من كلام رشيد رضا في مجلة المنار

الكاتب : محمد رشيد رضا

رجب - 1343هـ
فبراير - 1925م

الإغراء بين النصارى والمسلمين

أُرسل إلينا من بيروت كتاب جديد ألفّه أحد نصارى اللبنانيين ؛ لأجل تأريث
العداوة والبغضاء بين أهل وطنه , إذ جمع فيه من كتب التاريخ ما عثر عليه مما
ينقمه النصارى من حكومات المسلمين من قول وفعل ، ومن المُسَلّمات التي لا
يختلف فيها اثنان أن في كل أمة وكل حكومة عادلين وظالمين ، وإن الظالم قد يظلم
القريب والموافق ، كما يظلم البعيد والمخالف ، وأن من الناس من لا يرضى من
مخالفه في الدين والسياسة بالحق ولا بالعدل ، وأن من أخبار التاريخ الصادق
والكاذب ؛ فعلى هذا يسهل على كل مُطَّلع على التاريخ المشترك بين الأمم والملل
أن يجمع منه ما ينكره بعضهم على بعض ، ولكن هذا لا يكون إلا بنية سيئة .
أرسل إلينا هذا الكتاب لنرد عليه , والرد عليه سهل , ولكن ما فائدته ؟ إن
أريد بها بيان أن ما قد يصح من تلك المطاعن شخصي ليس الباعث عليه أحكام
الإسلام ؛ فهذا أمر يعرفه من يقرأ المنار من النصارى القليلين كما يعرفه المسلمون
لما شرحناه مرارًا من عدل الإسلام العام ، والجمهور منهم لا يقرؤونه . وإن أريد
تلقين المسلم الحجج للرد على من يكلمه في ذلك , ففي المنار حجج كثيرة على عدل
الإسلام وتفضيله على جميع الملل والقوانين من الكتاب والسنة والتاريخ وشهادة
المنصفين من مؤرخي الإفرنج أنفسهم كقول فيلسوف فرنسة الاجتماعي ومؤرخها
المنصف الدكتور غوستاف لوبون : ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من
العرب ؛ يعني الذين أقاموا الإسلام ونشروه في العالم , وإن شاءوا المقارنة بين ما
كتبه هذا اللبناني عن المسلمين وبين ظلم دول النصارى للمسلمين ولليهود أيضًا
فهذه نبذة منه :
اضطهاد أسبانية لمسلمي الأندلس ويهودها :
جاء في ملخص تاريخ الأندلس الذي جعله الأمير شكيب أرسلان ذيلاً لرواية
( آخر بني سراج ) ما نصه مترجمًا عن التواريخ الإفرنجية :
كانت دولتا قشتالة و أراغون تتسابقان في تعذيب المدجنين الذين ذكرنا أنهم
المسلمون الخاضعون لحكومة الأسبانيول وملوك الدولتين يتبارون في الانتقام منهم
والنكال بهم استزادة للمثوبة واستعلاء في درجات الآخرة ، حسبما كانت عليه حالة
ذلك العصر من التحمس الديني والتأخر المدني .
ففي قشتالة كان هنري أخو بطره قد جعل للمدجنين والإسرائيليين علامة فارقة
اسمها ( المشيرة ) , وأمر بمنع اختلاطهم وأخذهم وعطائهم مع الأسبانيول , وأن لا
يقبل أحد منهم في خدمة الدولة .
وفي أيام جان الأول ملك قشتالة صدرت الأوامر بأن كل مسيحي يربي في
بيته مدجنًا ( مسلمًا ) أو إسرائيليًّا فله الحق كل الحق أن يؤدبه بالسياط , وأنه لا
يجوز لمدجن ولا ليهودي أن يستخدم عنده مسيحيًّا ، وأن من خالف ذلك يضرب ,
وتضبط أملاكه ، كما أنه لا يجوز دخول مسلم ولا يهودي بيت أحد من الأسبانيول
إلا إذا كان طبيبًا , وثبت لزومه , ومن خالف ذلك يغرم بدفع ستة آلاف مراويد
( نوع من السكة ) .
وسنة 811 هجرية جدد جان الثاني أمر سلفه في رفض المدجنين واليهود في
خدمة الدولة , وضم إليه أن جزاء المخالفة دفع ثلاثة آلاف مراويد ، وأن كل من
يسافر من المسلمين أو اليهود مع أحد الاسبانيول أو يؤاكله أو يستخدمه في عمل له
يجلد مائة ، وإذا تكرر الفعل يؤخذ منه ألف مراويد , ويكون ثلثاها للمخبر ، وإذا
وُجِدَ أحد من هؤلاء في وليمة أسبانيولي يغرم بدفع ثلاثة آلاف وإن عاد صاحبًا له
من الإسبانيول أثناء مرض يدفع ثلثمائة , وإن عاملهم بأخذ أو عطاء يدفع الثلاثمائة
ويضرب ويعزر .
وكانت في بادئ الأمر محاكم مخصوصة بالمدجنين فألغيت في التالي وأحيلت
دعاويهم إلى محاكم الأسبانيول , وصدرت الأوامر أيضًا بأن كل من يخرج مدجنًا
من مزارعه , ويستخدم لحرثه مدجنًا بدلاً عنه يغرم بخمسة آلاف مراويد , وإن
تكرر فعله فبمائة ألف , وإن تكرر أيضًا تضع الدولة يدها على جميع عقاراته ,
وإذا فر مدجن إلى غرناطة , ووقع أثناء فراره في يد الاسبانيول عُدَّ أسيرَ حرب
وضبطت جميع أمواله , وصار ملكًا لمن يمسكه .
وسنة 826 أضيف إلى هذا الشرط أن من منع من المدجنين ابنه من التنصر
عذب شديدًا , ومن أسر من مسلمي غرناطة أحدًا كان له ملكًا خالصًا .
وسنة 830 صدرت الأوامر بعدم اعتبار إمضاء الأسبانيول فيما عليهم
للمدجنين واليهود , وباعتبار إمضاء هؤلاء فيما عليهم للأسبانيول .
وسنة 833 صدرت الأوامر أن المسلم أو الإسرائيلي المُدَّعى عليه بِدَيْنٍ لأحد
الأسبانيول إذا أنكره لا يقبل منه اليمين , ولكن حيث كان بعض المدجنين واليهود
يضمنون الأراضي الأميرية , ففي هذه الحالة يقبل منهم اليمين عند الإنكار لعدم
إلحاق الضرر بخزينة الدولة .
وسنة 880 صدّقت الملكة إيزابلا جميع عهود جان الصغير , وأضافت عليها
حظر لباس الحرير وحلية الذهب والفضة على المسلمين واليهود ( عاملت المسلمين
في ذلك بحكم شريعتهم لكن في الرجال فقط ) , ووضعت لهم علامات فارقة في
الملبس من جملتها رقعة زرقاء عرضها أربع أصابع ؛ لتمييز المسلمات
والإسرائيليات .
وما كفى كل هذا حتى نشرت حكومة قشتالة أمرًا لجميع عمال النواحي بأنه
بلغ الملكة وقوع إهمال في إنفاذ بعض الشروط بتمامها في حق المدجنين واليهود
وأنه إن حصل فيما بعد أقل تقاعس من أحد في تنفيذها بحرفها يعزل من منصبه
ويحرم معاشه .
وأما في مملكة أراغون فكان بطره الثالث قد أعلن في نحو سنة 68 هجرية
أن كل شخص مسيحيًّا كان أو مسلمًا أو إسرائيليًّا يمكنه استيطان مملكته والإقامة بها
حيث شاء , لكن يُنفى المسلمون واليهود من الخدمة العسكرية والمالية في الحكومة ,
ويحظر عليهم أن يدينوا الأسبانيول مالاً بأكثر من فائدة عشرين في المائة , وأن
دعاويهم تنظر عند الحكام , ويقبل فيها اليمين , على أنه إن كان لمسلم أو يهودي
دَيْن عند أحد الأسبانيول بدون سند أو بينة خطية فيقبل قوله من تاريخ الدين إلى
خمسة عشر يومًا , ومن ثمة لا يعود مقبولاً , والسند الذي للمسلم والإسرائيلي على
الاسبانيولي إن لم يسجل عند حكام الأسبانيول فبعد مضي ست سنواتٍ يسقط
اعتباره ويلغى كل حكم له .
وسنة 770 أصدر الدون جان أمرًا بأنَّ من تنصّر من أبناء المدجنين , ومات
أبوه فله نصيبه من الإرث كما لو بقي مسلمًا .
وسنة 780 صدرت الأوامر بأن كل مدجن يفر إلى أرض غرناطة , ويقع في
اليد يعتبر أسير حرب , وتضبط أملاكه , وتقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول للملك
والثاني لمن يكون قد قبض عليه , والثالث مناصفة بين صاحب الأرض التي أبق
منها وصاحب الأرض التي تهيأ وقوعه فيها .
ثم منع المدجنون من الجهر بالشهادتين ( تأملوا ) واستعمال النفير لما فيه من
تحريك الجامعة وجُوزِيَ من يجاهر بشيء من ذلك بالقتل ( تأملوا ) .
وسنة 890 أصدر الملك فرديناند صاحب أراغون أمرًا بمنع المدجنين من
الخروج من مملكته , وإنه إذا استصحب أحد الأسبانيول أحدًا منهم في خدمته
لضرورة قضت فيؤذن بشرط أن لا يكون مع المدجن ولد دون الأربع عشرة من
عمره , ذلك خوفًا من الفرار إلى بلاد الإسلام ؛ إلى غير ذلك من آيات العدل ( ! )
التي تواترت في كتب الإفرنج , فلخصنا منها ما قرأت لا عجب فلولا هذه الغرائب ,
ولولا الإمعان في الظلم إلى هذه الدرجة لما تأخرت أسبانية إلى الحد الذي وصلت
إليه , بعد أن كان لها من مركزها في أوروبا وافتتاح أميركا على يدها , وانبساط
أيديها في مستعمرات الخافقين ما يضمن لها المقام الأول بين الدول اهـ .
(25/709)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
أبريل - 1925م ، رمضان - 1343هـ
الدين والسياسة
وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم

قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة , وفي
أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار ، فقراء المنار يعلمون أن المدارس
الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة
النصرانية، و ( علمانية ) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية
للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت
للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها ، يقل فيها
من يعرف دينه معرفة صحيحة ، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على
بصيرة ، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم
العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته ؛ لأن أكثرهم لم يحصل من
العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا , وإنما تلقوا
قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم
لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك ، ولا سيما فيما يسمونه
الفصل بين الدين والسياسة ، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره
وأتون ناره .
ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها
أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة ، ومشخصاتها التي تعد
مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة
وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها
التاريخ , فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة
العليا في التهذيب ، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة ، وفتوحات
شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها
بين العدل والرحمة إلخ .
ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر
لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها ، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي
أشرنا إليها ، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها .
صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد
سالسبوري الوزير البريطاني المشهور : إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على
تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها ( أو ما هذا معناه ) , ولم يذكر اللورد
بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة
الأفكار المادية , وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها , فيحول
ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج .
وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد
هدموا تلك السلطنة ( الإمبراطورية ) الراسخة الأساس ، الواسعة المقياس ، وانتهى
أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية ، وهم الآن يقاتلون فيها
الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة ، ونرى الشقاق
بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد
الإسلامية من الشعب التركي نفسه , فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني
بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية ، ونرى من مصداق
ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام ،
ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام .
من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام
اجتماعي ، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل ، فإن كان من مثار العجب
أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته , بعد أن كان لهم به
من العزة والسلطان ما كان ، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود , فأعجب من
ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام ، بعد أن كان لأمتهم به
من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان , وكانوا به أئمة
لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم , يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة
العربية , ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها ، ويحجون إلى
بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى , وكل من لم يفسد التفرنج عليهم
أمر دينهم , يفضلون الشعب العربي على شعوبهم , حتى إن مسلمي الهند الصادقين
في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها
من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم .
مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين
الإسلامي نفسه , ويطعنون به ويصدون عنه ، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في
العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع
عنهم ، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل
عشره جمعية عربية ، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي
المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة
للأجانب , كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع
أحد من أنصارهم رد شيء منها .
ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى
للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق
الذكر ، أو تستأهل الرد ، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء
التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا
في خطتنا السياسية الإسلامية , وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ
من تفسيرنا شيئًا ، ولم يطلع على المنار أيضًا ، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما
شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا ؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها
كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط , وذكره لبعض آيات القرآن محرفة .. ثم
هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه ،
وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا ،
وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ .
لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه ، وإن وقتنا لأضيق وأثمن
من أن يصرف في مثل ذلك ، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن
بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء
تلك الجريدة الواسعة الانتشار , فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه
هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة ، كما أن
بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في
السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا ، ونشر كل منهما في جريدة
البيان نفسها ، فنشكر لكل منهما غيرته ، وننشر الرد الأول العام ، لأنه مفيد
للخواص وللعوام ، وهذا نصه :
***
العالم الغربي والعرب والإسلام
لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات
قد كان الناس يتمثلون بقول القائل :
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل
المكابر في المحسوس , الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى :
إنها ظلام ، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة
لتأييد حجته ، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في
الواقع ، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا ، ولا يتوب
بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول
إلى الآخر قصارى كلامه ( عنزة ولو طارت ) .
فمن العبث أن تقول له : إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين , وإنه لم يعهد
إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين , وإن أوربا باقية على نصرانيتها ، وإن التعليم
المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا
مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية ، وإنهم يعلمون كون المسيح
هو ابن الله إلى هذه الساعة ، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين .
ومن العبث أن تقول له : إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة
عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا
يصيبها من أجل ذلك ضرر ، وتحصل هزاهز وفتن ، وإنه ليس من باب خلط
الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين ، إما في تهذيب الأخلاق أو في
السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة ، أو في النضال عن استقلال الأمة ، أو في
تقوية الروابط مع أمم أخرى , والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة
التي ليس إنكارها إلا محض حماقة .
ومن العبث أن تقول له : إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا
استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة ، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل
العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية ، وإن
إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية ، وإن إمبراطور النمسة كان على
رأس مملكة راقية جدًّا , وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية ) إشعارًا بصفته
الدينية ، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان
قسيسًا , ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا ، وإن دولة فرنسة التي يقال : إنها لا
دينية تنعت نفسها ( بحامية النصارى ) في المشرق , وإن غمبتا ركن الجمهورية
والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً : ( عداوة رجال الدين
ليست من بضائع التصدير ) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة
والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين , بل هم آراميون ساميون أبناء عم
العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم , عبثًا
تقول له ذلك ؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح , وأوربا تركت الدين .
وكذلك من العبث أن تقول له :إن الأوربيين الذين تقول : إنهم نبذوا الدعوة
الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية , ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ
ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند ؟ أفلم
تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس و رومية ؟ أفما قرأت ماذا كانوا
يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو
الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية ؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية
التي أقيمت في ذلك الوقت ؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة
الحرب الصليبية على يده ؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله
إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب
الصليبية , وقال : إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية ؟
أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين
المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي ؟ أفما علمت أن
سبب صرف ( ويغان ) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [1] مكانه هو لكون
الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة
من أهمها : اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها
دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا , والاحتفال
بتنصير من يتنصر من السنغاليين , وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في
الدفاتر الرسمية , وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ,
وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة , فأراد المسيو هريو أن
يسهل مأمورية فرنسة في سورية , بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين
بسياستهم الكاثوليكية , وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى
الإسلام ، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب
الوطنية بفرنسة , حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه
في خطابه .
ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات : إن الشيء الذي أنت تبرئ
أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده
إرَّا ، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا
برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية ؛ لكونها من مهاد النصرانية , وإن الدول
البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن
لتركيا هو حرب الصليب للهلال ، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا
القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة , بل لك أن تقول : إنها
ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي , ولا تنس خطاب ألفونسو
الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه
الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك : ( إن أسبانية اشتهرت
من القديم بقتال المسلمين , وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال
مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال ) وغير ذلك من الألفاظ
التي يقول الكاتب الأسبانيولي : إنها زادت هيجان المسلمين , وكانت السبب في
إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول , وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي
بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده , فهو
اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا .
ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية , بل على
سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة
للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية , ولو كان المراد
تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل , لكن البعثات الدينية غير
مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ,
وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو
أسلم الوثنيون .
وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها و ماداغسكر وشرقي أفريقية
بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية , لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة
من الذهب , تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها , وتؤيدها بالأموال والنفوذ
وبكل وسيلة , وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها , كما فعل
ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ,
فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه , بل قاوموا البعثات الكاثوليكية , ليخلو الجو للدعاية
البروتستانية ، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من
الماداغسكريين في الإسلام , ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك
الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام , فأنت ترى من هذا
وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل
عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر .
وقد يقول : إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية
المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية
لا دينية محضة , وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع , بل يزيد موضوعنا
تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين , يقدرون
قدر نفوذه على الخلق , ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم .
ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير
عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية , وكونها وقفت
لتنصير بضعة عشر ألف مسلم , ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل
بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر
ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف
بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم , وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون ، وأما
الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين , ولم يمنع الحكومة
الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال
تلك البلاد , وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء
ثارت هناك ثورة لا نهاية لها , وقالوا لأولئك المقترحين : إن الخمسة والثلاثين
مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام , والحديث هم في درجة واحدة من
الاعتصام بدينهم , فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة , فيا ليت شعري إذا كانت
هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم , ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى
هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن ؟ ولماذا تخصص
فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي
يرضى أن يتنصَّر ؟
وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين
النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا , واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها ؟
بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية ؟ فإن قيل : إن
سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك
المذابح التي جرت , أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها
المتغلبون عليها بعشرات الألوف , فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة ؟ أفلم يُنكَب
الجركس وأهل الطاغستان سنة 1866 وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم
نصف مليون نسمة إلى الأناضول , فمات أكثرهم بالحمى والجوع ، فمَن مِن أمم
أوربة اهتز لمصيبتهم ؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي
الأناضول ؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم
أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون
ووان , وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي
تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين , لا يكاد
الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء
الترك إلى مراجعهم , يخبرونهم بوقائع الحال , ومن جملتها أن الأرمن كانوا
يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ,
ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها , وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون
فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال ( وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع
تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس ؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة )
وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم
كثير من النساء والأطفال .
هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج , وروى
الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك , وهذا لا يمنع قولنا : إن الأرمن أيضًا ذاقوا من
النكبات ما هو عبرة في التاريخ , وخلت منهم جميعًا الأناضول ، ولسنا نحاول
تخفيف أخبار مصائبهم , ولكننا نقول : إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك
لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا ؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين ؟ كلا , إن
هو إلا لكونهم مسيحيين , وربما قيل : إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من
المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم ، وجواب
هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء , وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة
الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة 1920 واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر
المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان , وأنهم في يوم واحد ذبحوا
منهم عشرة آلاف ، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان
إلخ , ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير
ولا سيما بايدين ، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين ، وأقام بعضهم أشد
النكير عليها ، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة
دولية , فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح , وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر
باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى , وهذا كل ما وقع , إنما
جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه
المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام , لم يسعها إلا أن تشرك معهم
منكوبي الأتراك .
وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول : إن المسلمين هم والمسيحيين شرع
في نظر أوربة , والشاهد ( الأخير ) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف
قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة
والمتطوعين والممرضين , أهل الريف مسلمون , فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد
حتى في الأمور العائدة للإنسانية , ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا
طبيعيًّا , وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [2] .
إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة
الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية , ولا نبذ تلك
الرابطة ظهريًّا[3] .
وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو
العربي أن يكون عبدًا للتركي ؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين
ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن
سَبِيلٍ } ( الشورى : 41 ) , وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا
على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية , فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية
على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم ، فتجده بكرة وأصيلاً
يكرر ألفاظ : تركيا وترك وأتراك ومستتركين , وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا
تخفي شيئًا من الحقائق , وأنه لم يقل أحد : بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير
العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن , ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء
في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود
ويتهمونهما بالشعوبية , كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من
الأمم المستعمِرة الأوربية , والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع
المسلمين ( لأمة راقية مثل أميركا ) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما
حاولوا الإنكار , فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا
يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً ؟ فقد ظهر من هنا
المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس .
وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا , ولكنه لا
يجيز إطاعة غير أهله , وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال
كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها ، ولو كانت تلك السلطة صادرة من
أمة أرقى من تلك الأمة , فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة
الاستقلال , وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي
إلى بوارها , فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ,
فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية , وأن ألمانية أقدر على
إفادة سليزية من بولونية , ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا
يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية ، كذلك الإنكليز
أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة , ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون
إدارة أنفسهم ؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا .
والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا
التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز
وعدم انقيادهم لهذه ( الأمة الراقية ) , وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن ؛ لأنهم
سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية , لا بل حارب الإنكليز
ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر , ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع
الإنكليز شيء مؤسف عندهم , ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم
يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية ، فهذا مما ينبغي أن لا يكون , وأرقى
رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم , ولو كانت
نتيجة هذه المحالفة ما كانت .. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم ، ويليه
ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم ، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه ،
ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم , وأما
الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا ، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز , وأنه
يعتصم بالجامعة الإسلامية ؟
نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد
وأهل الحجاز وغيرهم , وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة
كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا ، وليس أهل اليمن ببدع في هذا
الأمر , بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم , وأما نفور
أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر
الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب , فإنه ما دامت
الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب , وأكره شيء إلى إنكلترة
هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها , فالإمام يحيى لم يَخْفَ
عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه , وحافظ على ولاء الأتراك لا
حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته ، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب , ولا يجهل
أطماعهم في اليمن , ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على
الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى .
وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع
النكبات التي سمعناها , إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو
العربي يا ترى ؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك
مقاومة الإمام يحيى ؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة
تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه ؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام
تحيى بنقص الحمية العربية ؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه
الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز ؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز
أثناء الحرب لكان ( راقيًا ) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما
معذور الحسين .. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين
عمومًا والعرب خصوصًا , وحارب في صفوفهم , وأثبت عدم مبالاته بالرابطة
الإسلامية , وبرهن على رقي أفكاره .. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون
قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز ؟
( للمقال بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ويغان هو القائد الفرنسي الذي خلف غورو في سورية , وسرايل هو القائد الذي خلف ويغان .
(2) المنار : بل سعينا نحن في مصر باسم جمعية الرابطة الشرقية , وسعى غيرنا فيها وفي الهند ؛ لإرسال بعثة طبية لمداواة جرحى الريفيين , فتعذر ذلك وتوسلنا هنا إلى الوزير الفرنسي المفوض , فتوسط لنا لدى دولته بكل همة وسرعة وكانت النتيجة أن فرنسة لا تسمح لنا بإرسالها من حدود المغرب الذي يئط تحت حمايتها .
(3) بل لا نترك ولا ننبذ وإن تغيرت حالتها , ولكن نسالمها إذا سالمتنا .
(26/47
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو القعدة - 1343هـ
يونيه - 1925م

