهم وارتقائهم . وأجيب عن هذا ( أولاً ) : بأن الكلام في هداية الجماعات من
البشر كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة
الاجتماعية ؛ سواء كانت بدوية أو مدنية ، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في
الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين ، حتى مدنيات الأمم
الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين ، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا
وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها ، فنحن بها نرى أن تلك الديانات
الوثنية كان لها أصل إلهي ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها ؛ كما
سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل
القطع أو على سبيل الظن ، وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظًا تامًا إلا
الديانة الإسلامية وهو مع ذلك قد دون في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو
الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها ؛ كالنصيرية وسائر الباطنية وغيرهم ممن غلب
عليهم التأويل أو الجهل ، حتى إنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من
لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم ؛ كجواز أكل لحم
البقر في الأطراف الشاسعة من الهند ، وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد
روسيا وغيرها ، فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية .
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية ؛ لأن الارتقاء المعنوي هو الذي
يبعث على الارتقاء المادي ، وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين
في هذه العصر " هربرت سبنسر " : إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها
مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه ، وإن بعض العلماء يحاول وتحويلها عن
أساس الدين ؛ وبناءها على أساس العلم والعقل ، وأن الأمم التي يجري فيها هذا
التحويل ، لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا
يحدد ضررها ، هذا معنى كلامه في بعض كتبه ، وقد قال هو للأستاذ الإمام في
حديث له معه : إن الفضيلة قد اِعْتَلَّتْ في الأمة الانكليزية وضعفت في هذه السنين
الأخيرة ؛ من حيث قَوِيَ فيها الطمع المادي ، ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد
أمم أوربا تمسكًا بالدين ؛ مع كون مدنيتها أثبت وتقدمها أعم ؛ لأن الدين قوام المدنية
بما فيه من روح الفضائل والآداب ، على أن المدنية الأوربية بعيدة عن روح الديانة
المسيحية ؛ وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا ، فلولا غلبة بعض آداب
الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسراف غير مقترن بشيء من
البر وعلم الخير وإذًا لبادت مدنيتهم سريعًا ، ومن يقل : إنه سيكون أبعدها عن الدين
أقربها إلى السقوط والهلاك ، لا يكون مفتاتًا في الحكم ولا بعيدًا عن قواعد علم
الاجتماع فيه ، فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد ؛ أن وجود أفراد من
الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام : من كون الدين هو الهداية
الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا ، كما تسوقه إلى سعادة
الآخرة .
وثانيًا أنه لا يمكن الجزم بأن فلانًا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد
نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره ، حتى يقال : إنه قد استغنى في ذلك عن
الدين ؛ لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربي أولادها على الإلحاد ، وإننا نعرف بعض
هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم ، ونعلم أنهم كانوا في
نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينًا واتباعًا لآداب دينهم وفضائله ، ثم طرأ عليهم
الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي
نشأوا عليه ، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان وآرائه ، ولكن لا يوجد فيها ما
يقبح له الفضائل والآداب الدينية أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها ، وإنما
يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين : كالقناعة بالمال الحلال ، فيزين لصاحبه أن
يستكثر من المال ولو من الحرام ؛ كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقي ما
يجعله حقيرًا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن وكالعفة في الشهوات ، فيبيح له
من الفواحش ما لا يخل بالشرط المذكور آنفًا ، هذا إذا كان راقيًا في أفكاره وآدابه ،
وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث
والنسل إلا القوة القاهرة ، ولولا أن دول أوربا قد نظمت فرق المحافظين على
الحقوق من الشحنة والشرطة ( البوليس والضابطة ) أتم تنظيم ، وجعلت الجيوش
المنظمة عونًا لها عند الحاجة ؛ لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال ، ولعمت بلادها
الفوضى والاختلال ، وقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير
وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيًا في الآداب والأحكام ؛ فتبين بهذا أن
طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا ، على أن السياق هنا ؛ قد جاء لما يتعلق
بالسعادة الدائمة في الحياة الأخرى .
(13/913)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

فبراير - 1911م


***
( إصرار جريدة العلم على الإرجاف )
أرسلنا المقالة الأولى من هاتين المقالتين إلى جريدة العلم ، وعزمنا على أن لا
نرسلها إلى غيرها إذا هي نشرتها ؛ لأنها رد عليها ؛ أرسلناها مع صديق لنا
ولزعماء الحزب الوطني ، فوعد الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير العربي
يوم الاثنين 15 المحرم بنشرها والتعقيب عليها ، ثم أكد الوعد يوم الثلاثاء واعتذر
عن التأخير . ولكن بلغنا أنه حصل خلاف بينه وبين محمد بك فريد رئيس الحزب
الوطني في أمر نشرها ، فكان رأي رئيس الحزب أن لا تنشر لأنها تفيد المشروع
قوة والمراد سحقه قبل أن يقوى ، وكان رأي رئيس التحرير أن تنشر ويعقب عليها
بشدة تقوي الشبهة في المشروع وتزيده وهنًا على وهن ، وقد انتظرت إلى يوم
الأربعاء ، فلما رأيت جريدة العلم خلوًا منها ، أرسلتها مع المقالة الثانية إلى جميع
الجرائد العربية في مصر والإسكندرية في مساء هذا اليوم .
***
( المقالة الثانية للعلم )
وفي صبيحة يوم الخميس 18 المحرم ، صدر العلم وفيه المقالة ، وفي فاتحة
باب الحوادث والأخبار منه ثلاثة أعمدة في سبي وشتمي ، ووصفي بالعجز
والضعف ، مع الإرجاف والإيهام بقوله : ( ولو أن العلم شاء لبسط للناس ، كيف
ذهب صاحب المشروع الذي هو ( أقدس وأفضل عمل ديني ) إلى السير غورست ؛
ليعرض عليه مشروعه فيحظى برضاه ، وينال إسعاده . ولو شاء العلم لبين للناس
ما في ذلك من المخازي والمآرب المكنونة .
لو كان في هذه الشتائم والأراجيف شبهة على الموضوع لنشرناها ، كما نشرنا
مقالة العلم الأولى على وهنها وضعفها ، ولكن فيها أمرين يحسن ذكرهما والجواب
عنهما ، أحدهما : الإرجاف بعبارته التي نقلناها آنفًا ، والثاني : تخطئة العلم إياي
بقولي : إنني كنت أتوقع مقاومة بعض رجال الحزب الوطني في هذا المشروع ،
كما كنت أحذر مقاومتهم إياي في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد .
أما الأول فأقول فيه : إنني لم أذهب إلى السير غورست لأحظي برضاه وأنال
إسعاده ومعونته على المشروع كما أرجف الكاتب ، وأصرح بأعلى صوتي أن غاية
ما أرجوه وأتمناه من الإنكليز أن لا يقاوموا المشروع في مصر والهند ؛ لأنني أرجو
من مساعدة المسلمين في هذين القطرين ما لا أرجوه من غيرهما ، فإذا قاومه
الإنكليز فيهما ، فلا شك في أنه يفوتنا من المساعدة ما لا غنى لنا عنه ، على أنه لا
يوجد عاقل في الدنيا يقول إن طلب المساعدة على عمل نافع ممن لا نفع له فيه نفسه
ولا لقومه يخرج ذلك العمل عن وضعه ، ولا سيما إذا كانت المساعدة المطلوبة سلبية
كعدم المقاومة ، مثال ذلك الجمعية الخيرية الإسلامية طلبت المساعدة في السنين
الخالية من العميد الإنكليزي ومن غيره من الأجانب ، وكانت ولا تزال تأخذ من
هؤلاء في كل سنة شيئًا من النقود فيما أعلم ، فهل صارت الجمعية بذلك خادمة
للإنكليز وضارة بالمسلمين ؟ ؟
ونحن لا نطلب من غورست ولا من غيره من الأجانب ولا غير المسلمين من
الوطنيين مساعدة مالية ولا أدبية ، وإنما نطلب منهم أن لا يكونوا ضارين لنا ولا
مقاومين لمشروعنا كما يقاومه بعض المسلمين ، ولا يبعد أن ننال هذه الأمنية
السلبية منهم ، فقد قال الأستاذ الإمام وحلف على قوله بالله : إنه لم يقم بمشروع ينفع
المسلمين ووجد له مقاومًا فيه من الإنكليز ، ولا من القبط ، ولا من نصارى
السوريين ، ولكنه لقي المقاومة في كل مشروع أراد به خدمة الإسلام من المسلمين
أنفسهم ، أقول : ومن ذلك أنهم وشوا بالجمعية الخيرية إلى الإنكليز ؛ بأنها تمد
مهدي السودان بالمال ليحارب به مصر والإنكليز ، وهاجت جريدة اللواء عليه
وعليَّ اليهود عند تفسير بعض الآيات المتعلقة بهم في كتاب الله عز وجل .
إذا أثبتنا لرئيس تحرير العلم أن شيخ الأزهر أو بعض أعضاء إدارته زار
الوكالة البريطانية ولورد كرومر ، فهل يعد هذا حجة على كون الأزهر صار خادمًا
للإنكليز ، وقد علمنا ونحن في الآستانة أن بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي
يختلفون إلى بعض السفارات ؛ كاختلاف حسين جاهد بك وإسماعيل حقي بك بابان
إلى سفارة روسية ، فهل يسمح لنا محرر العلم المنطقي أن نستدل بذلك على خيانة
الجمعية للدولة العلية ؟ ؟
وأما الثاني فسببه أن مدير جريدة اللواء كان مقاومًا لي منذ سنته الأولى
وسبب ذلك أنني انتقدت عليه عند ظهوره أمرًا ضارًّا ، فقلت في ص607 من مجلد
المنار الثاني ما نصه :
( وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال ، وهو الإرجاف بأن بعض الناس يسعون في
إقامة خلافة عربية ، كأن الخلافة من الهنات الهينات ، تنال بسعي جماعة أو
جماعات ، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف .
( مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد ، وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا ، والرابطة بين الترك والعرب هي ( كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير ) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية ، فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده ، وإن كان أحد يطمع في ذلك فهو
الشيطان .
( ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان :
رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب
الضخمة ، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين ؛ بإيهامهم أن منصب
الخلافة ضعيف متزعزع ، يمكن لأي أمير أن يناله ، ولأية جمعية أن تزحزحه عن
مكانه ، ليزيلوا هيبته من القلوب ، ويقنعوا نفوس العامة من الأغرار بإمكان تحويله
في وقت من الأوقات ، وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا )
... إلخ .
هذا ما كتبناه في الانتقاد على اللواء عند ظهوره أي : من إحدى عشرة سنة
وشهور ، وإنه لم يظهر لنا في كل هذه المدة أن الأجانب اشتغلوا بهذه المسألة ، بل
الذي ظهر أن الإرجاف والإفساد لم يكن إلا من الطامعين في دنانير السلطان عبد
الحميد وأوسمته ورتبه ، المتوسلين إليها بدعوى الإخلاص له ولدولته ، أو الانتقام
ممن يسلطون عليهم عقارب سعايتهم ، ومن يريد بالمسلمين سوءًا من الأجانب ، لا
يحتاج إلى سعي ولا عمل ؛ فحمقى المسلمين يكفونه كل سعي .
كبر انتقادنا هذا على جريدة اللواء في ذلك الوقت ، فصارت كلما سنحت
الفرصة ، تنتقم منا ضروبًا من الانتقام ، حتى إنها نشرت في سنة 1323 مقالة في
العدد ال1754 ، ثم بعد أسبوع نشرت مقالة أخرى في ع 1762 ، زعمت أنها
جاءتها من جاوه تؤيد المقالة الأولى وتستدرك عليها ، توهم قراءها بذلك أن في
جميع البلاد الإسلامية أفرادًا يشايعونها على الطعن فينا ، ولم يخطر لمديرها ولا
لمحرريها ولا لمصححيها أن البريد إلى جاوه غدوه شهر ورواحه شهر تقريبًا ،
فكيف يصدق العارفون بتقويم البلدان من قراء اللواء ؛ أن العدد الأول يصل إلى
جاوه ، ويكتب الكاتب ما يكتب في استحسان تلك المقالة والاستدراك عليها ، وتصل
رسالته إلى مصر ، وتنشر ، ويتم ذلك كله في أسبوع واحد ! ! وزاد طعنها فينا
معاداتها للأستاذ الإمام ودفاعنا عنه كما هو مشهور .
هذا التحامل علينا من جريدة اللواء الذي استمر من أول إنشائه إلى سنة
1323 التي أردت فيها تنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد ، وتلك التهم التي كانت
تشيعها عن مسألة الخلافة العربية ؛ لتنتقم بها لدى السلطان عبد الحميد ممن تتهمهم
بها ، وذلك الإطراء الذي كان يطري به مدير اللواء ذلك السلطان المخرب للمملكة ،
حتى إنه قال مرة ما معناه : إنه ينبغي لكل مسلم أن يضيف إلى الشهادتين بوحدانية
الله ورسالة خاتم النبيين شهادة ثالثة بخلافة عبد الحميد ذلك كله كان هو السبب في
حذرنا من مقاومة الحزب الوطني في مشروع الدعوة إلى الإسلام ، وفي مقاومة
سياسة عبد الحميد ومطالبة بالشورى والدستور في ( جمعية الشورى العثمانية ) .
ولو شئت أن أشرح هذه المسألة وأنشر ما صار مطويًا في صحائف اللواء من
مدائح عبد الحميد وتقديسه ، ومن الإرجاف بمسألة الخلافة العربية لأجل التزلف إلى
المابين ، لأمكنني أن أكتب في ذلك مؤلفًا حافلاً ، ولا سيما إذا أضفت إلى ذلك
بعض الوقائع ؛ كإنكار محمد بك فريد على صاحب المؤيد نشره مقالاتي في إصلاح
الدولة العلية منذ ثنتي عشرة سنة ؛ لأن ذلك يسيء السلطان و ..
إن الذين كنت أحذر مقاومتهم وسميتهم الحزب الوطني ؛ هم مدير اللواء
وبعض محرريه ، ومحمد بك فريد وبعض مقلديه ، ولا أعني أحدًا غيرهم ممن
اتصلوا بهم للمطالبة بجلاء الإنكليز عن مصر ، ولجعل الحكومة المصرية دستورية
ولا يهمهم غير ذلك ؛ كالانتقام الشخصي ومقاومة كل مشروع نافع يقوم به غيرهم ،
ومن العجائب أن تطالبني جريدة العلم بالدليل على ما كان من حذري وتوقعي
مقاومة من ذكرت للمشروع في نفس العدد ونفس المقالة التي تقاومه هي فيه ، فإذا
كان رئيس تحريرها ومن على رأيه من المحررين قد نسوا ما نشروه في جريدتهم
منذ أقل من أسبوع ، كما نسي سلفهم الصالح المدة بين تينك المقالتين في اللواء
اللتين أشرنا إليهما آنفًا ، فهل نسوا المقالة التي نزهوا فيها أنفسهم عن المقاومة ؛
وهي ما أنشئت إلا للمقاومة ! ! ! يقولون الآن : إن عندنا ( أقاويل ) أو ( إشاعات )
أو شبهات على أن هذا يراد به غير ظاهر ، وهذا عين ما كنت أحذره منهم من
قبل ؛ إذ المقاومة لمثل هذا المشروع لا تكون إلا بمثل هذه ( الأقاويل ) والأراجيف
( شنشنة أعرفها من أخزم ) .
على أنني كنت أظن في هذه المرة أن زعماء الحزب الوطني لا يقاومون هذا
المشروع ؛ لأن لهم في شغل الحزب ، وقد تكوّن ونمي ما يشغلهم عن انتقام هو في
الحقيقة جهاد في غير عدو ، وقد مرت السنين وليس بيني وبينهم ما يسوء ، ولأن
الشيخ عبد العزيز شاويش هو رئيس تحرير جريدتهم ( العلم ) وما كنت أظن أنه
يقدم على الإرجاف بهذا المشروع الجليل ؛ بناء على الأقاويل والأوهام . فإذا كانوا
قاوموا في الحال التي حسن ظني بهم فيها ، فكيف كان يكون شأنهم في الأيام التي
توفرت فيها الدواعي على المقاومة .
هذا ، وإنني أبرئ كل عضو من أعضاء هذا الحزب عن مشايعة اللذين أو
الذين تصدوا للمقاومة ، إلإ من كان إمعة لا روية له ولا استقلال ، وأرجو - وقد بينا
لهم المشروع - أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويتوبوا إلى ربهم ، فإن لم يفعلوا اليوم
فسيندمون بعد ظهور المشروع للوجود ، وقيام حزبهم عليهم باللائمة والتفنيد ، وما ذلك
من المستعجلين ببعيد .
ولا بأس أن نفكه القراء ، وقد استولى عليهم الحزن من خذلان المسلمين
بعضهم لبعض بقول الشيخ عبد العزيز ، وهو يكتب باسم الجريدة التي هي لسان
حزبه فإن كان الذي أغضب الأستاذ نسبتنا تلك الفكرة إلى أستاذنا المرحوم الشيخ
عبده ، الذي كان لا يلقبه في حياته إلا بأمثال : ( الأستاذ الحكيم والأستاذ الإمام ،
وفيلسوف الإسلام ) فليخفف عن نفسه قليلاً ، فإنما أول من جاء بهذا الأمر منزل
القرآن ) ا هـ اقرءوا واسمعوا واضحكوا ! ! ولا تعجبوا من قوله كان يلقبه في
حياته ، وأنتم ترون هذا التلقيب في المنار بعد مماته أكثر ورودًا في المنار .
فمكابرة الحس لا تعد عجيبة من هؤلاء الناس ، ولكن احمدوا الله معي ، إن صاروا
يعترفون بأن الأستاذ الإمام أستاذهم ، فالحمد لله على ذلك بعد أن كان معظم ما نالني
من آذاهم ؛ سببه دفاع تهمهم عنه رحمه الله تعالى كما تعلمون من مجلدات المنار .
أنا لم أقل في ردي عليهم : إن الأستاذ الإمام لم يفكر في هذا الأمر ولا ذكرته ؛
لأن الكلام كان مسوقًا لبيان أن هذا المشروع ليس جديدًا عندي ، فيصدق أنني أريد
أن أخدم به الجمعية السياسية التي لم نسمع بخبرها إلا من العلم ، ولكنني وأنا الذي
نشرت مناقب الأستاذ الإمام في الشرق والغرب أقول : إنني لم أسمع منه رحمه الله
تعالى كلمة تدل على أنه يريد تأسيس جمعية ومدرسة لهذا المشروع في مصر ، ولا
على أنه يتمنى ذلك في الآستانة ، وإنما كان يرجو أن يصلح الأزهر فيكون للمسلمين
منه كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ومنه الاستعداد للدعوة إلى الإسلام ، ولم
أسمع منه شيئًا في ذلك بعد تركه للأزهر .
وأقول : إنني لا أشك في تفكير كثير من مسلمي الأقطار في هذا المشروع كما
فكرت فيه ، وقد أشرت في المقالة الأولى إلى تاريخ هذه الفكرة عندي ، وإلى بعض
ما كتبته من التمهيد لها ، وإنني لم أستقص في تلك الإشارات ، وقد تذكرت الآن حديثًا
في ذلك دار بيني وبين شيخ الجامع الأزهر ، وذكرته في عدد المنار الذي صدر في
شهر المحرم سنة 1319 أي منذ عشر سنوات كاملة ، ذكرت فيه للشيخ شيئًا عن
الجمعيات الدينية في فرنسة وثروتها وأعمالها ، وتوقف حفظ الدين الإسلامي على
مثل هذه الجمعيات المالية التي تجمع بين الدين والعلوم الكونية ، وقلت له هذه العبارة
( وإن هذا ما يدعو إليه المنار ) فليراجع ذلك من شاء في أول ص158 من مجلد
المنار الرابع .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) جاء في الفصل الذي عقده اللورد في تقريره عن السودان سنة 1904 ؛ أنه كتب إلى جمعية التبشير للكنيسة الإنجليزية كتابًا يدعوها فيه إلى التبشير في أقاليم السودان الجنوبية ، ويخبرها أنه خُصص لها قسم كبير من تلك البلاد في الوقت الحاضر ، كما خصصت أقسام أخرى للمبشرين النمساويين والأمريكيين وقال : إنه ذكر في كتابه إلى تلك الجمعية الجملة الآتية التي أوردها إفادة للقراء من المسلمين ، وهي : (لم يطلب أحد حتى الآن رخصة لإنشاء مدارس في جنوب السودان على نفقته ؛ تعلم فيها فرائض دين الإسلام ، ولو طلب أحد طلبه لحل طلبه محل القبول ، أقول ذلك إظهارًا لخطة الحكومة ودفعًا لكل وهم ، فإن غرض الحكومة التعليم والتهذيب لا غير ، فعلى الذين يتبرعون للدخول في هذا العمل على نفقة الجمعيات أو الأفراد أن ينتفعوا من مقاصد الحكومة ، وينشروا معها تعاليمهم الدينية .​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مقالة العلم الثالثة

بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية ، رجعت جريدة العلم عن
الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة
إنكليزية ، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية
بنصها ، وهي :
( مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي )
نشرنا في هذا الباب ما نشرنا ، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من
رجال هذا المشروع ، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط ، ويطرحون
علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان ، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي ، وزورًا من
القول ، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا .
يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب
الديني والجامعة الإسلامية .
طالما رمتنا بذلك ، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها
مآربها من العالم الإسلامي ، فتلزمه السكون والسكوت ، وتقعده عن النشاط
والعمل ، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل ، ولا يرتق له فتق .
طالما رمتنا أوربا بذلك ، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه ، فماذا
كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة
الحكومة الإسلامية ، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية .
وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه
ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم ، وأرباب وفاء لكل معاهد ، هل
استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة ، وأساطيل
مصفحة ، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح ، هل استطاعوا أن ينافسوهم في
ميادين الاقتصاد ، فيستغنوا عن مالهم ، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا
الحاجة إليهم ؟
إذًا ، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة ؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة
لنا - حسان القصد طاهري الضمير ، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم ؟ أَإلَى
أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية ، وهي تلك الدولة التي
لا تغفل عن مصالحها ، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها
أو مخالطة أحد من رعاياها . أم إلى مسلمي جاوه ، وتلك حكومة هولانده قد
أحاطتهم بنطاق من يقظتها ، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم
الأخرى ، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته ، إلا إذا كان هناك من
عيونها من لا يفتر عن مراقبته ، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته .
لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان ؛ ليدخلوا أهله في دين
الإسلام ، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك ، ألا والله لتعتبرن أولئك
الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة ، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن
لهم المشانق ، ولتبطشن بهم بطش الجبارين ، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول
الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى ، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام
كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء .
أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا ، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه
البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها .
أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام ،
وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم
الإسلامي ، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها ، ويدرس اضطرابها وتذبذبها ،
وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام ، فكم من عهد لم توف به ؟
وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها ، ثم قطعت أناملها
ندمًا على ما فرط منها .
اعقلوا أيها القوم ، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة ، وتعجلوا
للمسلمين ما لا قبل لهم به ، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما
صرحتم بذلك ، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم ، ثم إذا
وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم ، ولقد أسلفنا لكم
أنكم إذا ربحتم المسلمين ، وأصلحتموهم ، واكتفيتم بهم ، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم
قليلاً .
إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح ، ولا محاربي العاملين في سبيل
الإصلاح . ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم ، فروينا الذي رويناه ، ولم ندع اعتقاد
شيء منه ، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها ،
وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى ، فأدخلوا فيه
ما شئتم من مواد الدراسة ، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد ، وهداية العامة من
المسلمين وغيرهم إلى الحق ، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه ، ولا
تستمسكوا بالألقاب والأسماء ، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم ، فقد نمتم عن قوم
لا ينامون ، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون ، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه
المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء .
هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع ، أما النفر المتعصب
لرأيه المتنطع في قوله ، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة ، فليأت العقلاء
المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية ،
وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها
الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء ، وليتقوا الله في العالم الإسلامي ، فلا يجلبوا
عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون .
( الرد على هذه المقالة )
بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع
التعقيب عليها :
( 1 ) إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط ،
ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان ، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور
من القول ، كل هذا صرحت به العلم ، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب
الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء ، بل
ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من
الأحزاب بالإنكار والاستهجان ، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم
التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها ؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو
جريدة تكتب بمداد من السمّ ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته
ويسكتون في وجهه ، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه ، لتبين له
أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس
خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور ، وإنما يمكن أن
يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية . ويغلب على ظني أن في
المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني ، ولولا ذلك
لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا .
( 2 ) تقول جريدة العلم اليوم : إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني ،
وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم ، وإن هذه
الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين ، فلا ينبغي أن تكون . ونجيبها عن ذلك
بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع
ملتهم ، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو
دفع تهمتها . قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا
المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها ، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب ، وهو تحصيل حاصل ؟ ؟
( 3 ) تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار ؛ إلى أين نرسل خريجي هذه
المدرسة ، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان ،
وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم
المخصوصة ، وتنصب لهم المشانق ، وتبطش بهم بطش الجبارين . يريد الكاتب أن
يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون
في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان ؛ هما اللتان حملتاه على هذا
الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية ، فأبرز إنكاره أولاً
بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة
إنكليزية ، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين ، ويجعلوهم عبرة
للمعتبرين ، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين ! ! ! ،
ونجيبه : أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين ، الذي لا يعادي الإصلاح
والمصلحين ، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل ،
وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل ، لا يبيح له
ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة .
ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن
قال الله فيهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذَابِ اللَّهِ } ( العنكبوت : 10 ) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم .
رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان : إن الحكومة
هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه ، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها
الإذن له بهذا ولم تأذن له ؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة
العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز ، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز .
خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني ؛ هو السياسة في
الغالب ، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية
على وجه ينافي الوحدة الإسلامية ، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط ، يتهمون
هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي
دينية ؛ تقيم حجج الإسلام ، وتردد شبهات النصارى وغيرهم ، وتقيم الحجة عليهم ؛
لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة ، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل
قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله ، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين ،
بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها . وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني
العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات
أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين ، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء
المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا ، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين ،
وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة
الحكومات .
وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر
المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين ، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين
بالإرشاد ، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام ، نكون قد عملنا أفضل الأعمال .
وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد
دول الصليب كما ادعى ، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة ،
ويقول : إن ذلك محله الطبيعي ؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه
بالدولة العلية ، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه ، وليعلم أن هذا هو
السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا
أشتغل بالعمل هناك ، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا ، ولم يكن له
صبغة رسمية .
( 4 ) تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا
اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء ، ونجيبها نعم .. إننا
أردنا ذلك ، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير
في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل ؛ هو الذي حال بيننا وبين
ما نشتهي من السكون والسكوت ، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة
والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته ،
ومورد رزقه وعنوان جاهه .
( 5 ) ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا ،
فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا ، كتب هذا
بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص ، فلم ينشرها وبعد أن
نشرها المؤيد ، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد ؛ كالأخبار والأهالي ،
وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا ، وليس هذا ببدع من إرشاد
جريدة العلم ، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو
منصوص في ذلك القانون ؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره
مرشدًا للحكومة والأمة ، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل ، وتارة من
الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة ، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي ،
أن يكون إرشاده من العبث واللغو .
( 6 ) أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته ؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد
المدرسة في الأزهر ، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة ، ونبأنا أن نقيم معهدًا
خاصًّا لما أردناه ! ! وهو يجهل أو لا يجهل ( الله أعلم ) أن امتثال أمره ليس في
أيدينا ، ولا مما يدخل في استطاعتنا ، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز
الضعيف صاحب المنار ، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا ،
وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته ، واعتزازه بحزبه ، ولكنه نسي مع
ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في
الأزهر ، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة
العامة ، في هذه المسألة الخاصة ، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير ، إن كان مُصرًّا
على مقاومة هذا العمل الشريف .
( 7 ) ناقض العلم نفسه كعادته ، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا
بالأعمال لتي تحتملها السياسة ، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس ( على شريطة أن
لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء ) ،
ونهاهم ( أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل
به ) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال
المشروع أو عنوانه الدال عليه ، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن
المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم
الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد ، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون
المعاني والحقائق . وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم
كباطنهم وقولهم كفعلهم ، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن
أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من
الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم ، يرسلونهم إلى أحوج
البلاد الإسلامية إليهم ، ثم إلى البلاد الوثنية ، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية
من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة ، وسيسيرون على سنة الله تعالى في
أمثالهم من المصلحين ، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره
الكافرون ، وكان وعده مفعولاً في كل حين .
وقصارى الكلام ، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد ، وأسرفت في
البعد عن الحق ، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض ، بما لا يقبله إلا من اتبع
كل ناعق فيما يقول ، لحرمانه من حرية الفكر ، وعطله من حلية استقلال
الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة ، بحيث
يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز ، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من
الضعف بحيث يجزم الكاتب ، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء
العذاب ! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص ، وناقض نفسه عدة مرات ، ثم
تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله ، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر
مقالتنا الثانية ، وجعل النصيحة بيننا وبينه ، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن
يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله ، ولا يقفو ما ليس له به علم ؛ عملاً بكتاب
الله عز وجل ، وليقل خيرًا أو ليصمت ؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه
وسلم ، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من
الإصرار على الباطل ، كما هي سنة السلف الصالح ، فإن قبل النصيحة عاد
من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث
عليه والترغيب فيه ، ويكون عمل بحديث : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق
الناس بخلق حسن ) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ . وحينئذ يجعل
النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة
الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم ؛ الذين لا
يقصدون به الرياء والدعوى . وإن أخذته العزة بالإثم ، ولم يعمل بهذه النصيحة
فحسبه غروره وتغريره ، وعاقبة عدوانه ومصيره ، وحسبنا الله فهو أغيرعلى
دينه من جميع عبيده المؤمنين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين .
(14/59)
 
صفر - 1329هـ
مارس - 1911م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

أقوال الجرائد في الجمعية ومدرستها

( مدرسة التبشير الإسلامي )
كتب الشيخ عبد العزيز شاويش في هدايته تحت هذا العنوان ما نصه :
عز على نفر لم يتح لهم التربع في دسوت المناصب في الحكومة العثمانية أن
لا تكون هذه المناصب وقفًا عليهم ، يلونها دون أولئك الذين أهلهم لها ما عهد فيهم
من اختبار تام ونزاهة وافية فضلاً عن خلوص نفوسهم من شائبة الأغراض
وتمسكهم بأهداب الدستور الذي ركبوا في طلبه الأهوال ولم يضنوا عليه بإنفاق
الآجال . عز عليهم أن لا تكون مناصب الدولة وفقًا عليهم يلونه أو تراثًا لهم
يتقاسمونه فنقموا على الدستوريين أنهم أخفقوا سعيًا وأسروا ذلك في نفوسهم ثم
طفقوا يعالجون طلب الوظائف تارة بالدهان والملق وطورًا بالتهديد والوعيد ، وقد
فطن رجال الدولة وأرباب الحل والعقد ثمت إلى ما يضمر أولئك النفر فما أجابوا
لهم مطلبًا ولا أنالوهم مأربًا .
عز على أولئك النفر أن يحال بينهم وبين شهواتهم وهالهم أن يفطن إليهم
رجال الدولة فجعلوا يبيتون لها الشر ويضمرون لها الكيد ناسين أو متجاهلين أن
منارها هو منار الإسلام القائم وذمارها ذماره المهيب وحرمها حرمه الممنوع وعلمها
علمه المرفوع .
زين لهم أمثالهم من الرجعيين الذين لا وازع لهم من وجدان أو دين أن يسعوا
في تمزيق شمل الجامعة العثمانية كل ممزق ويتراموا في أحضان أولئك الذين لا
يريدون بدولة الخلافة الإسلامية خيرًا انتقامًا لأنفسهم مما نالهم من الفشل ولو علموا
أنهم بذلك يحاربون الله ورسوله لما نقلوا لتحقيق مأربهم قدمًا ولا أجروا فيه قلما .
أراد أولئك النفر وهم خارجي ورجعي ودعي أن يكيدوا للدولة خلف ستار من
مشروع قبح باطنه بقدر ما حسن ظاهره وهو مشروع ( مدرسة التبشير
الإسلامي ) .
مرحبًا بالغيورين على الدين وهم أضر عليه من أعدائه؟ مرحبًا بأنصار
الدولة وهم ألدّ خصومها ؟ ؟ مرحبًا بالذين أدنفهم الهوى بالخلافة الإسلامية وهم
أعداؤها المستترون ؟ ؟
لبس أولئك الجماعة لمشروعهم لبوسه ، وظهروا في مظهر من يغارون على
الإسلام ، ويعنيهم ألا تقوم للفتنة قائمة ، والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد أنهم دعاة
فرقة وفتنة وضلال .
وإلى أولئك النفر اجتماعهم خفية غير مبالين ما تجلب مقاصدهم السافلة من
الخطر على الإسلام ، والويل على الدولة المؤيدة بعناية الله وقلوب المسلمين في
جميع بقاع الأرض ، ثم أخذوا يهمسون بمشروعهم همسًا ، ويعمون على الناس
تعمية ، موهمين أنه لا يراد منه إلا أن يخرج للناس مبشرين يبشرون بالدين
الحنيف ، والذي نعرفه وإن أنكروه ، وقد قلناه قبل اليوم وإن جحدوه ؛ إنهم أرادوا
أن يثيروا ثائرة القلوب الضعيفة إيمانها على دولة الخلافة المعتزة بآل عثمان ،
ويعينوا الإنجليز على تفسير ذلك الحلم الذي طالما حلموه ؛ وهو إقامة خلافة عربية
يختارون لها من يبغون ؟ ؟
ذلك ما يبغونه وإن تظاهروا بإنكاره ، وقد أراد الله تعالى أن يقرن سعيهم
الخبيث بالفشل الحثيث ، ويقتله فكرة في الرؤوس ، فما ظهر إلا في نطاق من
الشبه والريب التي لا تدفع . قد راب المسلمين أن يتسارّ من عرفوهم قبل اليوم
خارجًا على الدولة الدستورية ، يقلب حسناتها سيئات ، ورجعيًا ينتحب على فوات
عهد الاستبداد ، وطامعًا لم ينل غرضًا فجعل الدولة غرضًا يصوب إليه السهام فترتد
إلى نحره سراعًا ، نعم .. راب المسلمين أن يتسارّ أولئك النفر الذين يعرفون
بسيماهم ، وقد أهاب بالأمة داعي الحق منذرًا بما يسعى إليه هؤلاء المفتونون ،
محذرًا مما يضمرون ويبيتون ، وقد جعلوا بعد أن كشفنا الستار عن مخبآتهم يكتبون
في - صحيفة النفاق - ما يظنونه ردًا علينا ، ما هو إلا الخذلان على أنفسهم ،
يجلبونه ، والخزي على ذواتهم بأيديهم يسجلونه ، وقد حاولوا أن يستنفروا العرب
المسلمين ، ويستعدوهم علينا بدعوى أننا تهمهم جميعًا بالخروج على الدولة ، وما
اتهمنا منهم إلا نفرًا في مصر يعرفون أنفسهم كما يعرفهم الناس .
يريدون أن يلقوا في النفوس بذرًا من الكراهية لدولة أعزت الإسلام ، وجمعت
أمر المسلمين ؛ ليشب المفتونون بهم على البغض لدولة الخلافة المعتزة بآل عثمان -
خلدها الله فيهم - ويتسنى لهم إذ ذاك فيما يزعمون أن يقيموا خليفة عربيًا يقلبه
الانكليز في أيديهم فيتقلب ، ويتخذونه آلة لتنفيذ أغراضهم ، وما تخفى على أحد تلك
الأغراض .
ثوبوا أيها المضلون إلى رشدكم ، وأقبلوا على أنفسكم فحاسبوها ، أشرًا تدبروا
للدولة أم خيرًا بها تريدون ، وفتنة تلك التي تحاولون أن تثيروها أم هي خدمة
للدولة أنتم مزلفوها ، وقربة تتقربون بها إلى خليفة رسول رب العالمين .
فكروا طويلاً أيها المقدمون على ما تجهلون خطره ولا تعرفون ضرره لقد
نقلنا لكم من قبل ما يحيط مشروعكم من الريب والظنون ، وقلنا لكم لا ينبغي أن
يكون مثل هذا العمل الذي قدر له اثنا عشر ألفا من الجنيهات بلا كلفة ، والذي
تزعمون أنه أعظم خدمة خدم بها الإسلام مما يدبر خلف ستار ، ولا أن يكون
القائمون به من خصوم الملة والدولة ، ولا أن يسبق الشروع فيه طوافكم ببعض
القصور ، ولا أن تأبوا إشراف شيخ الإسلام عليه ، ولا أن تنشأ مثل هذه المدرسة ؛
لما نعلم من سيئ الأغراض وسافلها . فقلنا لكم ذلك كله ، فما خشيتم لله حسابًا ، وما
زدتم على أن جعلتم السباب جوابًا .
أتكيدون لدولة الخلافة أيها المضلون هذا الكيد على أعين المسلمين ؟ وهل
ضعف إيمانكم ورشدكم إلى حد أن تعملوا على إيقاظ فتنة ، وشق وحدة ، وتمزيق
كلمة ، وتفريق شمل مجموع ؟ أليست هي دولة الخلافة تلك التي تحاربونها ،
والرابطة العثمانية التي بالتمزيق تريدونها ؟
ثم ألا تتقون الله أن تجمعوا على المسلمين كلمة دول الصليب ؛ إذ توهمونها
أنكم متعصبون بالمعنى الذي تفهمه الدول لا بالمعنى الصحيح ؟
اللهم أرشد بصائر عن سبيل الحق عميت ، وألهم السداد قلوبًا إلى ما هو
شر نزغت ، وزد المسلمين يقينًا بأن تلك النزغات محاربة لك ولنبيك ودينك
وخلافتك وأمتك ، وأفض على الدولة العلية من عنايتك ورعايتك ما يمنعها من كيد
المفرقين وشر المضلين .
***
( وهنا نقل الشيخ شاويش عبارة في المشروع من جريدة الحقيقة البيروتية ،
كتبها محرر مصري اغترارًا بما كتبه الشيخ شاويش في جريدة العلم ، ولما علم
أصحاب الجريدة بأن جريدة العلم تعني مشروعنا ، رجعوا عما كتبوا وأثنوا على
المشروع ، وعلموا أن ما كتب في العلم إفك وبهتان . وسيأتي نص ما تنصلت به في
ص129 . ثم قال ) .
فعلى ما يظهر من هذا المشروع الجديد المستور بسجوف التعمية والدهاء ؛ أن
صاحب المؤيد يريد اليوم أن يعمل على تأييد هذه الفكرة وإعلانها في ثوب التبشير
الإسلامي ؛ ليتمكن هو وأنصاره من تنفيذ ما بيتوه في ضمائرهم السيئة ، وذلك
بإعلان رغائبهم الممقوتة في طول البلاد العربية وعرضها تحت هذا الستار بطلاء
الخبث والحيلة ، فينقلب كيان الدولة العلية من آثار التفريق الذي هو بيت قصيد
الخوارج المعروفين في مصر لكثير من الناس .
من في مصر من الأعيان وأصحاب الأموال يقدم على هذا المشروع ويرضى
بالاكتتاب فيه ، مع كثرة الشكوك والظنون حوله ، وإجماع الناس على أنه ما وضع
إلا لتمزيق الرابطة العثمانية ، وتبديل وفاقها شقاقًا ، وليجر عليها مالا يرضاه لها
من المغبة كل عثماني تجري في عروقه قطرة من الدم ، وكل مسلم في قلبه ذرة من
الإيمان ؟
اللهم ، إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لهذا المشروع
المجهول برنامجه ، المجهول رئيسه وأعضاؤه ورجاله العاملون غير ( العابد )
وفائق المابينجي ووالخ ؛ من رجال الدور السابق الذين تواطنوا مصر في هذه
الأيام الأخيرة ، ممن لا يهدأ بالهم ولا يستقر حالهم إلا بالتفكير فيما يكدر سلام الدولة
ويوقعها في هوة المصائب والفتن ، فيصطادوا بعد ذلك في الماء العكر ، ويحققون
وعدهم لطالب الزعامة المنتظرة ! ! !
نحن لا نقول غير ذلك ما دام هؤلاء القوم ينكرون مبادئ مشروعهم ،
ويسترون عن الناس أغراضهم وحقيقة مقاصدهم من وضعه ، وإلا فما معنى هذا
الكتمان إذا كان حقيقة نافعًا للعالم الإسلامي ؟ ولماذا تجهل مقدماته وتغمض أسماء
القائمين به كما يقولون ، والأعمال النافعة التي يراد تأييدها ونفع العالم بها ، لا
يجوز أن تدغم تفاصيلها ، وتطمس عن عيون الناس فوائدها ؟ ؟ هذا ما نقوله الآن
ممسكين عن بقية ما لدينا من المعلومات حيت يتبين غث المشروع من سمينه ؛ إلخ .
***
( المنار ) تبين بهذه المقالة أن ما كتب في جريدة العلم عن هذا المشروع
الجليل ، قد كان كله بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش ، ولا ندري أكتب هذه المقالة
بعد أن بينا له حقيقة المشروع ، حتى اضطر إلى النكوص على عقبيه وتكذيب نفسه
في جريدة العلم أم كتبه قبل ذلك البيان ، فإن كان كتبها بعد البيان ، فهو مُصر على
الإرجاف حسدًا وتملقًا لمن لا يغني عنه من الله شيئًا ، ولا يفسر حينئذ رجوعه في
العلم ثم سكوته إلا بإكراه أهل الغيرة الدينية من رجال الحزب الوطني إياه على ذلك ،
وقد بلغنا أن هؤلاء قد ضاقوا ذرعًا بقلم شاويش الذي أهان الحزب بسبابه
وشتائمه ، وفتح في وجهه أبواب السجون وهم يحبون إخراجه من حزبهم ، ولذلك
لم ينتخبوه في هذه السنة لعضوية مجلس إدارة الحزب على طمعه في الرياسة أو ما
يقرب منها .
وإن كان كتبها قبل ذلك البيان ، كما نحب أن نرجح تحسينًا للظن ، فالواجب
عليه الآن أن يتوب ويتبرأ مما سجله على نفسه في صحيفته ، وليتذكر يوم الحساب
إن كان يخاف الله تعالى أن يقول له فيه : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً } ( الإسراء : 14 ) بل عليه أن يحاسبها قبل يوم الحساب على الجزم بهذه
الأباطيل التي ظهر بها مبلغ صدقه ورويته ، ويكفر عنها بالرجوع إلى الحق
ومساعدته ، كما نصحنا له في الجزء الماضي ولا يكونن من المستكبرين .
عني الشيخ عبد العزيز بمقاومة هذا المشروع الإسلامي الأكبر ، وفكر في
طرق ذلك وقدر ، فكان منتهى شوط ذهنه الوقاد ، وفكره النقاد ، أن يقضي على
المشروع بمقالة ومقالتين ، يجمع فيهما من التهم والشتائم ما ينفر كل أحد من الإقدام
على المشروع فيه ، وحينئذ يصدق الناس جميع ما قال ، ويكفي الكافرين والمنافقين
أمر المقاومة والجدال .
لو وصل عقل الشيخ عبد العزيز إلى معنى المثل العامي ( الذي يكبر الحجر لا
يضرب ) واعتبر به لما كتب الذي كتب ، فقد بنى كل ما قدره وزوره على شفا جرف
هار ، فانهار به في مهواة الخزي والعار ، بنى كلامه على اتهام الذين اجتمعوا
للتشاور في تنفيذ المشروع ؛ بأنهم كانوا يريدون الاستئثار بمناصب الدولة وجعلها
وقفًا عليهم ، وحرمان رجال جمعية الاتحاد والترقي منها ، فلما عجزوا عن ذلك
أرادوا الانتقام من الدولة بإسقاطها ، وأخذ الخلافة الإسلامية منها وإعطائها للإنكليز
( بخ بخ ) ، وقد نبهنا إلى ما في هذا على ظهروه في الجزء الماضي ، على أن
الشيخ شاويش قد رجع عن هذه التهمة في جريدة العلم .
ولو تركنا المشروع ؛ خوفًا من سعاية الشيخ شاويش وإرجافه لصدق الجمهور
الغافل كلامه وإن كان غير معقول ، ولكننا لا نترك ما فرض الله علينا من خدمة
ديننا لمثل ذلك البهتان البديهي البطلان ، وإن إظهار أسمائنا كاف لنسف بنيانه ،
وهدم أركانه ، فإنه لا يوجد فينا أحد يتجرأ الشيخ شاويش أن يقول : إنه خطر في
باله أن يطلب منصبًا من الحكومة العثمانية أو يقبله إذا عرض عليه .
كتب الشيخ عبد العزيز ما كتب ، وكانت الجماعة التي تبحث في تنفيذ
المشروع مؤلفة من عشرة رجال من المصريين الأصليين ، وأكثرهم من الموظفين
في الحكومة المصرية ، ليس فيهم عثماني بحت إلا كاتب هذه السطور ، وليس فينا
أحد يعرف اللغة التركية التي هي شرط لنيل أقل خدمة في الحكومة العثمانية ، دع
المناصب العالية التي اتهمنا الشيخ شاويش بأننا نريد أن نسلبها من أهلها ونجعلها
وقفًا علينا ! ! !
أراد الشيخ شاويش أن يتزلف إلى جمعية الاتحاد والترقي بما كان يتزلف به
أمثاله إلى عبد الحميد من السعاية ؛ ظانًا أنهم يقبلون في هذا الموضوع كل تهمة كما
كان يقبل عبد الحميد ، وما كان عبد الحميد يصدق كل ما يقبله من تقارير أولئك
الجواسيس ، وإنما كان يبني على الاحتياط ، فيقبل أقوال الكاذبين على ظهور كذبها ؛
رجاء أن يصدقوا في بعض الأحيان ، وما عظم الاتحادين من يضعهم موضعه ،
ويتجسس ويسعى لهم بمثل ما كان يتجسس ويسعى له ، وكيف حاله ومقامه عندهم
وعند سائر العقلاء ، وقد ظهر رجال المشروع ، وعلم أن عزت العابد وفائق
المابنجي ليسوا منهم ، بل كيف حاله بعد هذه الفضيحة في خاصة نفسه ، وبينه
وبين ربه .
نذكر الشيخ شاويش بالله ؛ لأنه نسب إلى علم الله ما ليس له به علم ، فقال في
جماعة المشروع : ( والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد ؛ أنهم دعاة فرقه وفتنة
وضلال ) ، وقال بعد أن زعم أن المشروع قدر له اثنى عشر ألف جنيه : ( اللهم ،
إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لها هذا المشروع المجهول رئيسه
وأعضاؤه ورجاله العاملون غير ( العابد ) وفائق المابينجي ووالخ ) ، وهكذا يذكر اسم
الله ويفتات على علمه ، فهل راقبه في ذلك مراقبة المؤمنين الصادقين ، قال
الفقهاء : إن إسناد الشيء إلى علم الله تعالى أبلغ من الحلف به ، وصرح بعضهم
بأن الكاذب في ذلك يكون مرتدًّا عن الإسلام ؛ لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى ،
فهل علم ذلك الشيخ شاويش وفكر فيه .
يتكلم الشيخ شاويش ويجزم ويدعي أن ما قاله في هؤلاء العاملين هو ما يعلم
الله تعالى ، ثم يعترف بأنه لا يعرف أحدًا منهم لا الرئيس ولا الأعضاء ، وأنه
استنبط أنهم العابد وفائق استنباطًا ؛ لأن عقله لم يستطع أن يتصورأكثر من ذلك ،
فيا حسرة على قراء هذا الكاتب الذين يثقون به ، كيف يحشوا أذهانهم بالأباطيل
والأكاذيب ؟ ! ويا لله العجب ، كيف صبر عليه الحزب الوطني إلى هذا اليوم .
***
( ما كتب في مجلة بيان الحق عن المشروع )
( والرد على جريدة العلم )
لما كتب الشيخ شاويش في جريدة العلم ما كتب من الإرجاف بالمشروع وقرأه
طلاب العلم في رواق الترك في الأزهر ، كبر على غيرتهم الإسلامية ذلك ، فكتب
أحد فضلائهم برأي إخوانه مقالة باللغة التركية ، وأرسلها إلى مجلة بيان الحق
الغراء التي تصدرها في الآستانة العلية الجمعية العلمية المؤلفة من خيار علماء
الترك الأعلام في العاصمة وغيرها ، فنشرتها وهذه ترجمتها :
( مشروع مهم )
قام في هذه الأمة الإسلامية رجال مصلحون كثيرون أرادوا أن ينقذوها من
الأدواء المادية والأدبية التي أصابتها منذ سنين كثيرة ، فكادت تذهب بها إلى
حضيض التدني والانقراض ، وقد باشر هؤلاء المصلحون إنفاذ مشروعاتهم بأنفسهم ،
ولكنهم أخفقوا في ذلك ولم يثمر غرسهم .
وممن بذل جهده في هذا السبيل المقدس الأستاذ المحترم السيد رشيد رضا
أفندي صاحب ( المنار ) ، فنجح بمؤازرة كثيرين من رجال الفضل والعقل والدين
في تأسيس جمعية دعوها ( جمعية الدعوة والإرشاد ) ، وغايتها - كما يظهر في اسمها
أيضا - إنشاء مدرسة كبرى ، يتخرج فيها العلماء والواعظون ممن درسوا
علوم الدين خاصة وغيرها من الفنون التي تتطلبها حاجة العصر .
أما قانون الجمعية الأساسي وبرنامج المدرسة فإنهما لم ينشرا بعد ، ولكنا علمنا
من مقالات نشرها السيد رشيد أنهم سيقبلون في المدرسة كل مسلم من أقطار
العالم معروف بالصلاح والتقوى ، ويرجح من أهل الأقطار مسلمو الصين
وجاوة وأمثالهم من سكان البلاد النائية ؛ لأنهم أكثر حاجة للتنور بنور العلم ،
والجمعية تضمن لطلاب مدرستها كل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب ومبيت
وكتب وما أشبه ذلك ، كما أنها تعنى بتربيتهم وتهذيب أخلاقهم بما ينطبق على
الآداب الإسلامية ، وتقوم بمراقبتهم للمواظبة على العبادات والطاعات بكمال الدقة.
وعلى هذا ، فإن المتخرجين في هذه المدرسة سيكون منهم الواعظون
والمربون في البلاد الإسلامية التي عمها الجهل ؛ كالصين وجاوة ، ودعاة في البلاد
التي عمتها الوثنية ، فيدعون أهلها للتدين بدين الإسلام كما يدعون أهل الكتاب في
أوربا وأمريكا إليه ؛ عملاً بقوله تعالى : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّة } ( آل عمران :
104 ) ؛ إلخ . وقوله جل وعز : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ } ( النحل : 125 ) وقد وقعت فكرة السيد رشيد رضا أفندي وزملائه المحترمين
أحسن وقع في نفوس المسلمين ، فارتاحوا لها ، وشكروا القائمين بتنفيذها ، وقد
بدأت الإعانات والهدايا والاشتراكات ترد عليهم من كل طرف .
ومن الغريب أن هذا المشروع بقدر ما سر المسلمين عامة ، قد ساء جريدة
( العلم ) ، فجاءت بما يهيج أعصابهم في التنفير عنه . يقول أصحاب التجارب :
( إن مصر أم العجائب ومصدر الغرائب ) ، وقد علمنا الآن أن هذا القول لم يقل عبثًا
فإن ( العلم ) وهي جريدة إسلامية في الظاهر ، قد خيبت ما كان يظن فيها من
الترحيب بهذا المشروع الخيري ؛ الذي يراد به ترقية العالم الإسلامي مادة وأدبًا ،
وأخذت تشيع عنه الإشاعات الكاذبة والمفتريات المنوعة ؛ لتضل عيون الأمة في
أمور لا يتحملها عقل ولا يقبلها عاقل . من ذلك ما تزعمه من أن القائمين بهذا
المشروع يريدون أن يتذرعوا به لاستقلال العرب وإعادة الخلافة . إلى غير ذلك
مما عزته إليهم ، ولو قام رجل منصف لا غرض له ، وسأل ( جريدة العلم ) فيما
لو قيل عن الحزب الوطني : إنه يسعى إلى استقلال العرب ، بماذا تبرهن على أن
حزبك لا يسعى إلى ذلك ؟ لا ندري بماذا يجيب .
ليقل أصحاب الأهواء الباطلة ما يقولون ، فإن الأمة الإسلامية ستختص السيد
رشيد رضا أفندي وزملاءه الغيورين بمكان خاص من قلبها ؛ ما داموا باذلين
لجهدهم في سبيل السعادة والسلام ، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وستزدان صحف
التاريخ بأسمائهم ، وسيظل العالم الإسلامي مدينا بالشكر لهم إلى الأبد . والله ولي
التوفيق .
***
( مدرسة الدعوة والإرشاد )
وجاء في جريدة الحضارة المعروفة بلسان الصدق والاعتدال التي تصدر في
الآستانة أيضًا تحت هذا العنوان ما نصه :
يعلم القراء أن العلامة الكبير الأستاذ السيد محمد رشيد رضا ، كان قد وفد
على الآستانة ؛ ليدل الحكومة الجديدة على أمر كانت قد نسيته الإدارة السابقة ؛ هو
تأسيس مدرسة لتخريج رجال جامعين بين العلوم الفنية والعلوم المسماة بالعصرية ،
وقد وافقته الحكومة . ولكن بعد إقامتة عامًا تحولت في أثنائه الوزارة ، واضطربت
النية ، رأى أن مصر خير مجالاً لهذا العمل من الآستانة ، فغادرها وقفل إلى مصر
التي هي مطلع مناره الزاهر ، وهناك وجد المساعدين الطيبين على هذا العمل ،
والآن جاءنا منه هذا البيان العام للنشر ، ونرجوا أن ييسر الله له الإتمام عما
قريب .
( المنار : ثم ذكرت الجريدة ما بينا به مقاصد الجمعية ومدرستها في المقالة
الثانية من مقالتي الجزء الماضي ) .
***
( قول جريدة الحقيقة البيروتية )
نقل الشيخ الشاويش ما كتب أولاً في جريدة الحقيقة من الإرجاف الذي تابعت
به جريدة العلم تحسينًا للظن بها ، ولم ينقل ما كتب فيها بعد أن علمت من صحف
مصر الحقيقة ، فرجعت إليها ، وهو ما كتبته في آخر نبذة ثانية لها في العدد الذي
صدر منها في 25 المحرم ، وإنما لم ننشر نحن طعنها الباطل ؛ لأنها كانت
مخدوعه فيه بقول العلم ، فلم نحب أن نسجله عليها مع رجوعها عنه ، وهذا نص
ما قالته :
( بعد كتابة ما تقدم ، وصلنا بريد مصر ، فعلمنا عند مطالعة صحفه أن
صاحب مشروع مدرسة التبشير الإسلامي هو حضرة السيد محمد رشيد رضا منشئ
مجلة المنار ، وأن ذلك المشروع هو الذي كان يريد حضرته مزاولة عمله في
الآستانة عند سفره إليها في الصيف الماضي ، وكنا في مقدمة الذين رحبوا به
واستبشروا منه خيرًا ؛ لعلمنا أن الرجل يغارعلى دينه وأمته ، فلا مندوحة لنا من
مقابلته بالتهليل والتكبير ؛ راجين أن يكون بالصبغة التي عهدناه عليها بعيدًا عن
ظنون جريدة العلم التي تفاءلت به شرًّا ؛ عند زيارة صاحب المشروع للوكالة
البريطانية في مصر ؛ لعرض الموضوع على السير غورست كما تقول ، فلا
نجاريها في هذا التشاؤم ؛ إذ ربما يكون غرض السيد رشيد من زيارة الوكالة
البريطانية لماجريات يضطره إليها نظام الحكومة هناك ، وعلى كل حال نسأل الله
أن يحقق أمل الأمة في هذا العمل ، ويبعد عنا دسائس الأشرار الفجار ) .
( المنار ) لا بد أن يكون أصحاب الحقيقة قد علموا بعد هذه الكتابة أيضًا ؛
أن جريدة العلم لم تتشاءم بالمشروع لما زعمته من ذهابي إلى الوكالة لعرضه على
السير غورست ، وإنما كان بهتانًا افتجرته افتجارًا ، على أن الحقيقة قالت في هذه
المسألة نحوًا مما يقوله ، بل ما قاله العقلاء هنا : وهو أن إعلام العميد بمثل هذا
المشروع من مؤسسة أحسن عاقبة من علمه به من قبل غيره ؛ لاحتمال أن يصبغه
أولئك الأغيار بصبغة سياسية ، تحمل العميد على مقاومته وليست مقاومته بالأمر
الذي لا يؤبه له .
***
( مدرسة العلم والإرشاد )
وجاء في جريدة ( وكيل ) الهندية الشهيرة ، التي تصدر في ( أمر تسر )
في العدد الذي صدر منها في 8 صفر تحت هذا العنوان ما ترجمه .
العلامة السيد محمد رشيد رضا ؛ الذي هو التلميذ الشهير للمفتي الأعظم
المرحوم الشيخ محمد عبده ، والمصلح العظيم لشتات المسلمين ، يريد أن يؤسس
مدرسة عظيمة تكون حاوية لتعليم العلم وحقيقة الإسلام ، وبعد التحصيل يرسل
طلابها لإشاعة فرائض الإسلام في أقطار الأرض ؛ لهذا أقام حضرته في القسطنطينية
مدة سنة ، شاور وباحث في هذا الموضوع كبار أهل الحكومة حتى أجابت الحكومة
التركية مطالبه ، ووعدت بإعطاء خمسة آلاف جنيه في العام بشروط :
( أولها ) أن يكون اسم الجمعية ( انجمن علم وإرشاد ) .
( ثانيها ) أن تكون المدرسة تحت إدارة شيخ الإسلام .
( ثالثها ) أن يكون التعليم فيها بالتركية ، ولكن فخامته رد هذه الشروط وما
قبلها ؛ لأنه يريد أن تكون الجمعية خالية من سلطة الحكومة ، حتى لا تكون مريبة
عند أهل أوربا .
وما دامت تكون الجمعية والمدرسة مشتركة بين جميع المسلمين في الدنيا ،
فأحرى أن يكون لسانها التعليمي العربي ، وأن تسمى باسم عربي ، وسعادته يسعى
الآن في مصر لهذا الموضوع ويجمع نفقاته ، واسم المدرسة دعوة العلم والإرشاد
( الصواب دار الدعوة والإرشاد ) .
***
( في سبيل الإصلاح )
نشرت جريدة المؤيد تحت هذا العنوان أربع مقالات بإمضاء محمد شكري
بالإسكندرية ، ولعله كاتب مشيخة المعاهد العلمية هناك ، وقد أفرع الكاتب مقالاته
الإصلاحية الإسلامية في قالب محاورة في جمعية إسلامية ، وجعل الرابعة منها في
مشروع الدعوة والإرشاد وهذا نصها :
( مشروع الدعوة والإرشاد )
كان آخر المقال السابق نهاية الخطبة التي كلفني حضرة مولانا الشيخ الرئيس
بإلقائها على مسامع السادة الإخوان الموجودين بالجلسة المباركة التي انعقدت بهم
للنظر في شؤون المسلمين وأحوالهم ، وكنت أرى علائم الفرح والارتياح لما ألقيه
على مسامع حضراتهم بادية على وجوههم ، ظاهرة على محياهم ، خصوصًا لما
كان دائرًا حول النقط الآتية التي لو نفذت لأمكن انتشال المسلمين من وهدة سقوطهم
وهوة خمودهم وجمودهم إلى أوج العز والسؤدد والسعادة والفخر الأثيل ، وتلك النقط
هي :
( 1 ) رفع غياهب الجهل عن أذهان المسلمين ، وتثقيف عقولهم بالعلوم
والمعارف .
( 2 ) ترك الخمول والكسل والجمود وضعف العزيمة جانبًا .
( 3 ) وجوب تصدر العلماء لقيادة الأمة الإسلامية بآرائهم وإرشاداتهم .
( 4 ) محاربة البدع بالسلاح الماضي المناسب للوقت الحاضر .
( 5 ) معاقبة من يخالف أوامر الدين ، مهما كان مركزه معاقبة شديدة ،
تجعله عبرة لغيره ، حتى لا يتجارى الغير على إتيان فعله أو على الافتداء به
( 6 ) الدفاع عن الشريعة الغراء ، ودحض قول كل معتد أثيم يتقول عليها
بالباطل ، ويرميها بالبهتان .
( 7 ) القيام بالدعوة إلى إعادة عرى الألفة ، حتى يكون المسلم لأخيه
كالبنيان ، يشد بعضه بعضًا . هذا , وما انتهيت من خطابتي ونزلت من على منبر
الخطابة ، حتى صعد عليه خطيب مصقع من حضرات الأعضاء ، فابتدأ وقال :
( بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله
الكريم ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد : فلقد أجاد السيد وأفاد في خطبته ،
وأطرب بأفكاره مسامعنا وأعجب . وإننا لنشكره على غيرته الدينية وجمعيته
الإسلامية التي من أجلها تكبد شأن السفر فجاءنا ، وما جاء إلا واعظًا مرشدًا وبشيرًا
مذكرًا .
على أننا مع موافقتنا على ما جاء في خطبته من ذكر أسباب تأخر المسلمين ،
وأدواء انحلال عصبيتهم ، ووصف الدواء المعافي لهم من مرضهم والبلسم الشافي
لجسمهم من سقام تأخرهم وتفرقهم وانحطاطهم ، الأمر الذي سنعمل به ونأخذه
نموذجًا نسير على دربه ، وننسج على منواله .
إلا إننا مع هذا كله لا نوافقه على الطريقة التي يذهب إليها ، ويحضنا على اتباعها لتأليف جامعتنا وتركيب وحدتنا ، فإنه أثابه الله ذهب إلى أنه لبلوغ هذا الغرض ، يلزمنا أن نقوم في مشارق الأرض ومغاربها لدعوة الناس لها .
وإني لأعجب ؛ كيف يفوته ما ذكره في سياق كلامه في خطبته الفيحاء ؛ من
أن الأكثرية في الأمة الإسلامية على ضلال عن الدين مبين ، غير واقفة على أسرار
الشريعة السمحة وما تحويه من الفضائل التي يقف دون إحصائها العد والحصر ،
فيذكر حضرته طلب تعميم هذه الدعوة بين عموم المسلمين ، مع أنه لا يصح القيام
بالدعوة إليها وتعميمها بينهم إلا إذا كانوا على درجة من الرقي والتمدن والتقدم ،
يمكنهم معها فهم معناها ومبناها وإدراك مغزاها ومرماها . أما وهم في الدرجة التي
وصفها من تمكن الجهل فيهم ، وضرب أطنابه بين جموعهم ، فإنني أرى - والحالة
هذه - أنهم الآن في أحوج ما يكون إلى قيام الخطباء والوعاظ والمبشرين والمرشدين ؛
لوعظهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وإصلاح مرافق معاشهم ومعادهم ،
حتى تتنور أذهانهم وتثقف عقولهم ، فيصبحون في استعداد تام لمعاونته ومساعدة
نهضته عند المناداة بها ، والعمل لإبرازها لأول مرة .
فالواجب علينا أيها السادة ، إعداد العدد الكافي من الوعاظ والمرشدين
والخطباء والمبشرين على طريقة عصرية تؤثر في القلوب ، وتملك عليها حواسها ،
فتوجهها إلى ما يرمي إليه الخطيب وينادي به المبشر أو الواعظ ، ثم بث هؤلاء في
بقاع الأرض ، حيث يقومون بإرشاد المسلمين ووعظهم وغرس محبة إخوانهم في
قلوبهم ، فإنه متى تمت هذه المهمة الأولية ، كان من ورائها إبراز المهمة الثانوية ؛
ألا وهي النهضة المدنية بأسهل مما يتصوره المرء وتتخيله الأذهان .
أمامكم أيها السادة النجباء والإخوان الفضلاء ، مشروع يريد القيام به بعض
ذوي الغيرة الدينية والحمية الإسلامية بالديار المصرية ؛ قيامًا منهم بما يفرضه
عليهم الواجب ، ويحضهم على تحقيقه وإبرازه الغرض الديني ، وهو ينطبق على ما
ندعو إليه ونرمي إلى السعي وراء إيجاده وإظهاره ؛ ألا وهو مشروع الدعوة
والإرشاد على نحو ما يفعل المسيحيون ، وغرضهم أيها السادة تخريج مبشرين
دينيين ، يقومون بمهمة التبشير بالإسلام ، ودعوة المسلمين إلى العمل بأوامر دينهم ،
والتمكن من أصوله ، والوقوف على أسراره وخفاياه الكافلة بإصلاح أحوالهم ،
وفتح أبواب الرزق والرحمة أمامهم .
أمامكم تلك المدرسة ، فقوموا عن بكرة أبيكم وعضدوها وأيدوها ، وارفعوا
شأنها ، وثبتوا قدمها ، وانصروا لله بنصرها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ( محمد : 7 ) إنني أناديكم أيها السادة ، وأنادي كافة
المسلمين الغيورين على دينهم بما ينادي به لسان حال الإسلام أبناءه الأمناء
المخلصين ؛ من الأخذ بيده ورفع شأنه ، وإعلاء كلمته ؛ لإرجاعه إلى ما كان عليه
من علو الشأن ورفعة المقام في العصر السالف ؛ عصر فتوته وشوكته بالأخذ بيد
تلك المدرسة التي هي طريق الوصول به إلى مبتغاه ، والعامل الوحيد الذي
بواسطته يبلغ ما يتمناه .
إن الإسلام يا قوم يناديكم جميعًا : أن كدوا وجدوا واعملوا واكدحوا بكل ما في
طاقتكم ومكنتكم ؛ لإبراز تلك المدرسة وإمدادها بالمال الوفير والعقار الكثير ، حتى
تستمر في طريقها وتسير في الدرجة المرسومة لها ، وتفي بالغرض المقصود منها ،
فشمروا عن ساعد الجد ، وأجيبوا نداءه بأن تتبرعوا بالتبرعات المالية اللائقة بتلك
المدرسة الجليلة ، وقفوا الأراضي والعقار لها وتنافسوا في ذلك ما استطعتم ، فإن
ذلك خير ما يتنافس فيه العاملون ، واصرفوا عن أفكاركم وأذهانكم تشويش
المشوشين ، وهتر الهاترين ، ومكابرة المكابرين ، ولا تقيموا لأقوالهم وزنًا ، فإنهم
لا يبغون سوى عرقلة المسعى في إيجاد تلك المدرسة التي اتفقت الآراء على
تحبيذها ، وأجمع الكل على ضرورة إيجادها ، حتى لا يكون الغير قد سبقهم بها ،
وهم الذين يودون أن يكونوا مصدر كل خير وأصل كل منفعة ، ولو بغير حق
وبدون جدارة وكفاءة ، حتى لا ينسب إليهم أحد التشدق بالكلام المزخرف ، الذي لا
فائدة منه للمسلمين ولا عائدة تعود عليهم من ورائه ، فيعيرهم بالمثل السائر ( أسمع
جعجعة ولا أرى طحنًا ) .
ليت هؤلاء المعارضين يثوبون إلى رشدهم بعد ما تبين لهم الحق ، فيسيرون
مع هذا المشروع جنبًا لجنب ، خصوصًا وإنهم من المسلمين الذين يهمهم شأن
الإسلام ، فإننا معشر الإخوان ، والحق يقال : لنحب ونود من صميم الفؤاد أن تكون
كلمة المسلمين في أي شأن من الشؤون التي تعود عليهم بالفائدة متحدة متفقة ، فإن
ذلك أولى لهم ثم أولى وأنفع لمصلحتهم ثم أنفع ، وفي الختام أدعو الله أن يكلل هذه
المدرسة بالنجاح والفلاح ، وأرجو منه تعالى أن يحول حال المسلمين إلى أحسن
حال ، آمين .
وبعد أن نزل الخطيب ، قام الرئيس وقال : ما رأيكم أيها الأعضاء الكرام في
المدرسة التي أشار إليها حضرة الخطيب المتقدم . فقالوا جميعًا : إن إبراز تلك
المدرسة من الضروري اللازم الذي لا يمكن للمسلمين الاستغناء عنه ، وإننا لنرى
أن يصدر من جمعيتنا قرار موجه إليهم ؛ لحثهم على معاونة ومساعدة تلك المدرسة ،
والعمل نحو إبرازها وإيجادها ، ثم اتفق الجميع على نص القرار المشار إليه ،
وكلفوني بإرساله إلى المؤيد الأغر لسان حال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة ،
وهاك هو القرار بنصه وفصه :
من ( جمعية لا إله إلا الله ) إلى كافة المسلمين الموحدين بالله أهل النخوة
والنجدة ؛ إن من الواجب على كل مسلم أن يعمل كل ما فيه انتشار الإسلام وإعلاء
كلمة الإيمان ، والتفاني في ذلك على قدر الإمكان ، كما كان يعمل آباؤنا الذاهبون
الأولون في الصدر الأول من عهد نشأة الإسلام ، وبزوغ شمسه المشرقة ، ولذلك
اجتمعت جمعيتنا وقررت وجوب تعضيدكم لمدرسة الدعوة والإرشاد التي يراد
إنشاؤها بعاصمة الديار المصرية ، بما يكفل لها الاستمرار والنمو ، ويضمن لها
تنفيذ الغرض الذي يراد إنشاؤها من أجله ؛ وهو تخريج مبشرين دينيين ، ينتشرون
في جهات الأرض للتبشير بالدين الإسلامي ، وحض الناس على اعتناق الإسلام ؛
لتخليصهم من عذاب الآخرة الذي يشيب من هوله الولدان ، ووعاظ يعظون
المسلمين ويحثونهم على اتباع أوامر الشرع الشريف ، ولا يخفى ما في ذلك من
صلاح الحال وحسن المآل .
( فالبدار البدار أيها المسلمون ؛ لمساعدة تلك المدرسة بالأموال الطائلة ؛ لأن
المال هو حياة المشاريع والأساس الذي تقوم عليه وتظهر ، والعمل العمل لإبرازها
في القريب العاجل ، واعلموا أنكم إن تقدموا في الدنيا من حسنة فستجزون عليها في
الآخرة أضعافًا ، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال . آمين ) .
... ... ... ... ... ... ... ... عن رئيس الجامعة
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شكري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بإسكندرية
(14/121)
 
ربيع الآخر - 1329هـ
أبريل - 1911م
الكاتب : محمد رشيد رضا

أمير الألاي صادق بك
وجمعية الاتحاد والترقي
يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك ، وما هي مكانته ، وما شأنه
في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين .
في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك ، والناس
واقفون في الحكم له أو عليه ، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به ، سواء
منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم ، وقد ذكرت
على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص
في الآستانة ، فكتب بعضهم جملة صالحة ، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون
فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في
الرجال .
اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك
ومناستر ، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش ، بهذا علا مقام
كل ضابط عثماني ، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم ، ولكن خفي اسم
صادق بك وهو أجدر بالظهور ، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي
يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه ، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد
المنفعة وعباد القوة . وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين ، وانبرى
لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان ، كان خيار رجالهما من الاتحاديين ، ومن
بقي في حزبها أزواج ثلاثة :
( 1 ) بعض الزعماء ( كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد ) ومن استعذب
مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم ؛ لأنه يرى فيها رأيهم ، وهم
الأقلون .
( 2 ) طلاب المنافع ، واتباع كل ناعق .
( 3 ) المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من
خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها .
ورد في الحديث الشريف : ( إن لكل شيء شرة [1] ولكل شرة فترة ، فإن
صاحبها سدد وقارب فارجوه ، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه ) رواه
الترمذي بسند صحيح .
وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه
وإن كان ظاهر البطلان ، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار ،
وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها ، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء
وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها ، ولما تقتضيه
طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات ، ولاستعجالهم في حب
الظهور والاستئثار بجميع الأمور ، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم
بالأصابع ، فلم يلبثوا أن سقطوا ، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا
الحديث الشريف .
رفعت الأمم اسم ( الاتحاد والترقي ) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم ،
فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب ، حتى صار بحرًا
زاخرًا ، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء ، منها ما له قيمة
كالفلك ومنها ما هو كالغثاء ، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في
أعماق البحار ، فلم تهتف باسمه الجرائد ، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني
والقصائد ، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة
وتصرفهما أوامره النافذة ، ألا إن صادق بك هو ( قومندان ) الانقلاب العثماني وموجد
الدستور .
واسأل عن ذلك كتاب ( خاطرات نيازي ) فهو يخبرك اليقين ، { وَلاَ يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ } ( فاطر : 14 ) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم
بالثناء ، وكلهم يعرف له هذا الفضل ، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن
الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة ، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً
ولا وسامًا ، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة
الماضية وسامًا مرصعًا ، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل ، زرت صاحبًا لي
من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد ، فقال لي : لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت
صادقًا هنا ، وقد أخبرني بكذا وكذا . وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى .
إنني لما جئت الآستانة في عام 1327 كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية
المسئول ( أي رئيسها ويسمونه المرخص العام ؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس ،
ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا ) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد ( أو العلم
والإرشاد كما سميناه هناك ) على الصدر الأعظم ، قال لي : هذا مشروع نافع لا بد
منه ، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي ، وسأكلم صادق
بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا ، ودعا حاجبه وقال له : اذهب
غدًا إلى صادق بك ، وقل له : إنني أحب أن أراه ، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا
اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع : إحداهما علمية دينية والأخرى
سياسية إدارية . وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع ، فقال
لي الصدر الأعظم : إن المشروع قد تم نهائيًّا ، فألف الجمعية وتعال أخصص لك
المال اللازم للتفنيذ ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر ( وهو
حسين حلمي باشا ) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية ، وأزيدهم الآن ما هو
المقصود هنا ؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية ، ولماذا ؟
كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة ؛ أن
تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها ، وتكتفي بالمراقبة عليها ، فلا تتعرض
لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال ، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على
منع الضباط من الاشتغال بالسياسة ، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في
خدمة الجمعية ، عول على الاستقالة من الجيش ، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود
شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة ،
وصرح في الخطبة الثانية بقوله : إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية
الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته .
كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة ،
قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة ، فصار
لهم عصبية منهم . ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه
الاستمالة ، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط ، وقد كنت مدعوًّا عنده
في بعض الليالي ، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل ، فكان الواحد منهم
يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه ، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج ،
وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه ، وندع الحديث إلى وقت آخر ،
فاستأذنا وانصرفنا .
كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم
الأخطار التي تهدد الدولة ، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من
أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها ، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت
بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم ، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في
الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط ، وقد وافق
صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر ، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل .
كتب صادق بك استقالته من الجيش ، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط
فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن
يترك طلعت بك نظارة الداخلية ، وجاويد بك نظارة المالية ، وأحمد رضا بك
رئاسة المجلس ؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء
الحكومة ؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد ، فكبر ذلك على هؤلاء
الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض ، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم
الأئمة الوارثين ، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من
إخوانهم الترك . وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم ، وإعلاء كلمة الماسونية ،
والإسراف في نشرها ، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب
والأعمال ، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ .
كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء ، فكانوا منها في أمر مريج لأن
ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس ، ومخالفة صادق بك ليست
بالأمر السهل ، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض
تلك الشروط ؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية
عليها ، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق
بك غير مرة في الليل ، ولم يأذن له صادق بلقائه ، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم
إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة ، وعلم - كما
قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم ، أمنهم من اعتماده
على السيف في ذلك ؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه ، فكيف يكون هو البادئ به ،
وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل ، وكان هذا
آيات إخلاصه الكثيرة .
ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة ، فبعد أن قلبوا وزارة حسين
حلمي باشا ؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد ،
جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه ، فظهر بعد الاختبار أنه
أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا ، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي
باشا ، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى ،
وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض ، حتى
اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية ، فصوبت سهام المعارضة بعده
إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة ، وإلى جاهد بك صاحب جريدة
( طنين ) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه
بعض أدباء الآستانة من الترك ( سفيه القوم ) .
إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة ، وقفت فيها على غوامض سياستها
ومخبآت صناديق أسرارها ، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد ، فقد
عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان
ورجال الحكومة وغيرهم ، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية ، ومنهم الاتحادي
وغير الاتحادي ، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في
هذا المقام :
( 1 ) إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة ،
وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه ، ولا أزيد على هذا في هذه
المسألة .
( 2 ) إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في
أيديهم ، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم
في وزارات الباب العالي وسائر المصالح ، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط
الجيش .
( 3 ) يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة
العليا للجمعية في الحكومة .
( 4 ) يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه
من زعماء الجمعية ؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك ، ومن يليهم في
النفوذ ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك ، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على
أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه ، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل
الاجتماع ممن يسهل إقناعهم ، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري
الجلسة فيه أمرًا ، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة ، فكان إذا حضر الجلسة
ستون وهم نصف أعضاء الحزب ، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي
هم 120 ، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه ، وإنما هو رأي الأقلين
من حزب واحد من أحزابه .
( 5 ) إن هؤلاء الزعماء كلهم من شيعة الماسون ، يجتهدون في نشرها
وجعل رجال الحكومة من أعضائها ، كما ينشرونها في ضباط الجيش ، وقد يكون
هذا تمهيدًا للفصل بين السياسة والدين ، وتجريد السلطان من صفة الخلافة
الإسلامية .
( 6 ) إن من لوازم تشيعهم للماسونية قوة نفوذ اليهود فيهم وفي الدولة ؛
وذلك يفضي على فوز الجمعية الصهيونية في استعمار بلاد فلسطين الذي يراد به
إعادة ملك إسرائيل إلى وطنهم الأول ، وإلى ابتلاع أصحاب الملايين من اليهود
لكثير من خيرات البلاد .
( 7 ) من أهم مقاصد هؤلاء الزعماء ، جعل السيادة والسلطة في المملكة
العثمانية للشعب التركي ، والتوسل بقوة الدولة إلى إضعاف اللغة العربية وإماتتها
في المملكة ، وتتريك العرب مع إبقائهم ضعفاء بالجهل والضغط وذبذبة اللسان ،
ومنع الألبانيين والأكراد من تدوين لغتهم وجعلها لغة علمية . وهذا من المقاصد
السرية التي لا يعترفون بها على استعجالهم بتنفيذه بالعمل وبكتابة جريدة طنين .
ومن آثار هذه السياسة هذه الحرب الطحون في اليمن والبلاد الألبانية ، وقد
كان من أسهل الأمور تنفيذ الإصلاح المعقول في هذين القطرين في ظل السلام
والأمان .
قد وقفنا في الآستانة على كل هذا ، ورأينا أهل الرأي والغيرة من سكان
هذه العاصمة يتوقعون الفتن ويخافون العواقب من سياسة هذا الرهط من زعماء
الاتحاديين ، ولم أحب أن أشرح تلك الأمور وأبين ما فيها من الخطر ؛ بل سعيت
إلى الإصلاح هنالك ما استطعت ، فلم يغن نصحي لهم شيئًا ، ولما عدت إلى مصر
أشرت بلطف إلى ما يخشى من خطر اليهود والماسونية في هذه المملكة الإسلامية ،
وتركت الشرح والتفصيل والتشنيع والتقريع ؛ لأنني لم أر ذلك من الحكمة .
كان صادق بك كل هذه المدة بالمرصاد ، يراقب الحوادث من بعد لا يحرك
فيها قلمًا ولا لسانًا ، ولا يجرد لها سيفًا ، حتى إذا ما رأى قوة المعارضين
للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت ، ورأى أن أهل الاستقلال
والإنصاف من حزب الاتحاد نفسه متبرمون من الحكومة من تأييد أولئك الزعماء لها
ومن سياستهم الماسونية ولوازمها ، حتى إذا ما رأى ذلك خانه الصبر ، وعز عليه
أن يدع الدستور الذي أخذه بقوة يمينه والجمعية التي شرفها بعمله وإخلاصه آلة في
يد هؤلاء الرهط الذين لم يحسنوا التصرف ولم يقيموا الميزان ، فمد يده إلى
المستقلين المنصفين من حزب الاتحاد ، وبذل لهم مظاهرته فيما يقيمون به عوج
أولئك الأفراد ، ويحولون بينهم وبين الاستبداد ، ويصلحون ما حدث في الأمة
والدولة من الفساد ، فاشتدت عزائمهم ، وصاحوا في وجوه أولئك الزعماء تلك
الصيحة المزعجة ، واقترحوا عليهم تلك الاقتراحات المنصفة ، فارتفعت أصوات
التأييد والتفنيد ، فكانت أصوات طلاب الإصلاح أجهر ، وعددهم أكثر ، فأظهر
الزعماء الرضا واجمين ، وذلت أعناقهم لها خاضعين ، ثم ولوا إلى أنصارهم
مدبرين ، ورجعوا إلى ضباطهم مستنصرين ، فإذا ليث الغاب قد انكشف عنه
الحجاب ، ففزع حقي باشا إلى مولانا السلطان ، وقال : إنه لا يكون في العاصمة
صدران ، فإما قبول استقالتي وإما دفع صادق بك بالتي ، وإخراجه من المدينة
ريثما تعود إليها السكينة ، فأوحى إلى محمود شوكت باشا أن يخرج صادقًا ففعل وما
كاد ، ونبأنا البرق أن صادقًا أبى أولاً ثم أجاب .
كان أول ما طرق مسامعنا في هذه الحادثة قول البرقيات العامة : إن الأمير ألاي
صادق بك ( وذكرها بعضهم صدِّيق ) أبى أن يطيع الأمر بالخروج فاستكبرت الأمر ،
واستعظمت الخطب ، ورأيت الناس حولي غير مبالين ، فقلت : إن هذا هو البلاء
المبين ، ولابد أن ننتظر تفسيره إلى حين ، فإن الدولة لم يظهر فيها بعد الانقلاب إلا
رجلان عسكريان : أحدهما صادق بك موجد الدستور ، وثانيهما حامي بيضته وهو
محمود شوكت باشا فاتح إستانبول ، ولكل منهما مكانة في الجيش عظيمة ، فإذا
تصادما وقع الخلل في الجيش وذهبت الثقة بالدولة ، ولا يعلم العاقبة إلا الله تعالى ،
وإني لا أصدق أن صادقًا الضابط المخلص الكامل يعصي أمر رئيسه ، وأحمد الله
أن صدق ظني ، ولم تلبث البرقيات أن شهدت بصحة قولي ، ثم جاءت صحف
الآستانة ورسائلها بالتفصيل ، وعلى الله قصد السبيل .
( مطالب المصلحين في حزب الاتحاد )
جاءت مطالب المصلحين مصدقة لجميع ما كنا علمناه في الآستانة من حقيقة
ما عليه زعماء الاتحاد ، ومن تأثير سياستهم ، وقد حدثنا به خواص أصحابنا ،
وأشرنا إلى المهم منه في المنار ، وهاك مطالبهم العشرة التي قرروها وأعلنوها :
1 - أن لا يسعى المبعوثون إلى الامتيازات والمنافع لأنفسهم ولا لغيرهم .
2 - أن لا يقبل المبعوثون وظائف الحكومة وأعمالها .
3 - أن يكون قبول أحد المبعوثين نظارة من النظارات بقرار الثلثين من
فرقة الأكثرية ، ويكون إعطاء الرأي بالطريقة السرية .
4 - أن يعتني بتنفيذ القوانين وبالمراقبة على النظار .
5 - أن يعتني بمسألة اتحاد العناصر ( كما كان ) وأن يبذل الجهد في سبيل
ترقي الزراعة والصناعة والتجارة والمعارف على نسبة الاحتياج .
6 - أن يحافظ على الآداب والأخلاق العمومية الدينية مع الاقتباس من
المدنية الأوربية .
7 - أن يحافظ على عادات السلف ضمن دائرة القانون الأساسي .
8 - أن يعجل بقانون نصب وعزل عمال الحكومة الموظفين .
9 - أن يعدل في القانون الأساسي بعض المواد المتعلقة بحقوق الخلافة
والسلطنة .
10 - أن تقاوم مقاصد الجمعيات المؤسسة على السّر .
كل مطلب من هذه المطالب حجة على الاتحاديين الذين كانوا يصفون جمعيتهم
بالجمعية المقدسة ، وعلتهم سياسة أولئك الرهط من الزعماء ، دع أخذ الامتيازات
والسمسرة لطلابها ، ودع التوسل بالمبعوثية إلى المناصب وهو ما يعيبون به غيرهم
بالتهمة ، ودع عدم تنفيذهم القوانين والحكومة في أيديهم ، وحمايتهم للنظار
ونصرهم على كل حال ، ودع عدم وضعهم قانونًا للعزل والنصب ؛ ليكون الأمر
كله تابعًا لمشيئة الأفراد ، ودع تنفيرهم عناصر الدولة كلها من الحكومة ومن
العنصر التركي الذي لا ذنب له سواهم ، وتأمل مسألة المحافظة على الآداب
والأخلاق الدينية وعادات السلف ، فإن اقتراحها يدل على أنه يراد بها درء مفاسد
هي أشد خطرًا على الأمة ولا سيما على العنصر التركي من جميع تلك المفاسد
السياسية والإدارية ، فإنما الأمة بمقوماتها ومشخصاتها من العقائد والشعائر والآداب
والأخلاق ، وقد كانت كلها عرضة للفساد ، بجعل الصلاة في مدارس الحكومة ولا
سيما الحربية أمرًا اختياريًّا ، ومن إباحة تهتك النساء ، بل الأمر أعظم من ذلك فقد
سمعت بأذني بعض الزعماء يجادل معممًا من رفاقه الاتحاديين فيما ترتقي به الأمة ،
فالمعمم يقول : إننا نرتقي بالمحافظة على آدابنا وأخلاقنا وشعائرنا ، وسائر مقومات
حضارتنا الإسلامية ، وباقتباس الفنون والصناعات من أوربة ، والزعيم يقول :
بل يجب أن نمشي وراء فرنسة في كل خطوة ، ونتبع سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع
في الأمور المادية والمعنوية جميعًا ، وأن نعصر رجال الدين عصرًا .. إلخ .
ثم تأمل مسألة الخلافة الإسلامية والجمعيات السرية ، وتذكر مقاصد الماسون
في الحكومات ومقاصد الصهيونيين في فلسطين ، وقل رب احكم بالحق وأنت أحكم
الحاكمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الشرة ، بكسر الشين وتشديد الراء : الحدة والنشاط ، وهي ضد الفترة .
(14/265)
 
ربيع الآخر - 1329هـ
أبريل - 1911م
( جمعية الرابطة الإسلامية )
كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد
في بدء السعي ؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه . وقد راجت
هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة ، ولا بين البرهان
والسفسطة ، إلى أن ظهر قانون الجماعة ، وعرف أعضاؤها . ثم علمنا أن للشيخ
عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية ، ينشر دعوتها في
تلاميذ المدارس المصرية ، وتجبى نقودها منهم في كل شهر ، ولا يعرف لها قانون ،
ولا أعضاء ، ولا أمين صندوق ، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي
تجبى لها ؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم ، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك
الأموال ولا على أي شيء تنفق ؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا
يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه ، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب
عليها خاتم الجمعية ، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي ، فلماذا
يستخفي مؤسس الجمعية به ( إن كان هنالك جمعية ) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا
بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون ، دون الرجال الذين يبحثون
ويحاسبون ؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء
الأوراق والبطائق على الأقل ؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض .
* * *
( الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت )
ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي
المشهورين من الماسون ، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم ، وأنهم أسسوا لها شرقًا
عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية ، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد
والترقي في مجلس المبعوثين ، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية
أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية ، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج
الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر ، ولم نشأ أن نشرح ذلك ؛ لئلا
يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو
سوء نية ؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة .
وقد ترجمت مجلة ( دين ومعيشت ) الروسية ما كتبناه ، وزادت عليه بسوء
النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها ( جميعًا من
الخفير إلى السلطان ) ماسونيون ، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى
هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية ، وأظهرت الريب في خبرنا ، وتكهنت
في استنباط الباعث عليه ، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية
الجاهلية ، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها :
( إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية ) ثم قالت ما ترجمته :
فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية ،
فليردوا وليكذبوا أقوال المنار ، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع .
( المنار )
إننا نبادل مجلة دين ومعيشت ، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها ؛ لما في
المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض ،
كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك .
وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في
المسائل الدينية ، والرد على المنار في بعضها ، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي
التتار عن الترقي المدني والديني ، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد
عليها ؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع ، وصدها
المسلمين عن الترقي ، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود ، وحبسهم في مضيق أوهام
بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة ، لا يخلو من فائدة ؛ لأن من
طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام : قسم يغلو في
طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد ؛ وهم أهل الإفراط . وقسم يغلو في
مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم ؛ وهم أهل التفريط . وقسم يسددون
ويقاربون ، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج ؛
وهم الأمة الوسط . ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية ،
وفائدتها مقاومة أهل الإفراط ؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما
يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور .
كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن
النية ، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية
الجاهلية ، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب
والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد
واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر ، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا : إن
رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير ( سبحانك هذا بهتان عظيم )
وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية ، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك
وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم .
ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية ؛ إذ اقترحوا على
طلعت بك تكذيب المنار ، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي
صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة ، كما كذب وقوع الشقاق
في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا ، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب
فيه ، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية ؛ لأنه أشهر من
نار على علم ؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة
من الماسونية .
قالوا : إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر ، تعين أن
يكون صادقًا ، فها هم أولاء لم يكذبوه ، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم
المقاومون لأولئك الزعماء ، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة ، فما
يقول أصحاب ( دين ومعيشت ) بعد هذا ؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن
صاحب المنار مسلم ، قد ربى نفسه على الصدق ، حتى كان في أيام طلب العلم
يقول لأشد إخوانه صحبة له : إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل ، فلك
حكمك في { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } ( النساء : 9 ) ولا يكونوا ممن قيل
فيه :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
* * *
( دار السلطنة )
يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا ، ويظنون أن زعماء
جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة ،
لا بد أن يجمعوا كيدهم ، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية
الدستور مما يسمونه الارتجاع . أما نحن ، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما
كانت من الفتن الداخلية ، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية ، ذلك بأن
زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم ، أولو ذكاء وفهم ،
واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة ، فلا بد أن يكونوا قد
عرفوا خطأهم كله أو بعضه ، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في
الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية ، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب
الماسونية ، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي . وإنما
الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور ، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين ،
فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم
والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم ، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور ، إذا
وكل الأمر إلى جاهد بك ، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل
طاهر بك المبعوث بالارتجاع ، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور ،
وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول ( برنجى نومرو ) في
جمعية الاتحاد والترقي ، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي ، والدكتور ناظم
بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق ، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة ؛
هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم
أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر ؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على
مقاصدهم ، فالعاصمة في أمان ، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(14/316)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الأولى - 1329هـ
مايو - 1911م

العالم الإسلامي
والاستعمار الأوربي
( 1 )
الدول الأوربية التي ورثت ملك المسلمين الواسع في المشرق والمغرب
أربع : إنكلترا وهولندا وروسيا وفرنسا . كل دولة منهن سائدة على أكثر مما
تسود عليه الدولة العثمانية من المسلمين . فمسلموا الهند من رعية الإنكليز قد بلغوا
في الإحصاء الأخير تسعين مليونًا ، وهم زهاء ثلث أهل الهند ، وكان لهم السيادة
على جماهير الوثنيين ، وهؤلاء الإنكليز يسودون الملايين الكثيرة من المسلمين
وغيرهم بأسماء مختلفة ، فلهم مستعمرة الكاب وبلاد الترنسفال وفيهما كثير من
المسلمين ، وقد جعلوا لهذه مجلسًا نيابيًّا ، ومثلها أسترالية وزيلاندة فسيادتهم عليها
ليست كسيادتهم على مملكة زنجبار الإسلامية .
وناهيك بحكمهم للسودان بعنوان الشركة مع الحكومة المصرية ، وتصرفهم في
مصر نفسها بسيطرة الاحتلال ، وتصريحهم بأن القول الفصل في كل شيء فيها إنما
هو لحكومة ملك الإنكليز ، وقد تتجلى الحقيقة الواحدة في مظاهر مختلفة ، وتتشكل في
صور متعددة ، فيكون لكل مظهر في صورة أحكام خاصة به عند الحكماء ، وإن
اشتركت كلها في مقومات الحقيقة الجنسية أو النوعية دون مشخصاتها ، فالإنكليز
أقدر أمم الأرض على الاستعمار وأبرعهم في السيادة على الأمم ؛ لأنهم يراعون
الحقائق في أجناسها وفصولها المقومة ، وفي مشخصاتها المختلفة ، ويسايرون
الطبيعة في سنتها ، ويحكمون العقل أكثر مما يحكمون القوة فيها ، ولذلك سادوا على
أمم وشعوب وقبائل كثيرة تعد بمئات الملايين ، واستفادوا من ثروتها وخيراتها
ما لم يستفده غيرهم من المستعمرين ، ولم يمنعوا بالقوة أحدًا ممن سادوا عليهم أن
يرتقوا في العلوم والأعمال ، ولا هم يتعمدون ترقيتهم فيها إلا بمقدار ما يفيدهم هم من
توسيع دائرة الثروة ، وقد يحولون بينهم وبين ما فوق ذلك من الترقي من
حيث لا يشعرون .
يليهم في هذه البراعة الهولانديون ، فدولتهم على صغرها تتصرف في أكثر
من ثلاثين مليونًا من المسلمين تسخرهم لمنافعها ، وتستعملهم في تلك الجزائر
الخصبة ( جزائر جاوه ) كما تستعمل الأنعام ، وهم أجهل من رعايا الإنكليز
وأضعف عقولاً ونفوسًا ، وليس لهم من الاستعداد الموروث ولا من سابقة العلم
والمدنية والسلطان مثل ما للهنود والمصريين ؛ ولذلك لا تحس منهم بحركة ، ولا
تسمع لهم ركزًا ، ومن عجائب خمولهم وضعف استعدادهم أن الذين يرحلون منهم
لطلب العلم يقيمون السنين الطوال بمكة أو مصر ، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده
وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا من أحوال هذا العصر شيئًا قط ؛ لأنهم
يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية ، يتعبدون ببعض كتب متأخري
الشافعية كابن حجر الهيتمي والرملي ، فإن تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا
الأنصاري والنووي .
لو جردت من هذه الكتب ما يعمل به الذين يتعلمون أحكام المذهب من
الجاويين وغيرهم من مسائل العبادات ، وما يقرب منها من الأحكام الشخصية
لأمكنك جمعه في مائة ورقة ، يمكن تعلمها في شهر أو شهرين أو ثلاثة ، ولتكن
مئتي ورقة ، وليكن تعلمها في سنة ، فما بالهم يقضون السنين الطوال في مدارسة
أحكام المعاملات ؛ كالبيوع والشركات وأحكام الجنايات والجهاد والرقيق ، وغير
ذلك مما لا يعمل ولا يحكم به أحد في بلادهم ، ويمر العمر ولا يحتاجون إلى معرفة
شيء منه ؟ ! ولا يعرفون شيئًا في هذا الزمن من علم القرآن ، وسنن الله تعالى في
الأمم ؛ كأسباب قوتها وضعفها وعزها وذلها وسيادتها على غيرها وسيادة غيرها
عليها ؟ ؟ { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ( يوسف : 109 ) [1] بلى قد ساروا ، ولكن لم ينظروا ولم يتفكروا ولم يعتبروا كما
أمروا ، فهم لا يعلمون من أمر عاقبة الذين من قبلهم شيئًا ، لا يستقرون ولا
يختبرون شيئًا من أحوال الأمم بأنفسهم ، ولا يقرءون التاريخ وعلم تقويم البلدان
( الجغرافية ) ، ولا علم الاجتماع وحقوق الدول والأمم ، بل تراهم يقيمون السنين في
مصر ولا يقرءون جرائدها ، ولا يعرفون طرق الإدارة وشؤون العمران فيها ،
والقرآن يحثهم على السير في الأرض ؛ لينظروا ويتفكروا ويعتبروا لا ليتدارسوا
كتب ابن حجر والرملي فقط { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) .
كانت هولندة قانعة ؛ وهي دولة صغيرة في أقاصي الشمال باستعمار هؤلاء
الملايين في الجزائر الاستوائية من الجنوب ، وتسخيرهم في استغلال أرضهم لها ،
وتركهم في شؤونهم الروحية والاجتماعية ، لا توقظهم من نومهم ولا تدع أحدًا
يوقظهم ، ثم إنها تصدت في هذه السنين الأخيرة إلى تسخير أرواحهم وقلوبهم لها ؛
لتأمن في المستقبل استيقاظهم على يد غيرها ، فوجهت عنايتها إلى تنصيرهم
وتعليمهم لغتها ، أي إلى استبدال مقوماتهم الملية بغيرها .
كان يروعها ما تجده من شدة تمسكهم في دينهم ، وتعريضهم أنفسهم للهلاك في
سبيل الحج إلى بيت الله الحرام ، فظنت كما يظن بعض المغرورين من المسلمين
أن تنصير المقلدين عسير ؛ لأن المقلد لا يصغى للبرهان ، ولكن الهولنديين يعلمون
ما يجهله هؤلاء المغرورون من طباع البشر وأخلاقهم ، ومنها أن الميل إلى
الاستدلال طبيعي فيهم ، فإذا منعوا باسم الدين من البحث في البرهان والدليل على
أصول دينهم وفروعه ، فإنهم لا يمتنعون من التفكر فيما يلقى إليهم من الدلائل على
بطلان هذا الدين الذي لا يعرفون حقيقته ، وإن هذه الدلائل تروج عند الجاهلين ؛
وإن كانت مقدماتها تؤلف تارة من الجدل والسفسطة وتارة من المقدمات اليقينية على
بطلان بعض التقاليد التي يسمونها إسلامًا ، وما هي من الإسلام في شيء .
سلك الهولنديون لتنصير المسلمين طريقًا لم يسبقهم إليه أحد فيما نعلم وقد
نجحت التجربة التي جربوها في ديفو ، وهي بلدة بين بتاوي وبوكر ، نفوسها
زهاء أربعة آلاف ، بثوا فيها الدعاة ( المبشرين ) ومنعوا مسلمي العرب وغيرهم
من المستنيرين أن يدخلوها ألبتة ، وقد جمع أولئك المبشرون جميع ما يعرفون من
سيئات مسلمي تلك البلاد وخرافاتهم وضلالاتهم التي راجت بينهم باسم الدين ،
وسعي شيوخ الطريق الدجالين ، وبينوا لأهلها فسادها ، وكون الدين الذي جاء بها
لا بد أن يكون باطلاً مثلها ، ومسخوا لهم بعض أحكام الإسلام ومسائله بتأويلها
وصرفها عن حقيقتها ، وأيدوا ذلك كله بسوء حال المسلمين ، وكونهم أحط من
النصارى علمًا وعملاً وآدابًا وثروة وسيادة ، وأوهموهم أنه لا علة لذلك غير الدين ،
فتنصر جميع أهل تلك البلدة وبغض إليهم المبشرون المسلمين ، حتى إن المسلم
إذا دخلها لا يجد له فيها مأوى ، ولا يسقيه أحد فنجان قهوة ، ولا جرعة ماء ، بل لا
يجد من يقابله ولا من يكلمه . فهل بعث المسيح ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس
إلى هذا الحد ، أم دين السياسة الأوربية عليها الملام شيء ودين المسيح عليه السلام
شيء آخر ؟
سر هولندة نجاح هذه التجربة ، فبثت دعاة النصرانية في تلك الجزائر يدعون
الأعرق منها في الجهل فالأعرق ، والأبعد عن حقيقة الإسلام فالأبعد ، وإذا دامت
الحال على هذا المنوال ، فستكون جاوه كما قال ذلك السائح العاقل أندلسًا ثانية ، ولا
عجب فمسلمو جاوه أجهل المسلمين بالإسلام وأشدهم خمولاً ، وقد استيقظ أناس من
المسلمين في كل قطر إسلامي كبير ، وأنشأوا يوقظون غيرهم ، ولا يزال مسلمو
جاوه نائمين يغطون ، وقد ابتلوا بأناس من العرب يدعون العلم وما هم من أهله ،
يبغضون إليهم العلم الصحيح الذي يعرفهم أنفسهم ومكانتهم من حكومتهم ومن سائر
الناس ، ويحرمون عليهم إنشاء المدارس العلمية على الطرق العصرية المعروفة في
مصر ، وأن يتعلموا غير تلاوة ألفاظ القرآن للتبرك وبعض أحكام الفقه ، وما يتعلم
ذلك إلا قليل منهم .
إذا حرم هؤلاء الدجالون على المسلمين أن يعلموا أنفسهم ما يقوم به أمر
دنياهم ، ويحفظ به أمر دينهم في مدارس نظامية ، فهل يحرمون على حكومة
هولندة أن تنشئ لهم مدارس تعلمهم فيها لغتها ، وما نرى فيه مصلحتها من علوم
الدنيا ، وعلى دعاة النصرانية أن ينشئوا لهم مدارس أخرى ينصرونهم فيها ؟ كلا ،
إن قد شرعت الحكومة الهولندية في ضبط ما كان لرؤساء تلك الجزائر الذين يلقبون
بالسلاطين ( ! ! ) من الأرض والغابات والمرافق ؛ لتتولى هي استغلال ما كانوا
يستغلونه ، وجباية ما كانوا يجبونه ، وتجعل رزقهم محصورًا فيما تجود به عليهم
من خزينتها كل شهر أو سنة ، وتقول : إنها ستنفق ربع ذلك على المدارس التي
تنشئها لتعليم الأهالي ، وقد وضعت قانونًا جديدًا لهذه المعاملة ؛ وهي تحمل أولئك
السلاطين المساكين على إقراره وإمضائه ، فمن لم يرض منهم بترك ما كان له من
امتياز وسلطة صورية ، وأن يكون كعمال الحكومات الذين يعطون عند عجزهم
راتب التقاعد ( المعاش ) ، عزلوه من سلطنته ، ونصبوا مكانه شبحًا آدميًّا آخر
وسموه سلطانًا ، وهي خير للرعية من أولئك السلاطين الذين لا يمنعهم عن الظلم
إلا العجز .
( روسية ) مسلمو روسية أكثر من مسلمي البلاد العثمانية ، ويناهزون عدد
مسلمي جاوه ، وأكثرهم من التتار والترك والجركس والقرغيز والفرس ، وبعضهم
يعد في القانون روسيًّا محضًا والبعض الآخر من المستعمرات ، ومنهم الجاهلون
الغافلون الذين لا يعرفون من أمر العالم شيئًا قط ، بل يعيشون كالأوابد والسوائم إلا
أنهم أشداء شجعان لا ضعفاء كالجاوبين ، ومنهم المغرورون بما عندهم من بقايا
العلوم الإسلامية ؛ كالفقه الذي يرون أنهم أغنياء به عن كل ما في العالم من العلوم
الدينية والدنيوية ، ومنهم الذين دبت فيهم روح الحياة الملية ، وتوجهت نفوسهم إلى
الارتقاء الاجتماعي وأكثر هؤلاء من التتار ، وحكومتهم واقفة لهم بالمرصاد ، فلا
يرضيها أن يرتقوا بدينهم ولغتهم ، ولا هي تستطيع أن تنصرهم ولا أن تبدل لغتهم ،
بل عجز دعاة النصرانية في روسية عن تنصير أعرق مسلمي بلادها في الجهل ،
وأبعدهم عن العلم ؛ لأن حظ عامة مسلمي تلك البلاد من عقائد الإسلام وأخلاقه
وآدابه أكبر من حظ أكثر المسلمين في أكثر الأقطار ، فهم أرقى من الروسيين روحًا ،
وأزكى نفسًا ، وأعلى أدبًا ، وأكثر في الجملة كسبًا ، وجذب الأعلى إلى الأدنى
عسير .
إذا دبت في الأمة روح الحياة ، فلا يزيدها الضغط والاضطهاد إلا حياة وقوة ؛
لأنه يلم شعثها ، ويجمع متفرقها ، ويزيل ما بينها من الأضغان والأحقاد والتنازع
والخلاف ، ويجعلها إلبًا واحدًا على من ينازعها أسباب ترقيها ومادة حياتها ،
فالمصلحة لروسية أن تدعهم يعملون لأنفسهم ما شاءوا ، وأن تظهر لهم الرغبة في
ترقيهم بشرط اجتناب السياسة والتحيز إلى دولة أخرى ، ومن مصلحتهم مواتاتها على
ذلك واتقاء فتن السياسة ظاهرًا وباطنًا ، وحصر سعيهم في دائرة العلوم النافعة من
دينية ودنيوية ، والأعمال التي ترقي الثروة مع التربية الإسلامية ( راجع
مقالة ألمانية والعالم الإسلامي في هذا الجزء ) .
( فرنسة ) سكان المستعمرات الفرنسية أربعون مليونًا أو يزيدون ، أكثرهم
من المسلمين ، وقد أخطأت فرنسة في طريقة إدارتها وسياستها في الجزائر ، وظهر
لها أنها قد أخطأت ولما يظهر لها الصواب ، وقد كتب ساستها وعلماؤها مما لا
نحصي له عددًا من المصنفات والمقالات في الإسلام والمسلمين ، والجزائر
والجزائريين ، وذكروا آراء كثيرة فيما يراه كل كاتب أمثل الطرق لحكم المسلمين ،
وما أفاد ذلك شيئًا .
بذل الفرنسيون جهدهم في تنصير الجزائريين فلم يفلحوا ، وحاولوا أن
يبدلوهم بلغة العرب لغة فرنسة ، فلم ينجحوا ، أخذت الحكومة أوقافهم ومكنت
اليهود من أملاكهم فصبروا ، جربت أخذهم بالسيئات ؛ لتفسد بأسهم وتأمن عاقبة
استعبادهم ، ولم تجرب أخذهم بالحسنات ليبلغوا رشدهم ، وتربح شكرهم وودهم ،
ولعلها لولا طمع يهود الجزائر في مسلميها ، ومساعدة يهود باريس لهم ، وناهيك
بنفوذهم فيها ؛ لوجد هناك من الأحرار من ألجأ حكومتها إلى جعل الجزائر زينة
بلاد المغرب في العمران ، ومثابتها في العلم والعرفان ، وإذًا لكان ما تبغيه الآن من
استعمار ما بقي في أيدي المسلمين في تلك الأوطان أقرب منالاً وأحسن حالاً .
كان أكبر خطئها الاستعماري في الجزائر إزالة صورة الحكم الإسلامي منها
بإزالة معناه ، وجعل الحكومة فرنسية محضة مع العلم بأن صفة الحاكمية هي أشد
الصفات تمكنًا في نفوس المسلمين ، فنزعها منهم يحدث في نفوسهم جرحًا لا يندمل ،
ثم اقتدت بإنكلترة بعض الاقتداء في استعمار تونس ، فسمت نفسها حامية لها لا
حاكمة فيها ، وأبقت لها أميرها ( الباي ) ، ولكنها لم تجعل له ولا لرجال حكومته
من الأمر شيئًا قط لا صورة ولا حقيقة ، وكان إبقاؤه أحد الأسباب التي جعلت
نصيبها من النجاح في تونس أوفر ، وميزان السكون إلى حكمها أرجح ، حتى زعم
بعض رجالها أنهم قطعوا رابطتها الإسلامية التي تربطها بمكة على أن تونس ما
زالت كما كانت أوسع من الجزائر علمًا بالإسلام ، فالعلوم الإسلامية ليست هي التي
تبعد المسلمين عن الأوربيين ، ولكن الأوربيين هم الذين يبعدون المسلمين عن
أنفسهم ، وليس الاتفاق بينهم بالمحال ، وإنما هو من الممكنات التي يعرف طريقها
أهل الرأي والبصيرة من المسلمين .
وتريد فرنسة أن تتبع خطوات إنكلترة استعمار مملكة مراكش ، فقد كادت لها
كيدها ، وعبثت كما تشاء بقبائلها وسلطانها ، ففاض طوفان الفتن ، واندفع السيل
الآتي يقذف جلمودًا بجلمود ، حتى حاصرت القبائل مدينة فاس والسلطان عبد
الحفيظ فيها ، وتسنى لفرنسة أن تسوق جيشها إليها لإنقاذ الأوربيين وحماية السلطان
من الثائرين ، كما فعلت إنكلترة بمصر ، فدخلت عاصمة المملكة الحسنية ( ولم
تمنعها كرامات مولاي إدريس من دخولها ، كما كان يقول المغاربة . كما أن
كرامات شاه نقشبند لم تمنع روسية من دخول بخارى ، كما كان يقول أهلها ) ووكل
السلطان الفقيه النحوي الأصولي المحدث إلى القائد الفرنسي حمايته وحماية عرشه
من أهل بلاده الثائرين ، كما فعل قبله الخديوِ توفيق باشا ، وقضى الله أمرًا كان
مفعولاً .
حذرنا مملكة المغرب الأقصى من هذه العاقبة في السنة الأولى من سني المنار ،
وجزمنا بأنها إذ دامت على تلك الحال من الجهل والفساد فإنها لا بد أن تقع في يد
أوربة ، وبينا لها طريق النجاة التي تحفظ استقلالها ، وأعدنا الذكرى وكررناها بعد
ذلك ، وكان المنار يرسل إلى السلطان وكبار رجاله ولكنهم قوم لا يعقلون ، وقد
أبسل السلطان الذي يسمونه جاهلاً ، ولم يعتبر السلطان الذي يسمونه عالمًا ، بل
أبسل المملكة بأسرها ، وتلك عاقبة الجهل والغرور ، ولله عاقبة الأمور .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في سورة يوسف والمؤمن ومحمد .
(14/347)
 
رمضان - 1329هـ
سبتمبر - 1911م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