سبب اتباع المسلم للإسلام
ونفوره من دعوة النصرانية

( س19 و20 ) من القس الدانمركي ألفرد نيلسن في دمشق
ما هو الذي يجعلك تتبع دين الإسلام كدين الحق ، وإذا تعرفت بالتبشير
المسيحي وبالكتب المسيحية فما هو الذي يبعدك ويُنفِّرك عن دعوتها ؟
( ج ) ثبت عندي أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً أميًّا لم يتعلم
القراءة ولا الكتابة ، ولا عاشر أحدًا من علماء الأديان ولا التاريخ والقوانين
والفلسفة والآداب ، ولا غير ذلك ، وأنه لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا ، ولا محبًّا لما
كان معهودًا بين كبراء قومه وأذكيائهم من الرياسة والمفاخرة والشهرة بالفصاحة
والبلاغة ، وإنما كان ممتازًا بين أقرانه في قومه بسلامة الفطرة وحب العزلة
والصدق والأمانة والعفة والمروءة وغير ذلك من مكارم الأخلاق ، حتى لقبوه
بالأمين , قضى على ذلك سن الصبا والشباب الذي تظهر فيه جميع رغبات البشر
ومزاياهم , ثم إنه بعد إكمال الأربعين والدخول في سن الكهولة ادعى النبوة , وأن
الله بعثه رسولاً إلى الناس كافة كما أرسل من قبله من الرسل إلى أقوامهم بمثل ما
أرسله به من الدعوة إلى توحيده تعالى وعبادته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله
والدار الآخرة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحق والعدل
بالمساواة بين الناس , وغير ذلك من أصول العقائد المعقولة , والآداب العالية ,
والأحكام والشرائع العادلة ، التي أكمل الله تعالى بها الدين ، وجعله بها خاتم النبيين ,
بما يعد إصلاحًا يفوق جميع ما كان عليه البشر من أتباع الأنبياء وغيرهم , وجاء
بكتاب في ذلك قال : إن الله تعالى أنزله عليه , وأنه وحي من لدنه سبحانه يعجز
جميع البشر عن الإتيان بمثله في علومه ومعارفه وإصلاحه وتأثيره في إبطال الشرك
والخرافات والأباطيل الفاشية في البشر وإصلاح الفطر والقلوب والأعمال لمن
اهتدى به . كما أنه معجز في أسلوبه وبلاغته وتحدَّى الناس بذلك فعجزوا عن الإتيان
بسورة من مثله وجاء فيه من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ما ثبت
ثبوتًا قطعيًّا ، ومنه أن الله تعالى سينصره ويخذل أعداءه , ويستخلف قومه وأمته في
الأرض , ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم , وقد وقع جميع ما أخبر به ، وما وضح
به صلى الله عليه وسلم أخباره كفتح بلاد كسرى وقيصر , ومنها مصر التي وصى
بأهلها خيرًا ، وأيده الله تعالى بآيات أخرى .
ومن أهم ما أخبر به القرآن مما لم يكن يعلمه أحد من قوم الرسول صلى الله
عليه وسلم ولا في بلاده أن اليهود والنصارى { أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ } ( آل
عمران : 23 ) , وأنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به ، وأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ،
ودخل عليهم الشرك , ومن العجيب أن المسلمين لم يعلموا مصداق ذلك بالتفصيل
إلا بعد اطلاعهم على مجموعة كتب الفريقين وتاريخها , ثم ما كتبه أحرار علماء
أوربة من الطعن فيها ، فمن أين عرف ذلك رجل أُميّ نشأ بين قوم أميين لولا وحي
الله تعالى له بذلك ؟
فهذه نبذة مجملة في بيان سبب استمساكي بعروة الإسلام , واعتقادي أنه الدين
الحق بالاختصار الذي اقترحه القس السائل .
وأما سبب نفوري من دعوة المبشرين دعاة النصرانية فهي اعتقادي بطلان
دعوتهم في نفسها , فإن أساسها أن آدم عصى ربه فاستحق هو وذريته العذاب
الأبدي بعدل الله ، وأن عذابهم ينافي رحمة الله , فلم يجد سبحانه وسيلة للجمع بين
رحمته وعدله إلا أن يحل في ناسوت أحد بني آدم , ويتحمل العذاب والألم واللعنة ؛
لتخليصهم من العذاب , فحل في ناسوت المسيح لأجل ذلك , ومع هذا لم يتم له ما
أراد فإنه اشترط لخلاصهم أن يؤمنوا بذلك , ولكن أكثرهم لم يؤمنوا به , ورأيت
جل تأثير هذه الدعوة في الذين يجهلون حقيقة الإسلام تشكيكهم في أصل الدين ،
وجعْلهم من الإباحيين ، وإيقاع الشقاق بينهم وبين غيرهم , ومن أهم تلك الأسباب
التي جعلتني أحتقر أكثرهم ما ثبت عندي من كونهم يتَّجرون بالدين اتجارًا فيكذبون
ويحرِّفون ، ومنهم الملحدون الذين لا إيمان لهم ، والمقلدون المتعصبون الذين
يبغضون المسلمين بما تربوا عليه مما لا يجهله القس السائل ، ولا أنكر مع هذا أنه
يوجد فيهم المتدين المخلص في دينه ، ولكن هذا بحسب اختباري قليل ، والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل .
(26/98
 
الكاتب : شكيب أرسلان

عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس

شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها
( مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان )
أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس ،
وهي خمس وخمسون مادة ، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق ، وفي طيها من
عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم ، وعقائدهم
ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه .
وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين
ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة ، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية ، بل
إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم ، وأن يبقى
هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب .
وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة
النارية فتَقرَّر أخذها .
وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته ، وفيما
بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد ، وتسهيل معاملات بيع
العقار لمن شاء الرحيل ، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً ، تعتبر
وكالته ، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر .
وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا
بدون رخصة الفقهاء .
وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء
المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم ، وإقرار الجميع على امتيازاتهم
كما كانوا لعهد ملوكهم ، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا .
وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد
من النصارى بيوت المسلمين ، حتى ولا الملك والملكة ، ومن خالف ذلك من
النصارى يجازَى بشدة .
وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في
سائر الممالك ، ووصل إلى غرناطة فقد نجا ، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن
يمسكوه ، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب .
وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز
معاملته إلا بالحسنى ، ولا يرى أقل تحقير ، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة ،
وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي .
وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت ، لا
تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي ، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون
مسلمين ، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها .
وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي
جرت إلى يوم تسليم البلد ، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من
تحقير الأسرى أو إهانتهم .
وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس
مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي .
وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر
من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية ، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في
بلاد الأندلس .
وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى ؛ لمراقبة شؤون
المسلمين ، بل تكون شرطتهم من أنفسهم .
وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة
و أراغون و ليون و صقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف ، وينفذا جميع
أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق ، وبدون أدنى زيادة ولا
نقصان مهما يكن من الأسباب ، وأن تبقى على شكلها وهيئتها ، ولا يتغير ولا يتبدل
حرف منها إلى الأبد ، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما ، ولا خلفاء
خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها ،
أو يبدلوا حركة من حركاتها ، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد
والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب ، وقاصٍ ودانٍ ، وكبير وصغير ،
وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة ، يجزى جزاء
من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير .
وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم
وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة ، وكتبت على رق غزال محلى
ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من
الميلاد .
وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين ، وأمضاها الملك فرديناند والملكة
إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة
كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون
ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا ، والدون جان كبير
فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس
كردينال أسبانية ، ورئيس أساقفة المملكة ، والدون هنري كبير حكومة أراغون ،
ومن أبناء عم الملك ، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا ، والدون الفارو مدير
دائرة الملكين ، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة ، ويليهم نحو من أربعين دونًا
كلهم من أبناء السلالة المالكة ، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها .
وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن
متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها
إياه المَلِكان ، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة
قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء ، وإفراز ملكيته
لجميع العقار الموروث ، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما
يجلب من الأمتعة برسمه ، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك ،
يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة ، وإن لم يشأ بيعها ، وأراد النقلة إلى بر
المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها ، ويوردها عليه في أي
جهة كان مما وراء البحر ، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله
وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا ، ولا يطالب بشيء ، ولا يكون مسؤولاً عن شيء
مما حصل إلى حين عقد الصلح ، ولا يسترد شيء مما غنمه ، وجميع هذه الشروط
كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي
أبي نصر ، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى ، إلا أنني وجدت أكثر
المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة
897 .
( ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة ، وبعض شروط
الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه ) .
( وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء ،
ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف
الغدر ، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال ، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم ، ومنها إقامة شريعتهم
على ما كانت عليه ، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما
كانت والأوقاف كذلك ، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا
يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي ، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من
حيث كانوا ، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم ، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل
غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه ، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ، ومن أراد
الجواز للعدوة لا يمنع ، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا
الكراء ، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء , وأن لا يؤخذ أحد بذنب
غيره , وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى , وأن من تنصر من المسلمين
يوقف أيامًا ، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى ، فإن أبى الرجوع
إلى الإسلام تمادى على ما أراد ؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب ، ولا
يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة ، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى
ولا يسفر لجهة من الجهات , ولا يزيدون على المغارم المعتادة ، وترفع عنهم
جميع المظالم المحدثة ، ولا يطلع نصراني للسور ، ولا يتطلع على دور المسلمين ،
ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم ، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه
وماله ، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن , ولا يمنع مؤذن ولا
مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه ، ومن ضحك منهم يعاقَب ، ويُتركون من
المغارم سنين معلومة ، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده ،
وأمثال هذا مما تركنا ذكره ، انتهى المراد منه .

نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم
وإكراههم على التنصر
قال صاحب المختصر المذكور :
ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول : ورد في تاريخ
( الإسلام في إسبانية ) تأليف ستانلي لانبول ما محصله ( إن آخر أنفاس أبي عبد
الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار ، بل بداية
أنفاس يرسلونها الصعداء ، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء ، وإن أسقف غرناطة الأول
هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً ، أحسن معاملة المغاربة ، وأبى الجور
عليهم ، وتعلم العربية ، وكان يصلي بها ، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى
النصرانية ، قيل : إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد ، إلا أن الكردينال
كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل ، ومال
إلى العنف والإكراه ، وأساء معاملة المسلمين ، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي
نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر ،
فأثار ذلك ساكنهم ، وأخرج كامنهم ، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين
لشأن من هذا القبيل ، فثار سكان البيازين ، وتحصنوا وحملوا السلاح ، وكادوا
يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس .
إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة ، دخل ربض البيازين بالسكينة
والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح ، وسأل القوم عن شكواهم ، وتقبلها
منهم بالاستماع والاحتفال ، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره ، وحجب
الدماء يومئذ ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة ، حتى أصدرت
أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية ، وذلك بأنهم كانوا
يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل ، فأُقفلت المساجد وأحرقت
الكتب ، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب ، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً
وألوانًا ، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم ، إلا أن شعلة من الحمية
الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات ، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم .
وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير
انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501 ، وقتل الدون المذكور ، وقيل : إنه الدون
الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين ، فازداد انتقام الأسبانيول من
المغاربة بعد هذه الغلبة ، وهجم كونت طنديلة على قوجار ، وهدم كونت سرين
جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم ، وأمسك الملك
فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال ، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى
مراكش و مصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال .
ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب ، والمسلمون
المتنصرون يعمدون أولادهم ظاهرًا ، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء
المعمودية ، وإذا تزوج أحد الموريسك ( لقب المتنصرة من المغاربة ) أجرى
القسيس عقد الإكليل ، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية .
وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب ، ويعاونونهم على اختطاف
أولاد النصارى ، ويأتون غير ذلك ، فلو كانت ثمت حكومة عاقلة قوية ترعى
عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة ، لم يكن محل لذلك البغض العميق ،
ولكن حكام الأسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل ، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام
شرًّا ، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة
بهم ، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الأسبانيولية ، وبحظر الغسل ودخول
الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار ، ثم منعوهم من التكلم بالعربية ،
وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الأسبانيولي ، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة
أسبانيولية ، ويسموا أنفسهم أسبانيولاً ، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر
الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل ، لكن
عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة ، صار ديوان التفتيش
يحترف ويتجر بهذه المسألة ، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ
الأوامر بحق الموريسك ، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي
واللغة باستيثاق غريب ؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام ، وذلك بأنه
أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة ، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك
الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان ، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن
وأبناء سراج ، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة ، وثار فرج
ابن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة ، قاصدًا الجبال
قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم ، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة
ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية ، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل
أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568 .
ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا ،
كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً ، والفتنة فيه بعيدة المرمى ، فاستمرت
هذه المرة حولين كاملين ، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر
والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين ، لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في
تاريخ الفروسية ، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها ، وتبقى على صفحات السير فخرًا
للقرون والأمم ، كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير ، والموقف الذي يحاولون
فيه إدراك الثأر على نحو مئة سنة قضوها في البلاء العظيم ، والهون الذي ليس له
نظير ، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية ، وهدموا
الكنائس ، وأهانوا ما فيها ، وفتكوا بالقسيسين ، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في
أيديهم ، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج ، ودافعوا دفاعًا شديدًا ، وكان مركيز
مونتيجارة قائدًا في غرناطة ، فعمد إلى المسالمة ، وأخذ بالملاينة ، وكادت الوقدة
تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من
المغاربة ، قيل : إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز ، لكن الموريسك لم يقبلوا العذر ،
ونشروا لواء الثورة ، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات ،
إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة ، فقام بعض أعوانه وقتلوه ، وبويع لرجل آخر
موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه .
فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك ، وهو
شاب في الثانية والعشرين من العمر ، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى
1570 ، وأتى من الفظائع ، ما بخلت بأنداده كتب الوقائع ، فذُبح النساء والأطفال
أمام عينيه ، وأحرق المساكن ودمر البلاد ، وكانت علامته ( لا هوادة ) وانتهى
الأمر بإذعان الموريسك ، لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة ،
فاحتال الأسبانيول حتى قتلوه غيلة ، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة
ثلاثين سنة ، وأفحش الأسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق
والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا ، وخنع الذين نجوا
من الموت لكنهم وقعوا في الرق ، وسيقوا مماليك وعبدانًا ، ونُفي جملة منهم ، فأخذ
عددهم يتناقص ، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع
القديسين سنة 1570 ، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا ، والذين أخذوا منهم في
معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد ، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين ، فمات
كثير منهم على الطرق تعبًا ، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين
لأجل قوتهم الضروري ، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا ،
واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية ، ولم ينتهِ إخراجهم
تمامًا إلى سنة 1610 ، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن
وليها الإسلام ثمانية قرون ، ويقال : إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت
فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين ، وأن
الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون .
وأما الأسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون ، ولا أنهم يخربون بيوتهم
بأيديهم ، بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة ، مع أن أسبانية كانت مركز
المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا ، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام
بمقدار ما استفادته هذه البلاد ، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها ،
وإن فضل مسلمي الأندلس ؛ ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة ،
وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام انتهى كلامه
ملخصًا .
واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة ، وهو أن
الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591 ؛ بسبب
كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها ، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق
غنَّاء ، وغياضًا ذات أفياء ، وموارد ثروة و رخاء .
وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا : إنه بعد
دخول هذه البلدة في حوزة الأسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى
أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية ،
ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم ، فثأروا برؤساء الدين ، وقبضوا على
اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما ،
وقيل : إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة ، وإنهم أحرقوا
جثتيهما ، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس ،
وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون ، فاعتصم المغاربة بالجبال ، وانتشرت
الفتنة في الجبال كلها ، لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر ، فلما
اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة
إلى قشتالة ، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه ،
ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار ، ومعه جيش وهو الذي قضى
معظم شبابه في قتال المغاربة ، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم
إلى رندة للدخول في النصرانية ، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه
الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار ،
مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الأسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة
مونارده ، وانتشب القتال فيقال : إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة
من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة ، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة ، فتتبعهم
الجند يغنمون وينهبون ، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من
أبطاله ، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية ، وذعر الأسبانيول ، فتداعوا
للفرار ، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم ، ويضم من شتيت شملهم ، فصبر معه
جماعة ، وولى الأكثرون ، ودخل الظلام ، وخيم الغسق ، واشتد الخناق بالأسبانيول ،
وجرح بطرو ابن ألونزو ، فأمره أبوه بالرجوع ، فأصر على البقاء بجانب أبيه ،
فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا ، ولبث الدون
بمائتين من رجاله ، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم .
وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما ، فبصر به الفهري فقصده واستحر
الصراع ، وألحّ الفهري وطمع في قرنه ، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة
الأضلاع وتوثق الخلق ، فصاح ألونزو بخصمه ( لا تحسبن نفسك وقعت على صيد
هين ، فأنا الدون ألونزو دراغيلار ) فأجابه المغربي ( إن كنت أنت الدون ألونزو
فاعلم أنني أنا الفهري ) ثم كوره صريعًا ، ومات بموته مثال الفراسة الأسبانيولية
والنموذج الغشمشمية في الأندلس .
واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الأسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح
الصباح ، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد
المدفعية الأكبر ، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة ، لكن مصرع
الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها ، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى
الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة ، فسكنت بحضوره النائرة ، واشترى بعض
المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية ، واحتمى آخرون بالنصرانية , وأما أهل البلد
الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية ، وبحث الملك عن جثة الدون
فوجدوها بين مائتي جثة من الأسبانيول ، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء ،
فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل ، بين مدامع كالسحب الهواطل ، ودفن في
كنيسة مار هيبو ليتو ، وندبه الأسبانيول دهرًا طويلاً ) انتهى كلامه مجملاً .
وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا ( أن
أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة ، ربتها في قلوبهم
ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب ، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من
مسلمين ونصارى ويهود ، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد ؛ تعزيزًا
للدولة ، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش ، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش
الكبير ، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم ، وكان هؤلاء في البداية من
النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد
( صلى الله عليه وسلم ) ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية
أيضًا .
وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن
سلبوهم أموالهم ، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج
منهم 800 ألف ( قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في
تلك الكائنة ، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد
الدولة العلية ، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين )
والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين ، وسنة 1499 صدر
أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة ، فجلا
منهم جم غفير ، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609 ، وهكذا
فازت إسبانية بوحدتها الدينية ، لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب
واليهود أهم عمالها .
وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند ، فأكره مغاربة
بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم ، وقال
بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة ، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة
1568 ، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج ، وكان يمكنهم بما أمسكوه
من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية ،
ففرق فيليب شملهم ، وبددهم في مقاطعته ، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم
أرقاء .
ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة ، وهو
ببعض تصرف ( ثم إن النصارى نكثوا العهود ، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى
أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة ، بعد أمور وأسباب
أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا : إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من
النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية ، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم ، ثم
تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم : إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع
نصرانيًّا ، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم ، وهذا كان
السبب للتنصر قالوا : إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا
الموت إلا أن يتنصروا بالجملة ، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة ، وامتنع
قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك ، وامتنعت قرى وأماكن كذلك
منها بلفيق و أندرش وغيرهما ، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم
قتلاً وسبيًا ، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم ، وقتلوا
منهم مقتلة عظيمة ، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار ، وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر .
ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين ، يعبد الله في خفية
ويصلي ، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك ،
ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد ، وقاموا في
بعض الجبال على النصارى مرارًا ، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا ، إلى أن كان
إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام [2] سبعة عشر وألف ، فخرجت
ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس ، فتسلط
عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات ، ونهبوا أموالهم ، وهذا ببلاد
تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة .
وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم ، وهم لهذا العهد عمروا قراها
الخالية وبلادها ، وكذلك بتطاون و سلا و فيجة الجزائر ، ولما استخدم سلطان
المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا ، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر
ما هو مشهور الآن ، وحصنوا قلعة سلا ، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن
بهذا الحال ، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى ، وإلى مصر والشام
وغيرها من بلاد الإسلام ، وهم لهذا العهد على ما وصف ، والله وارث الأرض
ومن عليها ، وهو خير الوارثين ) انتهى .
__________
(1) لعل الأصل : ولا يحمل علامة إلخ أو - ولا يجعل له علامة كما يجعل لليهود اهـ , مصححه .
(2) لعل أصله : أي عام .
(26/131)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1343هـ
يوليو - 1925م