أرباب الأقلام في بلاد الشام
ومشروع الأصفر

أشرنا في المقالة الأولى التي كتبناها عند إعلان الدستور إلى ما أمامنا من
العقبات والمشكلات السياسية والأدبية والاقتصادية في طريق هذا الطور الجديد من
الحكم , وقد وقع جميع ما كنا نتوقع , ومما أشرنا إليه في تلك المقالة بالإجمال ,
وعدنا إلى بيانه بعد ذلك بالتفصيل قولنا : إن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة
التربية جيدة الإنبات غنية بالمعادن والغابات , قابلة لرواج التجارة والصناعات ,
إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها , وهناك من أبواب الرجاء
للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا الأفراد من الناس . فمن
المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها , والحذر من
قضاء الديون الأجنبية عليها ؟ .. إلخ
ثم كان المنار هو السابق لجميع الصحف - على ما نعتقد - إلى التنبيه على
نفوذ اليهود الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي ، وما في ذلك من الخطر على
الدولة ، حتى أنكر علينا ذلك بعض أصدقائنا المخلصين من المسلمين وغير
المسلمين بمصر ، ورد علينا بعض اليهود في جريدة المقطم , ولم تلبث الحقيقة أن
ظهرت بعد ذلك في مجلس الأمة العثمانية أولاً ، ثم على لسان الصدر الأعظم حقي
باشا الذي صرح في خطاب له بأن اليهود هم أصحاب المستقبل في هذه الدولة ،
حتى في أمورها الإدارية والعسكرية ، فهذه مقدمة أولى للكلمة التي نريد أن نقولها
الآن .
مقدمة ثانية : إننا كنا كتبنا مقالاً نشر في المنار وفي بعض جرائد بيروت ،
نبهنا فيه إخواننا العثمانيين إلى المشابهة بين ما يستقبلون في هذا الطور الجديد من
الحياة الذي دخلوا فيه ، وبين ما سبقهم إليه إخوانهم المصريون من مثله , وهو
طور حرية الأقلام والأعمال , وذكرناهم بأن يعتبروا بحال مصر ، ويتقوا ما استبان
لهم ضرره , ويأخذوا ما استبان لهم نفعه , وبينا لهم ما اختبرناه بنفسنا من ضرر
ومفسدة ما جرى عليه بعض إخواننا الكتاب المصريين ؛ من رمي بعضهم بعضًا
بخيانة الوطن وإيثار مصلحة الأجانب فيه على مصلحة أهله . فتن بهذه البدعة
بعض المغرورين الطائشين ، وغلوا فيه غلوًّا كبيرًا ، حتى لم يخجل بعضهم من
التصريح بأن مشروع الدعوة إلى الإسلام وإرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم ، وما
فيه من الخير لهم في دنياهم ، يراد به خدمة الأجانب من غير المسلمين ! ! فكان
مثل هذا الكاتب كمثل بعض أهل الشام الذي اعتاد أن ينبذ من يخالف رأيه بلقب
وهابي ، حتى إذا كان يحدث بعض أدباء النصارى ، فلما خالفه قال له أنت وهابي ! !
فقال له ذلك الأديب : بل أنا مسيحي ما رغبت عن ديني ! قال كلا . إنما أنت
وهابي ! !
مقدمة ثالثة : الخلاف في الرأي طبيعي في البشر لا بد منه , ونافع لا شك في
نفعه , ولو لم يكن لوجب أن يوجد بالتكلف إن لم يوجد بالطبع , وهو ضار إذا أدى
إلى الشقاق والتفرق ، وإن أهل العلم والفضل يتناظرون في المسائل العلمية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فيكون أحدهم موجبًا والآخر سالبًا بالمواضعة
والاتفاق , وإن لم يسبق لهم فيه خلاف , وإنما غايتهم بيان الحقيقة بالبحث عن كل
ما يمكن أن يصل إليه الفكر فيها . كذلك تؤلف الأحزاب في المجالس النيابية ؛
ليؤيد بعضهم الحكومة في سياستها وإدارتها , وينتقدها البعض الآخر فيهما ,
وغرض الفريقين واحد ؛ وهو بيان المصلحة الحقيقية للبلاد . فلا يصح أن يرمى
الحزب الموافق للحكومة بأنه سيء النية ، يريد أن يساعدها على الاستبداد بالأمة ,
ولا أن يرمي الحزب المخالف بأنه عدو للدولة .
بعد هذه المقدمات أقول : إنه قد ساءني في ما كان من خلاف جرائدنا السورية
في ( مشروع الأصفر ) ونبز بعضهم بعضًا بالألقاب , ونزولهم إلى ما لا ينبغي
من الطعن والسباب , حتى جعل بعضهم أشهر الجرائد بالإخلاص موضع الارتياب .
مشروع الأصفر من المسائل الاقتصادية الجديرة بأن يختلف فيها الباحثون ،
ولو لم يختلفوا بالفعل لحسن منهم أن يتواطئوا على الخلاف ، فيتكلف بعضهم
استنباط كل ما يمكن أن يستنبط له من المضار , وبعضهم استنباط كل ما يمكن
استنباطه من المنافع , ثم يحكموا بعض أهل الروية والعلم في الترجيح أو يدعوه
إلى الحكومة والرأي العام , مناظر الإنسان نظيره ، فمن رمى مناظره بالخيانة
وسوء النية كان طاعنًا في نفسه , وموقفًا لها موقف التهمة والتزاحم على المنفعة .
إنني لم أعن بدرس ( مشروع الأصفر ) الأول ؛ لأنني رأيته يتقلب بين ألسنة
المبعوثين وأقلام الصحفيين , فتركته لهم , ولكنني كنت أميل إلى رفضه , ورأيتهم
كذلك يميلون, ولا عنيت به بعد تنقيحه أيضًا , ولا تتبعت ما يجيئني من الجرائد
التي تبحث فيه , فأنا لا أحكم فيه نفسه , وإنما أقول كلمات يصح أن تكون لمن
وعاها من أسباب الحكم الصحيح فيه , وهي :
( 1 ) إن عمران بلادنا يتوقف على استعمال الأموال الأوربية فيها ، وزمام
هذه الأموال في أيدي اليهود , وأضرب لذلك مثالاً وقع بمصر ؛ وهو أن بعض
الناس قال لتاجر يهودي وقد ساومه في ( ساعة ) : إنني لا أريد أن أشتري شيئًا
يربح منه اليهود , فقال اليهودي : إذًا لا تشتر شيئًا قط . ولأجل هذا يصانع
الاتحاديون اليهود الصهيونيين وغير الصهيونيين , فإذا كان إخواننا السوريون لا
يقبلون مشروعًا فيه أموال لليهود ، فيعلموا أن معنى هذا أنهم لا يقبلون مشروعًا
عمرانيًّا كبيرًا في بلادهم مطلقًا , وبعبارة أخرى لا يقبلون أن تعمر بلادهم .
( 2 ) إن أهل بلادنا السورية بل العثمانية كلها عاجزون عن القيام
بالمشروعات الكبيرة من زراعية وصناعية وتجارية لا لقلة ما لهم فقط , بل لذلك
ولجهلهم بما تتوقف عليه تلك المشروعات من العلوم والفنون والأعمال الهندسية
والآلية , فهم في أشد الحاجة إلى الاستعانة على تلك المشروعات بأموال الأوربيين
ورجالهم , وإلى الاحتكاك بهم والاشتغال معهم لأجل التعلم منه .
( 3 ) إن الخطر من الصهيونيين ينحصر عندي في شيء واحد ؛ وهو
امتلاكهم للأرض المقدسة ، فينبغي لكل من يقدر على حمل الحكومة العثمانية على
منعهم من ذلك أن لا يألو فيه جهدًا ولا يدخر سعيًا .
( 4 ) إن الخطر من استعمال أموال الأجانب اليهود وغيرهم ينحصر عندي
أيضًا في أمرين : أحدهما غرق الأهالي والحكومة في الديون , وثانيهما تمليكهم
لرقبة البلاد , بأن يكون أكثر الأرض أو الكثير منها لهم .
( 5 ) إذا عدوْنا هذين الخطرين ، فلا يضرنا أن نستخدم أموال اليهود
العثمانيين وأموال الأجانب من اليهود وغيرهم ؛ في المشروعات التي تعمر بها
بلادنا بالزراعة واستخراج المعادن وغير ذلك , بل ذلك نافع لنا بل لا بد لنا منه إلا
إذا اخترنا الخراب على العمران , والفقر على الغنى , وماذا نخاف بعد هذا ؟
إننا رأينا العبرة في مصر بأعيننا ، زادت ثروة هذا القطر بأموال الأوربيين
وأعمالهم أضعافًا مضاعفة , وكثر فيها الأغنياء , ولولا جراءة الفلاح المصري على
الاستدانة بالربا الفاحش وغير الفاحش بغير حساب يوازن فيه بين دخله وبين ربا
الدين الذي يأخذه بغير حاجة شديدة إليه في الغالب ، ولولا الإسراف والقمار
والمضاربات لما كان على المصريين دين يذكر بالنسبة إلى ثروتهم العامة , ولكانوا
أغنى شعوب الأرض . على أنهم إذا ثابوا إلى رشدهم , وعني المتعلمون منهم
بالثروة والاقتصاد بعض ما يعنون بالسياسة , فإنه يمكن لهم أن يفوا ديونهم في زمن
قريب , وعند ذلك يكون لهم شأن صحيح في السياسة , أساسه القوة الحقيقية لا القوة
الكلامية .
فاضت أنهار الذهب الأوربي على مصر في زمن لم يكن لمصر فيه مثال
سابق تقيس حالها عليه لشبهها به , ولا منار تهتدي به في حياتها الاقتصادية ,
ولكنها أنشأت تتعلم بالتجارب ونفقات علم التجارب كثيرة , وقد ظهرت بواكر ثمرة
علمها بالتوجه إلى إنشاء النقابات الزراعية ؛ لوقاية الفلاحين من غوائل الربا
الفاحش وحفظ ثروتهم , وإنشاء الشركات التجارية والصناعية , وأنشأوا يعملون بما
تعلموا من الأوربيين ، فكانوا في أول عملهم كالطفل الذي بدأ يتعلم المشي يمشي
خطوة ويسقط , وقد كنا كتبنا في المنار مقالات ونبذًا في ذلك عنوانها ( طفولية
الأمة ) .
أما العثمانيون وأخص منهم السوريين ، فأمامهم المثال الظاهر والمنار
المضيء وهو مصر , فليعتبروا بحالها , ولا يقبلوا في أمثال هذه الأمور كل رأي ,
ولا يتبعوا فيها كل ناعق , وليحذروا ممن يستميلون العامة إليهم بما يروج عادة في
سوقهم , وهو الإنذار والتخويف وإذاعة السوء ، فإن الجمهور يرجح دائمًا خبر
الشر على خبر الخير .
ليس أمر مشروع الأصفر بيد الجرائد التي تراه نافعًا ولا التي تراه ضارًا ،
وإنما أمرها إلى مجلس الأمة وحكومتها العليا , فلتقل كل جريدة ما تشاء في بيان
نفعه وضره , من غير طعن ولا لعن , فإذا نفذ بعد ذلك كان أهل البلاد على بصيرة
من الانتفاع به والتوقي من ضرره , وإذا ردته نثلت الكنائن , وفاءت السكائن ,
وكفى الله المؤمنين القتال .
* * *
( مسألة اليمن واتفاق الحكومة مع الإمام )
كنا اقترحنا على الدولة قولاً وكتابة أن تتفق مع الإمام ، فتعترف له بزعامته
وتقره على إمامته في قومه حسب اعتقادهم , وترضى منه بما يقبله في مقابلة ذلك
من الاعتراف بسيادة الدولة على اليمن ، وكونه هو تابعًا لها . وبعد الاتفاق على
هذين الركنين يسهل الاتفاق على كل شيء , بل نبهنا الدولة على ما هو أعم من
ذلك ؛ لتمكين سلطتها في جزيرة العرب كلها بمثل هذا الاتفاق مع أمرائها .
كان من سعيي في مسألة اليمن أن اقترحت على رءوف باشا المعتمد العثماني
بمصر - والفتنة في ريعانها والعسكر يساق إلى اليمن تباعًا - أن يخاطب حكومة
الآستانة في أمر الاتفاق مع الإمام بلسان البرق , وقلت له : إنني موقن بأن الإمام
يرضى بالاتفاق ، ويكره أن يحارب الدولة باختياره , وإنني أتجرأ أن أضمن ذلك
بشرط أن تعترف الدولة بإمامة الإمام وزعامته في قومه وعدم نزع السلاح منهم ,
والإمام يعاهدها على عدم الخروج عليها وعلى تأمين البلاد , وما زالت العرب تدين
بالوفاء في الجاهلية والإسلام إلخ ما ذكرته له . فقال : إن الخطابات البرقية وغير
البرقية لا تكفي للإقناع في مثل هذه المسألة ، ولعلنا نتكلم فيها عندما نذهب إلى
الآستانة في فصل الصيف .
أما الأصول التي قررتها اللجنة التي ألفت في الباب العالي ؛ لأجل وضع
النظام لإصلاح اليمن ، فهي على ما نشر في الجرائد عشرة :
( 1 ) تقسيم اليمن وعسير إلى ثلاث ولايات .
( 2 ) أن يعين مشايخ القبائل حكامًا إداريين أي متصرفين في الألوية
وقائمقامين في الأقضية ، ومديرين في النواحي .
( 3 ) أن يصرف النظر عن أصول المحاكمات التي عليها العمل في الدولة
هنالك ، ويستبدل بها محاكم شرعية تحكم في الدعاوي .
( 4 ) أن تنشأ الطرق والمعابر الكافية ، وتؤسس المدارس وأخصها
الابتدائية .
( 5 ) أن يُمنَح الإمام يحيى رياسة اليمن الروحية .
( 6 ) أن تبتاع نسافات تحافظ على السواحل ، وتكون سدًا دون تهريب
السلاح والذخائر الحربية ، وأن تنشأ المعاقل العسكرية اللازمة .
( 7 ) أن يعفى اليمانيون كافة من الخدمة العسكرية ، ويوفد من سورية
وطرابلس أناس يقومون بها هناك , أو يأخذ لها أناس من العربان بالأجرة .
( 8 ) أن يسمح للعربان بحمل السلاح مؤقتًا .
( 9 ) أن تلغى الضرائب ويحصر التبغ ( الدخان ) ؛ لأنه يسهل تهريب
السلاح .
( 10 ) أن يعين الولاة من أصحاب الفطنة والحنكة والدراية ، ويمنحوا
السلطة الواسعة .
هذه الأصول ليست فيما نرى إصلاحًا كافيًا لليمن ، ولكنها ترضي اليمانيين
وتسكن ثأرتهم إلى أن تتمكن الدولة من ضبط السواحل ومنع السلاح ومن امتلاك
أعنة الرؤساء والمشايخ بالوظائف والرواتب , وإعداد القوة العسكرية من غير أهل
البلاد ؛ لتنفيذ كل ما تريده الحكومة بالقوة . وبعد هذا يجمع السلاح من الأهالي
ويحملون على كل ما تريده الحكومة منهم ومساواتهم بسائر العثمانيين . ولو كان لنا
أن نقترح لاقترحنا ، ولكننا نتمنى أن توفق الدولة إلى اختيار الولاة من الرجال
الموصوفين بما ذكر في الأصل العاشر وبالديانة والإخلاص في العمل , فعلى هذا
جل المعوّل , وما حرك الفتن هنالك في كل زمن إلا أولئك الولاة الطغاة العتاة الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
وسوف نرى ما هي المدارس التي تنشأ هناك ، وماذا يعلم فيها , وما هي
الطرق والمعابر التي تنشأ للعسكر وللزراعة والتجارة , وكيف تكون المحاكم ,
ونبدي رأينا في ذلك فإنه هو كل حظ اليمانيين من الإصلاح العملي . وكان من
مصلحتهم ومصلحة الدولة أن يدخلوا في الخدمة العسكرية ويتعلموا في بلادهم ,
ويقوموا فيها بكل ما تحتاجه الحكومة من الجند في الداخل , وينفروا إذا استنفروا
لمحاربة كل عدو مهاجم , وإذا جرى الإصلاح في طريقه المستقيم وزالت مخاوف
القوم ، وريبتهم التي غرستها في نفوسهم المظالم السابقة ، فإنهم يطلبون ذلك من
تلقاء أنفسهم .
أما مسألة عسير فكادت تكون أعسر من مسألة اليمن وأعقد , وأعصى على
من يحلها وأبعد , فقد عظم فيها نفوذ السيد الإدريسي الروحي ، وارتابت فيه الدولة
فحاربته , واستعانت عليه بأمير مكة الشريف حسين المشهور بالروية والحزم
والإخلاص للدولة , فسار إلى عسير بنفسه وبعض أنجاله ، يقود جيشًا مؤلفًا من
عسكره الخاص وعسكر الدولة النظامي ، فحارب الإدريسي بقوتيه العسكرية
والمعنوية ، حتى فك الحصار عن أبها عاصمة بلاد عسير ، وأجلى الإدريسي إلى
عصم الجبال فامتنع فيها , والأمير - أعزه الله - كان أجدر من قواد الحروب
بإيثار الصلح والسلام , وحفظ الدماء بالنفوذ الروحي وقوة الخطابة والبرهان , ويقال :
إنه كان يريد هذا ، وأن الإدريسي أبى عليه فتح باب الكلام , وقد داوى الأمير ما
جرح بالإحسان إلى أهل البلاد التي دخلها في عسير وإنشاء المساجد والمدارس
لأهلها , ثم عاد إلى الحجاز مؤيدًا منصورًا , ولكن الدولة ترى أن عقدة عسير
العسكرية لما تنحل .
* * *
( الأزهر وملحقاته بعد القانون الجديد )
أتممنا نشر قانون الأزهر والمعاهد الدينية التابعة له في القطر المصري . وقد
قامت قيامة الأحزاب لهذا القانون وقعدت , واجتمعت وافترقت , وصوبت وخطأت ,
وأرى أن المعارضين للحكومة وقد تركوا الباب ، فلم يظهروا الاهتمام به في
جرائدهم ولا في مجلس الشورى , وكان بعض أعضاء مجلس الشورى اعترضوا
على جعل حق اختيار شيخ الجامع للأمير ، وعلى انعقاد مجلس الأزهر الأعلى
تحت رياسته , فأطلقت جرائد الأحزاب المعارضة على هؤلاء الأعضاء لقب
الحزب الحرّ ، واحتفلوا بهم احتفال التكريم .
أما لب اللباب , والأمر الجديد في هذا الباب , الذي سكت عنه رجال هؤلاء
الأحزاب , فكان سكوتهم العجب العجاب , فهو أن الأزهر وملحقاته كانت من
المدارس الحرة المستقلة في أمرها دون الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاحتلال ,
فأصبح الآن مصلحة من المصالح التابعة للحكومة كسائر مصالحها , وهذا ما كان
يتقيه ويحذره الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ، كما صرحت به في المنار من قبل .
فالمعارضون للحكومة إما أن يكونوا لم يفهموا هذا الأمر الجديد العظيم وذلك
منتهى الجهل والغفلة , وإما أن يكونوا قد اعتقدوا أن إصلاح التعليم الديني في البلاد
لا يمكن أن يكون إلا بيد الحكومة ؛ لأن الأمة عاجزة عنه ، ومحتاجة إلى مراقبة
الاحتلال بواسطة الحكومة ، حتى على شئونها العلمية الدينية , وهذا يناقض ما
يقولون كل يوم , فهل عندهم من وجه ثالث فيظهروه لنا وللأمة كلها إن كانوا
لخدمتها يحسنون .
* * *
( رأي فاضل في الإنفاق النافع والمنار )
جاءنا الكتاب الآتي من ذلك المحسن المستتر الذي تبرع بستة جنيهات مصرية
لإدارة المنار ؛ لتوزع بقيمتها نسخًا منه على من تراهم أحق بها , وقد رأينا أنه يود
نشره ليظهر رأيه للقراء ، وينبههم إلى القدوة الصالحة ، وهذا نص الخطاب :
القاهرة في 6 أغسطس سنة 1911
حضرة الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله وزاده هدى وتوفيقًا .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد : فأرسل إلى حضرتكم الجنيه الباقي
من الستة جنيهات التي تخصصت للعشرة اشتراكات في مجلة المنار . ولعلي بذلك
أكون جئت بمثال حسن لمسلمي هذا القطر وسائر مسلمي الأقطار الذين يبغون
الإنفاق ؛ حبًا في الخير وتقربًا من الله ، فلا يهتدون لسبله القويمة وطرقه الصحيحة
فكم من أموال تنفق في النذور , وكم يضيع منها في المآتم والأفراح , وكم يذهب
في تشييد الحيشان والقبور , وكم يصرف في زيارة المقابر في الأعياد والمواسم ,
وكم في إحياء الليالي للأولياء الميتين في الموالد وغير الموالد , وكم من صدقات
تعطى لغير مستحقيها وغير ذلك , إنما أعني هذا الصنف من المسلمين فقط ؛ لأنهم
إنما يفعلون ذلك إجابة لداعي الخير الذي يناديهم ، فيلبون نداءه في الجملة ، ولكن
بدون أن يقفوا على كنه ما يدعون إليه .
ولا أعني غيرهم من المسرفين المبذرين الذين يلقون أموالهم في مهاوي اللذات
والشهوات والشرور والمضرات , ولا غير هؤلاء من البخلاء الجامدين . لعمري لو
أنفق عشر معشار ما ينفق من هذه الأموال فيما يحييهم من الأخذ بيد المصلحين
ومساعدة ما يقومون به من المشروعات العامة لوجدنا بفضل الله أمة الإسلام غيرها
اليوم , ولزال ما ألم بها من البؤس والشقاء , لا أقول هذا محاباة ولا نفاقًا ؛ فإني
أخاطبكم مختفيًا عنكم وعن الناس , بحثت فلم أجد في الدنيا دعوة إلى الحق والإسلام
مثل ما تقوم به مجلتكم ، ولا شخصًا حيًّا وقف نفسه لخدمة الإسلام والحق والإنسانية
كشخصكم المحبوب . فهل آن للناس أن يعرفوا شأنكم وشأن مجلتكم ؟ ألا إنهم ( لو )
عرفوا ذلك لالتفتوا حول لوائكم جميعًا ، وكانوا لكم من الناصرين , فصبرًا إن الله مع
الصابرين , والعاقبة للمتقين ، والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المصري
(14/713)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا


شوال - 1329هـ
أكتوبر - 1911م
المسألة الشرقية

[*]
واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب

وقعت الواقعة ، ليس لوقعتها كاذبة ، خافضة رافعة ، فوجفت القلوب ،
وامتدت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وعميت الأنباء على الناس فهم يتساءلون :
كيف أقدمت إيطالية على مفاجأة الدولة العثمانية بالعدوان ، واغتصاب مملكة كبيرة
وهي ولاية طرابلس الغرب ومتصرفية بنغازي ، وإيذانها بالحرب من غير عداء
سابق ولا خلاف على شيء بني عليه هذا العدوان ؟
كيف رضيت الدول العظمى بهذا العدوان المشوه الذي هدمت به حقوق الدول
ونقضت به معاهداتها ، وبطلت الثقة بكل ما عدا القوة فيها ، فهي كالوحوش
المفترسة ، والذئاب الضارية ، ولا يصدها عن الولوغ في الدماء ، وتمزيق الأشلاء
إلا العجز فقط ؟
كيف سكتت الشعوب الأوربية لدولها على هذه السياسة الوحشية التي لا شائبة
فيها لشيء من شرف الإنسانية ؟
هل الحقوق والعهود والقوانين والعدل والرحمة والإنسانية ألفاظ تلوكها الألسنة
وترسمها الأقلام ؛ لأجل مخادعة الغافلين والتغرير بالجاهلين ، أم هي خاصة بمن
يدعون الانتساب إلى المسيح ، وإن كانوا أبعد الخلق عن آدابه وتعاليمه في القناعة
والزهد والرحمة ومحبة الأعداء ، والصفح عن المعتدين ؟
هل تقصد أوربة بالسماح لإحدى دولها الكبرى بهذا العدوان المشوه ، المخالف
لما اعتاده سائر دولها من العدوان المموه ؛ لجعله مقدمة لإسقاط هذه الدولة الإسلامية
واقتسام بلادها بعد أن أسقطن دولة المغرب الأقصى ، واتفقن على انقسام دولة
إيران ، وسمحن لروسية بإنشاب براثنها في القسم الشمالي منها ، وترك القسم
الجنوبي لدولة إنكلترة ؟
أتريد هذه الدول الأوربية المسيحية العادلة الرحيمة البريئة من الظلم
والتعصب بزعمها هدم الدول الإسلامية الثلاث في سنة واحدة ؟ هذا ما يتساءل به
الناس .
قد انهتك الستر ، وانكشف القناع ، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه
من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض ، والقضاء عليهم بالذل والعبودية ، وأن
يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة ؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم ، وتقطع عليهم جميع
طرق العزة والقوة ، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية .
كانت أوربة تتوسل إلى مقصدها هذا بالبحث عن ذنوب للحكومات الإسلامية
وإن لم تخل من مثلها حكومة ، أو انتحال ذنوب لا حقيقة لها ، وإنما أوجدتها
الدسائس الأوربية ؛ ليبنى عليها مرادها منها .
ابتلي المسلمون بملوك وأمراء وأعوان لهم من العلماء والزعماء بينهم وبين
كل علم وعمل تعتز به أمتهم ، وتقوى به دولتهم ، فمكنوا بذلك أوربة من مقاتلهم ،
وفتحوا لها الثغور ؛ لاحتلال بلادهم وإزالة استقلالهم ، فزال أكثرها وبقي أقلها
مستقلاً في الظاهر ، ولكنه تحت نفوذ أوربة في الواقع .
هذه الدولة العثمانية قد اضطرها مركزها في أوربة ، واحتكاكها بدولها وكونها
في الأصل دولة حربية إلى اتخاذ جيش منظم ؛ كالجيوش الأوربية التي صار أساس
قوتها العلم والصناعة والنظام لا الكثرة والشجاعة والقوة البدنية فقط ، فكانت الدولة
بهذا الجيش وبقليل من النظام أشد الحكومات الإسلامية بأسًا ، وأقوهن استقلالاً .
ولكن أوربة تعبث باستقلالها الداخلي ، فلا تدعها تتصرف في بلادها كما تتصرف
الدول الأوربية القوية منها والضعيفة في بلادها ، بل لا يسمحن لها من التصرف
بمثل ما يسمحن به الولايات التي فصلنها منها وجعلنها دولاً مستقلة ؛ كاليونان
والبلغار والجبل الأسود ، فهي تريد ( مثلاً ) أن تزيد في المكوس ( الجمارك ) على
ما يرد إلى بلادها ولا تقدر على ذلك أو ترضى جميع الدول الكبرى به .
قد علم القاصي والداني أن دول أوربة تطمع في تقسيم ولايات هذه الدولة
بينهن ، وأنهن يتربثن بذلك لتنازعهن في القسمة ، وخشيتهن أن تؤدي إلى حرب
طحون ، يتمزق بها شمل أوربة ويسحق بعضها بعضًا ، وكان بعضهن يحسب
لسخط المسلمين الخاضعين لها ولهرجهم حسابًا ، فهذا هو السبب في عدم اتحاد دول
أوربة الكبرى باسم الصليب على اقتسام بلاد الدولة العثمانية .
ويلي هذه الدول في دول الإسلام دولة إيران فدولة المغرب الأقصى ، كانت
أوربة تتربص بهما الدوائر ، وتنتظر الفرص ، ترى أن سلاطين هذه الدول
وأعوانهم يستعجلون الطامعين فيها بالاستيلاء عليها ؛ لأنهم يظلمون الناس ، ويبغون
في الأرض ، ويسوقون الناس إلى اليأس من حكمهم ، وتوقع زواله وتوطين النفس
عليه ، ومتى وصلت البلاد إلى هذا الحد سهل وجود أو إيجاد الفتن والحوادث فيها
والتوسل بها إلى احتلالها أو حمايتها أو امتلاكها ، أو ما شئت من الأسماء اللغوية أو
العرفية الدالة في هذا العصر على الفتح السلمي أو الحربي .
كان جل التنازع في السياسة العثمانية والإيرانية بين الدولتين الروسية
والبريطانية ، حتى نجم قرن ألمانية في أوائل هذا القرن الهجري وظهرت شرة
عاهلها المستوى على عرشها لهذا العهد في منازعة إنكلترة ، فاستمال إليه السلطان
عبد الحميد فخنق الإنكليز على الدولة العلية ، وقلبوا لها ظهر المجن ، واتفقوا مع
روسية عليها ، ومهدوا السبل لتقسيمها .
كانت روسية هي السابقة إلى السعي في إزالة دولة العثمانيين ومحو اسمها من
لوح الوجود ، وإرث موقعها البحري الذي لا نظير له في الأرض ؛ لتجمع بين
القوتين البرية والبحرية ، وتكون لها السيادة العليا في البرية . وكانت قاعدة السياسة
الإنكليزية أنه يجب أن تبقى الدولة العثمانية سدًّا في وجه روسية ، وحائلاً بينها
وبين البحر المتوسط الذي هو قلب البحار وسيدها ، بشرط أن لا تقوى ، ولا تكون
دولة بحرية تخشى ، وإن شئت قلت : ( بشرط أن لا تموت ولا تحيا ) فلما استقرت
قدمها في مصر والسودان ، ودمر الأسطول الروسي في محاربة اليابان , وظهر
الأسطول الألماني في منتهى القوة ، وصار في سنين قليلة بعد الأسطول الإنكليزي
في الدرجة ، تغيرت السياسة الإنكليزية ، وتبع ذلك تغير سياسة أوربة كلها في
المسألة الشرقية ؛ لأن إنكلترا لا تزال صاحبة النفوذ الأول في عالم السياسة .
كان من سوء حظ العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه أن انخدع في هذا الطور
السياسي الجديد بعاهل الألمان ، فاغترت الآستانة ثم طهران ثم فاس ؛ بإظهار ميله
ووده للعالم الإسلامي ورغبته في بقاء دوله مستقلة عزيزة قوية ، فكان غرورها
وانخذاعها ، هو الذي حمل إنكلترة على التعجيل بالقضاء عليها ، ولم يغن عنها وداد
عظيم الألمان الوهمي شيئًا ، بل كان صوته في تحية الثلاث مئة ومن الملايين
المسلمين نذير الشؤم وفاتحة الشقاء .
ألمانية دولة بنيت سياستها على الأثرة والشح ، فهي تريد أن تربح بشرط أن
لا يربح منها أحد ، بل تريد كسبًا بغير رأس مال ، فلا تسمح بدرهم ولا دينار ولا
بجندي ولا بكرة مدفع ولا رصاصة بندقية ؛ لأجل المسلمين الذين منَّاهم
إمبراطورها بصداقته ؛ لأجل الربح منهم . فكان إذًا كان لا بد لهم أو للدولة العثمانية
كبيرة دولهم من الاعتماد على صداقة دولة أوربية ، فلا يشك عارف خبير بأن
صداقة إنكلترة خير لهم ولدولتهم من صداقة ألمانية ؛ فإن إنكلترة إذا أرادت أن
تضر لا تقدر دولة أخرى على مثل ضررها ، وإذا أرادت أن تمنع الدولة من
اعتداء غيرها عليها ، فلا تقدر دولة أخرى على مثل منعها وحماتيها . وأما النفع
فلا ينبغي أن نعتمد فيه على دولة أجنبية ، فمن لم ينفع نفسه لا ينفعه غيره .
هذا هو رأيي في الدولتين ، وقد صرحت به منذ سنين للبارون أو بنهايم الذي
كان مندوب الإمبراطور غليوم الثاني غير الرسمي بمصر ؛ إذ كان يريد أن يقتضي
بضد هذا الرأي ، ولكن ظهرت حجتي على حجته ولم يستطع إقناعي ولا خداعي
بمثل ما خدع به بعض الناس ، وهذا هو رأي جميع من أعرف من إخواننا
العثمانيين المعتدلين في آرائهم السياسية .
وأذكر أن أحمد مختار باشا سألني عن رأيي في انكسار إنكلترة في حرب
الترانسفال وكانت الحرب في ريعانها : هل من مصلحتنا نحن العثمانيين أن يستمر
انكسار الإنكليز ويسقط نفوذهم ، فقلت : أرى أن المصلحة في أن يقف الانكسار
والغلب عند هذا الحد ، وأن تنتصر بعده إنكلترة ، ويبقى نفوذها في أوربة محفوظًا ،
فإن سقوطها خطر على دولتنا ؛ لأن من مصلحتها أن تبقى دولتنا ، ومصلحة
روسية في زوالنا ، ولا يقف في وجهها سواها ، فأهوى بيده ورأسه ، وقال هذا هو
الرأي .
كانت سياسة عبد الحميد السوء تهدم ما كان لإنكلترة من المصلحة في بقاء
الدولة ، وتقرب بينها وبين روسية ، وتزيل ما بينهما من الأضغان والأحقاد . فلما
زال سلطانه وجاء الدستور ، كانت إنكلترة أول دولة رحبت بحكومتنا الجديدة ،
وأظهرت لها الميل ، وأنحت على النمسة بأشد اللائمة عندما أعلنت ضم البوسنة
والهرسك إلى أملاكها ، وكادت وزارة كامل باشا تعيد لها سياستها الأولى معنا بأكمل
مما كانت عليه . ولكن قام في وجهه أغيلمة غلطة وسلانيك وأسقطوا وزارته
بإرشاد اليهود الصهيونيين الألمانيين ، وما زال الغرور بأولئك الزعماء الذين نزوا
على الدولة بقوة جمعية الاتحاد والترقي وضباطها ، حتى أيأسوا إنكلترة منا في
وقت يرون فيه فرنسة وروسية وإيطالية تابعات لها في السياسة ، ويرون النمسة
مغتصبة البوسنة والهرسك تطمع في سلانيك مركز عظمتهم وفيما جاوروها من
مكدونية ، ويرون فيه ألمانية تتفق مع الروسية سرًّا على بلاد إيران شقيقة دولتنا
وجارتها ، وذلك من أكبر الأخطار علينا ، ولم يفيقوا من غرورهم حتى سمعوا
صيحة إيطالية في يوم انعقاد مؤتمر جمعيتهم السنوي تقول : قد آذنتكم بالحرب ،
وأخذت منكم طرابلس بالقوة والقهر ، ورأوا الدولة العلية تراجع الدول العظمي
وتذكرهن بالحقوق الدولية والمعاهدات والإنسانية ، فيتصاممن عن ندائها ، ويدعن
إيطالية تغتصب هذه المملكة الإسلامية الواسعة من الدولة الإسلامية التي لم يبق في
يدها في إفريقية الإسلامية سواها ، وقد كان معظم سواحلها الشمالية والشرقية لها .
إن سكوت أوربة على هذا العدوان المشوه الذي تتبرأ منه الأعذار ، وتنكث به
العهود وتنسخ القوانين برهان واضح على أنه عدوان متفق عليه ، وإذًا لا يقف هذا
العدوان عند طرابلس ، ولا سيما إذا ظهر لأوربة أن التجربة الأولى ناجحة بعجز
الدولة العثمانية عن كل عمل ، وعدم تأييد الأمة العثمانية بجميع شعوبها التي يعتد
بها لها ، وعدم تهييج شعور العالم الإسلامي كله لأجلها .
يظهر أن دول الاستعمار ولا سيما إنكلترة وفرنسة ، يعتقدن أن العالم
الإسلامي قد مات شعوره وتقطعت روابطه ؛ بما نفثت فيه أوربة من سموم الجنسية
الوطنية واللغوية والقومية ، ومن التعاليم الفاسدة المزعزة لأركان الإيمان ، المغرية
بالنعيم والشهوات ، وقوَّى اعتقادها هذا عدم ظهور الغيرة والحمية الإسلامية عند
العبث باستقلال دولة المغرب الأقصى ودولة إيران ، فتجرأن على العبث باستقلال
الدولة العثمانية ، ولم يحفلن باعتقاد المسلمين أنها دولة الخلافة ، وأن بذهابها زوال
الحكم الإسلامي من الأرض ، وهو الذي يجب على كل مسلم أن يبذل ماله ونفسه
في سبيله .
ألا فليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض والعثمانيون أينما كانوا وحيثما
وجدوا ؛ أن ذهاب طرابلس الغرب غنيمة باردة ، يتبعه اغتصاب النمسة لسلانيك
وما جاورها ، فاقتسام بقية ولايات مقدونية ، فوضع الولايات السورية تحت حماية
الدول الكبرى ، فتجزئة بقية ولايات الدول .
لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها ، سواء كان صادرًا عن
مخادعة وخلابة ، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوانين ، أو لأجل أن
لا يناقض إقرارهن لإيطالية ما كان من إنكارهن على النمسة عندما اغتالت البوسنة
والهرسك .
الجرائد في أوربة مرآة أممها وحكوماتها ، فإذا كانت تلك الأمم والحكومات
غير راضية من عدوان إيطاليا ؛ فما حل عقدتها على أوربة بعسير .
أمامنا شيء واحد فيما أرى ؛ تأليف وزارة تثق بها أوربة ، واجتماع مجلس
الأمة في الحال وتأييده ، وإزالة سيطرة أولئك الأحداث على الدولة بقوة جمعيتهم ؛
فهم مصدر هذا البلاء كله ، فإذا تم هذا وأمكن لهذه الوزارة أن تقنع دول الاتفاق
المثلث بوجوب كف عدوان إيطالية ؛ والمحافظة على جميع أملاك الدولة فذاك وإلا
فالخطر واقع ماله من دافع .
إن عجزنا عن تأليف هذه الوزارة وليس لها مثل كامل باشا ، وعن تأييد
المجلس لها بمعارضة أولئك الأحداث ، فذنب هلاكنا علينا ولا عتب لنا على أوربة
وإن قدرنا على تأليفها وتأييدها ، وعجزت هي عن إقناع الدول بما ذكرنا ، علمنا
أن البلاء من أوربة كلها ، وأنها متفقة على محو سلطتنا من الأرض كلها لا من
طرابلس فقط ، والحكم حينئذ للطبع لا للرأي ، فإذا كان قد زال منا كل شعور
بالشرف وقيمة الحياة الإنسانية نخلد إلى الذل والعبودية ؛ وإلا نفعل كما نفعل كل ما
يفعله الإنسان الذي يشعر ويحس إذ يئس من الحياة الاستقلالية الشريفة ، وقضى
عليه بالذل والعبودية ، فاعتبروا يا أولي الأبصار .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننشر في جريدة المؤيد مقالات متسلسلة تحت هذا العنوان اكتفينا منها هنا بالأولى .
(14/750)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو القعدة - 1329هـ
نوفمبر - 1911م​

المسألة الشرقية
تابع المقالات التي نشرناها في المؤيد
بمناسبة حرب إيطالية لطرابلس الغرب
( 2 )
( ما يجب على المسلمين والعثمانيين من مساعدة الدولة )
صفة العناصر العثمانية ومكانة السلطة الإسلامية من أهلها
عدوان إيطالية على الدولة العثمانية هو فتح لباب المسألة الشرقية ، دفعت إليه
أوربة أشد دولها حماقة وغرورًا وأقلها بصرًا بالعواقب ، وإن فرنسة وإنكلترة لا
يطيب لهما مجاورة إيطالية لتونس ومصر لولا الضرورة ، وهما تعلمان أن
طرابلس الغرب لا تكون لقمة سائغة لها كما ساغت حماية تونس للأولى واحتلال
مصر للثانية ، فسمحتا لها بأعسر اللقم ازدرادًا وهضمًا ، وأقبحها أحدوثة وذكرًا ،
وأشنعها سُبَّةً وعَارًا . إذا لم يكن مراد أوربة بهذا العدوان فتح باب المسألة الشرقية
بهذا العمل لا يكون أقل من طرق لهذا الباب ، وانتظار لما يسمع من الجواب ،
فبماذا يجيب العثمانيون والمسلمون ؟
العثمانيون مؤلفون من عناصر وملل شتَّى ، وقد رضيت دولتهم التركية
العنصر ؛ الإسلامية الدين ، بأن يكونوا كلهم شركاء لعنصرها فيها ، وما قام يحاوله
أولئك الأحداث الأغرار من هضم حقوق عناصرهم ، واضطهاد لغاتهم ، عرض
يزول بزوالهم ، أو زوال سلطتهم المؤقتة ، فلا ينبغي أن تؤاخذ الدولة بذنب تلك
الزعنفة التي قذفتنا بها سلانيك وأزمير وأدرنه ؛ بل يجب أن يعلم كل عنصر ،
وأهل كل ملة أنه لا توجد دولة أوربية تعاملهم بمثل ما تعاملهم به الدولة العثمانية ،
وتعطيهم من الحقوق مثل ما تعطيهم هي ، فإن الأوربيين قد تألَّهوا بالعظمة
والكبرياء ، فهم يرون أنفسهم آلهة للشرقيين ، وإن شاركوهم في الدين ، فعلى من لم
يعم التعصب الديني قلبه ، ولم تفسد الوساوس الأجنبية لبه ، أن يفكر بخطر
العبودية ، والحرمان من المساواة وحقوق الحاكمية ، اللذين يتهددانه بسقوط الدولة
العلية ( لا سمح الله تعالى ) .
ثم لا يثقل على غير المسلمين من إخواننا العثمانيين أن يكون
المسلمون من غير العثمانيين مشاركين لهم في الغيرة على هذه الدولة
والانتصار لها باسم الإسلام ، فإنَّما ذلك مزيد قوة واحترام لدولتهم التي
يعتزون بعزتها ويذلون بذلتها حماها اللهُ تعالى .
الدين الإسلامي دين سلطة وحاكمية ، وهذه الصفة من صفاته تكاد
تكون أرسخ من عقيدة التوحيد في نفوس أهله ، والمسلمون في مشارق
الأرض ومغاربها يعتقدون أن الدولة العثمانية هي التي تقوم بها هذه الصفة ،
وهي سياج عقائد الإسلام وعباداته ، وأن ما عرض لها من التقصير في
خدمة الإسلام باستبداد بعض السلاطين وفساد دين بعض الباشوات ، أو
بضغط أوربة ، هو من الأعراض التي لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها ما
دامت الدولة باقية مستقلة ، آخذة على نفسها القيام بمنصب الخلافة .
هذا الاعتقاد سار في جميع الشعوب الإسلامية سريان الدين في
مداركهم وشعورهم ، ولبعض همج أفريقية وجزائر المحيط الجنوبي من
الغلو في هذه الدولة وفي سلطانها ما يدخل في باب الخرافات ، حتى إن في
البرابرة المقيمين في القاهرة من يعتقدون أن السلطان هو الحافظ لهم في
بلادهم ، وهو الذي منع العرابيين وغير العرابيين من الاعتداء عليهم .
هذا الاعتقاد الذي تجهل الدولة كنهه فلم تعرف كيف تستفيد منه قد
أفاد دول الاستعمار ، ومهد لها سبيل الاستيلاء على الممالك الإسلامية
الكثيرة والتمكن فيها ، بضعف المسلمين في مقاومتهم لها ، إذ كان من
أسباب هذا الضعف في كل قطر اعتقاد أهله أنهم ليسوا هم الذين يقيمون
حكم الله ؛ وإنما تقيمه دولة الخلافة فهو في أمان واطمئنان ، يمكن الالتجاء
إليه في كل آن ، فإذا وقعت الواقعة ، وبدأت أوربة بتقسيم البلاد العثمانية بالعدوان
المحض ، وشعر المسلمون في كل مكان بأن أوربة جعلتهم كاليهود لا دولة لهم ولا
سلطان ، فهنالك يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى .
ليس هذا القول بالتهديد ولا بالوعيد ، وليس الذي يقوله جاهلاً بقوة
أوروبة العلمية والصناعية والاجتماعية ؛ بل هو يعرفها ويعلم أنها جعلت
بها أكثر المسلمين مسخرين لخدمتها كالسوائم ، وأن الجاهلين منهم ، وهم
السواد الأعظم لا يعلمون ماذا يعملون ، وأن المتعلمين قد أفسدت التعاليم
الأوروبية نفوس الكثيرين منهم ، وحلت الرابطة الإسلامية التي تربط كل
قطر من بلادهم منهم بالآخر وهم لا يشعرون ، وأحدثت لهم روابط أخرى
بدلاً منها تسمى في مصر الوطنية وفي الآستانة الحاكمية للتركية ، وفي
طهران الجنسية الفارسية ، وأن من المصريين من صار يفاخر بفرعون
ويعد المسلم السوري والحجازي دخيلاً في أمته ، وأن جميع الطبقات
تأثرت بهذا ، وأنه وجد في الآستانة أناس يقولون إن أسباب ضعفنا
وتأخرنا جاءتنا من الإسلام ، وفي طهران من ينشر تاريخ المجوس
وعظمة ملوكهم ، وينفر من الإسلام الذي دفع العرب إلى سلب ذلك الملك
منهم ، وأن منهم من استحوذ عليه شيطان الجبن لشدة ما قاسى من
الاضطهاد والظلم ، كل هذا أعرفه كما يعرفه الأوربيون الذين زرعوا
بذوره وتعهدوا غرسه بالسقي حتى بدت لهم ثمراته دانيةُ القطوف ،
ولكنني أعلم مع هذا كله أن هذه الجنسيات الجديدة لمَّا تَتَمَكَّنَ من نفوس
جميع الذين ابتدعوها ، وأن أكثر الذين تدنسوا بها لم يعرفوا أنها مخالفة
لأصول الإسلام وفروعه الذي جعل المسلمين أمة واحدة ؛ بل أعضاء
لجسدٍ واحد ، وأن الشعور بالخطر على الحكومة الإسلامية كافٍ لمحوِ كل
هذه الوساوس الأوربية من نفوسهم ، وزلزال الجبن الذي أَلَمَّ بقلوبهم ،
وعودة الرابطة الإسلامية القلبية إلى أشد ما كانت قوةً ومتانةً ، وهذا هو
الذي عنيته بقولي : يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى .
إن أوربة قد علمت كنه حرص المسلمين على الحكومة الإسلامية
وشدة نفورهم من الحاكم الأجنبي عنهم ، فهي لذلك تخادعهم بنصب أشباح
منهم تجعلهم آلات للحكم عليهم والتصرف بهم ، حتى إن إيطالية التي هي
أشد دولها غرارة وغرورًا ، وأقلهن علمًا وتجربةً ، تبحث عن أمير مسلم
تجعله تمثالاً تحكم طرابلس الغرب باسمه ، ولولا أن أوربة تعلم كنه شعور
المسلمين بالحرص على السلطة الإسلامية ، لما أطلقت على ذلك لفظ
التعصب الديني وجعلت هذا اللقب مثار البغي والعدوان ، والخطر على
نوع الإنسان ، تنفر المسلمين منه ، وتهددهم بالعقاب عليه ، ولكن هل
يخشى أن يكون من سوء تأثير التعصب الإسلامي المخيف أكثر مما كان
من تساهل أوربة وعدلها ورحمتها في دفعها إيطالية إلى اغتصاب مملكة
إسلامية كاملة والسماح لأسطولها بتدمير ما يستطيع تدميره منها ومن
أسطول الدولة العلية ؟ كلا إنه لا يوجد عدوان في الأرض أقبح ولا أوضح
ولا أفظع من هذا العدوان .
إنه مهما بالغ كتابنا وكتاب أوربة في إقناع المسلمين بأن أوربة تريد
إزالة ملكهم من الأرض لا لأجل دينهم ؛ بل لنفعها المجرد ، فلن يستطيعوا
أن يقنعوا بذلك رجلاً واحدًا من كل مليون رجل ، نعم إن ضعفنا هو الذي
يجرئهم علينا ؛ ولكن حكومات البلقان المسيحية أضعف منَّا فلماذا يعطونها
من أملاكنا ، ولا يقتسمون بلادها كما يقتسمون بلادنا ؟ يقولون إن إيطالية
حاربت الحبش وأزالت سلطة البابا ، ونقول نعم وطالما حارب المسلمون
بعضهم بعضًا ، ولو استولت إيطالية على الحبش لما كان ذلك في نظر
أوربة إلا استبدال دولة مسيحية بدولة مسيحية ، وأما إزالتها لسلطة البابا
فقد مكنتها أوروبة منه لاعتقادها أن الدين المسيحي لا يعطي البابوات تلك
السلطة الدنيوية التي انتحلوها لأنفسهم ، وإن كان فيهم ملحدون ففينا ملحدون ،
ومنهم من يريد إزالة سلطة الخلافة ويجعل السلطة دنيوية محضة تقليدًا
لهم ، فلماذا يُبَرَّؤُونَ مِنَ التَّعَصُّبِ وَنُرْمَى بِهِ ؟
إنني شرحت اعتقاد المسلمين كما هو فما جئتهم بشيء جديد إلا
التذكير بما يجب من إظهار شعورهم وآلامهم من اعتداء أوربة وبغيها على
دولهم الثلاث ومساعدتهم للدولة العلية بكل ما تمكن فيه المساعدة من المال
والحال .
لا أقول : إنه يجوز لهم أن يعتدوا على أحد الأوربيين أو المسيحيين ؛ لأن
إيطالية أوربية مسيحية فإن الله تعالى يقول : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) وللقتال
طرق قانونية لا ينبغي إلا بها ، وهي قتال الجيش المنظم ومن يتطوع
معه فقط ، وقد أنبأنا البرق بأن كثيرًا من فضلاء الإنكليز عرضوا على
سفارة دولتنا في لندره أن يتطوعوا لقتال إيطالية معنا ، فالمسلمون أولى
بإظهار هذه العاطفة في كل قطر من الأقطار ، سواء احتاجت إليهم الدولة أم
لا ، فَأَدْعُو المسلمين إلى التطوع .
ثم أدعوهم إلى إظهار شعورهم بالقول والكتابة والمظاهرة
والاحتجاج ، وقد رأينا الجرائد الأوربية عندنا ولا سِيَّما الفرنسية منها قد
أظهرت التحيز إلى إيطالية بمدح عدوانها ، وإظهار العداوة والبغضاء للدولة
العلية ، وكذلك بعض الجرائد المسيحية العربية المتعصبة للدين ، وحاشا
الجرائد العثمانية الراقية كالمقطم والأهرام فإنهما قامتا للوطنية العثمانية
بحقها ، فلم لا يظهر المسلمون تحيزهم إلى دولتهم وبغضهم ومقتهم
للمعتدين عليها .
ثم أدعوهم إلى مقاطعة التجارة الإيطالية وترك معاملة الطليان بكل
نوع من أنواع المعاملة ، وأرى أن كل مسلم في أي بلد يعامل طليانيًّا
معاملة مالية أو زراعية فهو مستحق لِلَعْنَةِ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ .
ثم أدعوهم إلى مساعدة الدولة العلية بالمال وجمعه بالاكتتاب المنظم ،
وليتذكروا أن الله تعالى قدم ذكر الجهاد بالأموال على ذكر الجهاد بالأنفس حيث
يمكن الأمران . وأما من عجز عن الجهاد بنفسه فليس له حظ إلا في
الجهاد بماله ، فإن تركه فلا عذر له عند الله ولا عند رسوله ولا عند المؤمنين ،
ولا يوجد دليل على صدق الإيمان أقوى من بذل المال في سبيل الله ولا
دليل على ضعف الإيمان أو النفاق فيه أقوى من البخل والإمساك عن البذل
في سبيل الله ، ومن أهمه أو أهمه حماية الملة وحفظ كيان الأمة والدولة .
إن مسلمي مصر والهند أجدر المسلمين بأن يكونوا أرفع المسلمين
صوتًا وأنداهم كفًّا في الانتصار للدولة العلية ؛ لأنهم يمتازون على سائر
المسلمين بثلاث العلم والمال والحرية ، وفي هذا المقام نعترف لدولة
إنكلترة بالفضل على جميع دول أوربة التي تضطهد المسلمين وتضيق
عليهم مسالك الحرية الشخصية ، وإن كنَّا في مقامٍ نشكو فيه من إقرارها
لإيطالية على عدوانها الوحشي .
للدولة على المصريين حق الأخوة الإسلامية ، وحق السيادة السياسية ،
ولولاية طرابلس عليهم حق ثالث وهو حق الجوار ، فيجب أن يكونوا هم
السابقين إلى كل أنواع المساعدات الممكنة ، وهم أهلٌ لذلك ، فلا يألون
جهدًا ، ولا يدخرون وسعًا ، وقد رأينا الاضطراب ظاهرًا على عوامهم
وخواصهم ، والغيرة شاملة لجميع طبقاتهم ، ويليهم مسلمو تونس فالواجب
عليهم أن يرفعوا أصواتهم ، ويمدوا سواعدهم ، ويكذبوا هانوتو في زعمه
أن فرنسة قد فصلت ولاية تونس من مكة ، أي بترت هذا العضو من جسم
الملة الإسلامية ، هذه فرصة يجب أن يغتنموها هم وأهل الجزئر ليظهروا
للعالم الإسلامي كنه صدق فرنسة في قولها إنها بدأت تغير سياستها في
معاملة المسلمين ، تغيير تساهل وتحسين ، وليعلموا أن الجبن والإحجام في هذا الوقت
لا يزيدهم عند فرنسة إلا مهانةً واحتقارًا ، وذلةً وصغارًا ، ولا أحتاج إلى تذكيرهم
بقيمتهم في نظر العالم الإسلامي ؛ بل العالم الإنساني .
هذا ما أُذَكِّرُ به إخواني المسلمين في الشرق والغرب وأدعوهم مع
سائر الكتاب إليه ، ولي معهم قول آخر فيما يجب عليهم من العبرة في هذه
الحادثة ، وما يجب أن يعتقدوه في أوربة كلها ويعاملوها به إذا هي بقيت
مصرة على غيِّها في إقرار إيطالية على عدوانها .
وأما أنتم أيها العثمانيون الخُلَّص فإنَّما أَعِظُكُمْ بواحدة أن تقوموا مَثْنَى
وفُرَادَى وجَمَاعَات ، ثُمَّ تتفكروا فتجزموا بأنكم مهددون بالزوال ، وأنَّ هَذَا
الوقتَ ليسَ وقتَ مطالبةٍ بإصلاح ، ولا مؤاخذة على إفساد ، وإنما هو وقت
لا يَتَّسِعُ إلا لشيءٍ واحد ، وهو تأييد الدولة ببذل الأموال والأرواح .
واعلموا أيها الإخوة الألبانيون أن حكومتنا صائرة بطبعها إلى
اللامركزية فلا تعجلوا ، ولا تغوينكم دسيسة أوربة باضطرارها الدولة إلى
إعطاء تلك المطالب للماليسوريين ، واصفحوا عن جهل إخوانكم
المغرورين ، الذين رجحوا قتالكم وقتال إخوتكم الآخرين ، فهذا وقت العفو
والسماح ، هذا وقت الاعتصام والاتحاد ، فإن الخطر محدق بالجميع ،
فيجب أن يتحد الجميع على دفعه .
هذا وإنني أرجو من إخواننا السوريين الكرام في خارج المملكة أن
يظهروا صدق وطنيتهم ، ويعرفوا دولتهم بقيمة إخلاصهم ، وبأنهم ما
كانوا يشكون إلا من سوء المعاملة ، وأنهم حريصون على سلامة الدولة ،
ولا يكرهون منها صبغتها الإسلامية ؛ لأن هذه الصبغة لم تمنعها من
مشاركتهم فيما يسمونه الحاكمية ، ولا من مساواتهم بغيرهم في الحقوق
العمومية ، وما كان من التقصير في ذلك فهو من ذنب بعض الأفراد
والإصلاح لا يجيء إلا بالتراخي والتدريج .
... ... ... ... مصر في يوم الجمعة 13 شوال سنة 1329
* * *
( 3 )
( ما يجب من العبرة والاستفادة من هذه الشدة )
لسان الحال أفصح من لسان المقال وأصدق ، والحوادث أشدُّ تأثيرًا
في نفوس الناس من الأحاديث والأقوال التي تُلْقَى إِلَيْهِمْ ، وحوادث الشدائد
في البأساء والضراء ، أَبْلغ في التأثير والعبرة من حوادث النعمة والرخاء ،
فيجب على الخطباء والمرشدين أن يغتنموا فرصة نزول البلاء والشدة
لتنبيه شعور الأمة ، باستخراج فنون الموعظة والعبرة .
كان الأستاذ الإمام يقول : إن عِلَّةَ هذه اليقظة والحركة الفكرية في
المسلمين هي الحرب الروسية العثمانية الأخيرة ، وكانوا قبلها في غفلة لا
يِتَأَلَّمُ قطر من أَقْطَارِهِمْ لِمَا يُصِيبُ قُطْرًا آخر ؛ بل لا يكاد يشعر بمصابه ،
فقد دخل الإنكليز قبلها بلاد الأفغان محاربين فاتحين ولم تبالِ بذلك الآستانة ولا
مصر ، بل ولا الهند ولا إيران جارتا تلك الإمارة ، فتلك الحرب هي التي
أيقظت المسلمين هذه اليقظة على ضعفها بانتصار الروسية عليها ،
وبلوغ الجيش الروسي ضواحي عاصمتها .
وأعرف كثيرين من أحرار العثمانيين يعتقدون أن انتصار الدولة
على اليونان في حربها الأخيرة كان شرًّا مِنَ الانكسار الذي كانوا يتمنونه
للقضاء به على استبداد عبد الحميد ، فهم يقولون : إن ذلك الانتصار هو
الذي كان سبب رسوخ استبداد ذلك المخرب لبناء الدولة ، ولولاه لفاز
طلاب الإصلاح بإعلان الدستور قبل الوقت الذي أعلن فيه بسنين كثيرة .
هذا القول معقول وقد بَيَّنَ لنا كِتَابُ اللهِ تعالى ما كان في انكسار
المؤمنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد من الفوائد ، وما كان
من تمحيصه لهم وإرشاده إياهم إلى تدارك ما فَرَّطُوا فيه بغرور بعضهم
في الانتصار .
إن دول أوربة تعلم من فوائد الشدائد ما لا نعلم ، فهي تحاول أن تحول بيننا
وبين الانتفاع بما ننزله بنا منها ، فلا تقطع منَّا عضوًا إلا بعد تخدير أعصابِنَا ،
وإبطال شعورنا ، بنحو ما يسميه الجراحون عملية التبنيج ، فيسمون
البغي والعدوان والفتح والتمليك بغير أسمائها هزؤا بنا ، وضحكًا وسخريةً
مِنَّا ، حتَّى إنَّ إيطالية تريد بعد هذا البغي والعدوان المشوه أن تسخر
من الدولة والأمة العثمانية بتسمية امتلاكها لطرابلس احتلالاً تحت سيادةِ
تركيا ، وأن تدفع للدولة دريهمات تسميها ثمنا أو أجرة أو خراجا لتلك
المملكة الإسلامية العثمانية ليسخط العثمانيون والمسلمون على الدولة
وييأسوا منها .
إن أخذ إيطالية لطرابلس بالقوة القاهرة لبعدها عن مركز قوتنا أشرف
للدولة وأنفع للأمة من أخذها بثمن بخس ، وكل ما تباع به الأوطان فهو
بخس ، وفيه من الخسة والضرر لإيطالية بقدر ما فيه من الشرف والفائدة
لنا .
لا عار على من يشتري ملك غيره ، ولكن العار الكبير على من
يختلسه اختلاسا عند غيبة من كان يحميه ، ولا يغني الأمة مال قليل أو
كثير نأخذه مع الإذلال والإهانة وإضعاف رجائها في الحياة ، وإيئاسها من
العزة والشرف ، ولكن الأمة تغني وتتسع ثروتها بالمنبهات القوية التي
تعرف بكيد أعدائها وغدرهم ، وتقوي شعور الشرف والإباء فيها ، وتحفز
همتها إلى اتخاذ جميع الوسائط لحفظ الموجود ، ورد المفقود على أن
العثمانيين الصادقين ، وغيرهم من المسلمين الغيورين ، سيبذلون للدولة
من الإعانة لحفظ شرفها أكثر مما تبذله عدوتها لإضاعته .
علمت من الثقات في عاصمة دولتنا أعزَّها الله تعالى أن بعض
المتفرنجين المارقين الذين نفثوا سموم العصبية الجنسية الجاهلية فيها ،
يميلون إلى بيع أوربة بعض الولايات العربية التي في أطراف المملكة
كطرابلس وجنوب بلاد العرب لأجل أن يرقوا بثمنها ولايات الرومللي
والأناضول ، وما يتصل بها من البلاد الخصبة ويجعلوها مركز قوة الدولة ،
فتكون لهم دولة صغيرة قوية كدول أوربة في كل شيء ، لكن بشرط أن
يكون ذلك في غمرة من الحوادث يظهرون للأمة فيها أن الدولة فعلت ذلك
مضطرة لا مختارة ، وأنها افتدت رأس الدولة وقلبها ببعض أصابع من
يديها أو رجليها ، أو بما هو دون ذلك عندهم .
قد اضطررت إلى بيان هذه المسألة الآن اضطرارًا لنفطن لها الأمة
فتقطع الطريق على وساوس شياطينها ، ولا شكَّ أن السواد الأعظم من
الأمة العثمانية يسفه أولئك الزعانف من الأفراد المتفرنجين المارقين ،
الذين يقال : إن من آثارهم ترك تحصين طرابلس الغرب ، فيرجى أن لا
تلدغ الأمة من جحرهم مرة أخرى .
المسلمون أشجع الناس وأثبتهم في القتال ، وقد بشرهم الرسول صلى
الله عليه وسلم ، بأنه لا يغلبون من قلة ، وما خذلت دولتنا وغلبت في الحرب
الروسية إلا بخيانة من بعض القواد والرؤساء ، بعد أن نفث التفرنج
فيهم سم الإلحاد ، وجعل همهم من حياتهم التمتع باللذات والشهوات ، ولعل إيطالية
ما جمحت إلى هذا العدوان إلا اتكالاً على أفراد من هذا الصنف الممقوت
الذي يهون عليه إضاعة هذه المملكة ( طرابلس وبرقة ) لذلك الغرض
الوهمي .
مولانا السلطان الأعظم وأعضاء أسرته الكريمة كلهم ينبذون رأي
أولئك الزعانف المارقين إن ظهر ، وسروات العنصر التركي المبارك
وجمهور الطبقة المتعلمة ، وجميع العامة من هذا العنصر العريق في
الإسلام كلهم يخالفون أولئك الأوشاب الذين لا يعرف لهم الأمة أصل ثابت
ولا أثر صالح .
يظنون أن مثل هذا الرأي الأفين يروج عند بعض طلبة المدارس
الرسمية المغالية في التفرنج ، ونرجو أن يكون هذا الدرس الذي ألقته علينا
إيطالية قد أبطل ظنهم ، ونَبَّه نابتة تلك المدارس على بطلان ظن آخر وهو
أن تقليد بعض الأوربيين في العادات ونبذ الدين ظِهْرِيًّا يجعلنا مثلهم في
قوتهم وعظمتهم ، وكانوا يجاهرون بهذا الظن حتى تجرؤوا على كتابته
في الجرائد ، وكتب بعض ساسة الآستانة : إن قومنا الترك والمجر من
أصل واحد ؛ فلماذا ارتقوا في المدنية والحضارة ونحن منحطون واستعداد
الجميع واحد ؟ يجب أن نسلك مسلكهم حتى نكون مثلهم باحترام أوربة لنا
ومساعدتها إيَّانا ورضاها بأن يكون عنصرنا عنصرًا أوربيًّا .
كان هؤلاء المساكين ومقلدتهم من طلبة المدارس الرسمية يتوهمون
أن أوربة يمكن أن ترقيهم وتجعل لهم دولة قوية كدولها ، وأنه لا وسيلة
إلى ذلك إلا بإرضائها بالتفرنج ونبذ الإسلام .
نعم إنه يرضيها منهم التفرنج ؛ لأنه هو الذي يجرف ثروتهم إليها ،
ويرضيهم منهم ترك الإسلام لأنه هو الذي يحل رابطتهم ويفصلهم من مئات
من الملايين يغارون عليهم ويودون أن يروهم سالكين سبيل الرشاد
ليمدوهم بأموالهم ونفوذهم المعنوي ، وكذا بأرواحهم إن وجدوا إلى ذلك
سبيلاً ، ولا يرضيها ذلك منهم لأجل أن يرتقوا ويعتزوا ؛ بل يناديهم لسان
حالها كل يوم ولسان مقالها في بعض الأوقات بهذا المثل ( وجودك ذنب لا
يقاس به ذنب ) وهل يمكن أن يوجد نداء أفصح لهجة وأصرح صيحة من
بتر طرابلس الغرب من جسم الدولة .
هؤلاء الذين أفسدت تعاليم أوربة علينا قلوبهم وأفكارهم ، وجعلتهم
عونًا لها على إزالة استقلالهم من حيث لا يشعر بذلك أكثرهم ، يوجد
أشباه لهم وأمثال في الهند ومصر وتونس والجزائر ، يظن أكثرهم أن
بلاده تكون مستقلة بمساعدة أوربة إذا تركت جنسيتها ومقوماتها ومشخصاتها الأولى
واستبدلت بها ما تأخذه عن أوربة من الجنسية الوطنية واللغوية ، وقد وطنت نفوس
بعضهم على الرضى بالسلطة الأوربية ظاهرًا وباطنًا لا محاء شعور الدين
والجنس منها وعفاء أثره .
كتبت هذه النبذة لتذكير هؤلاء المتفرنجين بما يجب عليهم من العبرة
في الكارثة النازلة بنا ، وتذكير سائر الأمة بالاعتبار بهم ، لعلها تقدر على
إبعاد من بقي منهم على غَيِّهِ من مناصب الدولة ، ومن النيابة عنها في
مجلس الأمة ، ولتذكير الجميع بما يجب أن نأخذه عن أوربة وما يجب أن
ندعه ونتقيه كما نتفي العقارب والثعابين وجراثيم الأمراض ( وميكروبات )
الأوبئة أو أشد اتقاء .
كارثة طرابلس الغرب حجة قطعية محسوسة يشترك في إدراكها
السمع والبصر فلا يمكن أن يوجد في الحجج أقوى من دلالتها على حكم
أوربة علينا بالإعدام ، واتفاقها على قسمة تركتنا قبل الإجهاز علينا ، فيجب
أن يعرف هذا كل فرد من أفراد رجالنا ونسائنا وأولادنا .
وهذه الحجة تدل على بطلان عقيدة نظرية كان يعتقدها بعض ساستنا
والمفكرين منَّا ، وهي أن أوربة لا تعتدي على بلد من بلادنا إلا إذا حدثت
فيها فِتْنَةٌ اعْتُدِيَ فيها على بعض الأوربيين من أية أمة منهم ، أو على
النصارى منَّا ، فإذا قدرنا على منع أسباب الفتن والتعدي وتلافي ما تحدثه
الدسائس فيها فإننا نتقي بذلك تعدي أوربة علينا ، ونجعل لأنفسنا فرصة بذلك
نرقي بها أنفسنا . أبطلت كارثة طرابلس الغرب هذه الشبهة وقامت بها
الحجة على أن أوربة تغتصب بلادنا بمحض العدوان وكونها محتاجة إليها
وأحق بها منا ، فإرضاؤها عنا متعذر ما دمنا أحياء ، وإننا نراها قد استعجلت علينا
بعد أن أظهر لها بعض المتفرنجين منا فسقهم وإلحادهم ، كما صرّحَتْ به
بعض الجرائد الفرنسية في المقارنة بين تركيا الفتاة ومصر الفتاة .
إن أوربة تجربنا بهذا البدع الجديد من العدوان هل نرضى أن نقتطع
جسمنا قطعة بعد قطعة كلما هضمت واحدة منها قطعت أخرى والتهمتها
من غير مقاومة منَّا ولا معارضة أم لا ، فإن رضينا بهذا الخسف فهو
القصد والغرض والأمنية العليا لأن المملكة تكون كلها غنيمة باردة لها لا
تخسر عليها نقطة من الدماء الأوربية المقدسة التي تفضل كل نقطة منها
على جميع أهل آسية وأفريقية .
وإن أبينا الذل والخسف وقاومنا جهد استطاعتنا ، وأثبتنا لها أننا بشر
نحس ونشعر وأن بيننا اتصالاً وتضامنا في الجملة ، فهي تكون حينَئِذٍ بيْنَ
أمرين إما أن تحل المسألة الشرقية عاجلاً خشية أن يقوى هذا الشعور
والتضامن فتصعب إبادة أهله ، وإمَّا أن يكون الاتفاق لم يصل بين دولها
إلى هذه الدرجة فتتركنا نحن وإيطالية إلى أن يتم لهذه الاستيلاء على
طرابلس بقوتها وحدها أو لا يتم ، ويتربصون بباقي بلادنا فرصة أخرى .
والذي أراه أنه لا يمكن أن نموت ميتة شرًّا من أن نقطع قطعًا قطعًا
كالشلو ونؤكل بالتدريج فيكون موتنا إماتة لشعور جميع المسلمين وإيئاسًا
لهم من الحياة ، فيجب إذًا أن تبذلَ الدولةُ والأمة كل طاقتها في صد إيطالية
عن طرابلس وإن عَرَّضَتْ كل ما فيها للخراب وكل من فيها للقتل ؛ ولأََِنْ
تَأخذها إيطالية أطلالاً دَارِسَةً ليس فيها أنيس ، لا من البشر ولا من اليعافير
والعيس ، خير من أن تأخذها بقلاعها وحصونها ودورها وأهلها .
وإذا أرادت أوربة بسبب مقاومتنا لإيطالية أن تقتسم بقية بلادنا فخير لنا أن
نُعَرِّضَ جميع جيشنا وجميع أفراد أمتنا للقتل كما قلنا في إخواننا أهل طرابلس ، وأن
نُعَرِّضَ جميع بلادنا للخراب ، ولا ندعها غنيمة باردة لأوربة الباغية الطاغية ، كما
نعرض طرابلس لذلك .
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموتَ جبانًا
إن تفعل ذلك أوربة وهو ما لا ترضاه لها شعوبها التي يوجد فيها
الجماهير من المهذبين الذين يكرهون العدوان وسفك الدماء حقيقة لا رياء
ونفاقًا كما يدعي ساستُها - يكن ذلك درسًا للشرقيين عامة والمسلمين
خاصة يقرب أن يعلمهم كيف يعاملون هذه الوحوش المفترسة بمثل ما
عاملتنا به ، وإنه ليغلب على اعتقادي أن سلب الدولة الإسلامية الكبرى
ملكها حماه الله بمثل هذه الصورة بعد ذلك العدوان على مملكتي إيران
والمغرب الأقصى يكون سببًا قريبًا لحياة المسلمين والصينيين حياة قريبة
وأن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها القهر للكثرة العديدة تنفق آحادها .
أيتها القسطنطينية العظمى ، اعلمي أنه يجب أن نحيا ، وأنك أنت التي
تحكمين اليوم بوجوب حياتنا إذا أبيت أن تبيعي طرابلس ولو بملء الأرض ذهبًا،
وجعلت الدم مع العزة والشرف ، أرخص من الذهب مع الذل والهوان ،
يجب أن تختاري العز على الذل ، وجميع قلوبِ المسلمين معك اليوم ،
وسيتبع ذلك أموالهم وأنفسهم .
هذا إذا أقدمت أوربة على الخطر الأخير ، وإن هي أحجمت عنه فلا
تأسفي على طرابلس إذا ذهبت وبقي الشرف ، ونمي الشعور بالحياة
الاستقلالية ، فإنها لا تلبث أن تعود هي وغيرها ، والواجب على الأمة
العثمانية في حالة الإحجام ، وحفظ كيان الدولة أن تبعد عن كراسي
الوزارة والرياسة والقيادة والنيابة في مجلس الأمة جميع المارقين
المفتونون بالتفرنج ، وأن لا تقتبس من أوربة إلا الصناعات والفنون التي
تمدها بالقوة والثروة ، دون الآدابِ والعاداتِ والأزياءِ وسائرِ الأمورِ
المعنويةِ ، يجب حينئذٍ أن تؤسسي جامعة عثمانية حقيقية ، وأن تحفظي
رابطتك الإسلامية أشد الحفظ ، وسنبين هذه الواجبات بالتفصيل إن شاء الله
تعالى .
* * *
( 4 )
الاعتبار بالمقارنة بينها وبين الجامعة الإسلامية
المسألة الشرقية عبارة عن إزالة ملك المسلمين كالوثنيين واقتسام
أوربة لجميع ممالكهم ، وهي من الحقائق الثابتة المقررة لا ينكرها أحد ،
ومسألة الجامعة الإسلامية عبارة عن اتفاق المسلمين وتعاونهم على حفظ
سيادتهم والدفاع عن أنفسهم ، وهي من الخيالات التي تصورتها أذهان
الأوربيين ورسمتها في لوح الإمكان والاحتمال لأجل الصد عنها ، واتقاء
وقوعها ، عملاً بقاعدة : اتقاء وقوع المرض خير من معالجته بعد وقوعه .
ترى أوربة أنه لا إثم في حل المسألة الشرقية ولا حرج ، ولا يعد من
الطمع ولا من التعدي على حقوق الأمم ؛ بل هي فضيلة وكمال إنساني ،
وإنما يخشى الإثم والحرج في اختلاف الدول الكبرى في القسمة اختلافًا
يُضْرِمُ نيرانَ الحربِ بينهنَّ .
وأما الجامعة الإسلامية فهي في نظر أوربة أكبر الأنام ، وأظهر أمثلة
البغي والعدوان ، وأشنع صور التعصب الوحشي ؛ لأن المسلمين ميَّالون
إلى الحرب والاستيلاء على الممالك وهذه تجارة خاصة بأوربة يجب عليها
احتكارها .
صَوَّرُوا الجامعة الإسلامية بتلك الصور الشنيعة المشوهة ، وتفننوا ما
شاءت بلاغتهم في هجومها وذمها ، ووصف مضارها ومفاسدها ، حتى
نفروا قومهم منها ، ومن المسلمين الذين يتهمونهم بها ، بل نفروا المسلمين
أنفسهم منها بضربين من ضروب التنفير أحدهما : تهديدهم بأن أوربة
تسومهم سوء العذاب إذا هي أنست منهم عملاً ما لهذه الجامعة ، وثانيهما :
أنها أحدثت لهم جنسيات جديدة ، وأحدثت لهم أماني واعتقادات بأنه يمكن
لكل جنس منهم أن يستقل بنفسه ، ويكون له دولة عزيزة ممدنة ، إذا هو
انسلخ من الجنسية الإسلامية ، ونهض بجنسية النسب أو اللغة معًا أو
أحدهما فقط ، فكون الترك دولة تركية فقط ، والفرس دولة فارسية فقط ،
والمصريون دولة مصرية فقط ، والسودانيون دولة سودانية فقط بشرط أن
تكون هذه الجنسية بمعزل عن الدين لا شِيَة فيها ، وحينئذٍ يجد أهلها من
مساعدة أوربة عاشقة الإنسانية وعدوة التعصب الديني ما يبلغهم أمنيتهم من
هذا الاستقلال .
من عجائب تصرف العلم في الجهل أن وساوس أوربة تروج في
سوق المستمسكين بكل ما يعتقدون أو يظنون أو يتوهمون أنه من الدين ،
المبغضين الماقتين لكل ما عليه الأوربيون كما تروج في سوق المتفرنجين
الذين زلزلت التعاليم الأوربية الناقصة عقائدهم وجميع مقوماتهم
ومشخصاتهم الملية ؛ بل هي في سوق أولئك المتعصبين لعقائدهم وتقاليدهم
أشد رواجًا وأقبح تأثيرًا .
تعبث أوربة بجميع الشرقيين وتلعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة ،
فهم ألعوبة بين يديها ، حتى في حال مقاومتهم لها ؛ لأن من المقاومة ما لا
بد منه فهي تمهد لهم سبيله ، كمقاومة أهل المغرب الأقصى لفرنسة في تلك
المدة القصيرة ، هي التي حركتهم للثورة ، وهي التي دفعتهم إلى المقاومة ؛
لأن الطريقة التي رسمتها للاستيلاء على بلادهم وأعناقهم لا تتم إلا بذلك ،
وكم لها من أمثال هذه الوسائل ؛ ولكن من تستعملهم فيها لا يدرون كُنْهَ
عَمَلِهِمْ ولا غايتَه ولا يعرفون مَنْ هم الدافعون لهم إليها ، ولا أنهم يبخعون
أنفسهم بها ( ينتحرون ) .
إن المسألة الشرقية حقيقة لا ريب فيها ، ومن عجائب غفلة المسلمين
أنهم لا يزالون كالأطفال يدركون الجزئيات عندما تتصل بإحدى حواسهم
ولا يفطنون للكليات التي تندرج هي تحتها ليدركوا كل ما هو محيط بهم
من المصائب والأخطار ، حتى إن أوربة تتجادل في قسمة ممالكهم وهم
يسمعون تحاورَها في جدالها ، ويكتبون بعضَ أخبارِها في جرائدهم ،
وتلوكها ألسنتهم في مجالسهم ، ولا ينتقلون من كل جزئية منها إلى الأمر الكلي
الحامل عليها وهو إزالة ما بقي من ملكهم ، والاتفاق على قسمة سائر تراث
أجدادهم، وهو ما يسمى بالمسألة الشرقية ، فهم يعدون مسألة طرابلس الغرب مسألة
جزئية سببها طمع إيطالية وغرورها ، وإقدامها على نكث قتل المعاهدات ونسخ
أصول حقوق الدول ، وليس الذنب ذنب إيطالية وحدها ، وإنَّما هو عمل أوربة كلها
بدليل إقرارها إياها عليه ، وعدم إجابة الدول نداء الدولة العلية إذ استصرختهن
لحماية القوانين والعهود والمواثيق .
لو أن مثل هذا العدوان وقع من الدولة العلية على بعض حكومات
البلقان لقامت قيامة أوربة كلها ، وجهزت أساطيلها ، وصاحت جرائدها
على اختلاف لغاتها يجب على دول المدنية أن تطهر الأرض من هذه
الدولة الإسلامية الباغية العادية المتعصبة المتوحشة حفظًا للعهود والقوانين
التي يرعاها البشر ، ولا يتعدى حدودَها إلا الهمجُ والمتوحشون .
قلت : إن الجامعة الإسلامية مسألة خيالية ، وها نحن أولاء نرى
الذين يتهمون المسلمين بها ؛ لأجل تنفيرهم عن التوجه إليها ، لا يعدون
لهم عملاً ما في سبيلها ، وإنما يؤاخذوننا كلنا إذا كتب كاتب منَّا مقالة ذكر فيها
حكومة إسلامية أو بلادًا إسلامية بما يدل على أنه يكره لها الشر ، ويحب
لها الخير ، كما كانت الجرائد الأوربية هنا تنكر على بعض الجرائد
الإسلامية إلى عهد قريب استنكار نكث فرنسة لمعاهدة الجزيرة بالاعتداء
على مملكة المغرب الأقصى وإرسال جنودها لاحتلال مدينة ( فاس ) ثم
استنكار عمل ألمانية في حملها فرنسة على امتلاك تلك البلاد امتلاكًا تامًّا
بشرط أن تعطيَها بدلاً عمَّا تستحقه فيها بمقتضى قاعدة المسألة الشرقية ،
وهي أن الدول العظمى هي الوارثة لجميع الممالك الشرقية التي تسقطها .
لا يزال يرن في آذاننا صوت تلك الجرائد التي قامت اليوم تتعصب
لإيطالية الباغية على الدولة العثمانية التي بغي عليها ، كانت تقول : إنه لا حق
لمسلم في إظهار الشفقة على مملكة مراكش لأنها ليست وطنه فشفقته إذًا
من التعصب الإسلامي المذموم ومن دلائل الميل إلى الجامعة الإسلامية
الممقوتة ، وأمَّا تعصب الجرائد الفرنسية والإنكليزية التي تصدر في بلادنا ،
لإيطالية الباغية علينا ، فهو محمود مشكور وإن لم تكن وطنها لأن التعصب فرض
عليهم ومحرم علينا .
أعجب من هذا أن هذه الجرائد المتعصبة لا تستحي الآن من ذم
المصريين ورميهم بالتعصب لاستنكارهم بغي إيطالية على دولتهم التي
يخفق علمُها فوق رؤوسِهم ، ويخطب باسم سلطانها على منابرهم ،
وعطفهم على إخوتهم في الدين والعثمانية واللغة ، وجيرانهم المتصلين بهم
في الوطن من أهل طرابلس ، فمن المنكر العظيم في مدنية أوربة التي تلقي
دروسَها علينا هذه الجرائد أن نتألم لتدمير إيطالية لبلادنا ، وسفكها لدماء
إخواننا ، وأن نستنكر همجيتها ووحشيتها ونهتم لتخفيف المصائب عن
أولئك الجيران الذين لم يقترفوا ذنبًا تحكم به أوربة عليهم بهدم وطنهم على
رءوسهم ! ! أما آن لنا أن نفهم ونعقل ونتدبر هذه الدروس ؟ !
قال حكيمُنا : ( الناسُ من خوف الذل في الذل ) وقد ذللنا حتى إنه
يساء إلينا ونؤمر بالشكر ، فإلى متى يَقْذِفُونَ في قلوبنا الرعبَ والخوفَ من
لفظ التعصبِ الذي نجد معنَاه عندهم ولا نجده عندنا ، وإنما يخافون أن
نستفيد منه الاتحاد والتكافل كما استفادوا .
إلى متى يقذف في قلوبنا الرعب والخوف من لفظ ( الجامعة الإسلامية )
التي نرى مثلها عندهم مشاهدًا محسوسًا بالاتفاق على حل المسألة الشرقية ، ولا
نرى لذلك المعنى أثرًا في شعب من شعوبِنا ، ولا في قطر من أقطارنا، أنخاف
من سطوتهم أن تفتك بنا بأكثر من البغي باغتصاب بلادنا عنوة واقتدارًا
ليضربوا علينا الذلة والمسكنة إلى الأبد ؟ يذبحوننا ويأكلوننا ، ويمنُّون
علينا بعد ذلك بأنهم يمدنوننا ، لا كانت هذه المدنية ولا كان الراغبون فيها
والناشرون لها .
أراد رجل من المغرب الأقصى أن يُرْسِلَ ولدَه إلى بيروت لِيَتَعَلَّمَ فِيَها ،
قبل نزول البلاء عليها باحتلال فرنسة لها ، فأنذره الفرنسيون سوءَ عاقبةِ
تعليمِهِ في بيروت وقالوا له : إننا سنملك هذه البلاد فيحرم ولدك من كل
شيء فيها إذا لم تعلمه في مدارسنا ، فقال : إن مدارسكم لا تعلمه لغته ولا
دينه وهما أهم ما أريد أن أعلمه إياه ، إنه لا يوجد أحدٌ من أهل المغرب
الأقصى يأمن على ما يرسل إليه من خارجه في البريد الفرنسي ؛ لأنه يعلم
أنه لا يصل إليه إلا بعد أن يطَّلعَ عليه المفتشون ويرون أنه ليس فيه ما لا
يُحِبُّون أن يقفَ عليه ، وسيكون أهلُ تلك المملكةِ عن قريبٍ محرومين من
كل ما لا تريده فرنسةُ لهم ، وهذا أهون ما في هذه المدنية .
أنا لا أدعو بهذا إلا إلى شيءٍ واحدٍ ، وهو أن نعرفَ أنفسنا ، ونعرف
ما حولنا وما يحيق بنا ؛ لنكون على بصيرة من أمر هذا البلاء الذي أنذرنا
به بغي إيطالية علينا باتفاق أوربة وإقرارها ، ونفهم كنه المسألة الشرقية
قبل أن يتم حل عقدتها ، وتنفيذ المقصد منها ، ونفهم سرَّ تهديدِنا بلفظ
التعصب ولفظ الجامعة الإسلامية اللَّذَيْنِ هما من الألفاظ المهملة التي لا
معنى لها عندنا .
إن مسلمي المغرب الأقصى كانوا عونًا لفرنسة على فتح الجزائر ،
وهي الآن قد احتلت مملكة المغرب بقوة مسلمي الجزائر ، فهل كان هذا
من التعصب الإسلامي وفروع الجامعة الإسلامية ؟ !
احتلت فرنسة تونس واستولت عليها وهي محاطة بالمسلمين من كل
جانب فهل عارضها أحد من المسلمين أو قاتلها عليها ؟ فأين التعصب
الإسلامي والجامعة الإسلامية ؟ !
أراد إسماعيل باشا أن يجعل بلاد مصر مملكة أوربية ؛ فاعتمد على
أوربة وتدهور في الحفرة التي حفرتها ، ولم يمنع ذلك خلفه من الثقة
بأوربة ودعوتها إلى حفظ أريكته من ثائري رعيته ، فهل هذا من التعصب الإسلامي
والعمل بالجامعة الإسلامية ؟
فصلت إنكلترة مملكة السودان من أختها مملكة مصر ثم فتحتها بجنود
المصريين وأموالهم وهم وادعون ساكنون ، لا يكادون يعترضون إلا
على الاستمرار على أخذِ أموال مصر للسودان ، مع الاجتهاد بقطع كل
علاقة للسودانيين بمصر وللمصريين بالسودان ، ولا يزال الإنكليز يفتحون
بالجيش المصري كل ما أرادوا من السودان ، وحفظ كل ما أرادوا حفظه
من بلاد السودان ، وكل مصري يعرف أنه لا حظ لبلاده من ذلك ، وها
نحن أولاء نرى وفودهم تغشى دار الوكالة الإنكليزية كل يوم لتهنئة فاتح
السودان بتولي إدارة الأعمال في مصر ، يأتون هذا في الوقت الذي أحسوا
فيه بالخطر على دولتهم صاحبة السيادة الرسمية والشرعية عليهم ، مع
علمهم بأن إنكلترة قطب الرحى في هذا الخطر ولو شاءت لأزالته ، فهل
يتوسلون بهذا إلى نَيْل مساعدتها للدولة أم هذا من التعصب الإسلامي
والعمل للجامعة الإسلامية ؟
ما هي القوة التي تمد فرنسة بها سلطتها في أحشاء أفريقية وتحفظ بها
ما تستولي عليه وتحفظ به تجارتها ؟ أليست من أهالي البلاد المسلمين ليس
معهم إلا عدد قليل من الضباط البيض ؟ ما هي قوة إيطالية المستولية بها
على مصوع والتي تطمع بها أن تضم إلى مستعمراتها الأفريقية بلاد اليمن
كلها أو بعضها ؟ أليس معظمها من المسلمين ، يسوسهم ويسيرهم عدد قليل
من الإيطاليين ؟ لو كان هناك تعصب إسلامي أو عمل للجامعة الإسلامية
في الآستانة أو مصر أو الهند أو ما دون هذه البلاد الراقية من بلاد المسلمين ، أما
كان يكون منه إرسال المحرضين على هؤلاء الأفراد من الأوربيين الذين
يستعبدون الملايين من المسلمين ؟ ما كان شيء من ذلك ولا نعلم أحدًا فكر
في تكوينه ، ولم يستطع الأوربيون أن يجدوا شبهة على ذلك يلصقونها بمسلم ،
فأين التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية ؟
ولو شئت لرجعت إلى تاريخِ الشرقِ وذكرتَ اتفاقَ العثمانيين مع
أعدائهِمْ الروس على اقتسام البلاد الإيرانية عندما تغلب الأفغانيون على
أصفهان في عهد ( شاه سلطان حسين ) ومحاربتهم للإيرانيين من طريق
بايزيد عندما كان ( عباس ميرزا ) يدافع الروسية عن بلاده ، ثم مكافأة
إيران العثمانيين بمساعدة الروسية عليهم في حربها لهم ، فهل هذا من
التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية ؟
كان سلطان ميسور ( تيبو سلطان ) أرسل سفيرًا إلى الدولة العثمانية
يعرض عليها احتلال بلاده لصد إنكلترة عنها فردته خائبًا ، ولو أجابته
لهان عليها أن تملك بلاد الهند بلا مشقة ولا عناء .
وإن شاه إيران ( فتح علي ) أنذر الأفغانيين بالحرب مساعدة للإنكليز عندما
أراد الأفغانيون الزحف على الهند ، وإن أمير الأفغان ( دوست محمد خان ) نكث
عهد ( رنجت سنك ) صاحب بنجاب ومحالفته على صد الإنكليز ، ولولا ذلك
لما ظفر الإنكليز بجيش ( رنجت ) وأخذوا تلك المملكة بتلك السهولة ، كذلك
أمراء البنغالة والكرنانك ولكنهو قد مهدوا للإنكليز السبيل إلى الاستيلاء
على السلطنة التيمورية في الهند فهل كان كل ذلك من التعصب الإسلامي ، ومبادئ
العمل للجامعة الإسلامية .
وإذا تحولنا عن الهند إلى الممالك الإسلامية التي استولت عليها
الروسية نراها كلها كانت متخاذلة يشمت بعضها ببعض ، فقد سر أهل
بخارى باستيلاء تلك الدولة على بلاد التركمان وخوقند وقابلها هؤلاء
بالمثل عندما استولت عليها هي أيضًا ، ولم نر أحدًا من هؤلاء المسلمين
ساعد الآخر على صد الأجنبي عن بلاده ، فأين تجدون لنا في التاريخ
الإسلامي جرثومة من جراثيم التعصب النافع لنا أو الضار بكم ، وأين
تجدون الدليل على ما سمَّيْتُمُوهُ الجامعة الإسلامية ؟ هل اتحد ملوك
المسلمين في الماضي على محاربة النصارى كما اتحد ملوك أوربة على
المسلمين في الحروب الصليبية ؟ أو كما اتحدت دولها الآن في المسألة الشرقية ؟
إلى متى هذا الغش والتغرير ، والسخرية من هؤلاء المسلمين المتخاذلين
المتقاطعين ؟ ! !
هذا نذير من النذر الأولى ، وهذا نذير من النذر الآخرة ، وإن أمامنا
خطرًا كبيرًا فيجب أن ندرك كنهه ، وأن نبحث عن مستقبلنا مع الباغين
المعتدين ، وإلا ضاع كلُّ شيءٍ وصرنا أذل البشر ، وصعب علينا مع هذا
الاتحاد العام علينا أن نرتقي عن طبقة العبيد الأذِلاء ، وأول درس عملي
يجب أن نقوم به هو بذل المال لمساعدة طرابلس الغرب على نكبتها ، وأن
نستفيد بذلك كيف يكون التكافل والتعاون بيننا .
وإذا كنَّا لم نهتدِ لكل ما أصابنا فيما مضى إلى العمل للجامعة
الإسلامية التي نصون بها أنفسنا ونكون أمة عزيزة فعسى أن تكون
الكارثة الحاضرة مبدأ هذه الهداية ، وتكون إيطالية المغرورة هي الملجئة
إلى وضع الحجر الأول في هذا البناء الشريف الذي يوقف بغي أوربة عند
حدِّه ويعيد إلى الشرق أفضل ما سُلِبَ من مجدِه ، وقد قال حكماؤنا في
أمثالِهم : الشيءُ إذا جاوزَ حدَّه ، جاوزَ ضدَّه ، وإلى الله المصير .
* * *
( 5 )
ما يجب على العثمانيين المختلفين في اللغة والدين
إن وثوب إيطالية على طرابلس كما يثب الذئب الجائع على الشاة
وتأييد كل من حليفتيها ومن دول الاتفاق الثلاثي لها على عدوانها على ما
بين الفريقين من الخلاف والنزاع برهانٌ قاطعٌ على أنهم يريدون بذلك حل
المسألة الشرقية حلاًّ حاسمًا ( إن أمكنَ ) وإنه ليس عند أحدٍ من تلك الدول عاطفة
رحمة أو إنسانية أو نزعة عدل أو حق تحملها على كف عادية الظلم ،
وإطفاء نائرة البغي ، فهن في أرقى وأعلى مدنيتهن التي يسمونها مسيحية أشد قسوة
وأشوه وحشية من أهل البوادي والقِفَار ، وأين هم من العرب في جاهليتهم
وأدنى أحوالهم الذين عقدوا حلف الفضول على أن لا يدعوا ظالمًا إلا كفوه عن
ظلمه ، ولا مظلومًا إلا أعانوه على حقه ، وهن على هذا البغي والوحشية
والهمجية لا يخجلن من حمل قوسٍ بلادهم وكتابها وأساتذتها على مفاخرةِ
الإسلامِ بدينِهم ومدنيتِهم وآدابِهم وفضائِلِهم ، أعاذ الله الشرق منهم ومن شر
قوتهم التي يدعون بها كل تلك الدعاوى الكاذبة الخادعة ، وأكذبها دعوى
الانتساب إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام .
إن هؤلاء الوحوش الضواري ليس لهم دين إلا الدينار والنار والبارود
والديناميت التي هي وسائل اللذات والشهوات والكبر والفخر والخيلاء ، ألا
ترى إلى ملك إيطالية كيف ملأ ماضغيه فخرًا ببغي دولته وعدوانها
الوحشي ، وقال : إنه يريد أن يري أوربة عظمتها وقوتها في حرب طرابلس ،
لتقر عينها ويسر قلبها ببغي كثرتها على قلة العثمانيين هنالك ؟ ولا يخفى
على أحد قرأ الإنجيل وعرف سيرة المسيحيين الأولِيِنَ قبل أن تشوِّه أوربة
الديانةَ المسيحيةَ وتقلِّب أوضاعَها بأن المسيح ما أمر بالبغي والعدوان وسفكِ دماءِ
الأبرياء ، وهو ما تفاخر به أوربة ، وإنما أمر بالرحمة والرأفة ومحبة الأعداء
المبغضين ، ومباركة السابِّيِنَ اللاعِنين ، وأنه يجب على المسيحي أن يديرَ خدَّه
الأَيْسَرَ لمن ضربَه على خدِّه الأيمن .
إذا كان أولئك السياسيون السفاكون للدماء ، الشديدو الضراوة بتمزيق
الأشلاء أعداء للإسلام باعتدائهم على أهله ، فهم أشد عداوة للمسيحية
الحقيقية بقلبهم لوضعها ، وتغييرهم لطبعها ، ونفثهم لسموم التعصب
الذميم فيها ، فهم الذين أبادوا من أوربة جميع الوثنيين ، باسم المسيح
الرؤوف الرحيم ، وهم الذين أكرهوا بالسيف مسلمي الأندلس على
النصرانية أو الجلاء من البلاد باسم المسيح أيضًا ، وهم الذين أنشأوا
محكمة التفتيش لتعذيب العلماء والعقلاء الذين يصرِّحون بما تصل إليه
عقولُهم من حقائق العلوم باسم المسيح أيضًا ، وهم الذين أجْرَوا الدماءَ
أنهارًا لاختلاف المذهب في الدين الواحد كما أجْرَوْهَا أنهارًا من قبل
باختلاف الدين ، ولا يزالون يضطهدون اليهودَ والمسلمين في بعض البلاد ،
ويمنعون الكاثوليك من احتفالاتهم الدينية في إنكلترا .
ثم لما صارت الغلبة للماديين منهم لم يتركوا تلويث المسيحية بقسوتهم
التي ورثوها عن أجدادهم الرومانيين فكانوا إلى هذا العصر يغشون
المتدينين من شعوبهم بأنهم يريدون باعتدائهم على الدولة العثمانية إنقاذ
رعاياها المسيحيين من ظلم المسلمين ، والإدالة للصليب من الهلال ، حتى
إن الإيطاليين سالبي سلطة البابا عميد الدين الأكبر - ولا يقاس بهذا
تعديهم على الأحباش المخالفين لهم في المذهب - قد أخذوا من أحد
رؤساء الدين ( مطران كريمونا ) منشورًا يدعو فيه الإيطاليين إلى حرب
المسلمين في طرابلس الغرب ويثبت لهم مشروعيتها باسم المسيح ، وقد
جعلت إحدى الجرائد المسيحية بمصر عنوان هذا الخبر كلمة يعزونها إلى
المسيح وهي : ما جئت لألقي سلامًا على الأرض ، وتتمتها كما في إنجيل متَّى
( 10 : 34 ) ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا .
وجملة القول أن دول أوربة دول مادية وحشية غلب عليها الكِبْرُ
والعتو والغطرسة ، وما الدين المسيحي عندهم إلا آلة سياسية يغشون بها
المتدينين من شعوبهم ، ويتوسلون بها إلى العدوان على غيرهم ، فإذا هم
غلبوا على بلادٍ جعلوا أهلها كالعبيد والخدم لهم ولا يرضون أن يساويهم أحد من أهل
الأرض في الحقوق ولا في غير الحقوق ؛ بل يترفع الإنكليزي من
أدنى الطبقات عن الركوب في السكة الحديدية مع أشرف الهنود مَحْتَدًّا ،
وأعلاهم أدبًا ، وأوسعهم ثروةً ، على أن الإنكليز أقرب من سائر الأوربيين
إلى حب الحرية والعدل ، وهذا الكبر والعتو لم يُعْهَدَا في شعب من شعوب
الشرق ؛ حتى في طور البداوة والجهل .
يصف ملطبرون وغيره من مؤرخي أوربة الترك بالكبر والقسوة ،
وقد مضى على الترك عدةُ قرونٍ وهم أقوى دول الأرض بأسًا ، ولم يفعلوا
في زمن جهلهم ما فعلته أوربة من التعصب الفاحش بإكراه الناس على ترك
أديانهم أو مذاهبهم لاتباع دينها ومذهبها ؛ بل ترى هذه الدولة العثمانية ما
زالت أوسع حرية منهم وأشد تساهلاً حتى في هذا العصر الذي بلغوا فيه
أَوْجَ الحرية والمدنية والدليل على ذلك وجود الملل الكثيرة والنحل المتعددة
في بلادها إلى اليوم ، وهي الآن قد جعلت حكومتها مشتركة بين المسلمين
وغيرهم من أهل تلك الملل الكثيرة ، ولم تكلفهم ما تكلف فرنسة أهل
الجزائر وغيرهم من شروط الجنسية الفرنسية ؛ وهي أن يخالفوا اعتقادهم
الديني ويخونوا ضمائرهم بترك أحكام الإسلام في النكاح والطلاق
والميراث وغير ذلك من الأحكام .
إن كثيرًا من جهلة المسيحيين الشرقيين مغرورون بمسيحية أوربة ،
فهم يظنون أن الدول الأوربية إذا استولت على البلاد العثمانية تكون خيرًا
لهم من الدولة العلية فتساويهم بالأوربيين في الحقوق ورتب الشرف بحيث
لا يكون بين الفريقين فرق ، والدولة العثمانية لَمَّا تصل في المساواة بين
المسلم وغير المسلم إلى هذا الحد ، ويخالف أولئك الأغرار في ظنهم هذا
جميع أهل العلم من نصارى الشرق الذين عاشروا الأوربيين واختبروهم ،
والذين عملوا معهم حتى في مصر والسودان ؛ وهما القطران اللذان قضت
حالتهما السياسية والاجتماعية الممتازة وموقعهما الجغرافي أن يكون
الإنكليز فيهما خيرًا منهم أنفسهم في زنجبار ؛ بل وفي الهند ، يشهد هؤلاء
أن الإنكليزي المرءوس يرى نفسه فوق رئيسه المصري أو السوري
(الذي ما كان رئيسًا له إلا لأنه أرقى منه علمًا وخبرا في العمل المشترك
بينهما ) ، وإن كان هذا الرئيس على دينه ومذهبه ، فهو يرى نفسه فوق
كلِّ شرقي لأنه إنكليزي ، وهكذا شأن جميع الأوربيين مع جميع الشرقيين ،
والإنكليز أحسن أخلاقًا ومعاملة من سائر الأوربيين .
ألا فَلْيَعْلَمْ كلُّ نصراني عثماني أنه إذا وقعت بلادُه تحت سلطةِ دولةٍ
أوربية فقد حرم من حقيقة السلطة وشرف الرياسة وعزة الحكم التي يرجى
أن يكون له منها النصيب الوافر ببقاء الدولة العثمانية دستورية ، ولا يذهب
بهذا الرجاء من قلوب غير الترك من العثمانيين ما عرفوا من تعصب
زعماء جمعية الاتحاد والترقي لجنسهم ، ومحاولتهم تمييزه على جميع
الأجناس ، فإن هذا من الغرور الذي يزول بزوال أولئك الزعماء أو بزوال
نفوذهم العارض أو برجوعهم عنه ، وقد زعم صاحب جريدة طنين وهو
لسان حالهم أنهم قد رجعوا عن سياسة تتريك العناصر ، فإن كان مخادعًا فسيذهب
الزمان بخداعه ، وستؤول حكومة هذه الدولة إلى ما يسمونه اللامركزية
حتمًا ؛ إذ لا بقاء لها بغير ذلك إذا هي سَلِمَتْ من بغي أوربة وعدوانها .
فعلينا أيها الإخوان في الوطن والعثمانية أن نمحوَ من أذهاننا وساوسَ
أوربة التي بثَّتْها في بلادنا وفَرَّقَتْ بها كلمتَنا ، وأن نكون إلبًا واحدًا على
من يعاديها ، ويدًا واحدة في القيام بكل ما يحفظ كيانها ويرقيها ، وأن نستفيد من تعلق
قلوب المسلمين غير العثمانيين بها ، ونشكر لهم إخلاصهَم لها ، علينا أن نظهر
لها في هذه الشدة كل ما نستطيعه من المساعدة بأموالنا وأقوالنا وأفعالنا وشعورنا ،
وأن لا نؤاخذها بما ظهر من سوء سياسة بعض رجالها ، فإننا إذا جمعنا
كلمتنا على مساعدتها في هذه الأزمة نكون أقوياء بعدها على إحباط كل سعي لأولئك
المسيئين أو لغيرهم بقوة وحدتنا وظهور إخلاصنا الذي يقطع ألسنتهم ؛ فلا
يستطيعون أن يتبجَّحوا باحتكار الوطنية العثمانية ورمي غيرهم بالتعصب
للدين أو الجنسية .
هذا ما أُذَكِّرُ به أبناءَ الدولة العلية المخالفين لها في الدين ، وأما
أبناؤها المخالفون لأسرة السلطنة في اللغة فقط فلا أراهم يحتاجون إلى
التذكير بوجوب الاتحاد والتعاون على نصرها وتأييدها ، وموالاة من
والاها ، ومعاداة من عاداها .
أين سروات الألبان ورؤساء عشائر الأكراد ، وأمراء العرب الأنجاد ،
هذا وقت النجدة ، هذا وقت الوحدة ؛ { انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( التوبة : 41 ) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( التوبة : 38-39 ) .
اعلموا أن أوربة لا تبقي على أحد منكم ، وإذا ساغت لها لقمة
طرابلس الغرب فستكون ألبانيا لقمة للنمسة ، وبلاد الأكراد لقمة للروسية ،
واليمن كالخليج الفارسي لقمة لإنكلترة ، أو مشتركة بينها وبين إيطالية ،
وأما سورية فيقال إن إنكلترة لا ترضى إلا بجعلها فاصلة بين مصر وبين
الأناطول الذي هو حصة ألمانيا حبيبة الترك ، وذلك بأن تكون مستقلة
تحت حماية الدول الكبرى كلها ويكون حاكمها العام أوربيًّا .
هكذا قد اقتسموا البلاد ولا يقيها من تنفيذ القسمة إلا نجدتكم واتحادكم
واستعدادكم بالفعل للذود عن بلادكم ، فوالله لئن ظفروا ببغيتهم ليجردن بلادكم كلها
من السلاح ، وليتحدن على أن لا يبيعوكم بعد ذلك سلاحًا ، ولا يدعوكم
تعملون ولا تتعلمون كيف تعملون ، وليسومنكم سوء العذاب ، وليحرمنكم
من السلطة والثروة ، وليسلطن عليكم قسوسهم ومقامريهم وخماريهم
وبغاياهم ليفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وصحتكم وآدابكم .
أين أنت يا أمير مكة وسيد الشرفاء ، أين أنت يا إمام اليمن يا ذا
النجدة والإباء ، أين أنتم يا أمراء نجد الأمجاد ، أين أنت يا صاحب كويت ،
أين أنت يا ابن سعود ، أين أنت يا ابن الرشيد ، ألا يدعو بعضُكم بعضًا إلى
الاجتماع والتعاون على نصرة الدولة ، ألا يجب أن تزحفوا على مصوع
والأرتيرة ، ألا تبذلون المال والنفس في هذه الشدة ؟
وأنتم يا علماء النجف وكربلاء وإيران ، هذا أوان يجب عليكم من خدمة الإسلام
هذا أوان شد أَوَاخِي أُخُوَّةِ الإيمان ، والتعاون على حفظ ما بقي له من
الاستقلال ، عليكم بما لكم من النفوذ الروحي أن تستلوا من نفوس المتفرنجين نزغة
الجنسية الجاهلية ، وأن تجذبوا الأمة الفارسية إلى الأمة العثمانية ، كلا إن
الأمة واحدة ؛ ولكن فَرَّقَتْها الأهواءُ ، وهذا أوانُ جمعِ المُتفرِّق ولَمّ الشتاتِ .
وأنت أيتها الآستانة أما آن لك أن تعلمي أن حمل هؤلاء كلهم للسلاح
خير لك من جمعه منهم ، وأن تعلميهم النظام العسكري خير لك من جهلهم
به ؟ ! أصلحي ما أفسده المتفرنجون الملحدون ، فبالإسلام تجعلين ملايين
من أولئك الليوث فداءً لاستقلالك ، كما نصحنا لك إذ كنا في جوارك ، وقبل
ذلك وبعد ذلك .
... ... ... ... ... ... ... في 21 شوال سنة 1329
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
(14/833
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1329هـ
ديسمبر - 1911م

المسألة الشرقية
( 6 )
( بعض ما يجب من العبرة في الحالة الحاضرة )

قد أتى علينا حين من الدهر ونحن في غمة من أمرنا ، وأوربة تتصرف فينا
كما يتصرف الأوصياء الخونة في كفالة المعتوهين والقاصرين عن درجة الرشد ،
لا همَّ لهم إلا بقاء الحجر عليهم ؛ ليتمتعوا بأموالهم وما ورثوا من آبائهم وأجدادهم .
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا بجميع فتن السياسة . وزينت لهم تقليدهم في
زخرف مدنيتها ، وأوهمتهم أنها تهديهم إلى سبيل الرشاد التي يصلون بسلوكها إلى
ما وصلت هي إليه ؛ من المدنية الجميلة التي تدهش الأبصار وتفتن الألباب ، حتى
سلبت ممالكهم ، وثلت عروشهم ، فمنهم من ذهب من سلطانه العين والأثر ، ومنهم
من بقي له الاسم والرسم دون التصرف والحكم ، ولم يعتبر اللاحق منهم بما حل
بالسابق ، وأنى لهم العبرة وهم بين قاصر العقل وفاقد الرشد ، وقد عمهم كلهم
الجهل ، وحيل بينهم وبين ما يجب عليهم من العلم .
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا ، ولم تقصر في فتنة شعوبنا ، فقد هاجمتنا بجنود
من القسوس والمعلمين ، والتجار والسماسرة والمرابين ، والبغايا ( المومسات )
والقوادين والقوادات ، وأصحاب الملاهي والحانات ، فحاربتنا في عقائدنا الدينية ،
وفي مقوماتنا ومشخصاتنا الملية ، وفي آدابنا وعادتنا القومية ، وفي رزقنا وثروتنا
العمومية ، تريد بهذا كله الفتح والاستعمار باسم المدنية .
راجت في سوقنا كل هذه الفتن ، فحلت روابطنا ، وأضعفت جامعتنا ،
ومزقت نسيج وحدتنا ، واغتالت معظم ثروتنا ، ونحن نتوهم أننا نرقي بذلك أنفسنا
ويظن الذين تفرنجوا منا أنهم صاروا أرقى من سائرنا عقولاً ، وأعلى آدابًا ،
وأصلح أعمالاً ، حتى إن بعض أحداث المدارس منهم يرون أنفسهم بتأثير فتنة
التفرنج أنهم أرقى من سلفنا الصالح الذين فتحوا الممالك ومصروا الأمصار ،
ودونوا العلوم ، وبنوا لنا ذلك المجد الذي ساعدنا أعداءنا على هدمه منذ قرون ولما
ينهدم كله ، ألا إننا قوم جاهلون مخدوعون ، نخرب بيوتنا بأيدينا ، وأيدي أولئك
الفاتحين المخادعين لنا ، ولا ندري ماذا نفعل .
كان سفراء أوربا ووكلاؤها ، وقسوسها وعلماؤها ، وتجارها ومومساتها ، هم
القواد الفاتحين ، والملوك السائدين ، الذين ما دخلوا قرية من ممالكنا إلا أفسدوها ،
وجعلوا أعزة أهلها أذله وكذلك يفعلون ، ومن عجائب جهلنا وغفلتنا أن أمرنا معهم
لا يزال غمه علينا ، ولا نزال نرجو الخير منهم ، والترقي بتعلم لغاتهم ، واتباع
عاداتهم .
ما صخت العبر آذاننا ، وخطفت أبصارنا ، وقرعت أذهاننا ، كما فعلت في
هذا العام الذي تواطأت فيه أوربة على مرأى منا ومسمع ، متفقة على ابتلاع
الممالك الثلاث التي كانت باقيه لنا ، وهي الدولة المغربية والدولة الإيرانية والدولة
العثمانية ، بدأت أوربة بالجناحين ( إيران ومراكش ) فلم تر في المجموع
الإسلامي شعور ألم يذكر ، ولا حركة دفاع تخشى ، فتجرأت على القلب . وإذا
جاز أن يعيش من قطعت أطرافه كما فعلت أوربة بجسم ملكنا ، فهل يجوز أن
يعيش الجسم بغير قلب ، فمتى نفيق ، ومتى نشعر ؟
وصل البغي والعدوان علينا إلى هذه الدرجة ، ولم تزل الغشاوة كلها عن
أبصارنا ، ولا الرين عن قلوبنا ، ولا يزال في آذاننا وقر ، وبيننا وبين الحقيقة
حجاب ، ولا تزال أوربة تنظر إلينا نظرة الوصي القوي المنة الشديد الطمع إلى
الغلام السفيه ، وهي ترجو أن لا تحمل في الإجهاز علينا كبير عناء ببركة اتحادها
وتخاذلنا ، وحزمها وتواكلنا ، ثم خلابة من ربت لنا من تلاميذها الذين يزينون لنا
أن مدنيتنا لا تتحقق إلا بتقطيع أوصال جامعتنا الملية الأولى ، وصيرورة كل عضو
منا جسدًا كاملاً باستقلال كل قطر من أقطارنا بجنسية جديدة ، وبراءته من سائر
الأقطار ؛ إرضاء لأوربة التي أرشدتنا إلى هذه الحياة الجديدة وحببتها إلى تلاميذها
منا ، وبغضت إليهم رابطتنا الملية الأولى ؛ لأنها من التعصب المذموم في عرف
مدنيتها الشريفة المبنية بزعمها على حب الإنسانية وإرادة الخير لجميع البشر .
أفيقوا أفيقوا أيها المساكين المخدوعون ، وانظروا إلى ما تفعل أوربة بكم ،
إنها ما قطعتكم أفلاذًا لتمدن كل واحدة منكم على حدتها حبًّا في الإنسانية ، وإنما
قطعتكم كما تقطع الحمل المشويّ لتأكله لقمة بعد لقمة ، لستم بأعلم بحب هؤلاء القوم
للإنسانية من فيلسوفهم الأكبر الحكيم هربرت سبنسر ، الذي نصح لليابانيين بأن لا
يتحدوا بقومه الإنكليز ، ولا يجعلوا لهم موطئًا في بلادهم ؛ لئلا يفسدوا عليهم أمرهم ،
ويلتهموا ثروتهم ، ويزيلوا ملكهم من الأرض ، أو يجعلوه أثرًا بعد عين ، ليس
لهم منه إلا الاسم .
اعلموا أن أمر أوربة كله في أيدي رجال السياسة ورجال المال ، وهؤلاء كلهم
من أصحاب الأثرة والبغي ، لا يعرفون الحق إلا للقوة القاهرة ، وكل ما يتشدقون به
من ألفاظ الإنسانية والمدنية والحق والعدل والقانون وما يشاكل هذه الكلمات ؛ فهو
من خدعة الحرب وغش التجارة ، ومن يوجد في أوربة من أهل الفضيلة ومحبي
الحق والعدل مخدوعون مثلكم بأكاذيب السياسيين والماليين ، ودعاة الدين الذين
ينفرونهم من الشرق والشرقيين والإسلام والمسلمين ، فرجاؤنا في استقلالهم أن
ينفعنا قليل ، ليس عليه تعويل .
لماذا تقوم قيامة الشعوب الأوربية كلها إذا حارب العثمانيون حكومة من
حكومات البلقان المسيحية ، أو حاولوا إخماد ثورة كتلك الثورة الأرمنية ، لماذا
تستنفر تلك الشعوب حكوماتها على دولتنا ، وتساعدها بالمال والتطوع لمحاربتنا ،
ولماذا نراها وادعة ساكنة ، وقد بغت إيطالية واعتدت علينا ، وتنظر بعين الرضا
والارتياح إلى أسطولها وهو يمطر على ولاية من ولايتنا قذائفة الجهنمية ؟ وهذا مع
إجماعها على بغي إيطالية واحتقارها للقوانين ونكثها للعهود الدولية ( هذا وما كيف
لو ) هذا وما جاءت إيطالية بشبه من الشبه التي اعتادت أوربة أن تدلي بها إلى
شعوبها ، ليوافقوها على الاعتداء علينا ، كإنقاذ المسيحيين من تعصب المسلمين أو
منع الثورات ، وتأييد عروش الحكومات ، فكيف كان يكون تأييدهم لها لو جاءت
بمثل ذلك .
ألا إن الخطب كبير والبلاء عظيم ، وكل من ظهر من تأثيره فينا فهو قليل
بالنسبة إلى ما يراد به منا ، ماذا عملنا ، جمعنا شيئًا من الإعانة بمصر لإنقاذ
جيراننا وإخواننا أهل طرابلس من براثن الموت مصابرة أو صبرًا ، ولكن لما يبلغ
ما دفعه العشرات والمِئِين من أمرائنا وسرواتنا ومثرينا نصف ما دفعه غني واحد
من أغنيائنا الذين أفسدهم التفرنج في هذه السنة وحدها لمقامري أوربة ومومساتها ؟
إن الجرائد الأوربية التي تصدر عندنا تنفرنا من إعانة دولتنا والعطف عليها ،
وتظهر أنها قد استكبرت منا ما تصدينا له ، وهي إنما تسخر منا وتستصغر ما
تظهر أنها تستكبره ، وتعرف حقيقة ما تظهر أنها تستنكره ، وترى كدولها أننا نعمل
عمل الصغار ، فهي كدولها تعبث بنا كما يعبث الرجال بالأطفال { فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
إن الأمة التي تعرف قيمة الحياة هي التي تحتقر الحياة والمال ، في سبيل
الشرف والاستقلال ، فيجب أن تعرف أوربة منا في مثل هذه الحال أننا أمة واحدة
وأننا لا نحمل الضغط إلا إلى درجة معينة ، وأنها إذا تجاوزت بنا تلك الدرجة فما
ثم إلا الانفجار ، الذي لا يعلم عاقبته إلا الله الواحد القهار ، فلتربع على ظلمها ،
ولتقف عند هذا الحد في طمعها ، وإذا لم تكف عنا بغي دولة الفوضويين
واللصوص ، فلتتركنا وشأننا معها ، ولا تعارضنا فيما نفعله في بلادنا من إرسال المدد
والذخيرة من مصر ، وعن طريق مصر إلى طرابلس الغرب ، ومن معاملة الطليان
في بلادنا ، بما يجوز لكل أمة وحكومة منهم أن تفعله في بلادها . أما إذا كانت
ألمانية تمنعنا من مقاطعتهم أو إخراجهم من ديارنا ، وإنكلترة تمنعنا من إرسال
الرجال والذخائر من مصر ، فلا تكون إيطالية وحدها هي المحاربة لنا ، وإنما
تحاربنا أوربة بأسرها ، وهل لنا ذنب يقتضي كل هذا إلا ديننا ؟ فأين التعصب ؟
ومن هم المتعصبون ؟ ألا تعتبرون أيها الغافلون .
أظهرت إيطالية من الجبن شجاعة ومن العجز قوة ، وبغت وتكبرت في
إنذارها لدولتنا ، وإنما جرأها على ذلك علمها بأن دول أوربة الكبرى كلها معها ،
واعتقادها أنها تنصرها أولاً وآخرًا عملاً بقاعدة : ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود
إلى الهلال ، وما أخذه الهلال من الصليب ، يجب أن يعود إلى الصليب .
ولأجل هذه القاعدة قالت : إنها لا تقبل مناقشة ولا مذاكرة في مسألة طرابلس
إلا بعد احتلال عسكرها فيها ، ونتيجة القياس المنطقي الذي يتألف من هذه القاعدة
ومن استحلال أوربة وإقدامها على مثل هذا التعدي ؛ أنه يجب أن لا يبقى للهلال
ملك في الأرض .
إن إيطالية لم تحتقرنا بجمع البحرية والبرية وهجومها بها على طرابلس
العزلاء الخالية من الحامية والاستعداد ، بل احتقرت نفسها والدول المساعدة لها ،
وأقامت الحجة على أنه لا قيمة للحق ولا للفضيلة ولا للإنسانية عندها ، وإنما
تحتقرنا هي وحليفتها ألمانية بمساومتنا في بيع شرفنا وديننا بثمن بخس تعرضه
على دولتنا ؛ لتقر إيطالية الباغية على بغيها ، وتجعل طرابلس ملكًا شرعيًّا لها ،
ولعل عاهل ألمانية صديق السلطان والدولة والمسلمين ( ؟ ؟ ) لا يجهل أن نصيحته
هذه تكون أشأم على الدولة من زيارته لطنجة وإظهاره الميل والمساعدة لسلطان
مراكش ، لعله يعلم أن العمل بنصيحته يسخط العالم الإسلامي كله على ( صديقته )
الدولة ، ويثير عليها رعيتها ، وإذا ترتب على ذلك ( لا سمح الله أن يكون ) هلاكها
تكتفي أوربة أمرها ، وتسلم من تبعتها أمام العالم الإسلامي .
ألا فيعلم الإمبراطور العظيم وحليفه الملك المتعظم ، أن الدولة العثمانية ليست
الآن في يد عبد الحميد فينالا منه ما أراد ، ولا بيد تلك الزعنفة التي خدعتهم ألمانية
بمكر يهودها الصهيونيين ، وإنما أمرها إلى مجلس كبير ، لا يبيع دينه وشرفه بمال
اليهود ولا ينخدع بمكرهم ، وقد انكشف له الستار عن كنه صداقة ألمانية لنا التي
جرت علينا كل هذا البلاء ، فإن استطاع مجلسنا أن يؤلف وزارة تقدر أن تقنع
إنكلترة وصديقتيها بذلك ، ويكف بغي دول التحالف الثلاثي عنا فذاك ما نحب من
السلم والحق ، وإلا فالرأي ما بينا من قبل ، ورأينا كلَّ من نعرف من المسلمين
متفقين معنا عليه ، وهو أن نحب الموت في سبيل حفظ ما هو لنا أكثر مما يحبه
غيرنا في سلب ما ليس له ، وحينئذ إما نبقى أصحاب دولة وشرف ، وإما أن نموت
كما يموت الكرام ، بعد أن نميت أضعافنا من أعدائنا البغاة .
أيها المبعوثون المخلصون ، إنكم تعلمون أن بيع طرابلس بيع للدولة كلها
وقضاء عليها ، فإذا عجزتم عن إنقاذها ولم تجدوا من أوربة مساعدًا ، فاعلموا أنه
ليس بعد اليوم كوفة ، فادفعونا إلى عمل اليائس من الحياة ، ووزعوا كل ما عند
الدولة من السلاح علينا ، واطردوا جميع أعدائنا من بلادنا ، وتعرضوا لجهر أوربة
كلها بمحاربتنا ، فذلك أشرف لنا من إسرارها لذلك ، وربما كان خيرًا وأبقى . 23
شوال .
* * *
( 7 )
( أماني إيطالية وظنونها في مسألة طرابلس الغرب )