أثارة من التاريخ
في حالة نجد قبل الشيخ محمد عبد الوهاب
وما قام به من التجديد والإصلاح

قال الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه ( تبرئة الشيخين ) : قال أبو بكر حسين
بن غنام - رحمه الله - في تاريخه :
( وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم ، والكل على تلك الأحوال مقيم ،
وفي ذلك الوادي مسيم { حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } ( التوبة :
48 ) ، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب ، يأتون من الشرك بالعجاب ، ينسلون
إليه من كل باب ، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب , ويدعونه ؛ لتفريج
الكرب بفصيح الخطاب ، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب ، { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ( يونس : 18 ) ، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا ، بقضاء الحوائج مذكورًا ، وكذلك
قرية في الدرعية ، يزعمون أن فيها قبورًا ، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا ،
فصار حظهم في عبادتها موفورًا ، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون { أَئِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } ( الصافات : 86 ) ؟ وكان أهل تلك التربة أعظم في
صدورهم من الله خوفًا ورهبة ، وأفخم عندهم رجاء ورغبة ، فلذلك كانوا في طلب
الحاجات بهم يبتدون { قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ( الزخرف : 22 ) ، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ، ما لا يعهد مثله ،
ولا يتصور ، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور ، وذلك كذب محض وبهتان
مزور ، مثله لهم إبليس وصور ، ولم يكونوا به يشعرون ، وفي بليدة الفدا ذكر
النخل المعروف بالفحال ، يأتونه النساء والرجال ، ويفدون عليه بالبكور والآصال ،
ويفعلون عنده أقبح الفعال ، ويتبركون به ويعتقدون وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن
الزواج ، ولم تأتها لنكاحها الأزواج ، وتقول : يا فحل الفحول ، أريد زوجًا قبل أن
يحول الحول ، هكذا صح عنهم القول : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( الأنعام : 43 ) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق ، فكان ينتابها للتبرك
طوائف وفرق ، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذَكرًا الخِرقَ لعلهم من الموت
يسلمون ، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل
لامرأة تسمى بنت الأمير ، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله ،
فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير ، وكان الله تعالى لها من ذلك السوء مجير ،
فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ( الصافات : 95-96 ) .
ثم ذكر في جميع قرى نجد ، من ذلك ما لا يحصى ولا يعد ، وكذلك في
الحرمين وفي سواد العرق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز
واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ ، وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق
الأرض ومغاربها ، واستفاض ما كان عليه أهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل
دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ودعوته الخلق إلى توحيد
الله وعبادته وترك عبادة ما سواه ؛ فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق ،
وجاهد في الله من أبى الدخول في دين الإسلام ؛ حتى دخلوا في دين الله أفواجًا ،
وقد شهد بذلك الخاص والعام ، وأقر به الموافق والمخالف ، فالحق ما شهدت به
الأعداء .
وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخًا لبعض المؤرخين من النصارى
في سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف ( قال فيه ) ما نصه :
***
نجد بعد الرسالة
ومن بعد أن بعث الحكيم ( صلى الله عليه وسلم ) بالهدى والحق ، وانتشر
الدين الإسلامي في هاتيك الربوع ، عم بلاد نجد من جملة ما عم ، فصار أهلها على
هذه الطريقة المثلى ، بيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر
وعمر ( رضي الله عنهما ) شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها ، هذا من جهة
ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهل نجد عن
الإمعان في حقائق دينهم ، فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحْبُون[1] في الإيمان
والاعتقاد ، إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام
والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف
عليها ، والاعتقاد بأهلها النفع والضر إلى غير ذلك مما لأهل العراق فيه اليوم
النصيب الأوفر ، والحظ الأكبر ، رغمًا عن انتشار العلم فيه ، وبقي أهل نجد في
هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينًا ودنيا
وأخرى ، وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد بن عبد
الوهاب .
***
نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده
عبد الوهاب بن سليمان ، فرباه أحسن تربية ، ولقنه العلم هو بنفسه ، وكان والده
حينئذ قاضيًّا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن أحمد
المعمري ، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر
شديد الشوق إلى العلم وطلبه ، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى ،
فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب
( العذب الفائض في علم الفرائض ) والشيخ محمد حياة السندي المدني ، فأقام عندهما
مدة ثم رجع إلى نجد ، ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء
يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم ، ثم حاول المسير إلى الشام
فمصر ، ولكن صده عارض في الطريق ، فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد
العلم ما لم يتيسر لأحد غيره في وقته ، ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حريملا ،
وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة ؛ هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله
الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن
سليمان عن القضاء ، وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد
الوهاب القاضي إلى حريملا ، ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف
الخرافات والبدع والأضاليل ، وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين ،
وأخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
***
هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا
كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة ، بل كانت
كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى ، فاتفق يومًا أن الشيخ
زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء
الأخلاق ، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله ، وأرادوا إتمام الأمر بالفعل ، فساروا
إليه ليلاً وتسوروا الجدار ، وبينما هم في هذا الفعل إذ صاح صائح في المحلة ،
فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم ، فهربوا وكفاه الله شرهم ، ولما أسفر
الصباح ورحل إلى بلدة العينية ، وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام
الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب
والإكرام التام ، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد ، والأمير عثمان يتعاهده بحفظ
حياته ونصره على أعدائه .
( حكاية الشجرة والقبة ) وقد طلب الشيخ من الأمير أن يقطع شجرةً كانت
تُعبد في البلدة ، وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - فتمنَّع الأمير
وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه ، فأذن له في الآخر ، ثم طلب إليه أن يسير هو
أيضًا معه ، فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس ، ولما وصلوا إلى المحل
المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة ، وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل
من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ ، فلما فعل الشيخ هذا الفعل الأول اشتهر أمره
ونبه ذكره فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وبأس شديد ،
فبعث إلى عثمان بن حمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد
الشيخ من بلاده ، فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يسافر
إلى حيث يريد ، فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية ، فسار وسير الشيخ عثمان
معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الدرعية فحل ضيفًا عند عبد الله بن
عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها ، ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا
على مبدئه استحسنوه وأحبوه ، ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود ؛
لينزله ضيفًا عنده فتخوفوا ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق
الجميع على تحقيق ما في الأمنية ، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل
زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير ، وأشاروا عليه بإكرامه
واحترامه ، فسار إليه برجِله ، ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى
قصره ، فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيدًا لدعوته بكل قوته ، فأخذ الناس
يفدون إلى الدرعية أفواجًا أفواجًا ؛ فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع
يكاتب بلدان نجد وقراها ، ويدعوها إلى طريق الحق ، وما لبث أيامًا قلائل إلا
وأصغت له القبائل ودانت له أغلب البلدان ، وما زالت الإمارة في امتداد واتساع
حتى أصبحت دولة بني سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة
زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة ، لغَدَت اليوم من أعظم الدول
الإسلامية قوة وسطوة ورهبة ، ولامتدت أمراؤهم إلى بلاد شاسعة ، إلا أنه دهمها ما لم
يدُر في خَلَد أصحابها ، فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها ؛ فاحتالوا على
الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية ،
وللحال اتقدت تلك النار الحامية : نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة
فأضرت بالطرفين ، ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم
الآخر في فرصة أخرى ، والله ولي التوفيق ، وهو نعم الرفيق ، انتهى .
( المنار )
هذه نبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن
عبد الوهاب ، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق
والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى ، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد
للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا ، وأعظم تلك الموانع مقاومة الدولة العثمانية له
ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين وتدمير قوتهم ، وكان المحرك
الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية ، وعدوة الشرق ولا سيما الأمة
الإسلامية ، التي لا تزال هي المقاوِمة لكل إصلاح إسلامي وترقٍّ شرقي ، طمعًا في
استعباد الشرق كله ، خذلها الله تعالى .
__________
(1) كذا في الأصل ، والحبو زحف الطفل أو المُقعد مثلاً على إسته أو على يديه وبطنه ، والمراد به ضعف الدين .
(26/200
 