صرّح علماء الحرب الذين عرفوا طرابلس الغرب من ألمانيين وغيرهم ؛ أنه
ليس في استطاعة إيطالية أن تتجاوز سواحلها ، وتتوغل في داخليتها بالقوة العسكرية
لأسباب متعددة :
( منها ) شجاعة عرب هذه الولاية الخارقة للعادة ، وتصديهم للحرب والكفاح
من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة ، مع وفرة السلاح عندهم وتمرنهم على استعماله
وبراعتهم فيه ، وكراهتهم لسلطة الأجنبي المخالف لهم في الدين والجنس والعادات
واللغة .
( ومنها ) أن العسكر الأوربي إذا تجاوز الساحل دخل في صحاري رملية
وعثاء يعوزه فيها الماء ، وما ثَمَّ إلا آبار قليلة ماؤها خمجرير ( ثقيل ) ، لا يعرف
مواقعها إلا الوطني الخرّيت . وقد يطمونها ويطمسون معالمها فلا يهتدي إليها
غيرهم ، على أن ماءها يؤذي الأوربي ولا يؤذيهم .
( ومنها ) قلة الزاد ، فليس هناك أسواق ولا أهراء ، يأخذ منها الجند
الأوربي ما اعتاد التغذي به من الخبز والبطاطس والحبوب والخضر واللحم والخمر ،
وأما العربي الوطني فهو يكتفي من الزاد في يومه بكسرة من الخبز أو قبضة من
الشعير أو التمر ، ويحارب على ذلك طول العمر .
( ومنها ) أن عرب البلاد يستمدون ممن وراءهم من البلاد السودانية وكلها
إسلامية ؛ تمدهم وتساعدهم على جهاد عدوهم الذي فرض الله عليهم قتاله بعد تعديه
عليهم ، ولا سيما إذا استنجدهم السنوسيون وعرفوهم أن الجهاد يكون فرض عين
على كل مسلم ومسلمة ؛ إذا دخل الكفار بلاد المسلمين محاربين فاتحين .
ولا يعقل أن تجهل إيطالية من حالة هذه البلاد ما عرفه الألمان والإنكليز ،
فإنها منذ عشرات السنين تمهد السبيل لامتلاكها ، وفيها كثير من تجارها وعلمائها ،
وكم أرسلت إليها من الضباط للوقوف على شؤونها الحربية ، فلماذا أقدمت الآن
على فعلتها الشنعاء بهذه الصورة الشوهاء ؟ أفلم تحسب لتلك الأسباب حسابًا ، أم
ترضى من الغنيمة باحتلال السواحل ، وجعل الأسطول أمامها يحميها إلى ما شاء
الله ، أم لها في ذلك رأي آخر رازه ساستها ، واعتمد عليه قادتها ؟
أقوال حكومة إيطالية وجرائدها تدل على أنها تعتقد أن أهالي طرابلس لا
يحاربونها حربًا ذات بال يخشى أن يطول أمرها ، ويتفاهم شرها ، وقد استنبطنا
من هذه الأقوال ومما نعرف من سعيها ودسائسها في طرابلس أنها تبني اعتقادها هذا
على عدة دعائم :
( 1 ) ما بذلته من المال والدسائس لاستمالة شيوخ العرب وزعمائهم إليها
وتنفيرهم من الترك ، ولاستمالة الشيخ السيد السنوسي وإقناعه بأن إيطالية محبة له
وللإسلام والمسلمين ! ! وقد أتعبتها الوسائل حتى استطاعت إرسال هدية إلى الشيخ
السنوسي ، وأقنعته بقبولها بسعي أحد التجار المسلمين بمصر ، بعدما أخفق سعي
جاسوس وكالتها السياسية هنا في ذلك .
ونحن نرى أن هذه الدعامة متداعية لا تمسك هذا البناء ، فهدية ملك إيطالية
إلى الشيخ السنوسي لم تفد ذلك الملك أدنى ميل من السنوسي إليه ولا إلى دولته ،
وكل ما بذل لمشايخ العربان يمكن أن يهدم بكلمة واحدة تلقى إليهم وتذاع بينهم ،
وهي أن هؤلاء الإيطاليين يريدون إزالة حكم القرآن من هذه البلاد وإخضاع
المسلمين لأحكامهم وإزالة سلطانهم ، والتمهيد بذلك لإذلال دولة الخلافة ومحوها من
الأرض .
( 2 ) مخادعة العرب وغشهم بإيهامهم أنها تريد أن تجعل حكمهم لشيوخهم
وزعائمهم تحت حمايتها ، وأنها تحترم شعائر دينهم وتمكنهم من إقامته والعمل به
كما يشاؤون ، وقد أوصت الحكومة الإيطالية جيشها الذي أرسلته لاحتلال هذه البلاد
بأن يحترم المساجد وكل ما هو ديني ، وأن يبلغوا مشايخ العرب وسائر الأهالي نحو
ما شرحناه من الخداع ، ويقيس الإيطاليون مسلمي طرابلس على غيرها من
المسلمين الذين خدعوا من قبل بمثل هذه الوعود ، حتى إذا تمكن نفوذ الأجنبي فيهم
هدم أكثر مساجدهم ، واغتصب جميع أوقافهم ، ومنعهم من تعلم أحكام دينهم ، وإنما
يأذن ببعضها دون بعض ، وضيق عليهم الخناق لأجل أن يتركوا أحكامهم في النكاح
والطلاق والميراث ، وبث فيهم دعاة دينه يفترون على الإسلام وينفرون عنه هذا
ولا يجعل لأحد منهم أدنى سلطة في حكومة بلاده ، وشبهته أن هذه حكومة مدنية
وأن المسلمين جاهلون متوحشون ، لا يصلحون لإدارة الأحكام وإقامة العدل فيها ما
داموا كذلك .
وهذه الدعامة أوهى من تلك ؛ فإن في طرابلس على غلبة الجهل عليها كثيرًا
من العلماء ومشايخ السنوسيين ، يعرفون حقيقة ما عليه كثير من إخوانهم المسلمين
الذين سقطوا تحت سلطة الدول الأوربية التي هي أقرب إلى الحرية والعلم والمدنية
والشرف من إيطالية الماكرة الغادرة المجاهرة بالبغي عليهم وعلى دولتهم ، وما هم
عليه من الذل والفقر والجهل والحرمان من الحرية والمدنية ، ويعلمون أن تلك
الدول لم تف لهم عهدًا ، ولم تصدقهم وعدًا ، وأنها لا ترقيهم ، ولا تمكنهم من ترقية
أنفسهم ، وقد يوجد الآن من يبلغهم أن البلاء المبين الذي تدخره إيطالية لهم ؛ هو
أضعاف ما يشكو منه غيرهم من المسلمين الذين يعرفون أخبارهم ، وغيرهم ممن لا
يكادون يعرفون عنهم شيئًا ، وأين المدينة التي أقامت أركانها إيطالية في الإرتيره ؟
وكيف وأكثر بلادها الجنوبية نفسها في قارة أوربة ( المقدسة ) محرومة من المدنية
والعمران ، يفر أهلها منها إلى أميركة وغيرها من البلاد ، كما يفر الموسوس من
الأرض الموبوءة .
( 3 ) بثها في هذه الولاية وسوسة الجنسية العربية ، والتنفير من الترك
بأنهم أهل ظلم وجور ، يبغضون العرب ولا يعرفون لهم حقهم ولا ما يوجبه الإسلام
لهم وقد كادت تقوى هذه الفتنة في طرابلس الغرب وفي غيرها من البلاد بسوء
ذكرى الحكام المستبدين في العصر الماضي ، وبما ذاع من أمر السياسة الجنسية
السوءى التي بها عرف زعماء جمعية الاتحاد والترقي في الثلاث السنين الماضية
وحذرناهم من سوء عاقبتها ، وأنذرناهم مغبتها ، فتماروا بالنذر ، وأقدموا على ما
أقدموا عليه من الأقوال والأعمال السياسية والحربية ، وهذه التفرقة الجنسية بين
المسلمين ، وتقطعهم أممًا مختلفة في الوطن أو اللغة هي أقتل آلات الفتك التي
حاربتهم بها أوربة ؛ بإعانة تلاميذها المتفرنجين الذين لا يزالون يبالغون ما
لا يبالغ الإفرنج في التنفير من الرابطة الإسلامية والجامعة الدينية .
كنت أخشى أن تكون هذه الدعامة أقوى الدعائم التي تمهد لأوربة تقطيع
أوصال الدولة العلية ، وجعل كل إقليم من مملكتها يغلب فيه جنس من الأجناس
مملكة مستقلة بالاسم فقط ، كنت أخشى هذا وهو الذي كان يمكن لإيطالية فيه أن
تزيل سلطة الدولة العلية من طرابلس بمعونة أهل طرابلس أنفسهم . ولكنني أحمد
الله أن استعجلت أوربة باستيفاء جميع غلة هذه الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن
( شجرة عصبية الجنسية ) ، فكانت إيطالية هي السبب في اجتثاثها من طرابلس
قبل رسوخ جذورها فيها .
نزعة الجنسية الشيطانية لم تنتشر كثيرًا في طرابلس ؛ لأنه قلما يوجد فيها من
قرأ جريدة عبيد الله التي سماها ( العرب ) وجريدة ( طنين ) وأمثالها ، فلا تزال
الرابطة الإسلامية هي الحاكمة على قلوبهم . وما وصل إليهم من جواسيس إيطالية
ضعيف ، ويوجد فيهم من يرشدهم إلى أن الترك إخوتهم في الإسلام ، وإن كان الظلم
الذي عرفوه منهم ؛ سببه الجهل بأحكام الدين وبالمصلحة العامة ، وأنهم كانوا
يظلمون في بلادهم كما يظلمون في البلاد العربية ونحوها . وأن الدولة دخلت الآن
في طور جديد يرجى أن يصلح به حال الجميع ، ولكن أعداءها وأعداء الإسلام ،
يريدون أن يقضوا عليها قبل إصلاح شأنها ؛ لأنهم يكرهون صلاح الشرقيين عامة
والمسلمين خاصة ، ويريدون أن يظلوا ضعفاء فقراء ليكونوا خدمًا بل عبيدًا
لأوربة .
إن إيطالية لم تجتث شجرة عصبية الجنسية من طرابلس الغرب فقط ، بل
هي قد زعزعت هذه الشجرة الخبيثة في سائر البلاد الإسلامية بهذه البغي والطغيان
وتبع ذلك رسوخ شجرة الرابطة الإسلامية الطيبة ، وتشعب أفنانها في مصر
وتونس والجزائر واليمن وسورية والأناطول والأرنؤط وبلاد التتار وإيران
والهند . كان يقول القائل ويكتب الكاتب في الجنسية المصرية وانفصالها من الجنسية
التركية أو العثمانية ، واستقلال أهلها دون إخوانهم العثمانيين وغيرهم ، وتفضيل
القبط عليهم ، فلا يلقى إلا التحبيذ والتصفيق ، فنبه هذا العدوان الذي أصفقت عليه
أوربة مسلمي مصر إلى أنهم مسلمون قبل كل شيء ، فمن عرض الآن بصرف
المصري عن الاتحاد بالعثماني ومساعدته بماله ونفسه ، وعن اعتقاد كون مصلحته
عين مصلحته ، وحياته مرتبطة بحياته ، لا يلقى إلا اللعن والتحقير من الكبير
والصغير إلا أفراد من غلاة التفرنج أو من المنافقين .
تبيّن بهذا فساد ما كانت تظنه إيطالية ؛ من أن عرب طرابلس لا يقاتلونها
قتالاً شديدًا يطول أمره بضعف الدعائم التي بنته عليها ، وكانت ترى أن الأمر
ينحصر في مقاومة الجند النظامي ، وقد مهدت السبيل إلى جعل هذه المقاومة لا
تأثير لها باستعمال حقي باشا وغيره من أنصاره ، كما تستعمل الآلات التي تمهد بها
الطرق التي تمشي عليها ، أولئك الأنصار الذين يبخلون بالمال أن ينفق على مثل
طرابلس لحمايتها أو لترقيتها ، ولكنهم لا يبخلون به أن ينفق على محاربة الدولة
لأبنائها وأخواتها ؛ كما فعلوا في اليمن وغيرها لغير سبب موجب وغير نتيجة
صالحة .
أهمل تحصين طرابلس ، وفرق شمل الألايات الحميدية الأهلية التي كانت
مرابطة فيها ، ولم يوضع فيها من الجند إلا ما قد يحتاج إليه ؛ لأجل تحصيل
العشور والضرائب وحفظ هيبة الحكومة في نفوس الأهالي ، وما كان هذا وحده هو
الذي أطمع إيطالية وجرأها على مهاجمة البلاد وإنزال عساكرها فيها ، وإنذار الدولة
صاحبة البلاد بأنها تريد ضمها إلى أملاكها ، وطلب إقرارها إياها على ذلك بالتهديد
والوعيد .
نعم .. ما كان المجرئ لإيطالية على فعلتها ؛ هو خلو البلاد من الحصون
المنيعة والحامية الكافية ، ولا الظن بأن مدافعة العرب لا تكون شديدة طويلة ، ولا
مشايعة أوروبة لها في الباطن ؛ فإن أوربة وإن سكتت لها على عملها ولم تعارضها
فيه لا يمكن أن تعترف لها به رسميًّا ، وتعدها به صاحبة البلاد الشرعية ، إذ لا
يعقل أن تغمط جميع الدول الكبرى أمام شعوبها الحق بصفة رسمية إلى هذه الدركة
السافلة ، وفرق عظيم بين السكوت للمبطل بين السكوت للمبطل على باطله ، وبين
الإجماع على تسمية باطله حقًّا بالتصريح الرسمي . وإذا لم تعترف الدول بامتلاكها
لتلك البلاد بمثل هذا البغي والعدوان ، يكون للدولة صاحبة البلاد الرسمية أن تطالب
بحقها بالقوة الحربية أو بغيرها في كل وقت ، وتكون الباغية في مركز حرج في
جميع تصرفاتها .
إيطالية تعلم هذا ، وتعلم أنه إذا تيسر لها احتلال ما وراء الثغور البحرية من
البلاد في زمن قريب أو بعيد بعد خسارة كبيرة أو صغيرة ، فإنه لا يتيسر لها أن
تسوسها وتدبر شؤونها ، وتكون آمنة مطمئنة فيها ، تأتيها المكاسب رغدًا من كل
مكان وهي ليس لها صفة رسمية فيها ، تلك أمنية لا ينالها الغاصب لأرض يعلم هو
وأهله وجيرانه والعاملون في الأرض ، وجميع من يريد معاملتهم فيها أنه غاصب
ناهب ، وأن تصرفاته غير شرعية ، ويخشى في كل وقت أن تعصف ريح الحق
فتزلزله أو تزيله منها ، فماذا أعدت إيطالية لذلك ؟ وما هي الوسيلة التي تتوسل بها
لحمل الدولة العلية على إقرارها على عملها ، وجعل مقامها في طرابلس جائزًا في
قانون حقوق الدول ؟ ولا تكون اللقمة سائغة هنيئة بل لا يسهل ازدرادها بدون ذلك ؟
يمكننا أن نستنبط جواب هذا السؤال العويص من فحوى الأقوال ، ومن قرائن
الأحوال ، ومن الوقوف على بعض مخبآت السياسة ، ومذاهب الزعماء وأهل
الرياسة ، وهو أن إيطالية ترى أنها إذا احتلت طرابلس بالفعل ، فإن حمل الدولة
العثمانية على إقرارها على الاحتلال أمر يسير غير عسير لأربعة أسباب :
( أحدها ) علمها بأنه لا يمكنها إخراجها بالقوة ؛ لضعف أسطولها ، ومنع
إنكلترة لها من إرسال جندها بطريق مصر .
( ثانيها ) علمها بأن أوربة لا تكره إيطالية على الخروج عملاً بالقاعدة ( ما
أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال ) .
( ثالثها ) إن بعض أصحاب النفوذ من المتفرنجين العثمانيين ؛ يرون مثل
هذا الولاية من الأطراف البعيدة عن كرسي السلطنة ، لا تستحق أن ينفق عليها
شيء من المال لأجل حمايتها أو ترقيتها ، وأنه إذا أمكن الاستعاضة عنها بمال ينفق
في العاصمة وما يليها يكون أولى ، وأن بيع طرابلس الغرب أسهل وأولى من بيع
البوسنة والهرسك .
( رابعها ) مساعدة الحزب الألماني في الدولة على ذلك . ونفوذ هذا الحزب
في جمعية الاتحاد والترقي وفي ضباط الجيش العثماني عظيم، ومن رجاله المؤثرين
دهاقين اليهودية في سلانيك والآستانة وأبناء عمهم من الصابئين . هذه هي آراء
إيطالية أو أمانيها .
أما الصورة التي رسمتها بإرشاد حليفتها ألمانية لتنفيذ ذلك فهي - على ما
ظهر لنا - أن إيطالية تدعي بعد احتلال طرابلس ؛ أنها تريد جعلها ملكًا خالصًا لها
وتنذر الدولة العثمانية بطشتها الكبرى إذ لم تقرها على ذلك ، بأن تأذن لأسطولها
بضرب ما شاء من موانيها وجزرها واحتلال ما شاء منها ، فعند ذلك تنبري ألمانية
للصلح باسم الصداقة والمحبة الخالصة لهذه الدولة ولجميع العثمانيين والمسلمين ؛
لأجلها كما قيل : لأجل عين ألف عين تكرم ، وتخدمها كما خدمتها في مسألة بيع
البوسنة لحليفتها الأخرى النمسة ، فتأخذ لها مبلغًا من المال ، وتحمل إيطالية على
الاعتراف بسيادة السلطان الاسمية على طرابلس .
نعم .. تذيع إيطالية أنها لا ترضى بأن يبقى للسيادة العثمانية هنالك اسم ولا
رسم ، وهذا تمويه تمهد به السبيل لإرضاء العثمانيين باسم السيادة ؛ ليقال : إن
إيطالية تنازلت عن بعض مطالبها في الصلح ؛ إكرامًا لحليفتها ألمانية ، وحبًّا
في السلام وكراهة الحرب .
ربما يكون قد بدا لإيطالية ما لم تكن تحتسب في هذه الأسباب الأربعة ، كما
بدا لها ما لم تكن تحتسب في تلك الدعائم الثلاث ، فخاب من ظنها في الترك مثلما
خاب ظنها في العرب ، وربما كان اعتمادها الظاهر على نفوذ ألمانية في الدولة ،
هو الذي يزلزل هذا النفوذ منها أو ينسفه في اليم نسفًا ، ولم يبق في هذه المقالة
مجال للإطالة في هذه المسألة ، ولكن لا بد من ختمها ببيان كون إيطالية لا تريد أن
تزيل اسم السيادة العثمانية كما تزيل جميع رسومها ، ولا سيما إذا كان بغير إقرار
الدولة العثمانية ورضاها .
تعلمت أوربة من إنكلترة داهية الاستعمار وفيلسوفته أن حكم الشعوب ولا
سيما الإسلامية منها باسم الحماية أو الاحتلال المؤقت أو غير المؤقت ، وإدارة
بلادها بواسطة رجال من أفرادها ، هو أسلس قيادًا وأسهل طريقًا ، وأسلم عاقبة
وأخف تبعة ، وأفعل في تخدير الشعور واطمئنان القلوب ، وصرف العقل عن
استنباط الحيل للمقاومة والخروج ، ولهذا تريد أن تسوس فرنسة المغرب الأقصى
كما تسوس دابة تونس السلسة المذللة ، لا كما تسوس دابة الجزائر الجموح الصعبة .
لم تدخل أوربة بلادًا شرقية أوسع علماء ومدنية من مصر ، ومع هذا ترى
إيطالية أن أحزاب مصر السياسية لا يشكون من الإنكليز المتصرفين في كل شيء
عشر معشار ما يشكون من الحكام الوطنيين في جميع الأعمال ، فالإنكليز يعملون
والتبعة واللائمة على غيرهم فيما ينتقد ، والعالم كله ينسب إليهم كل ما يستحسن ،
ولم يضر مصالحهم اعترافهم بسيادة الدولة العثمانية على البلاد ، بل هو نافع لهم
ومضعف للنفور منهم .
بعد كتابة ما تقدم بشرتنا أنباء الآستانة بأن الوزارة قد أبرمت العزم على
مقاومة إيطالية ، وعدم الجنوح لسلم يضيع به شيء من البلاد ، وصلح يذهب به
شرف الأمة والدولة ، وأن مجلس المبعوثين أيد الوزارة بناء على عزمها هذا ،
فحمدنا الله تعالى أن حقق رجاءنا في دولتنا وحكومتنا ، وخيب ظنون الدولة الباغية
علينا ، وسوف على الباغي تدور الدوائر .
وههنا نصرّح لحكومتنا العلية بما وصل إليه علمنا واختبارنا ، وهو أن بيع
طرابلس لإيطالية المهينة لنا التي عجزت عن حرب الحبشة من قبلنا ، يعد بمثابة
انتحار الدولة ( حماها الله تعالى ) ، سواء كان استيلاء هذه الباغية على طرابلس
باسم الاحتلال أو باسم آخر ، نعم .. إنه انتحار لأنه يسقط قيمة الدولة ونفوذها
وقيمتها الدينية والسياسية من نفوس رعيتها ومن نفوس جميع المسلمين ، بل يخشى
أن تكون عاقبته شرًّا من ذلك ، أعز الله الدولة ووفقها لما فيه قوتها وشرفها دائمين
ما دامت السموات والأرض .
... ... ... ... ... ... ... ... في آخر شوال 1329
( للمقالات بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
(14/923)
 
ربيع الأول - 1330هـ
مارس - 1912م
الكاتب : السر هنري جونستون
__________
العالم الإسلامي [1]
بقلم : السر هنري جونستون
( مقالة مهمة عنه في العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة )
يذكر قراء الأفكار الكرام أن السر جونستون هذا قد كتب مقالات شتى عن
السياسة الشرقية خصوصًا ، وعن الإسلام والمسلمين عمومًا ، فكانت كتاباته تقيم
الدوائر السياسية في أوروبة وتقعدها ، ليس لأنه ضليع بالمواضيع الهامة فقط ، بل
لأنه ذو مكانة سامية أيضًا في عالم الأدب والاجتماع والسياسة فضلاً عن سعة
معارفه الجيوغرافية ؛ لأنه قضى نحوًا من عشرين سنة في البلدان الإسلامية يبحث
وينقب ويراقب .
والسر جونستون هذا هو أول من جهر بأسرار مقابلة ريفال بين المرحوم
الملك إدوارد والقيصر نقولا الروسي واتفاقهما على أملاك تركيا في أوروبة حلاًّ
لمشاكل مقدونيا و الآستانة . وهو من كتب في العام الماضي يمتدح من أعمال
فرنسة و إنكلترة التمدينية في المستعمرات الإسلامية بقارة أفريقيا ويقول بوجوب
تسليم ألمانيا لفرنسة في إعلان حماية هذه على مراكش حتى يصبح
العالم الإسلامي
كله في أفريقيا تحت رايات الدول الإفرنجية القادرة على ترقيته وتمدينه [2] بعكس
الحكومات الإسلامية التي لا تتمكن من ذلك لمجرد كونها إسلامية - على قوله -
وأخيرًا رأيناه يجهر بعبارة صريحة قائلاً : إن العالم كله سوف يعترف بعد مئة سنة
بحقيقة واضحة وهي أن ظهور النبي محمد كان أعظم ضربة على التمدن في كل
الممالك التي استولى عليها المسلمون [3] .
وليس المقام مقام أخذ ورد في هذه المقالة ولا هو مقام انتقاد وتخطئة فإن
المستشرقين النزيهين من علماء الفرنجة ذواتهم يسفهون هذه الآراء ويقولون : إن
الأديان كلها كانت في كثير من الأزمنة آلات بيد السياسة الخدّاعة تهدم هياكل
العمران والرقي بمعاول التعصب الذميم فتترك وراءها الجهل العميم . والجهل أبو
المصائب كلها وأولها التأخر والانحطاط .
بَيدَ أن نشر مقالات كهذه بين معاشر الشرقيين تخطها أقلام الباحثين من علماء
الإفرنج وكبار ساستهم له فوائد جلية لا تخفى على أحد . وطالما رأينا كثيرًا من
وصيفاتنا الجرائد العربية المعتبرة تنقل عن الأفكار تعريب هذه المقالات الهامة علمًا
منها بفائدة نشرها بين عموم المشارقة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وأمامنا اليوم
العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر وفيها مقال عنوانه ( أوربة والعالم
الإٍسلامي ) بقلم السر جونستون ذاته هذا تعريبه باختصار وتصرف ( ليت الجريدة
لم تتصرف ) : -
إن الحرب الإيطالية العثمانية الحاضرة قد جدَّدت المباحث عن الشرق والغرب
وعلى الخصوص عن علاقة الدول العظمى بملايين عديدة من البيض والصفر
والسود يدينون بدين الإسلام , وهؤلاء المسلمون متحدون بعض الاتحاد - وليس
اتحادًا كاملاً كما يزعم فريق من الكتاب بجهل حقائق الأمور ؛ لأنه لم يبرح بلاده
قط ، أي أن هذا الفريق لا يكتب عن تحقيق واختبار - واتحاد المسلمين الجزئي
هذا مُوَجَّه ضد أوروبة النصرانية وخصوصًا ضد الدول المستعمرة منها .
وإذا نظرنا إلى عمل إيطالية الأخير في غزوتها طرابلس الغرب نظرة
عمومية نرى أنها مخطئة خطأ فاحشًا ؛ لأنها شهرت الحرب على تركيا فجأة ومن
دون سابق مفاوضات تجيز لها هذا العمل ، فضلاً عن أن جنودها بعد احتلالهم
طرابلس أجروا من الفظائع البربرية على النساء والأولاد ما ذعر له العالم المسيحي
قبل العالم المحمدي ، ولا عذر للإيطاليين سوى قولهم إن امتلاكهم ولاية طرابلس
الغرب ضروري لكيانهم كأمة مستقلة , وهذا العذر غير مقبول منطقيًّا ، ولا جائز
شرعًا ، أو في عرف الدول , بيد أن الصحافة الطليانية وساسة الإيطاليين الذين
حادثتهم في هذا الموضوع كانوا يقولون لي : إن النمسا وألمانيا كانتا عاقدتين اتفاقًا
سريًّا مع تركيا على امتلاك طرابلس الغرب برضاها وإنهما إذا امتلكتا هذه الولاية
القريبة منا تصبح حياتنا القومية مهددة بالأخطار المميتة ويصير استقلالنا تحت
رحمة ألمانيا والنمسا , وسواء صح هذا القول أو لم يصح فإن إيطاليا تظل مخطئة
لدى الشرائع والحقوق الدولية ؛ لأنها فاجأت تركيا بهذه الحرب من دون أن تمهلها
ريثما تُكذب هذه الإشاعة أو تثبتها [4] .
على أن الطليان ما برحوا يؤكدون مزاعمهم قائلين : ( إن الألمان كانوا أشد
الناس حنقًا علينا وأكثرهم تهجمًا ، وليس ذلك حبًّا بسواد عيون الأتراك ، بل لأننا
منعناهم من تحقيق آمالهم ألا وهي بسط نفوذهم السياسي والتجاري من طرابلس
الغرب شمالاً حتى الكونغو و القمران جنوبًا ) .
وإيطالية غير قادرة على تمدين الغير بعد ، فلذلك لم يتجاسر أحد من ساستها
الذين باحثتهم على القول أمامي بأنهم غزوا طرابلس بقصد تمدينها وترقيتها . فإن
كثيرًا من السياح الألمان وسائحين من الإنكليز قد كتبوا مرارًا أن إيطالية لم تأتِ
عملاً تمدينيًّا هامًّا لا في مصوع ولا في مقاطعة إرترية بالحبشة ، ليس ذلك فقط ،
بل إن السائح في بلاد الصومال يرى البون شاسعًا بين الصومال الطلياني
والصومال الفرنسوي مثلاً . فالبلاد الأولى باقية على ما كانت عليه قبل الاحتلال
الإيطالي من حيث الفقر والجهل والتأخر . أما الصومال الفرنسوي ففيه الخطوط
الحديدية والمزارع الجميلة وكل آثار الارتقاء والتمدن في العلم . ومثل فرنسة في
إسعادها مستعمراتها مثل الإنكليز في السودان وألمانيا في زنجبار .
ولكن تسرع إيطالية الأخير في طرابلس الغرب لا يحوج أوربة أنْ تناوئها
وتقاومها في أعمالها الاحتلالية هذه ، بل بالعكس ، يجب على أوربة أن تناصرها
وتؤيدها بكل قوتها ؛ لأن إيطالية إذا عادت خاسرة من هذه الحرب ، فالعار لا يلحق
بها وحدها بل يعم كل الدول الأوربية النصرانية . فالمسلمون إذا نجحوا يصيرون
يضمرون طرد الإنكليز من مصر والسودان وطرد الفرنسيين من تونس والجزائر
ومراكش وطرد الروس من أواسط آسيا الإسلامية . وعليه فمن الواجب على
إيطالية خصوصًا وعلى أوروبة كلها عمومًا أن تبقى ساعية جهدها في الحرب
الحاضرة كي ترسخ قدم الإفرنج في شمالي إفريقية من دون نظر إلى كميات
الخسائر الباهظة من المال والرجال في سبيل تحقيق هذه الأمنية [5] .
يعسر على الباحث الغربي أن يقترب من موضوع المسألة الإسلامية من دون
حذر زائد . فإن المسلمين يعدون اليوم 230 مليونًا بينهم أقوام من البيض تجمعنا
وإياهم جامعة الأصل الأبيض الواحد ( الأصل الآري ) و60 مليونًا منهم هم مثل
الإفرنج تمامًا من حيث جمال الهيئة وقوة البنية والاستعداد الكامل للارتقاء العقلي ,
وبعض المسلمين هو من أصل أوروبي بحت ؛ لأن كثيرًا من الغوط والإيطاليين
والأروام والسلاف ، والأرناؤط والقوقاسيين اعتنقوا الدين الإسلامي سابقًا بحكم
أحوال قاهرة وهم الآن في مقدمة أتباع محمد رقيًّا وتهذيبًا لا يقلون عن إخوانهم
نصارى الإفرنج قوة ونشاطًا وجمالاً وحسن استعداد لقبول التمدن الصحيح وفي
الهند وحدها 64 مليونًا من المسلمين هم أرقى الشعوب الهندية على الإطلاق .
ومجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين في الرعية البريطانية يجعل الحكومة
الإنكليزية أن تكون أكثر حكومات الأرض اهتمامًا بالحرب الحاضرة .
فإن إنكلترة إذا رفضت السعي لأجل مصلحة تركية مركز الخلافة الإسلامية
العظمى تكون قد أحدثت سببًا لإغضاب رعاياها مسلمي الهند الذين تعتمد إنكلترة
عليهم وحدهم عند الخطوب في تلك البلاد ، وإذا هي سعت لمصلحة تركية فتتضرر
إيطالية وبضرر الإيطَالْيَانِ يزيد المسلمون حركة وهياجًا ضد الإفرنج النصارى
ويعلق في أذهان زعمائهم سهولة النجاح في محاولتهم التخلص من حكم النصارى
الإفرنج في تركستان ومصر وتونس والجزائر ، وعندي أن إنكلترة وغيرها من
دول الاستعمار العظمى تفعل حسنًا إذا سعت بضمير صالح في سبيل تعليم المسلمين
العلوم الطبيعية التي تحارب العلوم الدينية علمًا منا بأن آفة الإسلام العظمى هي
العلوم الدينية المبنية على القرآن وحده وهذه سدوتها الجمود ولحمتها التقيد بقيود
الخرافات والأوهام [6] .
وحالما يتحرر المسلمون من ربقة الاستعباد للعلوم الدينية عندهم يصيرون
قادرين على إدراك الحقائق السياسية بأكثر جلاء ووضوح أي إنهم يصيرون
يميزون بين المصالح السياسية والأغراض الدينية كما صارت أوربة تفهم ذلك بعد
أن تحررت من ربقة الاستعباد للتعاليم الدينية التقليدية التي كانت ضاغطة على
حرية القول والعمل والفكر . ولما يصل المسلمون إلى هذه الدرجة من الارتقاء
العلمي فتصير مساعدتنا لهم نافعة للفريقين أي إنهم لا يعودون يمزجون الدين
بالسياسة وبكل شيء بل يصبحون عالمين أسرار المنافع الاقتصادية والسياسية
فيصادقون من ينفعهم نصرانيًّا كان أم مسلمًا ويعادون من يضرهم بقطع النظر عن
دينه ومعتقده .
***
كلامه عن الأديان الثلاثة
والقرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة عن التوراة والإنجيل وبعض تعاليم
المجوس [7] . ولما كان محمد يكره يهود بلاد العرب كرهًا شديدًا صارت آياته في
القرآن أشد وطأة عليهم مما هي على النصارى . وتعاليم القرآن فيها بعض المنافع
مثل النظافة وعدم وأد البنات والامتناع عن المسكر والزكاة والصدق في المعاملات
ولكن ازدراءه بالنساء وإباحة تعدد الزوجات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالمرأة
تجعل تلك التعاليم الإسلامية حجر عثرة في سبيل الارتقاء العقلي والاجتماعي كيف
لا والقرآن يحتقر المرأة والمرأة هي أم الرجل [8] .
نعم إن الدين اليهودي لم يحسن التصرف تجاه النساء وهن نصف الجنس
البشري ، ولكن التوراة صارت اليوم مرنة بيد الحاخاميين يفسرونها كما يشاءون
مما يطابق روح العصر ولا يخالف التمدن . وكذا الكنيسة الكاثوليكية في القرون
الوسطى على الخصوص فإنها كانت تضطهد العلم وتعيق مسير العرفان ولكنها لم
تمكث على هذا الاضطهاد زمنًا طويلاً بل رأيناها بعد ذلك تبني المراصد الفلكية
وتنشط نشر العلوم الطبيعية والطبية واللغوية والجيوغرافية وبالاختصار فإن التعاليم
المسيحية في أي مذهب من المذاهب لا تبقى جامدة بل نراها تتكيف وتتبدل حتى
تطابق مجرى الأحوال بمرونة وليونة تامة .
ليس ذلك فقط بل إننا نرى الكنيسة الباباوية كانت ومازالت تؤيد الفنون
الجميلة كالنقش والتصوير والموسيقى والكنائس البروتستانتية تؤيد الأعمال الخيرية
الآئلة إلى منفعة بني الإنسان وتخفيف ويلات المصابين وسد عوز المحتاجين وذلك
في إنشائها الجمعيات الخيرية لبناء المستشفيات والمدارس والملاجئ ، والكنيسة
الأرثوذكسية نراها على أشدها في روسيا والرُّوس رغمًا عن شيوع السكر بينهم
شيوعًا عامًّا معيبًا وعن تفشي الرشوة والمحسوبية وسائر ضروب الفساد في
محاكمهم فهم أرقى بكثير من جيرانهم الأتراك علميًّا واجتماعيًّا وأفضل آدابًا وأخلاقًا
هذا مع علمنا بأن روسيا حديثة العهد نوعًا في العمران .
وإذا أمعنا النظر جيدًا نرى البون شاسعًا بين الممالك المسيحية والممالك
الإسلامية من حيث العلوم والصنائع والفنون والاقتصاد والتدابير الصحية والعلاقة
الزوجية بين الجنسين - أي أننا نرى البلدان المسيحية والبلدان التي هي تحت حكم
النصارى أرقى بكثير من البلدان الإسلامية [9] ليس ذلك فقط بل إننا إذا نظرنا إلى
المجر مثلاً نرى أن المجريين والأتراك هم من أصل واحد قدِموا إلى أوروبة من
أواسط آسيا في بدء القرون الوسطى وكانت لغتهم واحدة وبعد أن حلّ المجر في
النمسا واعتنقوا الدين المسيحي صاروا على تمادي الأجيال أرقى من إخوانهم
الأتراك الذين حلوا في مقدونيا وعلى ضفاف البوسفور وبقوا معتنقين مذهبهم
المحمدي ، وترى الفرق كبيرًا اليوم بين المجر والأتراك من حيث الارتقاء والتمدن ،
فالأولون نبغوا في الموسيقى والشعر والنقش والبناء والآداب والاقتصاد بينما
الأتراك لا يزالون على حالة واضحة من التأخر في كل هذه الفنون .
ورُب معترض يقول : إن الإسلام أبقى على كثير من العلوم والصنائع التي
كانت النصرانية تحاربها على زمن الروم والأقباط والسوريين والرومان ، فالإسلام
أبقى آداب الروم والرومان وعلومهم وأنعش العلوم الطبية والفلكية والرياضية وزاد
في فنون البناء والهندسة وزخرفة القصور والجوامع وكان صلة متينة بين علوم
الشرق والغرب بل كان الحلقة الوحيدة التي وصلت علوم اليونان والرّومان بالإفرنج
في القرون الوسطى ، ولولا هذه الحلقة لضاعت العلوم الطبية والفلكية وغيرها كثير ،
نعم إنني أعترف بصحة هذا الاعتراض ولكني أجيب عليه قائلاً : إن علماء
المسلمين الذين عنوا بالعلوم والمعارف ونشطوا الحركة الفكرية والعقلية من القرن
الثامن إلى القرن الثالث عشر للميلاد لم يكونوا عربًا ولا أتراكًا بل كانوا يهودًا أو
فرسًا أو قبطًا أو أروامًا جبروا على اعتناق الدين المحمدي [10] وبعضهم بقي على
دينه ؛ لأن أميره أنعم عليه في إمكانية ذلك البقاء منة وكرمًا ، ( وهنا يسهب السر
هنري جونستون في وصف البلدان الإسلامية وما هي عليه من التأخر كمصر وتونس
وطرابلس الغرب والجزائر ومراكش وأواسط أفريقيا وتركيا وبلاد العرب زاعمًا أن
علة هذا التأخر الوحيدة هي الدين الإسلامي ، إلى أن يأتي إلى مسألة طرابلس
الغرب فيقول : إن سبب انحطاطها هو حكم المسلمين عليها أيضًا ؛ لأنها من
الزمن الذي دخلت به في حوزتهم من القرن الثامن للميلاد حتى الساعة لم ترَ إلا
عوامل التخريب والتدمير فتركيا لذلك غير محقة بمحافظتها على هذه الولاية من
النظرة الأدبية كما أن إيطاليا غير محقة في اعتدائها عليها ) ثم يستأنف الكلام
فيقول :
ويظهر من كل ذلك أن الأديان كلها قاومت التقدم الإنساني زمنًا من الأزمان
ولكن الدين الإسلامي اشتهر بكونه غير قابل التكيف لما يطابق أحوال الزمان
والمكان كالدين النصراني والدين اليهودي [11] ولو فقه المسلمون ذلك ، وصار
علماؤهم يبحثون عن طريق لحل تعاليمهم الدينية من قيود الجمود هذه لما تأخروا عن
اللحاق بإخوانهم المسيحيين في السير نحو الارتقاء والنجاح ، أي من عليهم البحث
في إيجاد طريقة لجعل دينهم مرنًا لينًا يقبل التكيف والتأويل والتفسير لما يطابق
روح الزمان والمكان .
أما من حيث قضية طرابلس الغرب فأكرر القول : إن إيطاليا مخطئة في
اعتدائها عليها من دون مسوغ شرعي أو أدبي قط ، ولكن غيرها من دول الاستعمار
فعل ذات الشيء عينه إنما بهيئة مختلفة ، فإطلاقنا القنابل على الإسكندرية سنة
1882 واحتلالنا وادي النيل وغزو فرنسا مراكش الآن وزحف روسيا على شمالي
العجم وامتلاك ألمانيا جزءًا من شرقي أفريقيا - كل ذلك يؤيد حجة إيطاليا في قولها
للدول : إنها فعلت ما فعلته تلك الدول ذاتها ، وعندي لو كانت طرابلس الغرب
سهلت دخول الأجانب إليها واستثمار أموالهم فيها لما أقدمت إيطاليا على غزوتها ،
فإن البرتوغال و أسبانيا أقفلتا باب مستعمراتها الأمركانية في وجه الأجانب وكانت
النتيجة أن العلمين الإسباني والبرتوغالي اختفيا عن القارة الأمريكية ، وأملاك
البرتوغال الباقية لها في أفريقيا مهددة بالضياع إلا إذا كانت البرتوغال ترعوي
فتفتح باب الاتجار والاستثمار أمام المتمولين وأصحاب الشركات الأجانب .
ورغمًا عن كل ذلك فإن الأمم الضعيفة والدول الصغيرة لم تتمكن من
المحافظة على كيانها أو على أملاكها إلا لأنه يوجد في هذه الدنيا شيء يُدعى
( الضمير الأدبي ) هي وحدها التي منعت فرنسا وألمانيا من تقسيم سويسرا و بلجيكا
بينهما ، وهي التي منعت النمسا من ابتلاع الصرب وإنكلترا من زيادة أملاكها في
غينيا على حساب فنزويلا ، وليس من يريد موت هذه المحكمة الأدبية أو ضعفها
وخصوصًا نحن المسيحيين الذين نعتقد أن للأديان علاقة مهمة في ارتقاء البشر
وتمدنهم .
نعم إن بالدين المسيحي كثيرًا من الخرافات والزوائد المضرة ، وبالدين
المحمدي كثيرًا من الحسنات والفضائل ، ولكن البلدان التي تدين بالنصرانية لم
تضطهد المسلمين وخصوصًا في القرنين الآخرين كما أنها لم تجبرهم على رفض
طقوسهم وعاداتهم مطلقًا ، فالمسلمون لهم تمام الحرية في السفر إلى أية جهة أرادوها
في أربعة أقطار المسكونة ولهم تمام الحرية في الدخول إلى معابد النصارى واليهود
في كل مدن الأرض ولكن النصراني لا يقدر حتى هذه الساعة على الدخول إلى مكة
و المدينة كما أنه لا يقدر على الدخول إلى جوامعهم إلا ويكون معرضًا في أغلب
الأحيان إلى الإهانة ، وماذا نقول عن نوع المعاملة التي يلاقيها النصارى
الموجودون تحت حكم دولة مسلمة حتى في هذه الأيام ، فإن حالة أقباط مصر الآن
كحالة مسيحية سوريا و أرمينيا ومكدونيا - ليست مما تشرح الصدر وتفرح القلب .
نعم إنني لا أعتقد بإمكانية صيرورة المحمدي مسيحيًّا وخصوصًّا في هذه الأيام
كما أنني لا أتوقع من اليهودي في القرن العشرين أن يعود فيعترف بالمسيح حالة
كون المسيح يهوديًّا من النظرة البشرية بل هو أعظم يهودي على الإطلاق ولكني
أعتقد أن عقلاء المسلمين وعلماءهم يقدرون على اقتفاء خطوات علماء النصارى
واليهود في القرون الأخيرة وأعني حذف الزوائد المضرة من دينهم والاستغناء عن
كثير من تقاليدهم وعاداتهم وخرافاتهم العديدة حتى يجعلوا دينهم أهلاً لكل حالة
وصالحًا للاتباع في كل زمان ومكان - أي حتى يفكوا عنه قيود الجمود كما فككناها
نحن عن ديننا من قبلهم فيصير من السهل عليهم السير في سبيل الارتقاء
والتقدم ا هـ .
__________
(1) منقولة عن جريدة الأفكار العربية التي تصدر في البرازيل .
(2) قد كاد يمر قرن كامل على الجزائر ولم نر فرنسة مدنت أهلها ولا رقتهم .
(3) هذه المكابرة دليل على تعصب المصنف فما استولى المسلمون في القرون الأولى على بلاد إلا وصارت خيرًا مما كانت عليه علمًا ومدنية ، وهل اقتبس هو وقومه المدنية إلا من مسلمي الأندلس والشرق ؟ .
(4) قد نشرت السفارة العثمانية في لندن تكذيبًا رسميًا لهذه الإشاعة التي راجت لأول مرة في الصحف الإنكليزية ومجرد عدم وجود ألمان ونمسويين في طرابلس الغرب وعدم ذكر ألمانيا اسم طرابلس الغرب أمام الباب العالي في كل السنين الماضية كان لتفنيد مزاعم الإيطاليين في هذه الأفكار الفاسدة .
(5) ليعتبر المعتبرون بتعصب هؤلاء القوم وخذلهم للحق ونصرهم للباطل فإن الكاتب على اعترافه ببغي إيطاليا وكونها ليس لها عذر ما في الاعتداء على طرابلس يحث أوربة كلها على نصرها وتأييد باطلها ؛ لأنها نصرانية تريد الاستيلاء على المسلمين ، ولئلا يطمع المسلمون الآخرون بتحرير أنفسهم من رق النصارى ! !
(6) لا يوجد كتاب ديني في الأرض كالقرآن يطهر العقول من الخرافات والأوهام ويكسر قيود التقاليد ويزلزل أركان الجمود وهذا هو السبب الحقيقي في حث هذا الكاتب قومه على مقاومة كل تعليم بني على القرآن لئلا يرتقي المسلمون به فيخرجوا من العبودية التي يريدها لهم كما علم من سابق قوله ولو كان القرآن كما قال لكان هو وأمثاله أشد الناس حثًّا للمسلمين على اتباعه ليدوم ذلهم وقبولهم للعبودية ولكن المسلمين كفوه مؤنة التنفير عن العمل بالقرآن من عدة قرون فهم يحرمونه على أنفسهم ؛ لأنهم يسمونه من الاجتهاد الممنوع عند جماهيرهم .
(7) هذه فرية افتراها الكاتب فليأتنا من تلك الكتب بمثل ما في القرآن من التوحيد الخالص المفصل بالبراهين العقلية والطبيعية ، ومن هدم بناء التقليد وفك العقول من رق الرؤساء ليأتنا منها بجعل أمر الأمة شورى بينها وشرعًا بين جماعة أهل الحل والعقد من أفرادها إلخ .
(8) هذه فرية أخرى وحسبنا في ردها قوله تعالى : [ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ] (البقرة : 228) .
(9) لم تكن الحبشة النصرانية أرقى من مصر الإسلامية قبل الاحتلال ، ولم تكن إنكلترة وفرنسة لتبلغ حذاء الأندلس أيام كانت الأندلس إسلامية ، فالحضارة لها سنن اجتماعية بينها القرآن وما عمل بها المسلمون كانوا أرقى البشر ثم تركوها فهبطوا بعد أن أخذتها عنهم أوروبة دون دينهم الذي هداهم إليها .
(10) كذب مبني على مثله فإن العرب كانوا أئمة هذه العلوم وعنها أخذها إخوتهم الذين تبعوهم في دينهم من الأمم الأخرى والتاريخ شاهد عدل ، وعلماؤه المجردون من التعصب الديني والسياسي عدول أيضًا كالدكتور غوستاف لوبون مؤلف (حضارة العرب) فليرجع إليه من شاء ، ثم إن العرب لم يجبروا أحدًا على الإسلام كما فعلت أوروبة في الأندلس وغيرها ولا خادعوا كما يخادع غيرهم الآن في كل مكان .
(11) الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي يتفق بأصوله مع العلم والمصلحة العامة في كل زمان ومكان من غير حاجة إلى ترك شيء منه ولا تحريفه ، وأبعد الأديان عن ذلك المسيحية التي هي نقيض الحضارة والمدنية المبنية على توفير الثروة وإباحة الطيبات والزينة وهي تأمر بالتجرد من الغنى ومن كل زينة ونعمة والحضارة الأوروبية الحاضرة لا تتفق مع تعاليم الإنجيل قط .
(15/201)
 
الكاتب : المسيو شاتليه

ربيع الآخر - 1330هـ
أبريل - 1912م

الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي
[*]
مقدمة المسيو شاتليه [1]

( 1 )
إرساليات التبشير البروتستانية
قلنا في سنة 1910 عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع
السياسة الإسلامية :
( ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنيًّا قبل كل شيء على قواعد
التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتحقق من فائدته , ويجدر بنا
لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان
المبشرون وغيرهم ؛ لأن لهذه المشروعات أغراضًا خصوصية وليس للقائمين بها
حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال
على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد فتبقى مجهوداتهم ضئيلة
بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه , وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا
بالتعليم الذي يكون تحت إشراف الجامعات الفرنسية ؛ نظرًا لما اختص به هذا التعليم
من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة .
وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام الأوضاع
المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية .
هذا ما ارتأيناه يومئذ وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة
بإرساليات التبشير البروتستاني الأنجلو سكسونية والجرمانية الدائبة على العمل
في العالم الإسلامي حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن
يتصوروه ؛ لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه
الإرساليات تختلف عما تمتاز به أمتنا .
وكنا منذ أمد بعيد نود أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات
التي اشتهرت بخطتها ووفرة الوسائل التي أعدتها وتوسلت بها لمقاومة دين
الإسلام .
وحسبنا أن نستشهد بإرسالية التبشير الكاثوليكية في بيروت لتكون موضوع
التفكير والتأمل في فرنسة . إن ( كلية القديس يوسف ) اليسوعية التي تدبر أعمالها
هذه الإرسالية لا تأثير لها على النشوء الفكري في المحيط الإسلامي ولكن التعليم الذي
تنشره وتبثه كان له الحظ الأوفر من نشر الأفكار الفرنسية في سورية و القطر
المصري .
نعم إن غاية المدرسة اليسوعية وطريقة التعليم فيها تختلفان عن غاية وطريقة
المدرسة الكلية الفرنسية في غلطة ( الآستانة ) إلا أن النتائج كانت متقاربة من حيث
تعميم المبادئ والأفكار التي تنشرها اللغة الفرنسية , ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات
التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبر وحكمة تأتي بالنفع الكثير
في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبث فيه الأفكار الأوروبية .
إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي
أستخرجها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين ( قرب عمان ) في 2 أغسطس
سنة 1911 حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة
العالم الإسلامي الإنجليزية ، وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال
المبشرين البروتستانيين قال :
( إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإٍسلامية مزيتين - مزية تشييد ومزية
هدم ، وبعبارة أخرى مزيتي تحليل وتركيب , والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ
المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الأخلاقية في البلاد
العثمانية والقطر المصري ، وبلاد أخرى هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية
منه , ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات ( التعميد ) في معرفة عدد الذين
تنصروا رسميًّا من المسلمين ؛ لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من
وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من
طرف خفي ) اهـ .
ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانية وكاثوليكية تعجز عن أن تقتلع
العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها أو تزحزحها ، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار
التي تتسرب من اللغات الأوروبية ، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية
والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوروبة وتتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي وتقضي
إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها
إلا بعزلتها وانفرادها ؟
أما ما يقوله حضرة مكاتبنا من وجود مئات من المسلمين اعتنقوا
النصرانية سرًّا وهم ينتظرون فرصة للجهر بها فذلك أمر لا يمكننا البت فيه
مع حضرة المكاتب , على أنه ليس من الحوادث الغريبة أن يتنصر بعض أفراد
ينتمون إلى أصل فارسي أو هندي ؛ لأن اختلاف النِّحَل والاعتقادات في هذه
العناصر هو من مزاياها الاجتماعية وكذلك الحال في الوسط السامي المتصل
بالأصل العبري ولكن من النادر المستغرب أن تقع حوادث التنصر في بيوت
السادات العلوية وبين الباتان ( الأفغانيون الخُلَّص الموجودون في بلاد الهند )
ومشايخ الهند وجيرانهم الأفغانيين والأتراك والتركمان والعرب الحقيقيين
والبربر .
ولا ينبغي لنا أن نتوقع من أكثرية العالم الإسلامي بأن يتخذ له أوضاعًا
وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية إذ الضعف
التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية ، وما يتبع هذا الضعف من الانتقاض
والاضمحلال الملازم له سوف يفضي - بعد انتشاره في كل الجهات- إلى انحلال
الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر .
على أن المناقشة في هذه المسألة لا طائل تحتها ؛ لأن الآراء تنبعث عن
وجهة التفكير ، فتقتصر إذن على القول بأن سير العالم الإسلامي يتدرج نحو
انحلال أفكاره الدينية وزوالها وذلك أمر طبيعي ممكن التحقق ، أما فرض
تدرج المسلمين في اعتناق المسيحية فخارج عن حد الإمكان ؛ لأن المسلم
كالمسيحي واليهودي لا يجذبه التعليم العصري إلى الاعتقادات الدينية .
ولكننا نعود فنقول : إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث
الشطر الثاني من خطتهم ( الهدم ) فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائمًا
للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية , والتقسيم السياسي الذي طرأ على
الإسلام سيمهد السبيل لأعمال المدنية الأوروبية ، إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل
من الوجهة السياسية وسيكون بعد زمن في حكم مدنية محاطة بالأملاك
الأوربية .
قد يظهر لإخواننا المسلمين أننا نتصرف في مستقبلهم بحرية وعدم
تكلف ، ولكن من منهم ينكر أن العالم الإسلامي أصبح هدفًا لغلطات فتيان
جمعية الاتحاد والترقي الذين ورثوا عبد الحميد واستعانوا بوسائله السياسية
بعد أن خلعوه ، ولم تكن أمامهم وسيلة لإنقاذ السلطنة العثمانية والخلافة
الإسلامية غير تنظيم حكومة مؤلفة من ولايات إسلامية متحدة ، وكل وسيلة
غير هذه كانت لنتيجة لا بد منها وهي تقسيم المملكة ؟
إننا لم نكن نرمي الكلام على عواهنه وما كنا نقصد غير تقرير حقيقة
راهنة ، عندما نبهنا المسلمين من قراء مجلتنا - قبل احتلال طرابلس الغرب
بستة أشهر - إلى ما تخبئه الأيام للآستانة التي ستقع بين مخالب ألمانية
وروسية .
إن إرساليات التبشير البروتستانية الأنجلو سكسونية تعلق أهمية كبرى
على الحال الجديدة التي ظهر بها العالم الإسلامي وقد رأينا أن نذكر معها
إرساليات التبشير الألمانية لما عقد بينهما من الأواصر والروابط في مؤتمري
سنة 1906 وسنة 1911 ولم يبق ارتباطهما مقتصرًا كسابق عهده على
تناوب كرسي الأسقفية البروتستانية في بيت المقدس .
وليس من المستغرب ، ونحن نبدي إعجابنا بأعمالها ، أن نلح بمزاحمتها
ومسابقتها ، خصوصًا ، وأن السيطرة على أهم الأسواق البشرية صارت متوقفة على
هذه المزاحمة والمسابقة ، وكنا نود لو كان في الوقت متسع لبسط القول وإيضاح
مجرى الأمور في هذه المسألة بحذافيرها ؛ لأنها جديرة باهتمام رجال فرنسة بلا
إضاعة وقت ، إلا أننا اضطررنا إلى الاقتصار على جمع بعض أمور وقفنا عليها
وسنبينها هنا بقدر الإمكان .
ونحن نكتفي بعرض هذه الأمور من غير تعليق عليها ؛ لأننا اقتطفناها من
مؤلفات وفصول شتى ونظمناها على الترتيب المتبع في مثل هذه الظروف ، وإن
المسألة التي تهمنا سوف تتبدد شكوك ذوي البصيرة والرواية لدى اطلاعهم على ما
نعرضه أمام أنظار قراء مجلة العالم الإسلامي .
ونؤمل من ذوي الشأن في إرساليات التبشير البروتستانية أن لا ينكروا علينا
انتهاج هذه الخطة التي هي خطة مجلتنا ، وهم أعلم الناس بعواطفنا وشعورنا نحو
عملهم الذي لا يمكننا أن نذكر أهميته إلا مقرونة بإلحاحنا في ذكر الضرورات التي
تقتضيها السياسة الفرنسية الوطنية لأجل تحول مجهوداتنا إلى التعليم التابع لطريقة
المدارس الجامعة الفرنسية وذلك أشد العوامل تأثيرًا على بلادنا لندخل في حلبة
المسابقة لنشر التعليم العقلي .
***
( 2 )
تاريخ التبشير
اقتصرت مجلة العالم الإسلامي في هذا الفصل على تلخيص كتاب ( مشروع
التبشير ) الذي ألفه المستر ( إدوين بلس ) البروتستاني ، ثم أعاد طبعه قبل عشر
سنوات فزاد عليه زيادات أخرى وسماه ( ملخص تاريخ التبشير ) ذكر فيه تاريخ
إرساليات التبشير البروتستانية على اختلاف نزعاتها منذ نشأتها في القرون الغابرة
إلى تاريخ الطبعة الثانية لكتابه ، مع بيان ما بين هذه الإرساليات من ارتباط
وتضامن .
ثم قالت : ( إن هذا السِّفر نفيس في بابه يتسنى لقارئه أن يقف على حقيقة
أعمال الإرساليات البروتستانية في بلاد الإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر ،
إلا أننا ننكر على مؤلفه عدم إشارته إلى الإرساليات الكاثوليكية وهذا موضعالضعف
في كتابه بل في أعمال إرساليات التبشير جميعًا على اختلافها ، ولو كان المبشرون
الكاثوليك والبروتستان الذين يجتمعون في بلاد إسلامية يتنبهون إلى أن انقسامهم يحط
من قدرهم ويقلل هيبتهم ويوطد أركان الإسلام لكانوا على الأقل يوهمون الناس بأنهم
متفقون ظاهرًا ، خصوصًا وأن انقسامهم هذا يمهد للإسلام السبيل لاستمداد مبادئ
الحضارة من إرساليات المبشرين من غير أن يقتبس أفكارها الدينية ، ولا ريب أن
نخبة الأذكياء المسلمين في مصر وسورية - عندما يقفون على هذه التفرقة الموجودة
بين الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانية والعلمانية التي تتجاهل كل منهن الأخرى
- لا يترددون في الحكم على مذاهب النصرانية بأنها قد فقدت التوازن بالرغم من
الخدم التي تأتي بها الحضارة الأوربية .
واستأنفت المجلة بعد هذا الاستطراد كلامها على كتاب المستر بلس فقالت :
إنه ينقسم إلى قسمين الأول في تاريخ التبشير العام وطرائقه ، والثاني في وصف
موقف الإرساليات البروتستانية وأعمالها في البلاد الإسلامية .
ويقول المؤلف : إن تاريخ التبشير المسيحي يرجع إلى صدر النصرانية
ومبدإ أسيسها ، وذكر الذين قاموا بوظيفة التبشير بالنصرانية في القرون الوسطى ،
فقال : إن ( ريمون لول ) الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب
الصليبية في مهمتها . فتعلم (لول) هذا اللغة العربية بكل مشقة وجال في بلاد
الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة .
وذكر المؤلف في الفصل الثالث المبشرين الكاثوليك والدور الذي لعبوه في ثورة
( البوكسر ) الصينية وتداخلهم في شئون القضاء ، وهنا انتقدت مجلة العالم الإسلامي
الكاثوليكية على هذا المؤلف البروتستاني اقتصاره على ذكر تاريخ المبشرين
الكاثوليك في ثمان صفحات فقط ، وقوله : إن المسلمين ينظرون إلى الطقوس
والاحتفالات الكاثوليكية باشمئزاز , ووصفت المجلة هذا القول بأنه لا يشف عن
محبة مسيحية .
وفي الفصل الرابع : وصف المؤلف تنظيم إرساليات التبشير في القرون
الوسطى في الهند وجزائر السند و جاوه واختلاط المبشرين بالمسلمين منذ ذلك
الحين ، وأشار إلى ( بترهيلنج ) الذي احتك بمسلمي سواحل أفريقية وإلى اهتمام
هولندا بالتبشير في جاوه في أوائل القرن الثامن عشر حتى قسمت جاوه لهذه الغاية
إلى مناطق لكل منها كنيسة ومدرسة ، وقال : إن عدد الذين تنصروا فيها
سنة 1721 بلغ 100000 وكان عدد النصارى في سيلان سنة 1722 - وكانت
يومئذ تحت سلطة هولندا - يبلغ 424000 وتساءل عما بقي منهم إلى الآن ، وقال
: إن المسلمين كانوا فيها قليلين فصاروا الآن فئة كثيرة .
ثم ذكر تحريك البارون ( ده ويتز ) ضمائر النصارى سنة 1664 إلى
تأسيس مدرسة كلية تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي تعلم فيها لغات الشرق
للطلاب الذين يناط بهم أمر التبشير ، فارتأى أحد أحبار الكنيسة أن تعهد إلى
الأروام مسئولية تبشير الأتراك ثم فشل البارون في مشروعه .
ثم سرد المؤلف تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانية من دانمركية
وإنكليزية وألمانية وهولندية واتصال بعضها ببعض وما كان من مساعدة
فردريك الرابع وكرستيان السادس ملكي الدانمارك وحكومة هولندا وتأييدهم
لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده في كل أقطار العالم .
وانتقل إلى البحث في أعمال هذه الإرساليات في القرنين الأخيرين فقال :
إن المستر ( كاري ) هو الذي فاق أسلافه في مهنة التبشير فدرس لغة اللاتين
واليونان والفرنسيس والهولنديين والعبرانيين كما تعلم كثيرًا من العلوم ، ولما
نشر كتبه في التحريض على التبشير قوبلت بالاستحسان ففتح له باب الاكتتاب
وذهب إلى الهند لهذا الغرض وصارت الأموال ترسل إليه ثم طلب أن يرسل
إليه ناس يؤازرونه في التبشير فتأسست سنة 1795 ( جمعية لوندرة التبشيرية )
وسرعان ما تأسست جمعيات على شاكلتها في ( اسكوتلندة ) و ( نيويورك )
وانتشرت هذه الفكرة في ألمانية والدانمارك وهولندة والسويد ونروِج
وسويسرا وغيرها وتعذر على الفرنسيين أن يقوموا بشيء من هذا القبيل لانشغالهم
بالثورة التي آلت إلى الانقلاب المشهور .
وتأسست جمعيات فرعية كثيرة مثل ( جمعية التبشير في أرض التوراة
العثمانية ) وبلغ الشغف بهذا العمل أن أسست ( إرساليات تبشير طبية ) لتلحق
بالإرساليات العامة فنجحت نجاحًا باهرًا ؛ لذلك أخذت تنمو وتزداد وتألفت لها
أقسام نسائية وأرسل بعضها إلى الهند و الأنضول .
وفي سنة 1855 تأسست جمعية ( الشبان المسيحيين ) من الإنكليز
والأمريكان ووظيفتها إدخال ملكوت المسيح بين الشبان ، وعقد تلاميذ
المدارس النصرانية في ( نورثفيلد ) مؤتمرًا اجتمع فيه 250 مندوبًا عن 80
مدرسة تكلفت بتقديم 100 شاب للتطوع في نشر الدين المسيحي ، ومن هؤلاء
تألفت ( جمعية الشبان المتطوعين ) للتبشير في البلاد الأجنبية .
ويقول المؤلف : إنها لعبت دورًا هامًّا في تبشير المسلمين على الخصوص !
لأن شعارها كان نشر ( الإنجيل بين أبناء الجيل الحاضر ) ثم تبع ذلك تأسيس
جمعيات التبشير في كل بلاد البروتستان . وفي سنة 1895 تأسست ( جمعية اتحاد
الطلبة المسيحيين في العالم ) وهي تهتم بدرس أحوال التلاميذ في كل الأقطار وبث
روح ( المحبة ) بينهم فالتحق بها 100.000 طالب وأستاذ يمثلون 40 قومًا ، فتولد
من وجود هذا العدد العظيم ميل إلى الانتفاع به ؛ ولذلك تأسست سنة 1902 ( جمعية
تبشير الشبان ) ومن وظائف هذه الجمعية الأخيرة استمالة النساء والبنات والشبان
والطلبة إلى استماع صوت المبشرين , ثم تقرر سنة 1907 أن تؤسس جمعية أخرى
لتبشير الكهول وقد تأسست بالفعل وأخذت تباشر أعمالها وترفع التقارير بهذا الشأن .
هذا ملخص القسم الأول من كتاب المستر ( بلس ) فيما يتعلق بتاريخ إرساليات
التبشير وأعمالها في بلاد الإسلام , وأما القسم الثاني فخاص بذكر مراكز تنظيم هذه
الإرساليات وإدارة أعمالها في كل قطر على حدة , وإلى القارئ ملخص هذا القسم :
***
أفريقية
قال المستر ( بلس ) : إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم
التبشير بالنصرانية في أفريقية , والمسلم وحده هو العدو اللدود لنا ؛ لأن انتشار
الإنجيل لا يجد معارضًا لا من جهل السكان ولا من وثنيتهم ولا من مناضلة الأمم
المسيحية وغير المسيحية وليس خصمنا هو العربي الذي يرتاد البلاد للاتجار بالرقيق
- لأن هذه التجارة صارت صعبة - بل إن هذا الخصم المعارض هو الشيخ أو
الدرويش صاحب النفوذ في أفريقية أكثر مما هو كذلك في فارس , فالشيخ أو
الدرويش يجوبان شواطئ البحر الأحمر و النيجر و مراكش و واداي ويبثان في
الأهالي أن المهدي ينتظر ظهوره وسينشر الإسلام في كل الأقطار , وقد ظهر مهدي
منذ سنين فحارب الإنكليز ثم توفي فتولى الأمر بعده خليفة غلب على أمره .
أما الشيخ السنوسي العدو الألد للنفوذ الفرنسي والإنكليزي فله تقاليد
أخرى , ويقول المستر ( بلس ) : إن طلبة الأزهر يعتقدون بالمهدي , وأما
المراكشيون فلا يزال يدور في خلدهم إمكان الجهاد ، وهو يرى أن الملحمة الكبرى
بين أوروبة والإسلام ستنشب في غربي أفريقية ، أو في شماليها , لا ينبغي أن نستدل
على حقيقة هذه الملحمة المنتظرة بالقتال الذي حدث في السودان .
دخل المبشرون الكاثوليك ربوع أفريقية منذ القرن الخامس عشر ( أي في
أثناء الاكتشافات البرتغالية ) وبعد ذلك بكثير أخذت ترد إليها إرساليات التبشير
البروتسانية من إنكليزية وألمانية ، وكذلك إرساليات التبشير الفرنسية .
ولم تهتم جمعية الكنيسة البروتستانية بالتبشير في أفريقية الغربية إلا منذ
سنة 1804 حيث تعاضدت إرسالياتها وانكفأت على الكونغو ، وهذه الجمعية
تقاتل الآن بمؤازرة الأسقف ( صموئيل كرونز ) الزنجي سلطة الإسلام المتدفق
في النيجر وأفريقية الغربية . وفي سنة 1819 اتفقت هذه الجمعية مع الأقباط
وألفت في مصر إرسالية عهدت إليها بنشر الإنجيل في أفريقية الشرقية وقررت
إرسال مبشرين إلى الحبشة ولكنها فشلت على أثر المناظرة بين اليسوعيين
والبروتستان , ثم أخذ المبشرون السويديون والإنكليز يرتادون غربي أفريقية وتبعهم
مبشرو المدرسة الجامعة فهبطوا مدينة ( منبسة ) ثم عززت ألمانية إرسالياتها عقب
اتساع مستعمراتها لكن سرعان ما ظهرت المنازعات بين الكاثوليك والبروتستان ،
وكان أهم ذلك في ( أوغندا ) بين مبشريها الوطنيين والرهبان البيض
الذين ألف إرساليتهم الكاردينال لافيجري [2] .
وتوافد المبشرون على أفريقية الوسطى عقب بعثة ( لفنستون ) و ( ستانلي)
سنة 1878 فاقتسموا مناطقها مع اختلاف جنسياتهم بين ألماني واسكتلندي
وإنكليزي ومورافي وهؤلاء انتشرت إرسالياتهم بدون انقطاع من شرقي
أفريقية إلى أواسطها حتى الخرطوم والحبشة و بلاد الجلا , وجاءت هذه
الإرساليات بنتائج حسنة .
أما بلاد المغرب فلها مبشرون خاصون بها ترسلهم ( جمعية تبشير شمال
أفريقية ) وهم منتشرون في مراكش و الجزائر و تونس وسائر بلاد الغرب ومنهم
المبشرون والأطباء التابعون لهم , ولقد شاع أن ذوي الأمر في فرنسة وإيطالية
حانقون على رجال التبشير ، إلا أن حاكم الجزائر طمأن بال الأسقف ( هارتزل )
في الأيام الأخيرة ، وصرح له بأنه ينظر إلى أعمال المبشرين بعين الاستحسان .
وقبل الانتهاء من الكلام على أفريقية لا نرى بدًّا من الإشارة إلى جزيرة
مدغسكر التي يقوم فيها المبشرون البروتستان بخدمة مهنتهم بكل جد ونشاط .
***
آسية الغربية
كان للمبشر ( هنري مارتين ) يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد
آسية الغربية فبعد أن أقام في الهند مدة عرج على فارس والبلاد العثمانية
وتوفي سنة 1812 ، وهو الذي ترجم التوراة إلى الهندية والفارسية والأرمينية
ومن بعده أخذت إرساليات التبشير تشد الرحال إلى الأنضول وفلسطين واتخذت لها
مراكز في أزمير و القسطنطينية وبيت المقدس وتصدرت للتبشير في صفوف
النسطوريين على حدود فارس والسلطنة العثمانية وفي صفوف اليعقوبيين في
ما بين النهرين , وفي مقدمة هذه الجمعيات لجنة التبشير الأمريكية إلا أن
جمعيات اليهود الإنكليزية سبقتها إلى بعض البلاد العثمانية مثل أزمير والآستانة
وسلانيك فافتتحت فيها مدارس دينية ومعابد , ومنذ سنة 1849 أخذت ترد إرساليات
أخرى على هذه البلاد فقسمتها إلى مناطق وأصابت لجنة التبشير الأمريكية
منطقة قبائل النصيرية في سورية فأخذت على عاتقها تنصير هذه القبائل
وذهب قسم من هذه الجمعية إلى بلغاريا لينفذ خطته هناك .
ولما حدثت حوادث سنة 1860 في سورية توجهت الأنظار إلى جبل
لبنان وبعد عشر سنوات انتشرت لجنة التبشير الأمريكية في البلاد العثمانية
عدا سورية , وعلى أثر تأسيس الكنيسة البروتستانية في الآستانة سنة 1846
صارت الآستانة مركزًا عامّا آمنًا لأعمال المبشرين ؟ ! !
أما موقف الحكومات الإسلامية أمام إرساليات التبشير فكان يختلف باختلاف
البلاد . فالقبائل المستقلة في بلاد العرب عدوات لدودات للمبشرين ، وبلاد الفرس
سائد فيها نفوذ روسية , والسلطة الإسلامية في القطر المصري اسمية فقط ,
وكانت الحكومات العثمانية تبدي ضروب الاستبداد نحو المبشرين على اختلاف
مذاهبهم بسبب الدور السياسي الكبير الذي يمثله نفوذ المبشرين على مسرح المسألة
الشرقية , وكانت معاملة الحكومة العثمانية للمبشرين تتحسن بواسطة سفراء
الولايات المتحدة .
وقد اجتهد المبشرون في ترجمة الكتاب المقدس ( التوراة والإنجيل ) إلى
كل لغات الشرق بأسلوب سهل يتسنى فهمه لكل الطبقات .
وأكبر ما يثير قلق المستر ( بلس ) مؤلف هذا الكتاب هو الدور الذي ستقوم به
الدولة العثمانية في الحوادث المقبلة ! … ما دامت أنظار القبائل السنوسية الشديدة
البأس متجهة نحو السلطنة العثمانية التي يحكمها أمير المؤمنين فيها بيضة الإسلام ,
ومثل السنوسيين الأمم الأخرى البعيدة عن الآستانة مثل بخارى و خيوة والهند والبلاد
الإسلامية الشاسعة .
***
الهند
انتشرت إرساليات التبشير في الهند عقب إرسالية ( جمعية لوندرة
التبشيرية ) التي قام بها ( كاري ) ثم تبعتها الإرساليات الأمريكية والاسكوتلندية
والهولندية والنرويجية وكلها تؤدي وظيفتها بنشاط وتقوم بأعمالها بكل دقة .
وكان كل هؤلاء في بادئ الأمر قد وقعوا في الحيرة ؛ لأنهم لم يعلموا بمن
يبدأون التبشير ، وهل يسهل بث النصرانية في البرهمي أو المسلم المتنور أو
الهندي العامي !
ثم اهتدوا إلى التقاط الأطفال الذين يعضُّهم ناب الفاقة والفقر وجعلوا
يحسنون إليهم ويستجلبونهم نحوهم .
ومؤتمر التبشير الذي عقد في ( شيكاغو ) قرر أن ينظر في وسائل تعميم
التبشير في الهند ونشر النصرانية وتفسير تعاليمها بين كل طبقات الأهالي .
***
جزائر الملايو
يوجد في شبه جزيرة الملايو وجزائرها المجتمعة عقائد ونزعات سقيمة ؛ لأن
أهل هذه البلاد اعتنقوا الإسلام في القرن الثالث عشر ومزجوا به ما علق بهم من
عقائدهم القديمة ثم اقتبسوا شيئًا من مذهب الكاثوليك عقب ظهور البرتغاليين ومن
مذهب البروتستانت بعد استيلاء الهولنديين على هذه البلاد والهولنديون أبدوا قسوة
وعدم تسامح في القرون الوسطى في نشر عقيدتهم وفي هذه الأيام ذهبت إرساليات
كثيرة إلى الملايو لتبشيرهم بالنصرانية .
***
الصين
في هذه المملكة مسلمون كثيرون بعددهم قليلون بالنسبة إلى مجموع سكان البلاد
وتاريخ ذهاب إرساليات التبشير إلى الصين يرجع إلى سنة 1813 ولما افتتحت
الثغور الصينية بعد ذلك انتشر فيها المبشرون والأطباء والممرضون التابعون لهم
انتشارًا هائلاً واتسع نطاق أعمالهم وجاء بثمرات كثيرة .
( يُتلى )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) عربتها جريدة المؤيد عن مجلة العالم الإسلامي التي تصدرها في فرنسة ( الإرساليات العلمية
المراكشية ) ونحن ننقلها عنها مع شيء من التصحيح والتصرف , وقد أنشئت هذه المجلة منذ خمس
سنين وكانت مباحثها علمية ولم تكن تتعرض للمسائل السياسية إلا قليلاً وبعد احتلال مراكش ودخول بلاد فارس تحت النفوذ الروسي الإنجليزي واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب ظهرت بمظهر جديد تجلت فيه خطتها من التوسل بالعلم إلى المقاصد السياسية والدينية .
(1) المسيو شانليه رئيس تحرير هذه المجلة هو أستاذ المسائل الاجتماعية الإسلامية ، وممن يكتبون فيها المسيو لويز ملسنيون المستشرق الذي أقام في بغداد سنين عديدة وقد كان في مصر منذ سنتين وهو من أصدقاء فقيدنا الشقيق السيد حسين وصفي وقد رثاه بتعزية أرسلها إلينا ونشرت في الجزء السابق , ويكتب فيها كثير من العلماء الذين لهم اطلاع على اللغة العربية والعلوم والعادات الإسلامية واللغات الأخرى التي يتكلم بها المسلمون صالح مخلص رضا .
(2) (المؤيد) هو الذي كان طعن على الإسلام في مسألة الرق فألف سعادة أحمد شفيق باشا كتابًا بالفرنسية رد به عليه وترجمه سعادة أحمد زكي باشا إلى الغربية باسم (الرق في الإسلام) .
(15/259)
 
الكاتب : المسيو شاتليه
__________
الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي
[*]


جمادى الأولى - 1330هـ
مايو - 1912م
( 3 )
مؤتمر القاهرة سنة 1906
كان القسيس ( زويمر ) رئيس ( إرساليات التبشير العربية في البحرين ) أول
من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية للتفكير في
مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين .
وفي سنة 1906 أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها فوضعت هذه
الفكرة على بساط البحث في ( ميسور ) من ولاية ( أكرا ) في الهند - لأن هذه
الولاية ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة ( عليكدة )
هناك ، ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي ينعقد في مدينة ( مدراس )
الهندية كل عشر سنوات فأجاز عقده ، وإن اتخاذ الهند قاعدة لتأسيس النظامات
الخاصة بتبشير المسلمين بالنصرانية أمر طبيعي وبديهي - لأن مسلمي الهند أخذوا
على عاتقهم منذ القرن التاسع عشر تعضيد السياسة الإنكليزية للتغلب على الهندوس .
ولما تقرر عقد المؤتمر شرع القسيس ( زويمر ) وزميل له يعدان المعدات
لتأليف لجنة مؤقتة تضع برنامج مذاكرات المؤتمر وتدعو المبشرين المنتشرين في
كل البلاد للاشتراك به .
وفي يوم 4 إبريل من سنة 1906 افتتح المؤتمر في القاهرة في منزل عرابي
باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي إرساليات التبشير 62 بين رجال ونساء ،
وكان عدد مندوبي إرساليات التبشير الأمريكية التي في الهند و سورية والبلاد
العثمانية و فارس و مصر واحدًا وعشرين ، ومندوبو إرساليات التبشير الإنكليزية
خمسة ، واشتركت في المؤتمر الإرساليات الأسكتلندية والإنكليزية المنفردة
والألمانية والهولندية والسويدية وإرسالية التبشير الدانمركية الموجودة في بلاد
العرب .
انتخب القسيس ( زويمر ) رئيسًا للمؤتمر وعُيِّنَ معه نائب وكَتَبَة وحددت أيام
الجلسات . وهذا برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها :
1- ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم .
2- الإسلام في إفريقية .
3- الإسلام في السلطنة العثمانية .
4- الإسلام في الهند .
5- الإسلام في فارس .
6- الإسلام في الملايو .
7- الإسلام في الصين .
8- النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام .
9- التنصر .
10- الارتداد .
11- وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين .
12- شئون نسائية إسلامية .
13- موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في
الإسلام .
وهذه الموضوعات جمعت على حدة في كتاب كبير اسمه ( وسائل التبشير
بالنصرانية بين المسلمين ) . ثم صنف القسيس زويمر كتابًا جمع فيه شيئًا من
التقارير عن التبشير وسماه ( العالم الإسلامي اليوم ) .
***
وسائل لتبشير المسلمين بالنصرانية
جمع هذا الكتاب ونشره القسيس ( فلمنج ) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة
( نشرة خاصة ) بمعنى أنه طبع ليتنقل في أيدي فئة خاصة من رجال التبشير لا
ليطلع عليه كل الناس . وقد ضمنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه
بنداءين أنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال
مشتركة وعمومية ليستولوا على أهم الأماكن الإسلامية ، والنداء الثاني خاص
بأعمال نسائية .
أما الفصل الأول من هذا الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في
التبشير وعما إذا كان يفيد ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير
الوثنيين أو تفضيل بقائهما منفصلتين وفيه البحث أيضًا عما إذا كان الإله الذي يعبده
المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا ( ! ) وقد صرح الدكتور ( لبسوس ) في
مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس ( زويمر ) خالفه في هذا الرأي
فقال : إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف
المسيحيين ؛ لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة [1] ! ؟
وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير
المسلمين العوام وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم .
وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرًا . وعرض
مناظر الفانوس السحري عليهم وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم . وأن يتعلم
المبشرون لهجتهم العامية واصطلاحاتها نظريًّا وعمليًّا وأن يدرسوا القرآن ليقفوا
على ما يحتويه . وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم .
ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة وأن يخطب المبشر وهو
جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين وأن لا تتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم
وأن يبذل عنايته في اختيار الموضوعات وأن يكون واقفًا على آيات القرآن
والإنجيل عارفًا بمحل المناقشة وأن يستعين قبل كل شيء بالروح القدس والحكمة
الإلهية ( ! ) ومن الضروري أن يكون خبيرًا بالنفس الشرقية وأن يستعمل التشبيه
والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التي لا يعرفها الشرقيون ( ! )
وختم المؤلف هذين الفصلين بأن أكثر المسلمين الذين تنصروا إنما هم من
العامة والأميين .
وفي الفصل الرابع يأتي على ذكر الصعوبات التي تقف في سبيل تبشير
المسلمين المتنورين . وهذه الصعوبات هي التي جعلت المؤتمر يترك المذاكرة في
بادئ الأمر بمسألة التنصير فخاض في البحث عن الوسائل التي يكون لها تأثير -
ولو قليلاً - على الناشئة الإسلامية لتدرك الأمور الاجتماعية والأخلاقية والأدبية .
وهنا قال سكرتير المؤتمر : إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون
المعلمون اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان
المسلمين بهم ، فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضرات في موضوعات اجتماعية
وأخلاقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين رغبة في جلب قلوب
المسلمين إليهم . وأنشأوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسبوعية اسمها ( الشرق والغرب )
افتتحوا فيها بابًا غير ديني يبحثون فيه بالشئون الاجتماعية والتاريخية . وأسسوا
أيضًا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم
في أثناء البيع . وقد مضى على ذلك ثلاث سنوات تسنى فيها للمبشرين أن يتوصلوا
إلى النتائج الآتية :
الأولى - أنهم عرفوا أحوال البلاد وأفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم
وميولهم .
الثانية - أنهم حصلوا على ثقة بعض المسلمين بهم .
الثالثة - أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى ما
تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية - يمكنهم أن
يدخلوا إلى قلوبهم .
وبناء على هذا ساعد المبشرون الشبان المسلمين في تأسيس جمعية الغرض
منها إيجاد صلة وتقرب بين الطبقة المتعلمة والطبقات المتعددة التي تتألف الأمة منها
وإنماء روح الاتفاق . هذه هي الطريقة التي استحسنها المبشرون بعد أن علموا أن
الأمور التي يتذرعون بها وتكون صبغتها دينية لا ريب أن عاقبتها الفشل . ولكن
المبشرين الذين هم على شيء من الجرأة يقولون : إنهم سمعوا بعض المسلمين
يشكون من الزواج في الإسلام وتعدد الزوجات وتربية المرأة وعدم وجود التسامح
الدينيي ( ! )
وكل ما خاض فيه المؤتمر من هذه المباحث يختص بالمجهودات التي يبذلها
المبشرون لتبشير الشبيبة الإسلامية التي تعلمت على الطريقة الأوروبية وفي
مدارس الحكومة وما يلقونه من الصعوبات والفشل في تبشيرها .
أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله فلم يتكلم أعضاء
المؤتمر عنهم إلا بعض اقتراحات ونظريات - من ذلك أن أحد أعضاء المؤتمر
أفاض في وصف ما للجامع الأزهر القديم من النفوذ وإقبال الألوف عليه من الشبان
المسلمين في كل أقطار العالم . وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى
الآن . ثم قال : إن السُّنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في
الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره والمتخرجون في الأزهر معروفون
بسعة الاطلاع في علوم الدين . وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا
خصوصًا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانًا ؛ لأن في
استطاعته أن ينفق على 250 أستاذًا . ثم تساءل عما إذا كان الأزهر يتهدد كنيسة
المسيح بالخطر . وعرض اقتراحًا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم
الكنيسة بنفقاتها وتكون مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف
مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم
اللغة العربية .
ثم قال : إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دائرة صغيرة وهي أن تخص
أولاً بتعليم المسلمين المتنصرين وتربيتهم تربية إسلامية ليتمكن هؤلاء من القيام
بخدم جليلة في تنصير المسلمين الآخرين .
وختم كلامه قائلاً : ( ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز
عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإسلامية ( ! )
وفي الباب الخامس ذكر المؤلف ما دار في المؤتمر عن النشرات التي ينبغي
للمبشرين إذاعتها لتنصير المسلمين . وقد ظهر للمؤتمر أن التوراة مترجمة إلى
معظم اللغات الإسلامية وأكثر لهجاتها ، أما أدبيات التبشير ومؤلفاته فمترجمة إلى
اللغات الإسلامية المهمة فقط .
وقد اقترح أحد المندوبين أن تراجع المؤلفات التي قدم عليها العهد لإصلاحها
واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد
العصرية مثل مدرسة أكسفورد و برلين ، وأشار إلى وجوب تخفيف اللهجة في
المجادلات الدينية .
وقال مندوب آخر : إن الحاجة شديدة إلى نشر كتب في الموضوعات الدينية
الآتية :
1- أسماء وألقاب المسيح التي في الأناجيل .
2- طبيعية الخطيئة الأصلية .
3- ضرورة الغفران .
4- الجنة وكيفية الحصول عليها .
5- الروح القدس وأعماله .
6- عقيدة سر التجسد .
7- الإنسان فرد اجتماعي وخالقه ليس كذلك .
8- وأن الإله الاجتماعي يشمل الثالوث .
9- الشيطان وكيفية الخلاص منه .
***
إرساليات التبشير الطبية
خاض المؤتمر بعد ذلك في مسألة إرساليات التبشير الطبية فقام المستر
( هاربر ) وأبان وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية ؛ لأن رجالها يحتكون دائمًا
بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين . وهنا ذكر
المستر هاربر حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر
القديمة ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانتية في باب اللوق وكانت نهاية أمرها أن
عرفت كيف تعتقد المسيح بالمعنى المعروف عند النصارى .
وذكر أيضًا عن رجل مسلم كان يحضر محاضرات المبشرين لإثارة الجلبة
والضوضاء . واتفق أنه مرض فدخل مستشفى المبشرين وبعد أن لبث فيه مدة شفي
وخرج منه فصار يحضر المحاضرات في هذه المرة ولكن بخشوع زائد وبعد ذلك
بقليل تعمد وأصبح نصرانيًّا على مذهب البروتستانت .
ثم قام الدكتور هارس ( طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام ) فقال : إنه
قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا وهو في مهنته فلم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب
منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه .
وأورد إحصاءً لزبائنه فقال : إن 68 في المئة منهم مسلمون ونصف هؤلاء
من النساء وفي أول سنة مجيئه إلى حيث يبشر بلغ عدد زبائنه 175 وفي آخر سنة
كان عدهم 2500 وختم كلامه قائلاً :
( يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه
مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك ) .
وقام بعده الدكتور ( تمباني ) وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق
بين مهنتي التبشير والطب كما حدث معه هو . إلا أن ما بذله من المجهودات قد
أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفى للتبشير من طريق الاكتتابات ،
وكان أول مكتتب لهذا المستشفى التبشيري رجلاً مسلمًا !
وخطب الأستاذ ( سمبسون ) بعد ذلك في بيان فضل الإرساليات الطبية ، ومما
قاله : إن المرضى والذين ينازعهم الموت بوجه خاص لا بد لهم من مراجعة
الطبيب وحسن أن يكون هذا الطبيب ( المبشر ) في جانب المريض عندما يكون في
حالة الاحتضار التي لا بد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر .
ثم خطبت المس ( أناوستون ) فتكلمت عن إرسالية التبشير الطبية في مدينة
( طنطا ) قائلة : إن 30 في المئة من الذين يعالجون في مستشفى هذه الإرسالية هم
من الفلاحين المسلمين وأكثرهم من النساء . أما طريقة التبشير في هذا المستشفى
فهي أن يذكر الإنجيل للمرضى بأسلوب بسيط لا يدعو إلى التطرف في المناقشة ،
إذ المستشفى يجمع بين جدرانه نساء ورجالاً .
***
الأعمال النسائية في التبشير
كان لهذا الموضوع اهتمام كبير من أعضاء المؤتمر ؛ لأنه خاص بنصف
مسلمي العالم . فقالت المس ( ولسون ) : إن النساء المبشرات يستعن في الهند
بالمدارس وبالعيادات الطبية وزيارة قرى الفلاحين لينشرن النصرانية بين طبقات
الناس .
وخطبت المس ( هلداي ) في حث المبشرين على الرفق بالمرأة المسلمة
وتناولت السيدات المبشرات الخطابة في أخبار نجاحهن في المناطق التي انتدبن فيها
. فقالت إحداهن : إن المسلمات الفارسيات يظهرن ميلاً شديدًا للعلم بالرغم من
جهلهن باتساع نطاقه ، وهن يعتقدن أن الذي يعرف جغرافية البلاد نابغة ولقصة
الابن المسرف التي في الإنجيل وللمزمار الحادي والخمسين تأثير شديد على النفس
المسلمة .
وقالت مبشرة أخرى : إن مدرسة البنات البروتستانتية في الخرطوم فيها من
80 إلى 90 تلميذة مسلمة . ولأهلهن الحرية في السماح لهن بقراءة العهد الجديد
( الإنجيل وذيوله ) أو في منعهن من ذلك . إلا أن المدرسة في هذه السنة لم يرد عليها
طلب استثناء واحدة من التلميذات من قراءة الإنجيل .
وانتقل المؤتمر بعد ذلك إلى موضوع تربية النساء اللائي يتطوعن للتبشير .
***
المتنصرون والمرتدون
تساءل القسيس ( جون فان أيس ) عن الأركان التي يشترط توفرها في
الشخص المتنصر . أو النصراني الشرقي الذي يدخل في المذهب البروتستانتي .
وبعد أن بحث في ذلك قال : إن ( المحبة ) التي يعرفها نصارى الشرق
تشوبها نزعة الاعتقاد بالقضاء والقدر وعقيدة الشرقيين عمومًا ضرب من الخرافات
وإن تكن مبادئ الإيمان موجودة لديهم جميعًا . ثم تساءل عما إذا كان المسلم
المتنصر أهلاً لنشر النصرانية ؟ وأجاب على ذلك بأن هذا الأمر هو محك إخلاصه ؛
لأن نشر الدعوة أمر تقتضيه روح الإسلام وبهذا كان الإسلام دين دعوة وتبشير ،
وكنت أتمنى لو انتفعنا بهذه المزية وأدخلناها في النصرانية .
وتناقش المؤتمر بعد ذلك بشأن المتنصرين المضطهدين ووسائل استخدام
المخلصين منهم وإدخال الأطفال الذين اعتنقوا المذهب البروتستانتي في المدارس
العادية والصناعية .
***
شروط التعميد
بسط القسيس ( حسب ) القول في هذا البحث وسأل عن الشروط التي يجب
أن تتوفر في المسلم المتنصر ليكون أهلاً للتعميد . ثم قال : إن المبشرين الكاثوليك
يعمدون الناس ليجعلوهم مسيحيين أما نحن فنعمدهم لأنهم مسيحيون .
وذكر بعد ذلك أيام التجربة والمعلومات الدينية التي يجب على المتنصر
معرفتها وبحث فيما إذا كان يحق له أن يتلقى سر التناول ( أي تناول القربان الذي
هو جسد المسيح ودمه ) .
واستطرد المؤتمر إلى مسألة تعدد الزوجات عند المسلمين . وتكلم عن موقف
المرأة التي تعمد زوجها هل يفرق الإسلام بينها وبينه أم لا . وعما إذا كان يجوز
للمتنصر أن يتزوج مرة ثانية . فتقرر أن هذه المسائل عويصة ، وقد سبق الخوض
فيها في مؤتمر ( لمبث ) سنة 1888 وأن الظروف تقضي باعتبار المسلم المتنصر
وهو ذو زوجات متعددة بأنه تحت التجربة إلا إذا كان تنصره في ساعة الاحتضار .
أما هذه المسائل نفسها فقد تركت بدون حل .
***
كيف يتقرب المسلمون ؟
خطب القسيس ( هاريك ) في هذا الموضوع فعرض على المؤتمر نتيجة
أبحاثه التي أجراها في بلاد السلطنة العثمانية فمنها أنه عرف أن لا فائدة لطريقة
المناظرة والجدل التي وضعها الدكتور ( بفندر ) المبشر ولم يكن من نتائجها غير
وقوف الحكومة العثمانية في وجه المبشرين والذين ينتمون إليهم . أما ترجمة
الإنجيل وكتب التبشير إلى اللغة التركية بدون مناقشة ومجادلة فكانت أكثر فائدة
وأعم نفعًا . وقد تبين أنه بمجرد اشتراء المسلمين لهذه الكتب ومطالعتهم لها صارت
تتبدد أوهامهم ! القديمة .
ثم قال : إن الجدل والمناظرة يبعدان ( المحبة ) التي لها وقع كبير على قلوب
الأغيار وتأثير عظيم في نشر النصرانية . فالمحبة والمجاملة هما آلة المبشر ؛ لأن
طريق الاعتقاد غايته دائمًا هي قلب الإنسان .
وقال بعد ذلك : يرى بعضهم أن الموازنة بين حياة وأخلاق الأمم النصرانية
وحياة وأخلاق الأمم الإسلامية تنتج دائمًا رجحان النصرانية على الإسلام ، وأنا
أيضًا أوافق على رأي هؤلاء ولكن من الوجهة المادية . وفي هذه الأيام نجد جمهورًا
عظيمًا من متنوري المسلمين يرغب في المناظرة والجدل . والعثمانيون يشيرون
بازدراء إلى ما حدث في بلاد الروس النصرانية في السنة الماضية خصوصًا في
أودسا ( يريد اضطهاد نصارى روسيا ليهودها ) ويقولون لنا : ( هذه هي
نصرانيتكم وأنتم الذين كنتم قبل زمن قليل تتهموننا بلا شفقة بأننا أرقنا قليلاً من
الدماء أثناء اشتغالنا بقمع فتنة ) وعلق القسيس على ذلك بوجوب تحلي حياة المبشر
بمبدأ المسيحية قبل أن يعنى بالأمور النظرية كيما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست
عقيدة دينية ولا دستورًا سياسيًّا بل هي الحياة كلها ، وأنها تحب العدل والطهر
وتمقت الظلم والباطل - نفتح للمسلم مدارسنا ونتلقاه في مستشفياتنا ونعرض عليه
محاسن لغتنا ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر وتعلق بأهداب الأمل . إذ المسلم
هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجميل .
بهذه الطريقة فقط يمكن للمبشر أن يدخل إلى قلب المسلمين . ولو أن أحدًا
أظهر لنا شغفًا وميلاً عظيمًا إلى طرد كل العثمانيين من أوربا ومن وجه الأرض
كلها يجب أن نجيبه قائلين : بل سنتحد إن شاء الله مع العثمانيين وندعوهم بكل
إخلاص للاشتراك معنا في اقتباس أنوار النصرانية .
***
موضوعات تبشيرية
خاض المؤتمر بعد إتمامه الموضوع السابق في موضوعات كثيرة منها كيفية
عرض العقيدة النصرانية والمناظرة فيها والوسائل التي يجدر التذرع بها لنشر
مبادئها والتحكك بالنفوس الإسلامية والوقوف أمام صبغة الإسلام . والصفات التي
ينبغي أن يتصف بها مبشر المسلمين بالنصرانية والإنجيل .
ثم قال القسيس ( ثرونتن ) وعرض على المؤتمر هذه النظريات الأولية :
1- الشعب البسيط يلزمه إنجيل بسيط .
2- الشرق سئم المجادلات الدينية .
3- الشرق يحتاج إلى دين أخلاقي روحي واستنتج من هذه النظريات القواعد
الآتية :
1- يجب أن لا نثير نزاعًا مع مسلم .
2- يجب أن لا يحرض المسلم على الموافقة والتسليم بمبادئ النصرانية إلا
عرضًا وبعد أن يشعر المبشر بأن الشروط الطبيعية والعقلية والروحية قد توفرت
في ذلك المسلم .
3- إذا حدت سوء تفاهم حول الدين المسيحي فيجب أن يزال في الحال ولو
أفضى الأمر إلى المناقشة .
أما ( لفروا ) أسقف مدينة لاهور فيرى أن المبشر الذي يعد نفسه لمجادلة
المسلمين في أمور الدين يجب أن تتفوق فيه الصفات الأخلاقية والاستقامة التامة
على المزايا العقلية . وأن يكون مقتنعًا بصحة البراهين التي يحتج بها وأن يكون
صحيح المجاملة وأن يضع الأمل بالفوز على خصمه نصب عينيه ويحاول حمل
خصمه على الخضوع للحقيقة .
وهذا الأسقف يستنكر قسوة التعاليم القديمة ويرى أنها كانت ترمي إلى التغلب
على العدو لا إلى اكتساب مودته . ثم قال : ويظهر لي أن كثيرًا من إخواننا
المبشرين يريدون أن يبشروا الناس برشقهم بالحجارة لا بعرض الحقيقة عليهم . نعم
إن هذه الطريقة قد تفيد ولكني أشك في موافقتها للتبشير وبما ينتج عنها من الحالات
النفسية .
وختم كلامه قائلاً : يجب على المبشر أن يتذرع بالصبر والسكينة وأن يكون
حاكمًا على عواطفه إلى الغاية القصوى . وأن لا يخالج نفسه أقل ريب في أنه هو
الذي سيفوز .
وهذا كان آخر مناقشات المؤتمر ثم قام القسيس ( زويمر ) رئيس المؤتمر
وقال :
( إن انعقاد هذا المؤتمر كان بالتقريب نتيجة لأعمال ( شبان التبشير
المتطوعين ) . أما البحث في أحوال العالم الإسلامي وتبشيره بالنصرانية فقد سبق
الخوض فيه في مؤتمر ( كلفلند ) . وهذه الخريطة التي نراها أمامنا الآن موسومة
باسم ( خريطة تنصير العالم الإسلامي في هذا العصر ) قد بعثت الأمل في قلوب
ألوف من الطلبة في مؤتمر ( ناشفيل ) الذي انعقد في شهر فبراير الماضي والتبشير
متوقف على وجود زمرة من المبشرين المتطوعين يقفون حياتهم ويضحونها في هذا
السبيل ) ثم ختم كلامه راجيًا أن يكون لندائه صَدى في المدارس الجامعة في أوربة
و أميركة .
***
( 4 )
العالم الإسلامي اليوم
هذا عنوان كتاب نشره القس ( زويمر ) رئيس إرسالية التبشير في البحرين
بمؤازرة زملائه - جمعوا فيه تقارير ومباحث تاريخية واجتماعية كتبها المبشرون
عن حال المسلمين القاطنين في مناطقهم التبشيرية . وتتلو هذه التقارير خلاصة عن
أعمال المبشرين التي قاموا بها في الأصقاع المختلفة وما نتج عنها من انتشار الدين
المسيحي .
وقد أنشأ جامعو هذا الكتاب مقدمة له ألحوا فيها بضرورة تنصير المسلمين
الذين أهمل المبشرون أمرهم . وهذه الفكرة قد توسع بها أخيرًا إمبراطور أهم
إمبراطورية أوربية في خطاب ألقاه على بعض المبشرين ( يريد إمبراطور ألمانية )
فكانت تشف عن الحكم على الإسلام من الوجهة الأخلاقية عامةً والدينية خاصةً أما هذه الفكرة فهي أنه لم يسبق وجود عقيدة مبنية على التوحيد أعظم من عقيدة
الدين الإسلامي الذي اقتحم قارتي آسية و أفريقية الواسعتين وبث في مئتي مليون
من البشر عقائده وشرائعه وتقاليده وأحكم عروة ارتباطهم باللغة العربية
أصبحوا كالأنقاض والآثار القديمة المتراكمة على جبل المقطم أو هم كسلسلة
جبال تناطح السحاب وتطاول السماء مستنيرة ذرواتها بنور التوحيد
ومسترسلة سفوحها في مهاوي تعدد الزوجات وانحطاط المرأة ! ؟
تلك هي الفكرة التي أشار إليها ناشرو الكتاب في المقدمة وأردفوها بقولهم :
إن الكنيسة المسيحية ارتكبت خطأ كبيرًا بتركها المسلمين وشأنهم إذ ظهر لها
أن أهمية الإسلام في الدرجة الثانوية بالنسبة إلى ثمانمائة مليون وثني - رأت أن
تشتغل بهم - رأت هذا وهي لم تعرف عظمة الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا
منذ ثلاثين سنة فقط .
على أن أبواب التبشير صارت مفتوحة الآن في ممالك الإسلام الواقعة تحت
سلطة النصرانية مثل الهند و الصين الجنوبية الشرقية ومصر و تونس و الجزائر .
وإن في العالم 140000000 مسلم يرتقبون الخلاص ؟ !
وفي هذه المقدمة بعض ملاحظات ونصائح للمبشرين منها :
1- يجب إقناع المسلمين بأن النصارى ليسوا أعداء لهم .
2- يجب نشر الكتاب المقدس بلغات المسلمين ؛ لأنه أهم عمل مسيحي . على
أنه قد تم جزء من هذه المهمة بعد أن طبع في بيروت 46 مليون صفحة من الكتاب
المقدس .
3- يجب أن يكون تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين
صفوفهم ؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها ؟
4- ينبغي للمبشرين أن لا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة إذ
من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وتحرير
النساء وأن تنصير أمثال ( كامل ) في بيروت و ( عماد الدين ) في الهند و ( ميرزا
إبراهيم ) في تبريز وأعمالاً أخرى من هذا القبيل من شأنها أن تولد لنا مجهودات
جديدة يجب علينا أن نحمد بسببها نعمة الله علينا .
***
الإسلام في مصر
هذا الفصل من كتاب ( العالم الإسلامي اليوم ) يتضمن ملخص أعمال
المبشرين البروتستان في مصر والوسائل التي يتذرعون بها والنتيجة التي توصلوا
إليها .
وأهم معاهد التبشير في مصر هو الذي أسسته ( جمعية اتحاد مبشري أمريكا
الشمالية ) سنة 1854 وكان المبشرون قد وضعوا نصب أعينهم تبشير المسلم
واليهودي والنصراني وقد استطاعوا أن يتحككوا بالمسلمين بواسطة مؤلفاتهم
ومدارسهم . فنشروا منذ 35 سنة كتاب ( شهادة القرآن ) ووزعوا بعض نسخ من
كتاب ( الكندي ) وكتاب ( ميزان الحق ) المطبوعين في إنكلترة .
ووضعوا في الأيام الأخيرة كتاب ( الهداية ) وهو في أربعة أجزاء ألف في
الرد على الذين طعنوا في النصرانية .
والمحاضرات العامة التي يقيمها المبشرون مرتين من كل أسبوع للموازنة
والمناظرة بين الإسلام والنصرانية يحضرها عدد عظيم من المسلمين ويسمح لهم
بأن يتكلموا .
وفي مدارس المبشرين في القطر المصري 3050 طالبًا مسلمًا وخُمس هؤلاء
من البنات المسلمات .
وكانت نتيجة هذه المجهودات منذ بداية التبشير إلى أيامنا هذه أن تنصَّر مئة
وخمسون مسلمًا وأهم ما وقع من ذلك سنة 1903 وسنة 1904 فقد تنصَّر في
الأولى 14 شخصًا وفي الثانية 12 .
وفي سنة 1882 تأسس في مصر معهد علمي للتبشير تابع لجمعية ( تبشير
الكنيسة ) وله أربعة فروع الأول قسم طبي والثاني مدرسة للصبيان والثالث مدرسة
للبنات والرابع لنشر الإنجيل . وينشر مبشرو هذا المعهد مجلة أسبوعية وكراسات
ولهم مكتبة خاصة بهم .
والنتيجة الأولى لمساعي هؤلاء هي تنصير قليل من الشبان والفتيات ,
والثانية تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار المسيحية .
وبعد المعهدين السابق ذكرهما تأتي ( جمعية تبشير شمال أفريقيا ) وهذه
الجمعية أسست معهدًا في مصر سنة 1892 وأهم وظائفها تنصير المسلمين . ولهذه
الجمعية ثلاثة وكلاء في الإسكندرية واثنان في شبين الكوم . وأعمال هذا المعهد
قاصرة على فتح المدارس لتعليم الإنجيل بوجه خاص . وأن تزور المبشرات منازل
المسلمين وتجتمع بسيداتهم . وأن توزع المؤلفات والكتب التبشيرية على المسلمين .
وأن تلقى محاضرات دينية لدرس الإنجيل في أيام الأسبوع . وأن تقام الصلاة .
وهذا المعهد قد نجح في تنصير خمسة أشخاص .
وفي سنة 1898 تأسست ( الجمعية العامة لتبشير مصر ) وغايتها تنصير
المسلمين أيضًا ولها معاهد في الدلتا و السويس وتدير مدارس للصبيان والبنات
وتبث فيهم مبادئ النصرانية ولها خزائن كتب تحوي كتبًا عربية ذات علاقة
بالإسلام ولها مجلة شهرية منتشرة جدًّا وخاصة بالمسلمين . وفي كل يوم سبت
يطوف المبشرون للتفتيش .
وأقل إرساليات التبشير أهمية في القطر المصري الإرسالية الهولندية التي
توطنت في قليوب , وفي مدارسها المتعددة تلاميذ من كل المذاهب , وهي تنشر
الإنجيل في القرى بواسطة بائعي الكتب , ومن أعمالها أنها أنشأت ملجأً للأيتام ,
وعنايتها متوزعة بين الأولاد المسلمين والنصارى على السواء .
أما العقبة الوحيدة التي تقف في سبيل إرساليات التبشير فهي أنه ليس لديها
قوة تزيل الضرر الذي يلحقها من مقاطعة المسلمين للمتنصرين وعدم إصغائهم لهم .
***
الإسلام وإرساليات الهند
من الذين ألفوا في هذا الموضوع المستر ( م . وهري ) فإنه تكلم عن حالة
التبشير في شمال الهند . وعن انتشار الإسلام ووسائط نشره وأشار إلى دراويش
جمعية ( انجمن إسلام ) وذكر التقدم الفكري والاجتماعي الذي حدث في هذه الجهات
وأن الإسلام عرقل سير هذه الميول .
ثم لخص هذا المبشر تاريخ التبشير في الهند فقال : إنه ابتدأ منذ مئة سنة
عندما نال ( جيزوم كزافيه ) اليسوعي إذنًا بالتبشير في لاهور ففتح باب الجدال في
مسائل التوحيد والتثليث وألوهية المسيح وصحة الكتب المقدسة . فتسبب عن ذلك
قيام ( أحمد بن زين العابدين ) وتأليفه كتاب ( الأنوار الإلهية في دحض خطأ
المسيحية ) .
إلا أن المبشر البروتستاني الذي يتكلم في تاريخ التبشير في الهند لم ترق له
الأعمال التي قام بها المبشرون الكاثوليك وقال : إن دفاعهم عن عقيدة عبادة العذراء
والآثار ( ذخائر القديسين ( أي بقايا عظامهم ) ) والصور عن الأماكن المقدسة كان
من شأنه إظهار النصرانية بغير مظهرها الحقيقي .
ثم جاء المبشر هنري مارتين فوضع أساسًا قويًّا للتبشير بالإنجيل فترجمه إلى
الفارسية والأوردية .
ثم جاء بعده ( بفندر ) فترجم كتابه ( ميزان الحق ) من الفارسية إلى
الأوردية وزاد عليه ترجمة كتاب ( طريق الحياة ) و ( مفتاح الأسرار ) وبهذا أثار
( بفندر ) مجادلات شديدة مع علماء الإسلام في دهلي ، وأكرا ، و لكنهوء ، وزلزل
بذلك إيمان كثير من المسلمين وإن يكن الذين تنصروا منهم قليلاً عددهم ( ! )
وأعان المبشرين في هذه المجادلات المسلمون المتنصرون مثل السيد مولوي صفدر
علي و مولوي عماد الدين و سيد عبد الله حاتم و منشي محمد حنيف والدكتور بري
قدارخان .
وفي شمال الهند الآن ما لا يقل عن 12 جمعية تبشير بين إنكليزية وأمريكية
وأسترالية وكلها ترمي إلى غاية واحدة .
واجتهدت هذه الجمعيات بتنصير المسلمين منذ وطئت البلاد ، ويتبين من
تقارير هذه الإرساليات أن من المسلمين المتنصرين من وصل إلى درجة المبشر ،
وقد اختصت هذه الجمعيات المسلمين بكتب يطالعونها وهي معروضة لهم في
مكتبات التبشير .
وقد اشتد انتباه المبشرين إلى مكافحة الإسلام في الأيام الأخيرة فنمت فيهم
فكرة الاختصاص بتبشير المسلمين عن إثر كتابات الدكتور ( مردوتش ) وبادرت
جمعيات متعددة إلى إرسال مبشرين أخصائيين لهذا الغرض .
أما عدد المسلمين المتنصرين فلا تمكن معرفته من الاعتماد على الإحصائيات
ولكننا عثرنا في تقارير سنة 1904 على أسماء صار أصحابها قسيسين مبشرين ،
وعدد المبشرين الذين هم من هذا القبيل 194 ويرى القارئ أسماء إسلامية في قوائم
أعضاء اللجان الدينية في ( بشاور ) وغيرها ، وقرأ ( المولوي عماد الدين ) في
( برلمان الأديان ) في شيكاغو سنة 1893 أسماء خمسين من المسلمين المتنصرين
الذين امتازوا بإخلاصهم للتبشير .
أما ثمرة التبشيرفي أواسط الهند فهي أضعف بكثير من ثمرة التبشير في شمال
الهند بالرغم من اجتهاد ( تبشير الكنيسة ) التي في مِدراس وحيدر آباد ، وبالرغم من
تفاني إرسالية ( تبشير الكنيسة ) التي تبشر النساء فكل المتنصرين في أواسط الهند
عدد قليل في جهتين أو ثلاث ، وفوق ذلك فإنه يكثر في هذه الجهات ارتداد
النصارى إلى الإسلام لأسباب مالية ومصالح شخصية ، وجمعية ( انجمن إسلام )
تنجح دائمًا بما لها من النشاط في حمل عدد كبير من الهندوس والمسيحيين على
اعتناق الإسلام .
ومؤتمر المبشرين الذي عقد في القاهرة لم يَفُتْه البحث في حركة الإصلاح
التي دخلت في مسلمي الهند والإشارة إلى ( السير سيد أحمد خان ) زعيم تلك
النهضة وما تبذله مدرسته الإسلامية في عليكدة ومؤتمر التربية الإسلامية .
ولقد خطب القسيس ( ويتبرتشت ) في مؤتمر القاهرة بموضوع ( الإسلام
الجديد ) فذكر أن تعاليم أوربة تقرب المسلمين من النصرانية ثم قال :
1- يحب علينا أن ننشئ جسرًا فوق الهاوية التي تفصل بين العناصر
وللتوصل إلى ذلك يجب أن ننتفع من وجود الطلبة المسلمين في إنكلترة .
2- أن يدرس الإنجيل على حدة أو على جماعات قليلة العدد .
3- أن تلقى محاضرات ودروس منظمة بمراقبة رجال ممتازين ، وأن
تصرف العناية إلى المناقشات .
4- توسيع نطاق المطبوعات بالأوردية مثل مجلة ( ترقي ) وأن يترجم تاريخ
التوراة للدكتور بلاك وأن يتذرع لترويج ذلك بنشر الجرائد والكتب الإنكليزية التي
يأنس بها المسلمون .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرنا في الجزء الماضي طائفة من هذه المقالات وسنبدي رأينا فيها بعد تمام نشر جميعها في المنار .
(1) كنت قرأت في كتاب (الإسلام) لهنري دي كاستري أن مما يجب أن يقوله مسلم يتنصر عبارة معناها أنه يكفر بإله محمد فظننتها كلمة آثارها التعصب والتقبيح على دين يخالف دين واضعها وأن فكرة الانتقام كانت مستولية عليه حين وضعها ولم أكن أفكر بأن يقول مثل (زويمر) في هذه الأيام التي احتك فيها العالم بعضه ببعض وخصوصًا من (كرس) نفسه (للكرازة) في الإسلامية ووقف على ما يقوله المسلمون بإلههم وإله آبائهم الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام وإذا كان معبودًا وإلهًا إنما تعرف صفاته من كتابها الذي تديه به فهاك النصوص القرآنية على قداسته جل وعلا ، فمنها في سورة 2 : 30 [ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ] (البقرة : 30) وس 59 : 24 [ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ ] (الحشر : 23) إلخ وس 62 : 1 [ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ] (الجمعة : 1) وس 20 : 12 [ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ ] (طه : 12) وس 79 : 17 [ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ ] (النازعات : 16) وس 5 : 24 [ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ] (المائدة : 21) ومن المعلوم أن غير المقدس لا يعطي القداسة لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) وأما المحبة فهاك بعض النصوص القرآنية عليها أيضًا قال تعالى في س 2 : 222 [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ] (البقرة : 222) وفي س 3 : 31 [ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] (آل عمران : 31) وس 3 : 76 [ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ] (آل عمران : 76) وس 3 : 159 [ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ٍ] (آل عمران : 159) وس 5 : 58 [ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ] (المائدة : 54) إلخ هذا وإن قداسة الله تعالى ومحبته مخلوقاته ومحبة المؤمنين إياه تعالى معلومة بالضرورة عند جميع المسلمين ولكننا أتينا بهذه النصوص ليراها مثل (زويمر) ثم إننا نسأل (زويمر) قائلين : هل تريد بالقداسة أن ينال الإنسان الأول (آدم) أخص صفات الإله بمجرد أكله من تلك الشجرة كما جاء في التكوين اص 3 : 5 قول الحية لآدم وامرأته : بل الله عالم أنكما يوم تأكلان منها (الشجرة) تنفتح أعينكما وتكونان كالله (وصدقها الله بذلك كما جاء في تك 3 : 22 ( هو ذا آدم صار كواحد منا ) وهل من القداسة أن يحمله الخوف من أن يكمل آدم صفات الألوهية بأكله من شجرة الحياة كما جاء في تك 3 : 22 ( والآن يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الأبد ) فيطرده من الجنة ويقوي الحرس عليها خوفًا من رجوع آدم إليها ثانية وأكله من الشجرة تك 3 : 24 ( وأقام شرقي جنة عدن الكوربين ولهيب سيف متقلب لحراسة شجرة الحياة ) ثم هل الرحمة بأن يجعل على آدم وامرأته وذريتهما ذلك القصاص الصارم بأن يأكلوا خبزهم من الحسك والشوك وأن يلعن الأرض بسببه ؟ تك 3 : 17 (وقال الرب الإله لآدم : لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة - إلى قوله - : ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك) إلى 18 و19 وأن يكثر أوجاع حواء وبناتها تك 3 : 16 (وقال للمرأة تكثيرًا أكثر إتعاب حَبَلك) إلخ وكذلك قصاص الحية (تك 3 : 14) وقال الرب الإله للحية : لأنك فعلت هذا ملعونة أنت (إلخ مع أنها لم تقل إلا حقًّا فكان هذا القصاص لم يكن فيه شيء من الرحمة لاسيما وأنه كان قصاصًا أبديًّا ؛ لأن تلك الخطيئة ( أكل آدم من الشجرة ) لم تكن قابلة للغفران أصلاً بدليل أن ذلك القصاص لايزال واقعًا مشاهدًا في ذرية آدم والحية معًا ولم يؤثر شيء من التجسد ولا نفعت تلك المصالحة في هذا الموضوع شيئًا ؛ لأن الرب الإله لم يجعل قصاصًا لذلك الذنب غير لعن الأرض وطرد آدم من الفردوس إليها ليعمل فيها بالتعب ؛ حيث تنبت له الحسك والشوك إلخ وهذه الأشياء لاتزال واقعة حاصلة لم تتغير اللهم إن إلهًا هذه قداسته وهذه محبته لَمِمَّا لا يعبد اختيارًا وإنما يخضع له كما كان الناس ولايزالون يخضعون للملوك القساة المستبدين الظالمين ، وأي عاقل يحسد زويمر على إلهه هذا ؟ ربما يقول زويمر بأن إلهه إنما هو إله العهد الجديد وإننا نحوله حينئذ على كتاب( دين الله في كتب أنبيائه ) وكتاب ( العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ) ليعلم منهما قداسة ومحبة آلهة كثيرين كإلهه هذا وإننا نبرأ إلى الله مما جرى به القلم في مجاراة ومجالدة هذا القس ليعلم العالم أن روح قسس العصور المظلمة التي أثارت الحروب الصليبية قد دخلت في أجسام هؤلاء الدعاة وإنهم مهما علموا من فضل الإسلام فإنهم لا يرجعون عن الافتراء عليه فهم ضالون على علم. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا
(15/369
 
الكاتب : المسيو شاتليه

جمادى الآخرة - 1330هـ
يونيه - 1912م

الغارة على العالم الإسلامي
العالم الإسلامي اليوم
[*]