رجب - 1344هـ
فبراير - 1926م
الثورة السورية والحكومة الفرنسية
والتنازع بين الشرق والغرب

حدثت في أوائل الصيف من هذا العام الشمسي ( 1925م ) ثورة في سورية
لم يسبق لها نظير ، اقتدح زنادها زعماء دروز حوران ، وتولى القيادة العامة لها
سلطان باشا الأطرش الشهير ، وقد سبق لهم ثورة أخرى كان هو قائدها أيضًا ،
ولكنها كانت ثورة صغيرة موضعية ، وأما الثورة الأخيرة فهي ثورة سورية كبيرة ،
لا يزال يمتد لهيبها ويتطاير شررها ، ولم تكن قسوة السلطة العسكرية الفرنسية
وشدتها في مقاومتها إلا كمحاولة إطفاء النار بزيت البترول والبنزين والبارود ، أي
لم تزدها إلا قوة واشتعالاً ، وقد أسرفت السلطة في القسوة حتى إنها دمرت المئات
من القرى والمزارع على رؤوس أهلها ، وأطلقت المدافع وقذائف الطيارات على
الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق ، فتبَّرت أهمَّ أحياء المدينة عمرانًا وثروة وآثارًا
قديمة ، وقتلت عددًا كثيرًا من النساء والرجال والأطفال ، وخرج كثير من
المخدرات من بيوتهن مع أطفالهن ما بين حافيات وناعلات هائمات على وجوههن ،
وأجهض كثير من الحوامل ، وَجُنَّ مَنْ جُنَّ مِنَ العقائل ، وفعلت السلطة نحوًا من
ذلك في مدينة حماة التاريخية أيضًا ، فقتلت من قتلت ، ثم عذبت من عذبت من
الأبرياء كما ثبت بمحاكمتهم في محكمة عسكرية فرنسية .
ليس من موضوع المنار استقصاء الحوادث التاريخية ، ولا من دأبه الوصف
الشعري ولا المبالغة في تصوير حقوق أمته ومصالح قومه ، أو هضم حقوق
خصومهم ، ولا سيما إذا كان بالباطل ، وإنما موضوعه الذي يعنى به قبل كل شيء
بيان الحقائق وفلسفتها ووجوه العبرة فيها ، وبذل النصح لكل مستعد لقبوله ، وتقرير
المعروف للترغيب فيه ، وإنكار المنكر للزجر عنه ، وإنني أذكر هنا من الحقائق ما
يعترف به المنصف وإن كان من خصومنا أنفسهم .
***
جناية رجال فرنسة على سورية وعليها
( 1 ) إن ما عمله رجال فرنسة في سورية في بضع سنين قد حمَّل حكومتهم
نفقات باهظة تقدر ببضعة ألوف الملايين من الفرنكات ، قيل : إنها لو قسمت على
هذه السنين لأصاب كل سنة قرابة ألف مليون ، وخسرت به صيتها الأدبي وسمعتها
السياسية والإدارية ، حتى إن أشد الناس كرهًا للترك وطعنًا فيهم صار يرفعهم فوق
الفرنسيس درجات كثيرة .
وقد كان ما نشر من أنباء موبقاتهم في هذه المسألة من المقالات في الجرائد
وما نظم فيها من القصائد ، مُشَوِّهًا لسيرة فرنسة في المشارق والمغارب ، وهادم لما
شيدته لنفسها من حسن الصيت في عدة أجيال ، أو من عهد ثورتها الكبرى إلى الآن ،
تلك الثورة التي ثل شعبها فيه عرش ملوكهم الظالمين ، وينكرون ما دونها على
السوريين ، فهم يفخرون بمقاومة الفرنسي للظالم له ولو من قومه ، ويذمون مقاومة
السوري لظالمه الأجنبي عنه ! !
ولو كان ما فعلوه في سورية خيرًا لهم وموافقًا لمصلحتهم ، لما كان لنا أن
نتكلم فيه معهم ، ولكن ثبت به أن احتلال فرنسة لسورية كان شرًّا لسورية ، وشرًّا
لحكومة فرنسة وشعبها جميعًا ، وأن حكومة فرنسا هي الظالمة لشعبها بما تحمّله من
أعباء هذه النفقات الثقيلة في هذه السنين النحسات ، وهي أحوج إليها في عسرتها
الحاضرة ، وبما تحمله على سفك دمه فيما ليس له منه فائدة مادية ولا أدبية ، بل
فيما فيه ضياع الفائدتين معًا ، وأما الظالم للحكومة الفرنسية نفسها في هذا وأمثاله فهم
الرجال الذين توليهم أمر البلاد ، وتطلق لهم فيها العنان ، فيعيثون فيها فسادًا ،
ويسمُّون إفسادهم إصلاحًا ، ويتخذون لهم شهداء من أنفسهم ومن صنائعهم وعمالهم
في البلاد ، ومن المشاركين لهم في غنائمهم من أرباب رؤوس الأموال وأصحاب
الصحف ورجال الأحزاب في فرنسة ، يكذبون على الحكومة ، ويرونها الباطل حقًّا ،
والمفسدة مصلحة ، ويطعنون لها في الأحرار الصادقين ، إذا تظلموا أو احتجوا
عليهم ، ويوهمونها أن ما يتظلمون منه ما هو بظلم ، بل هو عين العدل والفضل ،
ولكنهم ينكرون الجميل ويغمضون الحق ، إما لبغضهم لفرنسة لخبث طباعهم أو
تعصبهم ، وإما لمطامع لهم باطلة لم يجدوا مع العدل الفرنسي وسيلة إليها ، وإما
خدمة لدولة أخرى أجنبية يعملون لها .
***
تفسير الانتداب الفعلي والقولي
( 2 ) كل هذا التقتيل والتعذيب ، والتخريب والتتبيب ، والتدمير والتتبير ،
وما يتبعه من المغارم والمآثم ، وموبقات الفضائح والمحارم ، كله تفسير وتنفيذ
بالفعل لكلمة جديدة وضعت في معاهدة الصلح بعد حرب المدنية في قاموس السياسة ،
وهي كلمة ( الانتداب ) .
وضعت هذه الكلمة دولُ الحلف البريطاني الفرنسي الذين كانوا يسمون قتالهم
للتحالف الجرماني بقتال الحق والعدل والحرية والحضارة ، وليس كذلك بل هو
للباطل والجور والهمجية واستعباد الأمم ، وفسروه بأنه عبارة عن مساعدة
الشعوب المحررة من العبودية الجديرة بالاستقلال على النهوض بأعباء استقلالها ، إلى أن يزول ما يحول دونه من فقرها وضعفها ، وتصبح قادرة على السير وحدها ،
وزعموا أن الباعث عليه الرأفة والرحمة ، لا مجرد العدل ، والمكافأة على مساعدتهم
في تلك الحرب ، وأن النادب لهم والداعي إلى هذه المكرمة الإنسانية والضامن للدول
المنتدبة الرقيب عليها في تنفيذها كما فسرت إنما هو جمعية الأمم المؤلفة من مسين
أمة ونيف ، فهل يجوز إذًا في شرع الرحمة والمحبة أن تترك الدولة المنتدبة هذه
الفضائل الإنسانية كلها ، وتخفر عهد هذه الأمم والدول كلها ، لأن بعض الشعوب التي
تبذل لها هذه المساعدة لتنتفع بما نالت من الحرية والاستقلال تتألم منها ، تأبى
أن تقوى من ضعف ، وتغنى من فقر ، وتعز بعد ذل ، وتتحرر بعد رق ؟ فإين
الفضائل الإنسانية ؟ وأين العهود الدولية ؟
تلك إشارة إلى مسافة الخلف من أقوال منفذي الانتداب وأفعالهم ، ثم إنهم
يطلبون منا أن نصدق وعودهم ، ونثق بعهودهم ، وهم يعلمون أن هذا غير مستطاع ،
ولكنهم يريدون إكراهنا بالقوة على أن نحمد مساوئهم ، أو نسكت عنها ؛ لئلا تجد
الأحزاب المعارضة في مجلسي نوابهم وشيوخهم حجة يسلبون بها منهم هذا السلطان
الاستبدادي المطلق الذي هو أعظم اللذات التي فتن بها البشر ، فهم لا يبالون بما
نعتقد نحن فيهم ، وإنما يبالون بمن يقول الحق ويطالب بالعدل في بلادهم ، وقليل ما
هم .
***
الفرق بين الشرق والعرب في احترام القوة
( 3 ) إن شعوب أوربة شعوب دموية ما زالت تعتمد في جميع شؤونها على
القتال وسفك الدماء حتى صار غريزة فيها ، فكل اعتمادهم على القوة المادية
الحربية ، بل لما صار ذم القتال وسفك الدماء مما يذم عندهم بالكلام ، ويتبرؤون منه
برياء القول ، ويدعون أن ما ينفقونه في كل عام من قناطير الذهب المقنطرة التي
تجتاح معظم كسب شعوبهم على الاستعدادات الحربية من برية وبحرية وجوية لا
يراد به إلا السلم ، على أن هذه الدعوى على ما فيها من كذب ورياء حجة قطعية
على أنهم لا يمكن أن يرتدعوا عن ذلك إلا بالخوف من القتال ؛ لأجل هذا يقيسون
طباع الشرقيين على طباعهم ، بل قلبوا الحقيقة وعكسوا القضية فصاروا يزعمون
أن الشرقيين لا يخضعون إلا للقوة ، ولا يطيعون الأوامر إلا بالإذلال والإهانة ،
ونتيجة هذا أنهم لا يقبلون ما يُسْدونه إليهم من نعم الحماية والوصاية والانتداب إلا
إذا حمل إليهم وحُمِلوا عليه بقوة الحديد والنار ، وأقنعوا به بلغة قذائف المدافع
والطيارات ، وتدمير السيارات والدبابات ، فهم يكررون هذه الأقوال كلما صالوا
على شعب شرقي فدافع عن نفسه ولو بالحجج القولية المنطقية ، فيكف إذا حَمل
السيف مستبسلاً لتحميله ما لا يطيق يائسًا من إنصافه ، كما يقولون اليوم في قضية
ريف المغرب وفي قضية سورية .
والحق الذي يشاهد اليوم ويحفظه التاريخ من قبل أن الشرقيين يخضعون
للدلائل العقلية ، وللوجدانات القلبية ، وينقادون بالمسَّلمات المثالية والتخيلات
الشعرية ، فتغلب عليه المعنويات ، كما استحوذت على الأوربيين الماديات ، وأن
المبالغة في الأمرين ، مما يعد من عيوب الفريقين .
وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي واستذلال
الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها
بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي ، وقد نبه بعض عشاق فرنسة من
وجهاء الموازنة بعض مندوبيها السامين إلى هذا النقص ، ونصحوا لهم بأن يراعوه
في إدارة البلاد ؛ ليتم لهم أمر السيادة فيها بسهولة وتكون راضية عنهم .
حدثني حبيب باشا السعد المشهور عن نفسه أنه قال للجنرال غورو : إننا
نحن الشرقيين نحب المجد الكاذب ، فولونا أعمال البلاد الرسمية ، واكتفوا بوضع
مستشارين ومراقبين منكم معنا ، يرشدون رؤساء الموظفين إلى ما تريدون منا ،
ونحن ننفذه لكم بأحسن ما تنفذونه لأنفسكم ، وقد نصح لهم بمثل هذا صديقهم عبد الله
باشا صفير وهو مؤسس الحزب السوري الفرنسي بمصر ، وأقام لهم الدليل عليه
بسياسة الإنكليز بمصر التي نجح فيها لورد كرومر أتم النجاح ، وقد ذهل سعادة
الباشا عند إسداء هذه النصيحة قولاً وكتابة عما بين الفرنسيس والإنكليز من التباين
في الأخلاق والغرائز وأساليب الاستعمار ، وهي لا تخفى على مثله ، وقد بينها
الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتبه التي وضعها لمباحث علم الاجتماع ،
على أن الإنكليز لم يَسلَموا من شذوذ الغرور بالقوة ، وقسوة العظمة ، واحتقار
الشرق وأهله كما فعلوا في ( حادثة دنشواي ) وفي العراق والهند أخيرًا ، ولكنهم لم
يبلغوا فيه عشر معشار الفظائع الفرنسية في سورية ، وقد أيقنوا أنهم كانوا فيه من
الخاطئين المخطئين ، وما رجع بعض كتابهم في هذه الأثناء قول الفرنسيين : إن
أهل الشرق لا يدينون ولا يخضعون إلا لقوة النار والحديد إلا خداعًا وتغريرًا لهم
ليتمادوا في بغيهم .
***
عظمة فرنسة وقوتها الحربية
( 4 ) مما يعتذر به الفرنسيس عن أعمال القسوة ، والإمعان في التخريب
والتدمير ، والتصميم على حل مشكلة الثورة السورية بقوة الجند ، واشتراط تسليم
الثائرين سلاحهم بلا شرط ولا قيد - أن كل ما عدا هذه الطريقة من إدارة البلاد
ومعاملة أهلها يذهب بكرامة فرنسة ، ويزيل مهابتها من القلوب ، ويوهم أهل البلاد
أن الثوار أقوى منها ، وهذا الاعتذار خطأ محض مبني على النظرية التي بيَّنا
فسادها آنفًا ، وهي أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يعترفون بفضيلة ولا كرامة للدول