بلاد الترك العثمانية
وضع القسيس ( أناتوليكوس ) تقريرًا في هذا الموضوع لخص فيه أعمال
وحركة التبشير في بلاد الترك العثمانية , ولم يتوسع في تقريره لأن هناك أسبابًا
سياسية وغير سياسية تمنعه من ذلك .
ومما قاله : إن الكتاب المقدس راجت نسخ ترجمته التركية رواجًا حسنًا وهي
تباع بالألوف . وبنى على ذلك أن الأتراك الذين يحترمون القرآن احترام القروي
الكاثوليكي في أواسط أوروبة للإنجيل , يعرفون قدر مطالعة الكتاب المقدس إلخ .
***
سورية وفلسطين
تقف في طريق تبشير هذه البلاد عقبات خاصة بعضها من الحكومة والبعض
الآخر ناشئ عن حالة البلاد وموقفها الحاضر ، فسورية و فلسطين مملوءتان
بالمذاهب المختلفة , وللدين فيهما ارتباط بالسياسة ، و أهم الوسائل التي يستخدمها
المبشرون لتذليل هذه الصعوبات هي :
1- توزيع نسخ الكتاب المقدس .
2- التبشير من طريق الطب ؛ لأن ذلك في مأمن من مناوأة الحكومة له ،
والمسلمون يلجأون بأنفسهم إلى مستشفيات المبشرين و صيدلياتهم .
3- الأعمال التهذيبية : كالمدارس والكليات التي تقبل أبناء المسلمين , وكان
في مدارس ( صيدا ) فقط في السنوات الأخيرة 250 تلميذًا من كل الطوائف ,
فوصل عدد المسلمين في السنوات الثلاث الأخيرة إلى 98 بعد أن كانوا 45 وهذه
الزيادة ناشئة عن إقبال مسلمي مصر على مدارس المبشرين في سورية .
4- الأعمال النسائية : مثل زيارة المبشرات منازل المسلمين وإلقائهن
المحاضرات الخاصة .
5- توزيع الكتب والمؤلفات التبشيرية . وختم صاحب التقرير آراءه بقوله :
( إننا لو سئلنا عن نتائج مجهودات مبشري المسلمين بالنصرانية في سورية
وفلسطين لا نجد جوابًا غير القول بأن الله وحده هو المطلع على مستقبل أعمالنا
بين المسلمين وعلى نتائجها ، وأن الله لم يبارك داود النبي لكثرة عدد قومه .
أجل إننا لو تصفحنا الإحصائيات يتبين لنا أن عدد المسلمين الذين تنصروا
وتعمدوا هو عدد غير مُسرّ وغير مرضٍ ، إلا أن هذا العدد مهما يكن قليلاً بذاته فإن
أهميته أعظم مما يتصور المتصورون .
وصفوة القول : أننا حصلنا على نتيجة واحدة جوهرية وهي أننا أعددنا آلات
العمل ، فترجمنا الإنجيل , ودربنا الوطنيين على مهنة التبشير ، وأتممنا تهيئة
الأدوات اللازمة وهي الكنائس والمدارس والمستشفيات والجرائد والكتب ، ولم
يبق علينا إلا أن نستعمل هذه الأدوات .
***
الجزيرة العربية
قال وليم جيفورد بالكراف : ( متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب
يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد
و كتابه ! ) .
قال مؤلف كتاب ( العالم الإسلامي اليوم ) : وقد أدرك أهمية هذه الفكرة
القسيس ( يانغ ) صاحب التقرير عن التبشير في جزيرة العرب , فجعلها نصب
عينيه في كل الأعمال , ولكننا نتساءل عما إذا كان قد حان الوقت للعمل بها وعما
تكون نتيجة التبشير حينئذ ؟
وقد سبق للقسيس زويمر ( رئيس إرساليات التبشير في البحرين ) أن ألف
كتابًا سماه ( مهد الإسلام ) - و سيأتي الكلام على هذا الكتاب بعد - أتى فيه على
تاريخ إرساليات التبشير في جزيرة العرب وما تطمع به هذه الإرساليات , وأشار
بوجه خاص إلى إرسالية التبشير العربية , وهي البنت الممتازة لكنيسة الإصلاح
الأمريكية , ولها فروع أربعة أقدمها عهدًا ( جمعية تبشير الكنيسة ) التي تفرع عنها
فرع آخر في فارس سنة 1882 , وقد استقلت هذه الجمعية بأعمالها باسم ( جمعية
التبشير العربية العثمانية ) ولها في بغداد أربع إرساليات وفي الموصل إرسالية
واحدة .
وفي سنة 1885 ذهب إلى عدن ( إيون كيث مالكونر ) وهو الابن الثالث
للكونت ( كنتور ) فأسس هناك إرسالية تبشير اسكتلندية سماها باسمه , وهي
مؤلفة من طبيبين مبشرين , وتبعتها ( إرسالية التبشير العربية ) التي أسست سنة
1889 وهي تابعة لكنيسة الإصلاح الأميركية , فانتشرت في البصرة والبحرين
ولها في البحرين خمسة مبشرين - اثنان منهم طبيبان واثنان امرأتان - ولها في
البصرة أربعة مبشرين أحدهم طبيب .
وفي ( الشيخ عثمان ) إرسالية تبشير دينمركية كان سلطان ( مكلا ) طردها
من بلاده [1] , وتوجد في الجزيرة إرساليات أخرى تمدها جمعياتها بالمال
والإعانات .
وانتقل المؤلف بعد هذا البيان إلى ذكر النفقات الجسيمة التي تتكبدها إرساليات
التبشير في جزيرة العرب , ومما قاله : إن مرتبات المبشرين والموظفين عندهم
وبائعي كتبهم تساوي ثلاثة أضعاف مرتبات أمثالهم في الهند ، ومما يخفف أمر هذه
النفقات أن المبشرين في بلاد العرب اتخذوا لهم مراكز تمهد لهم سبيل التوغل في
داخل الجزيرة , وكل الإرساليات هناك على اختلاف نزعاتها وأشكالها ومعاهدها
الطبية والتهذيبية والأدبية ترمي إلى غاية واحدة .
والمرضى يشدون الرحال من أصقاع بعيدة إلى مستشفيات المبشرين في
(الموصل) و (بغداد) و (البصرة) و (البحرين) و (الشيخ عثمان) و (عدن) وعندما
يرحل الأطباء جائيين في البلاد , يبذرون في النفوس بذورًا يمكن للمبشرين
وبائعي الكتب أن يتعهدوها بعد ذلك وينمو غرسها .
والتعليم المدرسي والتربية الأخلاقية اللذان يعنى بهما المبشرون قد أسفرا عن
نتائج جمة , وأثمرا ثمرات نافعة في الأطفال و المراهقين على السواء .
قال القسيس زويمر : إنه جمع تلاميذه المسلمين مرة ووضع بين أيديهم كرة
تمثل الكرة الأرضية , ثم حول عليها نورًا قويًّا , وبرهن لهم بذلك على كون الأمر
بصيام شهر رمضان ليس آتيًا من عند الله ؛ لأنه يتعذر أداء هذه الفريضة في بعض
البلاد ؟ !
وقال أيضًا : إن المحاضرات التي يلقيها القسس المبشرون على الحاضرين
من المسلمين أثناء تمثيل حوادث التوراة بالفانوس السحري والخرائط الإحصائية
عن ارتقاء ممالك النصرانية وانحطاط ممالك الإسلام , كل ذلك تتمة لوسائل التعليم
البروتستاني .
وقال المؤلف عن نتائج أعمال المبشرين في بلاد العرب : إن من المتعذر
تعيين نتائج هذه الأعمال الخيرية ، إلا أن مما يدعو إلى الاغتباط والسرور أننا
اقتطفنا ثمرات أعمالنا في كل منطقة من مناطق التبشير , فالأوهام تبددت وحل
محلها التسامح والاهتمام الحقيقي بالتعاليم النصرانية , وفي كل سنة تباع ألوف من
نسخ الكتاب المقدس وكميات وافرة من الكتب والكراسات والمجلات , ويهتم
المبشرون الآن بإقامة مستشفى في الشيخ عثمان ؛ لأنه بينما كان عدد المرضى
الذين عرضوا أنفسهم على أطباء المبشرين يبلغ 2500 صاروا الآن 40000[2] .
***
مملكة فارس
أنشأ القسيس ( سن كليريسدال ) تقريرًا عن التبشير في فارس , وهو لا
يختلف عن التقارير المتعلقة بتبشير البلاد العثمانية من حيث قلة مادته :
( بذلت إرساليات التبشير جهدها في بلاد فارس , ونجحت في تبديد ما يعتقدونه
في النصارى من أنهم مشركون بالله ويعبدون آلهة ثلاثة , وهذا الاعتقاد وقر في
نفوس المسلمين لما يشاهدونه في الكنائس الشرقية والكاثوليكية , إلا أنهم عادوا الآن
فصاروا يفرقون بين الفرقتين النصرانيتين , فظهر لهم أن البروتستانية خالية من
الوثنية فارتاحوا لها ؟ ) .
قال صاحب التقرير : ( إنه لما عُين سنة 1892 سكرتيرًا لجمعية
تبشير الكنيسة , كان الاعتقاد السائد هو أنه يستحيل أن يتنصر المسلم ويتعمد إلا
إذا عرض نفسه للموت . ولكن الاضطهاد قد خف الآن , وصارت أبواب فارس
مفتوحة للمبشرين بالإنجيل أكثر من غيرها , واكتسب المبشرون محبة الناس لهم
بسبب الأعمال الطيبة التي تصدر عن المبشرين , فتجعل الأعداء أيضًا
يعترفون بأن النصرانية مصدر عمل صالح .
ومهما يكن عدد المتنصرين لا يزال قليلاً , فإن هنالك جمعيات صغيرة
مسيحية اندمج فيها المتنصرون الفارسيون من نساء ورجال ، وهذه الجمعيات
الصغيرة منتشرة في كل مكان وصل إليه المبشرون , وفوق ذلك فإن عددًا عظيمًا
من المسلمين ينتمي إلى النصرانية سرًّا ويقال : إن بينهم من لا يتأخر عن إعلان
نصرانيته عندما تنتشر حرية الأديان في فارس .
والوسائل التي يتذرع بها المبشرون هنا هي الإرساليات الطبية من نساء
ورجال ورحلات المبشرين والأعمال النسائية , ورجال التبشير يتحككون
بالمسلمين ويحاولون الحصول على مودتهم , ويستخدمون فريقًا منهم في مكاتب
التبشير , ويدخلون معهم في المناقشات الدينية , إلا أنهم لا يجرحون عواطفهم ,
والهمة مبذولة بنشر الإنجيل والتوراة وسائر كتب التبشير باللغة الفارسية ,
وبالاعتناء بتعليم الذين تنصروا ولا يزالون في دور التجربة ) .
وأنكر القسيس زويمر على صاحب هذا التقرير إغفاله ذكر المدارس وما لها
من التأثير إذ أنها أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكك بالمسلمين , وقد قال
أحد المبشرين : المدارس هي من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين وقد
كان عدد التلاميذ في المدرسة التبشيرية في طهران قبل سنتين فقط 40 إلى 50 ,
فصاروا الآن 115 وكلهم يتلقون التربية النصرانية بكل إتقان . وكذلك الحال في
مدرسة تبريز التي يديرها هذا القسيس , فقد كان فيها 3 تلاميذ من المسلمين , ثم
صاروا 50 ومثل ذلك مدرسة أورمية , فإن فيها 50 طالبًا وفي مدرسة البنات 35
تلميذة , وفي مدرسة البنات في طهران 25 تلميذة .
وأنكر مبشر آخر على صاحب التقرير قوله : إن البهائيين يتقربون من
التوراة أكثر من غيرهم , وزاد على ذلك أنه لا يوجد من يعتبر البهائيين أسمى
أخلاقًا من المسلمين , بل الحقيقة على عكس ذلك .
***
صومترا
يمتاز التقرير الذي وضعه أحد قُسس الألمان عن مبشري هذه البلاد بدقته في
الكلام عليهم , وبيان أعمالهم بالأرقام , ومما قاله : ( إن جمعية المبشرين الألمانية
نصَّرت مئة شخص منذ تأسست سنة 1871 إلى وقت كتابة هذا التقرير , ولجمعية
التبشير الهولاندية فقط أن تبشر على الساحل الشرقي من الجزيرة , والذين نصَّرتهم
لجنة تبشير جاوة 500 شخص منذ 1860 , وأما ( جمعية ريتس الألمانية ) فتفوق
على تلك باتساع نطاق أعمالها , لأن لها 36 فرعًا : أربعة منها لتبشير المسلمين
بوجه خاص , وقد تمكنت من تنصير 6000 مسلم ولديها الآن 1150 مسلمًا في
دور التجربة ولجمعية التبشير بالتوراة - وهي إنكليزية - مندوبون في مناطق
أعمال الإرساليات الألمانية يبيعون الكتاب المقدس .
وقد تحسنت خطة هولندة مع المبشرين عما كانت عليه في أواسط القرن
الماضي , فصارت تشد أزر المبشرين وتساعد مدارسهم وإرسالياتهم الطبية , وتعد
ذلك من عوامل نشر المدنية .
وللمبشرين هنا ثمانون كنيسة وأدخلوا بينهم من الوطنيين خمسة قُسس وسبعين
مبشرًا هذبوهم في مدارس خاصة بهم , وإرساليات التبشير تجبي من المسيحيين في
صومترا ضريبة وضعتها على الأرز ؛ للاستعانة بها على التبشير وتستوفيها نقدًا أو
من عين المال ) .
ويقول واضع التقرير : ( إن ميل المسلمين إلى النصرانية قد ظهر جليًّا وقويَ
تياره , ويتفق في بعض الأوقات أن يتنصر العروسان المسلمان في وقت واحد .
ويتقرب المبشرون الألمان إلى المسلمين بالمدارس والإرساليات الطبية , وهذه
الإرساليات الطبية - كما يقول عنها صاحب التقرير - مثل الشوك في أجسام
زعماء المسلمين الذين يسلون أنفسهم قائلين : إن الله أرسل هؤلاء الأطباء ليخدموا .
إلا أن للإرساليات الطبية بالرغم من ذلك تأثيرًا شديدًا على المسلمين ؛ لأنها تظهر
الفرق بين أغراض الزعماء الشخصية وبين خدمة الأطباء المبشرين الذين لا
غرض لهم في النفس ! ) .
***
جاوه
لا يختلف موقف المبشرين في هذه الجزيرة عن موقف زملائهم في صومتره
من حيث الوسائل التي يتذرعون بها , ومن حيث خطة الحكومة في معاملتهم .
وفي جاوه 46 مبشرًا و150 مساعدًا لهم , وعشرون من مجموع هؤلاء
اختصوا بتبشير المسلمين دون غيرهم , وفي الإحصائيات أن عدد المسلمين
المتنصرين بلغ 1800 شخص !
وآخر ما جاء في هذا التقرير أن اعتقاد المسلمين بالله دون أن يعتمدوا فيه
على الكتاب المقدس لا يعد خطوة نحو النصرانية ولا ابتعادًا عن الهوة التي تفصل
الوثنيين عن النصرانية , وأن هنالك سلطة قوية يهيئها الشيطان ( ! ) ليهلك بها
النفوس ويبعدها عن نور العالم يسوع المسيح ...
( يتبع )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء الخامس ص 369 من مقالات الغارة على العالم الإسلامي .
(1) المؤيد : الشيخ عثمان اسم مكان في ثغر عدن ، والمكلا ثغر في حضرموت شرقي عدن .
(2) المنار : تسمي العرب طبيب العيون الموجود في الشيخ عثمان (المُغوي) وكذلك تسمي الداعيات النصرانيات اللائي في عدن (المُغويات) .
(15/442)
 
الكاتب : المسيو شاتليه

رجب - 1330هـ
يوليو - 1912م

الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي
[*]

( 6 )
مؤتمر أدنبرج سنة 1910
عقد المؤتمر في شهر سبتمبر سنة 1910 وكان للمسائل الإسلامية حظ كبير
من مداولات أعضائه ، بل إن لجنتين من أهم لجانه تفرغتا للبحث في أمر الإسلام
والمسلمين .
وقد نشرت أعمال هذا المؤتمر ومناقشاته في تسع مجلات لم نتمكن من
الحصول عليها , إلا أننا عثرنا على مجلات ثلاث تكلمت عن هذا المؤتمر واحدة
ألمانية وهي ( مجلة الشرق المسيحي ) التي تصدرها ( جمعية التبشير الشرقية
الألمانية ) والثانية إنكليزية وهي ( مجلة العالم الإسلامي ) المعروفة , والثالثة
سويسرية وهي ( مجلة إرساليات التبشير البروتستانية ) التي تصدرها ( جمعية
التبشير في مدينة بال في سويسرا ) .
وأعمال مؤتمر أدنبرج لم تكن حبرًا على ورق , بدليل أن ( المؤتمر
الاستعماري الألماني ) الذي عقد عقب مؤتمر أدنبرج التبشيري اهتم بأمر إرساليات
التبشير الجرمانية , حتى خُيِّل للناس أن هذا المؤتمر الاستعماري السياسي تحول
إلى مؤتمر تبشيري ديني .
***
أقوال المجلة الألمانية
مجلة الشرق المسيحي هي التي تنشرها جمعية التبشير الشرقية الألمانية منذ
سنة 1910 , ولهذه الجمعية إرساليات تبشير وملاجئ للأيتام في السلطنة العثمانية
و فارس و بلغارية و روسية .
قالت هذه المجلة في مقالة عنوانها ( الشرق المسيحي وإرساليات تبشير
المسلمين ) :
( إن أعمالنا قد ازدادت أهمية بين مسلمي البلغار بنعمة الله الساطعة ، وذلك
بنشاط وإقدام القسيس ( أفيتارنيان ) الذي كان اسمه من قبل أمين زاده محمد شكري
وازدياد أهمية التبشير كانت بوجه خاص عقب تأسيس المدرسة الدينية الإسلامية
وما يأتيه هذا القسيس من الأعمال ؛ بمساعدة الشيخ أحمد كاشف والمدرس نسيمي
أفندي بقصد مقاومة الإسلام , يبرهن لنا على أنه قد أزف الوقت الذي يتزعزع فيه
الإسلام من أركانه ! وينتشر الإنجيل بين الشعوب الإسلامية ! وأن هذا الارتقاء
التاريخي وما نعمله في أرمينية و سورية وروسية قد جعلنا نزيد في اسم مجلتنا
( الشرق المسيحي ) وندعوها بعد الآن ( الشرق المسيحي وإرسالية التبشير
الإسلامية ) وسيعهد بتحرير القسم الإسلامي فيها إلى القسيس ( أفيتارينيان ) .
ونشرت هذه المجلة مقالة أخرى بقلم المستر ( لبسيوس ) الألماني عنوانها
( دخول التبشير العام في طور جديد ) ذكر فيها أهمية مؤتمر أدنبرج , وأنه أبان عن
ارتقاء في أعمال المبشرين .
ومن هذه المقالة نعلم أن مؤتمر أدنبرج كان فيه 1200 مندوب بينهم 502
من الإنكليز و505 من الأميركان , ومن مندوبي التبشير الأميركيين المستر
( روزفلت ) رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق , إلا أنه أرسل رسالة اعتذار
عن عدم تمكنه من الحضور , إلا أن المستر ( براين ) استطاع أن يحضر -
وهو خطيب أميركة المشهور , وقد رشح نفسه لرئاسة جمهورية الولايات المتحدة
مرارًا - وعلى هذا فالمندوبون الذين يتكلمون الألمانية كانوا 98 والآخرون يتكلمون
بلغات مختلفة , ولذلك تقرر أن تكون الإنكليزية لغة المؤتمر .
وتقول هذه المجلة : إن إرساليات التبشير الإنكليزية والأرلندية تنفق في
السنة 2.150.000 جنيه في سبيل التبشير وجمعيات التبشير الأميريكية
والكندية , تنفق 2.000.000 جنيه , وجمعيات التبشير الأوسترالية والأفريقية
والآسيوية والهندية تنفق 300.000 جنيه وما تنفقه جمعيات التبشير البروتستانية في
باقي القارة الأوروبية يبلغ 700.000 جنيه .
واقتبس صاحب هذه المقالة من قيود مؤتمر أدنبرج عدد جيش المبشرين
البروتستانت , فقال : إنه يبلغ 98.388 مبشرًا تعضدهم لجان , يبلغ عدد
أعضائها 5.500.000 شخص , ويبلغ عدد النساء والرجال الوطنيين وغير
الوطنيين من موزعي التوراة الذين يشتركون في التبشير والوعظ 92.913 .
وعدد المعاهد الكنيسية 16.671 وعدد إرساليات التبشير العامة 3.478
والتي في الدرجة الثانية 32.009 وعدد الأساتذة والتلاميذ الذين تحت إشراف
المبشرين 1.190.602 وتوجد تحت سلطتهم 81 مدرسة جامعة وكلية وفيها
7.991 طالبًا , ولديهم 489 مدرسة دينية لتعليم لاهوت النصرانية , وتخريج
المعلمين والمبشرين , وفيها 12.543 طالبًا , وهي تهيمن أيضًا على 1.594
مدرسة ثانوية , فيها 155.420 طالبًا , و 28.901 مدرسة ابتدائية , يبلغ عدد
تلاميذها 1.165.212 وما عدا ذلك فالمبشرون يديرون 113 مدرسة من النوع الذي
يسمى ( بستان الأطفال ) وفيها 4.703 أطفال .
وأسست هذه الإرساليات 550 مستشفى و1024 صيدلية لها4.000.000
من المترددين عليها ولديها 111 مجلسًا طبيًّا , و92 جمعية للممرضات و265 ملجأ
للأيتام و88 ملجأ للبرص و21 ملجأ للبرص أيضًا وهي خاصة بالأطفال .
وتدير 25 مدرسة للعميان و21 معهدًا للإسعاف و103 مستوصفات لمدمني
الأفيون و15 ملجأً للأرامل .
هذا كله كان سنة 1902 , ومن يقارن بينه وبين ما وصل إليه هذا الإحصاء
سنة 1911 ير أن هناك ارتقاء باهرًا , لأن عدد إرساليات التبشير العامة بلغ3.838
والإرساليات التي في الدرجة الثانية 34.719 وعدد الأساتذة والتلاميذ 1.412.044
أما الجامعات والكليات , فصار عددها 88 وفيها 8.628 طالبًا ولدى المبشرين 522
مدرسة دينية ؛ لتخريج المبشرين , والمعلمين فيها 12.761 طالبًا وعدد المدارس
العليا 1.714 فيها 166.447 طالبًا , وعندهم 30.185 مدرسة ابتدائية عدد
تلاميذها 1.290.357 .
أما المستشفيات فصار عددها 576 والصيدليات 1.077 والمجالس الطبية لا
تزال 111 وفيها 830 طالبًا , و98 معهدًا للممرضات فيها 663 طالبة .
ويشرف على إرساليات التبشير 250 جمعية عمومية عاملة و433 جمعية
لإعانتها و22 جمعية مختلفة .
وترد على صناديق إرساليات التبشير أموال كثيرة منها 60.500.000
فرنك في السنة , تدخل في صناديق جمعيات التبشير البريطانية والأرلندية
و67.000.000 فرنك في صناديق الجمعيات الأميركية والكندية و 7.2000.000
في صناديق الجمعيات الأوسترالية والأفريقية , ولغة الجمعيات كلها الإنكليزية
وأما إرساليات التبشير الأخرى , فيرد على صناديقها20.100.000 فرنك .
***
أقوال المجلة الإنكليزية
أقوال المجلة الثانية فهي ( مجلة العالم الإسلامي ) الإنكليزية التي تصدر منذ
شهر فبراير سنة 1911 , ويتولى إدارتها القسيس زويمر رئيس إرسالية البحرين ,
وقد استهل عددها الأول بما يأتي :
( تبين لنا من مراجعة ( مجلة العالم الإسلامي ) الفرنسية ومجلة ( الإسلام )
الألمانية ومن ( دائرة المعارف الإسلامية الجديدة ) المحررة بثلاث لغات أن زيادة
العناية والاهتمام بأمر الإسلام , تستدعي إصدار مجلة إنكليزية خاصة بالأبحاث
الإسلامية , ودرس أفكار المسلمين وعلاقاتهم بالكنيسة , والخطة التي ينبغي انتهاجها
مع المسلمين , وإذا كانت الكنائس المسيحية تحاول التحكك بالإسلام , فيجب عليها
قبل كل شيء أن تعرف مركز الإسلام .
دخلنا بعد مؤتمر القاهرة في دور جديد , ظهرت فيه أهمية تنصير المسلمين
وشعر زعماء التبشير بأن الكنيسة لا بد لها من سَبْر غَوْر المسألة الإسلامية , وأن
تحسن العناية بتربية المبشرين , وتتوقع خيرًا من أعمالهم, ومهمة تنصير المسلمين
تقضي بإيجاد ميدان مشترك للعمل , تتضافر فيه الأفكار والأبحاث والمجهودات .
ومجلتنا تستحسن الاهتمام الشديد الذي أبداه مؤتمر أدنبرج , وستجتهد هي في
متابعة البحث والمداولة في المسائل التي بحث المؤتمر فيها , وتواصل الجهد ؛
لجمع كلمة الذين يحبون المسلمين ( ! ) ويشتغلون لخيرهم ( ! ) .
وهذه المجلة لا تمثل فرقة أو مذهبًا واحدًا من فرق الكنيسة وأحزابها , بل هي
ستكون واسعة الصدر سعة تامة ) اهـ .
وقد نشرت هذه المجلة مقالة بقلم المستر شارلس وطسون تحت عنوان ( العالم
الإسلامي ) قال فيها : ( إن من الخطأ الحكم على مؤتمر أدنبرج بأنه لم يهتم
بالمسائل الإسلامية ؛ لأن الغاية من عقد ذلك المؤتمر هي البحث في مسائل العالم
الخارج عن النصرانية , والاهتمام بإيجاد وحدة وتضامن بين المبشرين في أعمالهم ،
وأن نظرة واحدة توجه إلى قرارات المؤتمر تظهر لصاحبها الحظ الكبير الذي
كان للمسائل الإسلامية في أعمال المؤتمر .
فقد كان المؤتمر مؤلفًا من ثمان لجان , اختصت الأولى والرابعة منها بالتوسع
في بحث المسألة الإسلامية , أما مهمة اللجنة الأولى فهي أن تبحث في المسائل
الإسلامية من الوجهة الخارجية , وفي إيجاد ميدان عام مشترك لأعمال المبشرين
واختيار خطة ( الهجوم ) و ( الغارة ) , وتقرير هذه اللجنة يتضمن إحصاء متعلقًا
بالمسلمين , وعددهم ومبلغ ارتقائهم في كل قطر .
( ومما جاء في هذا الإحصاء أن في جزائر ( ماليزية ) والهند الهولندية
36.000.000 مسلم , ويزداد عددهم يومًا بعد يوم على نسبة ما ينقص من عدد
الوثنيين , وتبين للجنة أن المبشرين في الهند وقفوا جزءًا من خمسة أجزاء من
أعمالهم على تبشير المسلمين فيها ) .
( ولهذه اللجنة فروع بحث بعضها في حال الإسلام في الشرق الأدنى وآسية
الوسطى , وقد جاء في تقارير هذه الفروع أن المبشرين تعذَّر عليهم الخوض في
المسألة الإسلامية ، ولكن اللجنة يؤملون زوال الصعوبات التي تقف في طريق
إرساليات التبشير ) .
وجاء في تقرير اللجنة عن حالة الإسلام في أفريقية : ( أن الموقف فيها صار
حرجًا لسرعة تقدم الإسلام وارتقائه الواسع في الشمال , ومعاقله التي في السواحل
إلى الجنوب والغرب الأفريقي , والمبشرون كانوا أخطأوا في تقديراتهم السابقة ؛
لأنه تبين لهم فيما بعد أن بعض البلاد التي كانوا يحسبونها خالية من الأديان
المعروفة هي إما إسلامية بحتة وإما أنها على أُهْبة الدخول في الإسلام ) .
وتقول اللجنة : إن العداء الذي كان يُظهره المسلمون للمبشرين قد خَفَّت وطأته
بالنسبة لما كان عليه .
ثم تناولت اللجنة البحث في الأمور الاجتماعية الإسلامية التي تمهد السبيل
لتنصير المسلمين ، فحضت جمعيات التبشير على توسيع نطاق التعليم الذي يشرف
المبشرون عليه , وحصرت قراراتها بجملتين اثنتين :
الأولى : أنَّ ترقي الإسلام الذي يتهدد أفريقية الوسطى يجعل الكنيسة تفكر في
مسألة دقيقة وهي : هل ينبغي أن تكون القارة السوداء إسلامية أو نصرانية ؟
الثانية : أن المسألة الإسلامية في الشرق على الخصوص صار لها مكان هام
في أعمال المبشرين عقيب الانقلابات التي حدثت في بلاد الدولة العثمانية وفارس ،
مع أنها لم تكن تهم الكنيسة قبل هذه الانقلابات إلا قليلاً ، ولذلك أصبح من
مقتضيات الظروف أن تقوم إرساليات التبشير بعمل ينطبق على المسائل الإسلامية .
هذا شيء من أعمال اللجنة الأولى , أما اللجنة الثانية فهي خاصة بتمهيد
ميدان العمل لرجال ( الأكليروس ) في إرساليات التبشير , وقد أشارت إلى الإسلام
عرَضًا ؛ لأن كل المجهودات التي يبذلها المبشرون لتأسيس كنائس يقوم بأكثر
أعمالها أو ببعضها المسلمون المتنصرون فشلت تمامًا إلا في جزء من بلاد الهند
الغربية .
واللجنة الثالثة خاضت في الأعمال المدرسية التي يقوم بها المبشرون ,
واكتفت بهذه الكلمة عن المسلمين فقالت :
( اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن
معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية
يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أروبة كلها ) .
وقد كان للإسلام الحظ الوافر من مذكرات اللجنة الرابعة ؛ لأنها كانت مكلفة
بالبحث في علاقات الإنجيل بالديانات الخارجة عن النصرانية والوسائل التي تظهر
النصرانية على تلك الديانات المزاحمة لها .
وتناولت هذه اللجنة البحث في الإسلام بصراحة ومجاملة , فذكرت ما ترى
أنه موضع ضعف فيه , وما للنصرانية عليه من المزايا ! مستندة على أقوال
المبشرين والمتنصرين .
وتداولت اللجنة الخامسة في كيفية تعليم المبشرين وتربيتهم , وألحت بضرورة
تعليم المبشرين في البلاد الإسلامية دين الإسلام ولغة تلك البلاد .
وأما اللجنة السادسة فبينت كيف تنظم إرساليات التبشير , وذكرت شيئًا عن
الإسلام وعلاقاته بإرساليات التبشير المدرسية التي للأميريكيين .
والموضوع الذي بحثت فيه اللجنة السابعة هوعلاقات المبشرين بحكومات
البلاد التي يبشرون فيها , وموقف المتنصرين الوطنيين أمام حكوماتهم . خصوصًا
في البلاد العثمانية وفارس .
وانتقدت انتقادًا شديدًا الخطة غير المسيحية التي تنتهجها بعض الدول الأوربية
مثل إنكلترا في النيجر والسودان وقالت : إنها خطة من شأنها ترويج الإسلام
والتزام طرفه , أما اللجنة الثامنة من المؤتمر فقد خاضت في كيفية الاشتراك
وتوحيد أعمال التبشير , ولم تخض في المسألة الإسلامية إلا قليلاً حيث قالت في
تقريرها ( الأمر الذي لا مرية فيه أن المهمة الصعبة التي يقوم بها المبشرون في
البلاد الإسلامية لم تظهر في غاية الصعوبة إلا لأنه يعسر على جمعية تبشير
واحدة تقوم بها , إلا أن وحدة العمل ستكون أحسن وأسرع حل لهذه المعضلة في
إكمال مهمة التبشير ) .
وقد تناقش المؤتمر في المواضيع التي خاضت فيها اللجنة , وكان للمعضلة
الإسلامية حظ وافر ؛ إذ قام الدكتور القسيس ( كارل كوم ) الذي كان راجعًا من
أفريقية , وأوضح بكل بيان الخطر الذي يهدد أفريقية , وأنذر به الدكتور ( جورج
روسون ) فتكلم المبشر ( كوغبرغ ) عن أحوال تركستان الشرقية , ثم أشار
القسيس ( لبسوس ) إلى عدم وجود مؤلفات مسيحية تختص بالمسلمين , وانبرى
القسيس ( صموئيل زويمر ) , فأوضح بكل براعة وبيان المعضلة الإسلامية
العمومية .
***
أقوال المجلة السويسيرية
نشرت مجلة ( إرساليات التبشير البروتستانية ) التي تصدر في بلدة ( بال )
من سويسرة سلسلة مقالات عن تقارير اللجنتين السابعة والثامنة من لجان مؤتمر
أدنبرج ، وتكاد تكون هذه المقالات المتسلسلة تكملة لما نشرته ( مجلة العالم
الإسلامي ) الإنكليزية .
أما مقالات المجلة السويسرية فمكتوبة بقلم الأستاذ ( شلاتار ) صاحب التقرير
المقدم إلى مؤتمر أدنبرج بضرورة إعداد الوسائل لتوحيد أعمال التبشير .
قال هذا الأستاذ : إن مسألة توحيد أعمال التبشير من أهم ما ينبغي للإرساليات
على وجه العموم العناية به ، ما دامت النصرانية لم تنتشر إلا بين ثلث بني الإنسان ,
وبالتالي ما زال أمام النصرانية عمل جسيم يجب أن تتمه , إذ من المحقق أن الأمم
المتجانسة التي لا تدين بالنصرانية قد أخذت تتدرج إلى الأعمال التاريخية , وسيقوم
بينها وبين المنتمين إلى الإنجيل نزاع ومعارك شديدة , لذلك ينبغي للمبشرين أن
يتضافروا ويتعاونوا لتكون ثمرات مجهوداتهم وهم متحدون أربعة أمثالها وهم
متفرقون .
وهنا استشهد بحوادث اشترك المبشرون في الفيليبين وكورية بالعمل فأدت
إلى النجاح , مثال ذلك أنهم تفاهموا في دهلي فتسنى لهم تحديد مناطق أعمالهم ، وفي
الصين نجح المبشرون المنتمون إلى جمعيات متعددة في تأسيس مجلس لتوزيع
الأعمال , فكان موضع ثقة الجميع ، واتحدت اثنتان من الإرساليات المنصرفة إلى
طبع الكتب الدينية ونشرها , فطبعتا كتابًا جُمعت فيه النقط والمسائل التي تتفقان
فيها , وانفردتا في نشر ما تختلفان عليه , وكذلك الحال في الجرائد والمجلات
والمطبوعات التي تنشر بمشاركة الإرساليات المختلفة .
ثم بنى على ذلك ما لهذا التضامن والاشتراك من المحاسن والتأثير في جمع
الكلمة وقال : إن لجنة مؤتمر أدنبرج أقرت ضرورة تعاون الإرساليات المختلفة ؛
ليتسنى لها تأسيس كنيسة واحدة وسط كل أمة غير مسيحية , كما فعل المبشرون في
بعض جهات اليابان والصين والهند الوسطى , وقد ختمت لجنة مؤتمر أدنبرج
قرارها في هذا الشأن بالجملة الآتية : ( إن الميل إلى تثبيت كنيسة المسيح المنشقة
يزداد يومًا بعد يوم ) , ومما يجدر بالذكر أن لجنة مختلطة تألفت للنظر في هذا
الأمر .
وأشار الأستاذ ( شلاتار ) إلى أهمية اللجنة السابعة التي كان اللودر بلفور -
وزير أسكتلندة السابق وهو الآن عضو في المجلس الأعلى - رئيس شرف لها .
نظرت هذه اللجنة في المستندات التي وردت عليها من المبشرين عن علاقاتهم
بحكومات البلاد الموجودين فيها , وعما إذا كان يوجد في سبيل التبشير ونموه موانع
وعقبات , وعلى هذا فاللجنة السابعة بحثت عن حالة التبشير في كل البلاد .
امتدحت اللجنة خطة حكومة اليابان مع المبشرين بمقدار ما استهجنت العداء
الذي يظهره الموظفون الصينيون لكل شيء تشتَمّ منه رائحة الأجنبي , أما في الهند
فالمبشرون متمتعون بالراحة ؛ لأن الحكومة تساعدهم وتعضدهم بالإعانات ,
وتشرف على المكان الذي تصرف فيه هذه الإعانات , إلا أنها مع ذلك واقفة على
الحياد في الأمور الدينية , وتساءلت اللجنة عما إذا كان من الممكن أن تخرج حكومة
الهند عن حيادها الديني ؟
وحكومة هولندة تشد أزر المبشرين أكثر من الحكومة الإنكليزية , وقد رتبت
لهم مرتبات مالية ؛ لتصرف على المستشفيات والملاجئ والمدارس , وسبب هذا
الاتفاق بين الحكومة الهولندية والمبشرين وجود ( فون بوتزيلر ) قنصل المبشرين
والوسيط بينهم وبين الحكومة , أما في آسية الغربية ، فأعمال المبشرين قاصرة على
الطب ؛ لأن نشر الإنجيل لم يزل محظورًا هناك , والمتنصرون عرضة للهلاك في
فارس وهدف للأخطار الشديدة في البلاد العثمانية .
والمعضلة الإسلامية في أفريقية أعقد منها في آسية , وكل ما يستطيعه
المبشرون هناك هو منافسة المسلمين في التقرب من قلوب الوثنيين والاستيلاء
عليهم ليس إلا .
والبلاد التي يدخلها الإنكليز يكون باب التبشير فيها مفتوحًا , إلا أن أهمية ذلك
تقل إذا علم أن سياسة الإنكليز التي يشكو منها المبشرون مبنية على المجاملة
القصوى إلى حد يضر بالمسيحيين , حتى إن الموظف يضطر للخضوع إلى
العادات والتقاليد الإسلامية واعتبار يوم الجمعة يوم راحة والاشتغال في يوم الأحد
كما هي الحال في مصر والسودان [1] , ولا حاجة إلى التصريح بأن هذه الخطة
تعرقل أعمال المبشرين , وتدعو إلى سخطهم وتجعل الأقباط عُرضة للظلم [1] كل
ذلك احتفاظًا بمصلحة المسلمين , والمسيحيون في مصر كانوا إلى سنة 1907
محرومين من تعلم أمر دينهم في مدارس الحكومة على نفقة كنيستهم , بينما الحكومة
تعلم القرآن على نفقتها [2] , فإذا كان الإنكليز يودون أن يروا تعاليم الأخلاق
النصرانية ظاهرة على غيرها , فينبغي لهم أن يساووا بين مسلمي مصر ونصاراها
في الحقوق [3] .
أما في مدغشقر فقد كان المبشرون يلاقون صعوبة وشدة في المعاملة .
والقسم الثاني من أعمال هذه اللجنة يتعلق بموقف المبشرين أمام الحكومات من
الوجهة الحقوقية , فتقرر أن يُبقي المبشرون على تابعيتهم الأولى ما لم يتجنسوا
بجنسية البلاد , والمتنصرون يظلون في تابعيتهم الأولى ؛ لأن علاقتهم بالمبشرين
دينية محضة , ويمكن للمبشرين أن يطلبوا من الحكومات مساعدات وامتيازات
ولكن لا يجوز لهم التداخل فيما يتعلق بالمتنصرين .
ولما انتهت اللجنة من أعمالها قال ( اللورد بلفور ) رئيس الشرف : ( إن
المبشرين هم ساعد لكل الحكومات في أمور هامة , ولولاهم لتعذر عليها أن تقاوم
كثيرًا من العقبات , وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يناط بها التوسط
والعمل لما فيه مصلحة المبشرين ) .
فأجيب اللورد إلى اقتراحه وتألفت لجنة مختلطة ولجنة لمواصلة العمل .
***
نتائج مؤتمر أدنبرج
ألفت على إثر انحلال مؤتمر أدنبرج لجنة لمواصلة الأعمال التي بدأ بها ,
وعمل لها فروع كثيرة بعضها للإحصائيات وبعضها للنشر وللمطبوعات وبعضها
للتربية والتعليم وآخر لحسم المشاكل بين المبشرين وواحد لدرس علاقات المبشرين
بالحكومات , وخصص أحد الفروع لدرس العقبات التي تحول دون نشر التبشير
بين المسلمين .
وفي مايو سنة 1911 اجتمعت لجنة أعمال المؤتمر , وبحثت في طرائق
التربية والتعليم التي ينبغي لمبشري المسلمين اتباعها , وقررت أن تنتهز الفرص
وتنتفع بالظروف السانحة , وأن تنشر مجلة مختلطة تصدر سنة 1912 مرة في كل
ثلاثة أشهر .
وتقول مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية : إن أول ما ينفذ من قرارات مؤتمر
أدنبرج إنشاء مدرسة تبشير مشتركة بين كل الفرق البروتستانية , وتكون خاصة
بتعليم مبشري الأقطار الإسلامية , وهذه المدرسة يحتفل بافتتاحها في خريف سنة
1911 , وتقبل النساء والرجال وتعلم فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية وتاريخ
الأوضاع الإسلامية , والأمور الاجتماعية التي اقتبسها المبشرون من بلاد الإسلام ,
وسيكون لهذه المدرسة مكتبة تحتوي أمهات الكتب العربية وغير العربية المتعلقة
بالإسلام .
***
7
المؤتمر الاستعماري
نشرت المجلة السويسرية التي نقلنا عنها المقالة الماضية مقالة ذات شأن عن
موقف إرساليات التبشير في المؤتمر الاستعماري الألماني , ومما يزيد في أهمية
هذه المقالة أنها مكتوبة بقلم ( م ك . أكسنفلد ) صاحب التقرير عن الفرع المختص
بالإسلام في المؤتمر الاستعماري , وهوأيضًا سكرتير جمعية التبشير في برلين .
قال صاحب المقالة : إن المؤتمر الاستعماري امتاز بمزيتين :
الأولى : أن بحث في الشؤون الصناعية والاقتصادية .
والثانية : إجماعه على وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال
الأخلاقية والدينية في سياسة الاستعمار الألماني .
واستشهد بقول ( شنكال ) رئيس غرفة التجارة في ( همبرج ) : إن نمو ثروة
الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات , وأهم وسيلة
للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة ؛ لأن هذا
هوالشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة ، حتى من الوجهة
الاقتصادية .
وحض السامعين على تقدير عمل المبشرين وإحلاله في محله اللائق به ,
وبحث أعضاء المؤتمر الاستعماري في شئون تتعلق بالتبشير , فكفوا المبشرين
مؤنة الكلام عن أعمالهم , ولم يشترك هؤلاء المبشرون في المداولات إلا عندما أخذ
المؤتمر يبحث في أعمال فرعه الرابع الخاص بالمسألة الإسلامية , فأفاض
المبشرون وتوسعوا في القول حتى خيل للجميع أن المؤتمر الاستعماري تحول إلى
مؤتمر تبشير !
ثم حدث اختلاف بين المبشرين وأعضاء المؤتمر في نقطة النظر إلى الإسلام
فقام ( أكسنفلد ) كاتب هذه المقالة في المجلة السويسرية , ولفت الأنظار إلى الخطر
الاستعماري في المستعمرات الألمانية بأفريقية , واقترح على المؤتمر الاهتمام من
كل الأوجه بعاقبة الحالة الحاضرة ، سواء في ذلك الوجهة التبشيرية والوجهة
الفكرية ووجهة السلطة السياسية .
وقام بعدها الأستاذ ( باكر ) العضو في مجلس المستعمرات في همبورج
فتوسع في الكلام على ( الحكومة وإرساليات التبشير وعلاقاتهما بالسياسة الإسلامية )
وأبان عن الفارق الذي يفصل مصالح الاستعمار ومقاصده عن إرساليات التبشير ,
وقال : إن من الخطأ تطبيق الآراء والأقوال المتعلقة بالتبشير على أمور الحكومة .
فرد عليه ( أكسنفلد ) وقال : إن الأستاذ ( باكر ) لم يدرك المقصد الذي أراده
المبشرون ، والخطر الإسلامي صار أمره معروفًا عند الجميع , وعند الأستاذ باكر
أيضًا [4] , ونحن المبشرين لم نقصد أبدًا أن نجعل مصالح الحكومة كمصالح الكنيسة .
ووافق أكسنفلد الأستاذ باكر على نقط متعددة وقال : ( إن الحكومة لا بد لها
من القيام بتربية الوطنيين المسلمين في المدارس ( العلمانية ) ما دام هؤلاء المسلمون
ينفرون من المدارس المسيحية ، ونحن نعترف بهذه الحقيقة بالرغم عن اعتقادنا بأن
المدارس العلمانية تزيد الإسلام نموًّا وارتقاء ! وإذا نحن طالبنا الحكومة بتقدير
مقاصدنا ومصالحنا , فيجب علينا بداهة أن ندرك أهمية هذه المعضلة من حيث
واجبات الحكومة ومصالحها أيضاً .
وأشار ( أكسنفلد ) إلى قرار المؤتمر الاستعماري الذي وافق عليه عقب
خطاب ( الاستصراخ لشن الغارة على الإسلام ) الذي ألقاه أكسنفلد نفسه ، يضم إلى
ذلك الخطاب المعتدل الذي ألقاه الأستاذ باكر وحسبه أكسنفلد مدحًا وثناء على الإسلام .
أما قرار المؤتمر الاستعماري الذي وفق فيه بين خطابي أسكنفلد وباكر فقد
جاء فيه :
( إن ارتقاء الإسلام يتهدد نمو مستعمراتنا بخطر عظيم , ولذلك فإن المؤتمر
الاستعماري ينصح للحكومة بزيادة الإشراف والمراقبة على أدوار هذه الحركة ,
والمؤتمر الاستعماري - مع اعترافه بضرورة المحافظة على خطة الحياد تمامًا في
الشئون الدينية - يشير على الذين أمسكوا زمام المستعمرات أن يقاوموا كل عمل
من شأنه توسيع نطاق الإسلام , وأن لا يضعوا العراقيل في طريق انتشار
النصرانية , وأن ينتفعوا من أعمال إرساليات التبشير التي تبث مبادئ المدنية ،
خصوصًا خدماتهم التهذيبية والطبية , ومن رأي المؤتمر أن الخطر الإسلامي يدعو
إلى ضرورة انتباه المسيحية الألمانية لاتخاذ التدابير - من غير تسويف - في كل
الأرجاء التي لم يصل الإسلام إليها بعد ) اهـ .
هذا ما جاء في مقالة المجلة السويسرية .
ونشرت ( مجلة العالم الإسلامي ) الإنكليزية بعض جمل من خطاب الأستاذ
باكر الذي ألقاه في المؤتمر الاستعماري الألماني , ومن هذه الجمل قوله :
إن السياسة التي ينبغي الجري عليها في معاملة المسلمين , تحتم علينا وضع
خطة جديدة في مجرى سياسة حكومتنا .
والمبشرون هم الذين اختصوا وحدهم بالاهتمام بأمر الإسلام والبحث في
شئونه بكل مستعمراتنا الألمانية إلى هذه الأيام الأخيرة .
وأنا لا أرى أن تظل الحالة على ما هي عليه ، بل رأيي أن تنتقل أزمة
السياسة الإسلامية منذ الآن وبعد الآن إلى يد الحكومة في كل مستعمراتنا .
ويجب على حكومتنا في هذه الخطة الجديدة التي أشير إليها أن تستعين
بالوجهة الوطنية لا بالوجهة الدينية كيما تتوصل إلى مقاصدها , وعندئذ يتسنى لها
أن تعلم حق العلم أن الإسلام وإن يكن عدو النصرانية إلا أنه مستعد للارتقاء والتقدم
في سبيل المدنية الحاضرة .
وقال بعد ذلك :
يجب على إدارة المستعمرات أن تستعين بالإسلام على تربية الوطنيين كما
تفعل فرنسة و إنكلترة وهولندة , وينبغي للحكومة أن تقف على الحياد التام في
المسائل الدينية .
وأنا أقترح على حكومتنا أن تضع خطة موطدة الأركان في الأمور الآتية :
الأول : في الخطة العامة للنظام الإداري والديني .
الثاني : في علاقة الشرع الإسلامي بالقوانين الأوروبية .
الثالث : في نظام التعليم .
ومن الضروري أن تدرس الحكومة الدين الإسلامي , وأن تعني به أشد العناية
بواسطة أشخاص تختصهم بتوفية هذا العمل حقه .
وختم خطابه بقوله :
يجب علينا - بالرغم من العناية برعاية الإسلام - أن نهتم بمقاومة انتشاره
في مستعمراتنا على قدر الإمكان , وليس هنالك غير واسطة واحدة توصلنا إلى هذه
الغاية وهي إنشاء مراكز ثابتة الأركان لدين النصرانية ، كما تفعل إرساليات
التبشير ) .
( يُتلى )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء السادس ص 442 .
(1) المنار : راجع رسالة (المسلمون والقبط) .
(2) المؤيد : راجع خطبة سعادة السيد على يوسف في المؤتمر المصري ؛ لتعرف قيمة هذه الأقوال .
(3) راجع أيضًا رسالة (المسلمون والقبط) .
(4) هذا هو صوت بطرس الراهب وإلا فأين هو الخطر الإسلامي الذي يخاف منه على المسيحية والنصارى ؟ نعم إنه يوجد خطر إسلامي كبير وهو وجود المسلمين أنفسهم قذى في عيون هؤلاء القسس , الذين لا يرضون عن المسلمين إلا أن يتبعوا ملتهم , ولعل يوم جلاء الحقائق يكون قريبًا ! على أنه قريب إن شاء الله تعالى [ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً ] (المعارج : 6-7) صالح مخلص رضا .
(15/511)
 
الكاتب : صالح مخلص رضا

رجب - 1330هـ
يوليو - 1912م

فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

إذا نظر المصري إلى ما بين يديه من علم ومدنية وأدب إلخ ، مما يسمونه
( التمدن الحديث ) فإنما يرى مصدر ذلك كله فرنسة والفرنسيين ، وإذا نظر المسلم
إلى أقدم صديق لدولة الإسلام سواء كان في دولة العباسيين العربية أوالدولة العثمانية
التركية في جميع أوربة , فلا يرى أمامه إلا فرنسة ، بل إن الفضل في انقلاب هيئة
العلم والإدارة في أوربة جمعاء إنما هو لفرنسة ، فإذا ادعت فرنسة بأنها أم المدنية
فإن لديها من البينة في الشرق والغرب ما يؤيد دعواها ، وإذا نظر الشرقي إلى
أقرب الأمم الأوربية له في الأخلاق والعادات فإنه لا يرى أمام عينه غير الفرنسي
( هذه أقوال متداولة بين الناس ) يقولون : إن فرنسة كانت ولا تزال أم العلم والمدنية
في الشرق والغرب وربة المال في جميع أقطار المعمورة - والمال حياة العمران -
فمبدأ نهضة سورية الأخيرة إفرنسي , والتفرنج المصري والرقي العلوي إفرنسيان ,
وقواد محمد علي وأساتيذ مدارسه من الفرنسيين .
فرنسة هي نفسها التي أعلنت بأنها حكومة لا دين لها ومعناه أنها لا تنصر دينًا
على دين فهي أم الحرية أم الإخاء أم المساواة - كما يقولون - وهي التي جعلت
عنايتها موجهة للتعليم ( اللاديني ) في مستعمراتها , وقد قال أحد المبشرين
الألمانيين ( أسكنفلد ) : ( إن المدارس العلمانية تزيد الإسلام نموًّا وارتقاء ) .
كل هذا مما يكاد يكون من القضايا المسلَّمة عند كثير من الكاتبين والمفكرين ,
وكان على مقتضى ذلك أن يكون المسلمون الذين هم تحت حماية فرنسة من أكثر
الناس تمتعًا بحريتهم الدينية والأدبية ؛ ولكن الجوائب التي تأتينا من قِبَل مستعمراتها
الإسلامية على العكس من ذلك , إذ هي تدلنا أن المسلمين الذين تحكمهم فرنسة من
أشقى الناس وأتعسهم .
كتب أحد المخلصين من تونس ( وقد أقام بها أيامًا ) إلى المنار مقالة تحت
عنوان ( حقيقة أخبار عن تونس لشاهد عيان ) بإمضاء ( ابن الحقيقة ) ذكر في
مقالته هذه من معاملة فرنسة الجائرة للمسلمين ما لا يكاد يصدق, وقد نشرت مقالته
هذه في الجزء الخامس من منار هذه السنة , بعد حذف شيء كثير مما كتب , على
ظن أنه من المبالغة ، ثم منذ أيام أمََّ القاهرة ذلك الرحالة المجاهد , وأخبرنا أنه شاهد
جميع ما كتبه عن تونس عيانًا , وفوق ما كتب من المعاملة الجائرة التي تعامل بها
فرنسة التونسيين , وأن إبعاد أولئك الأفاضل لم يكن له من سبب إلا أنهم كانوا
يحامون عن حقوق الضعفاء .
وذكر أن من الشيوخ الرسميين وغير الرسميين من ينفخ في بوق الفتنة ولو
خاف الله لأمكنه أن يساعد وطنه وملته , وأطلعنا على عدد من جريدة الزهرة فيه
أن بعض أعضاء المجلس الشوري قال في خطبة ألقاها بعد تلك الحوادث : ( إن
تونس هي بنت فرنسة المدللة ) إلى آخره , ثم قال : ولو أنصف لوضع للدال نقطة
ولكنه أبى أن ينطق بالحق ( أي لو أنصف لقال المذللة ) .
فسألته عن حالة تونس الأدبية فقال : إن هناك رجالاً قد عرفتهم ما أظن أنه
يوجد في مصر أو الشام أحسن منهم أخلاقًا , وغيرة ملية , ولكن التضييق شديد كما
قلت لكم .
ثم أخبرنا بأن لديه كتابات خصوصية لم يؤذن له بنشرها , وفيها من الغرائب
والعجائب ما يدهش العقل , وذكر أن كل قادم لتونس من هذه البلاد يكون تحت
مراقبة البوليس , وأنه رسم طريقة للمخابرة مع أناس من الأحرار في تونس لا
تصل إليها يد المراقبة , وهو يأمل أن تأتيه أخبار من هناك . قال : وبهذه الواسطة
أخذت هذه الجريدة وما لدي من الكتابات المذكورة .
وودعنا جاعلاً وجهته سورية فالآستانة العليا , ووعد بموافاتنا بما يصل إليه
في أي مكان كان [1] .
لم يكن هذا الكاتب أول مخبر عن تونس فيشك في أخباره , وإذا كان هو
المخبر وحده عن تونس فمن الذي يخبر عن أحوال الجزائر و مراكش ؟
كان على فرنسة وهي معلمة المدنية ! أن تكون أوسع صدرًا مع محكوميها من
إنكلترة ولتذكر ما يقوله ساسة الألمان من اغتنام فرصة الانتفاع بتحول قلوب
المسلمين عن فرنسة .
هذه مصر والسودان يكتب فيهما الإنسان ما يشاء لمن يشاء حتى بعد إحياء
قانون المطبوعات , ولم نسمع بأن عدة جرائد أقفلت في يوم واحد أو أن أناسًا أبعدوا
من أجل حرية أفكارهم , بل إن المحامين دافعوا دفاعًا مرًّا يوم محاكمة قاتل رئيس
النظار السابق والمتهم يقول : أنا قتلته ؛ لأنه كان مضرًّا بوطني فماذا جرى ؟ نفذ
الحكم بالمعترف بالقتل دون أن يلحق غيره من أهل حزبه أو وكلائه
أدنى ضرر .
وجرى بمصر اعتصاب عمال الترام مثل ما جرى بتونس , فلم يكن من
الحكومة إلا إجراء وظيفتها , ولم تخلق مسألة سياسية دولية من جراء ذلك ,
وإعانات الحرب تجمع علنًا , وتنشر في الجرائد بل يأتي إلى مصر من
المستعمرات الإنكليزية إعانات كثيرة للدولة العلية , ولم يكن من الإنكليز أدنى
معارضة .
لهذا نرى المسلمين أميل إلى الإنكليز من جميع الأمم , وأشد نفورًا من فرنسة
ولقد رأيت أحد المراكشيين يومًا يبكي , فقلت : ما يبكيك ؟ قال : مستقبل بلادي
وليتها إذ وقعت تحت حكم أجنبي كانت من حظ الإنكليز , كذلك سمعت غير واحد
من البلاد التي لا يزال لها الاستقلال يقول : إن كان ولا بد من ذهاب استقلالنا
فلنكن للإنكليز ، ولم يا ترى ؟ ؟ لأنه يظن أن فرنسة تطمع باحتلال بلاده .
ألم تكن فرنسة جديرة بأن تميل الشعوب إليها ميلها للإنكليز ؟ بل ألم تتعلم
فرنسة طريقة الإنكليز في الاستعمار ؟ لا أقول هذا مادحًا الإنكليز , ولكنني أحكي ما
أسمعه , وأثبت اختباري , وأسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا باستيقاظ أهلها
وحكومتها من الوقوع في أشراك الاستعمار , وخصوصًا الاستعمار الفرنسي .
... صالح مخلص رضا
__________
(1) كان أثناء وجوده في مصر كتب مقالة لجريدة (الجريدة) التي تصدر في مصر , فأبت أن تنشرها خوفًا من غضب إيطالية أو فرنسة منها , أو مراعاة لحياد (المجموعة) المصرية , نثبتها هنا ؛ ليرى القراء مبلغ حرص الجريدة على مراعاة إحساس إيطالية أو فرنسة وهي : (إلى سيدي مدير الجريدة) .
(كتبت إلى مجلة المنار الزاهر منذ أشهر مقالاً تحت عنوان حقيقة أخبار عن تونس لشاهد عيان أتيت فيه على لباب الحوادث الأخيرة التي شهدتها وسمعتها يوم كنت بتونس , قاصدًا دار الحرب , فقد قدر الله طول الإقامة هنالك (لمصلحة المجاهدين) حتى شهدت تلك الحوادث المتسلسلة .
ولا أدري ماذا كان من بعدي , ولعلي أتصل في الآتي القريب بإفادات مفصلة عن حال أولئك المضطهدين , فقد عرفت من خيار الأحرار هنالك من أرجو منه أن يوافيني بأنباء ما يقع , وقد وصلني من بعض أولئك عدد من جريد الزهرة (منذ يومين) ممدود على بعض فصوله خط بالمداد الأحمر , فعلمت أن ذلك لسر فيه , فكان أول ما قرأته فإذا فيه أن بعض أعضاء المجلس الشوري قال في خطبة ألقاها بعد تلك الحوادث : إن تونس بنت فرنسة المدللة , فعجبت لهذا العضو الجاني على جسمه بما لا يجنيه ألد عدو ألا ليته صمت إذ لم يقل خيرًا , أليس في كلمته هذه ما يأتي على أعمال القائمين بطلب الحق ويذهب بأمل كل ذي أمل ؟ وإني لأرجو منك نشر هذه الكلمات بعد أن عدلت عن تقديمها إلى المنار الأغر لما طال على نشر مقالتي التي قدمتها إليه من الأمد , على أني أتشرف بنقله إياها إذا كان له غرض في ذلك ؛ لأنها كالتتمة لمقالته , وقد أذنت أن تنشر بإمضائي الصريح لأني وقد أصبحت بين أظهركم لا أخشى باغيًا ، ولا أخاف واشيًا ، وسأتشرف بزيارتك ودمتم أفندم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة في 10 تمور سنة 1912
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نجيب الحسيني
(15/525
 
الكاتب : صالح مخلص رضا

رجب - 1330هـ
يوليو - 1912م

أهمية الإسلام

ما زال الأوربيون منذ ولوا وجوههم شطر العالم الإسلامي , واستبدلوا الخطة
السلمية بالخطة العدائية في استعمار البلاد الإسلامية يبحثون وينقبون عن الوسائل
الموصلة إلى مطلوبهم من أقرب الطرق , بحيث يأخذون البلاد بدون حرب على
طريقة الاستعمار أو الحماية ، وأن أكثر دول أوربة رقيًّا أقلها اهتمامًا باسم السلطة
والألقاب الضخمة , فالإنكليز والفرنسيون مثلاً يرضون بأن تكون البلاد التي تكون
تحت سلطتهما استعماريًّا , أن تكون ذات ملك أو باي أو راجا أو سلطان وما أشبه ,
ولكن مثل روسية لا يرضيها إلا إزالة الشكل والصورة ، ثم إن الأمم الحية كل آمال
أفرادها موجهة لمصلحة أممهم .
كل يسير من طريق والغاية الاستئثار بمصالح ومنافع الشرق واستعباد أهله
واستخدامهم ، فخدمة غردون لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق , وخدمة كثير من
ضباط الجيش البريطاني والألماني في الجيش العثماني وغيرها من الخدمات الإدارية
والحربية كلها لمصلحة أولئك الخَدَمة الصادقين أنفسهم ولأممهم ، وكذلك النصائح
الحربية والإدارية التي توجه إلى أمراء الشرق وحكامه وقواده : مثل نصيحة سفير
ألمانية لحقي باشا بنقل الجيش من طرابلس الغرب إلى اليمن ونصيحة قنصل الإنكليز
في البصرة لواليها سليمان نظيف باشا بتأديب الشيخ خزعل صاحب المحمرة ,
وانتهاء ذلك التأديب بإعلان الحماية البريطانية على ذلك الشيخ وبلاده ؛ كل هذا وما
سبقه ولحقه من النصائح الفرنسية التي كانت تلقى لباي تونس , والنصائح التي كان
الأوربيون يرشدون بها العرابيين , وكذلك ما كان يتلقاه مصطفى كامل باشا من
النصائح الأوربية ؛ لتأييد المقاصد الوطنية المقدسة التي هو وأعقابه من أنصارها ؛
كل هذه الإرشادات من آلات الفتح الاستعماري الجديد .
ثم إن العلماء الاجتماعيين لم يفتهم قسطهم من هذه الخدم لأممهم , فكتاب
( الإسلام ) لمسيو هنري دي كاستري و ( مدينة العرب ) لغوستاف لوبون , وما
يكتبه وينشره العلماء الأوربيون في مدح الإسلام وتقريظه , وبيان منزلته وتأثيره
في نفوس المسلمين , والكلام في مسمى الجامعة الإسلامية , وغير ذلك مما يكون
معظمه - إن لم نقل جميعه - معاول لهدم الجامعة الإسلامية , وتنبيه دولهم إلى ما
بقي في الشرق من القوة الأدبية بعد أمنهم جانب حكوماتهم ؛ لضعفها وانقلاب شكلها إلى ما يضعف تماسكها , ويضمن انحطاطها تدريجيًّا بسرعة دخول الأوربيين في جميع شئون الشرق , وانطلاق دعاة النصرانية يجوسون خلال الديار إلخ ، ومن
ذلك ما نشره جوا كيم دي بولف في مجلة ( دي هايف ) الألمانية تحت
عنوان ( أهمية الإسلام ) , ولخصته عنها جريدة المؤيد الصادرة في 3 ربيع
الأول سنة 1330 وهو :
( يتبادر إلى الأذهان من جهات عديدة أنه سيأتي على الإسلام بعد قليل زمان
لا يَحسب فيه أحد للإسلام حسابًا , وأنه جدير بالدول الأوربية أن لا تعيره من الآن
فصاعدًا جانب الاهتمام , إذ لم يبق له فعلاً دولة سياسة دينية في الشرق وعلى وجه
خاص في أفريقية ) .
( وتأييد مثل هذه الأفكار يشف عن تشاؤم وتفاؤل عظيمين يختلفان باختلاف
وجهة النظر , إلا أن هذا لا ينطبق على حقيقة الواقع ؛ لأن المسلمين في العالم أكثر
عددًا من المسيحيين , وحركة التبشير عندهم أيسر من أعمال المبشرين المسيحيين
في البلاد الشرقية ) .
( ولما كانت قواعد وأصول الدين الإسلامي تنطبق على الشكل الذي يبرز
فيه , فمن الممكن في كل وقت أن يتولد من الإسلام عامل سياسي ذو أهمية قصوى
وهذا لا يحتاج إلا إلى وجود رجل يعرف كيف يستميل هذه الجماهير , ويبث فيها
الحمية والحماس ) .
( والموضوع الذي أخوض فيه الآن لا يتناول الإسلام من حيث أهميته
السياسية والدينية بل يقتصر على وجه خاص من هذه الأهمية - وقد ترك في زوايا
النسيان - إلا أن لهذا الوجه شأنًا عظيمًا خصوصًا في أعين أوربة , وهو عامل
جدير بالانتباه وهو يشمل الواجبات الصحية التي فرضها الإسلام , وقد امتاز القرآن
( الشريف ) بالخوض فيها عن سائر الكتب السماوية .
لو تأملنا حكمة الواجبات الصحية في القرآن ( الشريف ) وما لها من
الأهمية الكبرى بجعل الجنة نصيبًا للذي يعمل بها لاتضح لنا أنه لولا الإسلام
لأصبح الشرق الذي هو بؤرة الأوبئة أكثر خطرًا على أوربة بكثير مما هو الآن
( ؟ ! ) وتبين لنا أن مناوأة الإسلام ومناضلته هي بمثابة قطع فرع الشجرة الذي
يتخذه الإنسان متكأ وسندًا .
وأي حكمة أمتن وأظهر من فرض واجبات الوضوء وما يترتب عليها من
غسل الجسم من أعلى إلى أسفل وتنظيف الفم والوجه ؟ والشرط الأكبر للقيام بهذه
الواجبات هو استعمال الماء الجاري
[*] .
ولقد جرى النبي محمد على شاكلة موسى ( عليهما الصلاة والسلام ) فأدرك
خطر مرض ( تريخنين ) في الخنزير ، والحمى التفوئية والهيضة الوبائية في
الحيوات المحارية ( ذوات الأصداف ) ولذلك نرى كيفية ذبح الحيوانات هامةً جدًّا
خصوصًا في الشرق ؛ نظرًا للحرارة التي تفسد الدم , ووجود أمراض فتاكة منشأ
جراثيمها الأمراض الحيوانية .
ثم إن ماهية الحركات والتمرينات الجسمية في الصلوات كماهية التمرينات
الرياضية التي يهتم الناس بها في عصرنا هذا , والسجود ومد الذراعين والأعضاء
سبب من أسباب قلة السمن في الشرق .
وتعدد الزوجات خير واقٍ من قلة النسل ومن الأمراض التناسلية , وعلى
العموم لا يوجد في الشرق بنات مسنات معرضات للتشنج العصبي ( الهستريا ) .
وإن تحريم شرب المسكرات الذي أتبع به المراكشيون شرب الدخان حسنة من
حسنات الإسلام يجدر بنا - نحن الشعوب الأوربية التي تدعي المدنية - أن نحسد
المسلمين عليها .
وإن الازدراء بالحياة المبني على زيادة اليقين بالله والاهتمام بالصحة لا بقصد
المحافظة على الفرد هما الوسيلتان لبقاء مجموع قوى البنية صحيحًا سالمًا .
وإذا كان الشرق بقي متفوقًا في بعض الأمور ومقصرًا عنا في أمور كثيرة
فذلك ناشئ عن أسباب خصوصية أهمها : اختلاط الأجناس التي هي ضعيفة العلاقة
بالإسلام , وتأثير العناصر الأجنبية على الجامعة العربية بطريق التزوج من نساء
الأقطار الأخرى بدون انتخاب ولا تنقيح , إذ قضت سنة الطبيعة التي لا مبدل لها
أن يكون نقاء الجنس شرطًا في كماله .
وعلى كل فلقد ظهر نفع وقدر التعاليم الإسلامية خصوصًا من حيث اختلاط
الأجناس , وبما أنه لا يمكن إبادة شعوب الشرق بدون إبادة غيرهم , فإذا أردنا أن
نتساءل : ما يمكن أن يكون مصير هذه الشعوب من جراء تأثير الإسلام عليها ؟
فأجدر من ذلك أن نتساءل أيضًا ماذا كان مصيرها لولا الإسلام ؟
ولا يقتصر الأمر على هذه الشعوب , بل الأحرى بنا أن نتساءل ونعلم ماذا
كان مصيرنا لولا المدنية الإسلامية ؟ إن واجب الاعتراف بالجميل يحتم علينا أن لا
ننسى كون علومنا ومعارفنا مقتبسة من العلوم والمعارف العربية , وأنه لم يتسنى لنا
معرفة فلسفة أرسطو إلا من النسخ اللاتينية التي ترجمها العرب إلى لغتهم قبل أن
نعثر على الأصل اليوناني بمدة طويلة .
وإذا تبادر إلى ذهن أحدنا في خلال القرون الوسطى ارتشاف لبان العلوم كان
يولِّي وجهه شطر الأندلس , ولا يزال إلى وقتنا الحاضر يمكن اقتباس أمور شتى
من العلوم السياسية الإسلامية , وليس من الضروري مقاومة الذين يحاولون مناوأة
الإسلام ؛ لأنه يتعذر مناضلة الإسلام من حيث هو دين والبرهان على ذلك فشل
المبشرين الذين ارتادوا البلاد الإسلامية , ولم يصلوا إلى نتيجة حسنة , ثم إن هنالك
أسبابًا شديدة تجعل مناضلة الإسلام سيئة العاقبة بغض النظر عن فوائده من الوجهة
الصحية .
ولا يجب علينا ازدراء حركة الجامعة الإٍسلامية والإنكليز والفرنسيون واقفون
على حقيقتها , ويعرفون كيف ينتفعون منها وهاتان الأمتان والإيطاليون معهما قلبوا
للمسلمين ظهر المِجن وظهروا لهم بمظهر عدائي , بينما هؤلاء يعتبرون ألمانية
منفذة لهم ) .
ثم اختتم الكاتب مقالته بإسدائه النصح إلى ألمانية بالمحافظة على هذا النفوذ
ولو لمصلحتها التجارية في الشرق وفي المستعمرات الألمانية الأفريقية التي يسود
فيها العنصر العربي , أهو المقصود من مقالته هذه خدمة الأمة الألمانية وتنبيهها لما
يسمى بالجامعة الإسلامية , فتأخذ قسطها من تراث العليل , وتحتفظ بما لديها من
الغنائم الباردة ( المستعمرات ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا
__________
(*) الأولى أن يقول : ( الطهور ) : وهو الماء المطلق الذي لا خبث فيه ولا نجس ولا شيء يمنع
إطلاق اسم الماء عليه .
(15/538)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
التربية
ووجه الحاجة إليها وتقاسيمها
( والكلام على تربية الأمم والإسلام , والتربية الدينية والإسلام , وتربية الإرادة )
( خطبة ارتجالية ألقيت في مدرسة العلوم الكلية بعليكره )
شعبان - 1330هـ
أغسطس - 1912م​
....أيها الإخوة الكرام :
لا يمكنني في هذا الوقت القصير أن أطيل الشواهد على موافقة أصول الإسلام
وفروعه للعقل والفطرة البشرية ومصالح الناس ومنافعهم , وإنما أقول : إنني مستعد
لإقامة الحجة على كل من يدعي خلاف ذلك فمن عرضت له شبهة فيه فليوردها
عليَّ في حال القرب ، وليكتبها إليَّ في حال البُعد ، وأنا زعيم إن شاء الله بكشفها
وإقناعه فيها , إذا كان طالبًا للحقيقة بالإخلاص , وقد جربت هذا مع كثير من
الشرقيين والغربيين .
كان لي صاحب في مصر من أحرار الإنكليز اسمه متشل أنس كان وكيلاً
لنظارة المالية ، وقد جرى بيننا مذاكرات كثيرة في المسائل الدينية وغيرها , وكان
كثيرًا ما يعترض على بعض المسائل الدينية في الإسلام أو في كل دين , وكنت إذا
بينت له حقيقة الإسلام فيها يتعجب ويقول لي تارةً : ( هذه فلسفة لا دين ) وتارةً :
( هذا رأيك وفلسفتك ما هو الإسلام ) وقال لي مرة : ( إذا كان هذا هو الإسلام فأنا
مسلم ) ومرة أخرى : ( إما أن أكون أنا مسلمًا وإما أن تكون أنت كافرًا ) ومرة ثالثة :
( ما أسمع مثل هذا الكلام المعقول عن الإسلام إلا منك أو من الشيخ محمد عبده
أفلا يوجد مسلمون غيركما ) ومرة رابعة : ( أرأيت إذا سألت عن هذا بعض علماء
الأزهر أيقول هذا الذي قلته ؟ إذا قال هذا علماء الأزهر فأنا أكون مسلمًا ) .
إنني بهذه التجارب وبما أعلم من حقيقة الإسلام وموافقته لفطرة البشر
ومصالحهم ومن حاجهم إلى الدين بمقتضى فطرتهم ، وبما في القرآن من الوعود
الصادقة - بهذا كله أعتقد أن الإسلام سينتشر في جميع الأمم الغربية والشرقية ،
وما حجب أمم الحضارة عن محاسن الإسلام إلا سوء حال المسلمين والجهل بحقيقته
وتنفير دعاة الدين ورجال السياسة عنه وعنه أهله .
إننا نحن المسلمين قد صرنا حجة على ديننا بما فشا فينا من البدع والخرافات
ولو كنا مستمسكين بعروته ، محافظين عل سنته ، لعم الخافقيْن ، فإن انتشاره
السريع في العصر الأول لم يكن إلا بحسن حال أهله وفضائلهم وأعمالهم كما أشرنا
إلى ذلك في الكلام على نشأة الإسلام , وفصلناه بعض التفصيل في خطبتنا الختامية
لاحتفال جمعية ندوة العلماء ، وقد وصلنا إلى دركة من الانحطاط صار فيها
الوثنيون في هذه البلاد أرقى من المسلمين علمًا وعملاً واتحادًا ، هؤلاء الذين لا
يزال الملايين منهم يسيرون في الأسواق والشوارع مكشوفي العورات ، عراة
الأجسام ، حفاة الأقدام ، موسومي الجباه بأصباغ الأصنام ، بل صار هؤلاء الذين
يعبدون الأحجار والأنهار والأشجار والقرود يطمعون في إدخال المسلمين في دينهم ،
وقد صاروا يتصدون إلى دعوتهم ، وقد بلغني هنا أنه دخل في دينهم طائفة ممن
يعدون من المسلمين ، وإن لم يكونوا منهم إلا في الأحكام الرسمية ، والإحصاءات
الجغرافية ، ولا يوجد شعب إسلامي محتاج في حياته السياسية والاجتماعية إلى
الدين كاحتياج مسلمي الهند ، فإنهم إذا أحيوا الإسلام فيما بينهم تعود كثرة الوثنيين
إلى قلة وقلة المسلمين إلى كثرة ( وإنما العزة للكاثر ) كما قال الشاعر العربي .
هذا وإنه لا حياة للإسلام ، إلا بإحياء هداية القرآن ، ولا تحيا هداية القرآن إلا
بإحياء اللغة العربية ، ومن حسن حظكم أن حكومتكم راغبة في إحياء لغة دينكم ،
فإذا قصرتم فيها فلا عذر لكم ، عليكم أن تحيوها في هذه المدرسة التي هي أكبر
المدارس الإسلامية في الهند ، عليكم أن تتعلموها كما تتعلمون اللغة الإنكليزية بالتكلم
والقراءة والكتابة ، إذا كنتم محتاجين إلى اللغة الإنكليزية لأجل دنياكم ، فأنتم
محتاجون إلى اللغة العربية لأجل دينكم ودنياكم ، فالحياة الصورية المادية ، لا تقوم
وتثبت وتنمَّى إلا بالحياة الأدبية المعنوية ، وإلا فإن الوثنيين قد سبقوكم في جميع
العلوم والأعمال الدنيوية ، وهم أكثر منكم عددًا ، وأوفر مددًا ، فلم يبق أمامكم إلا
قوة دينكم ، تبلغون بها ما تريدون في دنياكم وآخرتكم ؛ لأنها قوة الحق والخير وهي
أكبر قوة في الكون .

 
الكاتب : المسيو شاتليه

شعبان - 1330هـ
أغسطس - 1912م

الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي
[*]

( 8 )
مؤتمر لكنهوء سنة 1911
مقدمة المجلة الفرنسوية
عقد مبشرو البلاد الإسلامية من البروتستان المؤتمر الثاني العام بمدينتهم في
( لكنهوء الهند ) يوم 21 يناير سنة 1911 أي بعد خمس سنوات من انعقاد مؤتمر
القاهرة .
ومعلوم أن المبشرين كانوا قد تفاوضوا في ( مؤتمر أدنبرج ) بمسألة مقاومة
الإسلام , ودرسوا وسائل مناضلته من كل الأوجه , ولما عقدوا مؤتمر لكنهوء
ارتاحوا لما رأوا من نجاحهم واشتركوا مع رئيسهم القسيس ( زويمر ) في معرفة
موقف الإسلام وقوته وأسبابها , وأظهروا استعدادًا لتطبيق أعمالهم على الحالة
الحاضرة .
والظاهر من مطبوعات البروتستان ومنشوراتهم أنهم يتذرعون بالتؤدة في بذل
المجهود لمعرفة موقفهم وميدان عملهم ودرس محاسنهما , وهم لا يدعون شيئًا من
هذا القبيل , ومنشأ هذا التضامن في جماعة المبشرين البروتستان هو المواهب
العملية التي امتاز بها الأنجلوسكسوني والمزايا النظامية التي اختص بها الجرماني ,
ثم قالت هذه المجلة : طلبنا من القسيس زويمر أن يوافينا بملخص أعمال المؤتمر
أثناءَ انعقاده , فأجابنا إلى طلبنا وأرسل لنا مجموعة تضمنت أبحاث المبشرين في
ذلك المؤتمر .
***
برنامج المؤتمر وترتيبه
انعقدت جلسات المؤتمر في باحة مدرسة ( إيزابلا ثوربون ) البروتستانية
الخاصة بالبنات , وامتدت إلى يوم 29 يناير سنة 1911 وهو ثاني مؤتمر خاص
بالإسلام , والأول هو مؤتمر مصر الذي عرفه القراء .
والذي يدخل إلى باحة ذلك المؤتمر يرى جدرانه مستورة بالخرائط
والإحصائيات التي يتبين منها مبلغ اتساع نطاق الإسلام وارتقائه وتقدمه في الأيام
الأخيرة , وعلى المنضدة التي أمام الرئيس كرة أرضية مجسمة وعليها هلال
وصليب , أما المقصود من هذا الرمز فظاهر ومفهوم .
وفي جانب الباحة غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع
مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية , والمظنون أن هذا المعرض سيبقى تحت
مراقبة لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر .
واشترك في المؤتمر 168 مندوبًا و113 مدعوًّا عن 54 جمعية تبشيرية ,
ونزل كل هؤلاء ضيوفًا على مبشري لكنهوء .
وبين المشتركين في المؤتمر القسيس زويمر - الذي تقول عنه المجلة
الفرنسوية : إنه الرجل الذي لا يهرم ؛ لأنه درس الإسلام سنين طويلة بعد أن عاش
سنين أطول بين الشعوب الإسلامية التي يحبها حبًّا جمًّا - ولم يكن القسيس زويمر
رئيسًا للمؤتمر فقط , بل كان مديره الروحي أيضًا .
ومن هؤلاء المشتركين الدكتور ( ويتبرخت ) الجرماني الإنكليزي المشهور
والدكتور ( وهري ) صاحب التعليق المعروف على القرآن , ومن المتنصرين الذين
حضروا المؤتمر ( متري أفندي ) الشاب المصري الذي يدير جريدة عربية
والقندلفت ( إحسان الله ) , والمبشر ( أحمد شاه ) الذي يحسن معرفة الإسلام وهو
واضع ( قاموس القرآن ) .
ومُنع الصحافيون الإنكليز والأميركان من حضور جلسات المؤتمر , ولم
ترسل لهم مذكراته إلا بعد أن عنيت لجنة القرارات بتنقيحها .
وكانت مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية - التي يصدرها رئيس هذا المؤتمر -
قالت قبل أن تذكر ما جرى في لكنهوء : ( تمخض الإسلام في السنوات الخمس
التي أعقبت مؤتمر مصر بحوادث خارقة لم يسبق لها نظير , ففيها حدث الانقلاب
الفارسي والانقلاب العثماني وما نتج عنهما , وفيها انتبهت مصر لحركتها الحاضرة,
وعُنِيَ المسلمون بمدّ السكة الحجازية , وتأسست في الهند مجالس إدارية وشورية ،
وكان في قوانين انتخاباتها امتيازات للمسلمين , ودخلت الأمور الإسلامية في قالب
يلائم العصر ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام , والمسلمون يحاولون إحياء دينهم في
الصين , وانتشر الإسلام في إفريقية والهند الغربية والجزائر الجنوبية .
كل هذه الحوادث تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد , وتنظر في أمر
التبشير والمبشرين بكل عناية , وعلى ذلك فسيشمل برنامج مؤتمر لكنهوء الأمور
الآتية :
أولها : درس الحالة الحاضرة
ثانيها : إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي .
ثالثها : إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها .
هذا ما نشرته مجلة الرئيس عن مواد تضمنها برنامج المؤتمر , أما البرنامج
نفسه فقد عرض على المؤتمرين بعد قراءة الخطب الافتتاحية وانتخاب اللجنة
وتلاوة تقارير لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر وهذه موادُّه :
الأولى : النظر في حركة الجامعة الإسلامية ومقاصدها وطرقها والتأليف بينها
وبين مسألة تنصير المسلمين .
الثانية : النظر في الانقلابات السياسية في العالم الإسلامي وعلاقاتها بالإسلام
ومركز المبشرين المسيحيين فيها .
الثالثة : موقف الحكومات إزاء إرساليات تبشير المسلمين .
الرابعة : الإسلام ووسائل منع اتساع نطاقه بين الشعوب الوثنية .
الخامسة : تربية المبشرين على ممارسة تبشير المسلمين والمزايا النفسية
اللازمة لذلك , والبحث في الدروس الإعدادية ودروس التبشير , وتأليف الكتب
للمبشرين وللقراء المسلمين .
السادسة : حركات الإصلاح الديني والاجتماعي .
السابعة : الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات .
الثامنة : الأعمال النسائية .
التاسعة : القرارات العملية وتقارير اللجان المالية للمطبوعات والمنشورات .
***
خطبة الرئيس الافتتاحية
افتتح القسيس زويمر مؤتمر لكنهوء بخطبة أنيقة , تكلم فيها على المسائل
الإسلامية التي سيتناقش فيها الأعضاء , فقسم خطبته إلى أربعة أقسام :
الأول : الإحصاءات الإسلامية .
الثاني : حالة المسلمين السياسية وارتقاؤها .
الثالث : ما طرأ على الإسلام بعد مؤتمر مصر من الانقلابات السياسية
والفكرية .
الرابع : الخطة التي اتبعتها كنائس أوربة و أميركة بعد مؤتمر مصر .
***
الإحصاءات الإسلامية
قال الرئيس زويمر : ليست لفظتا ( العالم الإسلامي شيئًا اخترعه المبشرون
للإشارة إلى معضلة التنصير العام ، بل هي كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي .
ثم أشار إلى مجلة العالم الإسلامي الفرنسية وما نشرته عن الإسلام .
ودخل بعد هذا في موضوعه فقال : إن عدد المسلمين يزيد قليلاً على 200
مليون ، وذلك بحسب متوسط الإحصائيات الكثيرة التي يتراوح تقدير المسلمين فيها
بين 175 مليونًا و229 مليونًا .
فمسلمو روسية و بخارى و خيوه 20 مليونًا ومسلمو الصين بين 5 ملايين
و10 ملايين , ويزيد عدد مسلمي الهند على 62.468.077 ولاحظ أن المسلمين
الذين تحت سلطة إنكلترة أكثر من الذين تحت سلطة أي دولة غيرها في
هذه العصور أو في العصور المتوسطة ، ومسلمو المستعمرات الإنكليزية والهند يبلغ
عددهم 95 مليونًا أي أنهم يزيدون 5 ملايين على النصارى الذين يحكمهم الإنكليز
ومسلمو الهند الإنكليزية آخذون في النمو , وقد جاء في كتاب ( الهند وحياتها
وأفكارها ) الذي ألفه الدكتور ( جونس ) أن عدد المسلمين ازداد في السنوات العشر
الأخيرة 91 في الألف مع أن زيادة عدد السكان بنسبة 19 للألف وفي جاوه
24.270.600 مسلم ، ومسلمو روسية 20 مليونًا , وفي السلطنة العثمانية
14.278.000مسلم , وعدد المسلمين في كل واحد من أقطار مصر وفارس
ومراكش والجزائر وبلاد العرب والأفغان وغيرها يتراوح بين 4 ملايين و9 ملايين
ولا تخلو بلدة في آسيا و إفريقيا من سكان مسلمين ، وقد يكون المسلمون أقل من
غيرهم في بعض هذه البلاد إلا أن هذه الأقلية في نمو مستمر . وفي بلاد التبت
المقفلة أبوابها في وجوه الأجانب 20 ألف مسلم . والإسلام منتشر في الكونغو وبلاد
الكاب . وهو في نماء سريع في بلاد الحبشة . ويدور على الألسنة منذ انعقد مؤتمر
مصر أن كثيرًا من القبائل النصرانية التي في شمال الحبشة دخلت في الإسلام ،
وإن كانت أسماء أفرادها لا تزال كما كانت من قبل .
والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي إفريقيا وبلاد النيجر
والكونغو يرفعون أصواتهم بالشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء .
وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي موانع من مجهودات جمعيات
التبشير الهولدنية والألمانية فهو يتوطد ويثبت هناك ؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون
التقاليد الحشوية والخرافية ويتمسكون بعقائد ثابتة قوية ، ففى ( صومتره ) اكتسح
الإسلام الأرجاء الوثنية وفي جاوه ظهر بمظهر جديد على أثر تأسيس المدرسة
الجامعة الإسلامية ، وكثرة طبع القرآن وازدياد عدد الدعاة والمرشدين المسلمين .
وما زال الوطنيون يدخلون في شبكة الإسلام إلى درجة يتعذر فيها على المبشرين
المسيحيين أن يلقوا لأعمالهم رواجًا .
وفي أميركا عدد كبير من المسلمين لا يُستهان به ؛ لأنه صار 56 ألفًا ، وفي
مستعمرة ( لاغوبان ) الإنكليزية فقط 22 ألفًا منهم وفي أميركا الوسطى 20 ألفًا .
والبلاد الإسلامية التي لم يدخلها المبشرون البروتستانت هي التركستان
الروسية ، وفيها خمسة ملايين من المسلمين وخيوه وفيها 800 ألف وبخارى وفيها
1.25.000 والأفغان وفيها 5 ملايين وبرقة ( بني غازي ) وفيها 100.000
وتونس وفيها مليون ووهران وفيها 1.300.000 وريف مراكش وفيه 2.260.000
وفي وادي مولويه وصحراء مراكش يتنافس الإسلام والنصرانية في الاستيلاء على
الوثنية . ونجد والحجاز وحضرموت لا يوجد فيها مبشر واحد وجزائر مالزية وفيها
أكثر من مليون مسلم خالية من إرساليات التبشير .
***
الانقلابات السياسية والجامعة الإسلامية
انتقل الرئيس زويمر في خطبته الافتتاحية إلى قسمها الثاني الخاص
بالانقلابات السياسية التي حدثت أخيرًا في العالم الإسلامي فشكر الله على حدوث
هذه الانقلابات في غرب آسيا إذ كانت موجبة للإعجاب والاستغراب وبددت معالم
التجسس وأقامت الحرية على أنقاض الاستبداد وصار التجول في البلاد العثمانية
والعربية والفارسية غير ممنوع وأصبح عبد الحميد سجينًا في سلانيك . وارتبطت
المدينة بدمشق بواسطة السكة الحديدية ، وتلألأ نور الكهربائية على الروضة النبوية .
كل هذا يعد عصرًا جديدًا في تاريخ آسيا الغربية وإفريقيا الشمالية .
وصار مسلمو روسيا يحاولون تعزيز حقهم في الدوما ويؤلفون الجمعيات
للتدرج في مراقي المدنية .
إلا أن النزعة الجديدة في مصر إسلامية محضة ، يراد بها جعل مصر
للمصريين باعتبار أن المصريين مسلمون . ونتيجة ذلك اضطهاد المسيحيين في
مصر ! خصوصًا إذا كانت إنكلترا لا تترك خطتها في ترجيح كفة المسلمين .
وأن بوادر الانقلابات قد أخذت تظهر في جزائر مالزية أيضًا فأسس شبان
( جاوه ) جمعية الاتحاد العام ( بوندي أوتومو ) الذي يرمون به إلى إحداث ارتقاء
اجتماعي واتباع مبادئ التربية والاستقلال الإداري . وقد فسروا القرآن بلغتهم .
وتوجد في ( طوكيو - اليابان ) جريدة باللغة الصينية اسمها ( النهضة
الإسلامية ) منتشرة في كل بلاد الصين . وجريدة إنكليزية ينشرها مسلم مصري
وآخر هندي . وفي ذلك دلالة على مبلغ حركة الجامعة الإسلامية .
واحتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة ( واداي ) بإفريقيا في العام الماضي أهم
حادث سياسي في هذا العصر ؛ لأن واداي كانت أهم مركز في إفريقيا للاتجار
بالرقيق وانتشار الإسلام ، وعلى ذلك فإن هذا المركز أصبح تحت سلطة أوربية
تحتفظ به مهما كلفها ذلك . وهذه الحادثة جعلتنا في مأمن من أن تكون واداي بعد
الآن مركزًا للحركات الحربية ضد الحكومات النصرانية ، وهي أيضًا ستقلل نفوذ
مشايخ الزوايا السنوسية بحيث لا يستطيعون الوقوف في طريق التقدم الاستعماري
والتجاري في الإسلام .
ولم يبق الآن غير 800 . 128 . 37 مسلم تحت سلطة حكومات إسلامية
وقد انتقلت السلطة السياسية على أكثرية المسلمين من يد الخلافة الإسلامية إلى يد
إنكلترا وفرنسا وروسيا وهولندا . وعدد المسلمين الذين تحت سلطة كل واحدة من
هذه الدول يفوق عدد المسلمين الموجودين في كل أرجاء السلطنة العثمانية ، وإن
عدد المسلمين الذين تحت سلطة الدول النصرانية سيزداد كثيرًا عقيب انقلابات
قريبة الحصول ، وبذلك تزداد مسئولية الملوك النصارى في مهمة تنصير العالم
الإسلامي !
***
الانقلابات الاجتماعية والفكرية
قال الخطيب : إن الإسلام قد بدأ ينتبه لحقيقة موقفه . ويشعر بحاجته إلى
تلافي الخطر . وهو يتمخض الآن بثلاث نهضات إصلاحية : الأولى : إصلاح
الطرق الصوفية ، الثانية : تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية ، الثالثة : إفراغ
العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول .
ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد ، وهو التغير الذي حدث في
الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية ، ولا يمنع هذا
أن يكون الشعور مؤديًا إلى عاطفة الاحتجاج والحذر أو إلى التوفيق والتحكيم ؛ لأن
كلا العاطفتين تجتمعان عند جعل الإسلام في مستوى الأفكار العصرية .
قال ( إسماعيل بك غصبر نسكي ) في جريدته ( ترجمان ) : إن العالم في
تغير وارتقاء مستمر ، ولكن المسلمين لا يزالون متقهقرين أشواطًا بعيدةً .
وقال ( الشيخ على يوسف منشئ أهم جريدة إسلامية ) في خطاب ألقاه على
جمهور عظيم : إن المسيحيين قد سبقونا في كل شيء . فالمسلمون ليس لديهم
بواخر في البحر ، وهم غير منتبهين لموقفهم ، ومجهوداتهم متشتتة ، وكل ما
يفعلونه أنهم يمشون وراء مرشديهم ، ولكن بغير اهتمام ذاتي لإدراك الأمم التي
سبقتهم . ومثل كلام هذين الرجلين ما سمعناه مرارًا في الهند وغير الهند .
ثم قال القسيس زويمر : وإن نهضة الشعوب الإسلامية وانتباهها لمعرفة
مركزها يدعوانها إلى التساؤل عن طريقة التوفيق بين المبادئ الدستورية والمبادئ
الدينية وتاريخ الدستور الفارسي وحركة الارتجاع في البلاد العثمانية يؤيدان وجود
تباين بين الأفكار الديموقراطية ونصوص القرآن ( !!!) .
ويمكننا أن نرتاب في صحة التصريح الصادر من شيخ الإسلام عن انطباق
تأسيس مجلس المبعوثان العثماني عن النصوص القرآنية ! ومما يؤيد ارتيابنا وقوف
المبعوثين المسلمين المعروفين بالتقى في وجه كل إصلاح يعرض على مجلس
المبعوثان والصحف المصرية تدافع عن الفظائع التي أمر بها سلطان مراكش والبدو
يخربون السكة الحديدية الحجازية بدعوى أن ( العربات ) المخصصة فيها للصلاة
تنافي الشعائر الإسلامية ؟ !
وفي العالم الإسلامي الآن حركتان متناقضتان يحمل لواء الحركة الأولى رجال
الصوفية والمشايخ في اليمن و الصومال والبوادي وشعارهم الرجوع إلى التعاليم
المحمدية ، والحركة الثانية يتولى زعامتها أنصار الإصلاح ومبشرو الإسلام الجديد
في مصر والهند وجاوه وفارس ، وهؤلاء يبنون أساسهم على وضع الطرق المعقولة .
والصحف الإسلامية في ( باكو ) تتبع رجال الحزب الثاني الذي يقول : إن
الجمود والخرافات مما طرأ على الإسلام وهوغريب عنها كما أن فظائع دواوين
التفتيش في القرون الوسطى ليست مما يأمر به المذهب الكاثوليكي .
ثم أشار إلى كتاب ( حقيقة الإسلام ) الذي ألفه محمد بك بدر المتخرج في
جامعة أدنبرج فقال : إن هذا الكتاب يدل على أن أشياع الإسلام الجديد ! يريدون أن
يرموا من السفينة مشحونها لينقذوها من الغرق .
وقال القسيس زويمر بعد ذلك : إن تأويل سورة الكهف وسورة النساء
وتطبيقهما على مقتضى العقل أمر مستحيل ! ولو اقتصرنا على مطالعة ما كتب عن
الحجاب وتعدد الزوجات في الصحف الإسلامية يتضح لنا أن ما يظهر لنا من وحدة
الأفكار في الإسلام غير صحيح وهذه الوحدة مهددة بالنزاع والتناقض .
ولا ريب أن في فارس والسلطنة العثمانية بل والبلاد العربية ألوفًا من
المسلمين مقتنعون بصحة النصرانية [1] ومخالفتها للإسلام ؟ !
وأشار إلى قول الدكتور ( و . شيد ) من أن الإسلام يتحكك في كل قطر
بالمدنية العصرية ومبادئها وملاحظته لهذه الانقلابات يتوقف عليها بقاؤه ، فتساءل
عن نتيجة ذلك وعما إذا كان في الإمكان مجاراة تيار الحضارة مع الاحتفاظ بمبادئ
القرآن وتعاليمه ، وعما إذا كان التقدم الاجتماعي والعقلي المجرد من كل صبغة دينية
كافيًا لسد الحاجة الروحية في الملايين من المسلمين . أو أن العالم الإسلامي -
رجاله ونساءه - ينهض من كبْوته ليتسلق معالم المجد الذي أبقاه على الأرض يسوع
المسيح ابن الله ! ! [2]
***
خطة الكنائس بعد مؤتمر مصر
وانتقل زويمر بعد هذا إلى القسم الرابع من خطابه وهو الكلام على الخطة
التي اتبعتها كنائس أوربا وأمريكا بعد مؤتمر مصر . فذكر أن مؤتمر مصر كان
فاتحة عصر جديد لتنصير المسلمين ؛ لأنه كشف الحجاب عن أمور كثيرة كانت
مهملةً ومنسيةً ، وحثّ الكتاب على وصف أعمال المبشرين في بلاد الإسلام ،
واستنجد بالكنائس واستصرخها . فخاضت الجرائد والمجلات في مسألة الانقلاب
العثماني والانقلاب الفارسي والنهضة المصرية وحركة الجامعة الإسلامية ، ومكانها
من الحالة السياسية الحاضرة . وكل هذه الكتابات التي نشرتها الجرائد أبانت عما
يجب أن نعمله في العالم الإسلامي ، وصنفت الكتب الكثيرة التي يراد بها تعريفنا
ببلاد الإسلام وحالات المسلمين مثل كتاب ( المشرق الأدنى والمشرق الأقصى )
الذي طبع منه000 ' 45 نسخه ، ومثل كتاب ( أخواتنا المسلمات ) ، وكتاب
( العالم الإسلامي ) الذي طبع منه 000' 50 نسخة ، وأكثر هذه الكتب نشر بلغات
متعددة . وكتب المبشرون في هذه المدة مقدار عشرين كتابًا بحثوا بها في المعضلة
الإسلامية من كل أوجهها وكلها مبنية على بحث واستقصاء . ومن هذه الكتب كتاب
( دين الإسلام ) و ( الشعائر الدينية الإسلامية ) و ( الإسلام والنصرانية في الهند
والشرق الأقصى ) و ( صليبيو القرن العشرين ) و ( مصر والحرب الصليبية )
و ( الإسلام في الصين ) .
وختم القسيس زويمر خطابه الافتتاحي بقوله : إذا نظرنا إلى البلاد التي
يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا ، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه إياها يظهر
لنا أن كل واحدة من هذه البلاد هي رمز لعنصر من المعضلة الكبرى . فمراكش في
الإسلام مثال للانحطاط . وفارس مثال للانحلال . وجزيرة العرب مثال للرقود .
ومصر مثال لمجهودات الإصلاح . والصين مثال للإهمال . وجاوه مثال للتغير
والانقلاب . والهند مركز التحكك بالإسلام . وإفريقيا الوسطى مكان للخطر
الإسلامي .
والإسلام يحتاج قبل كل شيء إلى المسيح !! فهو الذي يرسل أشعة النور إلى
مراكش ويعيد الوحدة لفارس والحياة لجزيرة العرب والنهضة لمصر ويرد إلى
الصين ما أهمله الإسلام فيها . وهوالذي يبقي لأهالي مالزية بلادهم ، ويزيل الخطر
العظيم من إفريقيا !
***
بعد مؤتمر مصر
رأى القائمون بمؤتمر لكنهوء أن تقرأ قبل الخوض في موضوعات هذا
المؤتمر تقارير اللجان التي تألفت بعد مؤتمر مصر . فقرأ الدكتور ( ويتبرخت )
الألماني تقريرًا عن حالة المؤلفات التي صنفت لتبشير المسلمين . وَأَبَانَ أن دائرة
انتشار هذه المؤلفات قد اتسعت جدًّا باللغات الثلاث التي هي أهم اللغات الإسلامية
ويعني بها العربية والفارسية والأُرْدِيَّة . وأن قسمًا كبيرًا من هذه المطبوعات خاصّ
بالبلاد العثمانية ، ومنها ما تكرر طبعه مثل مؤلفات القسيس ( بفندر ) ومنها ما
هو مكتوب بأسلوب عصري صار يفيد التبشير منذ أخذ العالم الإسلامي يتحكك
بالعلوم العصرية . وأهمية هذه المؤلفات كبيرة في الهند ؛ لأن الذين يكتبونها هم
مسلمو الهند المتنصرون مثل ( عماد الدين ) الذي حصل من مدارس إنكلترا على
لقب ( دكتور ) في اللاهوت .
وبهذه اللغات الثلاث صار يمكن للمبشرين أن يتحككوا بثلثي المسلمين في
العالم . أما الثلث الثالث ، فمؤلف من 10 ملايين صيني ، و20 مليونًا من
السلافيين ، و25 مليونًا من السود . وهؤلاء لا توجد في لغاتهم كتب تبشير .
ثم تليت تقارير أخرى في بيان ضرورة نشر مؤلفات في المناظرات الدينية
التاريخية التي تكون مكتوبة بأسلوب عصري على ما تقتضيه حالة المسلمين في
مصر والهند وسائر أقطار الشرق . ثم أشاروا إلى مساعدة صحف أوروبة الكبرى
للمبشرين لاهتمامها بالأمور الإسلامية . ومن أدلة هذا الاهتمام إنشاء مجلة العالم
الإسلامي الفرنسية [3] ، ومجلة الإسلام الألمانية ودائرة المعارف الإسلامية التي
نشرت بثلاث لغات .
***
الجامعة الإسلامية
وبعد أن تليت التقارير الكثيرة في موضوعات مختلفة بدأ المؤتمرون بالمسائل
التي عقدوا مؤتمرهم لأجلها . وافتتحوا ذلك بمسألة الجامعة الإسلامية ، فقدمت عنها
ثلاثة تقارير : الأول من القسيس ( نلسن ) عن ( حركة الجامعة الإسلامية في
السلطنة العثمانية ) . والثاني من القسيس ( ورنر ) السويسري عن ( الجامعة
الإسلامية في إفريقيا ) والثالث من القسيس ( سيمون ) عن ( حركة الجامعة
الإسلامية في مالزية ) .
قال القسيس نلسن عن الجامعة الإسلامية في السلطنة العثمانية : إن حركة هذه
الجامعة قد ضعفت جدًّا بعد خلع السلطان عبد الحميد ، ولكن لا تزال في الأهالي
روح تضامن ملازمة للإسلام وهي سائدة بين مسلمي سورية إلى درجة تدعو
للتبصر في علاقتها بزعماء الفكرة الإسلامية .
ثم قال : إن الألوف من مسلمي الأرض يتجهون في كل سنة إلى ( مكة )
ويشربون ماء ( زمزم ) إلا أنه بالرغم من وجود كل أسباب الارتباط الخارجي
وبالرغم من وجود الاتحاد الذي يجعل لفكرة الجامعة الإسلامية قوة حقيقية إلى حدّ
يستدعي اهتمام المبشرين النصارى والحكومات النصرانية - بالرغم من ذاك وهذا
فإنه يستحيل أن يكون من المسلمين عنصر حي حقيقي في استطاعته أن يجمع شمل
السنيين والشيعة معًا ويضم الأتراك والفرس والهنود إلى العرب ، ليكافحوا ويدافعوا
يدًا واحدةً على اتفاق وثقة متبادلة[4] .
وختم القسيس نلسن تقريره بقوله : ( اسمحوا لي أن أقول لكم أنه يظهر لي أن
اجتماع المسلمين بجامعة إسلامية بكل المعني الذي يدل عليه هذا اللفظ هو أمر
وهمي لا ثمرةَ له غير توليد أحلام تقلق رجال السياسة الذين يغلب عليهم الخوف
ويعتريهم المزاج العصبي ) .
وقال القسيس ( ورنر ) عن الجامعة الإسلامية في إفريقيا : إن مدينة مكة
والطرق الصوفية هما من أكبر العوامل على بث شعور الوحدة بين المسلمين والنفرة
من كل شيء غير إسلامي ، وهذا ما يسمونه بالجامعة الإسلامية .
وإذا كان في إفريقيا عوامل أخرى توجب تقدم الإسلام فيها فهي الأحوال
المساعدة التي يتصف بها الإسلام ومركز بلاده الجغرافي وارتقاء الشعوب الإسلامية
في السودان عن الشعوب الزنجية ، ثم إن للحالة الاقتصادية والتجارة الداخلية تأثيرًا
كبيرًا على النيجر و بانوية ومقاطعة بحيرة تشاد ؛ لأن التجارة في هذه الأصقاع كلها
بيد القبائل الإسلامية . وأما التجار الأوروبيون فيهتمون ببلاد السواحل على الأكثر
مع أن تجارة الذهب والملح والحديد والجلود والنارجيل ( جوز الهند ) ، ونقل هذه
المحصولات يستخدم فيه ألوف من الوطنيين الذين يحتك بهم التجار ، ومن المحقق
أن التاجر المسلم يبث في هؤلاء الوطنيين مع بضاعته التجارية دينه الإسلامي
وحضارته الراقية . والحالة في السودان الغربي مثلها في السودان الشرقي .
وللإسلام في إفريقيا صديق آخر يساعده على انتشاره ، ولعلكم تستغربون إذا
قلت لكم : إن هذا الصديق هو الاستعمار الأوربي ، فإن الذي يفعله الاستعمار بعد
أن يسلب من الأمراء المسلمين سلطتهم السياسية هو أنه يقرر الأمن ويمهد السبيل
للمسلمين[5] ، فبعد أن يكونوا منفورين من الوطنيين الوثنيين قبل الاستعمار
الأوربي بسبب الاتجار بالرقيق يصبحون بعد منعه أصدقاء لهم ، فيتعامل
الفريقان ويتفاهمان بكل حرية ومحبة .
ومن هذا يتبين أن الاستعمار يسلب من المستعمرات السلطة الإسلامية
السياسية ، ولكنه يزيد الإسلام نفوذًا فيها .
ثم أسف صاحب التقرير أن المنافع الإسلامية تتم بإرادة المستعمرين ؛ لأنهم
يفضلون استخدام المسلمين وتوظيفهم واستشهد على هذا بقول ( أسكنفلد ) مفتش
إرساليات التبشير إذ صرح في المؤتمر الاستعماري الألماني بأن الإسلام يتبع
خطوات الأوربيين حيثما ذهبوا ، فلا توجد نقطة عسكرية أوربية بدون جنود
مسلمين ولا توجد مصلحة استعمارية أوروبية بدون مستخدمين مسلمين . ولا تكاد
توجد مزرعة خالية من حانوت لمسلم يبيع فيه ويشتري .
وتكلم ( ورتر ) عن المدرسة التي أسستها إنكلترة في ( سيره ليونه ) بغرب
إفريقيا لتعليم أطفال القبائل الإسلامية والوثنية باللغة العربية ، وعدم تعليمهم الديانة
النصرانية احتفاظًا بمبدإها في الحياد الديني .
ثم قال : ولو اتفق أن المسلمين غضبوا للصور الموجودة في كتب دروس
الأشياء فلا تتأخر إدارة المستعمرات الإنكليزية عن استفتاء علماء الإسلام في
الآستانة ومصر والهند استرضاءً لآباء التلاميذ وأقاربهم .
ثم أشار إلى تقدم الإسلام في إفريقيا ، فتساءل عما إذا كان هنالك عمل مرتب
ويد عاملة على نشره أم أنه ينتشر بطبعه ؟ وأجاب بأن من الصعب حل هذه المسألة ؛
لأن القوات الفعلية التي ينتشر بها الإسلام تختلف عن قوات المبشرين بالنصرانية .
ولكن يظهر أن النظام في نشر دين الإسلام أقل مما نتصوره ؛ لأن المسلمين
يجهل بعضهم أخبار البعض الآخر وأحواله ، وإذا اتفق أنهم اشتركوا في أمر ما
فإنما يكون ذلك بدون قصد . ومن الخطأ أن يقال إن الجامع الأزهر يرسل ألوف
المبشرين إلى إفريقيا الوثنية للدعوة إلى الإسلام ؛ لأن الأزهر ليس معهد تبشير كما
هي مدارس اللاهوت في أوربة ، ويقال مثل ذلك عن كل المدارس الإسلامية في
شمال إفريقية . ويستثنى من ذلك المدارس التي يديرها مشايخ الطرق في الصحارى
وفي السودان .
وعاد قبل أن يختم تقريره فقال : إلا أن هنالك قرائنَ كثيرةً تدل على وجود يد
تعمل بقصد لنشر الإسلام . فإنه يظهر في ربوع إفريقية من وقت إلى آخر مبشرون
متنقلون يدعون المهدوية ويثيرون الفتن الشديدة ؟ ومن الذي يمكنه أن يبين لنا
علاقة أصول الدين بهؤلاء المبشرين المتنقلين ! ولا ريبَ أن بين ناشري القرآن
الكثيرين في إفريقية أناسًا هم أعضاء سِرِّيُّونَ ينتسبون إلى طرق دينية .
وتكلم بعده القسيس سيمون عن حركة الجامعة الإسلامية في مالزية ، فقال :
يزعم بعضهم أن الإسلام في الهند تنقصه الحياة ، وأنه غير مرتب وأنه صبياني .
ولكن يجب علينا أن لا ننسى ارتباطَ الإسلام في الهند بمكة . وهذا الارتباط يدعو
سكان جزائر مالزية على الاعتقاد بأنهم جزء من مجموع كبير . وأن سلطة
النصارى عليهم شيء مؤقت . وسيأتي يوم يجيئهم فيه السلطان العثماني الذي هو
أكبر أمير في أوربة ومرتبط بأواصر المودة مع إمبراطور ألمانية فينقذهم من يد
النصارى عقب حرب دينية . ونحن نرى البوجيين يبيعون الآن كرات سحرية
لتستعمل في محاربة هولندة يوم تنشب المعركة المنتظرة .
ولكن عبثًا يبني هؤلاء آمالهم على الجامعة الإسلامية ؛ لأن التربية النصرانية
قد انبثت في دمائهم بفضل مدارس التبشير وباحتياطات استمدتها حكومة هولندة من
أصول الدين النصراني ، ومن شأنها أن تزعزع آمال المسلمين الباطلة !
وقال بعد هذا في ختام تقاريره : إن العامل الذي جمع هذه الشعوب وربطها
برابطة الجامعة الإسلامية هو الحقد الذي يضمره سكان البلاد للفاتحين الأوربيين
ولكن ( المحبة ) التي تبثها إرساليات التبشير النصرانية ستضعف هذه الرابطة
وتوجِد روابط جديدة تحت ظل الفتح الأجنبي !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابع ص 511 .
(1) ما أجرأه على الكذب الصراح ؟ .
(2) لم يكن للمسيح مجد أرضي ولم يترك على الأرض إلا التعاسة التي كان يقاسي بلاياها وويلاتها إلى أن قبض ورفعه الله إليه ... ... ... ... ... ... صالح.
(3) نقلت مجلة العالم الإسلامي مقدمة المنار لهذه المقالات (الغارة على العالم الإسلامي) وعقبتها بمقال تتنصل فيه من الصيغة الدينية وأرسل إلينا أحد أصدقائنا في باريس تلك القطعة وربما عرَّبناها ونشرناها في المنار بعد تذييلها بما يقتضي .
(4) ليعتبر المفرقون الذين يدَّعون الاتحاد ماذا يقوله المفكرون في شئونهم بعد أن كان لهم اليد الطولي في إيجاد أسباب هذه التفرقة وليعتبر المخربون ممن يسمون أنفسهم بالوطنيين وليعلموا أنهم بهذه التفرقة التي يدْعون إليها إنما يخدمون أوربة السياسية وأوربة الدينية في آن واحد وغاية ما ترمي إليه أوربة هوأن يوجد في الأمة أحزاب مثل الحزب الوطني المصري وجرائد مخربة مثل جرائده وجريدة (الجريدة) إذ أنها من أهم معاول الهدم وعوامل التفرقة وماذا تقول (المجموعة المصرية) والحزب الوطني المصري الآن وقد صرح الإنكليز بعزمهم على جعل الإسكندرية موقعًا دفاعيًا بحريًا ؟ أيمنعونها ذلك بقوة (المجموعة المصرية) وحيادها أم بشعور الشيخ عبد العزيز جاويش وأضرابه الذين حالوا بين كثير من فضلاء شبان الحزب الوطني الإسلامي وبين الانتفاع بمواهبهم واستعدادهم وفرقوا شمل الأمة بالغش والخداع والتغرير ؟
... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا .
(5) كأن الخطيب يود أن لا يكون للإسلام غير الأعداء مثله ويضره أن يكون للمسلمين حرية دينية .
(15/605
 
الكاتب : المسيو شاتليه

رمضان - 1330هـ
سبتمبر - 1912م

الغارة على العالم الإسلامي
أو فتح العالم الإسلامي
[*]