والأمم إلا للقوة والقدرة على التقتيل والتخريب ، والحق الواقع يفند رأيهم ويؤيد
رأينا ، فإنهم كلما اشتدوا في القسوة اشتدت مقاومة الثائرين واستبسلوا في القتال ،
واستهانوا بالموت ، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يقاتلون مختارين ، فقتالهم أدل
على أخلاقهم وما في أنفسهم من قتال الجند الفرنسي وكل جند نظامي ، فإن الجند
النظامي إنما يقاتل مكرهًا ومضطرًّا ، إذ هو يعلم أن الفارَّ من الزحف جزاؤه القتل
قطعًا ، وأن الذي يثبت يجوز أن يبقى وأن ينال مكافأة على ظفره ، وقد كان موقدو
نار هذه الثورة خاضعين لفرنسة قبل إهانتهم واحتقارهم وهضم حقوقهم ، ومغترين
بوعود رجالها ، ولم يبق أحد يصدق لهم قولاً ولا يثق منهم بوعد .
وإنا لنعلم أنه لا يوجد أحد من قواد الثورة ولا من مساعديهم يعتقد أن الثوار
أقوى من فرنسة وأقدر على الحرب ، ولا أن سورية كلها تساوي فرنسة أو تقاربها
في القوة الحربية ، وإنما يحاربونها لأن رجالها ألجأوهم إلى القتال إلجاءً ،
واضطروهم إليه اضطرارًا ، إذ أقنعوهم فعلاً بأن سلطتها لا تطاق ولا تحتمل ، وأن
القتل الشريف في سبيل الاستقلال ، أفضل من الحياة في الذل والفقر والنكال ،
ولأن في السوريين من لا يزالون يظنون أن في فرنسة فضيلة غير فضيلة القتل
والقتال يرجى أن تنتصر عليها - وأعني فضيلة الحق والعدل والعمران - وأن
الثورة هي التي يمكن أن توصل إلى محبي الحق والعدل والعمران صوتَ سورية
الذي عجز عن إيصاله إليهم أحرار السوريين بالحجج والبراهين التي يُدلون بها كل
عام ، وعند كل حادثة عظيمة وخطب فادح بما يخاطبون به جمعية الأمم وكبريات
الدول وفي مقدمتهم فرنسة ، وما ينشرونه في جرائد العالم ؛ فيتصدى لتكذيبهم
والطعن فيهم أنصار الأحزاب المالية والعسكرية والجزويتية الذين يستغلون سورية
بما قدمنا أنه ضار بفرنسة حكومتها وأمتها لا بالسوريين وحدهم ، ويظنون أن
هؤلاء يمكن أن يؤلفوا مع طلاب الاقتصاد والأحزاب المعارضة قوة في مجلسي
النواب تجبر الحكومة الفرنسية على إنصاف سورية ، والاعتراف بحقها في الحرية
والاستقلال ، فإن صدق ظنهم هذا أمكن أن تستعيد فرنسة بعض ما فقدت من حسن
صيتها السابق ، وكان خيرًا للشعب الفرنسي ولحكومة الجمهورية الفرنسية من
اعتقاد سورية أن فرنسة فقدت كل فضيلة إنسانية ، وصارت كالوحوش المفترسة ،
ليس لها صفة تفخر بها إلا القتال والتخريب ولو فقدت به ثروتها وشرفها الأدبي .
***
حظ الإنكليز من ثورة سورية
( 5 ) قيل : إن الثورة السورية الحاضرة هي من دسائس الإنكليز ، وإنهم
هم المحركون لها ، والممدون لنارها بالوقود ، ولثوارها بالسلاح والنقود ، وقد
خاضت في هذه التهمة بعض الجرائد الفرنسية والمصرية ، وهي تهمة باطلة سببها
اعتقاد جميع الشعوب أن الإنكليز هم شياطين الإنس ، لا تقع فتنة إلا بدسائسهم
ووساوسهم ، وهم يستفيدون من هذه التهمة لأن فرنسة تضطر بتصديقها لذلك إلى
استعتابهم واسترضائهم بمساعدة تبذلها لهم ، أو مصلحة لها تنزل لهم عنها ، كما
نزلت لهم عن الموصل حتى لا يعارضوها في احتلال دمشق ، وما يدرينا أنهم
يحتاجون الآن إلى مساعدتها على الترك في مسألة الموصل أيضًا ، وأنها ستبذل لهم
هذه المساعدة كما بذلت لهم الموصل نفسها ، وكانت من نصيبها في معاهدة سايكس
بيكو .
إن الإنكليز لا يمكن أن يساعدوا الدروز ولا غيرهم من السوريين على قتال
فرنسة ؛ لأنهم يعلمون أن الذي يتجرأ على قتال فرنسة يتجرأ على قتال إنكلترة ،
فإنها ليست أعظم من فرنسة قوة عسكرية بل دونها ، وكيف يساعدونهم على ذلك
وهم يطمعون في أخذ بلادهم كما قال أحد كبار رجالهم لعربي يثق بإخلاصه لهم وقد
سأله : كيف تتركون سورية لفرنسة وهي بين فلسطين والعراق ، فقال له : هل
رأيت إنكليزيًّا يلبس ثوبًا مرقعًا ؟ قال : لا ، قال : فافهم .
أنا أؤمن بأن الإنكليز يعتقدون أن مآل سورية لهم ، كما أؤمن بأنهم ليسوا هم
المحركين للثورة السورية وأنهم لم يساعدوها ، وأنهم لا يرون من مصلحتهم ظفر
الثوار بفرنسة ، ولا أن يتفقوا معها ، وأنهم يتمنون لو تقلل عدد المسلمين والدروز
في سورية ، ولا يكرهون أن تستبدل الأرمن بالدروز في حوران ثم لبنان ، كما
تفعل هي في تغليب اليهود على العرب في فلسطين ، وأؤمن مع هذا بأن الثورة
تمهد لهم السبيل لما يعتقدون من المآل الذي ذكرناه ، ولما هو أبعد منه ؛ لأنه يورث
العداوة ويورث الحقد بين فرنسة والسوريين وكذا سائر العرب والمسلمين ، فإذا
يئس السوريون من الاستقلال الصحيح فإنهم لا يرون بدًّا من توطين أنفسهم على
الانضمام إلى العراق وفلسطين لما في ذلك من الفوائد الاقتصادية والأدبية والقومية ،
فإذا اتحدت سورية الكبرى مع العراق يكون المجموع دولة عربية غنية ، فأي
سوري أبله يفضل على ذلك ما تفعله فرنسة من جعل سورية الصغرى عدة شعوب ،
لكل شعب منها حكومة تسمى دولة ، وهي سخرية لا يجهل عوام الحراث والعمال
سببها والغرض منها .
إن للإنكليز حزبًا في سورية يستطيعون دفعه للعمل في كل وقت ، ولا يوجد
أقوى منه في البلاد إلا حزب الاستقلال المطلق ، وهم لا يدفعونه إلى العمل إلا عند
ارتفاع المانع ووقوع المقتضي ، وهم مشهورون بانتظار الفرص والوثوب عليها
عند سنوحها ، وفرنسة تقرب لهم الزمن ، وتمهد لهم السبيل ، وما هذه بالأولى لها
في ذلك ولا بالثانية ولا بالثالثة ولا بالرابعة .
كنت مرة أتكلم مع أحد فضلاء المصريين منذ بضع عشرة سنة في خداع
الإنكليز للفرنسيس فقال لي : كان يعلمنا التاريخ في المدرسة الخديوية عالم فرنسي
باللغة الفرنسية قبل تحويل التعليم إلى الإنكليزية ، فذكر مرة مسألة تاريخية من هذا
القبيل ، وقال عقب ذكرها : قد خدعنا الإنكليز في ذلك فانخدعنا ، ثم ذكر في سنة
أخرى مسألة مثلها وقال هذا القول ، فذكرته بالمسألة الأولى وقلت له : وكيف
انخدعتم لهم ثانية وقد علمتم أولاً أنهم خدعوكم ؟ قال : وهل وقف الأمر عند هذا
الحد ؟ كلا ، إنهم سيخدعوننا أيضًا فننخدع .
لا يحسبن أحد أنني أقول هذا للإيقاع بين الدولتين كما هو دأب كتاب السياسة ،
إنني لست مغرورًا بنفسي إلى هذا الحد ، إنما أنا أكتب ما أعتقد ، ولست أستنبط
اعتقادي هذا من الثورة السورية الحاضرة ، بل أنا أعتقده منذ علمت بنبأ معاهدة
( سايكس بيكو ) في اقتسام الدولتين لبلادنا ، وقد قلته لكثيرين أذكر منهم شاهدين
سوريين وشاهدًا فرنسيًّا :
إنني عقب هدنة الحرب الكبرى وبعد احتلال فرنسة لسواحل سورية ابتعت
طائفة من الأقمشة لإرسالها إلى أهل بلادنا ( القلمون ) بجوار طرابلس الشام ؛
لكسوة من تركتهم الحرب فيه عراة لا يجدون ما يكتسبون به ، فقيل لي : إن فرنسة
تمنع ذلك ، ولا بد من إذنها ، فذهبت إلى دار معتمدها السياسي لطلب الإذن ، فلقيت
عند السكرتير الشرقي للمعتمد ( وهو فرنسي يعرف العربية ) حقي بك العظم
و خليل أفندي زينية المشهورين ، فجرى بيننا حديث في موضوع سورية أفضى
إلى أن قلت للثلاثة : إنكم تعلمون أنني داعية استقلال لوطني ، لا أرضى بحماية
ولا وصاية من فرنسة ولا إنكلترة ، وأقول لكم الآن : إنني أعتقد اعتقادًا مبنيًّا
على طول التفكر والتروي أرجو أن تسمعوه وتكتبوه في مذكراتكم ، وتدَعوه
للزمان يصدقه أو يكذبه ، وهو أن سورية لن تكون في المستقبل لفرنسة ، بل هي
ستكون مستقلة خالصة لأهلها إن شاء الله ، أو لإنكلترة لا سمح الله .
ولا يستطيع أحد من الفرنسيس ولا من أشياعهم أن يتهمني بأنني من حزب
الإنكليز أو أبث الدعوة لهم ، فإنهم جميعًا يعلمون أنني خلفت أستاذنا الأكبر السيد
جمال الدين في الجهر بمعارضة السياسة البريطانية في المسألة العربية والمسألة
الإسلامية بما يعلمون من الشدة ، وأنني ما اشتددت في معارضة سياسة الشريف
حسين وأولاده لجهلهم وظلمهم وسوء تصرفهم فقط ، بل ذنبهم الأكبر أنهم صنيعة
الإنكليز ويعملون لهم ، وقد صرحت لكل من كلمته في هذه المسألة من كبار رجال
فرنسة كغيرهم بأننا نعلم كغيرنا من الواقفين على أحوال الدول والأمم أن إنكلترة
ألين ملمسًا وأحسن سيرة في الاستعمار من فرنسة ، كما يشهد بذلك الدكتور
غوستاف لوبون أكبر فلاسفة الاجتماع والتاريخ في فرنسة نفسها ، وكنا نعلم هذا
قبل أن نقرأ كتب هذا العالم الكبير ، وقبل أن نرى في بلادنا شرًّا مما كنا نسمع
ونقرأ من أخبار مستعمراتها الإفريقية ، فماذا نقول اليوم ؟ وقد عملوا في الشام ما لم
يسمع بشر منه في تاريخ الشعوب الهمجية كلها إلا أن تكون فظائع التتار ، ولقد ثار
أهل العراق وأهل مصر في وجوه الإنكليز ، وقتل العراقيون في ثورتهم من الجنود
البريطانية أكثر مما قتل السوريون من الجنود الفرنسية أضعافًا ، ولم تفعل جنود
إنكلترة في القاهرة ولا في بغداد مثل ما فعلت جنود فرنسة في دمشق وحماه ، دع
تدميرها لقرى الفلاحين على رؤوس أطفالهم ، نعم إن الإنكليز فعلوا نحوًا من هذا
في الهند ، ولكنهم لم يبلغوا شأو الفرنسيس ولا قاربوا .
وجملة القول في هذه المسألة أن فرنسة تمهد لإنكلترة في سورية اليوم كما
مهدت لها في مصر من قبل بطبعها لا بطوعها ، وإنها لن تستطيع أن تبقى في
سورية إلا تحت رحمة الإنكليز ولهذه الرحمة أجل وغاية ، وإنها لا بد أن تؤدي لهم
على سكوتهم عنها إلى منتهى ذلك الأجل أجرًا أو جعلاً أو مكافأة كلما أرادوا ذلك
منها ( أو كلما دق الكوز بالجرة ) وأن ما أشير عليها به من الاقتداء بعمل الإنكليز
في العراق لن يجعلها إن فعلته مساوية للإنكليز في نظر السوريين بحيث يفضلون
بقاءها في سورية على اتحاد سورية الكبرى بالعراق ، ولو تحت وصاية الإنكليز أو
رعايتهم ، وإنما الذي يمكن أن يفضلها به السوريون ويتبعهم فيه جميع العرب وكذا
جميع المسلمين هو شيء آخر معقول عندنا ، ويمكن أن يعقله الفرنسي في فرنسة لا
في سورية ، فإن الفرنسي إذا جاء سورية تبدل عقله وشعوره ؛ لأنه يصير ملكًا
مطلقًا يتمتع بجميع ما يشتهي في هذه الأرض فينسى مصلحة فرنسة لا مصلحة
سورية فقط ، وقد ذكرته لأحد كبار رجالهم في مصر فوافقني عليه ، ولكن أمر
تنفيذه ليس إليه ، الذي يرضون به هو الاستقلال الحق المطلق مع مساعدة
كالمساعدة التي بذلوها لمحمد علي باشا ، وهم يبذلون لفرنسة من الجزاء المادي
والأدبي عليه ما هو خير لها من هذا التحكم الجائر بسلطانهم القومي والتصرف
القاسي ، الذي يتلذذ به موظفوها المعددون ، وتخسر هي من أموالها ورجالها
وصيتها الأدبي ما ذكرناه في أوائل هذا المقال .
( للمقال بقية )
 