( 9 )
مؤتمر لكنهوء سنة 1911
وقام بعد ذلك القسيس ( ك . س ) المبشر في ( مِدراس ) ، فتلا تقريرًا عن
مشايخ الطرق والدراويش في إفريقية ، وقدم له مقدمة تاريخية اقتبسها من المؤلفات
الفرنسية . والمعلومات التي تضمنها هذا التقرير هي ملخص كتاب ألفه هذا القسيس
اسمه ( الطرق الصوفية في الإسلام ) .
ثم قال : إن الإسلام أخذ ينتشر في الحبشة ، وسيصبح شمال الحبشة عما
قريب بلدًا إسلاميًّا . أما ( منبسة ) وشرقي إفريقية البريطانية ، فلا أثر فيهما
للدراويش المبشرين ، وليس هناك نجاح للإسلام في شمال نيجيرية حتى الأيام
الأخيرة ، وذلك لما كان يلقاه هذا الدين من مقاومة القبائل الوثنية له . إلا أن
الاستعمار الإنكليزي قد وطد الأمن العام ومهد السبيل لسياحة المسلمين . وانتشار
الإسلام على يد التجار الهوسيين . وفي نيجرية مسلمون تربوا تربيةً إسلاميةً ، وهم
على مذهب مالك بن أنس وقد درسوا تفسير البيضاوي وصحيح البخاري وكتب
الغزالي .
والإسلام في جنوب هذه البلاد قد انتشر انتشارًا سريعًا بفضل الهوسيين أيضًا ،
وقسم من هؤلاء ينتمي إلى الطريقة التيجانية منذ 80 سنةً . وهذه الطريقة قد
اتسع نطاقها حتى جهة ( ألبيدة ) ومشايخها هم الذين شدوا أزر أمير سكوتو أثناء
اقتتاله مع الإنكليز . وعلى كل فالظواهر تدل على تقدم الإسلام بانتظام في مقاطعة
( سيراليونة ) وهو ينتشر أيضًا في ( نياسالند ) منذ 12 سنةً بفضل عرب زنجبار
والبلاد الممتدة من ( بحيرة نياسة ) حتى الشاطئ الإفريقي الشرقي لا تكاد تخلو بقعة
فيها من مسجد أو رجل يدعو إلى الإسلام ، وبالعكس من ذلك مقاطعة ( رودزية )
فإن الإسلام لا يكاد يكون له فيها أثر .
وقام بعده الأستاذ ( مينهف ) ، فذكر بعض دواعي انتشار الإسلام مثل انقطاع
تجارة الرقيق ، وانتشار الأمن ونفوذ المسلمين من الوجهة الاقتصادية والتجارية ،
ومما قاله : ( إن بين الأوروبي والإفريقي هوَّة تفرق بينهما . والمسلمون قد تمكنوا من
إزالة الهاوية التي كانت بينهم وبين الزنوج بأن جعلوا لهم إلى هؤلاء سلمًا . فأهالي
الساحل الشرقي في إفريقية والهوسيون في السودان الغربي هم الآلة العاملة لانتشار
مدنية الإسلام في إفريقية بلغة البلاد التي هي مزيج من العربية والبربرية
والإفرنجية ( لانغوافرانكا ) وهذه اللغة هي واسطة التعارف في الأقاليم الكبرى .
وشدد النكير على القائلين : إن الإسلام أكثر موافقة للشعوب الإفريقية ، وقال :
إن من شأن هذه الفكرة أن تحبب المسلم إلى الأوروبيين وتحملهم على مجاملته مع
أن أساس هذه الفكرة واهٍ إلا إذا كان معناه أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات المنتشر
في أفريقية . وقد أظهرت التجارب الكثيرة في الاستعمار الأوروبي أن الأوربيين لا
يختلفون في شيء عن الإفريقيين من الوجهة العملية .
أما إن الإسلام في مستوى أرقى من مستوى الشعوب الإفريقية ، فذلك لأن
هؤلاء يعيشون على طريقة القرون القديمة ومدنية الإسلام هي بدرجة مدنية القرون
المتوسطة ، ولذلك يسهل على الإفريقيين اقتباسها , وأما مدنية أوربة فهي أرقى
المدينتين الإفريقية والإسلامية ، ولذلك يصعب على الإفريقي الوصول إليها
والاحتكاك بها .
والأوروبيون لم يثبتوا في نشر مدنيتهم في الإفريقيين إلا في الجنوب ولذالك
أصبح القيام بهذا الأمر واجبًا على المبشرين كَيْلاَ يعلو الإسلام على النصرانية .
وصار من الواجب على إرساليات التبشير أن تتحكك بالمسلمين ، وتتسلح بالمعدات
الكافية لقتالهم ، وأن لا تخشى ذلك كما كانت تفعل حتى الآن . وينبغي لهم أن لا
تكون أعمالهم لاهوتية محضة ، بل يجب أن يطرقوا أبواب الطب
والصناعة ، وكل الأعمال التي يتفوق فيها الأوربي على الشرقي .
***
الانقلابات السياسية
ومن المسائل التي عقد مؤتمر لكهنوء للبحث فيها الانقلابات السياسية في
ممالك الإسلام فابتدأوا بالبلاد العثمانية ، وتقدمت ثلاثة تقارير عن الحالة السياسية
في البلاد العثمانية الأول من الأستاذ ( استوورد كروفارد ) عن ( الانقلابات
العثمانية ) والثاني من القسيس ( ينغ ) عن ( الانقلابات السياسية في جزيرة العرب )
والثالث من القسيس ( تروبريدج ) عن النظام الجديد والنظام القديم في السلطنة
العثمانية ) مع ملاحظة موقف إرساليات التبشير في كل ذلك .
تساءل استوورد كروفارد في أول تقريره عن الموقف الذي يجب أن تكون فيه
إرساليات التبشير المسيحية تجاهَ قوات الإسلام الجديدة بعد الانقلابات العثمانية ثم
قال : إن الأمة العثمانية بحصولها على بعض الحقوق الوطنية العصرية قد أخذت
تتدرج في مدارج نهضة عظيمة ، وتظهر إحساسًا وطنيًّا جديدًا أمام المسئولية
الديموقراطية . وهذا الأمر لا يقتصر على الرعايا المسلمين بل يشترك معهم فيه
العثمانيون من غير المسلمين ، وهؤلاء قد بدأوا يتحولون عن فكرة الاستعانة بالدول
الأجنبية ، وحدث بين المسلمين والنصارى تقرب محسوس بالرغم من حدوث بعض
حوادث مزعجة .
إلا أن الإسلام قد ظهر في قالب جديد ؛ وذلك لأن الانقلاب الذي أحدثته الأمة
العثمانية إنما كان إسلاميًّا محضًا ، بل إن فكرة الدفاع عن الإسلام هي التي أعانت
على حدوث الانقلاب .
وعلى هذا فواجب المبشرين مزدوج أمام هذا المزيج الغريب المتكون من
الرغبة في الارتقاء والتمسك بالتقهقر ! وبهذا الواجب المزدوج يمكن لهم أن يعينوا
مركزهم إزاءَ المسلمين العثمانيين , أما الواجب الأول فهو إظهار المجاملة للقوة
الجديدة التي انتبهت في العثمانيين بعد سباتها بالرغم من أن الشعور الإسلامي
الحقيقي يعرقل سيرها !
وبهذه المجاملة يمكن تنشيط المسلمين لاقتباس الأوضاع الجديدة وترقيتها على
وجه يشبه الأوضاع التي تباهي النصرانية بها . ولم يسبق لنا أننا رأينا الإسلام لينًا
وملائمًا إلى حدّ تقدير المبادئ النصرانية قدرها . وهذه فرصة ثمينة ينبغي لنا
انتهازها للتحكك بالعالم الإسلامي وهدايته إلى الإنجيل الذي هو أرقى وحي أهداه
الشرق للغرب ؟ ! وما علينا إلا أن نستصرخ المسلمين ليستردوا إليهم بضاعتهم
الطبيعية ، فيطبقوا مبادئها على أعمالهم الضرورية من اجتماعية وقومية ويفسروها
بأنفسهم على ما يوافق هواهم . ووقتنا أضيق من أن يتسع للطعن في عقائدهم . وإذا
ثبتنا على تلك الطريقة الفاسدة في إظهار المسيحية بمظهرها أيام الحروب الصليبية
فإنما نكون قد خنا المسيح الفاتح !
وأما الواجب الثاني فهو الصبر الذي يعرفه من عرف حكمة الإنجيل في النمو
التدريجي وهي تبتدئ بالعشب ، ثم بالسنبلة ، ثم يتبعها انتظار طويل ريثما ينضج
الحَب . إلا أن النمو الأخلاقي بطيء خصوصًا إذا كان متعلقًا بأمّة من الأمم .
ثم قال : إن المسلمين يقتبسون مِنْ حَيْثُ لا يشعرون شطرًا من المدنية
النصرانية ، ويدخلونه في ارتقائهم الاجتماعي ، وما دامت الشعوب الإسلامية تتدرج
إلى غايات ونزعات ذات علاقة بالإنجيل ، فإن الاستعداد لاقتباس النصرانية يتولد
فيها على غير قصد منها ؟ !
وقد علقت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية على هذا القول بأنها تكتفي في بيان
أهمية ما يقوله استورد كروفارد بتذكير القراء بالجملة التي اتخذتها جمعية الطلاب
المتطوعين للتبشير شعارًا لها منذ سنة 1905 وهي ( تنصير العالم قاطبةً في هذا
العصر ) فإن في هذا الشعار ما يدل على أن أقوال المبشرين تندرج نحو
الحقيقة ! ).
أما تقرير القسيس ( ينغ ) عن الانقلابات السياسية في جزيرة العرب فلم تذكر
منه مجلة العالم الإسلامي الفرنسية إلا ما يتعلق بحالة المبشرين ، ومما قاله صاحب
التقرير : إن اليمن وسائر بلاد العرب يوجد فيها دائمًا متعصبون يرون أن في
المساواة بين المسلمين والنصارى ضررًا وقضاءً على الإسلام ، ولكن علماء الإسلام
المتنورين يقولون : إن الشريعة الإسلامية تأمر بالمساواة ، ثم هم من الوجهة
الشخصية لا تمكنهم الموافقة على أن المسيحي يساوي نصف المسلم وإنْ كان
المسيحيون مساوين للمسلمين في الحقوق السياسية والشرعية .
وهو يرجو أن يكون إنشاء الطرق والسكك الحديدية وتشييد المدارس أبوابًا
ومنافذ بين المسلمين والنصرانية .
وختم تقريره بقوله : ( إنه قد أزف الوقت لارتقاء العالم ، وسيدخل الإسلام في
شكل جديد من الحياة والعقيدة ، ولكن هذا الإسلام الجديد سينزوي في النهاية
ويتلاشى بالنصرانية ) [1] .
وبعد أن فرغ الخطيبان السابقان من تلاوة تقريريهما قام بعدهما القسيسين
( ترويربدج ) فألقى على مسامع زملائه تقريره عن النظامين الجديد والقديم في
السلطنة العثمانية . فقال : المبشرون كانوا منذ ابتداء أعمالهم التبشيرية قبل 80
سنة مظهرًا لتسامح الحكومة العثمانية كما هو شأنها مع الرعايا الأجانب الذين تحميهم
الامتيازات الأجنبية ، أما المتنصرون الوطنيون فهم على نقيض ذلك ؛ لأنهم كانوا
دائمًا عرضة للسجن والطرد ، كما أن المبشرين من وجه آخر كانوا يلاقون الصعاب
والعقاب في سبيل تشييد المدارس والكنائس ونشر المطبوعات .
ثم أشار بعد ذلك إلى ملخص البند العاشر من القانون الأساسي الذي يحظر
خرق حرية الأفراد أو إلقاء القبض على أي شخص ومعاقبته بلا مسوغ منصوص
عليه في الأحكام الشرعية الإسلامية والنظاميات القانونية . ثم قال : ومع ذلك يتعذر
الوقوف على حقيقة خطة الحكومة بالاستناد على أقوال الكثيرين التي تلقى على
عواهنها ، بل إن ذلك يتطلب التنقيب والاختبار الشخصي ، ولذلك قسم الخطيب
الكلام في أعمال المبشرين بالنسبة إلى موضوعها ليسهل الوقوف على موقف
الحكومة إزاء كل منها ، فقال عن الأعمال المدرسية : إن في استطاعة المسلمين
التردد إلى مدارس وكليات التبشير وبين جدران الكلية البروتستانتية في بيروت
104 من المسلمين وفي كلية الآستانة 50 وفي كلية المبشرين في كديك باشا في
الآستانة أيضًا 80 ومنذ بضع سنين صدر أمر خفي بجواز التردد على الكلية الأولى
والثانية .
وانتقل إلى قسم التأليف فقال : كان طبع الكتب المقدسة مباحًا منذ مدة
طويلة من لدن الحكومة العثمانية إلا أن مهمة بائعي الكتب المتنقلين كانت محفوفةً
بكل أنواع الصعوبات . وأصبح الآن بيع الكتب المقدسة مباحًا بسبب حرية النشر
التي أعقبت الدستور فبيع في السنة الماضية للمسلمين ما يزيد على 9000 نسخة
من هذه الكتب ، وليس هناك صعوبات تقوم في سبيل الكتب المختصة بانتشار
التبشير ، ولكن يجب على المؤلفين عدم الخوض في غمار المناقشات الدينية ؛ لأن
الحكومة الحاضرة لا تسمح ألبتة بنشر الكتب التي على شاكلة مؤلفات فندر .
وقال عن الأعمال الطبية والخيرية : إنها منتشرة جدًّا في البلاد العثمانية ،
ومما يجدر ذكره أن القسيس ( بيت ) التابع لإرسالية التبشير في الآستانة عين
رئيسًا للجنة الإسعاف الخيرية التي تأسست تحت رعاية السلطان عقب مذابح أطنة
والتبشير الديني جارٍ بلا صعوبة في المستشفيات التي يدير أعمالها المبشرون .
ثم قال عن الأعمال النسائية : إن الحكومة سمحت عقب إعلان القانون
الأساسي لخمس فتيات عثمانيات مسلمات أن يتعلمن في كلية البنات الأمريكية
ليتهيأن إلى إدارة أمور مدارس الحكومة للبنات ، كما أن عددًا قليلاً من البنات
المسلمات في الولايات يتردد إلى مدارس إرساليات التبشير . أما الحكومة فتظهر
الاحتفاظ التام بحالة تربية المرأة المسلمة ، وتحظر على النساء التردد إلى
المجتمعات العمومية .
وقال عن أعمال التنصير : إن الحكومة العثمانية تتداخل ولو من طرف خفي
عندما يتصل بها خبر اعتناق مسلم الدين المسيحي ، فتزجه في السجن لأي سبب
كان أو تبعده سرًّا عن وطنه جزاءَ ارتداده . وكان الإعدام من قبل عقابًا للارتداد عن
الإسلام ولم يزل المرتد إلى أيامنا هذه عرضة للعذاب الأليم . ومما لا مرية فيه أن
الموظفين المتنورين يمجون هذه الأعمال . أما التبشير الإنجيلي في الشوارع
والأسواق فمحظور , وقد دخل التسامح في شكل جديد عقيب قبول اندماج
المسيحيين في الجندية ؛ لأن ارتداد المسلم عن دينه كان يعتبر خيانة ووسيلة
للتخلص من الخدمة العسكرية . أما الآن فأصبحت مسألة اعتناق الدين المسيحي
دينية محضة .
ثم قال صاحب التقرير : إنه يتعذر إدراك ما يخبئه لنا المستقبل ؛ لأن بوادر
الأحوال تدلنا على أن الحكومة العثمانية لا ترغب في منح الحرية الدينية الحقيقية
لأن الدين الإسلامي هو دين الحكومة الرسمي ، ولم يخرج القانون الأساسي إلى
حيز الفعل إلا بقدر انطباقه على الشرائع والتقاليد الإسلامية . ومهما يكن الأمر فإن
إرساليات التبشير لا تشكو ضيمًا بعد أن أسفر التحقيق الذي أجري في إرساليات
التبشير في الآستانة وسلانيك ووان ومرعش وعينتاب عن أن خطة الحكومة
الحاضرة موجبة لنهض همة المبشرين .
وبعد أن انتهى البحث في أحوال السلطنة العثمانية انتقل المؤتمر إلى البحث
في الانقلابات السياسية في فارس . فألقى القسيس ( اسلستين ) الذي مضى عليه
23 سنة في هذه البلاد تقريره في هذا الموضوع ، فوصف الحالة الحاضرة السياسية
والحركة الاجتماعية في فارس . وقال : إن عصر الحرية الدينية سيزيد في عدد
البابيين أو البهائيين . وأنه يوجد ألوف من الفارسيين ينبذون الإسلام ويندمجون في
بعض المذاهب ، أو يظلون بلا عقيدة دينية . فظهر على إثر ذلك توتر في العقائد
الدينية الإسلامية في كل أقاليم فارس ، وهذه الأمور حملت صاحب التقرير على
القول بأن الإسلام ينحط في البلاد الفارسية ! وقال : إن أعمال التبشير في هذه
البلاد توجب مزيد الحيطة والتستر ؛ نظرًا للأحوال الخاصة التي تمتاز بها فارس ،
وهو يشير على المبشرين ببذل قصارى الجهد للإقناع واستجلاب القلوب ، إلا أنه
يحذرهم من السبّ في الإسلام أو ذكر انحطاطه مِنْ حَيْثُُ أصولُه الدينية خصوصًا
وأن موقف الفارسيين تجاهَ المبشرين هو موقف حسن في الغالب إذ أن كثيرين منهم
يرغبون في تربية أولادهم في مدارس المبشرين مع علمهم أنهم يتعلمون الإنجيل .
لكن هذه الرغبة لا تدل على أنهم يودون اعتناق النصرانية ، بل إن تشوقهم إلى
التعليم صادر عن علمهم أنه هو الدواء الناجع لاتقاء الصعاب التي تتخبط فيها
فارس الآن . فهم لا يرغبون في النصرانية بل جُلّ ما يتوخونه هو اقتباس مبادئ
الحضارة العصرية .
وبعد أن فرغ المؤتمر من الخوض في الانقلابات في فارس انتقل إلى إقليم
آسيا الوسطي التي لم تصل إليها إرساليات التبشير مثل أفغانستان والتركستان
الصينية والأقاليم الروسية الآسيوية فتُلي تقرير الكولونل ( ج ونجت ) الذي يشير
إلى بعض الأعمال التي بوشر بها في آسيا الوسطي . فاتضح منه أنه تعذر على
المبشرين الإنكليز اجتياز الحدود الهندية للدخول في آسيا الوسطي بسبب العراقيل
التي توجدها الحكومة الإنكليزية منعًا لهم من اجتياز هذه الحدود . ولكن سبقها
مبشرون آخرون إلى هذه البلاد إذ هبطت إرسالية تبشير أسوجية بروتستانتية مدينة
( كشغر ) و ( بركند ) وتأسست إرسالية تبشير مجرية في ( لح ) وعرج مبشرون
بلجيكيون كاثوليك على ( خولجة ) وتوجد إرسالية تبشير طيبة دانمركية في ( حوبي
مردان ) تقوم بها النساء ووظيفتها التبشير بين النساء المسلمات وهي على أُهْبَة
الهبوط إلى ( كابل ) .
ومما لا شك فيه أن النساء اللواتي يتعاطين الطب يلاقين مزيد الحفاوة ؛ لأن
المسلمين لا يهتمون بأعمال النساء المبشرات ، ولا يضمرون لهن سوءًا ، ولكن
يعتور أعمال المبشرين في هذه البلاد صعوبات ، ويمكننا أن نعرف موقف حكومة
الأفغان الرسمي بمراجعتنا نبذة من خطاب ألقاه أمير الأفغان على مسامع الطلبة
المسلمين في مدرسة لاهور ؛ إذ قال لهم : ( لا خوف عليكم من أن الدين المسيحي
أو أي دين آخر ينتزع منكم العقيدة الإسلامية بعد اقتباسكم التعليم الغربي ، ولكن
ينبغي لكم أن تقوموا قبل كل شيء باقتباس العقيدة الإسلامية وأنتم في مقتبل عمركم )
واتضح بعد ذلك أن المبشر ( هوغبرغ ) التابع لإرسالية التبشير الأسوجية
الذي أخذ يبشر بين المسلمين في التركستان الروسية اضطر أن يفر من مقاومة
الحكومة الروسية له إلى ( كشغر ) حيث لقي مزيد التسامح من الحكومة الصينية .
وقرئ بعد ذلك تقرير المس ( جاني فن ماير ) المبشرة في تفليس وهو
يحوي أمورًا تاريخية تتعلق بالتبشير بين المسلمين القاطنين في روسية . والقسم
الأول من هذا التقرير يتعلق بتاريخ تنصير تتر قازان وإلى المساعي التي بذلها
المبشر الأرثوذوكسي ( إيلمنسكي ) لتنصير المسلمين وجعلهم روسيي النزعة وقد
لاقى ما لاقاه من المقاومة في هذه السبيل نظرًا لشدة نفوذ التتر ، وتسيطرهم على
الشعوب غير النصرانية في روسية ، وتقول صاحبة التقرير : إنه مهما كانت درجة
مساعي المبشرين الأرثوذكس ، فإنها لا تعادل ما يبذله المبشرون البروستانت في
هذا السبيل . وقد تأسست جمعية التبشير الأرثوذكسي سنة 1870 وهي منتشرة في
أكثر الأقاليم الروسية و سيبرية ومركزها في ( موسكو ) وأنفقت حتى الآن ما يربو
على خمسة ملايين ريالاً وهي تدير أعمال 700 مدرسة يتعلم فيها 19000 تلميذ
وتنصر بواسطتها 44 مسلمًا سنة 1908 ، وبلغ ما نصرته للآن 1670 مسلمًا ،
وأخذ التبشير ينتشر في ولاية ( توبلسك ) بواسطة جمعية التبشير المركزية المخالفة
للإسلام وهي جمعية أرثوذكسية ، وتوجد جمعيات تبشير أرثوذكسية كثيرة في ولاية
( فولغا ) تتضافر جميعها على شد أزر التبشير وتؤسس المدارس لتعليم أولاد التتر
والشوقاش . قالت صاحبة التقرير : ولكن الأعمال التي يقوم بها المبشرون الروس
بين التتر عقيمة ؛ لأن التتر متعصبون متمسكون بدينهم وهم أنفسهم مبشرون
نشيطون ، ثم أشارت إلى جمعية التبشير للكنيسة الروسية في القريم وأنها تقوم
بعمل مزدوج ؛ فتعلم المبشرين في مدارس تعلم فيها اللغة التركية والعربية ، ولها
أيضًا مبشر ينتقل من محل إلى آخر ، فيتنصر على يده كل سنة أربعة أو خمسة من
المسلمين وللمبشرين الروس إرساليات تبشير أخرى منتشرة في الولايات الروسية
الأوروبية وبعضها طبية ، ولكن مهمة المبشرين تزداد صعوبة حيثما وجدت قبائل
الكركز و الباخير والتركمان قريبة من التتر ؛ لأن هذه القبائل تقع تحت نفوذها ،
وهناك يستفحل النزاع بين المبشرين المسيحيين والتتر .
وانتقلت بعد ذلك صاحبة التقرير إلى ذكر الأعمال التي تقوم بها إرساليات
التبشير البروتستانتية ، فاعترفت بعدم اهتمام الكنائس البروتستانتية الروسية في
تبشير العشرين مليونًا من المسلمين والخمسة الملايين من الوثنيين القاطنين في
روسية ؛ لأنها لم تقم للآن بعمل يذكر ، وقالت : إن كنائس بروتستانتية أخرى قامت
بهذه المهمة ولها مبشرون في تركستان وبين قبائل ( الكركز ) وأهم إرساليات
التبشير التي تسعى لتنصير المسلمين في كل أقطار روسية هي إرسالية التبشير
الأسوجية التي لها مركز عام في تفليس وفروع للتبشير في بخارى وأورنبورغ
وسمرقند و ( كشغر ) . وبما أن الحكومة الروسية لم تسمح لهذه الإرساليات بالتعليم
ولا بالتطبيب فهي تكتفي بتوزيع الكتب المقدسة باللسانَيْنِ الفارسي والتركي ، وبلغ
عدد الذين تنصروا بواسطتها 14 شخصًا ، أما إرساليات التبشير في بخارى
وسمرقند فاضطرت إلى توقيف أعمالها عَقِيبَ الاضطرابات التي طرأت ، وهذه
الإرساليات تجد صعوبات شديدة في ( بخكيرس ) ولم تحصل على نتائج صريحة
وتقوم جمعية التوراة الإنكليزية والأجنبية بنشر نسخ الإنجيل في كل البلاد الروسية
ولها مركزان واحد لأوربة روسية وتركستان والآخر لسيرية وهما يقومان بنشر
الأناجيل في عشر لغات إسلامية ويظهر أن عدد الأناجيل التي تباع للمسلمين ازداد
عن ذي قبل وختمت صاحبة التقرير كلامها بالإشارة إلى بعض إرساليات تبشير
صغيرة منتشرة في الأقاليم التي يقطنها المسلمون .
تلي بعد تقرير المس ( جاني فن ماير ) الطويل ثلاثة تقارير ، أولها للقسيس
( ويلسن ) عن أحوال الهند والثاني للقسيس ( جون تكل ) عن تقدم الإسلام في الهند
والثالث للقسيس ( وتبرخت ) عن حركات الإصلاح في الهند .
وقد جاء في التقرير الأول للقسيس ( ويلسن ) أن الحركة العصرية التي
تتمخض بها الأرجاء الهندية لم تأت بثمرة للآن ولم تظهر إلا بشكل أفكار وأميال
ونزعات . ولكي يتسنّى لنا الوقوف على ما يكون من تأثير هذه الحركة في أعمال
التنصير يجدر بنا الانتظار ريثما تتحقق مآرب حاملي لواء الإصلاح في الهند .
وليس هناك داعٍ للاستغراب أو للفشل إذا أظهر المسلمون عدم إقبال على
اقتباس المبادئ الإنجيلية ؛ لأن الاهتمام بالحياة العقلية السياسية الحديثة يدعو إلى
تعليق الآمال بالنهضة التي ترفع شأن الإسلام ، فلا يبقى ثمة في نفوس المسلمين
موضع للتفكير في أمور أخرى . لكن صاحب التقرير لا يشك في أن التربية الغربية
هي من قبيل قوة تنحلّ بها عرى الروابط الإسلامية .
وقد قال بعد ذلك : ( إن مطالعة التاريخ المجرد من المحاباة والتغرض تميط
اللثام عن حقيقة مصادر الإسلام ؛ لأن العقل الذي اعتاد التنقيب العلمي لا يقبل
الاعتقاد عفوًا وبلا روية بالعقائد التقليدية ! ) وهو يعتقد أن انتشار التعليم يساعد
على تبديد الخرافات القديمة بخصوص المسيحية . واختتم القسيس ويلسن تقريره
معربًا عن أمله الوطيد بالحصول على نتائج حسنة في المستقبل .
وتلاه القسيس ( جون تكل ) فاستهل تقريره بإلقاء نبذة في تاريخ انتشار
الإسلام في الأقاليم الهندية وقال : إن الإسلام آخذ في الازدياد وإن العراقيل التي
تُلقى في سبيل انتشاره تكاد تكون في حكم العدم . وأشار إلى مقاطعة البنغال فقال :
إن عدد المسلمين فيها بلغ سنة 1871 ستة عشر مليونًا ونصف مليون وكان
الوثنيون 17 مليونًا .
ثم اتضح من إحصاء سنة 1901 أن المسلمين في هذه المقاطعة صاروا 19
مليونًا ونصف مليون وأن الوثنيين صاروا 18 مليونًا . ثم تساءل عن أسباب نمو
المسلمين وأجاب : إنه لا يمكن أن ينسب هذا النمو إلى تعدد الزوجات ؛ لأن 29
في المائة فقط من مسلمي البنغال متزوجون بأكثر من واحدة ، كما أنه لا يمكن القول
بأن هذه الأسباب ناشئة في أكثر الأوقات عن التثبت بصحة العقيدة الإسلامية ؛ لأنه
اتضح له من التحقيق الذي قام به للوقوف على الأسباب التي حملت 40 شخصًا
على اعتناق الدين الإسلامي في أوقات متفاوتة : إن 23 منهم اعتنقوا الإسلام
لأسباب ناشئة عن العواطف ، وسبعة منهم لارتباك في أحوالهم ، والباقون أسلموا
لأسباب مختلفة .
وقد أسفر التحقيق الذي قام به مبشرون آخرون عن نتيجة واحدة مِنْ حَيْث
نسبةُ الأسباب إلى مسبباتها . وقال : إن الوقوف على أسباب نمو الإسلام يمهد
الحصول على وسائل توقيف تياره ، ولذلك ذكر لأعضاء المؤتمر بعض
اقتراحات تتعلق بالاحتياطات التي يجدر بالمبشرين اتخاذها ، وأهمها ضرورة زيادة
القوات التبشيرية الأخصائية وأيد اقتراحه بقوله : إن ثلث مسلمي الهند - الذين
بلغوا في إحصاء سنة 1901 اثنين وستين مليونًا ونصفًا - قاطن في مقاطعة البنغال
ومع ذلك فلا يوجد في هذه البلاد مبشرون اختصوا بتبشير المسلمين .
وانبرى بعد ذلك القسيس ( وتبرخت ) فتلا تقريره ، ومما قاله إنه
يجدر بالمبشرين إظهار مزيد اللياقة عندما يتحككون بالمسلمين المتنورين ، وإن
ظهور بعض الجهال بمظهر العظمة والغطرسة قد زال الآن وحلّ محله احترام
حسنات المدنية المسيحية ! وأعمال الدين المسيحي الخيرية (!) ثم أوصى المبشرين
بالتواضع وقال لهم : إذا كان المسلم يبالغ في سؤدد ومجد حضارة بغداد وقرطبة
ودرجة ترقي أفكار علماء العرب فلنتذكر نحن أيضًا أن هذا التاريخ يحوي
صحائف مجيدة ولنتذكر أيضًا أنه وإن يكن الإسلام بقي دين الشعوب التي هي دوننا
في المدينة فإن أنصاره نجحوا أكثر من المسيحيين بإزالة الحواجز التي
تفصل بين الأجناس .
ثم جاء بعد ذلك دور المستر رودس التابع لجمعية التبشير في الصين الداخلية
وهي الجمعية الوحيدة التي توغلت في الصين ، وبعد أن تكلم في نسبة المسلمين
العددية وأحوالهم الاجتماعية والسياسية تكلم عن أعمال التنصير التي يقوم بها
المبشرون ، فقال : إن أعمال المبشرين كانت حتى الآن في زوايا الإهمال إلا أن
المجهودات التي بذلها هؤلاء تكللت بالنجاح ، وأبادت خرافات كثيرة ، فتوطدت
العلاقات بينهم وبين المسلمين ، واعتنق بعض المسلمين الدين المسيحي ، وهم
منهمكون الآن بنشر الإنجيل ، ولكن لم يبلغ مسامعه أن عالمًا مسلمًا اعتنق الدين
المسيحي .
ثم أشار بعد ذلك إلى العقبات التي يلقاها المبشرون في الصين ، وأهمها
ضرورة وجود لغتين للمبشرين : اللغة الصينية التي تستعمل مع العامة واللغة العربية
لأجل العلماء والطلبة ، ويوجد هناك عقبة أخرى وهي صعوبة وجود كلمة في اللغة
الصينية للدلالة على اسم الجلالة . واختتم تقريره بلفت أنظار المبشرين إلى الصين ،
وقال : إن النصر ليس حليف الإسلام في الصين إلا أن العلماء المسلمين ينكفئون
على هذه البلاد من الهند وجزيرة العرب وبلاد الدولة العثمانية ؛ لأجل توطيد أركانه
هناك ، وحض الخطيب أعضاء المؤتمر على تعزيز عدد المبشرين الواقفين على
اللغة العربية ، وإرسال نساء مبشرات للقيام بالتبشير الطبي وسط النساء الصينيات
وطلب تأسيس إرساليات طبية ومستشفيات .
ثم ألقى على مسامع المبشرين سؤالاً لا يتعلق بمسلك الحكومات نحو المبشرين
ويتضمن البحث عن أحوال المسلمين الموجودين تحت سيطرة المسيحيين ، أو
الذين تحت حكم الوثنيين ، وقد اتضح من الخوض في هذا الموضوع أن ( هولندة )
هي الحكومة الوحيدة التي تروج أعمال المبشرين وتستحق رضاهم عليها ، ويظهر
أن ألمانية أخذت تفتدي بها في مدة قريبة أما إنكلترة فهي هدف لانتقاد المبشرين ؛
لأنهم يزعمون أن المسلمين في مصر يهضمون حقوق الأقباط ؛ لأن التعليم الديني
الإسلامي جبري في المدارس المصرية ، والحكومة المصرية هي التي تنفق
عليه [2] .
أما التعليم الديني للتلاميذ الأقباط فاختياري ، ويتكفل بنفقته المجلس المِلِّي
القبطي . وأما في السودان ، فأعمال المبشرين معرقلة حتى إن كلية غوردون التي
أسستها الأمة البريطانية أصبحت مدرسةً إسلاميةً محضةً والحكومة الإنكليزية في
نظر المبشرين ملومة على انتهاجها خطة الحياد ، وشدها أزر المدارس الإسلامية
في مقاطعة ( سيراليونة ) كما أن ذوي الأمر من الإنكليز في نيجيرية لا يحسنون
معاملة إرساليات التبشير المسيحية ، ولا يسمحون لهم بفتح المدارس العصرية بكل
حرية ، بينما هم يعضدون المدارس التي تعلم القرآن .
وأما الحكومة الفرنسية ، فتسلك خطة الحذر التي لا تنطوي على الود
والإخلاص نحو المبشرين ؛ لأن علاقاتها معهم في مدغسكر لم تتحسن ، وإن
تكن سمحت لهم بارتياد الجزائر وتونس بدون تعضيد ، ويخشى أن تحظر عليهم
التجول في الصحراء والنيجر وأقاليم بحيرة تشاد أو واداي ، وقد لام المبشرون
الحكومة الروسية لتباين أعمالها فقد يتفق في بعض الأوقات أنها تروج
أعمال المسلمين التي تضر بالمسيحيين التابعين للكنيسة الرسمية الروسية .
أما خطة الحكومات الوثنية نحو المبشرين ، فتختلف باختلاف طباع ومزايا
الحاكم الوثني . وقد قال المبشرون : إنه مهما بلغ طيش الحاكم الوثني وهمجيته
ودرجة اضطهاده فهي لا تبلغ درجة الاضطهادات والأعمال الهائلة التي تخللت
تاريخ الإسلام ! وهم يفضلون أن يكونوا مرتبطين بعلاقات مع الوثنيين المستقلين ؛
لأنه مهما كانت فائدة حلول الحكومة الغربية محل الحكومة الوثنية ؛ فإنها تروج تيار
الإسلام ! وتكون مجلبة للعراقيل في وجه المبشرين مِنْ حَيْثُ الأعمال التي يقوم
هؤلاء بها تجاه المعضلة الإسلامية ، وقال المبشر وتسون : إن الواجب الضروري
يقضي على المبشرين بالاهتمام بأمر البلاد الوثنية التي يتهددها الإسلام .
***
الجلسة الختامية لمؤتمر لكهنوء
ثم قالت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية : إنه يتعذر عليها أن توفي البحث حقه
عن سائر موضوعات هذا المؤتمر ؛ لأن هناك كتابًا آخر ظهر في عالم المطبوعات
وفيه بيان أبحاث المؤتمر ، ولكنها لم تحصل عليه . وهي تكتفي الآن بذكر بعض
أمور تتعلق بالجلسة النهائية للمؤتمر وهي :
ألقى الرئيس خطابًا يشير فيه إلى انفضاض المؤتمر ، ثم وُزعت على
الأعضاء رقاع مكتوب عليها من جهة : ( تذكار مؤتمر لكنهوء سنة 1911 ) ومن
الجهة الأخرى العبارة الآتية : ( اللهم يا من يسجد لك العالم الإسلامي خمس مرات
في اليوم بخشوع انظر بشفقة إلى الشعوب الإسلامية وألهمها الخلاص بيسوع
المسيح )
أما القرارات التي دوَّنها المؤتمر في محضر جلساته فهي كما يأتي :
بعقد المؤتمر مرة أخرى في القاهرة سنة 1916 وإذا طرأت هناك أسباب
سياسية أو أمور أخرى تحول دون اجتماعه في هذه المدينة فيعقد حينئذ في لندرة .
ومؤتمر لكنهوء يوافق مؤتمر إرساليات التبشير الذي عقد سنة 1910 على ضرورة
بذل المساعي في القارة الإفريقية دون أن تمس المساعي التي تبذل في البلاد الباقية . ... ولذلك فهو يرى أنه يجدر بالجمعيات التبشيرية أن تتكاتف وتتعاضد لكي تؤلف
سلسلة قوية من إرساليات التبشير تطوف كل أفريقية ، وتؤسس مراكز قوية في
الأماكن التي هي موطن الخطر .
ويجب أن يكون إخراج هذه الفكرة إلى حيز الفعل موضع بحث أهم وأوسع
مما كان في السابق سواء مِنْ حَيْثُ تربية المبشرين أو حسن اختيارهم ، الأمر الذي
يحتم اتخاذ التدابير بلا تأخير لإتمام المشروعات التي بوشر بها .
ويرى المؤتمر أن من الضروري العاجل تأسيس مدرسة في مصر خاصة
بالتبشير تكون عامَّةً لكل الفرق البروتستانتية . ويشدد بلزوم التدقيق التام في انتقاء
المبشرين الأَكْفَاء الممتازين بصفاتهم ومواهبهم العقلية ولزوم تعليمهم اللغة العربية
بوجه خاص مع تاريخ الدين الإسلامي وأهم المؤلفات التي تتعلق به .
وأعضاء المؤتمر يدعون اللجنة الدائمة لأنْ تدرس بمزيد الدقة أدوار تقدم
الإسلام في أفريقية وجزائر الملايو ليكون بحثها أساسًا للمناقشات في المؤتمر
المقبل .
ولما كان تنصير النساء المسلمات مع أولادهن ورفع شأنهن ! يتطلب دخول
النساء المسيحيات في العمل فأعضاء المؤتمر يشيرون على إرساليات التبشير
بالتشديد على المبشرين والمبشرات بضرورة التحكك بالرجال والنساء عند قيامهم
بأعمالهم التبشيرية ، وأن توسع نطاق الأعمال التبشيرية التي تقوم بها النساء في
أفريقية بوجه خاص . وأن تُعْنَى بتربية النساء المبشرات .
وختم المؤتمر قراراته بتنبيه همة الكنائس التبشيرية لإرسال قسم من
المبشرين الموجودين لديها ليشدوا أزر المبشرين في أفريقية .
***
التنظيم المادي لإرساليات التبشير
انتقلت بعد ذلك مجلة العالم الإسلامي إلى البحث في التنظيم المادي لإرساليات
التبشير البروتستانتية الأمريكية والإنكليزية والألمانية ، فاستهلت بحثها بوصف
جمعية التبشير للكنيسة الإنكليزية ، وقالت : إن هذه الجمعية التي يكثر ذكرها على
صفحات هذه المجلة هي أهم جمعية تبشيرية بروتستانتية . وقد مضى على
تأسيسها 10 سنين ويدير أعمالها 145 أسقفًا ينوبون عن الرئيس وهو أسقف
كنتربوري الإنكليزي وقد كانت إيراداتها سنة 1799 خمسة وعشرين ألف فرنك
فبلغت سنة 1910 عشرة ملايين من الفرنكات ، وهذا غير المبالغ الهامة التي ترد
لها وتصرفها في سبيل التبشير من غير تدوين في سجلات صندوق الجمعية .
ومن مراجعة التقارير التي نشرتها هذه الجمعية سنة 1906 اتضح لنا أن
مجموع الاكتتابات والإيرادات التي وردت على الجمعية في هذه السنة من البلاد
الإنكليزية فقط 228.529 جنيهًا . وبلغت الإيرادات الأخرى 100 ألف جنيه ،
وهي مؤلفة من الاكتتابات التي ترد إليها من البلاد الأجنبية ومن المبالغ التي يجمعها
المبشرون . وما فروع عديدة وما فروع عديدة لجمع النقود لا تقع تحت حصر .
ولإدارة هذه الجمعية أهمية كبرى تظهر لنا من مراجعة النفقات التي تتكبدها ،
وهي أنها أنفقت سنة 1906 مبلغ 16.584 جنيهًا في سبيل إدارة أمورها ومبلغ
27.584 جنيهًا في سبيل تحصيل الاكتتابات والإيرادات . وقد كانت إيرادات هذه
الجمعية في السنة الماضية 403.615 جنيهًا ، ونفقاتها 394.113 جنيهًا ،
وبلغ ما أنفق على الأعمال التبشيرية 325.000 جنيه منها 25.000 جنيه
صرفت للمبشرين الموجودين في غير البلاد الإسلامية . فيكون مجموع ما تنفقه هذه
الجمعية كل سنة للتحكك بالإسلام 7.500.000 من الفرنكات . وهي موزعة كما
يأتي 21521 جنيهًا لإفريقيا الشرقية و33048 جنيهًا لإفريقيا الغربية و6243
للتبشير في القطر المصري و82247 جنيهًا للبلاد العربية والعثمانية والفارسية
و 122846 جنيهًا للهند و51611 للصين .
وقد قالت هذه الجمعية في تقريرها عن سنة 1911 : إن أعمال التبشير في
البلاد الإسلامية ما زالت صعبةً وعرضةً للنفقات الجسيمة إلا أن نتائج أعمالها
أخذت تظهر للعيان . وقد قال : إن نطاق الأعمال التبشيرية اتسع عن ذي قبل في
فارس . أما في مصر فكل المجهودات تبذل في نشر التبشير وتوسيع نطاق التعليم
في الأرياف ، وقد كان من شأن السكة الحديدية التي أخذت تجوب شمال نيجيريا
أنها مهدت لمبشري هذه الجمعية سبيل تأسيس مراكز تبشيرية في الأمكنة الإسلامية .
والإسلام يندفع نحو اقتباس المدنية العصرية ، وهذه النهضة التي يدب دبيبها
في صدور المسلمون تدعو إلى تنافس حقيقي بينهم وبين المبشرين للاستيلاء على
المراكز التي يتوخونها ، وقد ظهرت هذه النهضة أيضًا في إفريقية الشرقية الألمانية
حيث صارت السكك الحديدية منهمكةً بنقل بضائع المسلمين إلى أحشاء البلاد ،
وكذلك الحال في السودان المصري الذي ظهرت فيه حركة إسلامية حقيقية تطرقت
إلى داخل البلاد ، وتوجد أيضًا في نيجيريا الشمالية بعض أقاليم وثنية على حدود
بلاد إسلامية كبيرة ، وهذه الأقاليم أصبحت عرضةً لبحر الإسلام الطامي ، أما في
نيجيريا الجنوبية فينتظر حدوث نزاع بين المسلمين والمبشرين من يوم إلى آخر ،
ويتفوق المسلمون في أكثر هذه الأقاليم على إرساليات التبشير في المال والنفوذ
وبينما كان مسيحيو مدينة ( أبا يوكوتا ) يخصصون مبلغ 75000 فرنك لأجل بناء
مدرسة كان مسلمو مدينة ( لاغوس ) يخصصون 250.000 فرنك لبناء مسجد
جديد .
وللجمعية أيضًا إرساليات تبشير في مقاطعة ( سيراليونة ) يرجع عهدها إلى
سنة 1804 فيها 63 مدرسة و39 معهدًا يتعلم فيها 4.500 طالب . والمسلمون
في هذه المقاطعة كثيرون وأغلبهم في داخل البلاد ، وقد كان لمبشري هذه الجمعية
القدح المُعَلَّى في توسيع نطاق المستعمرات الإنكليزية بأواسط إفريقية وغربها ، لأن
المبشرين كانوا يستعينون بالزنوج المتنصرين في ارتياد البلاد وتأسيس مراكز
التبشير وتوطيد النفوذ الإنكليزي ، وكذلك هي إرساليات التبشير في ( لاغوس )
و ( إبايوكوتا ) و ( إبادان ) و ( لو كوجة ) ، وحاصل القول : إن لهذه الجمعية في
هذه الجهات ثلاث أسقفيات وهي في ( يوروبا ) ونيجيريا الجنوبية ونيجريا
الشمالية ، وفي المقاطعة الأخيرة يجد المبشرون أنهم في بلاد إسلامية محضة ، وفي
المقاطعة الأولى والثانية لا يوجد من المسلمين إلا التجار وأصحاب القوافل كما هي
الحال في لاغوس ، والمعاهد والمدارس التي للجمعية في نيجريا الشمالية قليلة
بالنسبة لغيرها للسبب الذي ذكرناه ، وهو كثرة وجود المسلمين فيها ، وتقول
الجمعية في تقريرها : إن تقدم المسلمين في مقاطعة ( يو روبا ) موجب للقلق الشديد ،
ومما يدل على ذلك أنهم خصصوا 250.000 فرنك لتشييد مسجد في
( أبايوكوتا ) كما أن الإسلام ينتشر انتشارًا هائلاً في مقاطعة ( إيجابو ) التي كانت
سنة 1892 وثنية محضة ، فأصبحت لا تخلو قرية من قراها من مسجد حتى إن
مدينة ( إيجابو أود ) لا يكاد يخلو شارع فيها من مسجد للمسلمين ، وقد توطد نفوذ
الإسلام في ( أود ) .
والمسلمون أحرزوا في المدة الأخيرة حقوقهم المدنية والحرية التامة في إقامة
الصلاة وشعائر الدين الإسلامي مع أن ملك هذه البلاد كان لا يطيق ذكر المسلمين ،
وكذلك يزداد عدد المساجد في ( يوروبا ) الغربية التي تؤسس بجانبها المدارس
العديدة لتعلم اللغة العربية ورغمًا عن كون الأهالي في بعض الجهات مثل مقاطعة
( إيبوس ) يبتعدون عن الإسلام فإن نطاق الإسلام آخذ بالاتساع ففي ( أكتسا ) مثلاً
الواقعة في نيجيريا الشمالية لا تجد محلاً خاليًا من المعلمين المسلمين . وآية ذلك أن
المسلمين يهبطون القرى الوثنية ، ويتحككون بأهلها ، ولا يمضي ردح من الزمن
حتى يستعمل الوثنيون الأسماء الإسلامية ، ويحملون الآثار الدينية التي يحملها
المسلمون ، ثم يتدرجون في الإسلام ، والأمر الذي أوجب انتشار الإسلام في ( كوتا )
هو الازدواج الذي يحصل بين المسلمين والوثنيين ، أما في ( بوشي ) ، ففضل
انتشار الإسلام عائد إلى التجار ( الهوسيين ) الذين ينشرون الإسلام ، ويبيعون
بضاعتهم في آنٍ واحد ، وقد استفحل أمر المشكلة الإسلامية في أعين مبشري
الجمعية في مقاطعة ( يوروبا ) لدرجة أن المبشرين هناك يطلبون الذهاب للتبشير
بين قبائل ( بريبرى ) الوثنية القاطنة في ( بورنو ) ، والتي تتراوح بين المليون
والمليونين من النفوس ، وقد قال القسيس ( أوغنيني ) في تقريره عن ( يوروبا :
( إنه أراد التحكك ببعض مسلمي ( إيلورن ) فطلب منه بعضهم تأسيس مدارس ،
وقال له آخرون : إنهم يأسفون لعدم تمكنهم من قطع رأسه ! وقد ظهر للمبشرين أن
نفود العناصر الفولانية والبولانية والإسلامية منتشر حتى في الأقاليم الوثنية
المحضة .
( يتلى )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 605 .
(1) من الغريب أن يقول هذا القول من يعرف ما هي النصرانية ويعرف شيئًا عن الدين الإسلامي الذي هو دين المستقبل لا محالة لأنه هو الدين المناسب لحالة البشر في رقيهم الحالي والمستقبل .
(2) اقرأ رسالة (المسلمون والقبط) .
(15/667)
 
الكاتب : المسيو شاتليه

شوال - 1330هـ
أكتوبر - 1912م
الغارة على العالم الإسلامي
[*]
( 10 )

التنظيم المادي لإرساليات التبشير
استمرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية في تلخيص تقرير جمعية التبشير
الكنيسية فأشارت إلى ما جاء فيه بخصوص أعمال مبشري هذه الجمعية في أفريقيا
الشرقية ، وقد كان الدكتور ( كريف ) أول من دخل هذه الديار وذلك أنه طرد من
بلاد الحبشة سنة 1844 فهبط إلى ( منبسه ) ثم تبعه مبشرون آخرون أخذوا
يطوفون عرض البلاد فاتسعت أعمالهم على الشواطئ منذ سنة 1874 وكانوا
يؤسسون قرى يقطنها الأرقاء المعتوقون وشملت أعمالهم التبشيرية أفريقيا الألمانية
وبلاد ( أوغندا ) ثم أسسوا بعد ذلك إرساليتي تبشير : واحدة على مقربة من جبال
( كليما جارو ) وأخرى في سفح جبل ( كانيا ) ويبلغ عدد معاهدهم التبشيرية في
أفريقيا الشرقية الإنكليزية فقط 22 معهدًا ولهم 21 معهدًا علميًّا يتعلم بين جدرانها
1072 تلميذًا وتبلغ الإيرادات التي يتناولونها من المبشرين 70 ألف فرنك ،
والمبشرون القاطنون في ( منبسه ) وفي ( مزبزيمة ) يجدون أنفسهم في بلاد
إسلامية محضة ، كما أن المسلمين مسيطرون على كل ولاية ( السيدية ) وتوجد
في الجهة الشمالية من هذه البلاد إرسالية تبشير في ( جيلوري ) التابعة لبلدة
( مالندة ) واقعة على مقربة من معهد عربي إسلامي قديم العهد ، ويرى مبشرو
هذه الجهات أن الإسلام ينتشر في الداخل بين صفوف القبائل الوثنية المدمنة شرب
الخمر ، وأخذ يتطرق إلى الوثنيين المنتمين إلى قبائل ( وادا بيدة ( رغمًا عما
تمتاز به هذه القبائل من كثرة السحرة والدجالين بينها ويوجد كثير من وثني
( واديفو ) ينقادون للإسلام بسهولة ، ولتجار الساحل المسلمين قرى بنوا فيها
مساجد حتى في جوف بلاد ( كباره ) الواقعة في سفح جبل ( كانيا ) على مقربة من
المبشرين ، وقد أصبحت الحال موجبة للروية والتفكير لدرجة أن السير ( بارسي
جيروار ) حاكم أفريقيا الشرقية الإنكليزية صرح في المؤتمر الذي أقامه
المبشرون على ظهر الباخرة ( غالف ) في البحر الأحمر بأنه يجب على
الحكومة وعلى المبشرين أن يشتركوا في العمل ضد الإسلام !
وقد جاء في تقرير جمعية التبشير أن المسلمين ليسوا إلا قسمًا من أهالي هذه
المقاطعة إلا أنهم يؤلفون العنصر التجاري العامل الذي يتنقل من جهة إلى أخرى ،
ولذلك فإن المبشرين يوجهون مجهوداتهم لتأليف كتب بالرطانة الساحلية ، وينشرون
مجلة شهرية يبلغ عدد قرائها 200 شخصًا فضلاً عن الكتب الدينية التبشيرية التي
نشرت بهذه الرطانة .
ويعلق مبشرو هذه الجمعية أهمية على انتشار الإسلام في أفريقيا الشرقية
الألمانية ، وقد قالت المبشرة المس ( فورسيت ) : إنها كانت تجد مساجد صغيرة
حيثما مرت ، وفي بعض الأوقات كانت ترى هذه المساجد بشكل أكواخ صغيرة إلا أن
هذه الأكواخ بمثابة مراكز للتبشير الإسلامي ، وأشار أحد المبشرين إلى المجهودات
التي يبذلها المبشرون لإيقاف انتشار الإسلام ، وذكر آخر أن اثنين وثنيين متنصرين
اعتنقا الإسلام ، ويرى المبشرون أن الخصم الوحيد لهم في هذه الجهات هو المسلم ،
ويرون أن بعض المسلمين الذين وزعت عليهم كتب تبشيرية مكتوبة بالرطانة
الساحلية طفقوا يشترون التوراة والإنجيل ، وقالوا : إن امرأة مسلمة في منبسة عني
المبشرون بمعالجتها فاعتنقت النصرانية .
ويرجع عهد دخول المبشرين إلى مقاطعة ( أوغندا ) إلى سنة 1875 عندما
صرح ( متيسة ) ملك هذه البلاد بارتياحه إلى اقتباس التربية الأوروبية ، وما ذاع
خبر هذا التصريح الذي فاه به حتى تبرع اثنان رغبَا بإخفاء اسمهما بمبلغ 25 ألف
فرنك ليتسنى لجمعية التبشير إنفاذ إرسالية إليها ، وتمكنت فعلاً من بعث إرسالية
سنة 1876 لكنها هوجمت في الطريق وفقدت بعض المبشرين ثم بقيت في ( أوغندا )
وتبعتها إرسالية تبشير كاثوليكية ، وقد أخذ الإرساليتان بتوسيع أعمالهما بعد موت
( متيسة ) دون حصول أدنى منافسة بينهما ترجع فائدتها إلى المسلمين ، إلا أن
( موانغا ) الذي تقلد الملك بعد ( متيسة ) كان ارتياحه قليلاً لأعمال المبشرين ، ولذلك
أصبح المسيحيون الوطنيون عرضة للاضطهادات الشديدة ، لكن ( موانغا ) ما عتم
أن خلع فأصبح المسلمون أصحاب الحول والطول في البلاد وطردوا المبشرين من
كاثوليك وبروتستانت في سنة 1888 وما مضت سنة واحدة حتى أعيد ( موانغا )
إلى منصبه بفضل رعاياه المسيحيين فوافق سنة 1890 على رفع العلم الإنكليزي
لشركة أفريقيا الشرقية البريطانية أي قبل أن تعلن الحماية الإنكليزية على بلاده
بأربع سنوات . وفي سنة 1896 بارح ( موانغا ) بلاده[1] فخلفه ابنه ( شوا ) الذي
تعمد وسمي ( داود ) رغمًا عن ثورة قامت بها الجيوش السودانية ، ومن ذلك الحين
توطدت أحوال مقاطعة ( أوغندا ) السياسية ويوجد عدا الأهالي المسلمين في هذه
المقاطعة كثير من التجار الهنود والعرب والسوريين الذين يؤلفون كمية وافرة من
المسلمين ، ثم جاء في تقرير الجمعية أن اثنين من المسلمين اعتنقا النصرانية في
( بوغندا ) بعد أن عُني المبشرون بمعالجتهما ، ويشعر المبشرون بالصعوبات التي
يثيرها زعيم مسلم في ( كبيرا ) الواقعة شرقي أوغندا حيث الإسلام ينمو ويتقدم
سريعًا ، وحاصل القول أن للمبشرين في هذه المقاطعة 1010 معاهد أو محطات
للتبشير و147 مدرسة يتعلم بين جدرانها 424 ، 47 تلميذًًا ، ويبلغ ما يتناولونه من
الإيرادات 500 ألف فرنك ، وتقدر ميزانية مبشري هذه المقاطعة بمليون فرنك ،
وهذا المبلغ الجسيم يؤيد وجود 1010 معاهد ، وقد كان للمنافسة التي حصلت ضد
المبشرين الكاثوليك شأن كبير في توسيع نطاق التبشير أكبر من فكرة مناوأة الإسلام
ومناضلته ، وعلى كل فسيرى الإسلام نفسه أمام قوة التربية والحضارة الإنكليزية
التي يقوم بها المبشرون الإنجيليون .
وجاء بعد ذلك في التقرير ذكر إرساليات التبشير في مصر والسودان ، التي
يرجع عهد تأسيسها إلى سنة 1815 عقيب حروب نابليون حيث هبطت إرسالية
التبشير جزيرة مالطة وأخذ نطاقها يمتد وينتشر حتى بلغ مصر والحبشة واليونان
وبلاد الدولة العثمانية وفلسطين ، ومن شأن هذه الإرساليات إرجاع كنائس الشرق
سيرتها الأولى وتنصير المسلمين ، لكن مع كل ما بذله المبشرون من الغيرة في هذه
البلاد لم تكلل أعمالهم بالنجاح حتى إنهم أقفلوا مدرسة التبشير في القاهرة في سنة
1862 بعد أن تخرج فيها بعض المبشرين ثم تأسست إرسالية تبشيرية في مصر
ستة معاهد للتبشير فيها كثير من النساء المبشرات لها مدرسة تبشيرية ومدرسة
داخلية ومدرستان للبنات في القاهرة ومدرسة عالية في حلوان ، ولهذه الجمعية مكتبة
عامة في القاهرة ، ويقوم مبشروها بنشر مجلة الشرق والغرب ، وتبلغ ميزانيتهم في
القطر المصري 160 ألف فرنك ، أما الإيرادات التي يتلقا المبشرون من الوطنيين
فلا تكاد تبلغ 450 فرنكًا ، وهذه الجمعية لا ترى إرساليتها التبشيرية في مصر أهم
ما لديها كما يتضح من تقريرها السنوي . وقد كانت سنة 1910 مهددة بصعوبات
وعقبات ، إذ حملت الصحف الإسلامية في هذه السنة حملة شعواء على المبشرين
عمومًا ، وقد كانت الصحف الوطنية خصوصًا تمتاز بما كانت تصب عليهم من
كلمات السب والشتم .
وكان الشيخ ( سكندا ؟ ؟ ) وامرأته عُرضة للاضطهادات الأليمة ، وهذه
المعاملة لم تمنع بائعة كتب مسلمة متنصرة أن تقوم بواجباتها بمزيد الغيرة والنشاط
والأعمال الطبية مستمرة النمو إلا أنها لا تأتي بفائدة من الوجهة الدينية ؛ لأنه لا يكاد
الطبيب يظهر بمظهر المبشر حتى تحيط به الاعتراضات كما كان شأن الدكتور
( هربور ) التابع لإرسالية تبشير النيل ، وقد قام إمام جامع ( حامول ) حيث كانت
إقامة الدكتور ستة أشهر فحث الأهالي على عدم حضور مذاكرة هذا الدكتور الذي
استطاع مع ذلك إبراز بعض مناظر بالفانوس السحري في قرية ( سترى ) وأسس فيها
مدرسة صغيرة لتعليم التوراة ، وللجمعية أيضًا مدرسة في منوف وأخرى
في شبرا زنج بقرب منوف بين سكان كلهم مسلمون .
وقد أصدرت الجمعية بعض أموال لإقامة ذكرى ( غردون ) عقب موته في
الخرطوم ، وهذه الأموال مكنت الجمعية بعد فشل الخليفة من تأسيس إرساليات
تبشير في أم درمان والخرطوم وأتبره ومليك وفي أواسط السودان مع مدارس
بنات ، ولها أيضًا ثلاث مدارس للبنات في السودان الشمالية ، وأحوال مدرسة أتبرة
سائرة من حسن إلى أحسن ؛ لأنه أصبح في استطاعة المبشرين في ( أتبره ) أن
يطلبوا من التلاميذ الصغار المسلمين أن يصلوا معهم صلاة الصبح ! وهم يطلبون
أيضًا مثل هذا الطلب من المرضى المسلمين في مستشفى أم درمان ! واختتمت
الجمعية نبذة تقريرها عن هذه الجهة قائلة أنه على أثر موت ( ليوبولد الثاني ) ملك
بلجيكا أرسلت الحكومة 50 جندي مسلم إلى مقاطعة ( اللادو ) فانتشر هؤلاء الجنود
في البلاد وأخذوا يفتحون المدارس الإسلامية وسط القبائل الوثنية .
وللجمعية أيضًا إرساليات تبشير عديدة في فلسطين أخذت تنتشر في هذه البلاد
منذ 1851 ، وتفضل الجمعية إرسال مبشرات غير متزوجات ؛ لأن لهن تأثيرًا
على النساء المسلمات ! ولها مدرسة ومعهد للتبشير في بغداد والموصل .
ويرجع عهد التبشير في بلاد فارس إلى سنة 1811 وسنة 1834 حيث ابتدأ
المبشرون الأمريكيون بالتبشير بين النسطوريين ثم بين المسلمين . وقد اتضح
للمبشر ( بروس ) سنة 1869 أن المسلمين في أصفهان يميلون إلى المجادلات
الدينية فجاء إلى ( جولفة ) ومكث فيها حيث فتح مدارس . ثم شدت أزره جمعية
التبشير الكنيسية الإنكليزية ، واتسع بذلك نطاق التبشير إذا أسست مدارس
ومستشفيات منها مستشفى للبنات . وفتحت مدرسة داخلية للبنات في أصفهان . وقد
قالت الجمعية : إن الثورة الفارسية مهدت السبل للحصول على حرية الأديان إلا أن
نفوذ العلماء لم يزل ثابتًا والفوضى منتشرة في عرض البلاد حيث يدأب الأشرار
والسلابون في قطع طرق المواصلات .
أوسعت جمعية التبشير الكنيسية مكانًا من تقريرها لمقدمة صغيرة استهان بها
أقوالها عن البلاد الإسلامية ، وذكرت فيها مزايا الدين الإسلامي من حيث الاعتقاد
بوحدانية الله . ثم بحثت في هذه الوحدانية فقالت : إنها تحتك من بعض الأوجه
بمذهب اللا أدرية ! ومن وجه آخر بمذهب وحدة الوجود القائل : أن الله والكون
واحد ! وتقرب أيضًا من مذهب تعدد الآلهة والشرك ! حتى إن لهذه العقيدة صلة
بالمذهب الحيوي القائل بوجود روح في نفس الحيوان ووجود عامل حي في النبات
والجماد وأن هذا هو علة الأعمال الحيوية ولا تأثير للقوى الكيماوية أو المادية
وتقول أيضًا : إنه يجب أن ينكر على الإسلام سماحه لكل مسلم أن يعمل ما شاء ؛
لأنه سيكون في آخر الأمر مظهرًا للرحمة الإلهية ! وقالت : إن في الإسلام عيبًا
فاحشًا وهو حطه من شأن المرأة ودعَّمت ما عَزَته إلى الإسلام بذكر نبذة جاء فيها
أن امرأتين فارسيتين سمتا ابنتيهما الأولى ( غير مطلوبة ) والثانية ( كفا بنات ) ثم
انتقلت الجمعية في مقدمتها إلى التساؤل عما إذا كان في الإمكان حمل المسلمين على
الدخول في حظيرة المسيح ! وافتتحت بابًا خاصًا أتت فيه على صفوف المجاملة
التي تظهرها الحكومة الإنكليزية نحو المسلمين ، وهي لا تنكر أن موقف الحكومة
الإنكليزية دقيق نظرًا لكثرة المسلمين الموجودين تحت سيطرتها إلا أنها تنكر على
بريطانية إهمالها مجهودات المبشرين في القطر المصري والسودان ونيجيريا
وجعلها يوم الجمعة في دوائر الحكومة المصرية يوم عطلة حتى إن ذهاب الأقباط
المستخدمين في الحكومة في الأرياف للكنيسة يوم الأحد منوط بإرادة رؤسائهم
المسلمين .
ثم انتقلت الجمعية في تقريرها إلى ذكر أعمالها في الأقطار الهندية ، وقد
اتضح أنها ليست منتشرة في عرض هذه البلاد وطولها كما يجب رغمًا من أن فيها
ألفي محطة تبشيرية ولها كذلك ألف مدرسة يدرس بين جدرانها خمسة وستون ألف
تلميذ . وتبلغ ميزانيتها في هذه البلاد 4 ملايين من الفرنكات منها 500 ألف فرنك
تأخذها من الإيرادات المحلية . وقالت : إن أعمالها وأغراضها تختلف في هذه البلاد
بحسب الأقاليم ولها إرساليات عديدة في مقاطعة البنغال وأشغال مبشريها ليست
مقتصرة على البشير بين المسلمين ، وقد يتفق حدوث مشاكل بينهم وبين المسلمين
كما هو الأمر في ( بيحار ) حيث قام مشايخ القرى واعترضوا على المبشرين لكن
هذه الأعمال لم تحل دون انتشار التوراة باللغة الأوردية ، ولها أيضًا معاهد
وإرساليات تبشيرية في ولايتي ( أوده ) و ( أكره ) . وتقول : إن أول نائب قام
بأعباء التبشير في هذه الأرجاء هو رجل هندي الأصل منتصر اسمه عبد المسيح ثم
انكفأ بعد ذلك مبشروها على هذه المقاطعة . ولها معاهد ومدارس في ( أكره )
و ( الله آباد ) ويدرس في مدارسها كثير من المسلمين . ويتفق تنصير بعض أفرادهم
من وقت إلى آخر . إلا أنها رغمًا من فتحها بعض مدارس بطلب من
المسلمين ومساعدتهم فإن ( إريا سماج ) توفق إلى إقفال عشر مدارس كانت
فتحتها في ( أزمغار ) لكن هذا الأمر لم يكن ليثبط همم المبشرين بل هم دائبون
على أعمالهم التبشيرية التي تأتي من وقت إلى آخر ببعض الفوائد واضعين نُصب
أعينهم نشر تعاليمهم وأفكارهم وجُلّ ما يطلبونه مباشرة من الوطنيين أن يدققوا
النظر في الدين المسيحي وتعاليمه . وهم ينشرون تعاليمهم التبشيرية بتلاوة التوراة
في القرى وإلقاء المذكرات في المدن وينشرون المطبوعات . حتى إن أهم
الأشخاص في الكلية الإسلامية في ( أكره ) يطالعون التوراة المكتوبة بالعربي .
وقد توفقت اللجنة التبشيرية الكنيسية إلى نشر بعض مؤلفات باللغة الأوردية
وبحث طويل باسم ( الهند والإسلام ) . وللجمعية إرساليات تبشير في ( جابالبابر )
تهتم بالأمور الإسلامية ولها مدرسة عالية يتردد إليها المسلمون وإرسالياتها
التبشيرية منتشرة في كل مدن ( بنجاب ) وتبلغ ميزانيتها في هذه الولاية 750
ألف فرنك يضاف إليها 50 ألف فرنك إيرادات مدارسها وحركة أعمالها التبشيرية
في هذه البلاد أحسن منها في غيرها نظرًا لما تلقاه من المساعدة والمجاملة من
المستر ( لورنس ) أو السير ( منفوماري ) أو الكولونل ( مرتين ) . عندما تقلدوا
زمام الأمور في هذه الولاية .
وقد اتسع نطاق التبشير من حيث التدريس والتطبيب ونشر المطبوعات
والمدارس الصناعية وترجمة الكتب التبشيرية إلى اللغة الأوردية والسندية . وقالت :
إن أسقف ( لاهور ) عيّن المحترم إحسان الله أرشمندريتا على دلهي . ولمدرسة
( لاهور ) التبشيرية قسم صناعي . ويدير أعمال مدرسة ( بها وابور ) الواقعة في
أحد أقاليم بنجاب الإسلامية المحضة مدير وطني . وليست أعمال التبشير في
( كشمير ) بماشية كما يرام ، لأن المسلم الذي يتنصر يقع في حيص بيص ويصبح
عُرضة للمتابعة والامتهان ، وقد اضطر المبشرون إلى إقفال مدرستهم التبشيرية في
( بلوجستان ) وتقول الجمعية في آخر تقريرها : إن الإسلام يقاوم الأعمال التي
توجه ضده من حيث إنه عقيدة ودين أما من جهة حركة الحضارة والمدنية فلا شك
أن أعمال مبشري جمعية التبشير الكنيسية جارية على محور النشاط والتقدم .
جاء بعد ذلك ذكر الهند الغربية . فقالت الجمعية : إن هذه البلاد من الأقاليم
التي اتسع فيها الاهتمام بالتبشير بين المسلمين إذ يلقي مبشروها محاضرات باللغة
الإنكليزية على المسلمين الذين اقتبسوا العلوم الأوروبية ويحتدم بخلالها الجدال على
الأمور الدينية . كما أن المتنصر المولوي أحمد مسيح يلقي محاضرات تبشيرية في
( بومباي ) . وتتبادل المناقشات الدينية في ( أورنغباد ) باللغة الهندية . ويقوم
بعض المبشرين بالتبشير في المحطات مثل محطة ( منمد ) وهي نقطة مهمة تلتقي
فيها قطارات عديدة وتظهر الجمعية ارتياحها إلى علاقة المسلمين بالمبشرين في هذه
المقاطعة وإلى رواج مطبوعاتها التبشيرية . وللجمعية أيضًا معاهد تبشيرية في الهند
المتوسطة مثل مدينتي مدراس وحيدر آباد اختصت بالشئون الإسلامية ليس إلا .
وقد بدأت الجمعية بإرسال مبشريها منذ سنة 1817 إلى جزيرة ( سيلان )
التي اتسعت أعمالهم فيها ولهم أكثر من 200 معهد و326 مدرسة يدرس فيها 23
ألف تلميذ وجلّ ما يصبو إليه المبشرون هو التحكك بالمسلمين خصوصًا القاطنين
منهم في مقاطعة ( كندي ) وما جاورها لأن هؤلاء الأهالي يتظاهرون بالعداء
للمبشرين ولا يدَعون أولادهم يذهبون إلا إلى المدارس الخاصة التي أسسوها
لأنفسهم .
ولم تذكر الجمعية شيئًاَ عن المسلمين في الصين إلا أن مبشريها بلا شك
يعلقون على المسألة الإسلامية أهمية كما يتضح من مؤلف القسيس ( مارشال
برومهال ) بخصوص الإسلام في الصين ولهذه الجمعية في بلاد الصين 300
مدرسة وتبلغ ميزانية مبشريها 000 . 300 . 1 فرنك .
أما جمعية تبشير التوراة الطبية فتختص بالتبشير بين النساء المسلمات والهنديات
ويقوم مبشروها ومبشراتها بأكثر من 6000 زيارة في البيوت وتعني بتعليم 6000
شخص وتعالج 32 ألف امرأة ، وحسب هذه الجمعية أن تظهر احتياجها لتمطر
عليها النقود من كل حدب .
انتقلت بعد ذلك المجلة إلى الخوض في إرساليات التبشير الأمريكية فاستهلت
البحث بالجمعية التبشيرية الأمريكية التي يرجع عهدها إلى سنة 1810 ، وقد
اتسعت أعمال هذه الجمعية اتساعًا هائلاً حتى أنه بلغ عدد اللجان التي شكلتها من
الوطنيين في مناطق التبشير 568 اشترك فيها 73 ألف وطني يدفعون إلى هذه
الجمعية مبلغ 000 . 600 . 1 فرنك للقيام بنفقات الكنائس والمعاهد وتربية
أولادهم . ويبلغ عدد التلاميذ الذين يدرسون في مدارسها 70 ألف تلميذ . كما أن
لديها كثيرًا من النساء المبشرات يزداد عددهن من يوم إلى آخر . ومن جملة المبادئ
والأصول التي يروجها مبشرو هذه الجمعية أنهم عندما يهبطون إحدى المدن لأجل
التبشير يتركون الحرية التامة للذين يدخلون في مذهبهم في تأسيس وتشكيل كنائس
خاصة يدير الوطنيون أعمالها حتى يتسنى للوطنيين الاستقلال في أعمالهم إذا اتفق
أن المبشرين طردوا من البلاد . وازداد عدد المدارس العالية والابتدائية في بلاد
الدولة العثمانية والهند . ويهتم ذوو الشأن في هذه الجمعية بإيجاد مبلغ مليوني دولار
يرصد ربعها لسد نفقات مدارس التعليم ومدارس التبشير وتهتم هذه الجمعية في أمر
التبشير في البلاد العثمانية خصوصًا سوريا وفلسطين ؛ لأنها لا تغرب ترك البلاد
التي كانت مهبطًا للتوراة تحت سيطرة الإسلام[2] . الكنائس الشرقية الخاملة فيها في
هذه البلاد أربعة فروع ( الأول ) في البلاد الأوروبية العثمانية ومركزه ( سافوكو )
في بلغاريا والثاني في آسيا الصغرى ومركزه الآستانة ، والثالث في سوريا وله
مركزان في ( مرعش ) و ( عينتاب ) وفي الكردستان ومركزه ( خربوط ) وجل ما
يتوخاه مبشرو هذه الجمعية استمالة الكنائس الشرقية وتنصير المسلمين بالتدريج
وبالوسائط الفكرية والتعليمية ؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنه يتعذر تنصيرهم مباشرة .
أشارت هذه المجلة إلى التعضيد الذي يلاقيه المبشرون الأمريكيون من موثري
أمتهم ومتمولي بلادهم الذين يمدونهم بالأموال الطائلة . ثم أتت على ذكر حادثة
حصلت إبان انعقاد المؤتمر التبشيري المختلط في روشتر إذ انبرى المستر ألفريد
ميرلنغ الصيرفي والمثري الشهير في نيويورك وتقدم إلى الحاضرين قائلاً : ( إن
لدي أمرًا أريد أن أبسطه لديكم وهو أننا أصدقاء قديمون قد اجتمعنا هنا ورأينا أننا
كنا في ضلالة لأن السعي الوحيد وراء اقتناء الأصفر الرنان لا يأتي بفائدة أدبية ،
ولذلك يجب أن نعمل مجهوداتنا للتأثير على رجال الكنيسة وعلى الأغنياء الذين
يتمتع كل منهم بشيء من ثروة البلاد التي تربو على 107 مليارات
من الريالات ليستعملوا ثروتهم لأغراض سامية نبيلة ؛ لأن العالم كله في حاجة
شديدة ليسوع المسيح ؛ ولذا فإننا نقول للقائمين بأعمال جمعيات التبشير : سندرّ
عليكم أموالنا بمزيد الدقة ، فهل لكم أن تنضموا إلينا وأنتم في شرخ الشباب ؟
ضحوا حياتكم نظير ما نبذله لكم من الأموال ؛ لأننا نحن الآن في سن الشيخوخة
وأصبحت أيامنا معدودة . هل لكم أن توقفوا حياتكم على خدمة يسوع المسيح ؟ نحن
نريد جمعية تبشيرية لا يفصلها عن أعمالها غير الموت فلنبرم إذًا هذا العقد
بيننا ) .
ثم اجتمع متمولو أمريكا وأغنياؤها لأول مرة سنة 1906 بدعوة من أحد
أغنياء التجار في واشنطون وهو الذي انبهر بما قام به شبان التبشير في مؤتمرهم
في ناشفيل سنة 1906 فقرر هؤلاء المثرون تأليف لجنة منهم للتداول مع رساء كل
إرساليات التبشير الأمريكية في الأمور الآتية :
( 1 ) بذل المجهودات لأجل تربية المبشرين العلمانيين .
( 2 ) لتداول وإعمال الفكرة لرسم خطة تنصير العالم قاطبة في مدة 25
سنة .
( 3 ) تشكيل لجنة هامة مؤلفة من 60 عضوًا أو أكثر بأقرب ما يمكن لكي
تتعهد بزيارة مراكز إرساليات التبشير وتعمل التقارير عنها .
وقد كان من نتيجة هذا الاجتماع الذي أقامه المتمولون الأمريكيون رواج فكرة
التبشير وتأسيس لجان لهذا الغرض في كل أرجاء الولايات المتحدة ، وصار يرجع
أمرها إلى لجنة مركزية مؤلفة من مئة شخص منتشرين في الولايات المتحدة وبلاد
( كندا ) ثم أقيمت اجتماعات صغيرة في مئة وإحدى مدينة من أمهات مدن الولايات
المتحدة وكندا ، عقد على أثرها مؤتمر تبشيري وطني في ( كندا ) ومؤتمر ثانٍ في
( شيكاغو ) .
وهذه المجتمعات والمؤتمرات تقام في أفخم الفنادق فتعمل لها الولائم أثناء
انعقادها ، ويحضرها جماعة من المثرين الأمريكيين ويستعين كبار المبشرين بتلاوة
الإحصائيات والتقديرات المالية ليتسنى لهم استمالة الأغنياء واستنداء أكفهم , ومن
ذلك أن رئيس الحركة التبشيرية العلمانية تلا الإحصاء الآتي فقال : ( لو فرضنا أن
10 ملايين من المسيحيين تعهد كل واحد منهم أن يدفع عشرة ريالات في السنة في
سبيل التبشير ، وتعهد مليون من الأغنياء بأن يدفع كل واحد منهم 200 ريال في
السنة لهذا الغرض لكانت هذه المبالغ تسد نفقات كل جمعيات إرساليات التبشير , ثم
لو رأى البروتستانت الأمريكيون أن من الواجب عليهم أن ينصروا مئة مليون من
غير المسيحيين لاحتاجوا إلى 4000 مبشر و 0000 .2 شخص من الوطنيين
لمساعدتهم هذا إذا فرضنا أن كل 25 ألف من غير المسيحيين يفتقرون إلى مبشر
أمريكي واحد وخمسة من الوطنيين لمساعدته . وكل ما يتطلبه هؤلاء المبشرون من
النفقات يقدر بأربعة وعشرين مليون ريال ، ويمكن الحصول على هذا المبلغ إذا
اكتتب كل شخص من التابعين للكنيسة بمبلغ سنوي لا يتجاوز عشرين ريالاً ) .
وقد اعترض أحد المبشرين الألمانيين على الوسائل التي يستعين بها
المبشرون الأمريكيون فلم يحفلوا باعتراضه بل أيدوا أعمالهم وبرهنوا على أن هذه
الوسائل عززت إيراداتهم التي زادت سنة 1909 ما يقرب على ثلاثة ملايين ريال .
و قد حذت إرساليات التبشير النسائية حذوهم وطافت البلاد تستدرّ الأموال ، وأقامت
الاحتفالات الشائقة ، وتتوخى هذه الإرساليات النسائية تحسين أحوال المرأة الشرقية !
والتحبب إليها . وقد كان من نتيجة الأعمال التي قامت بها أن إيرادات هذه
الجمعيات زادت مبلغ مليون ريال أمريكي .
وقد أقام المبشرون الأمريكيون معرضًا عامًّا لإرساليات التبشير في
( بوسطون ) في إباحة الماكنات الواسعة افتتحه المستر ( تفت ) رئيس
الجمهورية في شهر إبريل من سنة 1911 واشترك في ترتيبب هذا المعرض
400 رئيس من رؤساء إرساليات التبشير المنتشرة وصور متحركة تمثل أعمال
المبشرين . وحاصل القول أنهم جمعوا في المعرض ملاهي عديدة وجعلوا أجرة
الدخول نصف ريال أمريكي وأخذت بلدان أخرى أيضًا تعد المعدات لفتح معارض
تبشيرية .
ثم جاء بعد ذلك ذكر إرساليات التبشير الألمانية التي امتازت فيها جمعية
إرساليات التبشير الشرقية الألمانية . وقد كانت هذه الجمعية التبشيرية جمعية
صغيرة متوسلة بالصلاة والدعاء لأجل تأسيس إرساليات تبشير في الشرق ، وذلك
عقيب مذابح الأرمن سنة 1895 أسسها القسيس ( لبسوس ) ثم دخلت هذه الجمعية
في دورها العملي إذ نشر مؤسسها منشورًا حماسيًا قال فيه :
( إن الشرق يدعو الغرب لشد أزره ، فجل ما نتوخاه أن نحرر الشرق
بواسطة السيد المسيح ، وتخلص الكنائس المسيحية من ظلم الإسلام ونفتح طريقًا
للسيد المسيح بإرجاع هذه الكنائس إلى سيرتها الأولى ؟ هلموا إلى قلب العالم
الإسلامي لنحرز فوز الصليب على الهلال ) ! وطفق بعد ذلك القسيس ( لبسوس )
يطوف في بلاد الأناضول وسوريا وينشر تقاريره عن حال الأرمن ، وتشكلت
لجان ألمانيا لمساعدتهم ، وأسس هو بعض محطات تبشيرية ، وانتهز فرصة
انتصار اليابانيين في حربهم الأخيرة ، وذهب إلى روسيا لأجل تنصير الروسيين
الذين يكرعون من المياه القذرة في الكنيسة الروسية ) وقد قال هذا القسيس : ( إن
الاهتمام في صيانة الكنيسة الشرقية لا يكفي للنهوض بالشرق بل يجب مناضلة
ومناوأة الإسلام عدو المسيحيين الشرقيين القديم ( ! )
وعلى أثر ذلك تحولت جمعية إسعافات الأرمن إلى جمعية التبشير الألمانية في
سنة 1900 وقال ( لبسوس ) : ( إنه لا تكفي المناوأة والمناضلة بل يجب شحذ
السلاح ) [3] وقد أدرك مبشرو هذه الجمعية مغزى أقوال رئيسهم وفهموا أن مناضلة
الإسلام بصورة جدية حقيقة تفتقر إلى الوقوف عليه تمامًا ، ولذلك باشروا طبع
ونشر المؤلفات المتعلقة بالإسلام وأصوله بين العالم المسيحي ، ورأوا من الواجب
الاقتداء بإرساليات التبشير الأخرى وذلك بترجمة الكتب الدينية إلى اللغات الإسلامية
وتأسيس مدارس للمبشرين واتخاذ التدابير لصيانة المسلمين المتنصرين من تعدي
بني جلدتهم ، وقد تمكنت هذه الجمعية من إخراج خطتها إلى حيز الفعل بفضل
القسيس ( أفاتارنيان ) المولوى الذي اعتنق النصرانية بعد أن قرأ الإنجيل ثم قام
بالتبشير في البلاد البلغارية وأنشأ مجلة ( شاهد الحقائق ) فأفعمها بالمقالات
التبشيرية ونشر مجلة أخرى سماها ( كونش ) أي : الشمس ، ويعني بهذا الاسم أنه
يرغَب في بث الأفكار الدينية المسيحية بين المسلمين ، وقد انتشرت المجلة في
البلاد العثمانية والبلغارية ، وكانت تلاقي بعض الأوقات معارضات شديدة .
ومما قاله رئيس إرساليات التبشير الألمانية في تقريره عن أعمالها ( أن نار
الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية ولا في مستعمراتنا في آسيا
أو أفريقيا بل ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها قوته وينتشر سواء كان
في أفريقيا أو آسيا ، وبما أن كل الشعوب الإسلامية تولي وجوهها نحو الآستانة
عاصمة الخلافة فإن كل المجهودات التي نبذلها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى
قضاء لبانتنا فيها ، ويجب أن يكون جُل ما تتوخاه جمعية إرساليات التبشير الألمانية
هو بذل مجهوداتها نحو هذه العاصمة وهي قلب العالم الإسلامي[4] ).
وقد نشرت مجلة الشرق المسيحي والتبشير الإسلامي الألمانية التي هي لسان
حال جمعية إرساليات التبشير الألمانية مقالة بخصوص تعيين الدكتور ( ريتشر )
رئيسًا لهذه الجمعية ومما قالته : ( أن أهمية أعمال التبشير بين المسلمين تزداد يومًا
بعد يوم وتستغرق أكثر مجهودات ووسائل المبشرين الألمانيين حتى أن الجمعية
اضطرت عقيب تأسيس المدرسة التبشيرية لدرس الإسلام وأصوله ومبادئه في
( بوتسدام ) أن تترك الحرية التامة لرئيسها ريثما يتخصص للتبشير بين المسلمين ) .
وقد فتحت هذه المدرسة سنة 1909 والقصد منها تربية المبشرين وإطْلاعهم
على الأمور الإسلامية والمؤلفات الدينية ؛ لأنه رغمًا من اطِّلاع المستشرقين
الألمانيين وطول باعهم في المؤلفات الإسلامية فإن التعاليم والعقائد التي تُلقى في
المساجد والمعاهد الإسلامية لم تزل خافية علينا ، وقد منح الله الجمعية التبشيرية
بأستاذين علامتين اعتنقا الدين المسيحي يقومان بالتدريس في هذه المدرسة وهما
بمثابة سيل طامي صب على الدين المسيحي الحي القوتين الإسلاميتين اللتين هما
الشريعة والصوفية ، واسم الأستاذ الأول المدرس نسيمي أفندي الذي ينتمي إلى
عائلة إسلامية عريقة سبق لأحد أعضائها تقلد منصب المشيخة الإسلامية . واسم
الثاني الشيخ أحمد الكشاف [5] شيخ طريقة صوفية وانضم إليهما القسيس
( أفاتارنيان ) الآنف الذكر الذي كان اسمه محمد شكري أفندي وهؤلاء الثلاثة
يدرسون التفسير والتعاليم الصوفية واللغة العربية والفارسية والتركية ودروس
تاريخية إسلامية لتلاميذ مدرسة ( بوتسدم ) , وتبلغ ميزانية جمعية إرساليات
التبشير الألمانية 186 ألف مارك .
***
نوايا المبشرين وآمالهم في المستقبل
لا تكتفي إرساليات التبشير بالنظامات والأوضاع التي أخرجتها إلى حيز الفعل
بمزيد الدقة والنشاط وإجهادها النفس لتتوحيد أصولها وأوجهها ، بل هي تعد
المعدات لتوسيع دائرة أعمالها ليتسنى لها شن الغارة على الأراضي الإسلامية المقفلة
في وجهها أو هي تتحفز لمنازعة الإسلام على البلاد التي ترسخ قدمه فيها .
و قد ظهر في عالم المطبوعات مؤلفان يتعلقان بالغارات التبشيرية في المستقبل
والحظ الذي سيكون للشبان المنورين منه . أحدهما للقسيس زويمر الذي يوجه تأليفه
إلى الطلبة . ويذكر لهم الأقاليم الخالية من المبشري . والآخر بقلم المستر ( غردنر )
السكرتير العام لجمعية الطلبة المسيحيين وهو بخصوص الأعمال التبشيرية في
أفريقيا الجنوبية ، وقد كانت فكرة هذين المؤلفين منطبقة على قرار مؤتمر ( أوبورغ )
التبشيري الذي جاء فيه أن القسم الأعظم من العالم الإسلامي خال من التبشير
المسيحي وأشير إلى الأقاليم الإسلامية الخالية من التبشير في أفريقيا وآسيا وإلى
ضرورة اكتساحها .
وقد أشار ( زويمر ) في القسم الأول من كتابه إلى البلاد الإسلامية الخالية من
المبشرين مثل الأفغانستان وعدد سكانها 4 ملايين مسلم والعشرين مليونًا من
المسلمين القاطنين في ( بخارى ) و ( خيوة ) ( وتركستان الروسية ) وكلها لا يوجد
فيها مبشر برتستاني واحد ، وهناك بلاد أخرى لا تخلو من المبشرين إلا أن
مجهوداتهم غير كافية لقضاء لبانتهم ، وقال : إن أهالي تركستان الصينية يظهرون
مزيد الحفاوة بالمبشرين وهم أقل تعصبًا من سكان البلاد الإسلامية الأخرى ! ولفت
الأنظار إلى أنه لا يشغل الطريق التي توصل الهند والتركستان الروسية وتجتاز
جبل ( كركوروم ) إلا بعض مبشرين متنقلين من جمعية التوراة التبشيرية مع أن
هذه السكة يمر بها المسلمون الصينيون الذين يتوجهون إلى مكة لأداء فريضة الحج
أما الوثنيون في سيبرية فإنهم يميلون بسهولة إلى اعتناق الدين الإسلامي ، ولا يوجد
بين مسلمي الهند الصينية الفرنسية الذين يبلغون 000 . 232 سوى إرسالية
تبشيرية بروتستانية واحدة . ثم جاء بعد ذلك ذكر البلاد العربية فقال : إن جزيرة
العرب التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية . أما المبشرون القاطنون
حول عدن والشاطئ الشرقي منها فلا يشغلون إلا أربع نقط تبشيرية . ووجودهم لم
يمنع جزيرة ( سكوتارة ) التي كانت في سالف أيامها مسيحية - أن تصبح إسلامية
محضة , والمؤلف يعلل النفس بأن السكة الحديدية الحجازية التي تربط دمشق بمكة
والمدينة ستمهد للمبشرين سبيل نشر الإنجيل باللغة العربية التي هي أكثر اللغات
الإسلامية انتشارًا . والقسم الوحيد من البلاد العربية الذي تكون فيه حركة تبشيرية
واقعية هو القسم الواقع بين ولايتي بغداد والبصرة إذ توجد فيه محطتان هامتان
للتبشير وثلاث محطات مساعدة لها ، وقبل أن ينتهي المؤلف من البحث في القارة
الآسيوية أشار إلى جزر ملازيه وتساءل عما إذا كانت هذه الجزر تبقى في قبضة
الإسلام أم لا ؟ وقال : إنه دخل في الحظيرة المسيحية 47 . 729 شخصًا من
( البتاكس ) القاطنيين في غرب ( صومترة ) إلا أن الإسلام يتوطد في جزيرة
( بورنيو ) ويتوغل في كل الجزر الأخرى - عدا ( بالي ) - وينتشر في المستقلة إلا
أنهم يتحاشون التحكك بالإسلام مع أنهم لا يلاقون أمامهم الصعاب التي يلاقيها
المبشرون المنتشرون في البلاد العربية والفارسية . والمبشرون في الصين والهند
قليلون جدًّا وهم لا يهتمون بالمسلمين !
ثم انتقل ( زويمر ) إلى قارة أفريقيا فقال : إنه يوجد في أواسط أفريقيا مجال
فسيح للتبشير وأقاليم واسعة الأرجاء واقعة على مسافة مئة ميل من الشاطئ يربو
عدد سكانها عن خمسين مليونًا لم تنتشر فيها الآيات الإنجيلية ، والإسلام يتقدم
وينتشر بهدوء ونظام في أفريقيا ونيجيريا بين القبائل الوثنية لأن الحكومة الإنكليزية
تمنع تبشير المسلمين وتحظر على المبشرين المسيحيين ولوج الأقاليم التي يتوغل
فيها الإسلام ، أما طرابلس الغرب وتونس والجزائر فليس فيها سوى أربع
محطات تبشيرية .
وقد خص ( زويمر ) القسم الثاني من مؤلفه بالبحث في الأمور الاجتماعية التي
تتعلق بالأعمال التبشيرية فقال : إن أكبر حجة كان المبشرون يدعمون بها أعمالهم
التبشيرية منذ مئة سنة كانت لاهوتية دينية محضة ، أما الآن فقد أصبحت أعمالهم
مشفوعة بأسباب اجتماعية . وكان ينظر في سابق الأيام إلى المبشرين نظر قوم
يشنون حربًا صليبية ترمي إلى التنصير فقط فتحولت الأفكار ، وصارت الأعمال
التبشيرية تشف عن فكرة الإصلاح الاجتماعي وعن رفع شأن الشعوب غير
المسيحية ؛ لأن احتلال الأقاليم الخالية من المبشرين ناشئ عن أحوال هذه البلاد
الاجتماعية المحرومة من يسوع المسيح . والتي هي بالتالي خالية من كل بارقة أمل
وأتى القسيس ( زويمر ) على ذكر الأوصاب الاجتماعية التي تلم بالشعوب
الإسلامية وأشار إلى المتاجرة بالرقيق والنسوة الملازمة لهذه التجارة ، وقال : إنها
ليست في خبر كان ، بل هي ما زالت منتشرة في البلاد العربية والأفريقية حيث
توجد أسواق لهذا الغرض تحميها الشرائع الإسلامية القرآنية بالرغم من
الأوروبيين .
ثم ذكر بعد ذلك أسباب الانحطاط الاقتصادي في شبه جزيرة العرب ومنغوليا
وأفغانستان ، والغزوات والغارات التي يشتعل لظاها بين القبائل العربية في
الصومال وأفريقيا الوثنية ، والفقر المدقع المنتشر في بعض الجهات . وقال : إن
تمادي الاعتقاد بالتمائم وتأثيرها يؤخر أحوال الشعوب الإسلامية ويزيد في شقائها .
وختم هذا الباب من كتابه بقوله : إن الخطة الفاسدة الخطرة التي تقضي ببث
مبادئ المدنية مباشرة ، ثم نشر المسيحية ثانيًا عقيمة لا فائدة تُرجى منها ؛ لأن
إدخال الحضارة والمدنية قبل إدخال المسيحية أمر لا تحمد مغبَّته بل تنجم عنه
مساوئ كثيرة تفوق المساوئ التي كانت قبلاً !
وأشار في القسم الأخير إلى المزايا والسجايا العقلية التي يجب على المبشرين
أن يتذرعوا بها وقال : إن المشايخ والرؤساء الروحيين في ( بلوجتستان )
وأفغانستان غير قائمين بوظائفهم وهم على شاكلة الرؤساء الروحيين المنتمين
للأديان غير المسيحية ! ثم بين أهمية الأقاليم الخالية من المبشرين ، وأفاض في
شرح الوسائل للتحكك بالشعوب غير المسيحية وجلبها إلى حظيرة المسيح وتناقش
طويلاً في الخطط والأصول التي يجدر اتباعها ونهض همة المبشرين بخطاب وجيز
اختتم به كتابه الذي سماه ( مجلد المحال ) .
أما كتاب المستر ( غردنر ) فيقع في 212 صفحة مزينًا بصور فوتوغرافية
للمساجد والمعاهد الإسلامية المنتشرة في جنوب أفريقيا ومدغشقر - وضعها
السكرتير العام لجمعية الطلبة المسيحيين عمدًا ليلفت الأنظار إلى التقدم السريع الذي
يتجه نحوه الإسلام في هذه الأقاليم نظرًا لأمور سياسية واقتصادية ، وهذا السفر
أشبه باستصراخ وإعلان حرب ، ويحوي كيفية وأدوار نِزال عِراك ستدور رحاه
بين الإسلام وحاملي لواء التنصير في أفريقيا الجنوبية !
وقد تساءل المؤلف عن إمكان تنصير سكان البلاد الأصليين ، وانتقد أقوال
الدكتور ( رهربك ) القائل ( أنه يتعذر عل الوطني أن يتأثر بنفوذ المسيحية - هذه
العقيدة الخاصة بالأجناس الراقية ! واستصوب أن يعتبروا في بادئ الأمر داخلين
تحت حماية المسيحية ، وأتى على براهين تنافي أقوال الدكتور وأشار إلى
المتنصرين في كوريا وأواسط أفريقيا ، وقال : إنه في الإمكان تنصير الوطنيين
ببث مبادئ المذهب البروتستانتي .
ثم قال : إن أفريقيا الجنوبية تنتظر حركة دينية فيخلق بالمبشرون أن يسرعوا
بأعمالهم ويبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر إذا كانوا لا يودون أن ينتشر الإسلام
في هذه البلاد وترسخ أقدامه .
وأشار إلى قول الأُسْقُف : ( هرتزل ) الذي أفاض في مزايا ومحاسن السكة
الحديدية التي تربط القاهرة ببلاد الكاب ، وقال : غير أن هذا الخط الحديدي يجعل
القاهرة محجًّا للمسلمين المنتشرين من جنوب أفريقيا إلى شمالها فيجب نشر التبشير
حينئذ من الكاب إلى القاهرة . ويقول : إن من سداد الرأي منع جامعة الأزهر أن
تنشر الطلبة المتخرجين منها في جنوب أفريقيا اتباعًا لقرار مؤتمر التبشير العام .
لأن الإسلام ينمو بلا انقطاع في كل أفريقيا ؟ !
وأشار أيضًا إلى جمعية النهضة السياسية الأفريقية التي يرأسها الدكتور عبد
الرحمن وهذه الجمعية تضم إليها كثيرًا من الأجناس والعناصر وهي برهان على
النهضة التي دبت روحها بين الوطنيين ، ولهذه الجمعية جريدة هي لسان حالها
تنشر بالإنكليزية والهولندية ، وهي تبحث في صوالح الوطنيين وتحمل الحملات
الشديدة في بعض الأوقات على الكنيسة الهولندية وعلى الحكومة . وقد قالت منذ
مدة : لقد أزِف الوقت الذي يجدر بالوطنيين أن يقولوا للجنس الأبيض : ( إن الدين
المسيحي الذي يفتخرون به يباين وينافي تعاليم المسيح ) . وتهتم هذه الجريدة بنفخ
روح النشاط بين السود لتستميلهم إلى اقتناء العقارات والاعتماد على أنفسهم فعلى
المبشرين أن يحوِّلوا أنظارهم نحو الأعمال والحركات السياسية والاقتصادية .
وقد أفاض صاحب التأليف في وصف فرق إرساليات التبشير المنتشرة في
أفريقيا الجنوبية وكيفية اتفاقها وأصول تعاليمها والوسائل التي يجدر اتخاذها للمّ
شَعْث إرساليات التبشير وجعلها كتلة واحدة أمام البحر الإسلامي الطامي ، وقال :
إن حظ هذه البلاد من المبشرين أكثر بكثير من حظ البلاد الأخرى ؛ لأن نصف
المبشرين الذين قصدوا أفريقيا للتبشير بين المئة والخمسين المليون من الوثنيين
موجودون في أفريقيا الجنوبية ليبشروا بين ظهراني ستة ملايين من السكان فيكون
حظ كل مبشر 1300 من الوطنيين بينما حظ المبشر في الجهات الأخرى يبلغ
21400 وطني واختتم كتابه بذكر أسماء جمعيات التبشير ولجانها وما أسسته من
المعاهد .
( يتلى )
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 667 .
(1) كأن هذا الملك لم يطق المقام في بلد امتلأ بالرحمة والوداعة وحب الأعداء ومباركة اللاعنين .
(2) هؤلاء هم رسل السلام الممتثلين قول السيد المسيح وأمره بأن يعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله وقول (الرسول) إن كل سلطة منحدرة من العلو ، وإن صاحب السلطة لم يعط السلطة عبثًا ، فمقاوم السلطة مقاوم لله ، وهؤلاء هم المنتهون بنهي المسيح بأن لا يدخلوا أبدًا ولا دارًا إلا بعد الإذن من صاحب الدار وأهل البلد وهم يدعون أنهم يرغبون إدخال المسلمين وغيرهم إلى حظيرة لم يدخلوها ، أفليسوا هم الذئاب في ثياب الحُمٍْلان ودعاة سياسة تستروا بجلباب الدين ؟ اللهم نعم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا .
(3) أين قول هذا القسيس من قول المسيح : ضع سيفك في غمده ، من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ .
(4) هؤلاء هم أنصار الإسلام الذين كان يستصرخهم مجانين الاتحاد وفي مقدمتهم شيخ الضلال عبيد الله وقت شن الغارة على إيران الإسلامية
... ... ... ... ... ... ... صالح.
(5) نسيمي أفندي والشيخ أحمد كشاف من قراء المنار ، فلو بينا حقيقة هذه التهمة نفيًا أو إثباتًا فإننا نكون لهما من الشاكرين .
(15/764)
 
شوال - 1330هـ
أكتوبر - 1912م​
( مجلة العالم الإسلامي والمنار )
( ومسألة الغارة على العالم الإسلامي )
لما علمت أن مجلة العالم الإسلامي الفرنسية قد خصصت جزء شهر نوفمبر
سنة 1911 من أجزائها للبحث في مستقبل الإسلام وغارة المسيحية عليه أحببت أن
يترجم ما كتبته بالعربية وينشر في المنار وغيره من صحفنا ليستفيد المسلمون من
هذا البحث المستفيض في شئونهم الذي تعجز صحفهم عن مثله من تلقاء أنفسها ،
فعهدت إلى صديقي مساعد أفندي اليافي بأن يشتري ذلك الجزء ويترجمه فلم يجده
عند باعة الصحف الإفرنجية فعهد إلى بعضهم باستحضاره من أوروبا وسافرت إلى
الهند قبل أن يصل ، فأوصيته بأن يترجمه عند وصوله لينشر في جريدة المؤيد
( وهو الآن محرر ومترجم فيها ) ثم المنار وكان الأمر كذلك . وإنني كنت ولا أزال
عازماً على التعليق على هذا البحث بعد إتمام نشره في المنار . وقد رأيت بعض ما
نشر من البحث متفرقاً وأنا في سياحتي في الهند والعراق وسورية .
عدت إلى القاهرة في اليوم التاسع عشر من هذا الشهر ( الموافق أول أكتوبر )
وكنت لم أطلع على الجزء التاسع من منار هذا العام فلما اطلعت عليه وجدت فيه
مقالة تُرجمت عن مجلة العالم الإسلامي في الانتقاد على المنار والمؤيد والاتحاد
العثماني . ورأيت ذيلاً للمقالة عن لسان المنار هذا نصه : ( موعدنا الجزء الآتي
للرد على ما جاء في مقال مجلة العالم الإسلامي ) وهذا الذيل قد وضعه أخي السيد
صالح وكيل إدارة المنار ، وهو الذي كتب أولاً أن مجلة العالم الإسلامي ظهرت
بمظهر جديد بعد احتلال فرنسة لمراكش ودخول بلاد فارس تحت النفوذ الروسي
الإنكليزي واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب .
إنني كنت عند سفري جعلت أخي السيد صالحاً وكيلاً للمنار ، ولكنني لم آذن
له أن يكتب شيئًا باسم المنار ، ولذلك كان يذيل ما كتبه باسمه حتى الهامش الذي
وضعه في أول نبذة من ترجمة مقالة مجلة العالم الإسلامي وغيره ، ولكنه بلسان
المنار وَعَدَ بالرد على مقالة هذه المجلة في الانتقاد على المنار وغيره لحسبانه أنني
سأصل إلى القاهرة قبل إتمام هذا الجزء وأنني سأكتب الرد الذي وعدت به .
فعُلم من هذا أن تلك المجلة الراقية قد استعجلت بالرد على المنار فإنه لما يبيّن
رأيه في مسألة الغارة على العالم الإسلامي ، كما استعجلت في الحكم على مدرسة
دار الدعوة والإرشاد والمقابلة بينها وبين الجامعة المصرية ، وسيظهر لها خطؤها
في الأمرين ، وإن كنا نعترف لها من الآن بصحة ما قالته من أن العالم الإسلامي
أغير عليه وسلبته أوروبة استقلاله ( وقد يكون مع المستعجل الزلل ) .
(15/790)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

المحرم - 1331هـ
يناير - 1913م

عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
[*]
( 1 )
( مقدمة وتمهيد )
من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول ،
ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي ، فهذا يفترض حوادث الزمن ،
وذاك يرتقب سوانح النكت ، ليحل كلامهما محل القبول ، ويصيب مواقع
الاستحسان من القلوب ، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم .
ومن الناس من يكتب لأجل النفع ، بإزالة باطل أو إظهار حق ، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر ، فهو يتخول الناس بالموعظة ، ويتخونهم بالكشف
عن مكامن العبرة .
ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة .
تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت
نار الحرب في طرابلس الغرب و برقة ، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب ،
وهي أدهى وأمرّ ، وأنكى وأضر ؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في
شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها ، أي أنها فتح لباب المسألة
الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة ، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين
من هذه الدولة ، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم ،
واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم ، ولم يرضوا أن تبقى
مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام ، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في
الكلام ، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام ، وكان من ضررهم ما كان ، فكيف
بحال أمثالهم في عاصمة الدولة ، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء .
إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع ، وما اكتفيت في أيام هذه
الحرب بما كتبت في المنار ، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية -
وأولاها بما أكتب في هذه الحال : المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا
تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال . وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ
لصوتهم كل صوت ، وقصر عن قولهم كل قول ، وتضاءل دون سعيهم كل
سعي ، جزاهم الله أفضل الجزاء ، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم
أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب
إلا بيان ما فيها من العبر ، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات
من النتائج ، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها ، لئلا يقال : إنه
ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها ، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في
المنار .
أما وقد عقدت الهدنة ، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح ، وقد
ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا ، وعلم الخاص والعام ،
أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان ، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن
ينفع فيه القول ، ويخشى أن يضر السكوت ، وترجح المقتضي على المانع .
قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق
ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم ، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها
بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم ، فقد كان زعماء الحزب الوطني
هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين
والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام
ثلاثا فأوجب على من يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ،
أن يثلث فيقول : وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله . ولولا هذا
التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك . ومنه إلى لقب باشا ، وما زالت
جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة
مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد ؛ إذ كتب فيها يوم
الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به
هدم الدولة ، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة .
فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون
في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس ، وأفسدوا كثيرًا من ضباط
الجيش ، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو
اسمها من لوح الوجود ، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون
هؤلاء المتغلبين المخربين ، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد ،
وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم ،
بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل ، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة
مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا ، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها
لشملهم ، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق ، وقلم يكتب وينشر ، لم يخجلوا من
الاستمرار على التمويه والتضليل ، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها
باقيًا ، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً ، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد ،
الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام
المضللة .
نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق
والمبطل ، والصادق والكاذب ، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله
أوجب النصح وبيان الحق ، وحرم القنوط واليأس ، وجعل العاقبة للمتقين .
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
(جمعية الاتحاد والترقي)
إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري ، وقد
بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة ، رأيت من زعمائها وسمعت من
ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم ، ما لا يتفق مثله إلا لقليل
من الناس ، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما
علمته عنهم ، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث ، وأستخرج العبرة منه
ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها ،
وما هو الخطر الذي ينذرها ، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب
لحفظ سلطة الإسلام ، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله .
أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي
يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن ؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم ،
إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها ؛ لأنه مقصد غريب في نفسه .
... ... ... ... أعمال الاتحاديين
التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب
(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)
أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال ، بعد ما عنوا به من
جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة .
حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين
وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن
تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة ، ثم تجرد جيشًا آخر أو
جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير ، وعشائرهم وعشائر الدروز في
حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق ، وتجمع السلاح من الجميع ، وسأذكر ما قرر
في شأن طرابلس بعد ، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع
السلاح منهم ، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من
المسلمين ، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع .
قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في
عواقبه ، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من
القوة الذاتية ، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها
من أوربة بالربا الفاحش ، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة
وحفظ سلطانها ، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن ، وتفرق عناصر الدولة
وانحلال روابطها .
بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب
جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح
والسلم فلم يقبلوا ، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا
إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة ، ومن غرائب صنعهم أن
جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم ، ولكنهم
أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى ، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم ،
وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم
على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها ، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار
وغيرهم ، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا .
ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير ، وفي الكرك وحوران ، فقد جردوا لقتال
المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية
أو أحسنها على الإطلاق ، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما
كانت . ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في
مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا ، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد
اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر ؛ لأن
الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا ، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم
لرجحت الدولة على البلقانيين بهم .
والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح
دولتها فيها ، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها ،
وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا
تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها ،
ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول ، بل يجب أن
تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها ، ومن قبائل العرب
والعشائر الوطنية والمجاورة ، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا
كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي ؛ لأن قتالهم يكون
بالمطاولة لا بالمناجزة ، فالخسارة فيه عظيمة ، وإنما هؤلاء الأجانب تجار
يطلبون الربح من أقرب طرقه ، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في
الاستعمار كإنكلترة وفرنسة .
ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب ، بل أظن أن
البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر
بتخاذلنا وإهمالنا ، وأنها لا تعود إلى مثله .
ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون ، وظهر أنه كان
الواجب المحتم أن يعملوا ضده ، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً
أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها ، فهل يعتبر الناس بهذا
ويسعون للواجب من جميع الطرق ، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه ،
هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم ؟
كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على
التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط ، وإن ظهر أن ذلك
كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة ، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى ،
وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين
فروا في هذه الأيام إلى أوربة :
كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة
يقول : إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو
رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر
المالية في أهم وزاراته ، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار
الجيش العثماني وخذلانه في البلقان ، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص
الجيش وفي معداته ما خلاصته :
( إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات
الأربع الماضية ، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط
ومحاربتنا لتلك البلاد ، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم
يطلعوا على الترتيبات ) .
فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية
بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة ، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم
للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها ،
أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة ؟
أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي
تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها ؟ ألا فليعتبر المعتبرون ،
أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون .
(2)
تهييج عصبية العناصر العثمانية
كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها
أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك
وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها ، وأن
هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران ، وما يتوصل به
إليه من العلوم والفنون . فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم
وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم ، ظهر للباحثين ، والمطلعين من
العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم
في الترك ، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا .
كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها ،
ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ومن أوسع ما كتبناه في
ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها : الجنسيات العثمانية واللغات
التركية والعربية ، نشرت في منار رجب سنة 1327 أي بعد الدستور بسنة
واحدة ، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في
جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً ، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن
تجعل غير الترك فيها تركًا ، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا
دينًا ، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية ،
وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها ، ولكن زعماء الجمعية
المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال .
لا عجب ولا غرابة في الأمر ، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك
المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع
العثمانيين لهم ، وتقديسهم لجمعيتهم ، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم ، ومن سكر
الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني ، وإن كان المستحق
لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم ، ولكن العجب والغرابة
في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب ، وأعجبه
وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم
وإزالة جنسياتهم ، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين
الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون
الخلافة في قريش والأئمة منهم ، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم .
وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع
في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب
جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها ، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية
إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه
الفتنة في لوائه ، في أول العهد بإنشائه ، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن
بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم .
وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار
فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا ( كما أنكر
المؤيد عليه ذلك مرارًا ) .
فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا
نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من
الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس ، ولكن رأينا زعماء
جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها
جذعةً ، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى
الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة ، ولم يشموا في بلادهم
أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية ، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن
سعود ، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي ، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا
ما عند هؤلاء ، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق
يثنون عليهم ويدافعون عنهم ، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء ،
بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية ، وأصغوا إلى
المرجفين بالخلافة العربية ، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم ، إذ
رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم ، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز
شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في
جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .
ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل ،
لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة ، بل طعن في جميع مسلمي
العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا
من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب ، وإنما يخشى عليها من مسلمي
العرب خاصة .
ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها ، وجعلته من دعاتها
وأعوانها ، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من
مال الحكومة زهاء 350 جنيها عثمانيًّا في كل شهر .
ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف ؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت
عرب اليمن ، ونكلت بعرب حوران والكرك ، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس
الغرب لنيران إيطالية ، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا
على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها . وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم
اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة
والمساعدة التامة لها ، وهي في أحرج مواقفها ، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من
الناس لا يفقهون ولا يعتبرون ، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين .
نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا
حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم ، إلا أنها أثرت شر تأثير ،
وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل
الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة
الاتحادية ، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية
الاجتماع وغير ذلك .
يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً ، ومن
إصلاح الدولة ثانيًا ، ومن بقائها ثالثًا ، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا
جديدًا . ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم
وحفظ سلطة الإسلام في الأرض ، بل ظل لسان حالهم يقول : إن بقيت الدولة نعيش
معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا ، وإن ماتت نموت معها ، ولا خير لنا في الحياة
بعدها .
وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد
أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في
روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة 1328 وكنت حضرت هذا الاستعراض
في خيمة المبعوثين ، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث
العربي الاتحادي : متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا ؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة
نار وقعت في قلبي ؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في
الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم ، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن
جيش الدولة ليس جيشًا لنا ، وإنما هو الغالب علينا .
هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال : إذا كان هذا هو اعتقاد هذا
المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها ؟ وعندي جواب هذا السؤال ؛ فإني كنت ألقيته
عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية ، فقال : اسكت إنني علمت أن
زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم
فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك ، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا
إياهم .
هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك
العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة ، وقد ظهر صدق
إخلاصهم لها بالبرهان والعيان .
وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب ، وهل يخفى
على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب . وأما تأثيره في نصارى أوروبة
العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين ، فهو الذي أوقد نار هذه
الحرب ، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون
حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم ، وما كان أغناهم عن ذلك .
كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل
البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها ،
وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها ، وما
كان من حجتهم إلا أن قالوا : إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية
لطلب مثله لأنفسهم ، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك
بمثل ما نرضى به وبدونه ، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي
يحملوننا على السكوت عن طلبها ، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان
إلا بها ، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة ، واتصال كل شعب
منها بالدولة التي هو من جنسها .
بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية
الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة
النيابية .
ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن ، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت
الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس
وللدول التي تنتصر لهم .
وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم
عندها ؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة ، فكان غرورها هذا مهيجًا
لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية
نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها ، وأحدثت مفاسد أخرى
أضعفت قوتيها : المادية والمعنوية ، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى ،
وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرناها أولاً في المؤيد .
(1) هكذا في الأصل والمقصود الكتابة .
(16/54)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

فبراير - 1913م

عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية

( 3 )
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
محاربة الاتحاديين للدين
من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان ، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن
القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية ، وأن الدين هو أعظم
القوى المعنوية أثرًا ، وأشدها على المخالف خطرًا ، وأن الفريقين المتحاربين
إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة ، وذخيرة وعدة ، وتفاوتا
في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة ، فإن أقواهما إيمانًا
وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر . وقد صرحت
الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على
الإنكليز في حرب الترنسفال ، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار .
وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه
الله تعالى من ( وقائع بسمارك ) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو
(بوش ) قال : غطاء المائدة فقال لأصحابه : كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا
فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق
قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة ، ذلك لما استكن
في الضمائر من بقايا الإيمان . ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه
وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه .
فقال بعض المرتابين : أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم
تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور
ووجدان ، هو بوادر تسبق الفكر ، هو ميل في النفس ، وهوًى فيها كأنه غريزة
لها ، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل ، وأضلوا ذلك الوجدان ، هل تعلمون أنني
لا أفهم كيف يعيش قوم ، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من
الواجبات ، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم
إيمان بدين جاء به وحي سماوي . واعتقاد بإله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه
الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟
بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه
بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة
الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب
الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع . والوظائف والرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظره . وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع ،
ومما قاله : ( اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني ) ومنه : إن لم
أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها
تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي ؟
ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار ( ص 846 م1 من
الطبعة الثانية ) .
وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن
بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة ، والظهور
بالمحافظة عليه معرة ، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه
ليس نقصًا في الفكر ، ولا ضلة عن صحيح العلم ، ولا عيبًا في الرئاسة ، ولا
ضعفًا في السياسة .
وقال بعده : هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان
يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه ، وأن الإيمان بالله
والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه
مُفَاخِر ، ولم يكثره مكاثر .
أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في
السياسة ، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني ؛ لأنه
بني على صخر الإيمان ، وبنوا على رمل الإلحاد .
لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف
صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول
لها . لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد
الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين ، على
حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين ، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين ،
فقال لي : تعال احكم بيني وبين البك . قلت : ما خطبكما ؟ قال : إن البك يقول :
إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا
وعصرنا العلماء عصرًا ، نمحقهم به محقًا ، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة .
وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة ، الفنون
الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا . وأما الأمور
المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه . فقال : يجب أن
نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي .
لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في
هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل
هذا الرجل ، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة
والخلاف بين المتعلمين ، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود
على القديم ، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث ، أي
كفطين أفندي ، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له
هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه .
جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا ، ولكن قلما
يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله . وقد سمعت منه ومن غيره منهم
وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو
13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس
وما الذي ظهر بقليل ، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من
التطويل .
كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون
والمرتابون في خاصة أنفسهم ، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم . فإذا
جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي . فلما دالت
الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم
من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في
أوقاتها ، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها .
أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا ، وآخرون بخبر آخر أضر منه في
الجيش ، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين
من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل
والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية
نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في
المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية . وقد أخرجوا بعض المتخرجين في
المكتب الحربي بعلل أخرى ، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى
الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في
إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به
جيشها طائفة من الضباط ، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث
والأغرار ، أي الذين لا تجربة لهم .
وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات
والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا ، ويبقوا من أحبوا ، ليعلم كل فرد من
أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان
عليه ، فيكون طوع يدها ، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه
قانونها على كل منتمٍ إليها ، وهو اثنان في المائة من جميع دخله ( إيراده ) وقد
كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة
تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين . وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من
الذين أخرجوهم ، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما
يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة .
إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو
المرتشين في دينهم ، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من
الدين ، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات
أنه قال : لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم - لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها . ومن لم
يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة ، فكانوا لا يقبلون
ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية ، وهذا وذاك أهم الأسباب التي
حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها ، بعد أن
عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد . وكان محمود شوكت باشا جاراه
بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في
خطبة له في نظارة الحربية ، وخطبة أخرى في أدرنة ، كنت من المعجبين
بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة ، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع ، ثم ظهر
لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة
الحربية ، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه ،
أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى
توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في
بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.
مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من
الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو
فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه ، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على
النحو الذي يحب ، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت
آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق ، وقصفت الرعود ،
وانهمر الصيب الهتون ، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت .
إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية ، بما يهدمون
من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية ، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني
مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال ، وبلائه في معارك
القتال ، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني ، ليخلقوا بها
شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني ، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي
جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري ، فإن هذا الحزب يفخر
دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني ، وهذا الشعور
هو الذي يخرج الإنكليز من القطر ، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم
يتولوا أمرًا من أمور البلاد ، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة
ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة .
شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين
لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه
الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا
منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله
حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر .
وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن
أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة ، وقد بينا أن
هاتين المفسدتين متلازمتان ، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم
السياسي ، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة ؛
لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة . وقد كانوا يظنون
عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات
بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب ، غرورًا بما كان من خضوعهم
لعبد الحميد ، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء
باسم الدين ، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون ، كانوا قد
استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم ،
قلوهم وهجروهم ، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من
كيدهم ، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة
حالهم ، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم ، لأنهم لم يعرفوا
أحدًا منهم إلا بعد حادثة ( 31 مارس - 13 أبريل ) التي صاروا بعدها
يحسبون للدين ورجاله حسابًا ، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في
الشعب التركي ، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن
الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده ،
قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه . وأنه لابد
أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء ، قلت له : أنا أضمن استحسان جميع
العلماء له وتمنيهم تنفيذه .
بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه
من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة
ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين . فقد دعيت إلى الحفلة التي
كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد
حجه ، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في
الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء ، وخطب منهم محمود أسعد
أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية ، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية ، وقام
الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء
وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم ، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام
وتعميم الإرشاد الإسلامي ، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ
الإسلام ، وكان جالسًا بجانبي : إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن
الاستبداد ، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه
وننتظر مساعدة الحكومة عليه ، أو قال : مساعدتكم ، أي مساعدة الجمعية ، الشك
مني ، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه
رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك ، فجئته وقلت له إذا كان هذا
رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع . فقال لي
ما معناه : ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين .
فتأمل .
ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين :إصدار أوامر عامة لجميع
رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب
ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها . وهذا من جهلهم
بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين
كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك .
وجملة القول : أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ
العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد
الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل
كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما ، وكان
زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له . ولكنهم بعد مسألة طرابلس
الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة
الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية :
( 4 )
عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية
لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية
وهي : إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق . ولكنهم
فشلوا في كل عمل إلا جمع المال ، ولا سيما عقب الانقلاب ، فلولا المال لكانوا
الآن في عداد الموتى .
وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي
بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم . فإنه سألني مرة : إلى أين وصلت
في تشبثك ؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد ، قلت : وعدني طلعت بك بكذا وكذا
من المساعدة ، وحقي باشا قال : إنه طالما فكر في هذا المشروع ، وهو يبذل
الجهد في تنفيذه . فقال : أو صدقت أقوالهم ؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم .
وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا .. . وبعد مراجعة
حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك
كذب عليه أيضًا .
نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون ، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون ، لا
في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم ،
فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث
عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة ، ومن
مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة ، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم
يريدون القيام بالجامعة الإسلامية ، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه
الدعوى ، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون ، وأصول الماسونية
تنافي الجامعة الدينية ، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية ، فهم
يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر .
سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي
سورية وغيرها : إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض
أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية ، وأن هذا هو غرضها الباطن
وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية ؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية
والدول الأوروبية .
لا أقول أنهم سيقولون هذا ، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل ، وأعلم أن
بعض قائليه مأجورون ، وبعضهم مخدوعون ، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه ،
ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل
قوم بوجهه ، ويخاطبون كل أناس بلسان ، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم
دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية
ومصر جميعًا . إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم
بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا
يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم . وأما
الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية
ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة
بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون
دينية محضة .
وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام
فصدقوه وانخدعوا به ، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان ، وفي
مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين ، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب
أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل .
حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم
على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر
المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك ، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة
الإسلامية ، فيبحثون عن مسلمي تونس ، والجزائر ومراكش ويهتمون
بأحوالهم .
ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين
وجهلهم وغرورهم ، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز ، ولم يصرح به
الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب ، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا
من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم
حقي بك وطلعت بك وجاويد بك . وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة
فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له : إن أعمال الحكومة العثمانية هي
التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن
التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على
البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط ، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة
أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى ، وطعن في كامل باشا فوصفه
بالغرور وحب الانتقام ، رمتني بدائها وانسلت .
ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا
الحديث : لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا
صاغية ، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس
انتقادًا لهم ، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن
السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره .
ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم ، وبقي أفراد منهم في
البرازيل على انخداعهم ، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون
الناس بهم ، إما بأجر قليل ، وإما اتباعًا للوهم ، وكان يجب أن يجمع العرب
على مقتهم ومحادتهم ؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم ، وإنني أعتقد أن أكثر
الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه ، وأقلهم مخدوعون
مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية ، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم
للمسلمين بهذه المسألة :
لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية
زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها
وكان فيهم رجل من رجال القضاء ( العدلية ) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى
الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة ، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي
إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له : إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية ،
وتتجر باسم الجامعة الإسلامية ، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين ، وتخيف
الأوربيين المستعمرين ، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة
بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين
وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين ، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة
عليه ، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين
قاوموه ولم ينفذوه ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وكانوا يظنون أن إسلامي
سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية ، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل ،
ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم ، وعملي يناقض عملهم ، وقد كان
بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول : لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى
مساعدة مشروعك ( وهم يقولون ) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من
اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام ، وكان هؤلاء
العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء
لأن الأمور بمقاصدها .
وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص ،
وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه ، إذا
صحت نية القائمين به ، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة
مرادي ، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر
ولسياسة الجمعية في الباطن ، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة
الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع ، وبعض أصحاب
هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير
لأنفسهم ولأمتهم ، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت : إنني لا أجعل الباطل وسيلة
إلى الحق ، فأنا أبين لهم كل مرادي ، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع
آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا ؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام
من الداخل ، وبمقاومة أوربة من الخارج ، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا
نستطيع أن نخدع أوربة ، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم
الراشد .
ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي ، ثم قلت له : أليس
الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا
يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام ؟ أليس جميع إخوانه الزعماء
وأنصاره فيها على هذا الرأي ؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي
مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون ؟ فكيف يرجى منهم مع هذا
تأييد الجامعة الإسلامية ؟
قال الزائر ويا لله العجب مما قال : إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من
زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير
المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة .
قلت : إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة ، وهب أن
المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة ، أليست الزعامة
والسلطة في يد الأقلين ؟ قال : نعم ، ولكن هذا لا يدوم . ثم قلت : إذا كانت
جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة
العربية وتطهير التركية منها ، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف
وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة ؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى
تعلم لغة عامة غير لغة دينها ؟
إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى
جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم
وهجيراهم ( الملة التركية ) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط ،
أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من
نص القرآن المجيد ، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء
للجامعة الإسلامية ؟
قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال : إن اللهج بالملية التركية
والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية ، يريدون به الجامعة
الإسلامية ، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى
الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية ، وليس
المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب .
قلت له : أو يقال لمثلي هذا ؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى
لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم ؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي
أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة
التركية ؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة ، ونشرت في المنار
ترجمة مقالات لجريدة ( نوفي فريمية ) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم
في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء
التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية
في تركستان ، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس
ألمانية و النمسة . وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا
سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية
ودسائسها ؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية ؛ لأنها
تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في
بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى ، وكذلك كان فإنها
هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب .
ثم قلت للزائر التركي الذكي : إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين
بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو
من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه ؛ إذ جعلته عملاً للجامعة
الإسلامية ، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول
فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون
مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي ، وفي سياجه جزيرة
العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم ، ولا يعز
إلا بعزهم ؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام : ( إذا ذلت العرب ذل
الإسلام ) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح .
ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس
الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية ؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من
المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند ؟
فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار ؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة
الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد ، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية
وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء . هذا ما خطر في بالي من
حديثنا مع ذلك الزائر ، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار
في بعضها ، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون .
فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم ، وما كل
من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت ، وإنني أرى أن زعماء الجمعية
ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم
حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب ، فقد سمعت ورويت
عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون : لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا
حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا . وكانوا هم
وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا
يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً ، وسلموا تسليمًا ،
وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة .
يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في
باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها
لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل
لي : إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا
عنهم ؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط . وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.
بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار
باشا أنهما قالا : إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية ؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك .
هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم ، وهبَّ
العالم الإسلامي لمساعدتهم ، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب ،
وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية . وكانت باعت طرابلس وبرقة
لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر
العثماني والسلاح ، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد
ما تشاء . فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة ؛ إذ
خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها ، فلما هب العرب للقتال ، وهب
المسلمون كافة للمساعدة بالمال ، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون
الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر
الحربية محمود شوكت باشا ، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر ، ورأى
زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم ،
لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما
يمكن من السلاح ، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن
الاستفادة منها .
ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال
عرب طرابلس وبرقة ، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين ،
واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد ، بل أرسل زميله
رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال ، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن
للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا ، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له
رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية ، وأنا في البصرة عائد من الهند ،
فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية
وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج .
نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية
واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم
الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام ، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما
عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم ، ومنها تخدير أعصاب مسلمي
العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم ، ولا يعارضوا
الاتحاديين بشيء من مقاصدهم ، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار
الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد
وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة . ولأجل هذا أسسوا
جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل
ما يستخدمونه به . وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل
من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه
بالجامعة الإسلامية ، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين
بقدر الإمكان ، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه .
وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل
الشيخ شاويش في ذلك ، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي
عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم
وعجزهم ، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني
وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول
كانت أقوى عضد للبلقانيين ، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية
إلا الزقوم واليحموم ، وهذه عاقبة النفاق والغرور ، والعياذ بالله مما هو أعظم
من ذلك .
... ... ... ... ... ... ... (نشرت في مؤيد 27 محرم)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(16/130
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

شوال - 1331هـ
سبتمبر - 1913م​

حركة الأمة الهندية الشرقية
و الحكومة الهولندية

أردت بالأمة الهندية الشرقية سكان جزائر الهند الشرقية ( جاوة . سومطرة .
بورنيو . سليبس ، وغيرها من الجزائر المجاورة لها ) .
سكان تلك الجزائر أجناس متعددة ، وشعوب مختلفة متفرقة ، أعظمها
وأشهرها جاوية فملاوية ثم باتاكية ثم مكاسرية ثم بوقيسية ثم سداوية . فكلها من
أصل واحد ، وهو الملايو .
هذه الأمم متأخرة عن بقية الأمم مدنية وحضارة ولم تزل إلى السنوات الأخيرة
في انحطاطها ورقدتها .
وقد كانت نهضة اليابان أيقظتها بعض اليقظة ؛ إذ قام رجالها وشبانها
المستنيرون بالدعوة إلى الاقتداء باليابان والأمم الغربية ، وبعبارة أخرى قاموا
بالدعوة إلى المدنية والحضارة ، وإلى إقامة المدارس ، ونشر العلوم والمعارف في
جميع البلاد الجاوية الملاوية . فكتب كتابهم في جرائدهم ومجلاتهم شيئًا كثيرًا من
هذا القبيل ، وطلبوا من الحكومة زيادة المدارس ، وكان القارئ لا يقرأ في الجرائد
الملاوية والجاوية إلا كلمات التقدم والتعليم والمدنية والحضارة .. إلخ .
وبعد أن كثرت الأصوات والصيحات ولم يفتر كتابها عن الطلب والإلحاح
على الحكومة ، اضطرت الحكومة إلى قبول مطالبهم رغبة في تقدمهم وارتقائهم
(أي بعد ظهور هذه الحركة خوف أن ... وما كانت راغبة في ... ) وبذلك أصبح
عدد المدارس الهندية الشرقية الهولندية زهاء ستة آلاف مدرسة ما بين الابتدائي
والثانوي والعالي ، وما بين مدارس الحكومة ومدارس الأهالي ، أما الآن فلا أبالغ
إذا قلت : إن عددها ثمانية آلاف مدرسة .
قام الصينيون بعد قيام اليابان وقلبوا حكومتهم الاستبدادية إلى الجمهورية
الدستورية ، وأرسلوا شبانهم إلى بلاد اليابان والبلاد الغربية ؛ لتلقي العلوم والفنون
العصرية ، فكان نهوضهم هذا سببًا لقيام الأمة الهندية الشرقية بالسعي والاجتهاد ،
وبترك الخمول والرقاد ، فظهرت حركاتها الوطنية الحية ونهضتها الحديثة في كل
البلاد ، أكثر مما كانت عليها حين بدو النهضة اليابانية ، وتأسست بعد الانقلاب
الصيني عدة من الجمعيات والشركات التي تقوم بالأعمال التي تعود منافعها
ومصالحها على الأمة والوطن .
أما أنواع تلك الشركات والجمعيات فأشهرها ما ترى :
( 1 ) شركة الإسلام ، هذه الشركة أسست منذ سنة ، وقد بلغ عدد أعضائها
والمشتركين فيها الآن زهاء 900.000 .
وغرضها الوحيد الوصول إلى الدرجة الراقية وإعلاء شأن الوطن والوطنيين
معًا ، وقد فتحت الشركة متاجر عديدة ، كما أنها أقامت مدارس كثيرة .
ومن قانونها أن لا يجوز لأعضائها والمشتركين فيها أن يشتروا شيئًا من
البضائع الأجنبية ما دام ذلك الشيء موجودًا عند تجارها أو غيرهم من أصحاب
التجارة الوطنية ، وفوق ذلك تلح دائمًا على الوطنيين أن يفضلوا التجارة الوطنية
على التجارة الأجنبية ، وقد ظفرت بذلك بعض الظفر .
( 2 ) حزب النابتة ( الشبيبة ) أو الحزب الوطني ، هذا الحزب تأسس
حديثًا وغرضه إنقاذ الوطن والوطنيين من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن
هاوية الانحطاط إلى ميدان الحضارة والارتقاء .
ومن وظيفته النظر في شئونهم وأمورهم الاجتماعية والاقتصادية وفي
المصالح العمومية ، وبالجملة إنه يقوم دائمًا بالواجب الوطني .
( 3 ) جمعية المحبة وغرضها الاتحاد والتضامن ، والاتفاق والتعاون ،
وعلى الأخص مساعدة أبناء الفقراء واليتامى في تعليمهم وتهذيبهم .
( 4 ) الشركات التجارية الوطنية ، وهي الآن كثيرة الشيوع .
وما عدا ذلك فإنه توجد نهضتان عظيمتان ربما تعجبان من لم يعلم حركة تلك
الأمة من قبل :
أولاهما : أنه قد تأسست هناك مدرسة الجامعة الجاوية ، وغرضها ترقية
العلوم والمعارف ، وهي تضاهي الجامعة المصرية في الغاية والمقاصد ، ومركزها
في بناوي ، وقد انتهت من إعداد المعدات اللازمة لها ، وللتدريس ، وستبتدئ
الدراسة فيها في أوائل سنة 1914 .
ولا يمكن أن يلتحق بهذه الجامعة لتلقي العلوم إلا من تخرج في إحدى
المدارس العالية ، وكان يحمل الشهادة النهائية ، ومؤسسو هذه الجامعة هم من
أعضاء وكبار حزب النابتة .
أما الثانية : فهي حركة أعظم من الكل ، بل هي حادثة معجبة فإن حصولها ما
كان ينتظر في هذه الأيام ، وقد علم الكاتب علم اليقين أن مثل هذه الحادثة لا بد أن
تحصل بيد أن حصولها ليس في هذه الأيام .
وتفصيل ذلك أنه في شهر أغسطس الجاري أقامت الحكومة الهولاندية
والشعب الهولاندي في البلاد الجاوية والملاوية احتفالاً بعيد الاستقلال الهولندي
والحرية الهولندية ، كما احتفلت الحكومة والأمة الهولندية في بلادها .
وقبل يوم الاحتفال بأيام اجتمع الشبان الجاويون في مجتمعهم للنظر في أمر
هذا الاحتفال ، وكان زعماؤهم أربعة هم الدكتور جيفتو ماغون كسوما المحرر
بجريدة دي إكسبرس الهولندية ، وعبد المويس رئيس تحرير جريدة (هنديا شريكت)
الملاوية ، وسواردي سوريا نيغرت ، وويجنادي سنسترا المحررين (قوم مودا )
الملاوية فهؤلاء كلهم من الوطنيين المسلمين المخلصين ، ومن عقلاء حزب النابتة .
وكان من رأيهم - بل رأي الأكثرين - أن لا يجوز للأهالي ألبتة أن يشتركوا
مع الحكومة في الاحتفال ، ويفرحوا بذلك الاستقلال ، بدعوى أن الحكومة إذا
احتفلت بعيد الاستقلال الهولندي ودعت الأهالي إلى أن يشتركوا فيه ويفرحوا
بسرورها فليس ذلك إلا إهانة واحتقارًا للوطنيين أجمعين ؛ ذلك لأن الاستقلال هو
الاستقلال الهولندي لا استقلال الأهالي ، والأهالي لا يزالون عبيدًا لها ، فإذا اشترك
الوطنيون في ذلك الاحتفال كان في الحقيقة احتفالين : احتفالاً بالحرية الهولندية
والاستقلال الهولندي ، واحتفالا بعبودية الوطنيين والأهالي ، إن ذلك لعيب كبير
وعار عظيم .
وبعد أن اتفقت آراء المؤتمرين كل الاتفاق كتب زعماؤهم الأربعة صور
المنشورات فطبعوها ثم وزعوها بين الأهالي خواصّهم وعوامهم ، وكان من ضمن
تلك المنشورات :
( 1 ) نهي الأهالي أن يشتركوا في الاحتفال ألبتة ، وبيَّن المنشور سبب ذلك
بيانًا وافيًا .
( 2 ) الدعوة إلى الاتحاد ، والاتفاق معهم في المطالب التي أرادوا تقديمها إلى
جلالة ملكة هولانده ، وإلى الحكومة الهولاندية ، وتلك المطالب مبيَّنة في تلك
المنشورات .
( 3 ) الرجاء ممن يرغب في هذا المشروع أن يرسل إليهم بطاقة أو خطابًا ؛
اعترافًا برضائه واستحسانه ذلك المشروع ويجب عليه أن يوقع إمضاءه عليه .
أما مشروعهم فهو :
اتفقوا على أن يرسلوا ويقدموا إلى ملكة هولانده تهنئة بالتلغراف يهنئونها بعيد
الاستقلال الهولندي بدلاً عن الاشتراك مع الحكومة في الاحتفال ، وفي الوقت نفسه
يفدون إلى الحاكم العام للهند الشرقية الهولندية يهنئونه بذلك العيد من جهة ويقدمون
له مذكرة مطالبهم من جهة أخرى .
وأما مطالبهم فكثيرة ، أهمها وأعظمها ما يأتي :
الأول : إلغاء المادة الثالثة من قوانين الهند الشرقية الهولندية ، أي امتياز
الهولانديين خاصة والأوربيين عامة في الحكم والقضاء .
الثاني : إعطاء الوطنيين حقوقهم في مجلس شورى القوانين الهندية الشرقية
الهولندية​
Kamer Tweede الذي مركزه في عاصمة هولانده ، أي أن يكون
رجال ذلك المجلس من الوطنيين أكثر من الهولانديين ، أو يكون نصف الأعضاء
منهم على الأقل .
الثالث : طلب المساواة والحرية التامة ؛ سواء كانت في الأمور السياسية أو
الدينية أو التجارية أو غير ذلك .
هذا هو أهم مطالبهم وبعد نشر تلك المنشورات نشر سواردي رئيس تحرير
جريدة قوم مودا ( حزب النابتة ) منشورات أخرى ذكر فيها بلهجة شديدة أن من
الواجب أن يطلبوا برلمانًا ( مجلس نواب ) ، ولكن من الأسف أنه قبل أن يتموا
أعمالهم ومشروعهم الجليل وبعد أن نشروا زهاء خمسة آلاف نسخة من تلك
المنشورات أصدرت الحكومة أوامرها بالقبض على هؤلاء الأربعة ، فألقي عليه
القبض ، وأدخلوا السجن .
وكان الدكتور جيفتو المحرر بجريدة دي إكسبرس الهولندية قبض عليه
البوليس في إدارة الجريدة كما أن عبد المويس المحرر بجريدة (هنديا شريكت)
قبض عليه وهو في إدارة جريدته أيضًا ، وأما سواردي المحرر بجريدة قوم مودا
وويجنادي سترا رئيس تحرير تلك الجريدة فقبض عليها في بيتيهما .
والتحقيق جرى بينهم وبين قاضي التحقيق ، وربما أترجم إلى العربية بعض
التحقيقات إذا سنحت لي الفرصة .
فيرى القراء الكرام أن ما كتبه هؤلاء الأربعة لم يخرج ولم يتجاوز حقوقهم
ولا حقوق الحكومة ، بل ذلك من مصالح الأمة والوطنيين .
أما امتناعهم عن الاشتراك في الاحتفال فما كان إلا دفاعًا عن كرامتهم وكرامة
الأهالي ، وأما دعوتهم إلى الاتفاق والاتحاد معهم في تلك المطالب فذلك من حقهم
وواجباتهم فليس للحكومة حق في القبض عليهم ، وإلقائهم في السجن بوجه من
الوجوه .
وبمناسبة هذه المقالة أدعو إخواني الجاويين والملاويين إلى تأييد تلك المطالب
وضم أصواتنا إلى أصواتهم ، فكلنا نريد الحرية ولا نريد العبودية .
كفانا أيها الإخوان الكرام نومنا السابق ، وذلنا الفائت ، فلا يجوز لنا أن نديم
رقدتنا وذلنا ؛ فإننا الآن في عصر الحضارة والتقدم لا في عصر الانحطاط والذل .
يجب علينا جميعا أيها الإخوان الكرام أن نلح على حكومتنا بأن تعترف
بحقوقنا ، وأن تقبل مطالبنا من غير تردد ولا عمه .
يجب علينا أن نعلم أن بلادنا ليست ملكا لهولنده ؛ فإن دخولها فيها كان
بمعاهدات تجارية ثم بمعاهدات ودية عقدتها مع أمرائنا ، أما معاهدتا سنة 1814
وسنة 1824 اللتان ضمتاها إلى أملاكها فليستا باعترافنا .
ولسلامة الحكومة الهولندية وسلامة الوطن والوطنيين ولبقائها محبوبة من
الأهالي يجب عليها أن تقبل مطالبنا وتراعي مصالحنا ، وفوق ذلك يجب عليها أن
تعترف بأننا أصدقاء وإخوان لها لا عبيد لها .
فإذا اعترفت الحكومة بذلك فلا ريب أنها تبقى في تلك الأصقاع الآمنة مطمئنة ،
فإن الأهالي حينئذ يحبونها ويساعدونها لا يريدون الفراق والانفصال عنها أبدًا .
وبمناسبة هذه الحركة المجيدة أقول لكم أيها الإخوان الكرام كلمة في أمر التعلم
وهي : أنه قد اعتاد آباؤنا الكرام وإخواننا الأعزاء أن يقتصروا على إرسال أبنائهم
وشبانهم إلى مكة المشرفة و مصر المحروسة وإلى البلاد الهولندية وحدهن ، وأرى
أن ذلك من الخطأ العظيم ، والتقصير المبين ، ولست في حاجة إلى الحجج
والبراهين لإثبات قولي وتأييده أكثر مما نرى ونشاهد ، وهو تقدم اليابان والصينيين ،
أليست سرعة تقدمهم ورقيهم بفضل إرسال أبنائهم وشبانهم النجباء إلى بلاد
وعواصم أوربا و أمريكا ؟ فإذا علمنا ذلك فلماذا نقتصر على تلك البلاد فقط ؟
إذًا يجب علينا أن نبذل غاية جهدنا في احتذاء مثال هاتين الأمتين لنكون في
صف الأمم الراقية في أقرب وقت ، هدانا الله لصالح الأعمال ونجانا من هاوية
الجهل والانحطاط والسلام .
... ... أغسطس ... ... ... ... ... ... د . ي
( المنار )
يظهر أن الكاتب لا يزال يغلو في سوء الظن بهولنده المستولية على
وطنه ، ولكن بلغنا من الثقات في تلك البلاد أن الحكومة الهولندية كانت مؤيدة لهذه
الحركة الجديدة ، إن لم تكن هي المحرك الأول لها ، ومن الثابت أنها صارت
تتساهل مع الأهالي في أمر التعليم الديني واللغة العربية ، وكانت تتشدد في ذلك كل
التشديد ، وسبب ذلك أن وزارة الحزب الديني قد سقطت من عاصمة هولنده وخلفتها
وزارة حزب الأحرار ، فيجب على مسلمي تلك البلاد الحزم واغتنام الفرصة ؛ وأن
يشكروا لوزارة الأحرار تساهلها ولا ينفروها بالغلو لعل ذلك يكون مدعاة المزيد ،
وأن يثنوا عليها بقدر ما كانوا يقدحون في الوزارة السابقة وزارة التعصب الديني
الفاضح وسلب الحرية الدينية وغيرها ؛ لا ردَّها الله تعالى .
(16/793)
 
جمادى الآخر - 1332هـ
مايو - 1914م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

في يوم السبت في 21 جمادى الآخرة دعانا بالمسرّة ( التلفون ) رئيس النظار
حسين رشدي باشا إلى داره ؛ فوافيناه فيها فإذا هو في سرير النوم لانحراف صحته ،
وإذا بجانبه جريدة مصر القبطية ، فأطلعنا عليها ، وسألنا عما تنسبه إلى المنار
من الطعن المعلم عليه بالحبر الأحمر فيها ، وملخصه أنه يجعل النصارى كلهم
وثنيين ، وأن طعنه يكاد يضرم نار الثورة في البلاد ؟ ؟ فلما قرأت ما فيها قلت
للرئيس : يا عطوفة الرئيس ! أنت قاضٍ قبل كل شيء ، وقد اشتهرت في حياتك
القضائية بالاستقلال ، ومن مقتضى ذلك أن تقرأ الطعن الذي تشير إليه جريدة مصر ،
قبل أن تحكم في المسألة بشيء . هذه العبارة التي تشير إليها جريدة مصر أوردها
المنار كعنوان لموضوع كتاب في سياق تقريظه له . هذا الكتاب اسمه ( نشوء فكرة
الله ) مؤلفه إنكليزي ، ولخصه بالعربية سلامة أفندي موسى القبطي ، وطبعه
بمطبعة يوسف أفندي الخازن الماروني السوري ، محرر جريدة الوطن القبطية ،
وقرظته الجرائد والمجلات السورية القبطية والإسلامية ، ولم يعب المترجم والناشر
أحد منها بأنه عاب النصرانية وكاد يضرم نار الثورة في البلاد ! ولكن لما قرظته
مجلة المنار الإسلامية وذكرت أن ملخصه إثبات كون الديانة النصرانية وثنية
الأصل - وقيدتها بالحاضرة تبرئة للمسيحية الصحيحة التي كان عليها المسيح عليه
السلام وحواريه رضي الله عنهم - صار ذلك أكبر الجرائم المحركة للثورات والفتن ،
واستحق صاحب المنار النفي من مصر ، واستحقت الحكومة هذا الإنذار من
جريدة مصر - إذ فيها : أن من أنذر فقد أعذر بعد الاقتراح على الحكومة بأن
تعاقب صاحب المنار بمثل ما عاقبت به عبد العزيز شاويش عدو القبط من سجن
ونفي .
ثم أعطيت للرئيس نسخة المنار فلما قرأ التقريظ فيها ضحك مستغربًا كتابة
جريدة مصر . ثم ذكرت له أن المنار لما كان هو المجلة الإسلامية الوحيدة التي
أخذت على نفسها الدفاع عن الإسلام في هذه البلاد الحرة التي ينشر المبشرون فيها
الصحف والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه
وسلم وجب علينا شرعًا أن نرد عليها اعتداءها ولو بما هو دونه ؛ إذ لا يسمح لنا
ديننا أن نطعن في سيدنا عيسى ولا في أصل دينه وكتابه . فأنا لا أترك مدافعة
المبشرين إلا إذا كانت الحكومة تريد منع حرية المسلمين في دينهم وتجعل الحرية
للنصارى وحدهم . فقال الرئيس : كلا إن الحكومة لا تسلبك حرية الدفاع عن الإسلام
ولكن توصيك بالاعتدال والتزام خطة الدفاع . قلت : إنني أعني بالدفاع أنهم البادئون
وأننا نجزيهم بما دون عملهم ، وأنهم إذا تركوا الكلام في ديننا تركنا الكلام في دينهم ،
وأنني مستعد لتقديم جدول للحكومة بالشواهد من كتب المبشرين ورسائلهم على ما
فيها من الطعن الفاحش في الإسلام ... إلخ .
كان ما أطلعني عليه الرئيس أول ما اطلعت عليه من المطاعن الكثيرة التي
وجهتها إلى المنار جريدة مصر ، وكنت أسمع بها ، ولا أحاول الاطلاع على شيء
منها . ثم جاءني أحد الأصدقاء بعددين منها ؛ فإذا في أحدهما ما نصّه تحت عنوان
( صاحب المنار ) :
( اتصل بنا أن ولاة الأمر قد اهتموا بما كتبناه عن الشيخ صاحب المنار
وطعنه الطعن الجارح في الدين المسيحي وأهله فاستدعاه عطوفة رئيس النظار إلى
منزله وحذره من الكتابة في مثل هذه المواضيع المهيجة وأنذره بتعطيل مجلته إن
عاد إلى تلك الكتابات . فعسى أن يكون هذا الإنذار مانعًا من الوقوع في المصائب
التي يريد صاحب المنار جلبها على البلاد وأهلها .
دع كذب جريدة مصر على رئيس الحكومة في هذا العدد وانظر ما كتبت في
الآخر : كنت كتبت مقالة في الرد على جريدة ( دوكير ) التي تصدر بمصر باللغة
الفرنسية ؛ إذ نشرت مقالة تنكر فيها على المنار ما كتبه في النصرانية ، يظهر أنها
لأحد السوريين ، بينت فيها طريقة المنار في الجمع بين الإسلام والمدنية الصحيحة
والتأليف بين المسلمين وغيرهم ، والصحف الفرنسية التي شهدت له بذلك ، وكون
رده على دعاة النصرانية لا ينافي ذلك . وأرسلت المقالة إلى المؤيد فلم ينشرها إلا
بعد زهاء شهر من إرسالها إليه . وقد هاج نشرها جريدة مصر فكتبت مقالة في
اليوم التالي لنشر المقالة في المؤيد ( وهو 27 جمادى الآخرة ) استفرغت فيها ما
في قلب صاحبها ومحررها من السباب والشتائم والحقد والضغينة على صاحب
المنار ، فظهر من فحوى ذلك سر من الأسرار ، وهو سبب حملة جريدة مصر علينا
في هذا الشهر ، مع أن المنار يرد على المبشرين من بضع عشرة سنة وهاك ما
فضح السر منها :
( ولكن هذا الرجل المسكين لم يعد يعطف أحد عليه . فالوطنيون يكرهونه
لأنه يعاكس مبادئهم ، والإنكليز يبغضونه لأنه عدو مدنيتهم وعلماء المسلمين
يكرهونه لأنه غير واقف على أسرار الدين . وقد أدركت الحكومة سوء طويته ،
وستوقفه عند حده عن قريب .
( إننا إذا اغتفرنا لهذا الرجل كل سيئاته وتغاضينا عن مدرسته التي لا ندري
الغرض منها . فإنه لا يرضينا منه تداخله في ما لا يعنيه وشرحه للدين المسيحي
شرحًا يخالف ما يعتقد به أهله . وطعنه ذاك الطعن الأليم في المدنية الأوربية
ووضعه القناصل والمبشرين والمومسات والقوادين في مستوًى واحد .
لذلك كله نرى من واجباتنا الوطنية أن نلاحق هذا الرجل ونعمل جهد
استطاعتنا لمحاربته كما تحارب الحكومات الأمراض المعدية ولو تسلح برضا بعض
ولاة الأمر عنه وشدّ جريدة مثل المؤيد لأزره بقولها عنه : ( إن صاحب المنار
مهضوم الجانب وفي حاجة إلى الدفاع عن نفسه ودينه ) اهـ . بحروفه .
( المنار )
ظهر لنا من هذا التصريح الذي لا يحتمل التأويل أن سبب انفجار
بركان التعصب على صاحب المنار في جريدة مصر هو تشريف مولانا الأمير
عزيز مصر مدرسة دار الدعوة والإرشاد ، وما تضمنته هذه الزيارة من إعلان ثقته
بالمدرسة وعطفه السامي على ناظرها صاحب المنار ، ولذلك عرضت جريدة مصر
بذكر المدرسة وقالت إنها تغاضت عنها ، على كونها لا تدري الغرض منها ! ! كأنه
يجب على كل مسلم يعمل للإسلام عملاً أن يوقف جريدة مصر على غرضه من
علمه ! !
تقول جريدة مصر في صاحب المنار : إن المصريين والإنكليز يبغضونه ، وإن
الحكومة قد أدركت سوء طويته وستوقفه عند حده عن قريب . أثبتت جريدة مصر
كل هذا ، فكان ينتظر من مديرها ومحررها أنصار الديانة المسيحية بزعمهم أن يجد
صاحب المنار من قلوبهم عطفة أو نفحة من الرحمة المسيحية المبني أساسها على
محبة الأعداء ومباركة اللاعنين ! ! ولكنهم لم يزدادوا إلا قسوة وحقدًا عليه ، فبعد
الجزم بجميع ما ذكر قالوا : إن الواجب عليهم أن يعملوا جهد استطاعتهم لمحاربته ولو
تسلح برضا بعض أولياء الأمور عنه ؟ فإذا كان الإنكليز ورجال الحكومة غاضبين
عليه . فمن تعني ببعض أولياء الأمور المتسلح برضاهم عنه ؟ ؟
ثم ماذا تريد جريدة مصر بالمحاربة الجديدة التي توعدتنا بها ، بعدما كان من
تهييجها المبشرين وغيرهم من رجال النصرانية علينا ، وبعد هذه السباب والشتائم
وبعد إنذار الحكومة بخطر الثورة إذا لم تنكل بصاحب المنار ؟ وهل بعد هذا من
حرب تقدر عليه جريدة ؟ نعم بلغني ممن يعاشر بعض محرري جريدة مصر أنهم
يعنون بهذه المحاربة الاستعانة بنفوذ المبشرين في إنكلترة على إقناع حكومة لندرة
نفسها بوجوب إلغاء المنار والتنكيل بصاحبه وإقفال مدرسة دار الدعوة والإرشاد ، إلى
هذا الحد وصلت ثقة متعصبي القبط بكيدهم للمسلمين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار .
(17/487
 
رجب - 1332هـ
يونيه - 1914م
الكاتب : محمد رشيد رضا

الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

التدين غريزة فطرية ، والدين حاجة من حاجات البشر الطبيعية ، والإلحاد
والتعطيل إما نقص في الفطرة . كما يولد بعض الناس مخدوجًا بنقص حاسة من
حواسه ، أو تشوه عضو من أعضائه ، وإما تصرف سيئ في الفطرة ، وجناية على
الطبيعة . وقد خلق الله الإنسان في هذه الأرض وأعطاه فيها سلطان التصرف فيها
وفي نفسه . وأسجد له مَن فيها من ملائكته ، الذين هم كالملكات والقوى في تدبير
الأمر ، وإقامة النظام في الخلق ، فهو بهذا التصرف فيها يفسد فيها ويسفك الدماء ،
كما يصلح ويعمر وينفع الناس : يجني على نفسه فيُحَمِّلها فوق طاقتها ، ويعرضها
للأمراض التي لا قبل له بها ، ويجني على غيره بالعدوان والبغي ، وإهلاك الحرث
والنسل . فلا غرو إذا جنى على الدين ، بشبهة دليل أو بغير دليل .
كان السواد الأعظم من الناس متدينًا ، ولا يزال السواد الأعظم من الناس
متديِّنًا ، وسيبقى السواد الأعظم من الناس متدينًا . ولكنهم يتصرفون في أديانهم ،
كما يتصرفون في أنفسهم وأبدانهم ، وسيظلون زمنًا طويلاً في اضطراب ومخض ،
بين رفع وخفض ، وإبرام ونقض ، حتى تزول العصبيات الدينية ، وتسقط
الرياسات المذهبية ، ويكون الدين لله ، لا للخلفاء والأشياخ ، ولا للرهبان والأحبار ،
ويكون للإنسان الحرية فيه والاستقلال ، فيتفق أكثر المختلفين ، ويجتمع أكثر
المتفرقين ، فتنقشع السحب عن دين الفطرة ، ويدخلون في السلم كافة .
كان الناس متدينين ، وكان يكون في كل جيل منهم في كل عصر أناس من
المعطلين ، وأفراد من الملحدين ، كما يوجد فيهم العُمْي الذين لا يبصرون . والصم
الذين لا يسمعون , والبكم الذين لا ينطقون { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ
وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ( الجاثية :
24 ) ، هذه حكاية القرآن عن بعض جاهلية العرب . وحكى مثله عن قوم نوح أقدم
من أثر تاريخهم من الأمم . ولكن بعض ملاحدة عصرنا يظنون - لجهلهم
بالتاريخ - أن هذا الشذوذ خاص بالفلاسفة وأصحاب الأفكار الراقية ، ولهذا الامتياز
الوهمي صار بعض الغوغاء يكفر بالتقليد ، لينتظم في سلك الفلاسفة الجديد . ويتفلت
من قيد التكليف .
نعم يوجد من أهل النظر من حجبته نظريات الفلسفة ومسائلها وتعليلاتها
المسلمة عن الدين وجوهره ، وما كان من حسن أثره ، فطفقوا يقذفون بتلك
النظريات والمسلمات ، ظواهر الدين وتقاليده المحدثات ، وخيل إليهم أنهم فازوا
بقصب الرهان ، وأبرهوا جيوش الأوهام بسيف البرهان . وما ذلك إلا وهم يناطح
وهمًا ، هذا يسميه هدى وذلك يدعوه علمًا ، ولو كانت تلك النظريات علمًا يقينيًّا لما
تنازعت فيها الأفكار ، واختلفت باختلاف الأجيال والأعصار ، فإن فلسفة هذا
الزمان ، قد نقضت معظم فلسفة اليونان ، وينقض بعضها بعضًا في كل عام . وأما
علم اليقين ، فلا شيء منه بمناقض لهداية الدين ، وإن نقض بعض تواريخ الكتب
المقدسة في بعض الأديان ، وبعض عقائدها المخترعة التي ما أنزل الله بها من
سلطان . وحاشا دين القرآن ، الذي كفل حفظه الرحمن ، فلم تؤثر فيه تأويلات
المتكلمين ، ولا تعليلات المتفقهين ، دع أباطيل أهل الزيغ أو الزندقة ، كالباطنية
والمتفلسفة .
إن في الفلاسفة متدينين ، كما أن فيهم ماديين ، وكذلك أصحاب العقول الكبيرة
من العلماء والقواد والسياسيين . فتولستوي الفيلسوف الروسي كان متدينًا . والبرنس
بسمارك كان متدينًا ، وإمام الأطباء باستور كان متدينًا ، وإن أكبر قائد حربي في
فرنسة اليوم متدين . كما كان ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد من فلاسفة
المسلمين متدينين . وأمثالهم كثيرون في كل أمة .
نعم إن دين أمثال هؤلاء قد يخالف في أصوله وفروعه دين العوام المقلدين ؛
لأن لعلومهم وفلسفتهم طريقًا خاصًّا في فهمهم الدين ، والعامي المقلد تابع لمن يلقنه ،
وللبيئة التي يعيش فيها كل منهم تأثير في فهم ما يتلقنه . فإذا كان العالم المستقبل
يخطئ فهم حقيقة الدين في قليل من المسائل ، فالجاهل المقلد أجدر بالخطأ في فهم
الأكثر منها .
يغتر كثير من مقلدة الإلحاد في أمتنا بمن اشتهر من ملاحدة علماء الإفرنج ،
غافلين عن الاعتبار بحال المتدينين منهم ، وما كل من طعن في الكنيسة وأهلها من
علماء الإفرنج كافر بالله ورسله ؛ بل لهؤلاء دين غير دين الكنيسة ، وتكفير الكنيسة
لهم كتكفير بعض المتكلمين والصوفية لابن سينا وأمثاله . فمن متديني الإفرنج
المقلدون ، ومنهم العقليون والموحدون . ولعل دين السواد الأعظم من المتعلمين
المهذبين منهم كدين مدام ( كلاير ) : عجوز فرنسية ذات علم وأدب ، من بيت في
ليون محترم ، جاورتنا مرة في الدار ، فرأيتها لاتذهب إلى الكنيسة في أيام الآحاد ،
فسألتها : ما بالك لا تذهبين إلى الكنيسة ؟ ألستِ متدينة . قالت : أنا مؤمنة بالله
وأصلي له في بيتي ، وما فضل الكنيسة على البيت ؟ إنها لا فضل لها إلا أن فيها
رجالاً يأكلون أموالنا .. . قلت : أتدينين بعقيدة التثليث ؟ قالت : لا أعرف التثليث ،
أعرف أن الرب واحد . قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام ؟ قالت :
( مثل نبي ) . فهذه حال أهل التعليم العالي في القوم . دع السواد الأعظم من العامة ،
وكثيرًا ممن يعدون من الخاصة ، الذين يتمسكون بمذاهبهم التقليدية ، لا يثنيهم عنها
إنكار العقليين ولا غيره .
أفلا ينظرون من وراء ذلك كله - جهلوه أم عرفوه - إلى ما يبذله الإفرنج من
ملايين الجنيهات لجمعياتهم الدينية لأجل نشر دينهم في الخافقين ، وتعميمه في
المشرقين والمغربين ؟ يقول بعضهم بغير علم : إن الغرض من ذلك سياسي لا
ديني . كذبوا ، وحكموا بما لم يعلموا ، إن تلك الملايين يبذلها الشعب الذي لا يعرف
السياسة ، ولا ننكر أن أهل السياسة يستفيدون من سعي المبشرين ، فإذا كانت حكومة
روسيا تستفيد بسياستها من تنصير دعاة الأرثوذكسية لمسلمي بلادها ، وإنكلترا
تستفيد من تنصير دعاة البروتستانتية لمن ينصرون من أهل الهند والسودان ، فأي
فائدة سياسية لأمريكا في بث دعاة النصرانية في بلاد العرب والترك والفرس والهند
وسائر الأقطار ؟
تأملت في حال ملاحدة هذا العصر ، فما رأيت أشد عماية ، وأبعد غواية ،
وأضل سبيلاً ، وأفسد قيلاً من ملاحدة المسلمين الجغرافيين .
ما رأيت أحدًا منهم صاحب دعوة سياسية في أمته قد ثبت عنده أن الإسلام
يعارضها ، ويحول دون التحول السياسي والاجتماعي الذي يراد بها ، فهو ينفرد من
الإسلام وينفر عنه لأجلها ، كيف وهم يعترفون - تبعًا لحكماء الإفرنج - بأن الدين
أقوى عوامل السياسة ؛ ولا سيّما دين الإسلام ، كما صرح بذلك علماءالاجتماع .
ما رأيت أحدًا منهم صاحب مذهب فلسفي أدبي ثبت عنده أن حكمة الإسلام
تناقضه ، وأن صلاح الأمة لا يكون إلا به ، فهو يلهج بالاعتراض على الإسلام ؛
لأنه عقبة في طريق ما يحاول من الإصلاح . كيف وإن التربية عند أئمتهم - أكثر
الإفرنج - لا تزال قائمة على أساس آداب الدين ؟
ما رأيت أحدًا منهم عني بفقه القرآن وصحيح السنة . وما كان عليه سلف
الأمة ، ثم عرضت له شبه قوية على صحة تلك الهداية فهو يريد التفصي منها .
وقد خانته البينات والدلائل المزيلة لها ، كيف ونحن نعلم أن أكثرهم لم يقرأ تفسير
سورة من السور . ولا يميز بين الصحيح والموضوع من الأثر ؟ وإن مَن له إلمام
بشيء من علم الدين ، قلّما يعرف إلا بعض القشور من هذه التقاليد ، فهو يهزأ بالدين
لأجل خرافة أو بدعة . يحسب أنها عقيدة ثابتة أو سنة .
ألا إنهم - على ما هم عليه من جهل بحقيقة الإسلام ، وقصور عن النهوض
بدعوة إلى الإصلاح - يطلقون للسانهم العنان ، فيجمح بهم في كل ميدان . فمنهم من
يتشدق بالسياسة ، ومنهم من يتفيهق بالمقابلة بين القانون والشريعة ، ومنهم من يهذر
بالأخلاق والآداب ، ومنهم من يهذي بالاعتراض على العبادات ، يتخذون الكلام في
ذلك هزؤًا ولعبًا ، وأفاكيه يتلذذون بها تلذذًا ، في زمن قل فيه العليم بأسرار الدين ،
والبصير بحكم التشريع ، الذي يفرّق بين الأصول الثابتة بالدليل ، والنصوص التي
لا تحتمل التأويل . وبين الفروع المستنبطة بالاجتهاد ، والظواهر التي لم يتعين منها
المراد .
على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجته ، ومن مفصح للشرع عن حكمته ،
ولكن هؤلاء بمعزل عن الحجة وأهلها ، هي مجهولة لهم ؛ فهم لا يطلبونها ، ثقيلة
عليهم فإذا تليت عليهم آياتها لا يسمعونها ، إلا من كان سليم الفطرة ، قريب العهد
بهذه الهجرة ، وطالما تأذنهم المنار ، بما يذهب بالتعلات والأعذار ، من الاستعداد
لإزالة كل شبهة ، والتصدي لكشف كل غمة .
يا سبحان الله ! أتبيح السياسة لبسمرك أعظم رجال أوربا في القرن الماضي -
وهو كما قال جمهوري بالطبع - أن يكون على دين يناقض طبعه فيجعله عبدًا لملك
بروسية ؛ لأنه يقول له - إن سلطة المملوك من الله ؟ - ولا تبيح لهؤلاء المتشدقين
منا أن يكونوا على دين سبق كتابه إلى وضع أعظم أساس للحكم الذاتي بقوله :
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ( الشورى : 38 ) ، وأقام على هذا الأساس أركان
المصالح المرسلة ، وجعل رفع المفسدة مقدمًا على جلب المصلحة ، إلى غير ذلك
من الأركان الثابتة ، ثم قِس على هؤلاء المتشدقين ، أمثالهم من المتفيهقين والهاذين
والهاذرين .
وإن تعجب فعجب خوضهم في مسائل الأخلاق والآداب ، فقد انقلبت عقولهم
فيها شر الانقلاب ، حتى صار فيهم من يعدّ العفة والغيرة والرحمة من الرذائل
وأضدادها من الفضائل ؛ بناءً على قاعدة الإتخاب الطبيعي التي تغري القوي ،
بالضعيف ، وتبيح له أن يعجل بسلب حياته ويستأثر دونه بزوجه وماله ، ولعل
واحدهم لا يرجع عن هذه الغواية إلا إذا مسه الضر ، وعضه ناب الفقر ، وتصدى
إخوانه في الكفر لإزهاق روحه ، وتعدى أخدانه في الإلحاد على عرض زوجه ،
ومنعوها من خدمته ومواساته ؛ بناء على قاعدتهم في كون الحق في ذلك للقوي
القادر على الإنتاج ، والقيام بشؤون الاجتماع !
ألا إن من بلغ هذه الغاية من ارتكاس الفطرة ، وانتكاس الفكرة ، فصار يرى
الحقائق بغير صورها ، ويزن الأشياء بغير ميزانها ، فلا طمع في هدايته ، ولا
رجاء في مناظرته ، أولئك الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ،
يجادلونك في الحق بعدما تبين ، ويمارونك في البديهي وقد تعين .
وأما أكثر المخدوعين بأوهام هؤلاء المبطلين ، فهم مستعدون لقبول الدليل ،
والاهتداء إلى سواء السبيل ، إذا تداركهم العلماء والراسخون ، وتعاهدهم الحكماء
الربانيون ولكن قل العلماء القادرون على كشف الشبهات ، وكثر المشتبهون ،
فالإصلاح موقوف على تكثير سواد المصلحين الجامعين بين علوم الدنيا والدين ،
مع استقلال الفكر ، وتزكية النفس ، ولا يكون هذا إلا بتربية وتعليم ، على صراط
الحق المستقيم ، فقل للذين هم على الدين يغارون : لمثل هذا فليعمل العاملون .
فسارعوا إليه إن كنتم صادقين ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين .
(17/508
 
رمضان - 1332هـ
أغسطس - 1914م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

{ قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } ( الأنعام : 65 ) [ .
{ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } ( العلق : 6-7 ) وإنه ليبغي أن
رآه اعتز واستعلى ، وإن مدّ الطغيان لإلى جزر ، وإن غناه لإلى فقر ، وإن البغي
مصرعه وخيم ، وإن علوّ الجبارين لإلى هبوط ذميم .
كانت المسألة الشرقية فزّاعة أوربا إذا فزعت من سوء العواقب ، ومشأمتها إذا
تطيرت من أمارات النوائب ، وكانت ترى أن مشكلتها أعقد من ذَنَب الضَّب ، وأن
حلها أعسر من تربيع الدائرة . وقد أنذرها داهية ساستها ( البرنس بسمارك ) بأن
شرارة واحدة من نار حرب بلقانية تكفي لإحراق ممالك أوربة كلها ، ولكنهم تماروا
بالنذر ، وغرهم ما كانوا يسمونه التوازن الأوربي بين وفاق مثلث وحلاف مثلث .
وألفت دولة الروسية بين المختلفين من الدول البلقانية ، فجعلت البلغار واليونان
والصرب والجبل الأسود إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية . بعد أن أغارت إيطاليا
على مملكة كبيرة من ممالكها وهي طرابلس الغرب وبرقة .
ثم سمحت الدول الكبرى كلها للبلقانيين بقتال الدولة العثمانية ، ولكنهن
صرحن بأنهن لا يسمحن بتغييرٍ ما في خريتة البلقان ؛ لأن التنازع على تلك
الأرض مثار البغي والعدوان ، فاشتعلت نيران الحرب ، وأظهر البلقانيون فيها من
القسوة والوحشية والفظائع والفواحش ما لا مزيد عليه ، ولم ينبض في قلوب رجال
الدول الكبرى عِرق من عروق الرأفة والرحمة ، ولا احتج أحد منهم على تلك
المذابح والفظائع بكلمة ، وإنما كان همهم محصورًا في حصر الحرب في البلقان ،
ومنع شررها أن يصل إلى ممالكهم الكبار .
ثم شرع البلقانيون في قسمة ما استولوا عليه من البلاد العثمانية ، فسمحت لهم
الدول بذلك متناسية وعدها بعدم السماح . فوقع بينهم التنازع والتقاطع ، وحل
الخلاف محل الحلاف ، ولم يُرضهم ما حكم به في القسمة مؤتمر السفراء ، فأوقدوا
نار القتال بينهم ، ونقضوا ما أبرمته الدول لهم . ثم دخلت رومانية في الأمر معهم ،
وضربت من الغنيمة بسهم ، وكانت القسمة ضئزى ، غبن بها البلغار ، وكان القدح
المعلى لليونان ، واغترّت الصرب أي اغترار ، وكانت النمسة مسعر نار الفتنة
بينهن ، لتأمن مغبة اغترار الروسية بهن .
وقعت الواقعة ، وفتح باب المسألة الشرقية ، وسوَّل الغرور للدول الكبرى
عملها ، وظنت أن ساستها قدروا بدهائهم على حصر نيرانها في مواقدها ، ومنع
شررها أن يتعدى إلى ما حولها ، وأن أوربة المملوءة من البارود والديناميت ، أمنت
أن تصيبها الشرارة التي أنذرها بسمرك فيعمها الحريق . ونسوا عدل الله العام في
جميع الأمم والأقوام ، وأنه يعاقب المقر للشر كمجترحه ، ويجزى الساعي بالخير
كفاعله { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } ( الزمر : 47 ) .
غرَّ الصرب ما أوتيت من نصر ومن سعة في الملك ، ومن عود الصربيين
العثمانيين إليها ، فطمعت في صرب النمسويين وفيما يسكنونه من البلاد أيضًا ،
فزادت جمعياتها السرية الساعية إلى ذلك جرأة وإقدامًا ، حتى اغتال بعض الفدائيين
منهم ولي عهد النمسة وقرينته في 28 يونيو الماضي ، في مدينة بوسنة سراي
عاصمة البوسنة عند زيارتهما لها . وقد ثبت لدى حكومة النمسا و المجر أن هذه
الجناية كانت إثر مكيدة دبرت في بلغراد عاصمة الصرب . وأن بعض الضباط
وعمال الحكومة من الصربيين هم الذين أعطوا الجناة ما كان معهم من السلاح
والقذائف النارية ، وكلهم من جمعية صربية ثورية . فأرسلت حكومة النمسة والمجر
بلاغ تهديد وإنذار لحكومة الصرب اشتمل على ما يرهقها ويذلها .
فما كلفتها إياه تصريحًا أو ضمنًا أن تعترف باشتراك بعض ضباطها وموظفيها
في جناية قتل ولي العهد وزوجه ، وتتبرأ من عملهم وتصرح بالأسف لوقوعه ، وأن
تنشر الاعتراف والبراءة في جريدتها الرسمية وجريدتها العسكرية ، وأن تتبرأ من
أعمال الجمعيات الصربية المحرضة على عداوة النمسة ، وأن تحل جمعية ( نارونا )
أو ( إبرانا ) وأن تضبط جميع المطبوعات الصربية المشتملة على التحريض
على النمسة والتنفير منها لهذا الجمعية ولغيرها ، وأن تعزل جميع الضباط
والمستخدمين الذين تثبت لدى حكومة النمسة تهمة تحريضهم على عداوتها - وأن
تعاقب الشركاء في جناية اغتيال ولي العهد من الصربيين المقيمين في بلادهم ،
ومنهم بعض الضباط والموظفين المعينين بأسمائهم ، ومنها أن تحذف من كتب
التعليم كل ما يعد دعوة إلى معاداة النمسة ، وتعزل المعلمين الذين يبثّون هذه الدعوة ،
ومنها أن تمنع تهريب السلاح والمواد المفرقعة إلى ما وراء الحدود ، ومنها أن
تقبل من تندبهم حكومة النمسة لمساعدة حكومة الصرب على تنفيذ هذه الاقتراحات .
كتب إنذار النمسة في 23 يوليو الماضي ، وكلفت الصرب أن تجيب عنه في
مدة 48 ساعة . أما الصرب فلم تقبل مطالب النمسة ، وبلغت الدول الإنذار وطلبت
منها التوسط في الأمر ، وأما الدول فقد اختلف رأيهم : فروسيّة عدَّت
بلاغ النمسا وسيلة منها إلى قتال الصرب وإذلالها ، وصرّحت بأنها لا تسكت
على ذلك ، وبادرت إلى مذاكرة فرنسا و إنكلترا ومطالبتهما بالاتحاد معها على الحرب
والقتال ، فأسرعت فرنسا إلى وعدها بالقيام بجميع عهودها التي تفرضها عليها
المحالفة . ولكن إنكلترا ترددت في الأمر ، ولم تعد بالمساعدة على الحرب ، وطفقت
تخاطب سفراءها بلسان البرق ، مجتهدة في رتق الفتق . وأما ألمانيا فقد أظهرت
العطف على حليفتها وارتأت وجوب حصر الخلاف بين النمسة والصرب دون
سواهما ، حتى لا يتعدى لهيب النار إلى أوربة كلها ، وتبادل عاهل الألمان وقيصر
الروس البرقيات في وجوب صيانة السلم في أوربا ، وصرّح الأول للثاني بأن ذلك
موقوف على عدم تصدي روسيا للاستعداد للحرب ؛ ولكن روسيا بادرت إلى تعبئة
جيشها تعبئة عامة ، وبلغ ناظر خارجيتها سفير إنكلترة أن عند حكومته براهين قاطعة
على أن ألمانيا تستعد برًّا وبحرًا لمهاجمتها . فروسيا بدأت بالتعبئة
جهرًا ، متهمة ألمانيا بأنها تستعد سرًّا ، وأنها لا تدعها تسبقها في الاستعداد .
والمتبادر مما دار بين الدول في هذه المسألة أن ما كانوا يقولونه ويكتبونه كان
له ظاهر وباطن ، والظاهر منه أن إنكلترة وفرنسة كانتا حريصتين على منع الحرب
الأوربية ؛ ولكن روسيا وألمانيا لم تدعا لهما طريقًا يسلكانه لذلك . ففي 21 يوليو قر
قرار الروسية على التعبئة العامة رسميًّا ، وألمانيا وفرنسا أمرتا بذلك في أول
أغسطس . وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في 2 منه بناءً على اجتياز بعض
الجنود الروسية للحدود ، وتتايعت [1] سائر الدول الكبرى على الحرب ماعدا إيطاليا
فإنها لزمت الحياد .
نعم إن وراء الأسباب الرسمية للحرب أسبابًا أخرى تقدمتها ترجع إلى أصل
واحد في السياسية ، وهو تعارض الدول الكبرى في المصالح والمنافع والسيادة
والعظمة في الأرض ، فروسيا ترمي إلى أن تكون ذات السيادة العليا بضم عصبية
الشعوب السلافية في البلقان والنمسة إليها ، والتوسل بذلك إلى النفوذ من زقاقي
الآستانة ( البوسفور والدردنيل ) إلى البحر الأبيض المتوسط ، الذي هو بين أوربة
وآسية وإفريقية بمنزلة القلب من جسد الإنسان .
وألمانيا تود أن تكون ذات السيادة العليا في أوربة كلها ؛ بل في العالم كله ،
بالجمع بين القوتين البرية والبحرية على أكمل ما يصل إليه ارتقاء العلوم الطبيعية ،
والفنون الآلية . وكانت إنكلترة قد سبقت الدول كلها بالقوة البحرية التي جعلت لها
السيادة العليا في الاستعمار ، فهي ترى أنه يجب عليها أن تحافظ على ما آتاها الله
بجدها وتدبيرها ، فكانت كلّما رأت ألمانيا أنشأت بارجة حربية تنشئ بارجتين مثلها ؛
لأنها إذا لم تفعل ذلك لا تلبث أن تسلبها ألمانيا ملكها .
وأما فرنسا فهي على ما كان لها من السبق في الفنون والأعمال الحربية ، من
برية وبحرية ، لم تكن هذا في العهد الذي عظمت فيه المباراة بين إنكلترا وألمانيا ،
مجتهدة في الاستعداد للحرب الأوربية بحسب ما تخولها ثروتها ومعارفها ؛ بل
اكتفت من العظمة بتوسيع مساحة مستعمراتها ، بالاستيلاء على مملكة المغرب
الأقصي بعد إضعافها بإيقاع الفتن والحروب الداخلية فيها . وانصرفت إلى التمتع
بسعة الثروة ونعمة الحضارة ، واكتفت من اتقاء زحف ألمانيا عليها بتحصين
حدودها ، وبمحالفة روسيا ثم مودة إنكلترا لها ، فكانت تمد روسيا بالقناطير المقنطرة
من الذهب وتغريها بما يوافق هواها من الاستعداد للحرب ، وتوغر صدرها
وتستثير دفين حقدها ، وتستخرج كمين ضغنها على النمسا وألمانيا معًا . وكان من
سياستها أن تعطي روسيا المال الذي تقتضي الحال إنفاقه على الاستعداد الحربي
مباراة لألمانيا ، فتستفيد بذلك فائدتين : استغلال المال بدلاً من إضاعته في زيادة
أُهبة الحرب ، وإعداد جند غريب للدفاع عن فرنسا بدلاً من تعريض معظم شبابها
للقتل ، مع ما منيث به من قلة النسل ؛ ولكن إنكلترا حملتها بعد الاتفاق معها على
تعزيز قوتها البحرية ، كما حملت هي روسيا على زيادة العناية بجميع المعدات
الحربية .
بذلك كله أصبحت هذه الدول العريقة في العلم والصناعة والثروة والحضارة ،
تنفق مئات الملايين ممّا تمصه من ثروة البشر وثمرات كسبهم ، على الاستعداد
لإراقة دمائهم ، وتدمير حضارتهم ، وكلها مشتركة في هذا الوزر الكبير ، ومُصرة
على هذا الحنث العظيم ، الذي لا باعث له إلا الطمع في الكسب ، وحب العلو في
الأرض وإن كانت تموهه بدعوى تأييد السلم بالاستعداد للحرب ، وعدم استعمال هذا
السلاح في غير المتوحشين ، الذين تريد تهذيبهم بالمدنية والدين !!
وإنما تراهم يخصون ألمانيا أو عاهلها غليوم الثاني بمزيد الذم ، ويرمونه
بتعمده إغراق أوربة في بحر من الدم ؛ لأن أمته قد صارت بسعيه أشد أمم الأرض
عناية بالفنون والأعمال العسكرية ، واستعدادًا للحروب البرية والبحرية ، حتى
اضطرت سائر الدول اضطرارًا لمجاراتها في ذلك ، فإذا كانت ألمانيا لم ترض من
الدول التي سبقتها إلى الاستعمار بمساواتهن لها في حرية التجارة والكسب في
بلادهن ومستعمراتهن ، ولا بما بَذَّتْهُنَّ به من النماء النسبي في تجارتها وصناعتها
فقامت تستعد لسلبهن ما في أيديهن ، أو الاستعلاء عليهن ، فكيف يرضين بأن
يعرضن ملكهن للضياع والخضوع لقوة الشعب الجرماني العسكرية القاهرة ؟
هذه حجة الأمم الأوربية على ألمانيا التي أرادت أن تعامل الدول التي جارتها
أو سبقتها بالحضارة ، بمثل ما عاملن به الأمم التي غلب عليها الجهل والبداوة ،
وهي السيادة بقوة العلم والصناعة . على أن الجرائد المصرية الرئيسة كالمقطم
والأهرام نقلت لنا عن لندن وباريس وبطرسبرج أن جميع الشعوب تلقت نبأ
إعلان الحرب بالسرور والابتهاج ، والهتاف في الشوارع والأسواق ؛ واستثنوا
الشعب الألماني فزعموا أنه كاره للحرب ، مسوق إليها بتأثير العاهل غليوم الثاني
والحزب العسكري . فإن صح قولهم هذا - ولن يصح - فهو فضيلة لهذا الشعب على
سائر الشعوب الأوربية . ولكنهم أرادوا أن يهونوا أمره ، ويبالغوا في ذم عاهله ،
فمدحوه بغير قصد ، وسيرجعون عن هذا المدح .
حسبنا هذه الجملة الوجيزة من بيان أسباب هذه الحرب ومقدماتها ، ونختم
المقال بعبرة المؤمنين بالله فيها ، فنقول : إن هذه الحرب تربية من الله تعالى للبشر
الذين بغى أقوياؤهم على ضعفائهم ، ولم يشكروا نعم الله عليهم بتسخير الطبيعة لهم ،
وتمكينهم بسعة العلم بسننه فيها ، من جميع أنواع الانتفاع بها ؛ بل كفروا هذه
النعم بالبغي في الأرض ، واستعلاء بعضهم على بعض ، حتى إنهم حقروا أخاهم
الإنسان الذي لم يصل إلى درجتهم في العلم ، فجعلوه - وقد كرمه الله - أدنى منزلةً
من الحيوانات العجم ، فلو أنهم رأوا قطيعًا من الأنعام أو أسرابًا من الطير يفتك
بعضها ببعض ، وتسرف في الظلم والعدوان كما فعل جيرانهم في البلقان ، لحالوا
بينها ومنعوها من التمادي في ظلمها .
أما وقد فعلوا ما فعلوا ورضوا بما رضوا ، وجعلوا جل همهم الاستعداد لسفك
الدماء ودك صروح العمران ، فلا بد أن ينتقم الله تعالى منهم لكفرهم بنعمته ،
ويزلزل قواهم بما استعلوا وبغوا به على الضعفاء من خلقه - وكذلك فَعَل - فقد
جعل الآلات الحربية التي بها يتحكمون وبالاً عليهم ، وعذابًا يأتيهم من فوقهم ومن
تحت أرجلهم ، فتفتك بهم مناطيدهم وطيراتهم ، وبوارجهم وغواصاتهم ، وألغامهم
وبنادقهم ومدافعهم ، وتُفني من جموعهم أكثر مما أفنوا من إخوانهم البشر بأيديهم ،
أو بمساعدتهم وإقرارهم . وأذاق بعضهم بأس بعض ، فجعل محالفاتهم واتفاقاتهم
وبالاً عليهم ، وسببًا لتعميم الانتقام بهم . فصدق قول الله الذي صدرنا به الكلام
عليهم . وسيصدق وعده أيضًا بجعل العاقبة للمتقين ، الذين يحررون الشعوب
المظلومة من استعباد الظالمين ، وإنما يرحم الله الراحمين ( الراحمون يرحمهم
الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .
__________
(1) التتايع - بالمثناة التحتية - بمعنى التتابع بالموحدة ، إلا أنه خاص بالشر .
 
تاريخ إعلان الدول الحرب

ذكرنا من قبل إعلان أكثر الدول للحرب ، والآن نعيده مستوفى فنقول : أعلنت
النمسا الحرب على الصرب في 28 يوليو سنة 1914 . وأعلنتها ألمانيا على روسيا
في 1 أغسطس ، وفي 4 أغسطس أعلنتها على البلجيك وفرنسا وفي منتصف ليل 5
أغسطس أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا . وفي 6 أغسطس أعلنتها النمسة على
روسيا ، وفي 7 أغسطس أعلنها الجبل الأسود على النمسا . وفي 10 منه أعلنتها
فرنسا على النمسا ، وفي 12 منه أعلنتها إنكلترا على النمسا .
وفي 17 منه أعلنها الجبل الأسود على ألمانيا ، وفي 23 منه أعلنتها اليابان على
ألمانيا ، وفي 26 منه أعلنتها النمسا على اليابان .

 
ذو الحجة - 1332هـ
نوفمبر - 1914م
الكاتب : محمد رشيد رضا

الحرب المدنية الكبرى

بلغ العالم المدني في العلوم والصناعات وشئون الاجتماع شأوًا لم تعرف
له الأرض نظيرًا ، فرماها بقاصمة من الحرب المدنيَّة لم تر لها نظيرًا ، فهذه
الحرب تشغل اليوم عقول أعرق الأمم في العلم والمدنية ، وجميع قواهم
وجوارحهم ، وما كسبته في الأيام الخالية من علم ومال ، وما أنشأته من الآلات
وعدد القتال في انتقام عدة أمم ودول من أمم ودول أخرى ، وكل دولة مقاتلة
تتوسل إلى من بقي على الحياد من الدول لتجذبها إليها ، وتجعلها من أحزابها ، فلو
نال كل فريق من المقاتلين ما يتمناه من مساعدة غيره له لاحترقت الأرض كلها بنار
هذه الحرب ، وكان البشر كلهم حولها كالفراش يتهافتون فيها .
لو فكر كل امرئ من الناس بكنه هذه الحرب ، ونكباتها وشرورها ، وما
تصبه في كل ساعة ، بل في كل دقيقة ، بل في كل ثانية من أصوات العذاب
وصواعق النكال على الألوف من إخوانه البشر ، وما يخسره العالم بفقد من تصعقهم
من العلماء والحكماء والصناع والزراع ، وأرباب البيوت الذين خلفوا وراءهم
نساءً وأطفالاً لا عائل لهم من دونهم - لو فكر كل امرئ في ذلك وأعطاه حقه من
التصور والتدبر لاضطرب قلبه وحار لبه ، وسالت عَبِرته وعظمت عِبرته ،
ولكن شُغل كل امرئ ما أصابه ، أو يتوقع أن يصيبه من شر هذه الحرب عما
أصاب غيره ، وقلما يوجد أحد في الأرض آمِنٌ من مصائبها ، وما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه .
إن أبعد الناس عن مواقع القتال وأقربهم إلى الأمن على أنفسهم من نيران
مدافعها وبنادقها وأسنة حرابها - لهم فيها شواغل أخرى بما نقصته من مكاسبهم ،
وما قطعته من موارد أرزاقهم ، فقد اضطربت المعاملات المالية في العالم كله منذ
بدأت ؛ لأن هذه الدول التي أشعلت نارها هي القائمة بمعظم تجارة العالم ، والصانعة
لأكثر ماعونه ولباسه وسائر أدوات عمله ، وما هذا الشاغل عند الأكثرين إلا
دون ما لكل منهم من الضلع والميل إلى أحد الفريقين المتحاربين على الآخر ،
فترى أمثال هؤلاء أكثر تفكيرًا في عاقبة الأحلاف المحاربة من التفكير في عاقبة
أمر أنفسهم في معاشهم ، وموارد رزقهم ، ورزق من يعولونه ، لِهوًى لهم في ذلك
يرضونه ، أو نفع من ورائه يرجونه .
هذا وإن الناس يزِنون أخبار الحرب بموازين أهوائهم ، ويحكمون في عواقبها
بأمانيهم لا بآرائهم ، فحكمهم هذا لا يتوقف على معرفة أخبارها الصادقة ، ولا على
كنه قوات الدول المحتربة , على أن من هذه القوات ما هو معلوم بالتواتر ، أو
الاستفاضة لا يماري فيه أحد من عوام الناس - دع خواصهم - ومنه أن دولة إنكلترا
أقوى دول الأرض في البحر ، وأن دولة ألمانيا أقواهن في البر ، وثانيتهن في البحر
واختلف الناس في المفاضلة بين الدول في الأساطيل الجوية ، فذهبت الصحف
عندنا إلى أن فرنسا صاحبة السبق في هذا المضمار ، وأن لها القدح المعلى فيه ، ثم
ظهر أن ألمانية هي المبرّزة فيه ، كما كنا نظن وفاقًا لكثير من الناس ، بل المعلوم
بالإجمال عند جماهير الناس في الغرب ، وأكثر المتعلمين في الشرق أن ألمانية أشد
الدول استعدادًا للحرب ، وإتقانًا لنظامها وعُددها وكراعها ، وأنه لولا أن إنكلترة
تكثرها في أساطيل البحر ، لما لها في ذلك من السبق ، لسهل عليها أن تسود الأمم
كلها بقوتها .
هذا وأن جميع الدول الأوربية متقاربة في الاستعداد للقتال ، وقلما تسبق واحدة
إلى اختراع شيء ، أو إحداث عدة ، أو إنشاء حصن ، وتستطيع إخفاءه زمنًا طويلاً
عن غيرها ، فإن لكل منهن عيونًا أحد أبصارًا من زرقاء اليمامة ، وأشد استراقًا
للسمع من الشياطين ، ولكل من فنون العلم ودور الصناعات ما يمكنه من مبارة
الآخرين في الاستعداد الذي يحتاج إليه لحماية حقيقته ، وحفظ مكانته ، ولم يكد يبقي
للسابقين من مزية على اللاحقين في شيء بل صار الأول آخرًا ، وعاد البدء ثنيانًا
في كثير من الشؤون ، حتى خيف بعد تلك المساواة ، أو المقاربة في العلم والعمل
أن يستعلي شعب واحد على شعوب أوربا كلها فيسود بذلك العالم كله .
الفرنسيس أذكى الأوربيين أذهانًا ، وأشدهم إقدامًا ، وأسبقهم إلى المحامد يدًا
ولسانًا ، والإنكليز أرجح الشعوب أحلامًا ، وأشدهم حصافةً وإحكامًا ، وأمثلهم سياسةً
وأعدلهم أحكامًا , فلهذا سبق هذان الشعبان جميع الشعوب إلى استعمار الممالك ،
والاستمتاع بثروة الأمم في المغارب والمشارق ، وقد تنافسا وتناظرا ، وتنازلا
وتصاولا ، فكان الفلج والظفر لأهل الأناة والروية ، على أهل الذكاء والأريحية ،
وبذلك كان للإنكليز المقام الأعلى في العالم منذ عدة أجيال ، ويليهم الفرنسيسن في
الثروة والاستعمار .
ثم نبغ الألمان وبرعوا في جميع العلوم والأعمال والصناعات والتجارة حتى
بذوا الفرنسيس والإنكليز في ذلك ، فصار النماء النسبي في ثروتهم أعلى من مثله
في ثروة أولئك وخيف أن يصير اللاحق سابقًا ، والثنيان بدءًا , واشتدت المناظرة ،
حتى أفضت إلى هذه الحرب الحاضرة .
وأما سائر الدول والأمم المحاربة مع هؤلاء فهي أنما حاربت بالتبع لها ,
وأقواهن الروسية ، فهي شديدة الأسر ، راسخة الأصل ، نامية الفرع ، غزيرة العدد ،
وافرة المدد ، ولو كان شعبها كالألمان في العلوم والفنون ، لسادت الناس أجمعين ،
ولكنها دون النمسا و إيطاليا في العلم والصناعة ، وفوق الدولة العثمانية التي
قنعت من المدنية الأوربية بتقليد الأوربيين في ظواهر النظام والزي وأساليب
المعيشة ، دون العلوم والفنون التي ترقي الصناعة والزراعة والتجارة ، وتنمي
الثروة ، وتغنيها عن الأجانب فيما تحتاج إليه من أسباب القوة ، وأقله معامل السلاح
والذخيرة .
ولولا أن الأمة العثمانية حربية بالطبع ، ولولا موقع عاصمتها الذي تنافس فيه
وتحاسد عليه أقوى دول الأرض ، فلم يسمح به بعضهن لبعض ، ولولا مكانتها من
نفوس الشعوب الإسلامية التي كانت توادها لأجله الدولة البريطانية - لولا ذلك كله
لأسرعت الدول الكبرى في الإجهاز عليها ، بدلاً من هذه المطاولة بنقصها من
أطرافها ، والاكتفاء بفتح النفوذ الاقتصادي ، والسياسي في أحشائها .
ولا يسع الباحث أن يغفل عن سائر الدول الصغرى التي اشتغلت نار الحرب
في بلادها أولاً ، وهي الصرب والجبل الأسود وبلجيكا فجيشهن لا تفضله
جيوش الدول الكبرى في الشجاعة ، والبلجيكيون من أرقى الشعوب في العلم
والصناعة ، والتجارة .
فجملة القول في المجموعتين المتقاتلين : أن إنكلترة وفرنسة وروسيا وبلجيكا
والصرب والجبل الأسود ، أكثر من ألمانيا والنمسا والعثمانية رجالاً ومالاً ، وأساطيل
بحرية وهوائية ، ولكن ألمانيا وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا ، ولولا الأسطول
الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا ، بل لأمكنها أن تحارب أوربة
كلها وتنتصر عليها .
بيد أن هذا السبق في الاستعداد ، ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات ،
بل يمكن الدول الأحلاف أن يلحقوها به ، إذا عجزت في أول العهد عن بطشة
فاصلة في فرنسة ، أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة ، والاستيلاء عليها ، وعلى
بضع ولايات من شمال فرنسة ، وجانب من بولاندة الروسية ، فما بعد المد إلا
الجزر . فإذا أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد
لهم الرجحان عليها من قبل في البحر .
فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي :
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يرجى إلا من قبل بريطانيا
العظمى ؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم ، والروس - وإن كانوا أكثر
عددًا - لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من
تجنيد العدد الذي تسمح لهم به كثرتهم ، فالإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة
جنودهم ، وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة لكثرة معاملهم وعمالهم
ومالهم ، وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال ، وتوقف حركة الأعمال ،
وإنما يعز عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا ،
ولكن الإنكليز أهل صبر وأناة ، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في
سنين ، وتاريخهم مرآة أخلاقهم في ذلك , وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم
بتجهيز الجيوش الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين .
بين لنا ما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا
المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز
وأبناء عمهم الألمان ، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها ، ومقدماتها
ونتيجتها .
دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها ، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها ،
وأما النتيجة فيه أن السيادة العليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة ، أو لألمانية
لا محالة ويكون أحلافهما تبعًا لهما فتكون لإنكلترا إذا فازت هي وأحلافها بالنصر
التام ؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها ، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن من
دونها ، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها إذ شرعت بتأليف قوة برية لم يكن
لها مثلها في قوت من الأوقات ، كما أنها تزيد الأسطول قوةً على قوة ، وحينئذ
تكون أعظم الدول ربحًا ، وأقلهن خسارةً ، وإذا كان من بواكر هذا الربح مصر ,
وقبرص , و البصرة , ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية , أو جميعها كما هو
المنتظر فكيف تكون أواخره .
وأما إذا كان النصر التام الألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية
والفرنسية ، وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوربة كلها تحت سيطرتها ، وتنتزع
منها جميع مستعمراتها ، وأنها بذلك تسود العالم كله ، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول
في نتيجة الحرب على كل تقدير ، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف
ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامةً ، والمسلمين خاصةً ؟
(17/950)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
كيف دخلت
الدولة العثمانية في الحرب؟

لم تلبث الدولة بعد إضرام نار الحرب في أوربا أن أمرت بتعبئة جيشها تعبئةً
عامةً ، وإن كانت قد ( أعلنت الحياد ) ثم بثت الألغام في زقاقي الدردنيل ,
والبسفور , ومنعت المرور منهما بعد أن آوت إلى الآستانة البارجتان الألمانيتان
اللتان كان يطاردهما الأسطولان الإنكليزي والفرنسي - وهما الدردنوط غوبن
والطراد برسلوا - وكانت دور الصناعة الإنكليزية قد صنعت للدولة بارجتين
من أحسن نوع الدردنوط وقرب موعد إرسالهما إلى الآستانة فلما أعلنت إنكلترا
الحرب على ألمانيا آذنت الدولة العثمانية بإلحاق المدرعتين بأسطولها ، فساء ذلك
الدولة العثمانية ، وطفقت جرائد الآستانة وغيرها من الجرائد العثمانية تطعن في
إنكلترة أشد الطعن ، ثم شاع أن الدولة تعد جيشًا في سوريا للزحف على مصر ,
وإزالة سيطرة إنكلترة عنها ، ثم أعلنت الدولة إلغاء الامتيازات الأجنبية فخيف أن
يكون ذلك سببًا للاعتداء على رعايا دول الاتفاق الثلاثي اللواتي أنكرن هذا الإلغاء ،
وحفظن لأنفسهن الحق في العمل الذي يقتضيه ما يترتب على ذلك ، وأن يكون ذلك
مقدمة الحرب وسببها ، ولكن الدولة لم تسئ معاملة أحد من الأجانب بعد إلغاء
اميتازاتهم .
أما الجرائد في أوربة ومصر فكانت تصور لقرائها أن في الدولة حزبين :
أحدهما يميل إلى الحرب مع ألمانية ، ورئيسه أنور باشا ناظر الحربية ، وثانيهما
يميل إلى إنكلترة وفرنسة ويرى إجابة رغبتهما إلى المحافظة على الحياد التام ، وأن
من أعضاء هذا الحزب الصدر الأعظم سعيد حليم باشا , و جمال باشا ناظر البحرية ،
وجاويد بك ناظر المالية ، بل قال بعضهم : إن من أعضائه طلعت بك ناظر
الداخلية أيضًا .
كانت إنكلترة أشد دول الأحلاف حرصًا على محافظة العثمانية على الحياد ،
واتفقت معهن على أن يَضْمَنَّ لها استقلالها إذا هي حافظت على ذلك ، ولكن الدولة
سئمت ذلك الاستقلال الصوري الذي لا يمنع دول الأجانب أن ينفذن فيها كل ما
يتفقن عليه وكثيرًا مما يختلفن فيه ، وأن يجعلن بلادها مناطق نفوذ اقتصادي
وسياسي ، وقد ضمنت لها ألمانية أيضًا الاستقلال ، وأن تعاملها معاملة الأمثال ، إذا
هي انضمت إليها في هذه الحرب ، وتقدم إليها ما تحتاج إليه من المال والرجال
والذخيرة ، فوثق رجال الاتحاد والترقي بذلك ، وإن كان يرتاب فيه غيرهم من
العثمانيين .
وكانت ألمانية قبل هذه الحرب وبعد حرب البلقان أرسلت إلى الآستانة بعثةً
عسكريةً لإصلاح الجيش العثماني ، فقامت لذلك دولة الروس وقعدت ، وأرغت
وأزبدت ، ثم إنها باعتها البارجتين غوين وبرسلو ، وأرسلت إليها كثيرًا من ضباط
البحرية ، ومهندسيها فحلوا محل البعثة الإنكليزية التي كانت الدولة استحضرتها
لإصلاح البحرية إثر مغادرتها الآستانة بعد الحرب ، وبذلك اشتد الجفاء بين الدولة
وبين إنكلترة وأحلافها ، ووقف أسطول إنكليزي فرنسي أمام زقاق الدردنيل مرابطًا
مراقبًا للبارجتين الألمانيتين اللتين لم تعتدَّ دول الأحلاف ببيعهما للعثمانية .
وبذلك قوي نفوذ الألمان في الجيش العثماني وفي البحرية ، حتى قطع دول
الأحلاف الصلات السياسية معها ( في 30 أكتوبر سنة 1914 ) على إثر مصادقة
بين الأسطوليين العثماني والروسي بلغ الروس أحلافهم أن الأسطول العثماني في
البحر الأسود كان هو المعتدي فيها ، وأنه ضرب بعض المواني الروسية أيضًا ,
وبلغ العثمانيون الدول أن الأسطول الروسي هو الذي بدأ بالعدوان ، وأن الدولة
مستعدة لتلافي الحادثة بالطرق السياسية ، وقد طلبت إنكلترة من سفيرها في الآستانة
أن يطالب الدولة العثمانية بالتنصل من تبعة العدوان على روسيا , وعزل البعثتين
الألمانيتين البرية والبحرية ، وإخراج بحارة غوبن وبرسلو الألمانيتين منهما ، وأن
يمهلها 12 ساعة فإن لم تفعل فليطلب جواز السفر وليغادر الآستانة ، وكذلك فعل هو ،
وسفيرا فرنسا وروسيا وعلى إثر ذلك أطلق الأسطولان الإنكليزي والفرنسي
قنابلهما على مدخل الدردنيل ، وصارت الدولة حربًا لدول الأحلاف ، ولا حول ولا
قوة إلاَّ بالله العلي العظيم .
__________
(17/958
 
جمادى الأولى - 1333هـ
أبريل - 1915م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

حرب المدنية الأوربية
والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية
والفتوحات العربية

لقد أرتنا هذه الحرب من ضروب العبر ، ما لم يكن يخطر قبلها على قلب
بشر ، وهتكت لنا من أستار الرياء ، ما أرانا كثيرًا من حقائق الأشياء ، التي لم يكن
يلمحها إلا أفراد الحكماء ، فظهر للذكي والبليد ، والغوي والرشيد ، أن هذه المدنية
المادية ، مدنية قوة وحشية ، وشهوات بهيمية ، كانت تخدع الأبصار ، وتفتن
البصائر بما يدعيه أهلها في زمن السلم من حب الحق ، والتحلي بلباس الفضائل ،
وإقامة ميزان العدل ، وثل عروش أئمة الجور والظلم ، حبًّا في سعادة الناس ،
ورغبة في المساواة بين الأفراد والأجناس .
وقد كان من مقدمات هذه الحرب بين الدول الكبرى حربان في البلقان ،
اقترف فيهما البلقانيون من ضروب القسوة ، وفظائع العدوان ، وتقتيل الشيوخ
والوِلْدان ، وهتك الأعراض ونهب الأموال ، ما لم يعرف التاريخ أقبح منه منظرًا ،
ولا أسوأ عاقبة وأثرًا ، ولم يكن يخطر في بال أحد أن هذه الموبقات يمكن أن يقع
مثلها من دولة من الدول الكبرى ، ودول العلم ، والفنون ، والمدنية الرائعة في هذا
العصر الذي يفضلونه على جميع العصور ، ويسمونه عصر الحضارة والنور ، نعم
إن أنواره المادية يكاد شعاعها يَذْهَب بالأبصار ، ويمكن أن يفضل بها الليل على
النهار ؛ ولكن يتمثل لك في هذا الضوء عالم المدنية هيكلاً من هياكل الوثنية ، قد
نصب في محاربة تمثال القوة الحربية ، واضعًا إحدى قدميه على الحق ، والأخرى
على الفضيلة ، رافعًا بيمنى يديه راية القهر والسلطة ، وبشمالها راية الشهوة واللذة ،
والناس ما بين راكع له وساجد ، ومحرق للبخور ومُقَدِّم للذبائح .
قلما كان أحد من الناس يظن أن دول العلم والحضارة تقترف مثل ذلك الظلم
والعدوان ، وتجترح تلك السيئات التي اجترحتها شعوب البلقان ، فجاءت هذه
الحرب مكذبة لظن الخير فيها ، وأحقت من القضاء بالقسوة والفظاعة عليها شر ما
أحقت على من قبلها ، إذ كانت أقدر على التنكيل والتدمير من البلقانيين الذين هم
عالة عليها ، بقدر ما آتاها العلم من أسبابها وآلاتها ، فقد جعلت العلم الجدير بأن
يكون مصدر العدل والرحمة والسعادة مصدرًا للظلم والقسوة والشقاوة ، فهذه دولة
ألمانيا الممتازة بسعة العلوم ، واتقان الفنون ، قد امتازت بما اخترعته من آلات
التخريب ، وأسباب المنون ، وينقل لنا عنها محاربوها ما تقشعر منه الجلود ،
ويتصدع من هوله الحجر الجلمود ، من مدافع تدرك الحصون والمعاقل ،
وغواصات تنسف البوارج والبواخر ، وغازات سامة يتكون منها دخان أخضر ،
يقتفي آثاره الموت الأحمر ، فهو مصداق قول الله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( الدخان : 10-11 ) .
وضعوا للحرب قوانين لتخفيف نكباتها ومصائبها مستمدة محاسنها من الشريعة
الإسلامية شريعة العدل والرحمة ؛ ولكن ثبت أنهم ما رعوها حق رعايتها ، وإنما
يعملون بها في بعض الأمور الظاهرة المشتركة بين كل من المتقاتلين كمعاملة
الأسرى ، ومن أمن منهم أن يُعَاقَب بمثل عاقب به لعجز خصمه ، أو لإمكانه إخفاء
جنايته ، لم يلتزم أحكام قوانين الحرب ، وحقوق الدول ، ولا معاهداتها احترامًا لها،
أو حبًّا في الحق والعدل اللذين تُوضَع القوانين والعهود لأجلهما .
فأين حرب هذه الأمم والدول التي خدع الناس كلهم حتى المسلمون بها ،
وصاروا يباهون بفضائلها ، وارتقائها في معارج المدنية الإنسانية بعلومها وفنونها ،
ومن حرب الصحابة الذين كان أكثرهم أميين ؟ تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ
البشري مثلها في رعاية الحق والعدل والورع ، واستعمال الرأفة والرحمة في السر
والعلن ، بل شهد فيلسوف التاريخ والاجتماع ( غوستاف لوبون ) للعرب كلهم بذلك
فقال : ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب ، فبذلك العصر النوراني
فليفاخر المفاخرون ، لا بعصر الوحشية المنظمة التي جاء بها القرن العشرون .
هل نقل ناقل أو قال قائل إن أحدًا من الصحابة - عليهم الرضوان - أو
ممن حارب معهم من التابعين انتهك عرضًا ، أو قتل شيخًا ، أو امرأة ، أو غلامًا ،
أو سلب لأحد من أعدائه مالاً ، أو هدم كنيسة أو ديرًا ، أو قتل راهبًا ، أو قسيسا ؟
أو مَثَّل بقتيل ، أو أجهز على جريح ؟ كيف وقد كان الرسول - صلى الله عليه
وسلم - يوصيهم بمثل قوله : " انطلقوا بسم الله وبالله ، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا[1] ،
ولا طفلاً صغيرًا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُحْسِنِينَ } ( البقرة : 195 ) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك ،
وروى أحمد من حديث ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا بعث جيوشه قال : ( اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ،
لا تغدروا ، ولا تُمَثِّلوا[2]، ولا تقتلوا الولدان ، ولا أصحاب الصوامع ) .
ومن وصايا الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - المقتبسة من
مشكاة النبوة ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا
إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ، وكان يزيد أمير ربع من تلك
الأرباع فقال : إني موصيك بعشر خلال : لا تقتل امرأة ، ولا صبيًّا ، ولا كبيرًا
هرمًا ، ولا تقطع شجرًا مثمرًا ، ولا تخرب عامرًا ، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا
لمأكله ، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه ، ولا تغلل ولا تخبن [3] .
نعم قد كان يقع قليل من الشذوذ يقابل بالإنكار ، إلا إذا دفع إليه الاضطرار ،
والنادر لا حكم له ، روى الشيخان وأصحاب السنن ما عدا النسائي وغيرهم عن
ابن عمر قال : وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم-
فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان .
وروى أحمد ، و أبو داود ، والنسائي و ابن ماجه ، وغيرهم عن رياح بن
ربيع : أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها ، وعلى
مقدمته خالد بن الوليد فمر رياح وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة ، فوقفوا ينظرون إليها ؛ حتى لحقهم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته ، فأفرجوا عنها ، فوقف عليها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وقال : ( ما كانت هذه لتقاتل - وقال لأحدهم - الْحَقْ
خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا ) [4] ، وروى أبو داود في مراسيله عن
عكرمة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال :
( من قتل هذه ؟ ) فأخبره رجل أنه كان غنمها فلما رأت الهزيمة أهوت إلى قائم سيفه
لتقتله به ؛ فقتلها قبل أن تقتله . ولا أتذكر قتل امرأة في مغازى النبي - صلى الله
عليه وسلم - غير هاتين إلا تلك المرأة اليهودية التي أمرها زوجها أن تلقي الرحى
على بعض المسلمين في غزوة بني النضير ليقتلوها فلا تعيش بعده إذ كان موطنًا
نفسه على أن يقاتل حتى يُقْتَل ففعلت .
وقد كان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء أعظم من ذلك فقد روى
ابن إسحاق أن بلالاً مر بصفية وابنة عم لها على قتلى يهود بعد سقوط حصن بني
أبي الحقيق ، فلما رأت المرأة القتلى صكت وجهها ، وصاحت ، وحثت التراب
على وجهها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال " أَنُزِعَت الرحمة من قلبك
حين تمر بالمرأتين على قتلاهما ؟ ) .
ومن ضروب العبرة في حرب المدنية الأوربية كثرة ما يتقاضونه من البلاد
التي يفتحونها من الغرامات ، وما يفرضونه عليها من الإتاوات ، وقد كان المسلمون
الأولون يكلفون أهل البلاد ضيافة ثلاثة أيام ، لضرورة الحاجة إلى القوت وعدم
تيسر أسبابه بالطرق النظامية المتبعة في هذه الأيام ، وأما الجزية والخراج اللذان
يفرضونهما على أهل البلاد فهما أقل مما تفرضه كل حكومة من حكومات الأرض
على أبناء جنسها في بلادها ، دع ما تفرضه الحكومات الأوربية في مستعمراتها ،
فهو يستغرق معظم غلات أرضها ، فلا يبقى لأكثر أهلها منها إلا ما يسد الرمق ،
ويستعين به على مداومة العمل ، وقد قرأنا في الصحف ما فرضه الألمان على أهل
بلجيكة من الغرامات ، وما حَمَّلُوها من الأثقال ، بعد ما حل بهم ما حل من الخزي
والنكال ، فإذا هو مما تعجز عن حمله الجبال لا الجمال ، ولا غرو فإن كل حظ
أهل هذه المدنية المادية من الحياة والدافع لها إلى القتال ، إنما هو الاستكثار من
جمع الأموال ، والتمتع باللذة ، والعظمة ، والسلطة ، والجاه ، ولو ظفر البلجيكيون
بالألمان ، لأنزلوا بهم الخزي والهوان ، وعاملوهم كما عاملوا أهل الكونغو منذ
أعوام ، فأين هذا من عفة المسلمين ولا سيما الصحابة الكرام .
روى البلاذري في فتوح البلدان عن سعيد بن عبد العزيز قال : بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم عليهم لوقعة اليرموك ردوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص : لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما
كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض
اليهود فقالوا : والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغْلَب ونجهد ،
فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى
واليهود ، وقالوا إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه ،
وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد ، فلما هزم الله الكفرة ( يعني الروم ، أي
الرومانيين ) ، وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلسين ، وأدوا الخراج .
اهـ .
وفي رواية أحفظها ولا أتذكر موضعها الآن أن الصحابة لما ردوا ما كانوا أخذوا
من الجزية قالوا إنا كنا أخذناها جزاء حمايتكم والدفاع عنكم ، وقد عجزنا الآن عن
ذلك ، فحلف الأهالي أن أبناء دينهم ما كانوا ليرجعوا مالاً أخذوه ... إلخ .
فهل عُهِدَ من فاتح في الأولين والآخرين أن يرد الخراج إلى أهل البلاد التي
يفتحها ، بناء على أن الخراج لا يباح أخذه إلا لأجل حفظ البلاد والدفع عنها ، وأن
العجز عن ذلك وإن كان في سبيل الدفاع عن تلك البلاد يُوجِب رد الأموال إلى
أصحابها ؟ لا لا ، إن هذا العدل والورع لم يعرفه البشر إلا من الصحابة - رضي
الله عنهم - ، فإن كان من وليهم من خلفاء العرب وأمرائهم دونهم ، فهم يَفْضُلون
سائر الأمم في رفقهم وقناعتهم .
كان بنون أمية أحرص العرب على نعيم الملك وسعة العيش ، فخرجوا في
كثير من أمر السلطة والتصرف في بيت المال عن السنة المتبعة وسيرة الخلفاء
الراشدين ، وإنما استقام عليها منهم عمر بن عبد العزيز ، أما سيرتهم في الغزو ،
والقضاء بين الناس ، وإدارة البلاد فكانوا يتحرون فيها العدل والرحمة ، وكذلك
كانت سيرة العباسيين في الشرق ، والأمويين في الغرب ( أي الأندلس ) ، ومن شذ
عن ذلك لغير سبب حفظ الملك كان مذمومًا ، وعرضة للعقاب ، وقد تضاعفت ثروة
الممالك ، واستبحر عمرانها بعد أن انتزعوها من الروم والفرس ، بما كانوا
يسوسونها به من الرحمة والعدل ، ولم يفطن لهذا بعض الكتاب الذي انبرى في هذه
الأيام إلى ذم ولاة العرب بكونهم لم يكن لهم هم إلا جباية الخراج ، وقوله - في
أفراد منهم - إنهم لم يفعلوا شيئًا للبلاد ، أو لم يقل فلان المؤرخ إنهم فعلوا شيئًا ،
وهو يعلم علمًا ضروريًّا أن عدم القول لا يستلزم عدم الفعل ، وإن ما سكت عنه زيد
يجوز أن لا يسكت عنه عمرو ، ويعلم علمًا نقليًّا أن مزية الفاتحين الأولين من
العرب هي العدل والرحمة ، لا الصناعة التي امتاز بها مؤسسو الأهرام وأمثالهم ،
وكانت ولا تزال شاهدة على استبدادهم وظلمهم .
كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه قلة دخل بيت المال بمصر
بكثرة دخول الناس في الإسلام ، ويستأذنه في ضرب جزية على المسلمين ، فكتب
إليه عمر هذه الكلمة العالية ( إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ هاديًا ، ولم
يُبْعَث جابيًا ) .
وكتب إليه عدي بن أرطأة : أما بعد ، أصلح الله أمير المؤمنين ، فإن قِبَلي
أناسًا من العمال قد اقتطعوا من مال الله - عز وجل - مالاً عظيمًا لست أرجو
استخراجه ( وفي رواية : لست أقدر على استخراجه ) من أيديهم إلا أن أمسهم
بشيء من العذاب ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعل ، فأجابه بقوله:
( أما بعد فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر ، كأني لك
جُنة من عذاب الله ، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل ، فانظر من
قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه به البينة ، ومن أقر لك بشيء فخذه بما
أقر به ، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله ، وايم الله لأن يلقوا الله - عز
وجل - بخياناتهم ، أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم . والسلام ) .
وروي عن يحيى الغساني أنه قال : لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل
قَدِمْتُها فوجدتها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا ، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله :
آخذ الناس بالظنة ، وأضربهم على التهمة ، أم آخذهم بالبينة ، وما جرت عليه
السنة ؟ فكتب إليّ أن خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة ، فإن لم يصلحهم
الحق فلا أصلحهم الله ، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت
من أصلح البلاد ، وأقلها سرقًا ونقبًا .
ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما تراه في كلام كثير من الكتاب من
بنائها على قاعدة من قواعد المدنية الحديثة قررها الألمان ، وتوسعوا في فلسفتها ،
وألفوا فيها الكتب ، ووافقهم عليها من وافقهم بالقول والفعل ودون القول - وهي
قاعدة " الحق للقوة " - وقد نشرنا في الجزء الذي قبل هذا مقالاً في شان الكتاب
الذي ألفه أحد قواد الألمان وعلمائهم ( الجنرال فون برنهاردي ) في ذلك وسماه
( المنطق والمبادئ في الحروب ) ، وفي نقد مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية له ،
ومنه تعلم أنهم جعلوا الأثرة وتفضيل الأقوياء على الضعفاء حتى في الحقوق المدنية
مما تقتضيه الفضيلة والحكمة ، بل زعموا أنه من أصول الديانة المسيحية وأحكامها،
وأن مساواة الشعب الغالب للشعب المغلوب لا يجوز في نظر العلم والفلسفة ولا
في حكم الدين .
ندع لعلماء اللاهوت ورجال الكنسية حكمهم فيما عزاه الجنرال الألماني في
الإيثار ( الذي يعبر عنه القوم بإنكار الذات ) ، وهو ضد الأثرة التي يدعيها هذا
الفيلسوف الألماني وغيره ، فهو ينافي طلب السلطة وانتزاع ملك الناس وملكهم
بالقوة ، لأجل التمتع بالجاه واللذة ، لأن من قواعد الإنجيل أن يعطي المؤمن ماله
لغيره ، فكيف يتفق هذا مع انتزاعه من غيره ما يملكه ؟ وأما الإسلام فهو وسط بين
هذه المدنية المادية ، وبين زهد المسيحية ، فهو دين سيادة وسلطة مدنية ، وفضيلة
أدبية روحية . فإلإيثار فيه فضيلة مندوبة ، وهو في المسيحية فريضة مطلوبة ، قال
الله تعالى في وصف المؤمنين { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر : 9 ) ، وأما قاعدة الإسلام في الأحكام فهي العدل والمساواة في الحقوق بين
المؤمن والكافر ، والبَر والفاجر ، والقريب والبعيد والحبيب والبغيض ، قال تعالى :
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) ،
والآيات في هذا المعنى كثيرة أوردنا طائفة منها في الرد على الكاتب الأمريكي
الذي زعم فيما - كتبه بمناسبة إلغاء الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية أن الشريعة
الإسلامية جاءت بعدم المساواة بين المسلم وغيره ، وبَيَّنَّا هنالك أنه لا تُعْرَف شريعة
في الأرض قررت هذه المساواة غير الشريعة الإسلامية . وقد جرى على ذلك
الخلفاء الراشدون على وجه الكمال ، وكان هو الأصل والقاعدة عند الأمويين
والعباسيين في القضاء ، وإنما وقع الشذوذ والخروج عنه في بعض الأحكام
السياسية والعسكرية .
واقعة مساواة عمر بن الخطاب بين علي صهر الرسول وابن عمه ، وبين
رجل من عامة اليهود ، وغلط عمر في تسمية اليهودي ، وتكنية عليّ ، واستياء
عليّ منه لتفضيله إياه على خصمه بالتكنية ، واعترافه هو بأن ذلك خطأ - واقعة
مشهورة معروفة ، وقد جرى لعمر بن عبد العزيز ما يقرب منها :
قال الحكم بن عمر الرعيني : شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير
إسحق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة ، فقال عمر لمسلمة : لا تجلس على
الوسائد ، وخصماؤك بين يدي ؛ ولكن وكل بخصومتك من شئت وإلا فجاثي[5] القوم
بين يدي ، فوكل مولى له بخصومته ، فقضى عمر عليه بالناعورة . ذكره الحافظ
ابن الجوزي في سيرته .
قلت: إن هذه الواقعة تشبه واقعة عليّ مع اليهود ، وأعني بالتشبيه المساواة في
التكريم والاحترام بين الرفيع ، وإن كان من بيت النبوة أو الملك ، وبين سائر
الناس حتى من غير المسلمين ، فعليّ كان سيد آل بيت الرسول وعمادهم ، ومسلمة
كان من بيت الملك فهو ابن عبد الملك بن مروان ، وناهيك بما كان لبني عبد الملك
من العز والسلطان .
أما المساواة في الحقوق نفسها فكانت هي الأصل الذي يجري عليه كل الحكام
إلا من شذ لأسباب عارضة ، أو لفساد في خلق الشخص ، ووقائعها في عهد عمر
بن عبد العزيز لا تحصى ، وقد كان أول مظلمة رفعت إليه يوم توليته مظلمة ذمي
من أهل حمص ادعى أن العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبه أرضه ، قال عمر:
يا عباس ما تقول ، قال أقطعنيها - أي الأرض - أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ،
وكتب لي بها سجلاًّ ، فقال : ما تقول يا ذمي ؟ قال : يا أمير المؤمنين أسألك
كتاب الله عز وجل ، فقال عمر : كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد
الملك ، اردُدْ عليه يا عباس ضيعته ، فردها عليه .
وقد كان أهل بيت الملك من بني أمية تأثلوا ضياعًا ، ومزارع كثيرة من بيت
المال ، وكان لبعض الناس في بعضها حق أو مقال ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز
ردها ، وكان أول ما بدأ به رد ما كان له ولولده من ذلك .
وروي أنه استشار مولاه مزاحمًا في ذلك فقال : يا مزاحم إن هؤلاء القوم
أعطونا عطايا ، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها ، وما كان لنا أن نقبلها ، وإن ذلك
قد صار إلي ليس عليّ فيه دون الله محاسب ، فقال له مزاحم : يا أمير المؤمنين هل
تدري كم ولدك ؟ إنهم كذا وكذا ، قال : فذرفت عيناه فجعل يستدمع ، ويقول : أَكِلُهم
إلى الله تعالى ، ثم ذهب مزاحم ، وذكر ذلك لعبد الملك بن عمر عسى أن يكف أباه
عن ذلك ، فقال له عبد الملك : بئس وزير الدين أنت يا مزاحم ، ثم وثب فانطلق
إلى بيت أبيه عمر فاستأذن عليه فقال له الآذن : إن أمير المؤمنين قد وضع رأسه
للقائلة ، قال استأذن لي ، قال : أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه
الوقعة ، قال عبد الملك : استأذن لي لا أم لك ، فسمع عمر الكلام ، فقال : من هذا؟
قال هذا عبد الملك ، قال : ائذن له ، فدخل عليه ، وقد اضطجع للقائلة ، فقال :
ما حاجتك يا بني في هذه الساعة ، قال : حديث حدثنيه مزاحم ، قال : فأين وقع
رأيك من ذلك ؟ قال وقع رأيي على إنفاذه ، قال : فرفع عمر يديه ، وقال : الحمد
لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني ، نعم يا بني ، أصلي الظهر ،
ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس ، فقال عبد الملك : ومن لك
بالظهر يا أمير المؤمنين ! ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر
! فقال : قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة ، فقال عبد الملك : تأمر مناديك ينادي :
الصلاة جامعة ، فيجتمع الناس ( قال إسماعيل بن أبي حكيم الراوي لهذه الواقعة
وهو من رجال صحيح مسلم ) فنادى المنادي : الصلاة جامعة فخرجت فأتيت
المسجد فجاء عمر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ، فإن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا ، والله ما كان لهم أن يعطوناها .
وما كان لنا أن نقبلها ، وإن ذلك قد صار إليّ ليس عليّ فيه دون الله محاسب ، ألا
وإني قد رددتها ، وبدأت بنفسي وأهل بيتي ، اقرأ يا مزاحم .
قال الراوي : وقد جيء بسفط قبل ذلك ، أو قال جونة فيها تلك الكتب ، فقرأ
مزاحم كتابًا منها فلما فرغ من قراءته ناوله عمر - وهو قاعد على المنبر وبيده جَلم
( أي مقص ) فجعل يقصه بالجلم ، واستأنف مزاحم كتابًا آخر ، فجعل يقرؤه فلما
فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه ، ثم استأنف كتابًا آخر ، فما زال حتى نودي بصلاة
الظهر .
هذه هي أحكام الإسلام ، فمن خالفها كان خارجًا عن هديه ، استعملوا القوة في
إقامة العدل مع الرحمة ، وبذلك ساد من ساد من خلفائهم ودولهم ، فقاعدتهم ( القوة
للحق ) ، وقاعدة المدنية الحديثة ( الحق للقوة ) ، وأما المتأخرون منا فهم مذبذبون
بين ذلك لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، وما رأيت أصدق في وصف القوم
ووصفهم من قول شاعر بني العنبر أول شعراء الحماسة :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذًا لقام بنصري معشر خُشُن ... عند الحفيظة أن ذو لُوثَة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم ... طاروا إليه زرقات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنُّوا الإغارة فرسانا وركبانا
ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما نراه في أخبارها من الكذب ،
والتناقض ، والتعارض ، والتهاتر ، والتمويه ، والتدليس ، وسوء التحريف ، وفساد
التأويل يشترك في ذلك أصحاب الشركات البرقية ، والجرائد السياسية ، حتى سرى
إلى المجلات التاريخية والعلمية ، بل لم يعد أحد من الناس يثق كل الثقة بالتقارير ،
والبلاغات الرسمية ، لأنهم يرون كل خصم يُكَذِّب خصمه في أخباره الرسمية ، ولو
سئل أصحاب الجرائد في كل قطر من الأقطار عن سبب ما ينكر عليهم مما ذكر -
لأجابوا : أن سببه الأول تضييق حكوماتنا علينا ، وإلزامها إيانا عرض كل ما
نكتبه على رقبائها الذين سلبوا حرية الكتابة منا ، مع اجتهادنا في جعل ما نكتبه
موافقًا لمصلحتها ، وتجنبنا من تلقاء أنفسنا كل ما نرى أن نشره مخالف سياستها .
هذا عذر عارض ، والمشهور بين الناس أن الجرائد لا تتحرى الصدق فيما
تنشره ، لا في أيام السلم وعهد الحرية ، ولا في أيام الحرب وعهد المراقبة ، وأنها
تتعمد الكذب والتمويه إذا كان لها في ذلك منفعة ، والحق أنها تواريخ فيها الصادق
والكاذب ، والحق والباطل ، تجمع بين الدرة والبعرة ، وتأتي بالذرة وأذن الجرّة ،
وإنني لا أشهد لجريدة من الجرائد التي أعرفها في الشرق أنها تمثل حال البلاد التي
تصدر فيها والأمة التي تتكلم عنها تمثيلاً صحيحًا ، كما يعرفه المختبر للبلاد وللأمة
ولو كانت هذه الجرائد في عصر رجال الجرح والتعديل من المحدثين ، لجعلوا
أصحابها في عداد الوضَّاعين ، ولم يرتقوا بهم إلى درجة الضعفاء أو المدلسين ،
كيف وقد ضَعَّف بعضهم القاضي الواقدي ، وبعضهم قال إنه كذاب ، وإنه كان يضع
الحديث ، وهو من أكبر الحفاظ ، وأشهر المؤلفين ، كتب عنه سليمان الشاذكوني
كتابًا ، ثم أتاه فسأله عما كتبه عنه قبل أن يخرج به ، فإذا هو لم يغير حرفًا منه .
لم تُعْنَ أمة من أمم العلم بمثل ما عني به المسلمون من ضبط الرواية في
القرون الأولى ، فإن كانوا دونوا في تواريخهم كل ما قيل ، ما صح منه ، وما لم
يصح لأجل الجمع والإحصاء ، فالعمدة عندهم على الأسانيد ، فما كان محل الشبهة
منها أمكن تمحيص الرواية فيه بالبحث عن رجال سنده ، فإذا انفرد بعض الرواة
والمؤرخين بطعن في العلويين أو الأمويين أو العرب - مثلاً - يمكننا بالنظر في
السند أن نعرف هل فيه أحد المتعصبين غير الثقات من النواصب ، أو الروافض ،
أو الشعوبية ، فنتهمه بوضعه أم لا ؟ وتحرير هذه المسألة لا يمكن إلا بمقال طويل ،
وعلى الله قصد السبيل .
__________
(1) المراد بالشيخ الفاني من لا يقاتل ، وقد كان الناس كلهم مقاتلة إلا هؤلاء الذين نهى الحديث
عنهم ، والقاعدة الإسلامية العامة أنه لا يُقَاتَل إلا من يُقَاتِل .
(2) الغلول: الخيانة في الغنائم ، والتمثيل: تشويه الأعضاء بنحو قلع العين ، وجدع الأنف ، وصلم الأذن ، وقد حرم الإسلام التمثيل بالقتلى فضلاً عن الأحياء ، وقد ثبت وقوع التمثيل في حرب المدنية الأوربية ، وفي الحرب البلقانية قبلها .
(3) أخبن الرجل : خبأ في خبنة ثوبه أو سراويله شيئًا ، والخبنة بالضم طية الثوب ، وثنيته ، وفي نسخ الموطأ المطبوعة وأكثر الكتب التي نقلت عنه : ولا تجبن ، بالجيم .
(4) العسيف : الأجير .
(5) أي اجلس بإزائهم جاثيًا على ركبتك مثلهم إذ لا تمييز في الخصومة بين أبناء الخلفاء والأمراء ، وبين دهماء الناس كأهل الدير وغيرهم .
(18/182
 
، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في
مصر ، فقد بيَّن في كتابه ( مصر الحديثة ) من فضائح المتفرنجين المصريين ما
فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا

شعبان - 1336هـ
مايو - 1918م
الكاتب : محمد رشيد رضا

شعبان - 1336هـ
مايو - 1918م

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
( 1 )

يكثر ذكر المتفرنجين في المنار وغيره ، والتفرنج مشتق من اسم الإفرنج أو
الفرنجة ، وهذه الصيغة تُبنى لمعانٍ : ( منها ) التكلف كتجلد فلان وتشجع وتخشع ،
وتجرع الشراب إذا تكلف الجَلَد والشجاعة والخشوع وشرب ما يكره ، و( منها )
تحصيل الشيء بالتدريج كتعلم الحساب . وكل من هذين المعنيين ظاهر في استعمال
كلمة التفرنج وما يُشتق منها ، فالمتفرنجون هم الذين يقلدون الإفرنج فيما يستحسنونه
من العادات وغيرها بالتكلف أولاً ، ثم يتوسعون في ذلك بالتدريج ، حتى انتقل بعضهم
من التقليد في مشخصات الأمم التي تقوى بها روابطها كالعادات في الأزياء والأكل
والشرب وآداب المجلس ، إلى ما هو من مقوماتها التي تبقى ببقائها وتفنى بفنائها
كاللغة والدين والشريعة وأصول الآداب والروابط الاجتماعية المنزلية والقومية .
وهؤلاء المتفرنجون فريقان :
( أحدهما ) مَن كان تفرنُجهم أثر التعليم المصري والتربية الإفرنجية التي
حببت إليهم ما لقنوه وتربوا عليه من مقومات القوم ومشخصاتهم قبل أن يلقنوا ما
لأمتهم من ذلك ، ويتربوا عليه كما يجب ، فكانوا كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
( وثانيهما ) مَن يتفرنجون تقليدًا للفريق الأول من قومهم الحكام والأغنياء
تقربًا إليهم ، وانتظامًا في سلكهم ، وتمتُّعًا بمثل زينتهم ولذتهم ، فهم مقلِّدة المقلدين ،
بغير شبهة ولا دليل ، إنما كان سبب فشو هذا التفرنج في المسلمين المدارس
الإفرنجية والمدارس الوطنية الرسمية وغير الرسمية ، التي أنشئت لتقليد الإفرنج
في تربيتهم وتعليمهم بغير بصيرة ولا علم بموضع الحاجة ، على حين كان العلم
بمقومات الأمة الإسلامية ومشخصاتها قد قلّ وضعف بضعفها السياسي والاجتماعي ،
وما بقي منه أمسى مشوبًا بما ليس منه من البدع والدخيل ، وساءت طريقة تعليمه ،
وأهملت فكرة التربية عليه بالتخلُّق والعمل ، وقد قلت - في المنار - غير مرة :
إنني لا أعرف في الدنيا مدرسة تعلم فيها اللغة العربية التعليم الفطري ، الذي به
تكون مَلَكَة في ألسنة المتعلمين ، بحيث يفهمون كلامها الفصيح في كل كتاب ،
ويقدرون على الإتيان به محاورة وخطابة وكتابة بغير تكلف ، كما تعلَّم اللغات
الإفرنجية في بلاد أهلها ، ولا على مقربة من ذلك كما تعلم في بلادنا ، ولا أعرف
مدرسة يعلم فيها الإسلام تعليمًا يُفهم به كتابه وسُنته وما فيهما من العقائد والأحكام
والحِكَم والآداب فهمًا صحيحًا ، يتمكن به المتعلمون من بيانه بالقول والكتابة ،
وإثبات قضاياه والدفاع عنه بالدليل والحجة ، ولا مكانًا يتربى فيه النشء على
أخلاقه وآدابه العالية ، وإنما المدارس الإسلامية التي تدرس فيها العربية والدين
معاهد تعالج فيها كتب في فنون العربية والعلوم الشرعية مما صُنِّفَ بعد ضعف العلم
الاستقلالي أو موته قلما يوجد فيها من وضع الأئمة المجتهدين شيء ، ولكن يقرأ في
بعضها قليل من كتب التفسير بقصد التبرك الذي لا يعقل معناه لا بقصد الاهتداء ،
وكل ما يقرأ من الكتب في مدارس البلاد العربية يفسر باللغة العامية ، وفي مدارس
البلاد الأعجمية ( كالهند والفرس والترك ) يترجم بلغاتها .
في أثناء هويّ الأمة الإسلامية في هذه الهاوية من الجهل من عدة قرون كان
الإفرنج يصعدون في مراقي العلم الاستقلالي والتربية الاجتماعية على علم ونظام ،
يهتدون فيه بسنن الله في خلق الإنسان والأكوان ، وقد جعلوا لكل علم وكل فن ولكل
صناعة وعمل جماعات تُعنى بترقيته وإتقانه ، حتى إن الجمعيات الدينية فيهم تملك
ألوف الألوف من النقود الذهبية . ولكن كان جُلّ ارتقائهم في العلوم والفنون المادية
والمالية والحربية وطرق استعمار الممالك واستخدام الشعوب لمنافعهم ، وأقله في
الفضائل الدينية والأدبية التي ترجح الحق على القوة ، والعدل على الشهوة ، حتى
خاف عاقبة ذلك عليهم حكماؤهم وعقلائهم ، وقال أكبر وأشهر فيلسوف اجتماعي
فيهم ، وهو هربرت سبنسر ، لأكبر وأشهر حكيم فينا ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده - ما معناه أن ضعف الفضيلة وتغلُّب الأفكار المادية على أوربة
سَتَدُعُّها ( أي تدفعها بعنف ) إلى حرب مجتاحة ليظهر أيّ أممها الأقوى ، فيسود
العالم .
{ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } ( العلق : 6-7 ) وإنه ليبغي أن
رآه قوي واستعلى ، وإن مظاهر الغنى والقوة لغَرَّارة خداعة ، فالفقراء يعظمون
الأغنياء ، وإن منعوهم رفدهم ، وهضموهم حقهم ، والضعفاء يخضعون للأقوياء ،
وإن أرهقوهم عسرًا ، واستذلوهم عدوانًا وظلمًا ، ولا يزال بعض الشعوب على
إرث ما من سلفهم الذين عبدوا الملوك ، واتخذوهم آلهًة وأربابًا ، وإن زالت تلك
الدعوى وعفت مظاهرها الباطلة ، فيظهر أثر هذا الإرث في كثير من أفرادها ،
وإن تبوءوا مقاعد الرياسة فيها ، وأما ولوع الأمم المغلوبة على أمرها بتقليد الغالبين
- في كل ما يسهل التقليد فيه من العادات وشئون الحياة - فهو سُنة من أظهر سنن
الاجتماع ، وقد بسط الكلام فيها حكيمنا ابن خلدون في مقدمته ، فهي لا تخفى على
قراء العربية ، الذين يعنون بالأمور الاجتماعية ، والتقليد في الأمم كالتقليد في
الأفراد ، هو توطين لنفس المقلد على أن يكون تابعًا للمقلد في بعض ثمرات اجتهاده ،
غير طامع في مساواته ، فهو يستلزم تعظيمه له واحتقاره لنفسه وقومه .
إن المقلد لا ينفكّ مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
قد يشتبه أمر بعض المتفرنجين بما يدعو إليه المصلحون من الاعتبار بما
أوتي الإفرنج من العلوم والفنون ، وما أتقنوا من الأعمال ، والبحث في أسباب ذلك
وطرقه ، والاستقلال في اقتباس ما تحتاج إليه أمتهم منه ، لتقوى به ، وتكون أمة
عزيزة قوية مثل أممهم ، وإنما تقوى الأمة إذا حافظت على ما كانت به أمة كاللغة
والآداب والعادات والشرائع التي تمتاز بها ، وإذا كان بعض العادات باطلاً ضارًّا ،
فينبغي إزالته وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة ، والتربية العملية النافعة ، بشرط
أن لا يشوب ذلك شيء من تحقير الأمة في أنفس أهلها ، ولا إذلالها بإشعارها
باستعلاء غيرها عليها ، وأن لا تُحْمَلَ على تقليد أجنبي عنها ، وإنما تلقَّن الحكمة
مع إقناعها بفضلها ونفعها ، وبأنها يجب أن تكون أحق بها وأهلها ، كما ورد في
حديث أبي هريرة عند الترمذي : ( الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحق
بها ) ، ومن المتفرنجين مَن يدعي هذا الإصلاح ، ويتوهم أنه صادق ؛ لأنه لا يميز
بين الإصلاح والإفساد ، ومنهم مَن يدعيه بمحض الكذب والرياء ، { وَمِنَ النَّاسِ
مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } ( البقرة : 204-205 ) .
إن الفرق بين المتفرنج المقلد وبين المصلح المستقل مما يخفى على غير
العارفين بالحقائق ، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في
مصر ، فقد بيَّن في كتابه ( مصر الحديثة ) من فضائح المتفرنجين المصريين ما
فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا ، وإن كان لم يكتبه لأجلنا ، ولا نحن عرفنا كيف
نستفيد منه ، وقد أشار إلى مذهب المصلحين الإسلاميين فيما يستحدثون لقومهم من
شئون الحضارة بما قاله في أحد تقاريره عن مصر عند ذكر وفاة الأستاذ الإمام ،
وهو أن الشيخ وحزبه المعتدل يشترطون في ذلك المحافظة على أصول الإسلام ،
خلافًا لمن لا يبالون في هذه السبيل بالدين ولا ما دونه من مقومات الأمة التي نشؤوا
فيها . ولا يرجى من أجنبي غير مسلم أن يقول في كلمة استطرادية أكثر من هذا ،
في بلد له السيطرة على حكومته ، وجل من تعتمد عليهم حكومته من رجالها هم
المتفرنجون ، كما بيَّن ذلك اللورد نفسه في كتابه ( عباس الثاني ) .
المتفرنجون أصناف ، فمنهم المعتدلون والغلاة ، ومن الغلاة : المارقون من
الدين الذين يحاربون أصوله وفروعه ، وينفثون سموم الكفر والفسق في أهله ،
والمارقون الذين لا يحبون أن يعرف حالهم ، فلا يتكلمون في أهل الدين ولا يحبون
أن يتكلم هؤلاء فيهم ، إما لاعتقادهم أن فشوَّ الكفر مفسدة تزيد أمتهم ضعفًا وفسادًا ،
وإما لكراهتهم للخوض في أمثال هذه المسائل وما تجرُّه من القيل والقال ، ومن
المعتدلين : الثابتون على عقيدتهم التي نشأوا عليها ، والذين لهم ضرب من الآراء
الجديدة فيها ، وإنما تفرنج هؤلاء في أبدانهم ، لا في عقلهم ووجدانهم ، ولا نحاول
استقصاء ما يكون به التفرنج وأصناف أهله في أفراده ، بل نقول بالإجمال : إنه
قسمان : صوري ومعنوي ، ظاهري وباطني ، والمعنوي الباطني ، يستلزم
الصوري الظاهري ، وأما هذا فلا يستلزم ذاك ، ولكنه يؤثر فيه بعض التأثير ، فكل
منهما يمد الآخر في ذلك وفي غيره ويستمد منه ؛ لذلك ترى بين أصحاب كل قسم
من التعارف والتآلف ما لا نجده بينهم وبين المخالفين لكل منهم ، فهو لذلك يسري
في الأمة سريانًا تدريجيًّا ، لا يشعر به الجمهور ، وإنما يفطن له الأفراد من
العارفين بشئون الاجتماع المراقبين لسير الأمم وتقلبها ، وما يطرأ عليها من التغيير .
أما ما يشعر به الجمهور ويتألم له من بعض شذوذ الغلاة من هؤلاء
المتفرنجين وجهر بعضهم في إنكار ما عليه الأمة من العقائد أو العادات المحترمة
فمثله فيه كمثل العامي الجاهل الذي يُصاب بالداء الإفرنجي ، يتألم لكل قرحة
تعرض له من أثر الداء ويطلب لها الدواء ، ولكنه لا يعرف خطر الداء في عامة
بدنه ، ولا فعله في تسميم دمه ، ولا يطلب له العلاج في غير أوقات التألم من
الأعراض الحادثة ، ولا يصبر على تناول الأدوية التي يرجى أن تنقي دمه من ذلك
السم في الزمن الطويل .
ترى هذا الجمهور الذي ضربنا له المثل يصيح ويشكو قولاً وكتابةً عند كل
صوت يجهر بمخالفة دينه وآدابه وعاداته : فلان كفر ، فلان فجر ، وأما العالم
بشئون الاجتماع فهو كالعالم بالطب أو بحفظ الصحة ، كلاهما يهتم بالعلل العامة
وأسبابها والعلاج الذي يستأصلها لا بأعراضها التي تظهر تارة وتخفى أخرى . ويا
ليت الجمهور يتبع الطبيب الاجتماعي الذي يستصرخه عند كل صيحة تؤلمه من
مهاجميه في عقائده أو غيرها من مقوماته الملية ، كما يتبع مريض البدن طبيب
الأبدان ، إذًا لسهل التوقي من خطر هؤلاء الذين تقطعت الأسباب وانفصمت العرى
التي تربطهم بأمتهم ، وتعذر عليهم الاتصال بأمة أخرى يكونون أعضاءً حية فيها ،
ففقد جمهورهم الشعور بالحياة القومية والملية ، فأمسى لا يهتم إلا بلذَّاته الشخصية ،
ومنها أن يكون محترمًا مكرمًا بين مَن يعيش معهم ، فهو يدعوهم إلى أن يكونوا
مثله مُدَّعِيًا أن ذلك خير لهم ، كما أنه يكون عونًا لكل ذي سلطان عليهم ، يساعده
على كل ما يريده منهم ، ومن دون هذا الجمهور أفراد يعز عليهم أن لا يكون لهم
أمة ، فهم لشدة حاجتهم إلى الأمة التي انفصلوا منها في الباطن يريدون أن يجذبوها
إليهم ، ويجعلوها أمة أخرى بمقومات ومشخّصات مذبذبة ، لا هي إسلامية صحيحة
ولا هي إفرنجية خالصة ؛ ليكونوا أعضاءً رئيسة لها في هذا الخلق الجديد المتخيل ،
بعد أن صاروا فيها كالأعضاء الأثرية وزوائد الأظفار والأشعار التي جرت العادة
بقصها وإلقائها ، وهؤلاء الأفراد الذين يفكرون في تكوين الأمم قليلون ، ولكن الذين
يلغطون بهذه الألفاظ كثيرون ، ولم يظهر في متفرنجينا فرد صَلُحَ لتكوين أسرة
صالحة ، أو تأسيس جمعية نافعة ، فأين هم من إفناء أمة كبيرة وإعادتها خلقًا
جديدًا ؟ إلا أنهم بضعف الأمة في نفسها ، وبمساعدة القوى الغريبة لهم عليها .
ليستطيعون شيئًا من الهدم دون البناء ، ومن الإماتة دون الإحياء .
قلنا : إن جمهور المسلمين يشكو ويتألم من كل صوت يسمعه من هؤلاء الذين
يدعون إرادة إصلاحه وإحيائه ، وإنما يشكو من أعراض الداء لا من سمه وأسبابه ،
ونقول أيضًا : إنه كلما سمع صوتًا منكرًا من تلك الأصوات يفزع إلى مَن يثق بهم
من العلماء والكُتَّاب : انصروا الدين ، ردوا على الملحدين ، ويقنعه كل ما يقال ،
ويكتب بعنوان الرد ، وإن كان من قبيل الطعن والسب .
وقد سمع في هذه الأيام صوت من هذه الأصوات ، لولا حالة الحرب وما
اقتضته من المراقبة على المطبوعات لكان الجهر بالشكوى منه أضعاف ما عهد في
أمثاله ، ذلك صوت رجل من أعضاء النيابة ، ألقى على جمهور عظيم من رجال
القضاء بأسلوب الخطابة ، ثم طبع في رسالة ، ووزع على الناس كافة ، موضوعه
وضع قاعدة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية ، ولتغيير أصول الشريعة الإسلامية ،
وقد رغب بعض الفضلاء في الرد عليه ، ويكفي في وجوب ذلك مجرد اطلاعنا
عليه ، وكنا سنتكلم في تلك القاعدة أو القواعد كلامًا علميًّا شرعيًّا ، ولا نقول في
شخص وضعها شيئًا ، وإن الغرض بيان الحق في نفسه ، ومَن عرف الحق عرف
أهله ، وموعدنا الجزء الآتي إن شاء الله تعالى .
((يتبع بمقال تالٍ))
(20/340
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1336هـ
أكتوبر - 1918م

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
( 3 )

الإسلام وأصول الشريعة
قد عُلِمَ - مما تقدم في المقالتين الأوليين - أن من المتفرنجين مَن يدعو
المسلمين إلى هدم أصول الشريعة الإسلامية كلها ، والاستعاضة عنها بقوانين
يضعها حكام كل قطر مستقل بآرائهم ، وإن استمدوا أصوله وفروعه من قوانين أمم
أخرى مخالفة للمسلمين في عقائدهم وآدابهم وعاداتهم ومصالحهم ، وأن من هؤلاء
المتفرنجين مَن يلبس على المسلمين بما يدعوهم إليه من إفساد دينهم وهدم شرعهم
الذي هو أعظم مقومات أمتهم الرابطة بين شعوبهم بما يُلبس دعوته من ثوب
الإصلاح ، وإن أغرب أحوالهم المتناقضة أن بعضهم يتكلم باسم الإسلام ، ويدعي
إمكان الجمع بينه وبين نبذ أصوله كلها استهجانًا لها ؛ بزعم أنها وُضعت لقوم لم
يرتقوا إلى الكمال الإنساني الذي ارتقى إليه هؤلاء المتفرنجون ، ومن أهم أصوله
إباحة السِّفَاح بالبغاء ، أو اتخاذ الأخدان لكل عذراء تجاوزت السنة الرابعة عشرة ،
أي صارت بنيتها مستعدة لهذا التمتع المفسد للصحة ، الجالب للأدواء القاتلة ،
المقلل لنسل الأمة ، المشوه لآدابها ، المُوقِع للعداوة والبغضاء بين أفرادها وبين
أسرها .
جهر بهذا صاحب الخطبة أو الرسالة التي نرد عليها في هذه المقالات بما تقدم
بيانه في المقالة الثانية مع الوعد بالرد عليه ، وإننا نبدأ الرد في كلمة وجيزة في
بيان ما يناسب المقام من تعريف ما يكون به المسلم مسلمًا ؛ ليعلم هل يمكن الجمع
بين الإسلام وبين ما جاء به ، ودعا إليه أحمد صفوت أفندي من حيث هو مسلم ،
وإن كنا قد بينا هذا في المنار من عهد قريب ؛ لئلا يقع بعض الجاهلين فيما يعده
جميع المسلمين كفرًا ، وهو لا يدري ، فنقول :
الإسلام والكفر :
إن الإسلام الصحيح عبارة عن الإذعان النفسي والخضوع الفعلي لجميع ما
جاء به محمد خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ، مع
الاعتقاد الجازم بأن كل ذلك حق وخير ، وأن كل ما يخالفه باطل وشر ، سواء كان
ذلك الجزم بدليل قطعي أو إقناعي أو بغير دليل كما هو رأي الجمهور في صحة
إيمان المقلدين . فمَن أذعن بالفعل ظاهرًا - وهو غير مؤمن بما ذكر - فهو منافق ،
ومن اعتقد وأيقن ولم يذعن فهو جاحد مجاهر ، كما قال تعالى - في قوم فرعون - :
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ( النمل : 14 ) .
وإن الإذعان والخضوع لبعض ما جاء به الرسول دون بعض - كفر كالإيمان
ببعضه دون بعض ، قال تعالى - فيمن خالفوا بعض أحكام كتابهم الدنيوية - :
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( البقرة : 85 ) ؛ ولذلك أجمع أهل الحل والعقد من الصحابة بعد التشاور على قتال
مانعي الزكاة وعدّوهم مرتدين عن الإسلام . وليس منه مخالفة بعض الأوامر
والنواهي بجهل أو تأوُّل أو جهالة ، كغلبة غضب أو شهوة مع الإذعان النفسي في
عامة الأحوال ، والعمل فيما سوى هذه الشواذ ، فإن الجاهل يرجع إذا زال جهله
بالعلم الصحيح ، والفاسق يتوب إذا زالت جهالته بذكر الله وتذكُّر الوعد والوعيد
{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } ( النساء :
17 ) .
فهذا هو الإسلام الذي لا يعتد المسلمين بدين مَن خالفه ، ولا يعدونه منهم ، فلا
يرثونه ، ولا يرثهم ، ولا يحل لهم أن يزوجوه مسلمة منهم ، ولا أن يدفنوه في
مقابرهم . ثم إن ما جاء به الرسول قسمان : قطعي الرواية والدلالة وغير قطعي ،
وقد بينا حكم كل منهما في تفسير الجزء الماضي من المنار . ومن القطعي المعلوم
من الدين بالضرورة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، ويلزمه أن شرع
الإسلام باقٍ ما بقي البشر ، لا ينسخه شيء ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم
مَن كان في عصره من المسلمين أن يبلغوا مَن بعدهم ، ولم يفرق أحد من سلف
المسلمين وخلَفهم بين مَن بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم منه في عصره ومَن
بلغته من غيره بعده . فمَن يدعي الإسلام ويزعم أن ما جاء به الرسول من أحكام
الشرع لم يكلف اتباعه فيه كله إلا الذين كانوا في زمنه ؛ لأنه كان حاكمهم ، وأن
مَن بعدهم لا يكلَّفون إلا اتباع ما تشرعه لهم حُكَّامهم ، سواء كانوا منهم أو من
غيرهم ، وأنه لا فرق بين هؤلاء الحكام وبين الرسول في كونهم شارعين يجب
اتباع أحكام شرعهم في الأمور الشخصية والمدنية والتأديبية على سواء ، وينسخ
المتأخر منهم ما شرعه من قبله ، مَن يدعي ما ذكر - فقد جاء بدين جديد معارض
لدين الإسلام مع انتحاله لاسمه ، ولا يعتد أحد بإسلامه إلا مَن استجاب له وقبل
دعوته ، كما فعلت فرق الباطنية قديمًا وحديثًا ، فإنهم حرَّفوا أصول الإسلام وفروعه ،
وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله ، فلم يعتد المسلمون بانتحالهم لقب الإسلام في
الظاهر ، بل سموهم بأسماء أخرى كالإسماعيلية والدروز والنصيرية والبابية
والبهائية ، ولم يُبِحْ مسلم سني ولا شيعي ولا خارجي أكل ذبائحهم ولا تزويجهم ولا
التزوج منهم ؛ لأنهم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب ، الذين يبيح السواد الأعظم
من المسلمين أكل ذبائحهم والتزوج منهم ، فكيف بالتوارث الذي لا يحل بين
المسلمين وأهل الكتاب ؟ !
فيجب على قائل ذلك القول وعلى مَن صدَّقه أن يرجعوا عنه ؛ إذ قد قالوه عن
جهل بحقيقة الإسلام ، وعسى أن يكونوا قد فعلوا ، فنحن أحرص الناس على عدم
إخراج أحد ينتمي للإسلام من حظيرته ، وإنما نبين الحقيقة عند الحاجة في نفسها ،
ولا نحكم على شخص معين بها ولا بلوازمها ، وإنما نعين الأشخاص على الحكم
على أنفسهم ، وعلى معرفة حكم الله فيمن يعرفون حالهم ، سواء كان في مسألة
الشارع والتشريع أو في غيرها .
ومن الأصول المجمع عليها بين المسلمين أن لا حكم لغير الله بعد ورود
شرعه ، وسيأتي الكلام في ذلك ومَن كان في قلبه شبهة من ذلك القول الناقض لهذا
الأصل فيجب عليه أن يبحث حتى يزيلها ، ويطمئن قلبه بوجوب اتباع الرسول
صلى الله عليه وسلم في جميع ما ثبت عنه من أمر الشرع ، وسنرد الشبهات التي
ذكرها أحمد أفندي صفوت في بحث الكتاب والسنة .
بعد هذه المقدمة - التي وفينا فيها بوعدنا في آخر المقالة الثانية - نبدأ بنقل
كلام أحمد أفندي صفوت على الترتيب الذي ذكرناه في تلك المقالة ، فنقول :
القياس من أصول الشريعة :
القياس ليس من الأصول التي أجمع عليها المسلمون ، بل الفقهاء فيه فريقان :
أحدهما يُثْبته وهم الجمهور ، ومنهم المقتصد فيه ، والقائل بأنه ضرورة تقدر بقدرها ،
ومنهم المقتصد فيه ، والمبالغ في التوسع ، وثانيهما ينكره وهم الظاهرية . وقد
بينا حجج الفريقين وتحقيق الحق في ذلك في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } ( المائدة : 101 ) الآية [1]
والقياسيون لم يقولوا بالقياس إلا بما ظهر لهم من الدليل عليه من الكتاب والسنة .
والظاهرية لم ينفوا القياس إلا لاعتقادهم أن نصوص الكتاب والسنة وقواعدهما
مغنية عنه .
وأما غلاة المتفرنجين فإنهم يردون القياس ؛ لأنه مبني على كتاب الله وسنة
رسوله ، لا لأنهم يستغنون عنه بنصوصهما كالظاهرية من علماء السنة ، بل هم
يرغبون عنهما بالذات ، وعنه بالتبع لهما ، ويستبدلون بأصولهما وأحكامهما أحكامًا
أخرى يقيسون عليها ، صرح بذلك أحمد أفندي صفوت في خطابه ، كما نقلناه في
المقالة الثانية عن ص 21 من رسالته ، قال :
( أما القياس فنصرف النظر عنه ؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام الأصول
الأخرى ) أي الأصول التي تشرعها لهم حكوماتهم ، كأصل الحرية الشخصية في
القانون المصري ، وتقدم بيان ذلك والتمثيل له في المقالة الثانية ، ولا نطيل القول
في هذه المسألة ؛ لأنها غير مقصودة لذاتها ؛ ولأن رده القياسَ الفقهيَّ ليس لدليل
شرعي ولا عقلي على فساده ، ولا لكونه ينافي الحق والعدل ، وسيأتي له ذكر في
الكلام بعد .
***
الإجماع من أصول الشريعة :
قد اختلف علماء أصول الفقه الإسلامي في الإجماع الاصطلاحي الذي عرفوه
بقولهم : ( هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من
الأمور ) ، فقال بعضهم بعدم إمكانه ، وبعضهم بعدم إمكان العلم به وبعضهم بعدم
إمكان نقله إلى مَن يحتج به وبعضهم بعدم كونه حجة ، والإمام أحمد والظاهرية لا
يحتجون إلا بإجماع الصحابة ، ويستدل العلماء - الذين يحتجون بالإجماع
الاصطلاحي ، وهم جمهور سائر المذاهب - بآيات من القرآن وأحاديث فهموا منها
إثبات حجية الإجماع ، أدناها مرتبة في الرواية حديث ابن عمر : ( لن تجتمع أمتي
على الضلالة ) ، كما رواه الطبراني في الكبير عنه ، أو ( لا تجتمع أمتي على
ضلالة ، ويد الله على الجماعة ، ومَن شذَّ شذ إلى النار ) كما رواه الترمذي عنه ،
وقد نوزعوا في دلالة ما استدلوا به على إجماعهم الاصطلاحي ، وقد حررنا بحث
الإجماع ، وما يقوم الدليل عليه منه في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... } ( النساء : 59 ) ، وبينا
هنالك أن أصول الشريعة الإسلامية أصح وأعدل وأفضل من جميع الحكومات
الشوروية التي يسمونها في عرف هذا العصر بالنيابية وبالديمقراطية [2] .
وأما غلاة المتفرنجين فيردون إجماع المسلمين من الصحابة وغيرهم بغير علم ولا
فهم ؛ لأنهم يرغبون عن كل ما هو إسلامي قديمًا أو حديثًا إلى قواعد تشريعهم
الجديد ، الذي نذكر بعض مسائله في الأحكام الشخصية من هذا البحث لا لمخالفة
الإجماع للعدل أو للمصلحة ؛ فشأنهم فيه شأنهم في القياس كما تقدم آنفًا .
قال لسانهم أحمد أفندي صفوت في خطابه المعهود : وأما الإجماع وحجتهم فيه
حديث : ( لا تجتمع أمتي على ضلال ) [3] - فنقسمه إلى قسمين : إما إجماع
العلماء أو حكم ولي الأمر السابق ، وبحسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي
مهما أجمع عليه الشراح ، إلى أن نوافق على إجماعهم ! . اهـ ، فجعل حكم ولي
الأمر السابق داخلاً في معنى الإجماع ، وما هو منه في شيء ، وفسر إجماع العلماء
بما يتفق عليه شراح كتب الفقه من الآراء - كما هو المتبادر من عبارته - وهذا
الإطلاق باطل ، كما علم من تعريف الإجماع الذي ذكرناه آنفًا .
ثم إنه زعم أن المتأخرين هم الذين جعلوا الإجماع حجة رضاءً منهم بحكم
السابقين ! ( قال ) : ( ونحن نرفض حكم المتأخرين والسابقين ) فهو بعد قوله : إن
علماء المسلمين يستدلون على حُجية الإجماع بالحديث الذي ذكره ، ولم ينازع في
دلالته على ذلك - يرفضه بصفته مسلمًا ، ويدعي أن المتأخرين وحدهم هم الذين
جعلوه حجة . وذلك دليل على أنه لا يعرف معنى الإجماع ولا تاريخه ، وأنه لا يفهم
معنى ما يقوله ، وما يكتبه بالعربية ، دع ما فيه من الخطأ والغلط اللغوي ، فهو إذًا لا
يرفض شيئًا من أصول الشريعة - دع فروعها التي هي تبع لها في الرفض - لأنه
لا دليل عليه ، ولا لأن دليله معارَض بما هو أقوى منه ، ولا لأنه غير مطابق
لمصلحة المسلمين في هذا العصر ، وإن كان هو وأمثاله يزعمون ذلك بغير علم - بل
لأنه يستبدل بما شرع الله وبكل ما يبنى ما يشرعه الناس ، وإن اختلف في كل
قطر إسلامي باختلاف أفكار الشارعين أصحاب السلطة والنفوذ فيه ، بحيث يكون
للمسلمين عشرات من الشرائع في أحكام الزواج والطلاق وما يتبعهما وفي سائر
الأحكام ؛ حتى يخرجوا عن كونهم أمة واحدة كما سماهم الله تعالى . ومن
يرفض أصول الشريعة الإسلامية وجميع أحكام أهلها من المتقدمين والمتأخرين - لما
ذكرنا من العلة - كيف يبالي بتفريق شمل الأمة ، وتقطيع جميع الروابط والمقومات
التي كانت بها أمة ؟ ! ومَن كان مكانه من الإسلام والعلم بمصالح أهله ما ذكرنا فهل
يُستبعد منه أن يعد هذا الفساد إصلاحًا وطنيًّا ، كما نسمع من هؤلاء المتفرنجين
كثيرًا ، ونرى مثله فيما يكتبون أحيانًا ؟ !
قلنا : إن فريق الغلاة من هؤلاء المتفرنجين يرفضون الإجماع وهو اتفاق
علماء الشرع المستقلين من المسلمين ؛ لأنه إجماع المسلمين ، وما ذاك إلا أنهم
مرقوا من دينهم ولا يحبون أن يبقى لهم به صلة ما ، بل يحاولون إفساد عقيدة كل
من استطاعوا فتنته من أهل هذا الدين ، كما يفعل أمثالهم من دعاة الأديان أو دعاة
الإلحاد .
قلنا : إنهم يرفضون القياس الإسلامي أيضًا ؛ لأنه يستند على نصوص الكتاب
والسنة التي لا يَدينون بهما ، ولكنهم يجيزون القياس على ما يستحسنون من
نصوص القوانين الوضعية . كما أنهم يستحسنون العمل بما يتفق عليه علماء هذه
القوانين من أي ملة كانوا ، ومَن قَبِلَ رأي الأفراد من قوم فهو أجدر بقبول رأي
الجماهير منهم .
وقلنا : إنهم لا يرفضون ذلك بدليل عقلي ولا شرعي ، فيكون موضوع المناقشة
بيننا وبينهم كما وقع بين سلفنا كالظاهرية والقياسية ونفاة الإجماع الأصولي على
إطلاقه ومثبتيه وكما وقع الآن بين المستقلين في الفهم منا .
وأما غير الغلاء المرتدين من المتفرنجين فيوجد فيهم مَن يجد في صدره
حرجًا من الفقه الإسلامي ؛ إذ يرى كثيرًا من فروعه غير معقولة أو غير عادلة ،
ويرى أن قائليها لا حجة لهم عليها ، غير أقيسة لهم يعتقد أنهم آراء لهم أو مفهومات
لعبارات كتب مذهبهم ، لا يظهر لها أصل من نصوص الكتاب والسنة ، أو دعوى
إجماع لم يثبت باتفاق المحدثين والمؤرخين على نقله ، ولا حجة على جعْله كالنص
الذي لا سبيل إلى نقضه .
ويوجد فيهم مَن قد ينكر كون القياس حجة ، أو مَن ينكر كثيرًا مما ذكروا له
مسالك العلة ، ومن ينكر حجية الإجماع أو إمكانه أو إمكان العلم به ، وأكثر منهم
من ينكر كونه حجة دائمة باقية كالكتاب والسنة ، وكون آراء الفقهاء الاجتهادية
شرعًا ثابتًا يجب العمل به ، وإن ظهر لنا من النصوص خلافه ، أو ثبت بالتجرِبة
ضرره في مصالح الأمة الشخصية أو المنزلية ، أو شئونها الاجتماعية والسياسية .
ويوجد فيهم - وفي غيرهم من مستقلي الفكر - مَن يظنون بادي الرأي أن
أكثر أحكام الفقه القضائية والسياسية آراء للمجتهدين ، إن كانت كلها أو جلها موافقة
للمصلحة في الزمن الذي وضعت فيه ، فقد صارت غير موافقة لمصلحة المسلمين
أنفسهم في هذا الزمن .
وفي كل فريق ممن ذكرنا مقتصد في نقده لهذا الفقه ومسرف ، ومستدل ومقلد ،
ومن المستدلين الواسع الاطلاع ، والحافظ لقليل مما يُنتقد من الأحكام ، ومنها
بعض الأحكام الشخصية التي أُلفت اللجنة المعهودة لأجلها . ومَن يراجع مجلد المنار
الرابع يرى فيه مناظرة في نقد الفقه الإسلامي بين كاتبين من أشهر الكُتاب
المعتدلين .
وقد مرّ على أول بحث حضرته بمصر في هذه المسألة زهاء عشرين سنة ،
وكان في دار سعد زغلول باشا ولم أنسَ كلمة قالها ثَمَّ قاسم بك أمين لمَن ذكر في
الأمثلة المنتقدة مسألة الربا وهي : ( إن تحريم الربا المنصوص في القرآن وكل ما
نُص في القرآن يجب أن يؤخذ بالتسليم من غير بحث ، وإنما نبحث في أقوال
الفقهاء ) . اهـ . وبعد هذا بسنة أو سنتين زرت الأستاذ الإمام في يوم عيد ،
فألفيته في مكتبه داخل الدار مع أحمد فتحي زغلول باشا محتجبًا عن جماهير
المهنئين الذين يجلسون في حجرة الاستقبال ، ريثما يشربون القهوة ، وينصرفون ،
فلما جلست إليهما وجدتهما يبحثان في مسألة الإجماع ، ورأيت الأستاذ يوافق جليسه
في بعض ما ينكره من مباحث هذه المسألة ، فقلت لهما : إني أفهم في الإجماع معنى
آخر غير المشهور في كتب الأصول ، وهو اتفاق أهل الحل والعقد كلهم أو أكثرهم
مجتمعين على ما لا نص عليه من الأمور المتعلقة بمصالح الأمة القضائية أو
السياسية ، سواء كان في استنباط الأحكام لها أو في تنفيذها ، وأرى أن ذلك ينطبق
على أدلة الإجماع ، ويوافق عمل السلف كجمع الخلفاء الراشدين أهل العلم والرأي
للتشاور فيما لم يرد فيه نص من الكتاب ، ولم تجرِ به سنة نبوبة ، وفي مبايعة
الخلفاء ، فقال الأستاذ : إن هذا المعنى صحيح ، لا إشكال فيه ، ولا اعتراض عليه ،
واستحسنه أحمد فتحي غاية الاستحسان . وقد بينت هذا المعنى بعد ذلك بما كتبته
في المقالة الثالثة عشرة ، وهي المقالة الأخيرة من مقالات ( محاورات المصلح
والمقلد ) في بحث الوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء المنشورة في مجلد المنار
الرابع ، وقد اطلع عليه الأستاذ الإمام يومئذ ، فأعجبه ، ثم زدته بيانًا في تفسير
{ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) المنشور في
أواخر المجلد الثالث عشر وأوائل المجلد الرابع عشر من المنار ، بعد أن نقلت من
الأستاذ الإمام قوله : إنه اهتدى إليه بعد البحث في المسألة والتفكر فيها عدة سنين ،
وإنه كان يظن لم يُسبق إليه حتى رأى النيسابوري صرح به في تفسيره ، وقد
ذكرت هنالك أن النيسابوري أخذه عن الرازي وزاده بيانًا ، ثم أيدت قولهما ،
ووضحته بكلام السعد التفتازاني في مسألة انعقاد المبايعة بالإمامة وقد حققت في
المسألة أن الإجماع في الإسلام في معنى مجالس نواب الأمة في القوانين الإفرنجية ،
إلا أنه أكمل منها . والقياس - وهو ركن الاجتهاد للأفراد - معهود عندهم أيضًا ،
يجري عليه القضاء ووكلاء الدعاوي وشراح القوانين ، فالقوم قد اقتبسوا من أصول
الفقه الإسلامي وفروعه ما ارتقت به قوانينهم ، ونحن أهملنا وقصرنا ، ورضينا
بالجهل الذي هو التقليد ، حتى صار أهل شرعنا ينفرون ويفرون منه ويقلدون
الإفرنج أو يجتهدون في قوانينهم ، ولو لم يحرمهم علماء السوء الجامدون وأمراء
الجهل الظالمون من الاجتهاد في شرعهم لما فروا إلى شرائع الأجانب وقوانينهم .
ألا أنه لا علاج لردة بعض المرتدين ، ولابتداع كثير من المبتدعين ولا لضعف
سائر المتفرنجين - الذين لا يزالون مؤمنين - إلا سلوك سبيل الاستقلال في فهم
الشرع ، وبيان مكانته من المساواة والعدل ، وموافقته لمصالح الناس ، من جميع
الأجناس وشرح معنى قولنا : إنه أعظم مقومات هذه الأمة ، تبقى ببقائه ، وتزول
بزواله ، وتفصيل ما يتبع ذلك من مقاصد الذين ربّوا هؤلاء المتفرنجين على
كراهته ، وهم لا يشعرون بعلة ذلك ولا بعاقبته ، فإذا ظل صِنف الفقهاء والمتكلمين
منا على جمودهم ، وإيجاب تقليد ما اختاره المقلدون المتأخرون الذين يعالجون
مصنفاتهم - فسيغلبهم هؤلاء المتفرنجون وأعوانهم على هدم ما بقي من شرعهم
ودينهم ، بل يجعلونهم أعوانًا لهم على هذا الهدم ، على جهل بذلك أو على علم ،
وها نحن أولاء نرى مبدأ تشريعٍ جديدٍ ، ووضع طريف يلبس بتليد ، يصيح بجانبيه
مثل هذا الصوت الشديد ، الذي أوجب هذا الرد العتيد وقد رأينا من أصحاب العمائم
مَن نصر ذلك القصد الخفي ، ولم نرَ منهم مَن أنكر هذا الصوت الجلي ، فأين
الغيرة على الدين ؟ !
إنا لنراها تظهر على أشدها في تضليل مَن يدعو إلى هداية الكتاب والسنة ،
ولم نر لها أثرًا في تخطئة مَن يدعو إلى ترك كل من الكتاب والسنة ، فإن كان ذنب
الأول أنه يُؤْثر الاجتهاد على التقليد فالثاني يهدم كلاًّ من الاجتهاد والتقليد ! ، وزال
اعتذار الجامدين على التقليد بأن كلمة الدهماء مجتمعة عليه ، فصار سببًا للتفرق في
الدين والارتداد عنه .
وإذا كان الإجماع ( وهو ما يقرَّر باجتهاد جماعة أهل الحل والعقد ) -
والقياس ( وهو ما يستنبطه بالاجتهاد أفراد أهل العلم ) هما أرقى ما اقتبسه منا
الإفرنج ، وسبقُنا إليهما ثابت بالنقل والعقل ، وظهر أنه لا علة لرد مَن يرفضهما
من المتفرنجين المارقين ، إلا كونهما من هداية الدين ، وتقييدهما بنصوص الكتاب
والسنة ، وكونهما من آثار أئمة هذه الأمة ، فننتقل إلى الكلام معهم في أصلي الكتاب
والسنة ؛ لنتبين هل ينبذونهما لذاتهما ، أم لعلل يستنكرونها فيهما ؟ ، وموعدنا في
ذلك المقالة الرابعة .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يراجع في المجلد 18 من المنار ، وفي ج7 من التفسير وهو بحث يستغرق 75 صفحة .
(2) يراجع ذلك في مجلدي المنار 13 و14 ، وفي الجزء الخامس من التفسير .
(3) صوابه : ضلالة ، كما تقدم آنفًا .
(20/429)
 
الكاتب : محمد عبده

جمادى الآخرة - 1337هـ

مارس - 1919م
انتشار الإسلام بسرعة
لم يُعهد لها نظير في التاريخ

هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال :
كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً ، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً
كذلك ، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع
إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة ، ثم يتناول من بقية
الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد ، وهو أمر لم
يعهد في تاريخ الأديان ، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب ، واهتدى إليه المنصفون ،
فبطل العجب .
ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان ، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى
حق من باطل ، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء ، وأقيم في
وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله ، وعذب المستجيبون له
وحرموا الرزق ، وطردوا من الدار ، وسفكت منهم دماء غزيرة ، غير أن تلك
الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر ، يثبت الله بمشهدها المستيقنين ،
ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين ، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب ،
وهي ذوب ما فسد من طباعهم ، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من
المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم { لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ } ( الأنفال : 37 ) .
تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على
الإسلام ؛ ليحصدوا نبتته ، ويخنقوا دعوته ، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف
للأقوياء , والفقير للأغنياء , ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في
ظلمات الأضاليل ، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة ، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام
من أديان كانت تدعو إليها ، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان , وحملوا الناس
على عقائدهم بأنواع من المكاره , ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا ، ولا أنالهم
القهر فلاحًا .
ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم ، ولم يعهد لها
نظير في ماضيهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من
جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان ، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه
الشر ، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر ، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في
حياته ، وجرى على سنته الأئمة من صحابته ، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة ، فاندفعوا
في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها
ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها ، فظفروا منها بما هو معلوم ، وكانوا
متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق
واللين ، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين ، ونشروا
حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم ، وفرضوا عليهم كفاء ذلك
جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة .
كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش
من الدعاة إلى دينها ، يلجون على الناس بيوتهم , ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على
دين الظافر ، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة ، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين ،
ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة
يأخذون على أنفسهم العمل في نشره ، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير
المسلمين ، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة ,
وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان
يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا .
رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات ، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها ، وانتزع
الحقوق من مغتصبيها ، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير
المسلم ، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي
قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا . وصل
الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام
لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية ، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل
الدين لا محالة ، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال[1] .
عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب ، بل
وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال ، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى
المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا . اشتهرت حرية الأديان
في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس
وغيرها .
هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم ، لم يفعلوا
شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته ، وألقوا بذلك بين أيديهم
وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه ، ولم يقوموا بينهم بدعوة ، ولم يستعملوا
لإكراههم عليه شيئًا من القوة ، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من
ضربت عليه ، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام ، وأقنعهم أنه الحق
دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا ، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب
أنفسهم ؟ .
ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية ،
وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال ، وسَيره بسكانها على
الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم ,
وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ( البقرة : 129 ) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم ،
فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته ، فتلقوه شاكرين
وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين ، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما
حركهم إلى النظر فيه ، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً ، لا عقيدة ينفر منها العقل
- وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية ، وهي
القاضية في قبول المصالح والمرافق ، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من
( اللاهوت ) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى
إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم ، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع
بالطيبات ، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية
تجشمه ، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه ، متى حسنت النية
وخلصت السريرة ، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى
حصلت التوبة وكملت الأوبة . تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في
سيرة الطاهرين من حامليه إليهم ، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه ، وما
تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه
[*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا
عليه .
كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها ، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها ،
فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها ؟ كانت
الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق ،
وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين ، متى عرضت دونها شهوات
الأعلين ، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس
والدين والعِرض والمال ، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير
بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير ، وما كان يريده لنفسه ، ولكن
ليوسع به مسجدًا ، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى
إلى الخليفة ، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه !! عدل يسمح
ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي ، وهو من نعلم من هو ،
ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما ، هذا وما سبق بيانه مما جاء به
الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه ، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا
أنصاره وأولياءه .
غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام ، فكان من خلقهم العطف على
من جاورهم من غيرهم ، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم
الجار ، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم ، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل ، فإذا
انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة ،
ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام , وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه
بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد ، خصوصًا في الصين وفي
أفريقيا ، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ
بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه ، لا سيف وراءها ولا داعي ، وإنما هو مجرد
الاطلاع على ما أُودِعه ، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه ، ومن هذا
تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة ،
إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته ، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب
دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها ، وأدعى إلى
الطمأنينة في الدنيا والآخرة ، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول
مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من
الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه ، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى
وطهارته التي أنشأه الله عليها ، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف
الأرض إلى اليوم .
قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه : إن الإسلام لم يعطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف ، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن
بإحدى اليدين والسيف بالأخرى ، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل
السيف بينه وبين حياته ، سبحانك هذا بهتان عظيم ! ما قدمناه من معاملة المسلمين
مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل
الريبة في جملته ، وإن وقع اختلاف في تفصيله ، وإنما شهر المسلمون سيوفهم
دفاعًا عن أنفسهم ، وكفًّا للعداون عنهم ، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك
ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم ، فكان الحوار
طريق العلم بالإسلام ، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه .
لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة ، مع كثرة الجيوش
ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها ، وابتدأ ذلك العمل قبل
ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة , واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة
أجيال أو يزيد ، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر
مبلغ الإسلام في أقل من قرن ، هذا ولم يكن السيف وحده ، بل كان الحسام لا
يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه ، يقولون ما يشاءون تحت حمايته ، مع غيرة
تفيض من الأفئدة ، وفصاحة تتدفق عن الألسنة, وأموال تخلب ألباب المستضعفين ،
إن في ذلك لآيات للمستيقنين .
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية ، أبعد
بلاد الله عن المدنية ، فاض حتى شملها فأحياها حياةً شعبيةً مليةً ، علا مدةً حتى
استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها ، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها ،
زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح ، فانشقت عن مكنون سر
الحياة فيها ، قالوا : كان لا يخلو مِن غَلَب (بالتحريك) قلنا : تلك سنة الله في الخلق !
لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي ، قائمة في هذا العالم إلى أن
يقضي الله قضاءه فيه ، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها وينقع غلتها
وينمي الخصب فيها ، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة فعلاها ، أو بيت
رفيع العماد فهوى به ؟
سطع الإسلام على الديار التي بلغها أهله ، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه
إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه ، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا ، وانحرفوا
عن طريق الدين أزمانًا ، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما
وراءه ، لكن الله بالغ أمره ، فانحدرت إلى ديار المسلمين أمم من التتار يقودها
جنكيز خان ، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل ، وكانوا وثنيين جاءوا لمحض الغلبة
والسلب والنهب ، ولم يلبث أعقابهم أن اتخذوا الإسلام دينًا ، وحملوه إلى أقوامهم
فعمَّهم منه ما عم غيره ، جاءوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم .
حمل الغرب على الشرق حملةً واحدةً ، لم يَبْقَ ملك من ملوكه ولا شعب من
شعوبه إلا اشترك فيها ، واستمرت المجالدات بين الغربيين والشرقيين أكثر من
مائتي سنة جمع فيها الغربيون من الغيرة والحمية للدين ما لم يسبق لهم من قبل ،
وجيشوا من الجند , وأعدوا من القوة ما بلغته طاقتهم ، وزحفوا إلى ديار المسلمين ،
وكانت فيهم بقية من روح الدين ، فغلب الغربيون على كثير من البلاد الإسلامية ،
وانتهت تلك الحروب الجارفة بإجلائهم عنها ، لمَ جاءوا , وبماذا رجعوا ؟ ظفر
رؤساء الدين في الغرب بإثارة شعوبهم ؛ ليبيدوا ما يشاءون من سكان الشرق ، أو
يستولي سلطان تلك الشعوب على ما يعتقدون لأنفسهم الحق في الاستيلاء عليه من
البلاد الإسلامية ، جاء من الملوك والأمراء وذوي الثروة وعلية الناس جم غفير ،
وجاء ممن دونهم من الطبقات ما قدروه بالملايين ، استقر المقام لكثير من هؤلاء
في أرض المسلمين ، وكانت فترات تنطفئ فيها نار الغضب , وتثوب العقول إلى
سكينتها تنظر في أحوال المجاورين ، وتلتقط من أفكار المخالطين ، وتنفعل بما
ترى وما تسمع , فتبينت أن المبالغات التي أطاشت الأحلام وجسمت الآلام ، لم
تُصِب مستقر الحقيقة , ثم وجدت حريةً في دين ، وعلمًا وشرعًا وصنعةً مع كمال
في يقين ، وتعلمت أن حرية الفكر وسعة العلم من وسائل الإيمان لا من العوادي
عليه ، ثم جمعت من الآداب ما شاء الله ، وانطلقت إلى بلادها قريرة العين بما
غنمته من جلادها ، هذا إلى ما كتبه السفار من أطراف الممالك إلى بلاد الأندلس
بمخالطة حكمائها وأدبائها ، ثم عادوا به إلى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة ما كسبوا ,
وأخذت الأفكار من ذلك العهد تتراسل ، والرغبة في العلم تزايد بين الغربيين ،
ونهضت الهمم لقطع سلاسل التقليد ، ونزعت العزائم إلى تقييد سلطان زعماء
الدين ، والأخذ على أيديهم فيما تجاوزوا فيه وصاياه وحرفوا في معناه ، ولم يكن
بعد ذلك إلا قليل من الزمن حتى ظهرت طائفة منهم تدعو إلى الإصلاح والرجوع
بالدين إلى سذاجته ، وجاءت في إصلاحها بما لا يبعد عن الإسلام إلا قليلاً ، بل
ذهب بعض طوائف الإصلاح في العقائد إلى ما يتفق مع عقيدة الإسلام إلا في
التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ما هم عليه إنما هو دينه يختلف
عنه اسمًا ، ولا يختلف معنًى إلا في صورة العبادة لا غير .
ثم أخذت أمم أوربا تفتَكُّ مِن أسرها ، وتصلح من شؤونها ، حتى استقامت
أمور دنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام ، غافلةً عن قائدها ، لاهيةً عن مرشدها ،
وتقررت أصول المدنية الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة ما سبقها من أهل
الأزمان الغابرة .
هذا طَلٌّ من وابله أصاب أرضًا قابلةً فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
بهيج ، جاء القوم ليبيدوا فاستفادوا وعادوا ليفيدوا ، ظن الرؤساء أن في إهاجة شعوبهم
شفاء ضغنهم وتقوية ركنهم ، فباءوا بوضوح شأنهم وضعضعة سلطانهم , وما بيناه
في شأن الإسلام - ويعرفه كل من تفقه فيه - قد ظفر به كثير من أهل النظر في بلاد
الغرب ، فعرفوا له حقه ، واعترفوا أنه كان أكبر أساتذتهم فيما هم فيه اليوم ، وإلى الله
عاقبة الأمور .
***
إيراد سهل الإيراد
يقول قائلون : إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق وقال
كتابه : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام :
159 ) فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب ، وفرقت بين طوائفها المذاهب ؟
إذا كان الإسلام موحدًا فما بال المسلمين عددوا ؟ إذا كان موليًّا وجه العبد وجهة
الذي خلق السموات والأرض ، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك
لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ، ولا يستطيع من دون الله خيرًا ولا شرًّا ، وكادوا يعدون ذلك
فصلاً من فصول التوحيد ؟ إذا كان أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في
الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان ، ولم يشرط عليه في
ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان ، فما بالهم قنعوا باليسير ، وكثير منهم أغلق
على نفسه باب العلم ظنًّا منه أنه قد يرضي الله بالجهل وإغفال النظر فيما أبدع
من محكم الصنع ؟ ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا
يجدونها ؟ ما بالهم بعد أن كانوا قدوة في الجد والعمل ، أصبحوا مثلاً في القعود
والكسل ؟ ما هذا الذي ألحق المسلمون بدينهم , وكتاب الله بينهم يقيم ميزان القسط
بين ما ابتدعوه وبين ما دعاهم إليه فتركوه ؟ فإذا كان الإسلام في قربه من العقول
والقلوب على ما بينت فما باله اليوم - على رأي القوم - تقصر دون الوصول إليه
يد المتناول ؟ إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه ، فما بال قراء القرآن لا يقرؤونه
إلا تغنيًا ، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيًا ؟
- إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال ، فما بالهم شدوهما إلى
أغلال أي أغلال ؟
- إذا كان قد أقام قواعد العدل , فما بال أغلب حكامهم يُضرَب بهم المثل في
الظلم ؟
- إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأرقاء ، فما بالهم قضوا قرونًا في استعباد
الأحرار ؟
- إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء ، فما بالهم قد
فاض بينهم الغدر والكذب والزور والافتراء ؟
- إذا كان الإسلام يحظر الغيلة ، ويحرم الخديعة ، ويوعد على الغش بأن
الغاش ليس من أهله ، فما بالهم يحتالون على الله وشرعه وأوليائه ؟
- إذا كان قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فما هذا الذي نراه بينهم في
السر والعلن والنفس والبدن ؟
- إذا كان قد صرح بأن الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، خاصتهم
وعامتهم وأن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر ، وأنهم إن لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سلط عليهم
شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم ، وشدد في ذلك بما لم يشدد في غيره ، فما
بالهم لا يتناصحون ولا يتواصون بحق ، ولا يعتصمون بصبر ، ولا يتناصحون في
خير ولا شر ، بل ترك كل صاحبه ، وألقى حبله على غاربه ، فعاشوا أفذاذًا ,
وصاروا في أعمالهم أفرادًا ، لا يحس أحدهم بما يكون من عمل أخيه ، كأنه ليس
منه ، وكأن لم تجمعه معه صلة ، ولم تضمه إليه وشيجة ؟
ما بال الأبناء يقتلون الآباء , وما بال البنات يعققن الأمهات ؟ أين وشائج
الرحمة ؟ أين عاطفة الرحم على القريب ؟ أين الحق الذي فرض في أموال الأغنياء
للفقراء ، وقد أصبح الأغنياء يسلبون ما بقي في أيدي أهل البأساء ؟
قبس من الإسلام أضاء الغرب كما تقول ، وضَوْؤه الأعظم وشمسه الكبرى
في الشرق , وأهله في ظلمات لا يبصرون ! أصحَّ هذا في عقل أو عُهد في نقل ؟
ألم تر إلى الذين تذوقوا من العلم شيئًا وهم من أهل هذا الدين أول ما يعلق بأوهام
أكثرهم أن عقائده خرافات وقواعده وأحكامه ترهات ، ويجدون لذتهم في التشبه
بالمستهزئين ممن سموا أنفسهم أحرار الأفكار وبعداء الأنظار ، وإلى الذين قصروا
هممهم على تصفح أوراق من كتبه ، ووسموا أنفسهم بأنهم حفاظ أحكامه القوَّام على
شرائعه ، كيف يجافون علوم النظر ويهزءون بها ، ويرون العمل فيها عبثًا في
الدين والدنيا ، ويفتخر الكثير منهم بجهلها ، كأنه في ذلك قد هجر منكرًا وترفع عن
دنيئة ؟ فمن وقف على باب العلم من المسلمين يجد دينه كالثوب الخلق يستحي أن
يظهر به بين الناس ، ومن غرته نفسه بأنه على شيء من الدين وأنه مستمسك
بعقائده ، يرى العقل جِنة والعلم ظِنة ، أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس
أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدين ؟
الجواب
ربما لم يبالغ الواصف لما عليه المسلمون اليوم بل من عدة أجيال ، وربما
كان ما جاء في الإيراد قليلاً من كثير ، وقد وصف الشيخ الغزالي - رحمه الله -
و ابن الحاج وغيرهما من أهل البصر في الدين ما كان عليه مسلمو زمانهم عامتهم
وخاصتهم بما حوته مجلدات ، ولكن قد أتيت في خاصة الدين الإسلامي بما يكفي
للاعتراف به مجرد تلاوة القرآن مع التدقيق في فهم معانيه ، وحملها على ما فهمه
أولئك الذين أنزل فيهم وعمل به بينهم ، ويكفي في الاعتراف بما ذكرته من جميل
أثره قراءة ورقات في التاريخ على ما كتبه محققو الإسلام ومنصفو سائر الأمم ،
فذلك هو الإسلام ، وقد أسلفنا أن الدين هدى وعقل ، من أحسن في استعماله والأخذ
بما أرشد إليه نال من السعادة ما وعد الله على اتباعه ، وقد جرب علاج الاجتماع
الإنساني بهذا الدواء فظهر نجاحه ظهورًا لا يستطيع معه الأعمى إنكارًا ، ولا
الأصم إعراضًا ، وغاية ما قيل في الإيراد أن أعطى الطبيب المريض دواءً فصح
المريض , وانقلب الطبيب بالمرض الذي كان يعمل لمعالجته ، وهو يتجرع
الغصص من آلامه والدواء في بيته وهو لا يتناوله ، وكثير ممن يعودونه أو
يتشفون منه ويشمتون لمصيبته ، يتناولون من ذلك الدواء فيعانون من مثل مرضه ،
وهو في يأس من حياته , ينتظر الموت, أو تبدل سنة الله في شفاء أمثاله ، كلامنا
اليوم في الدين الإسلامي وحاله على ما بينا, أما المسلمون وقد أصبحوا بسيرهم
حجةً على دينهم فلا كلام لنا فيهم الآن ، وسيكون الكلام عنهم في كتاب آخر ، إن
شاء الله .
( المنار )
جمع الأستاذ الإمام - رحمه الله - في هذا السؤال والجواب جملة مساوي
المسلمين المخالفة لهدي الإسلام , بين فيهما كليات محاسنه المفصلة في رسالة
التوحيد بعض التفصيل ، ووعد ببيان تفصيل هذه المساوي في كتاب آخر ولكنه لم
يوفق لكتابته ، على أنه جاء في كتاب ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية )
بكثير مما أراد من ذلك .
__________
(1) شكا إليه عامله بمصر ذلك فأجابه (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث هاديًا, ولم يبعث جابيًا ) .
(*) الأول كالجمع بين التثليث والتوحيد , والثاني عالم الغيب غير محال .
(21/81)
 
شعبان - 1342هـ
مارس - 1924م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

(س2-8) من القس المحترم ألفرد نيلسن الدانيمركي بدمشق .
1- هل يحسب المسلم كل تبشير مسيحي للمسلمين مفسد وغير لائق مهما
كان منصفًا وبعيدًا عن الطعن ؟
2- هل يحسب المسلم على حد سوى المسيحي الغيور في دينه والمريد نشره
للغير , والمسيحي الذي لا يعمل بدينه في حياته ولا لأجله عند غيره ؟
3- أليس من واجبات كل متنور أن يعرف الكتاب المقدس الذي أسس عليه
تمدن الغرب ( قابل الحديث : اطلبوا العلم ولو في الصين ) ؟
4- ألا يستحق التبشير بالكتاب المقدس شكر كل إنسان ؛ إما لأنه يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها قبل ، أو لأنه يجعل الإنسان بعد التأمل بتدقيق يفضل
كتابه الخاص ؟
5- أليس عصرنا الحاضر في كل دين عصر الاجتهاد فيطلب من أصحاب
الدين أن يتمسكوا به , ليس لأنهم هكذا وجدوا آباءهم ، لكن لأنهم تدققوا , فوجدوا
الدين نافعًا لأنفسهم وللهيئة الاجتماعية أكثر من أي شيء في الدنيا ؟
6- من هو أحسن : الذي يتمسك بدين من الأديان بعد الاقتناع ويطبق حياته
عليه ، أم الذي يبقى في دين آبائه بدون اعتقاد داخلي , وبدون أن يطبق حياته على
أعلى مبادئ الدين وأشرفها ؟
( الجواب ) :
عبارة هذه الأسئلة ضعيفة ؛ لضعف عربية صاحبها . ونجيب عن الأول
والثاني جوابًا واحدًا ؛ لاشتراكهما في المعنى فنقول :
إن المسلم يميز بقدر ما أوتي من العقل والعلم بين التبشير النزيه الخالي من
الطعن , والتبشير البذيء المبني عليه ، ويميز بين المسيحي الغيور في دينه العامل به
وبين من اتخذه تجارة كأكثر المبشرين الذين عرفنا حالهم , ومن جعله سياسة كالذين
رباهم هؤلاء المبشرون على التعصب وعداوة المخالف لدينهم من أبناء وطنهم ,
فصار الدين جنسية سياسية لهم ، فهم لا يعملون بأمره بالفضائل ولا بنواهيه عن
الرذائل , وإنما حظهم منه مقاومة المخالف , ولا يحتقر المسلم بطبيعة دينه شيئًا من
الأشياء كاحتقاره للنفاق وأهله . وأما كون كل تبشير يوجهه النصارى إلى المسلمين
مفسدًا وغير لائق , فهو ما أثبته الاختبار إلى الآن , وإن لم يكن من الضروريات
المنطقية في حد نفسه - وأعني بهذا الاختبار سيرة جماعات المبشرين العامة ,
ولكن يوجد أفراد يدعون إلى دينهم بإظهار ما فيه من الفضائل , والدفاع عما يرد
على عقائده وأصوله من الاعتراضات , بما أوتوه من معرفة مع مراعاة النزاهة
واجتناب كل ما يؤذي المناظر , وقد عاشرت بعضهم في طرابلس الشام أيام طلبي
للعلم , وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة في بضع سنين , لم يشك أحد منا
صاحبه في شيء , بل كنا نحترمهم لآدابهم وعدم اتجارهم بدينهم , وإن كانوا
يأخذون الرواتب من بعض جمعيات التبشير .
ومن أضر أعمال المبشرين في مدارسهم حتى الأميركانية منها , وهي أنزهها
أنهم يشككون الطلاب المسلمين في دينهم , ولا يقنعونهم بالنصرانية , فيخرج
الكثيرين منهم ملحدين أو منافقين وكذا طلاب النصارى وغيرهم , وهذا إفساد عظيم
لا يخفى على ذكاء السائل المحترم , بل يوافق رأيه كما يؤخذ من سؤاليه 5و6 دع
خدمة هذه المدارس ومثلها مستشفياتهم لمطامع السياسة الاستعمارية , حتى قال لورد
سالسبوري الوزير الإنكليزي المشهور : إن مدارس المبشرين أول خطوة من
خطوات الاستعمار ؛ لأن أول تأثيرها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشأ فيها ,
فينقسم بعضهم على بعض باختلاف الأفكار والشك في الاعتقاد ؛ أي : فيتمكن الأجنبي
من ضرب بعضهم ببعض ، وينتهي ذلك بتمكين المستعمرين من نواصيهم ,
وسلب استقلالهم وإذلالهم وسلب ثروتهم .
وأما الجواب عن السؤال الثالث ففيه تفصيل لا يتسع لبسطه باب الفتوى
فنلخص الكلام فيه بأن مجموعة الأسفار التاريخية الدينية التي تسمى ( الكتاب
المقدس ) هي من الكتب التي ينبغي للمشتغلين بالتاريخ وبعلم الملل والنحل وأمثالهم
أن يطلعوا عليها , ولكن لا يجب على كل متنور أن يعرفها , ودعوى بناء تمدن
الغرب عليها ممنوعة على إطلاقها وباطلة بالصفة التي يدعيها المبشرون في هذه
الأيام ؛ لاستمالة المفتونين بالمدنية الأوربية إلى النصرانية بها , فقوانين الغرب
أبعد شرائع الأمم عن شريعة التوراة إلا في القسوة على الضعفاء المغلوبين , وآداب
أهله أبعد من آداب جميع شعوب البشر عن آداب الإنجيل من كل وجه , فمدنية
الأمم الغربية مادية شهوانية قوامها الكبرياء والتعالي , وعبادة المال والطمع والرياء
والإسراف في الزينة والشهوات , فأين هي من أصول آداب الإنجيل المبنية على
التواضع والزهد , والإيثار والصدق ونبذ الزينة واحتقار الشهوات ؟ وقد فصلنا ذلك
مرارًا كثيرًا في المنار .
وأما العلوم والفنون وشكل الحكومات المقيدة فلم تكن أثرًا من آثار انتشار تلك
المجموعة في بلاد الغرب , بل كانت من آثار العرب والإسلام ؛ إذ من المسلمات
التي لا جدال فيها أن تأثير الدين في الأمم يكون على أشده وأكمله في أول العهد
بالاهتداء به , وبعد أن يأخذ مده غاية حده من النماء يضعف بالتدريج , وقد مكث
الغرب عدة قرون بعد انتشار النصرانية فيه , ولم يظهر فيه شيء من مبادئ هذه
العلوم والفنون , واستقلال الفكر والسلطة المقيدة , بل كان هذا مما انتقل إلى أوربة
من الأندلس العربية الإسلامية , ومما حمله غزاة الحروب الصليبية إليها من سورية
ومصر الإسلاميتين ولا يجهل القس الفاضل ما لاقى الدعاة إلى ذلك في أوربة من
اضطهاد حملة تلك المجموعة المقدسة , وحماتها من الظلم والاضطهاد في محاكم
التفتيش وغيرها , ولو اقتبس الغرب من الشرق دين العرب كما اقتبس علمهم
وحكمتهم ؛ لجمعت مدنيته بين الكمال في الدين والدنيا ؛ ولم تكن مادية محضة كما
هي الآن .
وأما الجواب عن السؤال الرابع : فهو أن التبشير بهذا الكتاب ليس نعمة على
كل فرد من أفراد البشر , حتى يجب شكره على كل فرد منهم , وإنما الشكر على
النعم , بل نقول : إنه كان نقمة ومصيبة على جميع أهل البلاد التي نعرفها , بما
أحدث من الشقاق والتعادي بين أهلها وفاقًا لما قررها اللورد سالسبوري , وإن جميع
أهل العلم والبصيرة من أهل البلاد السورية التي يقيم فيها السائل يعلمون اليوم
حق العلم أنه ما أفسد ذات بينهم , وفرق كلمة طوائفهم وحرمهم نعمة الرابطة
الوطنية التي تفتخر بها البلاد الغربية إلا مدارس المبشرين ونزعاتهم , وقد صر ح
بهذا أشهر كتابهم وخطبائهم وأهل الرأي فيهم من المسلمين والنصارى جميعًا , ومن
المتفق عليه بين هؤلاء العارفين بشؤون البلاد الدينية والاجتماعية , أن التدين
بالنصرانية كان أقوى وأصدق بين أهلها قبل هؤلاء المبشرين , والتعصب الذميم
كان أضعف ، وإن كانوا لا ينكرون أن المعرفة بالديانة كانت أقل , ولا نعرف لهم
أثرًا في تنصير أناس ارتقوا بتنصيرهم إياهم , فصاروا خيرًا مما عليه أهل دينهم
فضيلة وآدابًا وعبادة لله عز وجل , دع ما يعتقده المسلمون من بطلان كل عبادة
مشوبة بالشرك .
نعم إن هذه المدارس نفعت البلاد بما بثته فيها من العلوم والفنون العملية
ولا سيما الطب والزراعة والتجارة , وهذه نعم تشكر ، ولكنها ليست من التبشير في
شيء , وإن الذين حذقوها في المدارس أبعد عن تعاليم الكتاب المقدس في عقائده
وأحكامه ممن لم يدخل فيها .
وما علل السائل المحترم به وجوب هذا الشكر , من كون هذا التبشير يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها من قبل , أو يجعله بعد التأمل الدقيق يفضل كتابه
الخاص - ففيه بحث ونظر من حيث كونه ليس من لوازم هذا التبشير الخاص به ؛
فإن كل ما يتعلمه الإنسان يفيده ما لم يعلمه من قبل , ويقل من يدرس هذا الكتاب
بسبب التبشير وبدلالة المبشرين دراسة استقلال تهديه إلى تفضيل كتابه عليه , على
أن كل مسلم عرف حقيقة الإسلام ثم درس هذا الكتاب , يزداد به علمًا بتفضيل
القرآن على جميع الكتب وكونه مهيمنًا عليها , وحكمه هو الحكم الفصل فيها
وهؤلاء قليلون وأنا منهم , وهذا الكتاب الجامع لما عندهم منها من جملة الكتب التي
أضعها بجانبي دائمًا لكثرة مراجعتي لها .
وأما الجواب عن السؤال الخامس ، فنقول فيه : إن القرآن أوجب الاجتهاد
والاستقلال في فهم الدين , والاستدلال الذي ينتج اليقين في كل زمن وكل عصر ،
وإن الحاجة إلى هذه الهداية في هذا العصر أشد ؛ لانتشار التعليم الاستقلالي وحرية
الفكر فيه , فصار التقليد فيه أضر مما كان في العصور التي قبله , وآيات القرآن
في ذم التقليد واتباع الآباء والأجداد صريحة لا تحتمل التأويل , ولكنها لم تمنع
أدعياء العلم الدجالين من تحريم الاجتهاد وذم الاستقلال , ولولا رواج دعوة هؤلاء
الدجالين واغترار كثير من العوام لهم ، لكان المسلمون على أحسن حال , ولما صاروا
حجة على الإسلام , ينفرون الناس عنه بجهلهم وصدودهم عنه ؛ لستر جهلهم ,
حتى صاروا يحرمون العلم بالدين نفسه وهو المسمى عندهم بالاجتهاد الذي أوجبه
الله , ويوجبون الجهل وهو التقليد الذي حرمه الله تعالى .
وأما الجواب عن السؤال السادس فنجيب عنه بما يصححه فنقول : إن
المنتحل للدين لا يكون صادقًا في انتسابه إليه إلا إذا كان موقنًا بصحته مذعنًا
لأحاكمه إذعانًا نفسيًّا عمليًّا بأداء عباداته وترك محارمه , والتزام سائر أحكامه
وآدابه إلا ما يعرض للبشر عادة من بعض المخالفات , التي يستغفرون الله منها
ويتوبون إليه , وأما مجرد اللقب الموروث فلا قيمة له , والاعتقاد اليقيني هو
المعبر عنه بالإيمان ، والإذعان النفسي العملي هو المعبر عنه بالإسلام , هذا إذا قوبل
أحدهما بالآخر وإلا فالمؤمن والمسلم يصدقان على شيء واحد , وقد بينا هذه
المسائل في مواضع كثيرة من المنار بالتفصيل والدلائل .
ومن القواعد المقررة عند علماء العقائد الإسلامية أن دين الإسلام ليس فيه
شيء يحكم العقل باستحالته , وأن المسلم لا يكلف أن يعتقد ما هو محال عقلاً , وأنه
إن وجد في الشريعة ما يعارض القطعي حسًّا أو عقلاً وجب تأويله بما يجمع بين
العقل والنقل ؛ لأن الله تعالى يقول : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ( البقرة :
286 ) والقاعدة عند غيرنا بخلاف ذلك , وهي أنه يجب الإيمان ولو بالمحال وإن
كان بديهيًّا كالجمع بين النقيضين ، أو الضدين المساويين للنقضين كالتوحيد
الحقيقي والتثليث الحقيقي ؛ أي : كون الإله واحدًا حقيقة وغير واحد حقيقة - فالمسلم
الذي يتبع ما يوجبه عليه دينه من العلم الصحيح به والأخذ باليقين في عقائده لا
يخشى أن تؤثر في نفسه دعوة دين آخر , وقد بينا في الرد على دعاة النصرانية
بمصر منذ بضع سنين أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا ؛ لأن الإسلام
نصرانية وزيادة كما قال السيد جمال الدين الأفغاني , أو لأن من وصل إلى الكمال
في أمر لا يختار أن يستبدل به ما دونه كما نقول نحن .
وقد بين الله تعالى في كتابه المعجز للبشر من وجوه كثيرة أنه قد أكمل دينه
الذي بعث به رسله , وعلى لسان خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين فقال : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً } ( المائدة : 3 ) وهذا يوافق سنته تعالى في النشوء والارتقاء .
على أن كتب من قبله من الرسل لم تحفظ كلها كما حفظ كتابه , وسننهم
وتواريخهم لم تحفظ كما حفظت سنته وتاريخه , فهذا المسيح عليه السلام ليس في
الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة من الأناجيل الكثيرة إلا الشيء القليل من
تاريخه , وهي غير منقولة بالأسانيد المتصلة , وقد وقع الخلاف في تواريخ كتابتها
وفي اللغة التي كتبت بها , وفي بعض أشخاص كاتبيها كما صرحوا به في تواريخ
الكنيسة , وفي معاجمهم العلمية الكبرى ( دوائر المعارف ) .
ونحن إنما نذكر هذه المسألة هنا على سبيل الاستطراد , وغرضنا منه أن
المسلم العارف بدينه المتلقي له بالدلائل كما أمر لا يخاف أن يزداد بتبشير المبشرين
إلا ثباتًا ويقينًا فيه , ولكن هؤلاء المبشرين يبثون دعوتهم في العوام الذين لا
يعرفون من الإسلام إلا بعض الأحكام التقليدية , وفي التلاميذ المبتدئين في طلب
العلوم والفنون , وقد تمر السنين على هذا ولا يوجد واحد في الألف من هؤلاء
الجاهلين بأكثر حقائق الإسلام من عوام وتلاميذ يتنصر , ولكن يكون كثيرون منهم
ملاحدة معطلة أو مشككة ( لا أدريين ) والسائل المحترم يرى أن هؤلاء شر من
المتدين بأي دين من الأديان التي تنهى عن الشر , وتأمر بالخير وهو مصيب في
ذلك .
وليعلم القس المحترم أن من أصول ديننا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
{ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } ( البقرة : 285 ) وأنه تعالى بعث في جميع الأمم
القديمة رسلاً هادين مرشدين إلى توحيده وعبادته , وفعل الخير وترك الشر , وأن
أمر هدايتهم جرى على سنة الارتقاء بالتدرج ؛ لاختلاف استعداد البشر كما قلنا آنفًا ,
حتى كمل ذلك الاستعداد ختم الله النبوة بمحمد عليه وعلى سائر إخوانه النبيين
صلوات الله وسلامه , وأن ما جاء به مكمل لما سبقوه به ، وأن من معجزاته أنه جاء
بالخلاصة الصحيحة الفضلى لما كان عليه أشهر الرسل القريبي العهد به , الذين
حفظ من دينهم ما لم يحفظ من تعاليم من قبلهم ولاسيما موسى و عيسى ( عليهما
السلام ) على كونه أميًّا لم يطلع على شيء من الكتب مطلقًا . قال تعالى : { وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ } ( العنكبوت :
48 ) فلا يسع عاقلاً منصفًا عرف دينه أن يؤمن بغيره ولا يؤمن به , والذي نعهده
من هؤلاء المبشرين أنهم ينظرون في الإسلام بقصد العثور على شيء فيه قابل
للطعن فيه , ولو بالتمحل لا بقصد معرفة حقيقته , ولا المقايسة بينه وبين غيره
بالإنصاف .
ولقد كان من العجب عندي أن أرى هذا المبشر- السائل المحترم - يكتب
بأسلوب واثق بما يرمي إليه كلامه , وقلما عرفنا منهم من هو كذلك , وإنما تدل
كتابة أشدهم مبالغة في التبشير وتفضيلاً لما عندهم على ما عند غيرهم , على أنهم
يكتبون ما لا يعتقدون ويقولون الكذب وهم يعلمون , ويحرفون الكلم عن مواضعه
كما فعل سلفهم الأولون , والله يعلم ما يسرون وما يعلنون , فهؤلاء لا يحترمون
عندنا , وأما من دعا إلى دينه عن عقيدة هو مذعن لها ومخلص فيها ، فكل عاقل
يحترمه وقليل ما هم .
(25/188)
 
رجب - 1342هـ
فبراير - 1924م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الشيخ محمد مهدي

فُجع القطر المصري في الشهر الماضي فجأة بوفاة أخينا وصديقنا الكريم ،
وولينا الحميم ، الأستاذ محمد مهدي بك وكيل مدرسة القضاء الشرعي , والمدرس
في القسم العالي منها ،
بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد
أعداء القديم فيه من هذه الجهة .
***
رأي تلميذ له فيه
كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة , وهو أحد كتابها
ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين , وأنهم
كانوا يحبونه حبًّا شديدًا , وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من
شيوخ مصر وشبانها ثم قال :
ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق ، أريد أن
أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا ، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس
بالشيء السهل .
( لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم , ولكنه لم يكن من أنصار
الجديد ، وإنما كان وسطًا بين هاتين الطائفتين ، كان يزدري أنصار القديم ويغلو
بعض الشيء في ازدرائهم ، وكان يراهم خطرًا على الرقي العقلي وعلى الحياة
الصالحة ، كما أنه لم يكن يحب الغلاة من أنصار الجديد , بل كان يتبرم بهم كثيرًا
ويراهم خطرًا على الحياة الاجتماعية والدينية بنوع خاص , كان شديد الإعجاب
بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وبعض تلاميذه ، بل كان إعجابه هذا لا حد له ،
وكان سببًا من أسباب قصوره عن إدراك الحياة الجديدة ، فكان يخيل إليه أن المثل
الأعلى من الرقي العقلي ومن الحرية العقلية , إنما هو ما وصل إليه الشيخ محمد
عبده ، وأن الذين ينحرفون عن طريق الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى ناحية الجمود
كالذين ينحرفون عن طريقه إلى ناحية التقدم ، خطرون على الحياة الاجتماعية
والدينية والعقلية , أولئك يؤخرونها والتأخر شر ، وهؤلاء يثبون بها والوثوب خطر .
ثم كان الأستاذ الشيخ مهدي يمثل جيلاً خاصًّا من الأساتذة والأدباء هو أقرب
الآن إلى أن ينتهي , ويترك مكانه لجيل من الشبان يخالفه المخالفة كلها . كان قد أدرك
ذلك العصر الذي لم تكن فيه حياتنا العقلية والأدبية راقية ولا مرضية ، وكان من
الذين ظهر فيهم الرقي الجديد , فكان معجبًا بهذا الرقي مفتونًا به ، وحفظ هذا إلى آخر
أيامه ، فكان يرى نفسه خيرًا من غيره ، وكان لا يتكلف الاحتياط في إخفاء ذلك أو
الاقتصاد فيه ، وكان أصدقاؤه وتلاميذه الذين يحبونه ويميلون إليه يسمعون منه ذلك
راضين بل متفكهين ، كانوا يبسمون له ويستعيدونه ، فإذا انصرف عنهم الأستاذ
أعادوا ما سمعوا منه وضحكوا لا ضحك سخرية وازدراء بل ضحك عطف وحب )
اهـ .
( المنار )
هذا قول صريح من الدكتور طه حسين في رأيه ورأي أمثاله من غلاة التفرنج
في حزب الأستاذ الإمام , الذي بينا أساسه آنفًا . وإذا كان الدكتور طه يعد الفاسق
الخليع أبا نواس من المصلحين في عصره ، فلا غرو أن يعد الأستاذ الشيخ محمد
مهدي ممن يضحك منهم في هذا العصر ، ومن آرائهم في الإعجاب بالشيخ محمد
عبده ومبادئه في الجمع بين هداية الدين والترقي الدنيوي . وإننا نود من الدكتور
وشبان حزبه أن يبينوا لنا بمثل هذه الصراحة وجه تفضيل جيل الشبان الجديد على
جيل المعتدلين المصلحين , وهل منه أن السيدة أسماء كريمة المهدي التي تربأ
بشرفها ودينها أن تتعلم الرقص مع الرجال الذي شرحته لنا السياسة من عهد قريب ؛
تعد من نساء العهد القديم الذين يدعون إلى القضاء عليه ؟ أم تعد كأبيها ممن يضحك
منهن ويعطف عليهن ؛ لأنهن تعبن في اقتباس العلوم العصرية ولم يقدرن أن يصلن
بها إلى الرقي الجديد ، فوجب عليهن أن يتركن مكانهن لبنات الجيل الجديد اللواتي
يرقصن مع الرجال الأجانب , والوطنيين في مصر الجديدة وشارع عماد الدين كما
يرقص أخواتهن التركيات في مراقص غلطه و بيرا مع رجال الروم والإفرنج بإغواء ملاحدة المتفرنجين هنالك ؟
إن شأن غلاة التفرنج في مصر لعجيب ، وأعجب منه تفضيل مثل الدكتور
طه المدرس في الجامعة المصرية , والمحرر في جريدة السياسة هؤلاء الغلاة على
المعتدلين الذين يرشدون الأمة إلى كل نافع ويزجرونها عن كل ضار من قديم وجديد .
إن هؤلاء الغلاة في التفرنج أشد إفسادًا لأممهم من الجامدين على كل جديد ,
فهم الذين يبددون ثروتها في الفسق والفجور ، وهم الذين يفسدون أخلاقها وآدابها
وأعراضها ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من مقوماتها ومشخصاتها ، فإن كانوا
على شيء من العقل والفضيلة ؛ فليبينه لنا الدكتور طه وأمثاله لنقيم له ميزان
المناظرة ، ونحكم فيه مصلحة الأمة .

(
25/215
فكانت وفاته زلزالاً عظيمًا ، ورزءًا أليمًا ، وخطبًا جسيمًا ،
شعر بشدة وقعه عارفو فضله من العلماء والأدباء ولا سيما الذين تخرجوا به , أو
تلقوا عنه في المدارس الأميرية الابتدائية فالثانوية فالعالية - وآخرها دار العلوم
والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي - والذين عاشروه وحظوا بنصيب من
آدابه النفسية واللسانية - فقد كان رحمه الله تعالى نادر المثل , ومنقطع النظير في
مجموعة أخلاقه وفضائله ومعارفه وآدابه . إنني أذكر من ترجمته بعض ما سمعت
ورأيت منه وما رويت عنه بالإيجاز , وأختص ما كان من أمره في حزب الإصلاح
ومريدي الأستاذ الإمام :
هو من عرق ألباني جاور في الأزهر سنين ، وتخرج في مدرسة دار العلوم ،
وكان ممن تلقوا عن الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أفراد علماء الأزهر في هذا
العصر , في استقلال الفكر وسعة الاطلاع والجرأة على مخالفة الجماهير في الرأي ،
وكان تلاميذه في الدرجة الثانية بعد تلاميذ الأستاذ الإمام الذين دخلوا هذه المدرسة
في أول العهد بتأسيسها ، وأعني درجات الاستعداد للإصلاح . ولهذا كانوا أشد
خريجيها رغبة في الاتصال بالإمام في قيامه بالنهضة الأخيرة ، وأكثرهم استفادة منه ،
ولا غرو ! فقد كان الشيخ حسن الطويل صديقًا للشيخ محمد عبده وأستاذاً له في
الأزهر قبل مجيء السيد جمال الدين إلى هذه البلاد ، جمع بينهما الميل إلى العلوم
العقلية ، والبحث عن غير ما يقرأ في الأزهر ، وكانا أول من لقي السيد ، وسمع منه
مباحث في تفسير بعض آيات القرآن الحكيم , لم يطرق آذانهما مثلها ، جذبت إليه
ثانيهما , فانقطع عن كل شيوخه وانفرد بصحبته وكان الوارث الأكبر له .
كان الجامدون من أهل الأزهر لا يستطيعون فتح أبصارهم في نور حكمة
الأستاذ الإمام وعلمه الاستقلالي وآرائه الإصلاحية , بل كان بعضهم كالأعمى ،
وبعضهم كالأعشى تجاه ذلك النور . وكان تلاميذ الطويل يصرفون أبصارهم إليه إذا
صرفت أبصار غيرهم عنه ، فربما طرفت عين أحدهم عند النظرة الأولى ، ولكنه
لا يلبث أن يعيدها مرة بعد أخرى ، حتى تقوى على إدراك ذلك النور وإدراك
الحقائق به ، وكذلك وقع للمهدي .
حدثني فقيدنا الكريم بأول عهده بمعرفة الأستاذ قال : ذهبت مع صديق لي إلى
دار سعد بك زغلول في ( الظاهر ) ليلة , فوجدت عنده الشيخ محمد عبده وقاسم
بك أمين وآخرين ، وكانوا يتكلمون في سوء حال المسلمين وما ينتقد عليهم من
أمور دينهم ودنياهم ، فرأيت أنهم مخطئون في بعض ما يقولون ، وقد أردت أن
أجول معهم فيما رأيته خطأ من أقوالهم وما يقرره الشيخ فيوافقونه عليه , فألفيتني
عاجزًا عن الرد عليهم وضقت بهم ذرعًا ، فرأيت من الدهاء أن أورطهم فيما يظهر
به خطأ رأيهم للناس , فقلت للأستاذ بعد جولة قصيرة معه : إذا كان المسلمون
بحيث تذكرون فما بالكم لا تبينون لهم ضلالهم ، وتدلونهم على المخرج منه بمقالات
تنشرونها في الجرائد ؟ - وكنت أمكر به ؛ ليكتب فيتصدى للرد عليه من هم أقدر
مني على ذلك - فقال الأستاذ : قد صدرت هنا جريدة جديدة , لأجل هذه المباحث
فيحسن بك أن تقرأها ؟ وذكر ( المنار ) .
كان هذا القول سبب اشتراك الفقيد في المنار منذ السنة الأولى , وتلا ذلك
تعارفنا وتآلفنا ، وكان في أول العهد به يجادلني في بعض مباحث المنار التي يرى
فيها نظرًا أو خطأ ، وكانت طريقته في المذاكرة أو المناظرة أنه يحفظ لنفسه خط
الرجعة غالبًا ، فلا يظهر رأيه بصيغة الجزم ، حتى إذا ظهر له أنه مخطئ لم يشق
عليه أن يعترف بالحق ، وكان هذا دأبه طول عمره ، وكان يسر بالفلج والإحسان
والإصابة ، ويدل به فيبتسم وتبرق أساريره , فإذا جاراه جليسه وشاركه في تبسمه
ضحك ، فإذا شاركه فيه أطال وأغرب ، وكان يكتئب إذا أخطأ فتراه قد تخاوص
وقطب .
وقد حمد - رحمه الله تعالى - صحبتي وحمدت صحبته ، ولما اقترحت على
الأستاذ الإمام عقد مجالس خاصة يتلقى عنه فيها الحكمة العالية بعض خواص
المستنيرين من أساتذة المدارس وغيرهم كان الشيخ مهدي أول من ذكرت له منهم
فقال لي : إن هذا من الجامدين . قلت : لا بل هو مستقل الفكر ، حريص على
حقائق العلم . وكان سبب هذا الظن فيه سمره تلك الليلة معهم في دار سعد باشا
زغلول - ثم كان من أحظى الإخوان عند الإمام رحمهما الله تعالى .
كان الفقيد يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر ؛ رسالة التوحيد
والتفسير والمنطق والبلاغة ، ولما خرجنا من الدرس الأول من دروس كتاب أسرار
البلاغة قال لي : إننا في هذه الليلة قد اكتشفنا معنى علم البيان . وكان يحضر
الدروس أو المجالس العالية الخاصة التي كان الأستاذ يلقيها على فئة مختارة في دار
أحمد بك تيمور ( هو أحمد باشا تيمور عضو مجلس الشيوخ ) في شارع درب
سعادة ، ثم في داره هو بعين شمس - فبهذا كان الفقيد من خواص مريدي الأستاذ
الإمام الذين وردوا حوضه وشربوا نهلاً وعلاً ، وأشربوا آراءه الإصلاحية ، فنشروها
قولاً وفعلاً ، إلا أنه لم يكن يتحرى الدعاية لها ، ولم يكن يجهر بنضال الخصوم
دونه ودونها ، بل كان يوردها في الأكثر من تلقاء نفسه ويجادل فيها على طريقته
التي بيناها آنفًا .
وكذلك كان شأنه في آراء المنار ، كان معجباً بها ومظاهراً لي عليها ، وكان
يقول لي : إننا نرى في كل جزء من المنار شيئًا جديدًا ما كنا نعلمه ، وكان يحب نشر
ذلك والدفاع عنه بما بينا من أسلوبه وطريقته . فإذا تصدى له بعض خصوم الأستاذ
الإمام أو خصوم المنار منكرًا ومجادلاً تحرى في الدفاع أن يكون محايداً لا ضلع له
معنا ، إلا أن يكون المنكر من تلاميذه أو ممن هم كتلاميذه في توقيره واحترام رأيه ،
فقد يصرح حينئذ بالانتصار والثناء ، وكان يرى أن هذا الأسلوب وهذه الطريقة
أقرب وسائل الإقناع ، وهو الذي كان يخبرني بهذا عن نفسه ، وكنت أرى أن هذا
من الضعف الناشئ عن تحاميه أسباب الانتقاد عليه والتخطئة له ، فإنه لم يكن
يطيق هذا ، فكان البون بيننا في هذه الخليقة واسعًا .
وكان بعض إخوانه يتهمه بحب الانفراد ولو تشبعًا . قال لي أستاذ في الذروة
منهم علمًا واستقلالاً وصراحة : فاجأنا أخونا فلان بآراء جديدة ومباحث طريفة ،
يلقيها علينا في سامرنا لم نكن نعهدها منه ، ونحن أعلم الناس به ، فكنا نجادله فيها
ولم نعرف مصدرها , حتى اشتركنا في المنار ( وكان اشتراك هذا الأستاذ في أثناء
السنة الثانية ) . وعندي من النظر في إطلاق هذه التهمة أن الإنسان إذا اقنع بشيء
وتمكن من نفسه صار رأيًا له ومذهبًا ، وصار يتحدث به من عند نفسه ، فهي التي
تلقى على لسانه وتملى على قلمه ، ما لعله في غفلة عن مصدره ، وتكثر هذه الغفلة
إذا طال العهد على تلقي ذلك الشيء ولا سيما إذا كان من المسائل التي تتكرر
بالأساليب المختلفة ؛ لأجل الإقناع بها وتعميم نشرها ، دع ما كان من توارد
الخواطر ، ووقع حافر في إثر حافر .
تلك المباحث الإصلاحية التي كانت جديدة في أول العهد بظهور المنار هي ما
أشرنا إليه في فاتحته ، وشرحناه بالتدريج في المقالات المتسلسلة والمتفرقة كمقالات
منكرات الموالد , ومقالات الإصلاح الإسلامي التي أنحينا فيها على رؤساء الدين
والدنيا من الخلفاء والملوك والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة ، وأهمها مسألة التقليد
وتفرق المذاهب , ولما عزمت على بسط هذا البحث وإقامة الحجج عليه , ووصف
العلاج للتفرق بجمع الكلمة على المجمع عليه في الإسلام , وجعل المسائل الخلافية
في الدين كأمثالها في اللغة والعلوم والفنون البشرية ، لا تقتضي تفرقًا ولا عداوة ولا
طعنًا في المخالف - كاشفت الفقيد بذلك فنصح لي بأن لا أصرح بذلك ؛ لئلا تقوم
قيامة الشيوخ على المنار ، فقلت له : سأكتب ذلك بصفة مناظرة بين مصلح ومقلد -
وأفتح باب الرد عليها لمن شاء . وقد نفذت ذلك في المجلدين الثالث والرابع
وجمعت تلك المقالات في كتاب ( محاورات المصلح والمقلد ) التي طبعت في كتاب
مستقل كان له في العالم الإسلامي تأثير عظيم , ولقد كنت أرجو عند إنشاء المنار
أن أجد من هؤلاء الداربين في مصر حزبًا كبيرًا يشد أزري في عملي , فلم أجد إلا
أفرادًا , كان الفقيد أبرهم وأوفاهم وأوصلهم - فجزاه الله خير الجزاء - وقد كان من
حبه لي أن سمى نجله الوحيد باسمي ، فأسأله أن يجعله خير خلف له .
وجملة القول في نشأة الفقيد الأدبية الإصلاحية : إنه كان من خيرة الذين
تخرجوا في دار العلوم , وأرقاهم تحصيلاً وأحسنهم تعليمًا ، ومن وسط المستعدين
للإصلاح ، وأوائل الفئة التي اتصلت بالأستاذ الإمام في عهدنا , فأشربت طريقته
المعتدلة في الإصلاح ومذهبه الوسط الجامع بين هداية الدين على منهاج السلف
الصالح وتجديد حضارة الأمة , بما يقتضيه ترقي العلوم الكونية والفنون الحديثة .
ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته ( أسماء ) فقد رباها تربية
إسلامية فاضلة , وعلمها تعليمًا عصريًّا راقيًا . وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها
إلى إنكلترا ؛ لإتمام تعلمها واثقًا بدينها وأدبها ، فحقق الله ظنه فيها ، وهي الآن ناظرة
لمدرسة من مدارس البنات الأميرية , تديرها أحسن إدارة .
ومسألة المرأة أهم مسائل تجديد الحضارة في الشرق , والمذاهب فيها ثلاثة :
مذهب ملاحدة المتفرنجين : وهو جعلها كالمرأة الإفرنجية حتى في الخلاعة
والرقص مع الرجال نصف عارية , ومعاقرة الراح معهم وما وراء ذلك من وقاحة
وإباحة . ومذهب الجامدين : وهو أن تكون جاهلة مظلومة مستضعفة . ومذهب حزب
الإصلاح والتجديد المعتدل : وهو أن تربى البنات على التدين والفضيلة والعفاف
والتقوى , وتعلم القراءة والكتابة بلغة أمتها وملتها وأمور الدين ، وكل ما تحتاج إليه
للقيام بتكوين الأسرة ونظامها من أمور الصحة , وتربية الأطفال وتدبير المنزل إلخ
وأن لا يحرم المستعدات منهن للعلوم العالية منها ولا سيما الطب , وآكده ما يختص
منه بالنساء ، وإدارة مدارس البنات ، والملاجئ الخيرية للنساء ، وكل ما تمس
إليه حاجة الأمة .
حسبك يا قارئ المنار في الآفاق أن تعرف مما ذكرنا أن الفقيد كان من مريدي
الأستاذ الإمام ؛ أي : من الحزب الإسلامي المعتدل , الذي لا يرجى بدونه صلاح حال
المسلمين ، وارتقاؤهم المدني والاجتماعي والسياسي , مع بقائهم مسلمين كما
شهد بذلك بعض أقطاب السياسة من الأوربيين أولي العلم والاختبار لأمور الشرق
الذين وصفوه بالحزب الوسط بين جمود السواد الأكبر , وبين غلاة المتفرنجين .
صرح اللورد كرومر بهذا في تأبينه للأستاذ الإمام في تقريره عن مصر سنة 1905 ,
وسبقه إلى ذلك مراسل جريدة الطان الفرنسية بتونس .
بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد
أعداء القديم فيه من هذه الجهة .
***
رأي تلميذ له فيه
كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة , وهو أحد كتابها
ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين , وأنهم
كانوا يحبونه حبًّا شديدًا , وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من
شيوخ مصر وشبانها ثم قال :
ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق ، أريد أن
أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا ، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس
بالشيء السهل .
( لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم , ولكنه لم يكن من أنصار
الجديد ، وإنما كان وسطًا بين هاتين الطائفتين ، كان يزدري أنصار القديم ويغلو
بعض الشيء في ازدرائهم ، وكان يراهم خطرًا على الرقي العقلي وعلى الحياة
الصالحة ، كما أنه لم يكن يحب الغلاة من أنصار الجديد , بل كان يتبرم بهم كثيرًا
ويراهم خطرًا على الحياة الاجتماعية والدينية بنوع خاص , كان شديد الإعجاب
بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وبعض تلاميذه ، بل كان إعجابه هذا لا حد له ،
وكان سببًا من أسباب قصوره عن إدراك الحياة الجديدة ، فكان يخيل إليه أن المثل
الأعلى من الرقي العقلي ومن الحرية العقلية , إنما هو ما وصل إليه الشيخ محمد
عبده ، وأن الذين ينحرفون عن طريق الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى ناحية الجمود
كالذين ينحرفون عن طريقه إلى ناحية التقدم ، خطرون على الحياة الاجتماعية
والدينية والعقلية , أولئك يؤخرونها والتأخر شر ، وهؤلاء يثبون بها والوثوب خطر .
ثم كان الأستاذ الشيخ مهدي يمثل جيلاً خاصًّا من الأساتذة والأدباء هو أقرب
الآن إلى أن ينتهي , ويترك مكانه لجيل من الشبان يخالفه المخالفة كلها . كان قد أدرك
ذلك العصر الذي لم تكن فيه حياتنا العقلية والأدبية راقية ولا مرضية ، وكان من
الذين ظهر فيهم الرقي الجديد , فكان معجبًا بهذا الرقي مفتونًا به ، وحفظ هذا إلى آخر
أيامه ، فكان يرى نفسه خيرًا من غيره ، وكان لا يتكلف الاحتياط في إخفاء ذلك أو
الاقتصاد فيه ، وكان أصدقاؤه وتلاميذه الذين يحبونه ويميلون إليه يسمعون منه ذلك
راضين بل متفكهين ، كانوا يبسمون له ويستعيدونه ، فإذا انصرف عنهم الأستاذ
أعادوا ما سمعوا منه وضحكوا لا ضحك سخرية وازدراء بل ضحك عطف وحب )
اهـ .
( المنار )
هذا قول صريح من الدكتور طه حسين في رأيه ورأي أمثاله من غلاة التفرنج
في حزب الأستاذ الإمام , الذي بينا أساسه آنفًا . وإذا كان الدكتور طه يعد الفاسق
الخليع أبا نواس من المصلحين في عصره ، فلا غرو أن يعد الأستاذ الشيخ محمد
مهدي ممن يضحك منهم في هذا العصر ، ومن آرائهم في الإعجاب بالشيخ محمد
عبده ومبادئه في الجمع بين هداية الدين والترقي الدنيوي . وإننا نود من الدكتور
وشبان حزبه أن يبينوا لنا بمثل هذه الصراحة وجه تفضيل جيل الشبان الجديد على
جيل المعتدلين المصلحين , وهل منه أن السيدة أسماء كريمة المهدي التي تربأ
بشرفها ودينها أن تتعلم الرقص مع الرجال الذي شرحته لنا السياسة من عهد قريب ؛
تعد من نساء العهد القديم الذين يدعون إلى القضاء عليه ؟ أم تعد كأبيها ممن يضحك
منهن ويعطف عليهن ؛ لأنهن تعبن في اقتباس العلوم العصرية ولم يقدرن أن يصلن
بها إلى الرقي الجديد ، فوجب عليهن أن يتركن مكانهن لبنات الجيل الجديد اللواتي
يرقصن مع الرجال الأجانب , والوطنيين في مصر الجديدة وشارع عماد الدين كما
يرقص أخواتهن التركيات في مراقص غلطه و بيرا مع رجال الروم والإفرنج بإغواء ملاحدة المتفرنجين هنالك ؟
إن شأن غلاة التفرنج في مصر لعجيب ، وأعجب منه تفضيل مثل الدكتور
طه المدرس في الجامعة المصرية , والمحرر في جريدة السياسة هؤلاء الغلاة على
المعتدلين الذين يرشدون الأمة إلى كل نافع ويزجرونها عن كل ضار من قديم وجديد .
إن هؤلاء الغلاة في التفرنج أشد إفسادًا لأممهم من الجامدين على كل جديد ,
فهم الذين يبددون ثروتها في الفسق والفجور ، وهم الذين يفسدون أخلاقها وآدابها
وأعراضها ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من مقوماتها ومشخصاتها ، فإن كانوا
على شيء من العقل والفضيلة ؛ فليبينه لنا الدكتور طه وأمثاله لنقيم له ميزان
المناظرة ، ونحكم فيه مصلحة الأمة .

(25/215
 
رمضان - 1342هـ
مايو - 1924م
الكاتب : محمد رشيد رضا
الانقلاب الديني السياسي
في الجمهورية التركية

( الدسائس الأوربية في الدولة العثمانية ، تأثير التعليم الأوربي والمدارس
في حل المسألة الشرقية , طلاب الإصلاح للدولة مقلدون مدحت باشا وعصبته ،
جمعية الاتحاد والترقي ، الكماليون . إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة الوهمي
وعشيرته من البلاد التركية , واستصفاء أموالهم . إلغاء نظارة الأمور الشرعية ،
إلغاء وزارة الأوقاف ، إلغاء المدارس الدينية , جعل التعليم بجميع أنواعه لنظارة
المعارف التركية . عَمَهُ المسلمين واضطرابهم ) .
تمهيد ومقدمات :
ما زالت الدسائس الأوربية تتغلغل في مدارس الدولة العثمانية , فتفسد الأفكار
الدينية التي خولت هذه الدولة انتحال مقام الخلافة الإسلامية ، وتفسد المقومات
الاجتماعية , وتقطع الروابط السياسية التي كانت بها هذه الدولة سلطنة
( إمبراطورية ) إسلامية عظيمة , يخضع لها كثير من الشعوب المختلفة في
الأنساب واللغات والأديان والأقاليم - ما زالت كذلك حتى صارت مصداقًا لقول
بعض عقلاء الأوربيين : إن المدارس الثانوية قد عملت في حل المسألة الشرقية ما
عجز عن مثله جميع سفراء الدول في الآستانة .
بدأ ساسة أوربة وأساتذتها ينفثون سم العصبيتين الدينية والجنسية في
الشعوب الأوربية المسيحية العثمانية : كاليونان والصرب والرومان والبلغار حتى
نهضوا بهما إلى طلب استقلال بلادهم وساعدتهم الدول الأوربية على ذلك حتى
نالوه ، ثم طفقوا ينفثون هذا السم في أرواح سائر الشعوب العثمانية عامة ، وعصبة
الجنس واللغة في شعب الترك خاصة ، حتى صار المتعلمون من هؤلاء أشد كراهة
للسلطنة العثمانية من الروم والأرمن فيها ، فطفق بعض هؤلاء الترك الذين لقبوا
أنفسهم بالأحرار يسعون لإسقاط هذه الدولة العظيمة ؛ ليبنوا من أنقاضها دولة تركية
محضة , يكرهون جميع أهلها على قبول الجنسية التركية , وما تعذر تتريكه منها
يجعلون بلادها مستعمرة للترك ، ولم يكتفوا ببقاء السلطنة كلها والرضا بما لهم من
الامتياز فيها بكون لغتهم هي الرسمية لها ، وشعبهم هو الشعب الممتاز فيهما بلغته ,
وبحصر الملك والخلافة في بيت من بيوته وبجعل العاصمة في بلاده .
فتن المتفرنجون من الترك بتقليد الأوربيين في نظم حكوماتهم وقوانينها ,
وفي أزيائهم وعاداتهم , في مجامعهم وأكلهم وشربهم ولهوهم ولعبهم , فجروا على
ذلك جيلاً بعد جيل , وهم يزدادون ضعفًا وفقرًا كلما أوغلوا فيه ؛ لأن التقليد الأعمى
لا يأتي بخير , وإنما ترتقي الأمم بالعلم الاستقلالي , مع البصيرة والروية في وضع
كل شيء في موضعه بقدر الحاجة إليه , مع مراعاة استعداد الأمة ومقوماتها ،
واتقاء ضرر التحول والانقلاب فيها . ومن غريب هذا التقليد أن أنفع ما أخذته
الدولة عن أوربة به وهو النظام العسكري ظلت عالة على الأوربيين فيه إلى هذا
اليوم , فلم تكن مستقلة دونهم بعلم ولا عمل ولا صناعة مما يتعلق به .
وكانوا كلما فشلوا وخابوا في تجربة من تجارب التفرنج يحسبون أن سبب
ذلك من رسوخ الاستبداد في سلاطينهم ، المؤيد بتقديس منصب الخلافة لهم
بمقتضى تعاليم دينهم ، لا من جهلهم هم في أخذ النافع وترك الضار ، وضلالهم في
ظنهم أن الإسلام يؤيد الاستبداد ؛ فجزموا بأن التفرنج المطلوب لهم لا يتم إلا بترك
التقيد بالإسلام في حكومتهم ، وأن الأسرة السلطانية العثمانية قد رسخت في الإسلام
وما فيه من رياسة الخلافة , حتى صار يتعذر سلها منه والاستعانة بأفرادها على
سل سائر الشعب التركي منه ؛ فقرروا إسقاط الدولة ، والقضاء على هذه الأسرة .
يقول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد :
11 ) وهذه قاعدة اجتماعية لا يختلف فيها عاقلان ، ومن فروعها ما أفاده قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ( الشورى : 30 ) وهي قاعدة
أخرى ولكنها أخص من الأولى التي تشمل النعم والنقم ، والرغائب والمصائب .
وهما يطردان في الأمم دون الأفراد , فقد تمس الفرد نعمة أو تصيبه مصيبة بغير
سعي منه ولا كسب لسبب هذه أو تلك ، بأن يرث مالاً من قريب ، أو يقع عليه ظلم
من معتد أثيم . وأما الأمم فلا تتغير أحوالها من خير أو شر , إلا بعمل منها ناشئ
عن تغير ما في نفس السواد الأعظم من أفرادها من العقائد والأفكار , والملكات
والوجدانات التي هي مصادر أفعالها , سواء كان هذا التغير بالاستقلال أو باتباع
الدهماء للزعماء والكبراء من رؤساء الدنيا والدين .
وقد كان الذين شعروا بحاجة الدولة العثمانية إلى الإصلاح في القرن ( الثالث
عشر الهجري ) الماضي يجهلون أولاً هذه القاعدة الاجتماعية , فلم يبحثوا عن علل
الضعف وأسباب الفساد كالجهل والخلل والرشوة ، وعن علاجها اللائق بها في
أنفس الأمة أولاً وبالذات وفي نظام الدولة ثانيًا وبالتبع لحال الأمة ، بل حصروا
وجهة نظرهم في مظاهر قوة الإفرنج الحادثة بعد ضعف ، وفي أعراض ضعف
دولتهم الطارئ بعد قوة ، فاستنبطوا من هذا النظر في المظاهر والأعراض أن
الدولة تقوى وتعتز بتقليد الإفرنج في قوانين حكوماتهم ونظمها ومظاهر حياتها ،
ولكن لم يراعوا ما في ذلك من الموافقة لمقوماتها ومشخصاتها من عقائد وتقاليد
وآداب وأخلاق وعادات موروثة ومكتسبة بالتربية والتعليم ، ولم يفطنوا لما بينهم
وبين الإفرنج من الاختلاف والفروق في ذلك ، ولا تأملوا في الأطوار التي تنقل
فيها الإفرنج من حال إلى حال ، ولا قدروا ما يحيط بدولتهم من الأمور السياسية
وغيرها ، وكذلك شأن المقلد ، وناهيك بمقلد يسترشد برأي أعدائه من حيث لا يدري .
وكان من معلولات هذا الجهل أن كل مانع يعرض لهؤلاء المتصدين للإصلاح
يظنون أنه من أسباب الفساد , ويحاولون إزالته وإن كان من مقومات الأمة التي لم
تكن هي إياها إلا به - فكان مثلهم كمثل من رأى حلة على امرأة مهفهفة القوام
فاشترى مثلها لامرأته الضخمة فلما تعذر عليها لبسها ؛ رأى أن لا سعادة له ولها إلا
بترقيق بدنها , بإذابة لحمه وشحمه ليمكنها لبسها ، فإن لم يمكن ؛ وجب إلقاء الحلة
عليها وإن لم تلبسها لبسًا .
هذا مثل من كان مخلصًا في محاولة إصلاح هذه الدولة من رجالها , لما له
فيها من عرق راسخ أو دين ثابت ، وكأي من متصد لذلك وهو يبغي الإفساد ؛ لأنه
دخيل فيها وهو من أعدائها الذين تربوا في مدارسها التقليدية . وكم تخرج في هذه
المدارس من عدو للدولة دسه فيها قومه الأعداء , ثم تعاهدوه وسعوا إلى ترقيته في
المناصب الملكية والعسكرية بالرشوة والشفاعات , حتى صار من كبار رجالها الذين
يسعون في خرابها بما في أيديهم من أزمة أمورها .
مدحت باشا والإنكليز :
كان مدحت باشا من هؤلاء المخلصين المقلدين المخدوعين . قال حكيم الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني فيه وفي رجاله من مقال له عنوانه ( الشرق
والشرقيون ) ضرب فيه الأمثال بجهل حكومات الهند و إيران والأفغان و بخارى
والقوقاس والعثمانيين والمصريين الذي كان سببًا لضرب الإفرنج المستعمرين
بعضهم ببعض للاستيلاء على ممالكهم - ما نصه :
( وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا بعين بصيرتهم إلى أركان سلطنتهم
المتداعية إلى السقوط ، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت تنهد بما أَلَمَّ
بها من المصائب ، وعلموا بتدبرهم أن البلايا تترصدهم من جوانبهم - لما تقحموا
غرورًا وضلالة في خلع السلطان عبد العزيز وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم ،
وتغتنم هفواتهم ، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم ، واغترارًا بدسائس الحكومة
الإنكليزية قد جلبوا الهلاك على أمتهم , ويظنون أنهم هم المصلحون ) .
وقد كان من رأي مدحت باشا يومئذ الفصل بين الدولة والخلافة , وكلم
الشريف عبد المطلب في جعله خليفة في مكة تابعًا للدولة في السياسة الخارجية
ومحميًّا بقوتها , فأبى واحتج بأن مصلحة الدولة والعرب تأبى ذلك ، ولما طفق
يشرح رأيه قال له مدحت باشا : شريف أفندي ! نحن جئنا بك لنعرض عليك أمرًا ،
لا لنطلب رأيك فيه ، وإذ أبيت فتفضل بالرجوع من حيث أتيت .
وكان الشريف عبد المطلب أعقل شرفاء مكة ، ولم ينل أحد منهم مثل منزلته
عند رجال الدولة ، وهو لم يكاشف السلطان بهذه المسألة ، ولكن السلطان عبد
الحميد كان منذ نزل بعمه عبد العزيز ثم بأخيه مراد ما نزل يذكي العيون ,
ويصطنع الجواسيس ؛ لإخباره بما يدبر رجال الدولة ، وصار أقدر الناس وأحذقهم
في ذلك بعد توليه أمر السلطنة ، فعلم أن ( الجون ترك ) يكيدون له ولأسرته كلها , فلج في مطاردتهم ، فكان له من مكابدتهم في الداخل ، ومكايدة الدول من الخارج ، ما صرفه عن إصلاح الدولة ، واضطره إلى الإسراف واتباع الوساوس التي
يثيرها في خياله مرتزقة الجواسيس وصنائع الأعداء منهم ، حتى صار كل مخلص
للدولة من أهلها يتمنى زواله ، ويعتقد أن جميع أنصاره في بلاد الدولة
منافقون أو مأجورون ، وجميع أنصاره من الأقطار الأخرى جاهلون ، أو مغلوبون
على أمرهم بين آلام من استذلال الأجنبي لهم ، وآمال في الدولة الإسلامية المستقلة ,
يكرهون أن ينغصها البحث في عيوبها عليهم .
مقاصد الإنكليز من الترك والعرب والإسلام :
وكان عطف الدولة البريطانية على ( الجون ترك ) ومساعدتها لهم من دلائل
استخدامها إياهم في سياستها من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون ، ولكن
سياستها العثمانية كانت موضع الخلاف ومثار الشبهات ، فكان بعض رجال الدولة
يرون هذه الدولة صديقة لدولتهم بما كانت تعارض روسية في محاولة فتح
القسطنطينية والاستيلاء على زقاقي البوسفور و الدردنيل ، وبما كانت تقاوم محمد
علي باشا الكبير وأحفاده في تأسيس مملكة عربية جديدة في مصر ، ثم تبين أن هذه
السياسة كانت مبنية على القواعد الآتية :
( 1 ) يجب أن تكون الدولة العثمانية في الأرض كأهل جهنم : لا تموت فيها
ولا تحيا - لا تموت ؛ لئلا تحل الروسية محلها من الآستانة ، فهو على حد المثل ( لا
حبًّا في علي ولكن بغضًا في معاوية ) ، ولا تحيا ؛ لئلا يعتز بها المسلمون فيحول ذلك
دون مطامعها في استعباد من بقي منهم ، وتتعلق آمال مسلمي الهند بالتحرر من
رقهم . وقد هدمت هذه القاعدة بالاتفاق البريطاني الروسي على التوازن في الشرق ,
والبدء باقتسام إيران بجعلها منطقتي نفوذ لهما ، ثم بالاتفاق معها ومع فرنسة سنة
1912 على تقسيم الدولة بينهن .
( 2 ) التوسل بإظهارها المساعدة لهذه الدولة إلى اصطناع كثير من رجالها
والاستعانة بالملاحدة منهم على إفساد أمر الخلافة عليها ، وبالمتدينين على جعل
الخليفة عضدًا لها ، قبل قضاء الملاحدة عليها . وقد ثبت عندنا أن ساسة الإنكليز
قالوا : إن قوة الإسلام في الشرق لا يمكن القضاء عليها إلا بتولي ملاحدة الترك
لأمور دولتهم . وأنها لهذا كانت تعطف عليهم في كل زمان ومكان ، حتى إنها لم
تقطع آمالها منهم بتحيز من تحيز من زعمائهم إلى الألمان ، ولكنها بعد الحرب
طفقت تصطنع بعض الرجال المتدينين ؛ لأن زعماء المتفرنجين صاروا مع أعدائها
عليها .
( 3 ) التوسل بسيادة هذه الدولة على مصر و الحجاز وسائر البلاد العربية
إلى إحباط كل سعي لتأسيس دولة عربية جديدة في مصر أو غيرها .
( 4 ) انتهاز الفرص من وراء كل ما ذكر إلى الاستيلاء على مصر فالعراق
فجزيرة العرب ، وقد تم لها جل ما كانت تنويه وتقصد قصده حتى القضاء على
خلافة الترك , فقد تعددت الروايات بأنهم هم الذين أقنعوا الكماليين بالإقدام على
إلغائها .
نقف عند هذا الحد من التمهيد للانقلاب , ونعود إلى بيان جهل الذين تصدوا
لإصلاح الدولة وما فعلوه فنقول :
الطور الاستقلالي للانقلاب التركي :
ما زالت الحال في متفرنجة الترك على ما ذكرناه من التقليد الصوري حتى
نبتت فيهم نابتة تلقوا عن أساتذتهم من الإفرنج ما جهله من قبلهم ، وهو أن تغيير
حال الدولة ، لا يتم ولا يثبت إلا بتغيير حال الأمة ، وإن الواجب عليهم أن يجعلوا
هذه الدولة تركية محضة لا بلغتها فقط ، فإن كون لغة الدولة العثمانية هي التركية لم
يجعلها تركية محضة ، بل هي بعد بضعة قرون من تكوينها مشتركة بين الترك
والعرب والكرد والألبان والروم والأرمن والجركس وغيرهم ، وقد جعل لهم
الدستور من الحقوق فيها ما لم يكن لهم . وإنما تكون الدولة تركية محضة إذا كانت
أمتها تركية محضة ، وإنما تكون كذلك إذا كانت سائر مقوماتها تركية ، وهي
التشريع والتهذيب والتقاليد التاريخية ، وهذه المقومات في الدولة العثمانية عربية
محضة ؛ لأنها مستمدة من الدين الإسلامي . فتوجهت وجوه هذه النابتة إلى تكوين
أمة تركية جديدة لا تستمد تشريعها ولا تهذيبها ولا تقاليدها من الإسلام , ولكن لا
بأس عندها باستمداده من الإفرنج ، وطفقت تبث الدعاية لذلك في مدارس الدولة
وأكثر طلابها من الترك ، وفي الجيش أيضًا . وألفوا في ذلك الكتب ونظموا
القصائد والأناشيد , وكانوا في عهد السلطان عبد الحميد يتحامون الدعوة الصريحة
إلى ترك الإسلام والطعن فيه ، إلا فيما ينشرونه في أوروبة أو غيرها من البلاد
حتى إذا زالت دولته ، وورثت جمعية الاتحاد والترقي نفوذه ؛ ظهرت الدعاية
الصريحة , ودخل الانقلاب في طور عملي عاجل .
جمعية الاتحاد والترقي :
لما ظفر السلطان عبد الحميد بمدحت باشا وكبار حزبه وداس دستوره واستبد
بجميع أمور الدولة , وتفرق طلاب الانقلاب في بلاد أوربة وغيرها ؛ انحصر همهم
في إسقاطه وإعادة القانون الأساسي ، ولما أديل لهم منه بإعادة الدستور وانتخب
النواب لمجلس المبعوثين , ورأوا كثرة نواب الغرب وغيرهم فيه , ورأوا من
معارضتهم فيه ما أثبت لهم أن الدولة ليست تركية محضة ، وأن جعل المجلس آلة في
أيديهم للتصرف فيها كما يشاؤون ليس بالخطب السهل - لما رأوا ذلك عزموا
على تنفيذ مقاصدهم بقوة الجيش التي قضوا بها على سلطة عبد الحميد الراسخة ،
وكان من أمرهم ما هو معروف , وقد شرحنا ما يتعلق منه بالإسلام في مجلدات المنار
السابقة .
ألفوا الجمعيات واللجان فنشرت الكتب الطاعنة في الإسلام الداعية إلى
استبدال الرابطة التورانية بالإسلامية ، ولكنهم كانوا يخافون عاقبة تنفيذ مقاصدهم
حتى إذا تهوَّكوا في الحرب الأوربية الكبرى مع الحلف الجرماني ولاحت لهم
مخايل النصر في أوائل العهد بالحرب , شرعوا في التنفيذ - أعني أنهم شرعوا
في إذابة بدن هذه العجوز العفضاج الشرقية ؛ ليلبسوها ثوب تلك المهفهفة الغربية .
كانت عاقبة إصلاح مدحت باشا ورجاله فقد الدولة لبعض من ممالكها ،
وتأليف دول منها في أوربة يهددون بمساعدة بعض الدول الكبرى حياتها .
وكانت عاقبة إصلاح جمعية الاتحاد والترقي فقد الدولة لسائر ممالكها في
أوربة وأفريقية وآسية ، بل إلى سقوط هذه السلطنة ( الإمبراطورية ) العظيمة
وزوالها ، وكاد الشعب التركي أن يفقد كل سلطة في عقر داره من الأناضول
والآستانة وما جاورها من بقية الرومللي وهو القطعة المعروفة بتراقية الشرقية ،
ولكن الله سلم .
قضت الأقدار الربانية بوقوع الشقاق والتنازع بين دول الحلفاء الذين مزقوا
هذه الدولة ( بمعاهدة سيفر ) شر ممزق , حتى صار بعضهم يساعد الترك على
اليونان الذين توغلوا في بلاد الأناضول وجاسوا خلالها مخربين مدمرين محرقين
هاتكين للأعراض ، تجاه مساعدة الآخرين لليونان . وبما سخر الله دولة الروس
البلشفية لمساعدة الترك أيضًا . وبما ارتفع من الصياح في وجه الدولة البريطانية
المتصدية للإجهاز على الدولة من صياح مسلمي الهند وهندوسها وتهديدها بالخروج
عليها - هذه الأقدار وغيرها مكنت الترك المستبسلين من النصر على اليونان
المتهوكين ، ثم من عقد صلح شريف مع دول الأحلاف .
تقرر في معاهدة الصلح بلوزان استقلال ما بقى للترك مما أشرنا إليه ، وإلغاء
الامتيازات الأجنبية منه ، وكان على رأس هؤلاء الغزاة من الترك قائد باسل حازم
اسمه ( مصطفى كمال باشا ) , ألف عصبة من الضباط الموافقين له في الرأي
ومن غيرهم من كبراء المجلس الوطني , الذي تولى إدارة البلاد في أثناء
الحرب الدفاعية فأطلق على هؤلاء اسم ( الكماليين ) .
الكماليون :
الكماليون هم الاتحاديون ، لا فرق بينهما في المقصد ولا في الوسائل , وإنما
كانوا ينسبون إلى معنى فصاروا ينسبون إلى جثة أو شخص ، وهذه النسبة تنافي ما
يتبجحون به من القضاء على نفوذ الأشخاص وسلطتهم وإحلال سلطة الأمة محلها ،
فما تغير شيء إلا التسمية التي صارت ممقوتة عند الأمة بما جنته الجمعية عليها -
وإلا رؤساء الزعماء ، وأما العاملون بنفوذ الرؤساء في الانقلاب الديني والاجتماعي
فهم هم ، وكون كل عمل يعملونه في الحكومة والأمة بالاعتماد على قوة الجيش فهو
هو . وحل اسم حزب الشعب محل اسم جمعية الاتحاد والترقي ، واسم مصطفى
كمال باشا و عصمت باشا وغيرهما محل اسم طلعت باشا و جمال باشا والدكتور
ناظم وغيرهم .
بل أقول : قد كنا نظن أن الكماليين ربما يكونون أقل من الاتحاديين جرأة
على التغيير والتبديل المراد بهذا الشعب الذي أتى من طاعته العمياء لرؤسائه ، لما
كان للاتحاديين من سوء الخاتمة ، فإذا هم أشد منهم جرأة . وسبب الجرأة في
الفريقين واحدة , وهي القبض على أعنة السلطة بالقوة العسكرية ، وقد تم هذا
للاتحاديين في عهد الحرب , وهو آخر العهد بهم ، ولكن الكماليين نالوه في أول
العهد بسلطتهم ولا نعلم متى يكون آخرها .
سهل عليهم إسقاط نفوذ السلطان محمد وحيد الدين عقب تحرير البلاد
بالانتصار على اليونان ؛ لأنه كان مقاومًا لهم باجتهاد منه أخطأ فيه وأحبطه عليه
ظفرهم وخذلانه ، كما أشرنا إليه في تعليقنا على الوثائق الرسمية لهذه المقاومة
وتمثلنا بقول الشاعر .
والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وكانوا كلما ازدادوا تمكنًا من السلطة ينفذون من برنامجهم شيئًا - أعني برنامج
غلاة المتفرنجين الذي أشرنا إليه في صدر هذا المقال - بعد تمهيد قليل ، وإلباس
الباطل ثوبًا يشبه الحق بضرب من التأويل ، فكانوا يرون أن الشعب التركي
يرضى ويستكين في الداخل ، والعالم الإسلامي يهلل ويكبر في الخارج ، فجروا في
الميدان إلى آخر الشوط أو إلى مقربة منه . فإن وراء إبطال تعليم الدين بلغته
ترجمة القرآن المجيد , وإلزام الترك بالتعبد بالقرآن التركي الذي ينشئه بعض
رجالهم ، وترك القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى على خاتم رسله محمد
النبي العربي بلسان عربي مبين . وما يتبع ذلك من الكفر والضلال .
كانت الخطوة الأولى لإلغاء الخلافة أن وضعوا قانون الدولة الأساسي في
أول سنة 1321 الميلادية , وصرحوا في المادة الأولى منه بأن ( السيادة للشعب
بلا قيد ولا شرط ) وفي المادة الثانية ( باجتماع القوة التنفيذية والقوة التشريعية
في الجمعية الوطنية الكبرى ) فلم يبحث معهم أحد : ألا يجب أن تكون السيادة
والسلطة التشريعية مقيدتين بالشريعة الإسلامية التي يدين بها الشعب صاحب
السلطة ربه ، ويعتقد أنها مناط سعادة الدنيا والآخرة ؟!
أولاً يجب أن يكون بعض أعضاء الجمعية - على الأقل - عارفين بأصول
هذه الشريعة وفروعها , بتلقيها عن أهلها فيشترط ذلك في قانونها ؟؟
ربما يكون الناس قد استغنوا عن هذا السؤال بما في المادة السابعة من أن
تنفيذ الأحكام الشرعية خاص بالجمعية الوطنية كسن القوانين وتعديلها ، ومن أن
الأحكام الفقهية والحقوقية الموافقة لمعاملات الناس , وحاجيات الزمان والمكان
والآداب تتخذ أساسًا لوضع القوانين والنظم . وإن كان هذا يحتاج إلى البحث فيه
كالذي سبقه , ولكن هذه السلطة المطاعة للجمعية تقتضي إلغاء الخلافة , وإن لم
تذكر في ذلك القانون ألبتة ، فلم لم يسأل عنها أحد ؟
وكانت الخطوة الثانية أنهم قبل مضي سنتين على وضع هذا القانون وضعوا
قرارًا في الجمعية الوطنية , ونشروه في أول نوفمبر سنة 1923 من التاريخ
الميلادي , صرحوا فيه بتأييد ذلك القانون , وبأنه قد ترتب عليه أن الشعب التركي
يعتبر أن الحكومة التي في الآستانة المستندة على السيادة الشخصية قد زالت
وانتقلت إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا من يوم 16 مارس سنة 1920 , وأن الخلافة في
آل عثمان فتنتخب الجمعية الوطنية لها من آل هذا البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا
وأخلاقًا . والدولة التركية سناد مقام الخلافة .
وقد تلقى جماهير المسلمين في البلاد التركية وغيرها هذا العمل بالقبول , ولم
ينتقده إلا أفراد منهم كما بيناه في المنار ( ج10 م23 ) بل زعم بعضهم أنه إحياء
لخلافة الراشدين ، وتجديد لمجد الدين ( !!! ) حتى فسره أعلم الناس بمعناه من
أساطين الكماليين ؛ إذ كان هو المقترح الأول له مع جماعة من أصحابه في الجمعية
الوطنية وهو الدكتور رضا نور بك , فإنه بعد أيام من وضع القرار مر بالآستانة
في طريقه إلى لوزان ؛ إذ كان عضوًا مع عصمت باشا في مؤتمر الصلح ، فسأله أحد
محرري الصحف أسئلة في الموضوع أجاب عنها بصراحة ، ومما قاله : ( من
الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش في داخل دائرة امتزج فيها الدين بالدنيا ) .
ثم صرحت الحكومة بفصل الدولة من الدين ، وجعل الحكومة بمعزل من
الخلافة ، وسموا عبد المجيد أفندي بن السلطان عبد العزيز خليفة , ثم أقاموا له
حفلة سموها حفلة المبايعة , بأن مر أمامه الكبراء والوجهاء والعلماء مسلمين ،
وذهب إلى صلاة الجمعة باحتفال جميل ، ولكن لم يقل له أحد : بايعتك على السمع
والطاعة ، ولا على السنة والجماعة ؛ إذ لا أمر له فيطاع ، بل قرروا التصريح
بجعل حكومتهم جمهورية وبفصل الخلافة منها ، فهنأ الخليفة رئيسها مصطفى كمال
باشا بها ، مقرًّا له عليها ، داعيًا لهم بالتوفيق فيها ، ولم يسم خليفة إلا بعد إقراره
ورضاه بإبطال مسمى الخلافة وتحليته بلفظها ، وماذا فعل غيره من المسلمين ؟
ضجت أكثر البلاد الإسلامية لهذه المبايعة بالتهليل والتكبير والفرح والسرور ،
وتجاوبت أسلاك البرق من أقطار العالم الإسلامي بتهنئة ( الغازي مصطفى كمال
باشا بطل الإسلام ) بإحيائه لسنة الخلفاء الراشدين , في إقامة كل من الدولة
والخلافة على أساس الشورى ، وبالمبايعة لعبد المجيد أفندي بالخلافة الكبرى
والإمامة العظمى ، وتلقيبه بأمير المؤمنين ، وخليفة رسول رب العالمين ،
وبالسلطان الأعظم ، وبحامي الحرمين الشريفين . وكان أسرع الناس إلى هذه
التهاني وأشدها مبالغة فيها مسلمو الهند , وفي مقدمتهم أعضاء جمعية الخلافة ،
وجمعية العلماء ، ومسلمو مصر وجمهور الجماعات الراقية فيها كالعلماء ,
وأساتيذ المدارس , والمحامين الشرعيين , والقانونيين وفي مقدمتهم علماء الدين في
الأزهر والمعاهد الملحقة به في الإسكندرية و طنطا و أسيوط وغيرها ، اللهم ماعدا
الرؤساء الرسميين كشيخ الجامع الأزهر رئيس هذه المعاهد كلها ، ومفتي الديار
المصرية ومن تبعهم . وربما كان في الساكتين من كان سبب سكوتهم العلم ببطلان
هذه المبايعة , وكونها من العبث والاستهزاء بالإسلام وأهله ، ولكن لم نسمع لأحد
منهم صوتًا بذلك ، وقد كلمت شيخ الأزهر في الأمر وسألته السعي لمنع العلماء من
هذه المبايعة الباطلة فلم يجب . وأردت مخاطبة الملك بذلك وبسوء عاقبته , فلم
يسمح لي رئيس الأمناء بذلك .
نعم كتب في بعض الجرائد شيء من الإنكار على ذلك ، بعضه بقلمنا أو
بإيعاز منا ، وهو غير ما كتبنا في المنار ثم في جريدة الأهرام بإمضائنا ، وبعضه
بإمضاء مستعار وأقله بإمضاء صريح .
كان الكتاب الذين خاضوا في المسألة أزواجًا أربعة :
( 1 ) الذين يقولون : إن هذه البيعة صحيحة شرعًا ، وإن اشتراط الحكومة
التركية على الخليفة أن لا يكون له في الدولة أمر ولا نهي - فاسد ، ويجب على تلك
الحكومة طاعته . سمعت هذا القول من بعض الأزهريين وقيل لي : إن الذين بايعوه
يرون ذلك ولأجله بايعوا .
( 2 ) الذين يقولون : إن البيعة صحيحة , وإن الخليفة لا يجب أن يكون
صاحب نفوذ ولا أمر ولا نهي بدليل ما فعله سلف هؤلاء الترك , الذين غلبوا الدولة
العباسية على أمرها ، بقوة الجند الذي اعتز به بعض خلفائها ، فسلبوا منها السلطة
والنفوذ ، وكانوا يكرهون الخليفة على ما يطلبونه ، وإذا غضبوا عليه يقتلونه ، وقد
بلغ من أمر الخليفة في مصر في بعض الأوقات أن صار يعيش من النذور والهبات .
وأكثر هؤلاء من الجاهلين بأحكام الشرع ، ولكن أيدهم الشيخ محمد الخضري بك
المفتش في وزارة المعارف , فزعم أنه يكفي في صحة الخلافة أن يكون الخليفة
إمامًا في صلاة الجماعة ، ولم يدر أن عبد المجيد أفندي لم يعط هذه الإمامة
أيضًا .
( 3 ) الذين يقولون : إن ما فعلته الحكومة التركية من الفصل بين الدين
والدولة , هو الصواب الموافق لما جرى عليه أحرار الأوربيين من الفصل بين
الكنيسة والحكومة ، ومن هؤلاء من صرحوا بوجوب تصريح تلك الحكومة بأنه لا
دين لها ألبتة .
( 4 ) الذين يقولون : إن هذا العمل باطل ، وإن هذه البيعة باطلة ، وإن
الخلافة بهذا المعنى كخلافة مشايخ الطرق وهي مبتدعة , ليست من الإسلام في
شيء .
فالفريق الأول أيد حكومة أنقرة وهو لا يدري من أمرها ولا من أمر العالم
شيئًا ، وأكثر أفراده لم يكونوا يعرفون أحكام الخلافة الشرعية معرفة تامة وإن كانوا
معممين ، ومن عرفها منهم فهو لا يعرف وجه انطباقها على النوازل .
والفريق الثاني أيدها بغير علم أيضًا , وإنما قصارى احتجاجه لها أن سلفها
من الترك جنوا على الخلافة العباسية مثل جنايتها على الخلافة العثمانية ، وهي
أولى منهم بذلك ، وهذا رأي مصطفى كمال وحزبه , كما يعلم من خطبته التي
جعلها مقدمة لهذا العمل ، وعلى هذه القاعدة تباح كل جناية وفاحشة ومنكر في العالم ؛
لأنه وجد في المتقدمين من فعله ، ولا سيما القتل . فإن أحد أولاد آدم قتل أخاه بغيًا
وعدوانًا ، فسن القتل لكل قادر عليه ، ولكن الباعث لهؤلاء على هذه الأقوال هو هوى
السياسة الذي يفسد كل شيء دخل فيه .
والفريق الثالث أيدها وهو يعلن كُنه ما عملت ويوافقها عليه ؛ لأنه غير متدين
ويكره أن تكون الحكومة مقيدة بدين أو منسوبة إليه ، لا يخاف في ذلك عذلاً ولا
إنكارًا .
والفريق الرابع هو الذي خطأها على علم بما فعلت ، وعلى علم بأحكام الشرع
ومصلحة المسلمين العامة ، ولعله لم يصل إلى حكومة أنقرة إلا أسماء معدودة من
أفراد هذا الفريق لقلة من كتب في الجرائد منهم , ولم يكتب أحد فيه ما كتبنا , فقد
بلغت مقالاتنا في المنار وحده أن صارت مصنفًا حافلاً ، فلم ندع للذين على رأينا
مجالاً واسعًا للكتابة فيه ، وإلا فهم - ولله الحمد - كثيرون .
إلغاء الخلافة والمصالح الإسلامية الكبرى من الدولة :
لهذا كله اعتقد هؤلاء الكماليون أن العالم الإسلامي يؤيدهم في كل ما يعملون :
إما عن جهل , وإما عن هوى وخضوع لسلطة القوي ، وأن الفرصة سانحة لإتمام
تنفيذ برنامجهم باستسلام شعبهم الفقير المنهوك لهم ، وتأييد العالم الإسلامي إياهم ،
إلا من شذ من الأفراد الذين لا تُحْبِطُ العملَ مُعَارَضَتُهُمْ ، بل أقول : إنهم أصبحوا لا
يبالون بالعالم الإسلامي رضي أم سخط , إذا كان رضاه أو سخطه لا يؤثر في
الشعب التركي تأثيرًا يحمله على معارضة الحكومة , وقد صرحوا بعدم مبالاتهم به
مطلقًا .
يقول بعض علماء الاجتماع والباحثين في أخلاق الأمم والشعوب : إن الترك
إذا ظفروا بطروا ، وإذا غُلِبوا وخُذِلوا استكانوا واستخذوا ، فإذا ربحوا في الحرب
يخسرون في الصلح .
فعلى هذا لا يكثر على الكماليين - وقد ربحوا في هذه المرة في الحرب والصلح
معاً - أن ينتفخوا عجبًا وغرورًا ، وأن يطمع زعيمهم أن يفعل في الخلافة الإسلامية
فوق ما فعله نابليون الأول في البابوية ، وأن يحدث في الشعب التركي أكبر مما
أحدثه بطرس الأكبر أو لينين و تروتسكي في الأمة الروسية ، منتهزًا الفرصة
السانحة باضطراب الشرق والغرب من دوار الحرب ، مغترًّا بظهور أفراد تمكنوا
بقوة العزيمة أن يتصرفوا بإرادتهم في أرقى أمم الغرب ، آمنًا من كل مقاومة من
الداخل ، محتقرًا كل معارضة من الخارج - بعد أن اغتيل أحد أعضاء الجمعية
الوطنية اغتيالاً خفيًّا لإظهاره الإنكار على ما تقرر من فصل الخلافة من الدولة -
وبعد أن قضي على الحركة التي ظهرت في الآستانة تجاه الخلافة الاسمية ، بنصب
محاكم الاستقلال الممنوحة حق الحكم بالقتل على كل معارض للجمهورية ، فسيق
إليها أكبر أصحاب الصحف ومحرريها وغيرهم من قادة الأفكار كلطفي بك نقيب
المحامين . وبعد أن اتهم أحد أركان الدولة الجديدة ورئيس وزارتها السابق رؤوف
بك بالخيانة لزيارته الخليفة عند إلمامه بالآستانة ، فنوقش الحساب لدى إخوانه من
أعضاء الشعب في الجمعية الوطنية ، حتى آل أمره إلى مغادرة البلاد إلى أوربة
بصفة اختيارية .
بعد هذا كله جمع حزب الشعب أعوانه وأنصاره للخطوة الثالثة ، فأجمعوا
أمرهم وهم يمكرون ، ووضعوا قرارهم وهم يأتمرون ، وأعلنوا إلغاء الخلافة وطرد
الخليفة وعشيرته من المملكة ، وإلغاء المصالح والأركان الكبرى للدين وهي التعليم
الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية .
قد مهَّد مصطفى كمال باشا للفصل بين الحكومة الجمهورية والخلافة الإسلامية
بخطبة كتبها له الأستاذ سيد بك الأزميري , الذي هو وكيل ( وزير ) العدلية
( الحقانية ) في حكومته اليوم ، كما مهدوا لإلغاء الخلافة بكتاب ( خلافت
وحاكميت مليه ) الذي لفقه لهم سيد بك هذا , ونشروه في بلاد الترك وغيرها من
الأقطار الإسلامية على نفقة الحكومة التي طبعته , ولم تكتب عليه اسم المؤلف ,
وتولت توزيعه ( إدارة الاستخبارات التركية في أنقرة ) .
وسيد بك هذا رجل عليم اللسان جريء الجنان ذكي الذهن , اشتغل أولاً
بالعلوم الدينية , ثم تعلم علم الحقوق وصار محاميًا في المحاكم العدلية , ونزع
العمامة ثم انتخب مبعوثًا ، واتفق أن التقيت به في الباخرة ( إسماعيلية ) من بواخر
الشركة الخديوية عندما جرت بنا من ميناء أزمير في رحلتي إلى الآستانة سنة
1923 , وكنت كلما رأيته في الآستانة يسألني عما تم في مشروع الدعوة والإرشاد
مظهرًا الاهتمام به والرغبة في تنفيذه . ثم بلغني أن الاتحاديين استعملوه في وضع
ما يريدون من الصيغ والتوجيهات , والتأويلات لما يريدون التصرف فيه من أمور
الشرع الإسلامي , وأنه هو الذي وضع لهم ( قانون العائلة ) كما أنه هو الذي نقحه
للكماليين .
وقد رددت على خطبة مصطفى كمال باشا عند نشرها في أواخر المجلد
الثالث والعشرين ( ج10 ص772 - 785 ) , ثم رددت على كتاب ( خلافت
وحاكميت ملية ) في المجلد الرابع والعشرين ( ص692 ) , وسأعود إلى رد
شبهات أخرى لهم في الخلافة وفي مسائل التعليم الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف .
ليس سيد بك وحده هو الذي يعمل للكماليين ما كان يعمل للاتحاديين , بل أوى
إليهم سائر دعاة الانقلاب الديني ودعاة تحويل الترك عن القواعد الإسلامية إلى
القواعد التورانية والإفرنجية : كضياء كوك آلب صاحب ديوان الشعر الذي سموه
( قرآن الترك ) و أحمد أغايف ، و يوسف أقشورا ، و آغا أوغلي أحمد ، و حمد
الله صبحي وكذا جلال نوري ، فهم الآن يتولون إدارة رحى الانقلاب الديني
والاجتماعي ، ولهم من المكانة والحرية في الطعن في الإسلام والصد عن سبيل الله
وابتغائها عوجًا فوق ما كان لهم في عهد الاتحاديين .
وقلما يعرف لأحد من هؤلاء المفسدين نسب صحيح وعرق راسخ في الترك ،
ولكن نعلم أن منهم من قذفته البلاد الروسية إلى عاصمة الترك لأجل هذه الأعمال .
وكل من قال للترك : إنني منكم . يعدونه منهم إذا كان يتكلم بلغتهم . وإنما عني
زعماء الاتحاديين فالكماليين بما أشرنا إليه من عمل هؤلاء لأجل سل الشعب
التركي من الإسلام ليكون الانقلاب بتغيير الأمة ما في أنفسها فيدوم . فإنهم علموا
أن ما وجد بقوة خارجية يزول بقوة مثلها معارضة لها وفاقًا لما بيناه في المقدمة
التمهيدية ، وأما مراعاة شعور العالم الإسلامي فلا قيمة لها عند هؤلاء , بل يظهر
لنا أنهم وازنوا بين ما لهم من الفائدة السياسية والمادية من عطف العالم الإسلامي
عليهم مع تقيدهم بالإسلام والخلافة التي تمثل حكومته أو هدايته ، وبين فوائد
الانطلاق من هذا القيد , فترجح عندهم هذا الانطلاق ، وقد خطأهم في هذا الترجيح
العالم الإسلامي والعالم الأوربي , كما علم مما نقلته البرقيات وصحف الأخبار من
آراء العاملين في إلغاء الخلافة ، وإننا ننشر نموذجًا منها للاستدلال والاعتبار .
***
تأثير الانقلاب التركي في العالمين
لقد رجفت في الترك الراجفة ، وتبعتها الرادفة ، فإذا قلوب أهل الشرق واجفة ،
وأبصارهم خاشعة ، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ؟ ذهبت خلافة النبوة ،
فانقطع سلك الجامعة الإسلامية ، وستبدها الحكومات الضعيفة أو المحمية بددًا ،
ويفرقون بها المسلمين طرائق قددًا….
وإذا عيون أهل العرب شاخصة ، وأذهانهم حائرة ، يتساءلون عن النبأ العظيم ،
متعجبين من تهوك الترك المغرورين ، مراقبين لما يكون من أمرهم وأمر المسلمين .
لم تبق جريدة من جرائد الشرق والغرب للمسلمين أو الكتابيين أو الوثنيين إلا
وقد استكبرت هذا الخطب جدًّا ، وعدته أمرًا إدًّا ، وإن سر أقوامًا وساء آخرين ،
ولكن كان أغرب أنبائه أنه أحدث هزة في جميع العالم إلا في البلاد التركية التي
فيها حدث وعنها صدر ، وهذا دليل على إحداثه بقوة الجندية ، وعلى فقد الحرية
من البلاد التركية ، كما بيناه آنفًا ، فنسبته إلى الشعب التركي باطلة ؛ إذ لا يعقل أن
يتجرد شعب من الشعوب في أيام أو أعوام معدودات مما رسخ في نفسه مدة بضع
قرون من عقائد ونظم وأحكام وحكام ، توارثت إجلالها الأجيال بعد الأجيال .
إن زعماء هذا الانقلاب يعترفون بأن أدنى شعوب أوربة أرقى من الشعب
التركي في علوم الحقوق وملكات الحكم الديمقراطي , وفي الحرية بأنواعها , ولذلك
يريدون بكل ما عملوا ويعملون اللحاق بالأوربيين في ذلك وفي ثمراته . ولا يزال
أكثر هذه الشعوب عددًا ، وأرقاها أحكامًا ونظمًا ، وأرسخها في الديمقراطية قدمًا ،
راضية بأن يكون رئيس حكومتها عاهلاً وملكًا ، وأن يكون حامي الإيمان ورئيس
الكنيسة فيها كالشعب الإنكليزي وكذا الشعب الألماني , الذي فاقه في العلوم
والفنون ، وإنما جمهوريته الحادثة عرض من أعراض الخذلان في الحرب ، تحافظ
عليه الدولة الظافرة المسيطرة على هذا الشعب ، ولم تكن هذه الدولة ولا تلك
كدولة آل عثمان فيما كان لها من النفوذ الديني والدنيوي ، لو كانت ذات أمة تحسن
الانتفاع بهذا النفوذ ، وتقيده بما شرعه الإسلام من الشورى وسيطرة أهل الحل
والعقد .
ليس من موضوعنا الإطالة في هذه المسألة , ولا ننكر أن الحكم الإسلامي
أقرب إلى الجمهورية منه إلى الملكية المطلقة ، وإنما موضوعنا تأثير الانقلاب
التركي في العالم ، وإننا نذكر هنا بعض الشواهد على تأثيره في مصر ، ونرجئ
الشواهد على تأثيره وآراء غير المصريين فيه إلى جزء آخر .
***
رأي المصريين في الانقلاب التركي
أرسل أفراد كثيرون وجماعات كثيرة برقيات إلى مصطفى كمال باشا يصفونه
فيها بضد ما كانوا وصفوه عند الصدمة الأولى , التي لم يفقهوا المراد منها ، فقد
وصفوه الآن بالكفر والإلحاد ، وعداوة الإسلام والظلم والطغيان ، وقد نصح له
بعضهم بوجوب الرجوع عن غيه وضلاله ، وهدده آخرون بما هو جدير بأن
يضحك منه ، وكتب كثيرون مقالات في جميع الصحف نختار منها هنا بعض ما
كتبه أشد كتاب المصريين المشهورين تأييدًا للترك ومبالغة في الدعوة إليهم والدفاع
عنهم : الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش - وقد صار أوسعهم بهم علمًا - والأستاذ
أمين بك الرافعي والأستاذ محمد شاكر .
رأي الشيخ شاويش في كمال والكماليين والاتحاديين :
مما كتبه في جريدة الأخبار ثلاث مقالات عنوانها ( القنبلة الكمالية ) , افتتح
المقالة الأولى وقد نشرت في عدد الأخبار الذي صدر في 3 رجب الموافق 6 مارس
بوصف ما ناله مصطفى كمال باشا من الشهرة والعظمة الإسلامية والعسكرية
والسياسية , بحيث لو مات أو اعتزل شؤون الدولة بعد ختام مؤتمر الصلح ؛ لكان
له مقام لا يبلغه زعيم في التاريخ - وهذا رأي قد شارك الشيخ فيه كثير من
المفكرين ثم قال ما نصه :
( لقد كان يمكن أن يكتفي مصطفى كمال في مسألة الخلافة بالنحو الوسط
الذي كان قائمًا لعهد جلالة الخليفة عبد المجيد , ذلك الحل الذي منع الخليفة من
التدخل والاتصال بأمر الدولة التركية السياسي , والذي لم يحدث من الخليفة ولا من
أسرة البيت العثماني ما يدعو إلى تغييره بله محوه .
خرج الخاقان السابق وحيد الدين على النحو المعروف فكتب الغازي إلى ولي
العهد عبد المجيد خان يقترح بيعته بالخلافة ، على شريطة ألا يمس شؤون الدولة
السياسية , فلم يلبث عبد المجيد أن قبل البيعة على هذا الشرط , وظل صادقًا لوعده
موفيًا لعهده . حتى لقد أكد الخليفة لي ذات يوم أنه قطع على نفسه ألا يفكر في شيء
من أمور تركيا وأن كل همه أن ينقطع لخدمة الإسلام . ولقد أعرب لي عن
ضرورة إيجاد مجلس للخلافة , تمثل فيه الشعوب الإسلامية ؛ ليتمكن بذلك من
إصلاح شؤون المسلمين وترقيتهم ومحاربة البدع والخرافات والضلالات التي
وجدت سبيلها بينهم ، وأذهبت ريحهم .
كان يذكر جلالة الخليفة ذلك وهو مطمئن القلب , لا يحلم بما كمن له وراء
آكام أنقرة , فالخليفة كما أعلم يقينًا لم يدر بخلده أن يكيد للجمهورية , ولا أن
يشخص ببصره إلى التدخل في شيء من أمورها , ولكن أبى الله لحكمة يعلمها إلا
أن يتقدم الغازي بما قرره اليوم فيصيب كبد الإسلام بتلك القنبلة القتالة , ويزلزل
صرح الوحدة الإسلامية ذلك الزلزال الشديد .
لقد طمح الغازي ذات يوم أن يكون الخليفة كما علمت عند هبوطي أنقرة , فلم
يمنعه من ذلك سوى خشيته أن يحدث اضطراب داخلي يهدد المملكة قبل تمام
الصلح , لما يعلمه من فرط تعلق الأمة التركية بالبيت العثماني وبالخلافة الإسلامية
فهل تبدلت اليوم ميول الأمة التركية وعواطفها إزاء خليفتها والبيت الذي أورثها هذا
الملك العظيم ؟ إن الغازي يعلم - فيما أعتقد - أن خطوته التي خطاها محفوفة
بالأخطار في الداخل . وهذا يفسر لنا ما نشرته التلغرافات العمومية الخصوصية ،
من أنه قرر تكثير محاكم الاستقلال ومنحها حتى الحكم بالقتل , وامتدادها حتى فوق
ضفتي البسفور . ولكن هل يغني حذر من قدر ؟! إن الأمة التركية - فيما نعلم -
أمة مسلمة ومحاربة , وإذا اعتمد الغازي على بعض اللادينيين ممن حوله فإن في
الضباط من لا يزالون يعتصمون بالإسلام , وينقشون على ( قلابقهم ) كلمة
( يا غازي يا شهيد [1] ) .
إن الذين يزينون لمصطفى ما فعل إنما هم فئة التتار التي دستها روسيا
القيصرية بين الترك لا لغرض سوى القضاء عليهم ، وإفساد أمرهم وقطع ما
يصلهم بالمسلمين .
ذلك النفر من التتار لم يترب تربية إسلامية قط , ولا أثر للروح الإسلامية في
أفئدتهم , ولكنهم مسلمون منبتًا وروسيون روحًا .
جاء هؤلاء المفسدون إلى الآستانة قبل الدستور العثماني , فزينوا للاتحاديين
مسألة العنصرية والتباعد عن الإسلام .
وسوسوا للاتحاديين أن سبب تألب أوربة على تركية إنما هو الإسلام وقيام
الخلافة فيها , ثم أخذوا يزينون لهم أن تعتبر غير البلاد التركية من الإمبراطورية
العثمانية مستعمرات محكومة ، وأن يكون للعنصر التركي وحده حق الحكم غير
مشارك . ساقوهم إلى الطورانية ، وزينوا لهم أن ذلك يمكنهم من ضم عشرات
الملايين من الأتراك القاطنين في آذربيجان والتركستان إليهم .
كما استدرجوهم إلى محاربة اللغة العربية بعد إذ صارت نحو 70% من اللغة
العثمانية , وإلى استبدال الحروف اللاطينية بالحروف العربية ، مع أن اللغة التركية
لم تكتب - فيما نعلم - بغير الحروف العربية منذ دخل الترك في الإسلام .
لم يقف وسواس تلك الطائفة وإفسادها للأمة العثمانية عند هذا الحد , بل
خاضوا في الشريعة ومسألة المرأة , وجرؤوا الترك على الفساد وإعلان الإلحاد .
ولما لها من سعة الاطلاع والدرس , استطاعت أن تسوق ذوي الرأي من الترك ,
وجلهم قليل التحصيل محدود الدراسة , لم تثقفه التربية , ولم تنضجه التجارب , ولم
تفقهه بأمر الدين أو التاريخ مدرسة ولا كتاب .
ولقد كادت تنجح تلك الفئة الضالة في زمن الاتحاديين لولا وجود المرحومين
البرنس سعيد حليم و أنور باشا , فإن امتلاء قلوب هذين الرجلين بالإسلام ووفرة
محصولهما التاريخي , ويقينهما أن سلامة تركية لا تتحقق إلا بارتباطها بالعالم
الإسلامي , وأن عظمتها لا تقوم إلا على دعائم الخلافة , كل ذلك حمل هذين
الرجلين العظيمين على القيام في وجه أولئك الهادمين ومن حذا حذوهم من الترك
الغافلين ، ولكن - ذهب الناس وبقي النسناس - فقد حرمت المملكة العثمانية
المصلحين المفكرين , وخلا الجو لذلك النفر من التتار المارقين ، فما لبثوا أن
بطشوا بيد مصطفى بطشتهم بالإسلام وبتركية جميعًا . ( ثم قال بعد كلام في تعظيم
وقع الخطب وخطره على المسلمين ) .
( أما تركية فقد مادت بها أنقرة ميدًا هدم أركان عظمتها وهبط بها في
الدول السياسية إلى ما دون منزلة بلغاريا . فلقد كانت معدودة من الإمبراطوريات لا
بواقعة سقاريا ولا بخرائب أنقرة , ولكن بقيام مقام الخلافة في ربوعها - ذلك المقام
الذي ملك الترك القلوب والأبصار من ثلاثمائة مليون من المسلمين - ذلك المقام الذي
جعل مسلمي الأرض يدخلون في الإمبراطورية التركية , ويدعون سليمًا وغير سليم
لاستلحاق ممالكهم راغبين ، فلم يكن يجد هؤلاء في آسيا وإفريقيا الشمالية ما
يضطرهم إلى امتشاق الحسام وسوق الفيالق , بل كانوا يدعون إلى دخولها كما
يدعى الأخ إلى منزل أخيه ، ولولا ما كان لبعض أمراء تلك البلاد من المقاومات
التي لم يؤيدها شعوبهم ؛ ما وجد الترك في صدر دولتهم - ببركة الخلافة - عقبة ما
في نشر رواق سلطانهم على تلك الممالك .
فقدت تركية اليوم ذلك المقام ( مقام الخلافة ) , ففقدت بفقده تلك الرابطة
القدسية التي كانت سياجًا لها في أحرج أوقاتها , فهل تستطيع جمهورية مصطفى
كمال اليوم - وهي ذات خمسة ملايين من النفوس - أن تحمي نفسها أمام
مطامع الطامعين بعد إذ حرمت عطف العالم الإسلامي ؟ ) اهـ .
ثم ختم المقال بتهديد الكماليين بانفصال الكرد عنهم , وتألب العنصر التركي
عليهم , وتهديد تركية بالتردي في الحفرة التي حفرها لها سادتها وكبراؤها .
***
القنبلة
رواية الشيخ شاويش عن مصطفى كمال :
ومما قاله في المقالة الثانية التي نشرت في الأخبار بتاريخ 3 شعبان الموافق
9 مارس :
( هبطت أرض أنقرة في السابع عشر من شهر ديسمبر سنة 1922 , وبعد
بضعة أيام ذهبت مع صديق لي من الوزراء إلى دار المجلس الوطني الكبير ؛
لزيارة مصطفى كمال باشا , وقد كنت عاهدت نفسي ألا أتكلم معه في أمر الخلافة ,
لما اتصل بي من نيته تجاه البيت الشاهاني قبل ذلك بأيام ؛ أي : يوم هبطت
مدينة أزمير , ولكن لم نكد نأخذ مجلسنا في حضرته حتى استقبلني بهذا السؤال . ما
رأيك يا فلان في أمر الخلافة وفصلها عن سياسة الدولة ؟ فاستقلته الجواب معتذرًا بأن
في المجلس الوطني الكبير من العلماء وذوي الرأي ما يغنونه عن رأيي , ولكنه أصر
علي إلا أن أبسط له ما لدي من الرأي , ولقد علمت من بعد أنه ما كان يريد
من استفتائي الوقوف على ما حف به ذلك الأمر الخطير من المحاذير والأخطار ,
أو العلم بما جاء في الشريعة من أحكام الخلافة والخلفاء , ولكن كان كل همه أن
يسبر غوري , ويعرف مجرى فكري , ولذلك ألح في سؤالي وأبى إلا أن أصارحه
برأيي , فلما لم أجد بدًّا من القول أجبته أنه ( ليس في الإسلام خلافة بلا قوة ,
كما أنه ليس في الإسلام خلافة مستبدة ) أجبته بهذه العجالة الوجيزة وكنت أرجو
أن يجد فيها من المعاني والمغازي ما يصدفه عن الاسترسال في المساءلة ,
ولكنه عاد فسألني : إذن بم تفسر ما فعله عبد الحميد وغيره من الخلفاء العثمانيين ؟
وإلام تعزو ما أصابوا به الدولة من النكبات والأرزاء ؟ أليس أولئك الخلفاء هم
الذين كانوا مصدر شقائنا وبلائنا ؟ أو ليسوا هم الذين ساقونا إلى تلك الحرب
الطاحنة , وضاعفوا مصابنا بما أصدروا من فتوى الجهاد وأمثالها ؟ فلما فرغ من
أسئلته هذه قلت : إن الخلفاء الذين قاموا في السنوات الدستورية لم تطلق أيديهم في
تدبير البلاد , ولا كانوا مستبدين بأمرهم , بل كانت تجري الأمور في المملكة لا
يحيطون بها علمًا . وكلنا يعلم كيف تقرر إعلان الجهاد , وكيف كانت حادثة البحر
الأسود التي انتهت بإعلان الحرب , وكيف جرد المرحوم السلطان محمد الخامس
من القوة , حتى لقد رأينا الدكتور ناظم بك أحد أركان الاتحاديين يذهب إلى سراي
الخليفة عام 1916 ؛ لينقص أعطية من فيها من الرجال والنساء , ويفرض لهم من
الرزق مثل ما كانوا يفرضون للعامة والآفاقيين ، على أنه إذا كان لهؤلاء الخلفاء
في زمن الدستور شيء من الامتيازات القانونية ، فما ذلك إلا لكون الدستور جعلهم
خلفاء على الأصول الرومانية ، لا خلفاء وفق الشريعة الإسلامية .
فلما بلغت هذه العبارة تخلّجتْ عينَا الباشا , وأخذه ما يأخذ المستفسر العجل
من الحركات المضطربة , وسألني متخازرًا : وكيف ذلك ؟
قلت : ذلك أن الإسلام أنكر الفروق الطائفية وامتياز الطبقات والأفراد بعضها
على بعض في الأحكام والتكاليف الشرعية , بل أقام سائر العوالم البشرية في
مستوى من تكاليفه تتحاذى فيه الأقدام والرؤوس , فلا يمتاز في أحكام دين الإسلام
رجل عن امرأة , ولا أمير عن سوقة , ولا فقيه عن غيره , بل كلهم خاضعون
للقانون السماوي ] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به . ولا
يجد له [2] من دون الله وليًّا ولا نصيرًا [ بذلك سوى الإسلام بين الرعاة والرعايا
في سائر الأحكام والتكاليف , فقضى بمجازاة من يعتدون حدود الله بلا تفرقة ولا
تفاوت ، فإذا أصاب أمير أو سلطان أو خليفة أي فرد بأذى ؛ كان عليه من الجزاء
مثل ما على غيره من عامة الناس ، سواء كان ذلك الأذى عدوانًا على نفس أو
جارحة أو عرض أو مال . فليس في دين الإسلام فوق الشرائع والأحكام أمير ولا
خليفة ولا سلطان ، ولكن تركية التي قلدت أوربا اقتبست من القوانين الرومانية
قاعدة أن الخلفاء فوق القانون والشرائع , فأصبح الخلفاء بهذا خلفاء رومانيين لا
خلفاء إسلاميين ، ولو عقل رجال النهضة الدستورية إذ ذاك ؛ لأدركوا ذلك الفرق
البعيد بين دين يقول: { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (الأنبياء : 23) ويقول :
{ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ } (الأنعام : 57) ويقول :
( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) وبين شرائع قامت في أقوام , كانت
تعبد الملوك والبراطرة , وتعدهم مصدر الاشتراع والحكم , فرفعتهم إلى مستوى
الإله الحق الذي هو وحده يحكم لا معقب لحكمه .
أوجب دين الإسلام طاعة أولي الأمر ولكن على شريطة ألا يأمروا بما يخالف
أوامر الخالق ، ثم أبان لنا أنه إذا وقع تنازع بين الراعي والرعية ؛ وجب أن
يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله , فلم يبح لأحد مهما بلغ سلطانه وصولته أن
يحكم الناس بما تهواه نفسه وتستطيعه شهوته , حتى لقد أجاز للناس الخروج على
غير العدول الذين لا يقفون عند حدود الله من السلاطين والأمراء مبيحًا لأولي
الأمر مقاتلتهم ، بل وقتلهم , ولقد قتلت طائفة من المسلمين اجتهادًا منهم الخليفة عثمان
ابن عفان ومنزلته من الدين وبلاؤه في نصرة الرسول ما نعلم . وكذلك ألزم الناس
علي بن أبي طالب أن يقبل التحكيم عندما رفعت المصاحف على أسنَّة الرماح ,
وطلب خصومه التحاكم إلى كتاب الله , فلم يسعه - وهو يعلم أن ذلك خدعة
منهم دبروها لبلوغ حاجاتهم - لم يسعه إلا أن ينزل على ما طلبوا من الرجوع إلى
كتاب الله ؛ ليفصل فيما شجر بينهم , ولم يغنه أن كان خليفة الرسول , وزوج
ابنته , وصاحب الحق في ذلك المقام .
( وبينا نحن كذلك دخل علينا أحد النواب فقال : يا حضرة الباشا إن أعضاء
المجلس قد اختلفوا أمن قيام يقرأ تلغراف الخليفة الذي أرسله بقبول بيعته أم من
جلوس ؟ فسأله الباشا : وكم القائلون بالقيام ؟ قال النائب : فوق الثمانين . فما لبث
مصطفى أن أقبل علي وقد قطّب غضبًا يسألني : أحكومة شعب هذه التي تريد
قراءة تلغراف الخليفة من قيام ؟ فأجبته : ( إنه ليس في الشريعة يا حضرة
الغازي ما يوجب القيام ولا يمنعه , وإنما يرجع في أمثال هذه الحالة إلى ما يجري به
العرف والعادة في الناس . وهنا أحس مصطفى باشا عين ما أحسست أننا لا نتفق
أصلاً . فهَمَّ بالوقوف إيذانًا بالانصراف , فخرجت من عنده وأنا أذكر ما قصه علي
صديق لي في برلين خلال الحرب الكبرى أيام كان مصطفى باشا ياورًا لولي
العهد إذ ذاك وحيد الدين أفندي ؛ إذ قال له : إن الاتحاديين دعوني ذات يوم للدفاع عن
جبهة العراق فأجبتهم إلى ذلك وكنت أضمر أن أستقل بالعراق , إذا ما أمكنوني من
السلاح والأموال الكافية . قال : ولكنهم - فيما أظن - شعروا بذلك يوم عرضت
عليهم مطالبي . فإنهم بعد إذ تدبروها أعرضوا عن تعييني في ذلك الميدان ,
واستبدلوا بي غيري . فهم الغازي مما دار بيننا كنه رأيي وفكري , ولكنه لم يكتف
بذلك , فلقد أوعز إلى فرقته في المجلس أن تدعوني ذات يوم للاستفتاء
رسميًّا . فجاءني كتاب من أحد أعضاء هذه الفرقة جلال نوري بك لأكون بمركزها في
يوم 2 يناير سنة 1923 , وهنالك جرى ما سأقصه على العالم الإسلامي فيما
يلي ، مما يتبين منه جليًّا أن سبب شقاء الترك وتأخرهم لم يكن دين الإسلام , ولا
قيام الخلافة في ديارهم كما يزين لهم التتار الواغلون ويتوهمه الرهط المارقون ،
ولكنها الأمراض الاجتماعية والجهالة الفاشية الفاعلة فيهم ما تعجز عنه الأوبئة
القتالة مما سنأتي بعد على شيء من تفصيله .
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز جاويش
( المنار )
إنما بدأنا بإيراد بعض ما كتبه هذا الأستاذ لثلاث :
( 1 ) إنه كتب عن علم وخبرة ؛ لأنه عاشر كبار الاتحاديين , وخدمهم بضع
سنين في عاصمة الدولة خدمة سياسية , ثم خدم الكماليين وأحاط خبرًا بنشأتهم وكنه
حالهم .
( 2 ) إنه غير متهم في انتقاد هؤلاء ولا أولئك ؛ لأن كلاًّ منهما أكرم مثواه ,
وقلده أعمالاً عظيمة كان يأخذ عليها راتبًا كبيرًا .
( 3 ) العبرة بما كان من الخلاف بيننا وبينه في الاتحاديين في المسألتين
الإسلامية والجنسية , فإننا قد سبقناه إلى معرفة كنه حالهم وما يكيدون للإسلام , وما
يسيئون به إلى الأمة العربية المشاركة لهم في الجنسية العثمانية السياسية , وكتبنا
في ذلك منتقدين وناصحين , فأنكر ذلك علينا الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش ,
وأساء فينا الظن بقدر ما كان يحسنه في الاتحاديين , ورد علينا وطعن فينا ، بل كان
خصمًا لكل العرب المستائين من معاملة الاتحاديين ، وعونًا لهؤلاء عليهم . ثم ظهر له
أنهم شر مما كنا نقول فيهم . وأكبر وجوه العبرة في هذه المسألة ما نبهت عليه من
قبل , وهو أننا - معشر العرب أو المسلمين أو الشرقيين - لا نزال بعداء عن
العمل المنظم المشترك ؛ إذ لا يكاد أحد منا يهتم بأن يبني عمله في خدمة أمته على
اختبار من سبقه من قومه في تمحيص بعض الأمور ، بل يعمل كل متصد
للعمل عملاً مستأنفًا , فإذا دمنا على هذا فلا يمكن أن نتقن عملاً ولا أن نرتقي فيه ؛
إذ لا يمكن لكل فرد منا أن يحيط علمًا واختبارًا بكل شيء بنفسه ، ولو استفاد
المصريون والهنود من اختبارنا السابق , واختبار الشيخ شاويش اللاحق لما
رأيتهم اليوم يطمعون في تحويل مصطفى كمال عن رأيه في الخلافة والدين والدولة .
***
ما هذه العاصفة الهوجاء
أول مقالة للأستاذ الشيخ محمد شاكر في الانقلاب نشرها في المقطم
خليفة يخلع ، وخلافة تلغى ، وأموال تصادر ، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة
وتعليم ديني يمحى ، ومحاكم شرعية تغلق ، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد ،
وتحرم حتى من جنسيتها التركية ، فما هذه العاصفة الهوجاء ؟ عاصفة الجنون التي
تهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربها , من عاصمة الجمهورية التركية
بقرارات الجمعية الوطنية في أنقرة كما تقول جريدة الجورنال الباريسية .
رحم الله زمانًا كنا نعطف فيه على هذه الفئة إبان تمردها على السلطنة
العثمانية , وهي تجالد مجالدة الأبطال ؛ لطرد الأعداء من الأناضول ، وزحزحة
الحلفاء عن دار الخلافة . والله يشهد أن الذي حدا بنا إلى العطف على هؤلاء
المتمردين , إنما هو الإشفاق على الخلافة العظمى أن تمتد إليها يد المهانة
والاستذلال . وهي البقية الباقية من مجد الإسلام , وعهد النبوة الأولى , وهي
العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي { فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (محمد : 22) { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ } (الحج : 46) .
عاصفة جنون هذه التصرفات التي بها دمر المجلس الوطني في عاصمة
الجمهورية التركية مجد السلطنة العثمانية , حتى جردها من تاج الخلافة العظمى
وقد احتملته رؤوس العظماء من آل عثمان أكثر من أربعة قرون .
عاصفة جنون هذه التصرفات التي ألغى بها المجلس الوطني نظامًا كان ولا
يزال من مقومات العالم الإسلامي في تكوينه الحيوي . وأنى لهؤلاء المتمردين على
النظام الديني أن يقتطعوا من مقومات الحياة الإسلامية نظام الخلافة فيقرروا إلغاءه .
حقًّا إن التمرد إذا انتهى بالبطولة استحال إلى العبث بكل نظام يعترضه في
طريقه . فالأبطال من المتمردين ينقلبون مدمرين , إذا لم تقلم أظفارهم هيمنة الأمم والشعوب بقوتها القاهرة . وسوف يرى هؤلاء المدمرون من المتمردين
كيف تقلم الأمم الإسلامية أظافرهم ، وكيف يرتدون على أعقابهم خاسرين
أمام العالم الإسلامي حتى من الشعب التركي نفسه { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } (النحل : 45-47) . { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ } ( الأعراف : 99 ) .
عجيب أمر هؤلاء الذين تسللوا في جنح الظلام إلى كهوف الأناضول , وظلوا
يهتفون باسم الإسلام , حتى حازوا فخار النصر . كيف ارتدوا على أدبارهم ,
يحاربون الإسلام بأسوأ أداة ملكتها أيديهم في أعز عزيز على العالم الإسلامي وهو
نظام الخلافة ؟
ما كانت الخلافة يومًا ما نظامًا قوميًّا , تتقاذفه أيدي المتسلطين في الجمعيات
الوطنية , حتى يتسنى لزعماء الجمهورية التركية أن يقرروا إلغاءه .
إنما الخلافة نظام ديني عام لا يحل لرجل يؤمن بالله ورسوله أن يتخلى عن
الاندماج في دائرته المرنة . كذلك كان نظام الخلافة منذ تولاها أمير المؤمنين أبو
بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم . إلى أن تقلدها بالبيعة العامة أمير المؤمنين عبد المجيد بن عبد العزيز { فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح : 10) .
ماذا تركته حكومة الجمهورية التركية من التقاليد الإسلامية لم تنقضه رأسًا على
عقب بعد خلع الخليفة وإلغاء الخلافة , وهي تضم أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة
وتقرر إلغاء المحاكم الشرعية , وإغلاق معاهد التعليم الديني , وتضع للنظام العائلي
قانونًا يهدم أصول الشريعة الإسلامية في كثير من أحكامه , ويذهب بتلك الفضائل
والآداب التي أفاضها الإسلام على المستمسكين بعروته الوثقى والمستعصمين في
حرز صيانته الحصين ؟! { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُّرْشِدًا } (الكهف : 17) .
عاصفة جنون هذه التي هبت على العالم الإسلامي من عاصمة الجمهورية
التركية في نظامه الدولي ، ونظامه الحكومي ، ونظامه العائلي . ولكنها ستنقشع
بتوفيق الله , وحكمة عظماء الإسلام وقادته المحنكين في مشارق الأرض ومغاربها
{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (المائدة : 54) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... وكيل الجامع الأزهر سابقًا
***
كلمة الأستاذ أمين بك الرافعي
( من مقالة له في جريدة الأخبار بتاريخ 29 رجب الماضي )
يعمل الكماليون بسرعة على تنفيذ قرارهم الطائش بإلغاء الخلافة وعزل
الخليفة ، وقد استعملوا في أقوالهم عبارات تدل على غرورهم وجهلهم بعاقبة ما
ارتكبوه ضد الإسلام والمسلمين . فعصمت باشا يزعم في خطبته التي نقلت إلينا
التلغرافات خلاصتها ونشرناها في باب التلغرافات : أن العالم الإسلامي لم يصادق
تركيا إلا لأنها قوية ، لا لأنها دولة الخلافة . فهل بعد ذلك جهل وغرور ؟!
وقد ذهبوا إلى جلالة الخليفة في ساعة متأخرة من الليل , وأمروه بالجلوس
فوق العرش , وبعد أن تلوا عليه قرار العزل أنزلوه وساروا به في سيارة إلى
الحدود ، ومنها إلى سويسرا . فعلوا به ذلك في جنح الظلام ؛ لأنهم يعلمون أنهم
يرتكبون جريمة شنيعة , ومن أجل ذلك تراهم أيضًا يعقدون محاكم التفتيش في
جميع أنحاء البلاد , ويخولونها سلطة الحكم بالإعدام ؛ ليملؤوا النفوس إرهابًا حتى
لا تثور على قرارهم .
ولكن هل مثل هذه التدابير الإرهابية تحول دون إظهار الاستياء العام من
فعلتهم القبيحة ؟
وبهذه المناسبة لا نرى بُدًّا من توجيه نظر علمائنا الأفاضل إلى ضرورة
قيامهم بواجبهم الديني في هذه الحادثة الخطيرة . فقد سبق لهم أن أعلنوا بيعتهم
لجلالة الخليفة , ولما كانت البيعة قائمة بالرغم من قرار أولئك الملحدين الخارجين
على الإسلام , فيجب على العلماء أن يعلنوا ذلك في اجتماع كبير يعقدونه ,
ويبرقون بقراراته إلى حكومة أنقرة ؛ لتعلم أن العالم الإسلامي ساخط على أعمالها
المنكرة .
كما نرجو من علمائنا أن يدعوا جلالة الخليفة للحضور إلى مصر ليعيش
وأسرته في بلد إسلامي , ويكون متصلاً بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ؛
لأن فكرة إبعاده إلى سويسرا لا يقصد منها سوى الحيلولة بينه وبين المسلمين .
وبالجملة ! فإن على علماء المسلمين في الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام
الآن فروضًا مقدمة , يجب عليهم أن يقوموا بها بلا توان ولا تردد لدرء الخطر
الذي يتهدد الإسلام والمسلمين .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي
__________
(1) المنار : يا في التركية كإما العربية ، والغازي المجاهد الذي يظفر في القتال في سبيل الله والمعنى : أطلب إما شرف لقب الغازي وإما شرف الشهيد وثوابه ، وهذا مأخوذ من أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الكفار بقوله : [ هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ] أي : الخصلتين والعاقبتين التين تفضلان كل ما سواهما وهما النصر أو الشهاد - والقلبق كمة توضع على الرأس .
(2) وفي جريدة الأخبار (ولن تجد له) وهو غلط .
(25/273
 
ذو القعدة - 1342هـ
يوليو - 1924م
الكاتب : محمد رشيد رضا

الخلافة والمؤتمر الإسلامي
قرار كبار العلماء الرسميين في القاهرة

بلاغ رسمي للصحف
في يوم الثلاثاء 19 شعبان 1342 - 25 مارس سنة 1924 اجتمعت بالإدارة
العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية ,
وبعضوية أصحاب الفضيلة : رئيس المحكمة العليا الشرعية ، ومفتي الديار
المصرية ، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية , والسكرتير العام لمجلس
الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية ، وشيخ المعاهد الدينية الكبرى , ومشايخ الأقسام
بالجامع الأزهر ، والكثير من هيئة كبار العلماء , وغيرهم من العلماء والمفتشين
بالمعاهد الدينية ؛ للمداولة في شؤون الخلافة الإسلامية , وقر قرارهم بعد بحث طويل
على ما يأتي :
1- كثر تحدث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من
الآستانة , واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قيامًا بما يفوضه
عليهم دينهم الحنيف ؛ لذلك رأينا أن نعلن رأينا في خلافة الأمير عبد المجيد , وفيما
يجب على المسلمين اتباعه الآن وفيما بعد .
2- الخلافة - وتسمى الإمامة - رياسة عامة في الدين والدنيا , قوامها النظر
في مصالح الملة وتدبير الأمة . والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه
وسلم في حماية الدين وتنفيذ أحكامه , وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى
النظر الشرعي .
3- الإمام يصير إمامًا بالبيعة من أهل الحل والعقد ، أو استخلاف إمام قبله .
ولا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره وسلطانه , فإن بايع الناس
الإمام , ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم , أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ
حكمه في الرعية لعجزه ؛ لا يصير إمامًا بالبيعة أو الاستخلاف .
وتستفاد الإمامة أيضًا بطريق التغلب وحده , فإذا تغلب شخص على الخليفة
واغتصب مكانه انعزل الأول . وقد يوجد التغلب مع البيعة أو الاستخلاف كما
حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية . وهذا كله مستفاد صراحة من نصوص
السادة الحنفية .
4- ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية , وجب أن
تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه : كولاية الوزراء ، وكولاية أمراء
الأقاليم , وولاية القضاء ، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور .
5- وينحل عقد الإمامة بما يزول به المقصود منها : كأسره بحيث لا يرجى
خلاصه ، وعجزه عن تدبير مصالح الملة والإمامة , ومتى وجد منه ما يوجب اختلال
أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين , جاز للأمة خلعه ما لم يؤد ذلك إلى فتنة ،
فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين .
6- رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه ؛
للأسباب التي علموها عنه , واعتقدوا أنها مبررة للخلع , ثم قدم الأتراك للخلافة
الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة , ووكلوا أمرها إلى
مجلسهم الوطني , وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحيًّا فقط .
7- وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل , ثم
أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة .
8- لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد - والحالة هذه - خلافة شرعية , فإن
الدين الإسلامي لا يعرف الخليفة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه , ولم تكن
بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعًا .
9- وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا : إن البيعة صحت له . فإنه لم يتم له
نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى الخلافة .
10- وإذا فرض أنه تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي , فقد انحل عنه
ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا , وعجزه عن الإقامة
في بلده ومملكته , وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه .
11- والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين
لزوال المقصود من الإمامة شرعًا ، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف
الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ،
ولا يملكون هم تمكينه منها .
12- ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين
له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله ،
ومن توحيد جامعة المسلمين , وربطهم برباط قوي متين - وجب على المسلمين أن
يفكروا في نظام الخلافة وفي وضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين
الإسلامي , ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم .
13- غير أن الضجة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على
الأمير عبد المجيد , جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه
من البت في هذه النظم , وتكوين رأي ناضج فيها , وفيمن يصح أن يختار خليفة
لهم إلا بعد الهدوء والإمعان والروية , وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف
الجهات .
14- لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي , يدعى إليه
ممثلو جميع الأمم الإسلامية ؛ للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية .
ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية وذلك نظرًا لمكانة
مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية , وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة
1343 هـ ( مارس سنة 1925م ) .
15- ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر
الخلافة , وأظهر اهتمامًا بهذا الواجب .
16- ونعلن أيضًا شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي
ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون
الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية
محضة , لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها , والعالم
الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى , وأن يحافظ على قواعد
دينه الحقة ، ونظمه البريئة بطبعها من العدوان .
17- هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في
مختلف البقاع , وإلى الأمم الأخرى ؛ ليكون الجميع على بينة من الأمر .
القاهرة في 19 شعبان سنة 1342 و ( 25 مارس سنة 1924 ) .
( ويلي ذلك الإمضاءات )
***
موافقة علماء الإسكندرية على قرار علماء الأزهر
( اجتمع جمهور علماء الإسكندرية , ووضعوا البيان التالي بعد أن كثر
القول في مخالفتهم لعلماء الأزهر ) .
نحن علماء معهد إسكندرية نظرنا في القرار الذي وضعه أصحاب الفضيلة
العلماء , الذين اجتمعوا في الإدارة العامة للمعاهد برئاسة صاحب الفضيلة مولانا
شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية , فوجدناه مشتملاً على موضعين :
(أحدهما ) الحكم الشرعي في خلافة الأمير عبد المجيد .
( وثانيهما ) لزوم عقد مؤتمر إسلامي عام للنظر فيمن تسند إليه الخلافة بعدما
تنحى الأتراك عنها .
( أما الأول فقد راجعنا بشأنه قرارات الجمعية الوطنية بأنقره ، واطلعنا على
قرارها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922 المندرج بجريدة المقطم الصادر
بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1922 القاضي بسحب السلطة بنوعيها التشريعية والتنفيذية
من الخليفة , وجعلها حقًّا خاصًّا بالجمعية المذكورة , وجعل الخلافة في آل عثمان ,
وجعل حماية الخلافة راجعة للجمعية ، والذي يقضي بتجريد الخليفة من كل اشتراك
أو تدخل في تدبير شؤون الرعية وحراسة المسلمين بما يقتضيه النظر الشرعي في
مصالحهم . واطلعنا أيضًا على قرار الجمعية المذكورة الصادر في 18 نوفمبر سنة
1922 المندرج بجريدة الأهرام عدد 13917 الصادر في 8 ديسمبر سنة 1922
القاضي بخلع الأمير وحيد الدين وتولية الأمير عبد المجيد خليفة مع مراعاة
الأصول المرعية في قرار أول نوفمبر السالف الذكر . واطلعنا على صورة
التلغراف الصادر من الأمير عبد المجيد إلى رياسة مجلس الأمة الكبير المنشور
بجريدة المقطم عدد 10262 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1922 ردًّا على
التلغراف الصادر من مجلس الأمة الكبير بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1922 الذي جاء
فيه : إن الأمة قد احتفظت لنفسها بالسيادة في تركيا بلا قيد ولا شرط طبقًا لأحكام
دستورها الذي يوحد بين القوتين التشريعية والتنفيذية ، ويجمعهما في مجلس الأمة
الكبير شاكرًا المجلس على انتخابه لمقام الخلافة , مع تجريده عن السلطتين
التشريعية والتنفيذية . وحيث إن انتخابه لمقام الخلافة كان على شرط أنه ليس له من
الأمر شيء ، وقد أقرهم على ذلك وشكرهم عليه فقد تبين أنه وقع انتخابه لوظيفة
لم يبق فيها لأعمال الخلافة الشرعية شيء , فلا تعد البيعة التي حصلت من
المسلمين له بيعة بالخلافة .
نعم إن المسلمين ما كانوا في غفلة عن هذا حينما بايعوه , ولكن دعاهم إلى
البيعة بل إلى الإسراع بها ذلك الظرف العصيب , والمحنة التي تجهمت للمسلمين
إذ ذاك بفرار وحيد الدين على ظهر مركب أجنبي مناديًا بأنه لا يزال خليفة
المسلمين , فلم يشك أحد في أنه بعد أيام سيكون في الهند مثلاً بهذا اللقب . وهذا مما
يفت في عضد الإسلام وأهله , ويحدث صدعًا خطرًا في بناء الهيئة الإسلامية ، ثم
في الوقت نفسه انهالت الطلبات على كبار حكام الترك لتعيين امتيازات الخليفة
الجديد ؛ لتحقيق مبدأ الخلافة في حدود الشورى ، فكانت أجوبتهم متحدة بأن الخليفة
الآن محصور بجيوش الحلفاء بالآستانة , فلا نأمن أن يتخذوا مقام الخلافة سلاحًا
للنكاية بالترك , وبعد جلاء الجيوش تعين له الامتيازات . فهذا طمأن المسلمين على
أنها ستكون خلافة شرعية , وأن تجريدها مؤقت وذاك ما أوجب سرعتهم في البيعة
حتى يقطعوا السبل في وجه الغادر بالمسلمين وحيد الدين .
وحيث إن الأمير عبد المجيد بويع في هذه الظروف , وليس له من رئاسة
المسلمين شيء , ولم يحقق الأتراك وعدهم بشأنه للمسلمين بل شردوه من بلاده-
فإنا نوافق على القرار القاضي بأنه لا بيعة له في رقاب المسلمين ، وأن مقام
الخلافة الآن خال لا يشغله إمام .
وأما ( الثاني ) وهو لزوم الدعوة للمؤتمر الإسلامي العام فإنا نحبذه كل
التحبيذ ؛ لأن الحالة التي أصبح فيها المسلمون توجب عليهم شرعًا التذرع بجميع
الوسائل النافعة لخلاصهم من هذه الورطة الشديدة التي وقعوا فيها , وليس أمامهم منها
إلا عقد مؤتمر إسلامي عام يعالج حل هذه المعضلة وكشف هذه البلية .
والله سبحانه يتولى المسلمين بعنايته , ويوفقهم لجمع الكلمة على ما به
سعادتهم في الدنيا والآخرة اهـ .
وضع هذا البيان أصحاب الفضيلة علماء الإسكندرية في 27 رمضان الماضي
( 2 أبريل ) , وقدموه ممضيًّا منهم إلى مشيخة الإسكندرية ، وأرسله مراسل جريدة
الأهرام في الإسكندرية إليها في 19 أبريل فنشرته على الناس .
( تأثير قرار كبار العلماء ، وفوضى العلم والدين في هذه الديار )
لما أذاعت الجرائد تسمية منح حكومة أنقرة لعبد المجيد أفندي نجل السلطان
عبد المجيد لقب خليفة لموافقته إياها على الفصل بين الدين والدولة وبين الخلافة
والحكومة ؛ بادر كثير من علماء الأزهر وعلماء سائر المعاهد الدينية التابعة له إلى
مبايعة عبد المجيد بالخلافة الإسلامية النبوية , ونشروا نصوص مبايعتهم في
الصحف اليومية كغيرهم من الطبقات التي لا تعرف أحكام الإمامة الإسلامية
وشروطها , بل اغتر بهم أكثر الذين بايعوا واتبعوهم .
وإننا على علمنا بأن مبايعتهم هذه لغو لا يترتب عليها حكم , ولا تجعل الرجل
خليفة مطلقًا ولا إمامًا متبعًا في الدولة التركية ولا في غيرها بالأولى ؛ لأنهم ليسوا
أهل الحل والعقد هنالك ولا هنا - إننا على علمنا بهذا تألمنا لوقوع هذه المبايعة
ضنًّا بكرامة علماء مصر أن يصدر عن الجماعات الكثيرة العدد منهم مبايعة باطلة
شرعًا ، ولما يترتب على ذلك من تأييد جماعة أنقرة العابثين بهذا المقام الأعلى في
الأمة الإسلامية . وقد عجبنا أشد العجب من إقدامهم على هذا العمل , ولم نجد له إلا
أحد تعليلين لا مانع من اجتماعهما للبعض : الغفلة المطلقة عن أحكام الخلافة ،
ونسيانها لعدم وضعها موضع البحث والعمل , أو الجريان في تيار السياسة
ومجاراة العوام فيها . وإنا لنكره لهم كلاًّ منهما ، ونود تكريمهما وتنزيههما عنه ، وإنما
أخطر ببالنا التعليل الأول ما كان وقع لنا مع عالمين من أذكى علماء الأزهر :
أحدهما من قضاة الشرع , والآخر من المدرسين , كانا قد زارانا قبل حادثة الخلافة
بسنين , فكان من شجون الحديث بيننا أن ذكرت مسألة الخلافة وشرط النسب
القرشي فيها , فقال الشيخان : إن مذهبنا الحنفي لا يشترط هذا الشرط . قلت : لا
خلاف في هذه المسألة بين مذاهب أهل السنة الأربعة ولا غيرهم بل هي إجماعية
عندهم . فأنكرا ذلك فجئتهم بالنص عليه من شرح البخاري والمواقف والمقاصد
وغيرها ، وقد بينا مسائل الخلافة مفصلة تفصيلاً , ونشرناها في المنار وكلمنا
بعض الأزهريين في خطئهم , وأقمنا لهم الحجج على بطلان ما فعلوه فأصروا عليه .
ثم بطشت أنقرة بطشتها الكبرى , فألغت خلافتها أصلاً وفرعًا ، وطردت
صاحب لقب الخلافة من بلادها وسائر الأسرة السلطانية فرادى وجمعًا ، ولكن
علماءنا المبايعين ثبتوا على بيعتهم , وزعموا أن عبد المجيد أفندي المنفي في
سويسرة من بلاد أوربة لا يزال كما لقبوه هم وأمثالهم من غير قومه : إمام
المسلمين ، وخليفة رسول رب العالمين ، وأن بيعته لا تزال في الأعناق ، وطاعته
واجبة على الشعوب والأفراد ، ونصرته على حكومة بلاده محتمة ولو بالقتال ،
فعدنا إلى الكتابة في المسألة , ونشرنا بعض المقالات في جريدة الأهرام ، ورغبنا
إلى شيخ الأزهر في تلافي هذه الفوضى وحفظ كرامة العلماء .
ثم اجتمع كبار العلماء تحت رياسته , عند وجود الباعث ووضعوا قرارهم
ونشروه في الصحف اليومية كلها , وأيدهم فيه كبار علماء الإسكندرية ، واعتذر
هؤلاء عن مبايعة جمهور العلماء بما هو صريح تعليلنا الثاني , وهو اعتذار يصدق
في بعض أولئك المبايعين دون بعض ، ويؤيد هذا ما حدث بعد ، وهو إنكار
الكثيرين منهم لقرار كبار العلماء ، ثم إن هؤلاء ألفوا لجنة المؤتمر ودعوا إليها
بعض أولئك المصرين فرجعوا عن رأيهم وقولهم , وأصر آخرون وأنشؤوا ينشرون
المقالات في الجرائد في الرد على القرار ، وشايعهم على ذلك آخرون من سائر
الطبقات ، ولا سيما الذين سبقوا إلى تأليف لجنة أو لجان لأجل المؤتمر المقترح .
ساءتنا هذه الفوضى , وساءنا تصدي بعض الأزهريين أنفسهم للرد على
شيوخهم وكبار مُعِدِّهم حتى بالباطل ، وبالخروج عن الأدب اللائق ، حتى إننا كنا
في أواخر رمضان شرعنا في كتابة مقالة في تأييد كبار العلماء , والدفاع عنهم من
غير أدنى طعن في غيرهم , فأمسكنا عن إتمامها قرفًا من هذه الفوضى التي أحدثتها
حرية النشر في البلاد . ومن يضلل الله فما له من هاد .
(25/367)
 
أكتوبر - 1924م
المقالة الثانية
في الأسباب العامة لزحف الوهابيين على الحجاز
تمهيد : طريقتنا في الكتابة :
إننا نكتب ما نكتب في هذا الموضوع لبيان الحق وأداء النصح الواجب للأمة
الإسلامية وللشعب العربي , وقد عاهدنا الله تعالى على أن لا نؤثر على الحق
والنصح شيئًا , وأنه إذا ظهر لنا أننا أخطأنا في شيء , فإننا نرجع عنه , ونعلن
ذلك إعلانًا .
فما كان في كلامنا من خبر , فإننا مستعدون لإثباته بالنقل عن المصادر التي
لا نزاع فيها , وأكثرها رسمية حقيقة أو حكمًا , ( وهذا ما يسميه كتاب هذا العصر
شبيهًا الرسمي ) كأقوال جريدة القبلة التي لا تعزوها إلى الملك حسين ولا إلى
حكومته ( التي هي هو ) .
وما كان من حكم شرعي ، فإننا تذكر بالدليل , ونعرضه على علماء الإسلام في
العالم كله , فإن كتب إلينا أو كلمنا أحد منهم بما يقنعنا بأننا أخطأنا في شيء منه ,
فإننا نرجع إلى الحق , ونعلن ذلك لمن اطلع على كلامنا حيث اطلع عليه , وإلا بينا
له خطأه بالدليل , مع التزام الأدب الذي نطالبه به , ونعرض كلامنا وكلامه على
الجمهور .
وما كان من رأي ؛ فإننا لا نأبى مناقشة أهل الرأي فيه على شرطنا فيما قبله ,
ومنه : أن يرسل الرد إلينا , أو إلى الصحيفة التي تنشر فيها كلامنا , ولسنا نكلف أن
نطلع على جميع الجرائد , وما عساه يوجد في بعضها من نقد أو طعن فنرد عليه ,
ولا أن نرد على من يخرج عن شروط المناظرة وآدابها , وإنما نرد على من ينكر
بالدليل صدق خبر من أخبارنا , أو صحة دليل من أدلتنا , أو بطلان رأي من آرائنا ؛
لأننا نتحرى الحق والصواب في هذه الثلاثة , وندور معه إن شاء الله تعالى
حيث دار .
إننا أفتينا ببطلان بيعة حسين بن علي بالخلافة , وسردنا الدلائل الشرعية
على ذلك , ونشرت الفتوى في مجلتنا المنار , وفي جريدتي الأهرام والمحروسة ,
وبينا في هذه الفتوى , وفي مقالات أخرى في المنار أن هذه البيعة على بطلانها
تضر الأمة العربية , وتزيد الشقاق بين شعوبها وحكوماتها , فصدقت الحوادث رأينا ،
ولم يرد عليه أحد فيما نعلم , وإننا بينا حقيقة حال خصومه النجديين في مذهبهم
بالنقل من كتبهم ومن كتب التاريخ المشهورة , ولم نذكر من عندنا كلمة واحدة ,
ولن يستطيع أحد أن ينكر كلمة من نقلنا .
وقد بينا مواضعه حتى ذكرنا أعداد الصفحات والأجزاء التي نقلنا
عنها ؛ لذلك وقع أحسن موقع من أنفس الناس الذين قرؤوا مقالنا الأخير الذي نشرناه
في جريدة الأهرام , واستزادونا من الكتابة في هذا الموضوع , وكثر طلاب ( التحفة
السنية والهدية الوهابية ) من القاهرة ومن جميع أرجاء القطر المصري ,
ومما جاوره ، حتى صار جل عمل مكتبة المنار منذ نشرت المقالة توزيع هذه
الرسالة , فكان هذا سببًا لمعرفة الألوف الكثيرة من الناس, ما كانوا يجهلون من
حقيقة أهل هذا القطر الإسلامي , الذين هم أشد مسلمي هذا العصر حرصًا على السنة السنية , وعناية بالاعتصام بعروتها الوثقى , وكان أمرهم مجهولاً عند
الأكثرين .
بل كانوا يوصفون بضد ما هم عليه بما يذيعه حسين بن علي وأعوانه من
الطعن في دينهم تبعًا لما أذاعه سلفه في إمارة الحجاز , ومقلدوهم من مدة قرن وربع
قرن حين فتحوا الحجاز للمرة الأولى , حتى كتب أخيرًا بعض من لا قيمة للحق
والصدق عندهم مقالات في بعض الجرائد كلها زور وبهتان , هبط الافتراء ببعضهم
فيها إلى رميهم بأنهم يسعون لإبطال دين الإسلام , تميهدًا لنشر دعوة المبشرين
( دعاة النصرانية ) , فكانت هذه فرية عجز عن مثلها الشيطان الرجيم , ولم تخطر
( ببال منقذ العرب والمسلمين ) .
وإننا في هذا المقال وما بعده نبين للناس كافة , ولأهل الغيرة الإسلامية
والجامعة العربية خاصة , أسباب زحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذا المتغلب
عليه المستبد فيه , الظالم لأهله , ولمن يحجونه من سائر المسلمين . وسيعلمون مما
نورده من الحقائق الجلية , والشواهد الرسمية وشبه الرسمية أن سلطان نجد لم يفعل
هذا طمعًا في توسيع ملكه , ولا لمجرد المحافظة على حقه , بل خدمة للملة
الإسلامية والأمة العربية , وإن كان الأمر الثاني وحده يوجب عليه ذلك شرعًا
وعرفًا . ونبدأ بذكر الأسباب العامة فنذكرها بالإيجاز ؛ لأنها صارت مشهورة ، إلا أنه
يقل من يحفظها كلها , ويستحضر ذكرها , ثم من يخلص في بيان ذلك للناس , ولهذا
نرى ما يتعجب منه من الخبط والخلط والباطل في مقالات بعض الكتاب , حتى من
تصدى لتمحيص أمثال هذه المسائل خاصة .
***
الأسباب العامة
لزحف النجديين على الحجاز
( السبب الأول ) :
ما هو معلوم بالتواتر القطعي وبالوثائق الرسمية , من موالاة شريف مكة
حسين بن علي وأولاده للدولة البريطانية وحلفائها في الحرب الأخيرة , ونصرهم
إياهن على الدولة العثمانية في فتح البلاد العربية , وأنه كان يهنئ الدولة
البريطانية كلما فتحت مدينة من أمصار الإسلام وعواصم الحضارة العربية ؛
كالقدس الشريف , و بغداد , و دمشق , ثم اقتسموا هذه البلاد فأعطوه ولاية الحجاز ,
وأخذوا هم ولايات العراق وسورية و القدس الشريف , حتى إنهم اقتسموا سكة
الحديد الحجازية أيضًا التي هي وقف إسلامي أنشئ لتسهيل إقامة ركن إسلامي .
فأما تولي المسلم لغير المسلمين في القتال , وفتح بلاد المسلمين فحكمه الديني
معلوم بنص القرآن المجيد وكتب الشريعة , وحسبنا منه قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( المائدة : 51 ) , وأما عاقبته في
الأمة العربية ؛ فهي استيلاء الأجانب على مهد حضارتها وعمرانها , وأخصب
أقطارها , وأعظم موارد ثروتها , وجعل ما بقي لها من جزيرتها المقدسة محاطًا به
من البر كالبحر , ومهددًا بفقدان استقلاله في كل وقت ، والتهديد شامل للحرمين
الشريفين بالتبع لثالثهما , وهو المسجد الأقصى ، حتى لا يبقى لهما استقلال في دين
ولا دولة .
( فإن قيل ) : إن هذا الرجل وأولاده يدعون بأنهم ما فعلوا هذا إلا لإنقاذ
البلاد العربية واستقلال العرب ( قلنا ) : إننا نحن نبين الحق الواقع ، لا إفك
السياسة ومعالطاتها , وكذبها ومكابرتها , وإلا فإن الإنكليز قالوا ولا يزالون
يقولون مثل هذا القول من احتلالهم لمصر , وفي إكراه وزير من وزرائها على
تسميته إياهم شركاء لمصر في بلاد السودان , وفي زعمهم الآن أن السودان يجب أن
يكون في أيديهم وحدهم ؛ لأن لهم مصالح فيه , ولإتمام سعادة السودانيين .
( فإن قيل ) : إن ثورة الشريف التي يسميها النهضة إنما بنيت على القصد
الصحيح المذكور , ثم ظهر له أن حلفاء خدعوه , وأخلفوا وعده , ونكثوا عهده ,
ولا عجب فقد خدعوا رئيس أعظم دولة في العالم كما خدعوه , وهو رئيس دولة
الولايات المتحدة في أميركا ( قلنا ) : إن هذا باطل كالذي قبله ، كما يعلم من
الأسباب الآتية , وربما كان من أسباب إرجاء ابن سعود الزحف على الحجاز إلى
الآن ؛ لأجل استعراف نتيجة هذه الأقوال .
( السبب الثاني ) :
إن الشريف حسينًا وأولاده لا يزالون مصرين على موالاة حلفائهم الأجانب ,
ومودتهم ومساعدتهم على تثبيت أقدامهم في البلاد العربية , مع ادعائه هو دون
أولاده بأنهم خدعوه وغشوه ؛ لأنه أشدهم رياءً وخداعًا وإفكًا , ولذلك يناقض نفسه ,
ويبطل بعض كلامه بعضًا , وها نحن أولاء قد قرأنا في عدد جريدة القبلة 810
الذي صدر في عشرة المحرم فاتحة هذا العام 1343 تصريحًا رسميًّا له بالثبات
على مودتهم في منشور باسمه سماه ( منشور عيد البيعة الأولى ) وما أكثر أعياده
بمصائب العرب والإسلام ! !
فقد قال فيه ما نصه :
( وإنا لا نزال ساعين لتأييد المودة وتأكيد الروابط بيننا وبين حلفائنا العظام )
فما هذا التأييد والتأكيد إن كان صادقًا في قوله : إنه مخدوع , منكوث العهد ,
مكذوب الوعد ؟
ولماذا يصر على السعي لعقد المعاهدات معهم , والنبي الذي يدعي هو وحكومته
اتباعه له دون المسلمين كافة والوهابيين خاصة يقول : ( لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين ) رواه البخاري ومسلم , وغيرهما . دع ما ورد في أمثال هذه الموادة
والمعاهدات في سورتي الممتحنة والتوبة , مما ينافي الإسلام نفسه .
( السبب الثالث ) :
إن ما يسميه النهضة قد بني على أساس الحماية البريطانية للمملكة العربية ,
التي طلب من الإنكليز أن يؤسسوها له , كما فضحها ولده الشريف فيصل في
دمشق الشام , بنشره نص مقرراتها الرسمي في جريدة المفيد , ثم نقلتها الصحف
الكثيرة في المشرق والغرب , وهذا نص المادة الثانية منها بحروفه , كما كتبها
حسين بن علي بيده الأثيمة الخاطئة .
( 2 ) تتعهد بريطانية العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت ، بأي صورة كانت في داخليتها , وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء إلخ .
ولكن الإنكليز لما لم يسمحوا له بغير الحجاز من البلاد العربية التي طلب أن
يكون ملكها تحت حمايتهم , لم يكن من مصلحتهم أن يقبلوا رسميًّا جعل الحجاز
تحت حمايتهم , وهو لا يزال مصرًّا على هذه المقررات , ويعد من أعظم النعم
عليه أن يكون موظفًا بريطانيًّا في الحجاز كبعض النواب والرجوات في بعض
الولايات الهندية , التي تسمى مستقلة في بطن الحِضْجَر الواسع [2] .
ومن الدلالة على ذلك أنه طلب مرارًا من الدولة البريطانية إقالته من ملك
الحجاز , وتنصيب غيره بدلاً منه , وأرسل مرة إلى مدير جريدة التيمس برقية إليه
رغب إليه فيها أن يتوسل لدى حكومته ؛ لقبول استقالته , وهذا نص البرقية منقولاً
عن العدد 553 من ( جريدة القبلة ) :
المدير العمومي لصحفية التيمس
( اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب , والتزامكم أحد
أمرائهم , ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك , وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني , أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير
المذكور أو من تراه ليستلم البلاد ) إلخ . والمراد بالأمير المشار إليه : سلطان نجد ؛
إذ كانت جريدة التيمس مدحته بمقال لها .
وكان قد أرسل إلى نائب ملك الإنجليز بمصر كتابًا في 20ذي القعدة سنة
1336 , نشره في جريدته القبلة مرارًا ؛ لاعتقاده أنه من معجزات السياسة أو
الكياسة والبلاغة , استغاث فيه الدولة البريطانية أن لا تعدل مقررات نهضته المبنية
على الحماية , ولا تعرض الانفاق معه على مؤتمر الصلح , قال فيه ما نصه السقيم :
( فإن كان ولا بد من التعديل فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب , ولا أشتبه
في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا , إلا أنه أمر يتعلق بالحياة لا لقصد عرضي ,
ولا لفكر غرضي , وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم
الطوارئ والأيام , ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول
فرصة ) .
ثم أجاب عن تعليق أمر مطالبه بالمؤتمر وختم كلامه بقوله :
( ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا , وكان ذلك من غير وساطتكم
وقبلناها , فنكن (؟) مطرودين من رحمة الباري - جل شأنه - الرقيب على قولي
هذا ) ا هـ بحروفه من العدد 391 من جريدته القبلة , الذي صدر في 23
رمضان سنة 1338 , ومنه يعلم أن الدولة البريطانية عنده كالمعبود , فلا يعاملها
معاملة مبنية على المصلحة فقط .
( السبب الرابع ) :
رضاه باستخدام الدولة البريطانية لأولاده في العراق وشرق الأردن ؛ لتخدير
أعصاب بدو البلاد وحضرها , وحملهم على الرضاء بما يؤسس فيها من حظائر
الطيارات الحربية , وتعبيد الطرق في قلب الجزيرة للسيارات والدبابات , ومد
سكك الحديد العسكرية والتجارية ؛ لتمكين سلطانها فيها , فإن العرب إذ قاوموها
قبل ذلك فالراجح أنها تضطر إلى ترك بلادهم لهم ؛ لئلا تضطرها المقاومة العملية
إلى بذل ألوف الملايين من المال ومئات الألوف من الرجال , وذلك ما لا يأذن لها
به برلمانها , ولا تسكت عليه أمتها في هذا الوقت التي أرهقتها فيه الضرائب وإذا
هي تم لها بنفوذ هؤلاء الحجازيين ما شرعت فيه من ذلك , فرسخت أقدامها ,
واستقرت قوتها , فلن تخرج من البلاد ولن ترضى إلا الاستيلاء على سائر جزيرة
العرب ؛ للمحافظة على ما تسميه مصالحها وطرق تجارتها , وعلى ما تدعيه من
إسعاد البلاد وأهلها , كما تقول في مسألة السودان . وهي عبرة للمخدوعين بهؤلاء
الحجازيين , إن كانوا غير خائنين لأمتهم وبلادهم ولا جاهلين لمصلحتها ككثير من
البدو .
( السبب الخامس ) :
جعل حرم الله تعالى الأمين مركز ملك حربي , يحالف ملكه بعض الملوك
الأجانب غير المسلمين , ويجعل لهم حقوقًا في الحرمين الشريفين غير مسألة
الحماية التي تقدم ذكرها , ويعادي آخرين ، ولا يجوز أن يجعل الحجاز مركزًا حربيًّا ؛
أي عرضة للحرب ؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى منع الحج الذي هو ركن الإسلام
الاجتماعي العام الجامع للشعوب الإسلامية كلها , وإنما مصلحة المسلمين عامة ,
وأهل الحجاز وجيرانهم خاصة - جعل الحجاز قطر حياد وسلام ، والسعي لاعتراف
جميع الدول بذلك , ولو فعل السيد حسين المكي ذلك ، لاستغنى به عن معاداة جيرانه
من العرب , والاستعداد لقتالهم ، ولاستغنى عما هو شر من ذلك , وهو إهانة نفسه
وبيته وأمته وملته , وحرم الله وحرم رسوله بالالتجاء إلى حماية دولة غير مسلمة له
ولهما .
( السبب السادس ) :
أنه سمى نفسه ملك العرب وملك البلاد العربية , وحمله غروره بنفسه على
السعي لإقناع أمراء جزيرة العرب المستقلين بالاعتراف له بذلك ، فسخروا من سعيه ؛
لسوء سياسته , وبناء ملكه على الحماية الأجنبية , وضعفه , وفساد إدارته ,
واعتقاد كل منهم واعتقاد رعيته وسائر العارفين بحالهم أنهم أحق بالملك منه , ولكنه
لم يرجع عن دعواه , بل أصر على ذلك , وحاول التوصل إليه بقوة الأجانب الذين
جعلوا أحد أولاده ملكًا والآخر أميرًا مرشحًا للملك في دائرة إمبراطوريتهم المرنة ,
فهو قد اتخذ جميع أمراء الجزيرة المحيطين بالحجاز أعداءً له , وحسبنا شاهدين
على هذا : ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة الذي أسسه ؛ لبث دعايته وتمهيد
السبيل له ؛ وما جرى في مؤتمر الكويت من الامتناع من الاتفاق الودي مع حكومة
نجد , وإننا ننقل بعض كلامه في الشاهد الأول , ونرجئ الثاني إلى بيان الأسباب
الخاصة لزحف النجديين على الحجاز :
نشرت جريدة القبلة في العدد 737 الذي صدر بمكة في 6 ربيع الآخر سنة
1342 بيانًا عامًّا من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة بإمضاء رئيسها محمد بن
علوي , ذكر فيه ما صرح له به الملك حسين من تفسير الوحدة العربية التي يطلبها ,
وهو أنه رسمها على الأساس الآتي :
( وهو وحدة البلاد العربية واستقلالها , بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها
وسياستها العامة واحدة , أما داخليتها فالإمارات العربية المعروفة بجزيرة العرب
تكون على ما كانت عليه قبل الحرب , وأن كل أمير في أي إمارة من هذه الإمارات
الموروثة لهم من آبائهم وأجدادهم يستقل بداخليته صمن الحدود التي كانت عليها
إمارته قبل الحرب , بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم ,
أو شذ بالخروج عن الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى :
{ فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه } ( الحجرات : 9 )
( وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات سواء كانت تلك الإمارات
قائمة بذاتها ضمن حدودها , أو طرأ عليها الاغتصاب ؛ كعسير قبل الحرب و ابن
رشيد بعد الهدنة , فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عله ؛ كعودة الإمام يحيى إلى
صنعاء ) .
ثم قال : ( ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا , وعليها نموت , وعليها
نبعث إن شاء الله من الآمنين ؛ لذا فلا بد من إعادة آل رشيد و آل عايض إلى
إماراتهم وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها وإعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى
ما كان عليه قبل الحرب ) إلى أن قال : ( هذا الذي أدين الله عليه , ولو لم تبق
إلا ذاتي وحياتي لأنفقتها في هذا السبيل ) .
فهذا نص صريح من الملك حسين الذي سمى نفسه ( ملك العرب وجميع
البلاد العربية ) بمعاداة جميع أمراء جزيرة العرب , وجعلهم معه في حالة حرب ؛
لأنه يدين الله تعالى بسلب كل واحد منهم بعض البلاد التي في يده , ويجعلهم تابعين
في السياسة الخارجية والحربية والإدارة العامة لملك العرب ؛ أي : له .
أذاع عنه هذا في جريدة القبلة رئيس مؤتمر الجزيرة المستخدم عنده لهذا ,
وهو الذي يرسل البرقيات إلى العالم الآن في الافتراء على النجديين ؛ لينفر العالم
منهم .
( السبب السابع ) :
إلحاده بظلم أهل الحرم , وإرهاقهم العسر من أمرهم بضرب المكوس الباهظة
على كل ما يرد إلى البلاد من الأقوات وغيرها , وباحتكاره القوت الضروري وهو
الخبز بإبطاله جميع الأفران العامة الخاصة , وإنشائه أفرانًا يكره الناس على الشراء
منها بالثمن الذي لا يمكن أن يزاحمه فيه أحد مع عدم المبالاة بقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ) رواه البخاري في تاريخه ,
وأبو داود في سننه , وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث يعلى بن أمية ( رضي
الله عنه ) , وفي معناه روايات أخرى عن عمر و ابن عمر ( رضي الله عنهما )
مرفوعة وموقوفة , وبغير ذلك من اغتصاب أوقاف الأشراف والأوقاف الأهلية في
المدينة المنورة وبالحبس والتنكيل والتعذيب وقطع الأطراف والقتل بغير حق يجيزه
الشرع , ولا نطيل هنا في هذا , وقد بيناه بالتفصيل في مجلة المنار , ولدينا مزيد
وهو معروف عند أهل نجد .
( السبب الثامن ) :
تحكمه بهواه في أمر فريضة الحج , فهو يمنع منها من اتخذهم أعداءً له ؛
كأهل نجد , ويضرب على سائر الحجاج المكوس غير المشروعة باسم جوازات
السفر ، ورسوم الصحة , وغير ذلك مما أذاعه حجاج الآفاق في جميع الأقطار ,
وشرحناه بالتفصيل في مجلة المنار .
( السبب التاسع ) :
نشره في جريدة القبلة أنه لا يوجد في العالم حكومة إسلامية تقيم الحدود
وتلتزم أحكام الشرع غير حكومته , وتكفيره للترك والمصريين والنجديين , وسنذكر
بعض الشواهد على هذا في المقال التالي .
( العاشر ) :
ادعاؤه مع كل ذلك الخلافة الإسلامية الذي يقتضي أن كل من يخالفه , ولا
يخضع لحكومته من الشعوب والحكومات الإسلامية من الخوارج البغاة الذين يجب
عليه وعلى سائر المسلمين قتالهم , وقد ذكرنا آنفًا رأيه في إمارات جزيرة العرب
المجاورة للحجاز , وتصريحه قبل إظهار دعوى الخلافة , والدعوة العامة إلى
مبايعته بها بأنه يدين الله تعالى بجعلها تابعة لملك واحد , وبعزمه الثابت على تنفيذ
ذلك بالقوة . فكيف يكون شأنه بعد هذه الدعوى ؟ ومقتضاها عنده أنه يجب على أهل
هذه البلاد كسائر المسلمين أن يكونوا تابعين له خاضعين لحكمه .
فهذه الأسباب العامة توجب على من قدر من أمراء المسلمين أن ينقذوا الحجاز
من سلطة هذا المدعي المغرور كما فصلناه من قبل في المنار , وسنجمل القول فيه
في المقال التالي الذي نبين فيه الأسباب الخاصة التي حملت أهل نجد على القيام
بهذا الفرض الكفائي , وسبب تأنيهم في ذلك وهو الاحترام للحرم الشريف .
__________
(1) وسيأتي بيانها بالتفصيل في المقالتين الثانية والثالثة .
(2) الحضجر - بكسر فسكون ففتح - : العظيم البطن الواسعة , وسميت به الضبع .
(25/539
 
رجب - 1343هـ
فبراير - 1925م
الكاتب : جمال الدين الأفغاني
__________
المقالة الخامسة
[*]
ما ينبغي للمسلمين علمه وعمله

أيها المسلمون :
إن الحجاز مهبط دينكم , وفيه بيت ربكم , وهو قبلة صلاتكم , ومشاعر
نسككم , وشعائر الله لكم , فيه يقام الحج الأكبر , الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي
الأوحد , وفيه مقام إبراهيم , وقبر نبيكم الكريم عليهما من الله أفضل الصلاة
والتسليم , وقد جاء الإسلام بحرية الأديان إلا في حرم الله وحرم رسوله وسياجهما
من جزيرة العرب , فهما خاصان بدين الإسلام , وقد امتدت إليهما أيدي غير
المسلمين في هذه الأيام .
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها , قالت :
آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : ( لا يترك بجزيرة العرب
دينان ) , وروى أحمد ومسدد والحميدي في مسانيدهم والبيهقي في سننه من
حديث أبي عبيدة ( رضي الله عنه ) قال : آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم ( أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ) , وفي
رواية نصارى نجران .
وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال : اشتد برسول الله
صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث : ( أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب , وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ) قال سليمان
الأحول راوي الحديث عن سعيد بن جبير الذي سمعه من ابن عباس : ونسيت
الثالثة .
وحملها العلماء بالاحتمال على ما صح من وصاياه الأخرى في مرض موته -
صلى الله عليه وسلم - كقوله : ( لا تتخذوا قبري وثنًا ) ، وفي موطأ الإمام مالك ما
يشير إلى ذلك - أو وفد أسامة - أو الوصية بالنساء والرقيق .
وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وقريظة والنضير
المحاربين له من يهود المدينة , وأنذَر مَن بقي من اليهود الجلاء بعد عجزهم عن
قتاله ؛ ليخرجوا بسلام ويحفظوا أموالهم , فقد روى البخاري في مواضع من صحيحه
وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال : ( بينما نحن في المسجد خرج النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : انطلقوا إلى يهود ، فانطلقنا حتى جئنا بيت المِدْراس
( هو بوزن المفتاح العالم الذي يدرس كتابهم ) فقال : أسلموا تسلموا , واعلموا أن
الأرض لله ورسوله , وأنني أريد أن أجليكم من هذه الأرض , فمن يجد منكم بماله
( أي بدل ماله ) شيئًا فليبعه ؛ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله ) , والمراد أرض
المدينة وسائر الحجاز .
وروى أحمد و مسلم و الترمذي من حديث عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه )
أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لأخرجن اليهود والنصارى من
جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا ) , ولما كان أبو بكر ( رضي الله عنه ) لم
يتسع له الوقت لتنفيذ هذه الوصية , نفذها عمر ( رضي الله عنه ) , فقد روى
البخاري عن عبد الله أن عمر والده ( رضي الله عنهما ) أجلى اليهود والنصارى
من أرض الحجاز , وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء و أريحاء .
سبب هذه الوصية النبوية معروف دلت الأحاديث الصحيحة , وهو أن الله
تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سيكون من مطاردة الأمم لأمته ,
وسلبهم إياها ما يخولها الله تعالى من الملك , ومحاولتهم القضاء على دينها بعد
القضاء على ملكها , فأراد أن يكون مهد الإسلام معقلاً لها تعتصم فيه , ولا تجعل
للأمم التي ستبغي عليها سبيلاً للتدخل في شؤونه , كما تفعل الآن دول الاستعمار
الكبرى , وفي مقدمتها حليفة البيت الحسيني بالحجاز بريطانية العظمى ؛ هذه الدولة
التي أرادت أن تجعل طائفة القبط وسيلة لحرمان مصر من الاستقلال , فلما خيبوا
أملها خلقت مسألة الأقليات بدون قيد , وكلفت نفسها بدون إذنهم أن تبقى محتلة
لمصر ؛ لأجل حمايتهم ؛ وهذه الدولة التي خلقت للعراق العربي شعبًا أشوريًّا ,
قضى عليه التاريخ منذ ألوف السنين , فقلدته السلاح وحملته على مطالبة جمعية
الأمم بتأسيس دولة جديدة له في العراق ؛ لأجل العداء والشقاق , والتذرع به لإبقاء
العراق تحت سلطانها إلى يوم التلاق , هذه الدولة التي ما زالت تكيد للدولة العثمانية ,
وتتوسل إلى إسقاطها بالأرمن والروم وغيرهم , إلى أن سقطت وزالت من
الأرض , فحاولت القضاء على شعبيها الإسلاميين الكبيرين - العرب والترك -
فحالت أحداث الزمان دون الإجهاز على الشعب التركي , ووجدت من حسين
المكي وأولاده أقوى نصير للقضاء على الشعب العربي , فلما سلط الله تعالى عليه
شعبًا شديد الاعتصام بالإسلام طرده من الحجاز في هذه الأيام ، قامت جرائدهم
تدعو بالويل والثبور ، وتنذر قومها الخطر الإسلامي العربي على ما سلبوا من بلاد
العرب أن ينفلت من أيديهم .
أيها المسلمون تأملوا الشواهد على صحة قولي هذا لعلكم تتفكرون : يروي
مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ, ويأرز
بين المسجدين كما تأرز الحية من جحرها ) وروى الترمذي من حديث عمرو بن
عوف مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الدين ليأرز إلى الحجاز
كما تأرز الحية إلى جحرها , وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروبة من رأس
الجبل[1] إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما
أفسد الناس بعدي من سنتي ) .
وملخص معنى هذه الأحاديث أن المسلمين سيطرأ عليهم الفساد بالبدع حتى
يكون الإسلام نفسه غريبًا فيهم ومحتاجًا إلى الإصلاح ؛ وأنهم سيضطهدون بدينهم
ولأجل دينهم , حتى لا يجدون ملجا يعتصمون فيه لإقامته إلا معقله الذي ظهر فيها
غريبًا وهو الحجاز , فيكون فيه عزيزًا قويًّا ؛ كعصم الوعول في شناخيب الجبال
ومن تمام التشبيه أن يستتبع ذلك ما استتبعه أولاً من الملك والعمران ( إن شاء الله ) .
أيها المسلمون : إلى متى أنتم غافلون , إن الدولة البريطانية ولية حسين بن
علي المكي وأولاده من دون الله والمسلمين , هي التي أخذت على نفسها القضاء
على دين الإسلام في الشرق بعد القضاء على حكمه , وقد سلكت أقرب الطرق إلى
ذلك وأقلها خسارة ونفقة , وهو جعل الشعوب الإسلامية أسلحة لها تضرب بعضها
ببعض , إلى أن يهلك الجميع وتكون السيادة لها وحدها على بلادهم وهي هي التي
قاتلت المصريين بإذن ولاة الأمر من السلطان والخديو ؛ وهي هي التي قاتلت
السودانيين بالمصريين , وهي هي التي قاتلت قبل ذلك بعض ملوك الشرق وأمرائه
ببعض , ولا سيما في الهند , كما سترون في المنار من مقال للسيد جمال الدين
الأفغاني [2] الذي كان أول من نبّه الشرق عامة والمسلمين خاصة لعداوتها ؛ وهي
هي التي قاتلت الترك بالعرب الذين خدعهم ملك الحجاز وأولاده , حتى سلبت منهم
أخصب بلادهم وقررت إعطاء البلاد المقدسة منها لليهود , وجعلهم شعبًا جديدًا قويًّا
بين مصر وسورية والحجاز , يستعينون به على أهلها من العرب في حرمانهم من
رقبة بلادهم وخيراتها ؛ وهي هي التي ألقت العداوة والبغضاء بين إمام اليمن
والسيد الإدريسي ؛ وهي هي التي أطمعت الطاغوت حسين بن علي بالخلافة
الإسلامية وملك العرب كلهم تحت حمايتها , وقد بينا بعض الوثائق الرسمية في
ذلك كله .
أيها المسلمون : إن العقل وحالة الاجتماع العامة وتقاليد السياسة الإنكليزية
الخارقة كلها تؤيد معنى ما ورد في الحديث , الذي صدقته وقائع التاريخ التي أشرنا
إليها آنفًا من أن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض .
روى مسلم من حديث ثوبان ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها [3] , وإن
أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها , وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض , وإني
سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة , وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى
أنفسهم يستبيح ببيضتهم [4] , وإن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاء ,
فإنه لا يرد , وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة , وأن لا أسلط عليهم
عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم , ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال
من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا ) .
وقد ظهر صدق هذا الحديث في الفتح الإسلامي للشرق والغرب , ثم في
ذهاب ملك المسلمين كما أشرنا إليه آنفًا في شأن بعض دول الشرق الإسلامي ,
ومثله دول الغرب القديمة والحديثة , فلولا تفرق أهل الأندلس وتعاديهم وتقاتلهم لما
زالت دولتهم وورثها الأسبانيون , ولولا مسلمو مراكش لما فتحت فرنسة الجزائر ,
ثم لولا مسلمو الجزائر لما استولت فرنسة على مملكة مراكش .
أيها المسلمون : لا يكن أمركم عليكم غمة في مسألة زحف النجديين ؛ لإنقاذ
الحجاز من صنيعة الأجانب حسين المكي وأولاده , قد بينا لكم بالوثائق الرسمية
حقيقة السبب الحامل للسلطان ابن سعود على ذلك , وأنه إسلامي محض ؛ لتأمين
فريضة الحج , ومنع الإلحاد والظلم في الحرم , وقطع عروق النفوذ الأجنبي في
مهد الإسلام , المانع من تنفيذ وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام .
وكذا منع حسين وأولاده مما صرح به رسميًّا من عزمه على إخضاع جميع
حكومات جزيرة العرب لحكمه قبل ادعائه الخلافة , فكيف يكون خطره بعد ادعائه
حق الولاية العامة عليهم شرعًا ؟
أرجف بعض الكتاب الذين يخدمون السياسة الإنكليزية من طريق الحجاز بأن
سلطان نجد يريد إكراه حسين بضغطه على توقيع المعاهدة العربية البريطانية ,
فمتى خضع عاد جيش نجد أدراجه , وردّدت جرائد أخرى هذا الإرجاف فظهر
كذبهم .
وأرجفوا بأن ابن سعود ينفذ للإنكليز في الحجاز ما لم ينفذه حسين , وأنهم هم
الذين أغروه بالاستيلاء على الحجاز , فظهر كذبهم أتم الظهور بما نشرته صحيفة
إرجافهم بمصر من برقيات لندن - أولاً - من خبر الاتفاق بين ابن سعود ونوري
باشا الشعلان رئيس قبائل الرولة على سماح الأول للثاني ببقعة الجوف بشرط منع
الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق - وثانيًا - ببرقية التيمس التي
أرسلها إليها مراسلها من الإسكندرية الناطقة بأن احتلال ابن السعود للحجاز
وموانئه الواقعة على البحر الأحمر مفعم بأخطار شديدة ! ! وأنه يحمل معظم
القبائل على الانضواء إلى كنفه , والسير تحت لوائه ؛ وأنه يرجح أن ينتقل من
إنقاذ الحجاز إلى إنقاذ شرق الأردن وفلسطين وكذا اليمن على احتمال .
ثم إن هذا الإنكليزي الغيور على الإسلام والعرب طعن في دين الوهابيين
ومذهبهم , ووصفهم بالتوحش وكراهة المدنية , وأظهر خوفه وحذره من إكراههم
لغيرهم على اتباع مذهبهم , وغيرته على المعاهد المقدسة ! ! , واستدل بهذا كله
على أنه يجب على الدولة البريطانية وهي أكبر دولة إسلامية ( ! ! ! ) أن تبادر
إلى رد الوهابيين عن الحجاز , قال : ( فتنقذ بذلك المعاهد المقدسة في الحجاز من
أن تمسها يد الوهابيين بالتدمير والتخريب - وليس ذلك فقط- بل تزيل أيضًا خطرًا
شديدًا يهدد البلاد العربية ، وتقضي على عامل يقلق السلم في جزيرة العرب ، فإذا
لم تزله زوالاً تامًا , فإنها تخفف من حدته كثيرًا ) .
المعنى الصريح المراد من هذا الكلام أن إنكلترة ترى من أعظم الخطر على
سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي , ولا
سيما إذا كان مسلمًا مؤمنًا , معتصمًا بدينه , مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود
وقومه ، لا يباع ولا يشترى بالذهب الإنكليزي , ولا بالألقاب الفخمة الضخمة
كحسين وأولاده ، لأن قوة مثل هذه تحول دون نجاح السياسة البريطانية في إزالة
الإسلام من الأرض , من حيث هو دين سيادة وسلطان ، ثم في إزالته من الأرض
من حيث هو دين عقيدة وإيمان ، ويستتبع ذلك احتمال إنقاذ ما استعبدته من الشعوب
الإسلامية والعربية .
ثم إن مراد كتاب الإنجليز وصنائعهم بمصر من نشر هذه الأراجيف
والتضليلات تمهيد السبيل لحمل المسلمين في مثل الهند ومصر وفلسطين وسورية
على استقباح استيلاء الوهابيين على الحجاز ، وتمني إخراجهم منه ؛ لتتوسل الدولة
البريطانية بذلك إلى بذل قوتها لإجلائهم عنه خدمة للإسلام والمسلمين ( ! ! ) ؛
لأنها شديدة الحب لهذا الدين والإيمان به , ومغرمة القلب بحب المسلمين كافة , كما
فعلت من قبل في احتلال أوطانهم حبًّا فيهم وتكريمًا لدينهم ( ! ! ) , وهل كان فتحها
الصليبي للقدس الشريف واحتفالهم بذلك في جميع كنائسهم إلا من آثار هذا العشق
والغرام ؟ وهل تمليكها رقبة فلسطين لليهود الصهيونيين , وتجديد ملك لهم في قلب
بلاد العرب إلا من عشق الإسلام والمسلمين كافة ، والعرب منهم خاصة ( ! ! ) .
يظهر أن مدير التيمس ومراسل التيمس بمصر وأمثالهما لا يزالون يظنون كما
يظن رجال الوزارة الخارجية البريطانية , أن المسلمين لا يزالون كالبله يصدقون
كما يقول الإنكليز بدليل أن بعض أهل فلسطين وسوريا والعراق لا يزالون يعظمون
حسينًا وفيصلاً وعبد الله مع ظهور خيانتهم للأمة العربية , وجنايتهم على الدين
الإسلامي .
والصواب الذي يجب أن يعرفه الإنكليز هو أن السواد الأعظم من المسلمين
صاروا على الرأي الذي سمعته من حسني أفندي أحد مشايخ الإسلام المتأخرين في
الآستانة وهو : أن كل ما تقول دول أوربة لنا إنه مفيد لكم فهو ضار بنا ، وكل ما
تقول لنا : إنه ضار بكم فهو نافع لنا ، فليرجع الساسة الإنكليز عن هذه الوسائل
السخيفة للتنكيل بالأمم الضعيفة ، مع ادعاء المقاصد الشريفة ، وليرجعوا عن
مطامعهم التي لا حد لها فإن ذلك خير لهم .
أيها المسلمون : حسبكم ما بينا لكم من الدلائل في هذه المقالات وغيرها على
مصاب الإسلام والعرب بهذا البيت الحجازي , ووجوب تطهير الحجاز من جناياته
على العرب والإسلام ، وقد سخر الله لحرمه من أنقذه بأهون الوسائل , فماذا يجب
عليكم الآن ؟ خذوا رأي أخيكم كاتب هذه المقالات الذي درس مسألة جزيرة العرب
وأمرائها , وسياسة الأجانب فيها بالعلم والعمل درسًا طويلاً عريضًا عميقًا في أكثر
من ربع قرن , وألخص ما يتعلق منه بموضوعنا في القضايا الآتية :
1- إن أعظم جناية يجنيها مسلم على الإسلام والمسلمين والعرب السعي
لإقرار سلطة علي بن حسين وإبقائه ملكًا على الحجاز , فقد سنحت الآن الفرصة
لأعظم إصلاح يمكن أن يقوم به المسلمون في مهد دينهم , فإذا أضاعوها يخشى أن
لا تعود .
قد تولى إمارة الحجاز كثيرون من هؤلاء الناس الذين يسمون شرفاء مكة في
بضعة قرون , فلم يخرج منهم مصلح في علم ولا عمل ولا ديانة ولا سياسة ولا
إدارة ، بل كان أكثرهم مفسدين ظالمين ، وأقلهم غير نافعين ولا ضارين ، والدليل
على ذلك سوء حالة الحجاز في جميع هذه القرون ، ورجوع بدوه إلى شر مما كانوا
عليه في الجاهلية ، وكون حضره أسوأ حالاً من جميع سكان المدن في البلاد
الشرقية .
وقد كان شرهم وأطمعهم وأشدهم إلحادًا وإفسادًا للدين والدنيا حسين بن علي
الذي لم يبلغنا أن أحدًا من الأمراء أبغضه أهل ملته وذموه مثله ، وهذا ولده قد سمي
ملكًا في أسوأ حال نصب فيها حاكم في أمة أو بلد ينهزم أمام الفاتحين من مكان إلى
مكان , ويستغيث بجميع أهل الملل والنحل من جميع الأمم ؛ لينقذوه من هؤلاء
الفاتحين ، ثم هو يقر حكومة والده الممقوتة برجالها كلهم , ويبدأ أعماله السياسية
بأمر وكيل والده في لندن , بعقد تلك المعاهدة التي بيّن فسادها كُتَّاب المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها .
2- إنه لم يكن يوجد في الدنيا شعب إسلامي غير النجديين يمكنه إنقاذ الحجاز
من الخطر الذي كان محيطًا به بعد احتلال الأجانب لفلسطين وسورية والعراق ,
واستيلائهم على سكة الحديد الحجازية من جانب العمران ، وقد كان هذا البلاء
المبين بمساعدة هذا البيت الحجازي . وها نحن أولاء نسمع ونقرأ ما يهدد الإنكليز
به الحجاز من عدم السماح لقوة إسلامية تؤسس فيه ؛ لئلا تكون خطرًا على ما
صاروا يعدونه ملكًَا لهم من بلاد العرب , التي يزعم حسين وأولاده أنهم أنقذوها
( فلسطين وشرق الأردن والعراق ) .
ولا يخفى عليكم أن مقتضى القاعدة السياسية الإنكليزية وجوب الاستيلاء التام
على الحجاز واحتلاله بالقوة العسكرية , إن لم تكن تحت الإشراف البريطاني ؛
لأجل الأمن على المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق .
3- اعلموا أنه لا توجد حكومة إسلامية غير حكومة نجد , تقدر الآن على
حفظ الأمن في الحجاز , ومنع التعدي على الحجاج ، ثم على إصلاح حال قبائل
الأعراب فيه , ومنعهم من الغزو لمجرد التعدي أو الكسب والنهب ، فيجب أن
يعضدها جميع العالم الإسلامي ، وسيرون صحة قولي في هذا كما رأوه في غيره
ولا سيما الإرجاف الأخير بالخوف على الكعبة المشرفة أن يهدمها الوهابيون , أو
يمزقوا أستارها ، وأمثال هذه الأكاذيب التي كان يذيعها الإنكليز ومروجو سياستهم
الحجازية في مصر وسورية , فقد دخلوا مكة كما دخلها أجدادهم في فجر القرن
العشرين معتمرين , فطافوا بالكعبة المعظمة , وقبّلوا الحجر وصلّوا سُنَّة الطواف ,
ثم الفريضة وآمنوا جميع الأهالي من كل اعتداء , فلم يعتدوا على أحد ، وسيلغون
جميع الضرائب والمغارم التي أرهق حسين بها الناس ، ولما علم ذلك عاد الذين
كانوا فارين من مكة إلى جدة من الطريق , ولا بد أن يكون جميع الذين فروا إلى
جدة قبل ذلك قد ندموا ؛ لتصديقهم الملك السابق والملك اللاحق , بأن الوهابية
سيمزقون أشلاءهم ، ويبقرون بطون نسائهم ، ويقطعون أعضاء أطفالهم على مرأى
منهم ، ثم ينهبون جميع ما يملكون …
4- إنه لا يليق بالإسلام ، ولا ببيت الله الحرام ، أن يكون في مكة وهي البلد
الأمين ، والمعبد الأعظم للمسلمين ، ملك قاهر مستعلٍ على الناس , يقتل ويسجن
ويعذب ويفرض الغرامات , ويعادي جيرانه ويقاتلهم ، بل يجب أن يكون فيها
حكومة يديرها مجلس شرعي مُنْتَخَبٌ من خيار علمائها وعلماء الشعوب الإسلامية
الأخرى , ويكون لهم رئيس يختارونه من أنفسهم في كل سنة , ولا يكون لأي فرد
من الأفراد أن يستبد بأي أمر في حرم الله برأيه .
5- يجب أن يكون الحجاز قطرًا على الحياد لا يُقَاتِل ولا يُقاتَل ولا يكون
لأحد من الأجانب غير المسلمين نفوذ فيه , ولا حق سُكْنى ولا ملك ولا حماية أحد
من الحجاج ولا من غيرهم . ولا يوجد مسلم يعرف دينه يرضى أن يكون بلد الله
الأمين تحت حماية حاكم غير مسلم , أو يجعل نفسه ذريعة لتدخله في شؤونه ،
وإهانته لحكومته الإسلامية , وإذا كان قد عهد من أجهل المسلمين التابعين لدول
غير إسلامية الصبر الجميل على ظلم أمراء مكة القبيح , ولم يستحلوا أن يشكوا
ذلك لحكوماتهم , فكيف يكون شأنهم إذا صارت حكومة الحجاز شرعية شورية لا
استبداد فيها ولا مجال للاستبداد .
6- يجب أن يكون الحجاز مهد العلم والصلاح والإصلاح , وقد أُلِّفَت في
القاهرة جمعية إسلامية عامة ؛ للسعي لما يجب من تأمينه وحياده السلمي باعتراف
جميع الدول , ومن الإصلاح فيه اسمها ( جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام )
وستعلن الدعوة إليها .
7- إن ما أشرنا إليه , ونقلنا بعضه في المقالة الرابعة من أقوال سلطان نجد
وبلاغي نجله , وما لدينا من الاطلاع الخاص , يعطينا اعتقادًا جازمًا بأن السلطان
عبد العزيز بن سعود يقبل بكل ارتياح , أو يدعو إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة
المكرمة يؤلف من خواص مسلمي الشعوب الإسلامية ؛ للبحث وتقرير النظام الذي
أشرنا إليه ، كما أنه سيرسل وفدًا من علماء نجد لحضور مؤتمر الخلافة الذي سيعقد
في مصر ، فهل كان أحد من المسلمين يطمع في شيء من هذا قبل إنقاذ هذا الرجل
العظيم للحجاز من قبضة الطاغوت ؟
***
المقالة السادسة[**]
ماذا يفعل الوهابيون بالحجرة النبوية وقبة الحرم الشريف

أكثر المثنون علينا من قراء هذه المقالات من العلماء والفضلاء قولاً وكتابة
على ما بينا لهم من الحقائق ، مؤيدة بالدلائل والوثائق ، كما كثر طلاب ( الهدية
السنية التحفة الوهابية النجدية ) حتى صارت تطلب من الأقطار البعيدة ، ووزعت
منها ألوف عديدة ، وكثر السائلون لنا عما يشتبه عليهم من هذه الرسالة ومن أقوال
الجرائد ، فأما من يلقوننا منهم فإننا نجيب كل سائل بقدر ما يتسع الوقت ، وأما
الذين يكتبون إلينا منهم فنعتذر لهم ، بأننا لا نجد وقت فراغ من أعمالنا
الضرورية نصرفه في الكتابة لهم , وإن كنا نعتقد أن الكتابة مفيدة لمن أراد أن
يستفيد .
ومن الأسئلة الكتابية سؤال أرسل إلينا من طريق جريدة الأهرام هو أجدرها
بأن لا يجاب عنه ، وإن كان مرسله مستعجلاً لا صبر له ، إذ هو يسأل عما يفعل
الوهابيون بالحجرة النبوية إذا هم فتحوا مكة والمدينة ، ويقيم عليهم الحجة إذا هم
فعلوا ما زعم أنهم يدينون الله تعالى به وإذا هم لم يفعلوا على سواء . فأنا لا يعنيني
أن أبحث في أمر المستقبل , وما عسى أن يفعل الوهابية فيه ، ولا يعنيني أن
يخطئ القوم في أمر فتقوم به عليهم الحجة , ومتى فعلوا شيئًا يعلم السائل وغيره
ذلك ، وهم على تشددهم في الدين غير معصومين ، فإن وقع منهم خطأ , فقد وقع
ممن هم خير منهم : كالصحابة الذين قتلوا جماعة أسلموا بأمرخالد بن الوليد رضي
الله عنه ؛ لأنه لم يثق بإسلامهم , فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم قال :
( اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد ، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ) رواه البخاري
وغيره .
ولكنني وجدت باعثًا دينيًّا دعاني للإجابة عن هذا السؤال الذي هو غير جدير
بالإجابة عنه لذاته ، وهو أن أبين للجماهير من الناس الذين لم يطّلعوا على كتب
السنة أصح ما ورد في هذا الباب ، مع فوائد أخرى تتعلق بما في السؤال من
الاحتجاج ، اقتداء بما ورد في آخر كتاب العلم من صحيح البخاري في ( باب من
أجاب السائل بأكثر مما سأله ) .
وهذا نص السؤال :
السلام عليكم ، وبعد : أرأيتَك يا أستاذ , لو تم للإخوان الوهابيين فتح مكة
والمدينة ؛ أيهدمون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أعني يحطمون ما حوله من
بناء وما فوقه من قباب ، إذ أنهم يدينون بتحريم ذلك ، ويعتقدون أنها بدع يجب
استئصالها … ؟
وهل لا يغضب العالم الإسلامي لمثل ما يأتون إذا حصل … ؟ وإذا راعى
الإخوان في ذلك شعور العالم الإسلامي , وتحاشوا تلك الأعمال عند هذا المقام ، فما
معنى تلك الأسطر الكثيرة التي خطوها في هذا الباب ؟ أو هل كان النص تنقطع
سلسلة اتباعه هنا ، فهو مقصور على قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم … ؟
عجِّل يا سيدي بإجابتي , وتقبل جميل احتراماتي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إبراهيم خليل
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببولاق
جواب السؤال :
( 1 ) الذي نظنه أن الوهابيين لا يهدمون الحجرة التي فيها القبر الشريف ,
وما قاله السائل من أنهم يدينون الله تعالى بتحريم ذلك البناء , ويعتقدون أنها بدع
يجب استئصالها ؛ فيه نظر فإن البدع المخالفة لصريح السنة هي اتخاذ القبور
مساجد , بأن يدفن الميت في المسجد أو يبنى المسجد على القبر … كما يعلم مما
يأتي , وقبر النبي صلى الله عليه وسلم منفصل من المسجد في بناء وحده كان بيت
زوجه عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها , فالذي يصلي في المسجد لا يعد
مصليًّا إلى القبر ، وإذا كان بعض الناس يدخل الحجرة الشريفة فيصلي إلى القبر
يسهل منعه .
وقد استولى القوم على الحرمين الشريفين في فجر القرن الثالث عشر الهجري
( الموافق لأول القرن التاسع عشر الميلادي ) , ولم يهدموا الحجرة الشريفة ، ولكن
روى بعض المؤرخين أنهم أزالوا من فوق قبة الحرم النبوي الشريف ما كان من
شكل الهلال والكرة المذهبين ، وأنه كان من مرادهم هدم القبة , ولكن سقط اثنان
من الفعلة الذين صعدوها لإزالة الكرة والهلال الذهبيين فماتا فامتنعوا من هدم القبة
لذلك ، والمعلوم قطعًا أنهم لم يهدموا قبة الحرم , ولم يحدثوا اعتداءً ولا تغييرًا في
القبر الشريف ، وربما كان نزع الكرة والهلال لاعتقادهم أنهما من الذهب , فرأوا
أن الانتفاع بهما في خدمة الدين التي يعتقدون القيام بها أولى من وضعها فوق القبة ,
على أن هذا الزخرف في بناء المساجد ليس من الدين في شيء , بل هو من
البدع التي تفاخر بها الملوك , فأنكرها عليهم بعض العلماء وسكت عنها بعضهم
خوفًا منهم ، أو لأنهم عدوا الكثير منها من البدع الدنيوية التي لا تمس العقائد ولا
العبادات , ثم ابتدع هؤلاء الملوك بناء المساجد على قبورهم , فكانوا يوصون بذلك
فينفذه أخلافهم , وهو محرم بالنصوص الصحيحة الصريحة , فأنكره قليل من
العلماء الربانيين ، وسكت عنه الآخرون خوفًا من شرهم ، أو طمعًا في برهم ، كما
يعلم من الشواهد التي نزيدها على جواب السائل الفاضل .
( 2 ) إن العالم الإسلامي يغضب أشد الغضب إن هدموا القبة الخضراء أو
شيئًا من جدران الحجرة الشريفة ؛ لأن هذه المظاهر الفخمة والزخارف الجميلة تعد
في عرف جميع العوام وكثير ممن يسمون الخواص من قبيل شعائر الإسلام ،
والمشعر الحرام ، بل هي عندهم أفضل من الركن والمقام ، وأهم من الصلاة
والصيام ، ومنهم من يذهب إلى الحجاز ؛ لأجل الزيارة , ولا يخشع إلا لرؤية هذه
المباني الفخمة , فإذا كان في إزالة شيء منها مصلحة من بعض الوجوه كالرجوع
في الأمور الدينية وما يتعلق بها إلى مثل ما كانت عليه في عصر السلف , والتمييز
بين ما هو مطلوب شرعًا وما هو محذور أو غير مطلوب ؛ فإن فيه مفسدة أكبر
والحال في أكثر البلاد الإسلامية على ما ذكرنا , حتى صح فيها ما تنوه به خطباء
المنابر من تحول المعروف منكرًا والمنكر معروفًا , ودرء المفاسد مقام على جلب
المصالح بشرطه المعروف عند العلماء .
( 3 ) إذا راعى الإخوان شعور العالم الإسلامي في ترك بعض المنكرات
المتفق على حظرها على حالها درءًا للمفسدة ، واتقاء لتنفير الكثيرين عن الإصلاح
المقصود من إنقاذ البلاد المقدسة ، يكون عملهم هذا موافقًا للشرع ، وقد علمنا مما
دار في مؤتمر الشورى في عاصمة نجد , أن العلماء أفتوا السلطان بجواز تأخير
أداء فريضة الحج في الموسم الأخير إذا كان يترتب على أدائه مفسدة راجحة ,
ووجود الحجرة النبوية نفسها ليس من المنكرات , بل من المعروف المتواتر خبره
في كتب السنة كالمسجد النبوي , وإنما تغير شكل البناء ، وأمره هين لا يذكر مع
تركهم للحج خوفًا من المفسدة .
ومن دلائل السنة على هذه المراعاة بهذا القصد ما ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة - رضي الله عنها - ( أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان كارهًا لما عليه بناء قريش للكعبة مقتصرة من جهة الشمال عن قواعد جده
إبراهيم ( عليهما وآلهما الصلاة والسلام ) ومن جعل بابها مرتفعًا ؛ ليدخلوا من
شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يود لو نقضها فأعاد
بناءها على أساس إبراهيم , وجعل لها بابين لاصقين بالأرض ؛ ليدخل كل من أراد
من باب ويخرج من الآخر , وما منعه من ذلك إلا حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية
كما صرح به لعائشة ) والحديث في ذلك مكرر في الصحيحين وغيرهما ، فإذا كان
المعصوم صلى الله عليه وسلم خاف أن تنكر قلوب حديثي العهد بالشرك من
المؤمنين هدمه للكعبة وبناءها على أتم وأفضل مما بناها عليه المشركون , فمراعاة
الإخوان مثل ذلك يعد عملاً شرعيًّا .
الزيادة على الجواب :
إذا أراد السائل وأمثاله نصًّا عن الأئمة المجتهدين في هذه المباني الفخمة
والزينة في الحرم النبوي الشريف فليراجع ما قاله العلامة الشاطبي في كتابه
الاعتصام : في بحث الشروط التي تشترط لعد البدع من المعاصي الصغائر كبائر ,
حتى إذا ما بلغ الشرط الثالث وهو ( أن لا تفعل البدعة في المواضع التي هي
مجتمعات الناس , والمواضع التي تقام فيها السنن , وتظهر فيها أعلام الشريعة )
يجد من الدلائل على هذا الشرط ما نصه :
( قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي
الصف , فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم , ورمقوا مالكًا ( هو الإمام مالك ابن
أنس ) , وكان قد صلى خلف الإمام , فلما سلم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه
نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه , فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي
( أي قيل لمالك : إن هذا الذي حبس هو عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور , وهو
من أقران مالك في الحديث ) فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت
ثوبك بين يديك في الصف , وشغلت المصلين بالنظر إليه , وأحدثت في مسجدنا
شيئًا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في مسجدنا
حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) , فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه
أن لا يفعل ذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره , وفي رواية أن
عبد الرحمن بن مهدي اعتذر بأنه ثقل عليه رداؤه من شدة الحر , فوضعه ولم يقصد
مخالفة من مضى . أي في عدم إحداث شيء جديد في مسجده صلى الله عليه وسلم .
فإذا كان إمام دار الهجرة يرى أن من مخالفة الحديث الشريف الذي رواه هو
ومن بعده من أصحاب الصحاح والسنن أن يضع المصلي رداءه أمامه ؛ لأن هذا لم
يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ، وكل ما لم يكن في عهده يصدق عليه أنه
إحداث وابتداع فيه يستحق صاحبه تلك اللعنة الشاملة المحيطة , فما القول عنده في
سائر الأحداث ؟
والإمام مالك مُتَّفَقٌ على جلالته واجتهاده , ويلقبه بعض المحدثين حتى من
غير المالكية بالإمام الأعظم ، ولكنه لو خرج اليوم من قبره ، وأراد أن يجعل
المسجد النبوي كما كان في عصره لرجمه جماهير المسلمين بالحجارة وفي مقدمتهم
أتباع مذهبه من المغاربة والسودانيين والمصريين .
نكتفي بهذا القدر من الزيادة الآن , وسنذكر في المقال المتمم لهذه الفتوى
بعض الأحاديث المحتج بها في أحكام القبور والمساجد , وأقوال بعض كبار الفقهاء
من غير الحنابلة ؛ لأن هذه فرصة تنبهت فيها الأذهان للتمييز بين السنن والبدع .
***
المقالة السابعة [***]
القبور ومساجدها وقبابها

قد عم الجهل بالإسلام , حتى صار ألوف الألوف من المسلمين جنسية لا
هداية , يعدون بعض الحق من عقائده وآدابه وأحكامه باطلاً ، والباطل من البدع
المحدثة فيه حقًّا ، وسبب هذا إهمال التعليم الديني والإرشاد الإسلامي ، وترك
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فانقلب الأمر وانعكس الوضع ، فصار
الكثيرون يعدون كثيرًا من المعروف منكرًا ومن المنكر معروفًا , حتى في الأمور
المتعلقة بصحة الإيمان .
ولما فشت البدع ورسخت , صارت مألوفة , وعز على المشتغلين بالعلم أن
يطبقوا على أصحابها أحكام الشرع في أحكام : الردة , والخروج من الإسلام ,
وأحكام رد الشهادة , ثم صار بعضهم يتأول لهم , ولو بالتمحل البعيد عن النقل
والعقل .
لهذا اضطرب الناس في الإصلاح والتجديد للدين الذي قام به الشيخ محمد عبد
الوهاب الحنبلي السلفي في نجد وأولاده وأحفاده وتلاميذهم بتأييد أمراء نجد ؛ سعود
وآل سعود ؛ لأنهم أقاموا أحكام الإسلام بالعلم والعمل , والتأييد بالحكم النافذ ؛ فرأى
أمراء الحجاز المفسدون مجالاً واسعًا لاتهامهم بتكفير المسلمين واستباحة دمائهم ؛
ووافقتهم الدولة العثمانية يومئذ على ذلك ؛ لإماتة ذلك الإصلاح لئلا يفضي إلى
تأسيس دولة عربية قوية في بلاد العرب ، مع أن الدولة كانت تعد فرق الباطنية ؛
كالنصيرية والإسماعيلية , والدروز مسلمين , إذ كانت أبعد الحكومات الإسلامية عن
التكفير وعن مقاومة البدع ، إلا أن يكون لأجل السياسة كقتالها للإيرانيين ، وكل من
هذا وذاك دوران مع السياسة يدل عليه أن الشعب التركي يثني على الوهابيين اليوم
وتتمنى جرائده لهم الفوز بالاستيلاء على الحجاز ؛ لأن الحجاز قد خرج من دائرة
دولتهم , وكان المتغلب عليه عدوًّا لهم .
أشهر ما اشتهر من إصلاح الوهابيين الذي سماه الجاهلون بدعة أو مذهبًا
جديدًا أو دينًا محدثًا منع البدع والمعاصي المتعلقة بقبور الأنبياء والأولياء وأهل
البيت , وإننا ننشر للجمهور الآن بعض ما ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ,
وأقوال بعض الفقهاء المشهورين من المجتهدين والمنتمين إلى المذاهب المشهورة ؛
ليميزوا به الحق من الباطل والهدى من الضلال .
جاء في كتاب الزواجر للفقيه الشهير أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي المولود
بمصر سنة 909 والمتوفى بمكة سنة 973 - ما نصه :
الكبيرة 93-98
اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها , واتخاذها أوثانًا والطواف بها
واستسلامها , والصلاة إليها .
أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال :
عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ليالٍ فسمعته يقول : ( إنه لم يكن نبي إلا وله خليل
من أمته , وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة ، وأن الله اتخذ صاحبكم خليلاً ، ألا
وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد , وإني أنهاكم عن ذلك ، اللهم
إني بلغت ) ثلاث مرات ، ثم قال : ( اللهم اشهد ) ثلاث مرات ، الحديث .
والطبراني ( لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر ) [5] وأحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما ( لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )
ومسلم ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن
ذلك ) وأحمد ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون
القبور مساجد ) , وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم ( الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمَّام ) والشيخان وأبو داود ( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد ) , وأحمد عن أسامة وأحمد والشيخان والنسائي عن عائشة وابن
عباس ومسلم عن أبي هريرة [6] بمعناه وأحمد والشيخان والنسائي ( أولئك إذا كان
فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا , وصوروا فيه تلك الصور أولئك
شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) , وابن حبان عن أنس : ( نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة إلى القبور ) , وأحمد والطبراني : ( إن من شرار الناس من
تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد ) , وابن سعد ( ألا إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد , فلا تتخذوا القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك ) , وعبد الرازق ( إن من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد ) ،
وأيضًا ( كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى ) [7] , ثم
قال المصنف بعد سرد هذه الأحاديث :
( تنبيه ) :
عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية , وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث , ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح ؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه , وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة ، ففيه تحذير لنا كما في رواية : ( يحذر ما صنعوا ) أي يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بقوله
لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا واتخاذ القبر مسجدًا معناه
الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله : ( والصلاة إليها ) مكرر ، إلا أن يراد باتخاذها
مساجد الصلاة عليها فقط [8] .
( نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قَبْرَ مُعَظَّم من نبي أو ولي كما
أشارت إليه رواية ( إن كان فيهم الرجل الصالح ) ومن ثَمَّ قال أصحابنا : تحرم
الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا , فاشترطوا شيئين : أن يكون
قبر معظم , وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام , وكون
هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت ، وكأنه قاس على ذلك كل
تعظيم للقبر ؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به - والطواف به كذلك - وهو
أخذ غير بعيد , سيّما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على
القبر سرجًا , فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا
وتبركًا بذي القبر ) .
وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تتخذوا
قبري وثنًا يعبد بعدي ) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه[9] ,
فإن أراد ذلك الإمام بقوله : واتخاذها أوثانًا - هذا المعنى اتجه ما قاله من أن
ذلك كبيرة بل كفر بشرطه ، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة
ففيه بعد , نعم قال بعض الحنابلة : قصد الصلاة عند القبر متبركًا به غير المحادة
لله ورسوله , وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها , ثم إجماعًا فإن أعظم
المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها , واتخاذها مساجدًا أو بناؤها عليها ,
والقول بالكراهة محمول على غير ذلك , إذ لا يُظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فاعله .
وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد
الضرار ؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم , لأنه نهى عن
ذلك , وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة , وتجب إزالة كل قنديل أو
سراج على قبر , ولا يصح وقفه ونذره ، انتهى ( راجع صفحة 161 - 163 من
الزواجر المطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 ) .
وقد أشار بقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم القبور المشرفة إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال : ( قال لي
علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته ) , قال الإمام النووي في شرحه لهذا
الحديث : قال الشافعي في الأم : ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى , ويؤيد
الهدم قوله : ( ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته ) اهـ .
فهل كان ابن حجر والنووي قبله والإمام الشافعي قبلهما من الوهابية ؟ وهل
كان أئمة المسلمين بمكة في عصر الشافعي أعلم وأهدى , أم طاغوت الحجاز في
عصرنا حسين الذي أمطر الخافقين برقيات في الطعن على الوهابية بهدم قبر ابن
عباس ( رضي الله عنهما ) ؟
إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه - حين أرسله إلى
اليمن بطمس التماثيل , وهدم القبور المشرفة , وتسويتها بالأرض ؛ ثم أمر علي
عامله أبا الهياج الأسدي بذلك , وعمل أئمة المسلمين بذلك في خير القرون كان لسد
ذريعة تعظيم القبور تعظيمًا دينيًّا إذ هو من أعمال الشرك ، فهل ننكر هدمها وهدم
القباب والمساجد التي عليها بعد ما وقع المحذور , وارتكب المحظور ؟
حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان
أعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأى رجلاً في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي
مستقبلاً القبر مستدبرًا القبلة فظن أنه أعمى قد أخطأ القبلة , فأخبره بذلك وجاء
ليحوله إلى القبلة , فرآه بصير العينين , وأبى أن يتحول معه , فعلم أنه متعمد فقال
لبعض الخدم : أخرجوا هذا المشرك من المسجد .
فالأمر المشاهد الذي لا شك فيه أن هذه القبور المعظمة تعظيمًا دينيًّا لم يأذن
به الله قد كانت سببًا لمنكرات كثيرة أخرى منها هو شرك صريح لا يحتمل
التأويل , ومنها ما يحتمله احتمالاً قريبًا أو بعيدًا ، ولكن لا يجوز أن يجعل الاحتمال
مسوغًا للسكوت عنه وإقرار أهله عليه , وإنما قد يجوز ذلك في درء الكفر عن
شخص معين ؛ ومنها ما هو معصية كبيرة , ومنها ما هو صغيرة وكلاهما كثير جدًّا
لا خلاف بين المسلمين فيه , ولا في أن استحلال المُجْمَع عليه المعلومِ من الدين
بالضرورة كفر وخروج من الملة , وقد فصّل العلماء الناصحون ذلك في كتب كثيرة
أشهر المطبوع منها كتاب المدخل للعلامة ابن الحاج المالكي الفاسي المتوفي في
مصر سنة 737 , ومما ذكره أن العلماء أفتوا بهدم بنيان البيوت التي على القبور
( الأحواش ) , كما في الصفحة 274 من الجزء الأول , وفصّل المفاسد الموجِبَة لذلك .
وقال الإمام الشوكاني المجتهد في شرح حديث أبي الهياج الأسدي من كتابه
( نيل الأوطار ) ما نصه : ( ومِن رَفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا
القبب والمشاهد المعمورة على القبور , وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد , وقد
لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي , وكم قد سرى عن تشييد أبنية
القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام ، ( منها ) : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام ، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ورفع الضرر ،
فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج ، وملجأً لنجح المطالب ، وسألوا منها ما يسأله
العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحال ، وتمسحوا بها واستغاثوا ، وبالجملة فإنهم لم
يدعو شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
( ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله , ويغار حمية
للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا , وقد توارد إلينا من
الأخبار , ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه
يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرًا , فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك
ومعتقدك الولي الفلاني , تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق , وهذا من أبين الأدلة
الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثلاثة .
( فيا علماء الدين ، ويا ملوك المسلمين ، أي رزء للإسلام أشد من الكفر ؟
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله تعالى ؟ وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا البين
واجبًا ؟ اهـ المراد منه ( ص234 ج3 من نيل الأوطار المطبوع بالمطبعة
الأميرية بمصر ) .
وللإمام الشوكاني هذا رسالة خاصة في هذا الموضوع , نشرت في المجلد
الثاني والعشرين من المنار ، وللعلامة المحدث محمد بن إسماعيل الوزير رسالة في
معناها اسمها ( تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ) نشرت في المجلد الثالث
والعشرين منه - وقد طبعتا على حدة - وقد ذكر الأخير شبهة بعض الناس في قبة
المسجد النبوي الشريف , بعد أن بين أن مبتدعي بناء القباب والمساجد على القبور
هم ملوك الأعاجم الجاهلون فقال :
( فإن قلت : هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُمِّرت عليه قبة
عظيمة , أُنْفِقَتْ فيها الأموال ( قلت ) : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال ، فإن هذه
القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع
التابعين ، ولا من علماء أمته وأئمة ملته ، بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر
المتأخرين , وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 , ذكره
في ( تحقيق النصرة ، بتلخيص معالم دار الهجرة ) فهذه أمور دولية لا دليلية , يتبع
فيها الآخر الأول ) اهـ .
فقد علم القراء بهذا النقول أن الوهابية لم يبتدعوا في هذا الأمر , بل اتبعوا
الأدلة وأقوال الأئمة من المحدثين والفقهاء المنتمين إلى المذاهب المشهورة , لا
مذهبهم الحنبلي فقط بعد ترك الجماهير لها { وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } ( الأحزاب : 4 ) .
وإننا ندعو بالخير لمن سأل فكان سبب هذا البيان ، وقد بلغنا ما علمنا به أننا
أخطأنا في فهمنا أنه أراد به الاحتجاج ، والنية حسنة ولله الحمد في كل حال .
__________
(*) نشرت في الأهرام بتاريخ 19 ربيع الأول 18 أكتوبر .
(1) أرز : كعلم وضرب ونصر : تجمع وانكمش وعاد وثبت ، والأُروِيّة بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول ؛ وهي تعتصم في أعلى الجبال .
(2) نشر هذا المقال في ج 7و8 وكان الوعد في الأهرام قبل صدورهما .
(3) زوى الشيء يزويه جمعه وقبضه والمراد : أنه تعالى أطلعه عليها .
(4) يكنى بالبيضة عن موضع سلطة القوم , وملكهم ومستقر قوتهم وما يحمون من حقيقتهم .
(**) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 ربيع الأول 25 أكتوبر .
(***) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29ربيع الأول 28أكتوبر .
(5) كل ما وضع بين هذه العلامة ( ) فهو حديث نبوي شريف .
(6) وفيه زيادة (والنصارى) وكان ذكر له صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبسة فيها صور الخ .
(7) هذه الجملة من كلام عائشة قالتها بعد رواية لعنه صلى الله عليه وسلم لمن اتخذوا القبور مساجد تعليلاً للَّعن .
(8) المتبادر بقرينة ما فعل أهل الكتاب أن منه بناء المساجد عليها , وجعلها منسوبة إليها كما وضحه صلى الله عليه وسلم بقوله : (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح) إلخ .
(9) أي كالطواف به , كما صرح به المؤلف آنفًا , ومثله التمسح به أو بقفصه للتبرك أو الاستشفاء .
(25/673)
 
عودة
أعلى