رمضان - 1344هـ
أبريل - 1926م
الكاتب : محمد رشيد رضا

رمضان - 1344هـ
أبريل - 1926م

مكان الإسلام من مسلمي الزمان
والحكم عليهم بنصوص القرآن

هو نص كتاب خاص أرسله الأستاذ -رحمه الله تعالى - إلى أحد خواص
العلماء من أعضاء الجمعية السياسية الإسلامية التي كانت تصدر جريدة العروة
الوثقى في باريس عقب احتلال الإنكليز لمصر . وهو من أجلّ كتبه الدينية
الإصلاحية ، بل من أبلغ ما قال أو كتب أئمة الدين وعرفاء الصدِّيقين ، من
المواعظ والنُّذر ، والآيات والعبر التي تنير البصائر وتطهر السرائر وتُزيِّل
بين المؤمن والكافر ، وتفرّق بين البر والفاجر ، فهي ميزان الإيمان ، ومسبار
العرفان ، وهذا نصه منقولاً من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخه رحمه الله .
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة
سرني ما نقل إلي كتابك أنك استجبت لربك فيما دعا إليه عموم خلقه بقوله:
{ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ } ( الأنعام : 11 ) وإنما يستجيب إليه أهل الرغبة فيه ،
ولقد حمدت الله أنك لم تجعل سيرك سير الغافلين ، ولم تمر على ما لاقاك مرور
الذاهلين ، بل استعملت بصيرتك ونظرت فيما قام لك من أحوال الناس ، لتعلم ماذا
أبقت الحوادث فيهم من الاستعداد لقبول الحق والميل للرجوع إليه ، وما أظنه
ذهب عليك أيام كنت تقلب عين اعتبارك في أطوار أولئك المحجوبين ، إن ما هم
فيه لا تختلف عن عواقب المكذبين ، الذين يأمرنا الله بالنظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وما أحل الله بدارهم من بوار ، وما ألحق بعمرانهم من دمار ، وما ألصق بذكرهم
من عار وشنار ، وكيف يختلف الحال عن الحال ، وإنما التكذيب أثر غين يُغشي
عين القلب ، فيواري عنها وجه الحقيقة ، فتعمه ظلمة أشبه بظلمة الخسوف تعلو
وجه القمر ، فإذا أظلم القلب وهو مستودع السر الذي به كان الإنسان إنسانًا فقد أظلم
الإنسان كله ، وذهبت قواه تخبط في أفاعيلها على غير هدي ، وتعسر عليها أن
تلزم طريق الحق والصراط المستقيم .
وهذه الحال كما تراها فيمن ينكر الحق بلسانه ، ويكذب الداعي إليه
بإنكار بيانه . تراها بعينها في هؤلاء المخدوعين الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله
وبرسوله وبكتابه ، ثم هم في أعمالهم وآمالهم أبعد الناس عن سننه ، وأشدهم التواء
على أمره ونهيه ، وقد علمت أن الله لم ينظر إلى قوم يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم ، وأن اليهود لم ينفعهم أن آمنوا بموسى وخلفائه من الأنبياء ، وبما جاءوا به
من الوحي الإلهي إيماناً يحاكي ما يدعيه المسلمون في هذه الأوقات : كان اليهود
يعرفون موسى نبيًّا لهم ، والتوراة وكتب الأنبياء هدايات من الله لعقولهم ، كما يعرف
المسلمون ذلك في كتاب الله تعالى ، ولكن الله نعى إلينا أحوالهم في مزاعمهم فقال:
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( الجمعة : 5 ) . فقد جعل
تأويلهم التوراة وصرفهم لألفاظها إلى غير ما أراد الله بها وحَيَدَانهم عن العمل بما دعت
إليه تكذيباً بآيات الله ، وجعل نقضهم لما حُمِّلوا من أحكامها مروقًا منها حيث
قال ( لم يحلموها ) وجعل تصديقهم بها على هذا الوجه بمنزلة احتمال حمار
لأسفار ، فهو في عناء من ثقلها ، على بعد من فائدة ما أودع فيها . أفليس هذا النبأ
بعينه يحدث عن أحوال المنتحلين اسم الإسلام في هذه الأيام ، وأنهم حملوا القرآن
الكريم ثم لم يحملوه ، إلى آخر الآية ؟ ألم يكن في ظلم أهل هذا العنوان
وجمودهم عن حدود الله ما يستحقون به تسجيل الضلالة عليهم كما سجلت على
اليهود في قوله ( والله لا يهدي القوم الظالمين) ؟ وأشد الظلم ظلم النفس
بعدولها عن سنن الحق .
ألا يصدق عليهم أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ؟ ألا
ينعي حالهم { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } ( الحشر : 14 ) ،
ألا يحكي جهلهم { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ } (البقرة : 78 ) أي أنهم لا يعلمون منه إلا أن يتلوه تلاوة بغير فهم ، فإن
طلبوا شيئًا من المعنى لم يكونوا فيه على بصيرة أن يظنون إلا ظنًّا .
إني أستلفتك إلى أولئك الذين يتناولون مصاحف القرآن الكريم بأيديهم
خصوصاً في شهر رمضان ، ثم يطفقون يلوكونه بألسنتهم ويزعمون أنهم يتقربون
إلى الله بترنمهم ، ويصعدون إلى منازل القرب عنده بنغماتهم ورنين أصواتهم ،
ويجعلون كل همهم في هز رؤوسهم ، والتوفيق بين الهزات وتموج النغمات وما
شاكل ذلك من لواحق الصور والهيئات ، مما قد يعجب له عرفاء الدين ، ويستغرب
حدوثه في المسلمين أهل اليقين لبعد النسبة بينه وبين دينهم ، والمنافرة الثابتة بينه
وبين مقتضى إيمانهم ، حتى إذا انصرف أولئك القارئون والتمسوا من قلوبهم
عبرة مما قرأوا أو عظة مما سمعوا ، لم يجدوا من ذلك قليلاً ولا كثيرًا ، بل
رجع كل منهم إلى هواه ، وأوى إلى قعيدة نواه ، وما كان قد انصرف عن وساوسه ،
ولا انقطع عما استحكم سلطانه في نفسه من شياطين أهوائه ، إلا في ظاهر ما
يرى للناظر ، وإذا سئل أحدهم عن شيء من معنى ما قرأه التجأ إلى الجهل ، أو
خبط في مضلة من الوهم ، وإذا قيس عمله إلى أحكام ما يقرأه ، وجدت تبايناً كما
بين الإسلام والكفر ، فبالله إلا ما أجبتني : هل تجد فرقًا بينهم وبين اليهود فيما قص
الله عنهم في قوله ( ومنم أميون ) ؟ إلخ . ألا تجد الوصول إلى الفرق نزر
الوسائل ، متعذر الذرائع ، ولو سردت من أحوال اليهود والنصارى والمشركين
التي قص الله علينا تحذيراً لنا من التدنس بمثلها ووضعتها مع أحوال المسلمين في
كفتي ميزان ألا ترجح أحوال المسلمين سوءًا على أحوال أولئك الضالين ؟
أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر على كفره ، وفتنة له يضل بها عما
أقام الحق من أعلامه ، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به
الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا ، واستبقى لهم ما لا نهاية له
من الشقاء في الآخرة ، ظهر فيهم بصور مختلفة ، ثم جاء في أكمل صورة ببعثة
خاتم الأنبياء ، مستتمًّا لنوره مكملاً لأمره ، لتقوم به الحجة ، وتتضح به المحجة ،
وأصحب هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس ، وأنفى للشك من ضوء
البدر لظلام الليل - رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي : لو كان
الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به ( في زعمهم ) على ما نرى من
فساد الأخلاق وسقوط الهمم ، وضلال العقول ، هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين
كفروا ، والله ينبهنا على ما صرنا إليه بتعليمه إيانا كيف ندعوه إذ يقول { رَبَّنَا لاَ
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } ( الممتحنة : 5 ) وما كان تعليمه الدعاء إلا لنتوسل
بالعمل إلى ما نطلب منه ، ثم ندعوه المعونة على ما نقصد من موافقة رضاه ، فلو
فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر ، وجعل ورده ليله ونهاره { رَبَّنَا لاَ
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } ( الممتحنة : 5 ) ولكان همه في أن يكون بكماله قذى في
عين أعدائه ، لا أن يكون حقيرًا في أعينهم ، ضحكة لهم في محافلهم .
ولقد حدث في هذه الأيام الأخيرة أن قسيسًا إنكليزيًّا[1] هداه البحث إلى شيء
من محاسن دين الإسلام فأخذ يبث ما علم في الجرائد الإنجليزية وفي المحافل الدينية
في إنكلترا ، إلا أنه يصعب عليه أن يعلن إسلامه ، ويصرح بحقيقة إيمانه لأنه
يخاف أن تطول إليه أيدي الاعتداء من قومه وهو يدعو إلى الإسلام تحت حجاب
أنه لا يخالف المسيحية الحقيقية بل هو متمم لها ، وله فيما يدعو إليه شيعة تنمو في
لندرا ، وبيننا وبينه مخاطبات لتشجيعه وتقريبه من حقيقة الإيمان ، ولا نعلم اليوم
ماذا يكون من نهاية أمره ، وله معارضون كثيرون من الإنكليز وغيرهم ، وإذا
تقصيت البحث في جميع حججهم لا تجد في مقدماتها إلا ما يكون راجعًا إلى ما عليه
المسلمون الآن من الأخلاق والعوائد والأفكار ، وكلما جاء الرجل لهم بشيء من
أحكام كتاب الله أو بأثر من آثار المسلمين الأولين .
رأيت أولئك الجاحدين يقابلونه بأحكام يعدها المسلمون من حدود دينهم ، يعولون
عليها في أعمالهم ، وهي مقصية لهم عن الكمال ، ساقطة بهم عن أدنى مراتب
الرجال ، فكلما ردهم إلى الله ورسوله ردوه إلى أحوال المنتسبين إلى هذا الدين
القويم ، وهم عاره ، وبهم يهدم مناره ، وتخفي آثاره ، لو بقى في أيديهم أمره ،
غير أني أرى الله سيحول أمر دينه عن هؤلاء الذين لبسوا على أنفسهم ، وانقلبوا فتنة
لغيرهم ، ثم ينتقم منهم بأيدي الظالمين والصالحين { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } ( الأنعام : 89 ) - { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (محمد : 38 ) فهنيئاً لمن أعد نفسه ، وسبق
تعسة ، فشحذ همته ، وطهر نيته وقوم إرادته واستجمع عزيمته ، للقاء ركب الله
الذي سيفد عليه ، فيكون إما راجلاً في مشاته ، أو فارساً من كماته ، أو خادمًا في
حاجاته ، أو سيدًا في رياساته ، ولا يكون شيئًا من ذلك حتى يكون الله ورسوله
أحب إليه من نفسه ، وحتى يكون كتاب الله أصدق الشاهدين له لا عليه ،
وحاشا كتاب الله أن يشهد إلا لمن لبّى دعوته ، وقبل شهادته ، ونصبه إماماً في
محراب الوجود يتبعه بصره ، ويحذوه في سيره ، يقوم إذا قام ويقعد إذا قعد يعظم
ما عظم ويحقر ما حقر ويطلق ما أطلق ويقيد ما قيد ، ثم أقام له من زواجره خطيبًا
إلى قلبه ، وواعظًا يصدع بأمر ربه على منبر لبه ، يعلمه إذا جهل ، ويوقظه إذا
غفل ، ويذكره إذا ذهل ، ويحثه إذا كسل ، ويسرع به إذا أبطأ ، وينهضه إذا تلكأ
ويستلفته إلى الصواب إذا أخطأ ، يهديه إذا تحير ، ولا يعدو به الخير إذا تخير ،
يرد جماحه إذا جمح ، ويكف من غربه إذا طمح ، حتى يقيمه على الصراط السوي
ويصعد به إلى المقام العلي ، وكيف يستعمر القرآن قلبًا تشغله الأهواء الباطلة
وتستوكره الرغائب الزائلة ؟ إن القرآن طاهر لا يجاور إلا طاهرًا ، وقويم يأبى أن
يساكن جائرًا ، زكي لا يأنس للأرجاس عليّ يأنف من مقاربة الأدناس ، فلا عجب
إذا استوبل المقام في هذه القلوب المحتشية بالعيوب وتركها وشياطين الوساوس
تخبط بها في مخاري الدنيا ومهالك الآخرة .
يا عجبًا لمن يدعي الإسلام ، وهو يعرف من نفسه أن أمرًا لو جاءه من أصغر
الحكام عليه بلغة غير لغته لما قرت له راحة ، ولا اطمأنت به نفس ، حتى يقف
على ترجمته . ولا يكتفي بمترجم واحد حتى تكون ثقته به كثقته بنفسه وإلا راجع
ثانياً وثالثاً طلباً لدقائق المعاني لا يفوته شيء مما حواه أمر آمره فيقع في مخالفته
إلى غير هواه ، وكلما عظم مكان الأمر أشتد الحرص على استجلاء مراده ، خشية
الوقوع في حداده ، أو ما يبعث الظن إلى التحرش بعناده ، وقد يكون الأمر مما
يضره ولا ينفعه ، ويخفضه ولا يرفعه ، كل ذلك للبعد عن مساخطه والارتياح إلى
مراضيه - هذا وهو يزعم الاعتقاد بأن القابض على ناصية أمره هو الله سبحانه
وتعالى وهو المقلب لقلبه والآخذ بعنان إرداته . ثم هذا أمر سام ورد له من عليّ
متعال ، رب الأرباب ومخضع الرقاب ، قهار السماوات والأرض ، الذي لا ترد
مشيئته ، ولا تخالف إرادته .
الكتاب المجيد يتجلى به في منازل الرحمة ، ويستفيض من ديم النعمة ، ويقيم
به على السعادة أعلامًا ، ويضع لاجتناء ثمر الكرامة أحكامًا ، ويعد المستجيبين
لأمره هذا - وهو القادر على كل شيء - أن يمكن لهم في الأرض ، ويخدمهم أهلها،
ويجعلهم الأعلين فيها ، وأن تكون عزتهم مقرونة بعزة الله ورسوله ، وأن لايبيد
سلطانهم ، ما ثبت إيمانهم ، ولم يَشُبْه كفرانهم ، كما قال: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } ( النور : 55 ) .
وليس في المواعيد السماوية أصرح مما وعد الله في كتابه المبين ، ولا أقطع
للشبهة منه . ثم زادهم على ذلك نعيمًا أبديًّا ، وأوعدهم في المخالفة خزيًا دنيويًّا ،
وشقاء سرمديًّا ، والذين يكفرون ، وسجل عليهم أنهم الفاسقون ، هم الذين تبطرهم
النعم فتستزلهم عن مقامات الشكر . ثم تنتابهم الغفلة فيعدلون عن سبيل الذكر الحكيم،
ومن فسق عن أمره أحل به غضبه وأنفذ فيه عامل انتقامه وسلبه ملابس
إنعامه ، إما بشقي مثله أو ولي من أهله . ثم ضاعف له العذاب يوم القيامة ،
وأخلده فيها مهانًا ، إلا أن يتوب فيغفر له ما قد سلف . ويعلم المخدوع أن صاحب هذا
الأمر العلي مطلع على السرائر ، بادية لعلمه صفحات الضمائر . ومع هذا وذاك لا
يتفهم أحكامه ، ولا يتبع أعلامه ، وينبذه وراء ظهره ، كأن لا علم له بنهيه وأمره ،
ويمني نفسه أن ينال ما ادخر الله لأوليائه إذ قصرت همته عن نيل سعادة الدنيا ليتنعم
به في الآخرة ، شهوة تحول دونها أعماله ، وأحلاماً تنافي صدقها أحواله . وما
أعجب حال من يزعم الإيمان بالله ولا تفنى أهواؤه في إرادته ، ولا تضمحل
نشزات طبعه لمهابته ، ولا تتضاءل عزائم نفسه لعظمته ، ولا يجعل القسم الأعظم
من حياته للسعي في مرضاته ، ولا يبذل من نفسه وماله ما لا يخسره في مآله .
حدثتني عن اليائسين من علية ( ق ) - وأشباههم فهؤلاء لم ييأسوا من الله ،
حتى ساء به ظنهم ، وما ساء ظنهم حتى انتقض إيمانهم ، فحالهم حال القائلين { مَّا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } ( الأحزاب : 12 ) ورويت لي عن أهل النفرة
سكنة ( س ) فهؤلاء بقيت فيهم بقية لابد أن يؤيدوها بالعمل ، ولا مكمل لما بقي
فيهم إلا رجوعهم إلى الله ورسوله ، ولن يرجعوا إليه حتى يكون مزاج وحدتهم ،
وحبل اعتصامهم كتاب الله ، يهزون به هممهم ، ويلمون به شعثهم ، ويشهدون الله
أنهم نصروه في الأحوال والأعمال ، فينصرهم في مواطن الجلاد ومواقع الجدال .
إن كنت وثقت بشيخ الإسلام الذي ذكرته فخذ العهد عليه ، وسق إليه ببعض
كتابي هذا أو بكله إن رأيت ذلك ملائمًا لحاله ، وإلا فزدني فيه بصيرة فاكتب إليه
بما يلهمه الله .
وافِني بكتبك بما أمكن من السرعة ، ولا تبطئ عليّ بعد الآن والسلام .
__________
(1) هو إسحاق طيار ، وفي الكتاب بعض مكتوبات الأستاذ له .
(27/33)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا


رمضان - 1344هـ
أبريل - 1926م
فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر


{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } ( النساء :89 )
يود ملاحدة الكماليين من الترك لو يقتدي بهم مسلمو العرب في العراق
وسورية ومصر ، ومسلمو العجم من سائر الترك والتتار والأفغان والفرس ،
فيتركون الإسلام مثلهم ، ويجعلونهم أئمة في اللادينية لهم ، ويظن أولئك الملاحدة
أنهم ينالون بكفرهم من الزعامة في الشرق ما لم تنل مثله الدولة العثمانية بإسلامها
التي يحتقرونها لأجله ، ويحاولون إخفاء ذكرها وذكره وتشويه تاريخها وتاريخه ،
وهم يبثون الدعوة إلى الإلحاد ، ويجرءون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام
واحتقار تشريعه وآدابه ، ولبس قلانس الإفرنج ( البرانيط ) لأنها الزي العام لهم ،
والمميزة بين المسلمين وبينهم ، ولأنها مانعة من سجود لابسها في الصلاة .
وقد علمنا والأسف والعجب يملأ القلب أن بعض السوريين والمصريين الذين
لا يزالون يحتقرون أنفسهم ويفضلون الترك على قومهم ، يميلون إلى تقليدهم في
ذلك ؛ لأنهم مثلهم في الكفر والتعطيل وعدم الشعور بالرابطة الدينية ، ودونهم في
النعرة القومية والعصبية الجنسية ، ولو كان لهم كرامة دينية أو قومية لشعروا
بكليهما أو بكل منهما أنهم أشرف من الترك وأولى بأن يكونوا قدوة لهم ، فهم
أكرم عنصرًا وأجل أثرًا في الدين والحضارة سواء كانوا من العرب أو من قدماء
المصريين .
على أن هؤلاء الملاحدة قلما يثبت لهم نسب صحيح في الشعب التركي الذي
صار عريقًا في الإسلام ، بل هم أو شاب منهم الروسي والرومي والبلقاني
واليهودي الأصل ، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب بدعاية العصبية الجنسية ،
ومحاولة جعله كأرقى الشعوب الأوربية علمًا وحضارة بقوتهم العسكرية ،
وترجمتهم للقوانين الأوربية ولبسهم البرنيطة الإفرنجية ، وهذا جهل فاضح وخبث
واضح . فإن أحوال الأمم وأطوارها لا تتبدل بتقليد غيرها في قوانينه
وأزيائه ، مع مخالفته لها في تاريخه وتربيته وعقائده ، كما هو معلوم عند علماء
الاجتماع .
وقد روى لنا الثقات الخبيرون منا ومن الأوربيين أن السواد من الترك
يمقتون هؤلاء الكماليين ، أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديين ، وأنهم
يتربصون بهم الدوائر ، بل أكد لنا بعض الذين عاشوا في الآستانة أو الأناضول
عدة سنين أن جمهور الشعب التركي كان يتمنى -منذ خرج الشريف حسين على
الدولة- لو تجددت للعرب دولة تنقذهم من الكفر وتستولي على بلادهم ، بل
قالوا : إنهم صاروا يفضلون أية دولة أوربية على حكومتهم المعاصرة .
أفليس من العجب أن يكون هذا شعور الترك في وطنهم ، ثم يوجد في سورية
من يمتهن نفسه بتقليد ملاحدة الكماليين ، ويطب التجنس بجنسيتهم الجديدة المذبذبة
التي لا ثبات لها ولا استقرار ، ويتخلى لأجلها عن دين القرآن وهداية الإسلام ،
وأشرف لغات الأنام ؟ ؟ { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ( البقرة :
61 ) { فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( البقرة : 85 ) .
***
( آراء الإنجليز في العالم الإسلامي )
جاء في برقية من لندن إلى الأهرام في 10 أبريل ما ترجمته :
نشرت جريدة ( الديلي نيوز ) اليوم مقالاً لمكاتب تكلم فيه عن إمكان تأسيس
جمعية أمم إسلامية ثم قال :
( إذا تألفت هذه الجمعية فإن الأقطاب الذين يسيطرون عليها هم من أعظم
الرجال الذين عرفهم العالم في هذا العصر جرأة وإقدامًا وشهرة ، ولابد أن تقلب
الحركات التي يديرونها الآن بين شعوبهم وجه العالم الإسلامي في خلال ربع القرن
المقبل ، ولو لم تتمكن من تأليف جمعية أمم .
إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر هو في طور انقلاب عظيم يشبه الطور
الذي مرت فيه أوربا عندما تلاشت الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، وخلفت
بعدها شعوبًا رغب كل منها أولاً في الانفصال عن الآخر . فإذا استطاع أولئك
الرجال أن يؤلفوا جمعية أمم إسلامية ، ويقيموا منها سدًّا في وجه السيطرة
الأوربية ، فقد تتقوض أركان الحضارة الغربية ) .
وهنا تكلم الكاتب عن زعماء العالم الإسلامي وقال : ( إن عبد الكريم أحد
الأقطاب في أقوى حركة موجودة على وجه البسيطة الآن ، وهي الحركة التي تقوم
بها الأمم المحكومة للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها ، على أن الإدارة الاستعمارية
البالغة منتهى القوة والمقدرة في الجزائر وتونس وطرابلس قد جعلت الحركة
القومية في هذه البلدان في منتهى الضعف .
وزغلول باشا أول حاكم حكم مصر بعد حصولها على نظام ذاتي بعدما تغلب
الفرس على الفراعنة منذ 2400 سنة ، وهو أول رئيس وزارة منتخب في بلد
إسلامي ديمقراطي في التاريخ كله ، وقد شهدت بنفسي جماهير غفيرة من الطلبة
المسلمين تتدفق كالسيل العرم في شوارع القاهرة ، وتسير إلى منزل زغلول باشا
وأصواتها تشق كبد الفضاء بالهتاف له . إن هؤلاء الفتيان ليسوا سوى زبد يعوم
على بحار الحركات القومية الزاخرة في العالم الإسلامي . وليس زغلول باشا ومصر
سوى نور ضئيل بإزاء نيران مصطفى كمال باشا والحركة القومية التركية .
ويمثل مصطفى كمال باشا في تركية اللادينية دور موسوليني في إيطاليا ،
ولكنه مكروه من ابن سعود العاهل العربي العظيم الذي يسير في طليعة الحركة
القومية العربية ، وهو زعيمها الحربي . ولعله أقدر وأقوى شخصية ظهرت في
العرب منذ عهد النبي الهاشمي ، وهو في الوقت ذاته صديق حميم لبريطانيا .
وأما إيران فإنها آخر معقل للفتور الذي أصاب العالم الإسلامي ، ولكن الشاه
رضا خان يبث فيها الآن روحًا قومية جديدة .
وفي الهند ثمانية وستون مليوناً من المسلمين تقتسمهم حركتان لا يمكن التوفيق
بينهما ، فهم يتمسكون بالمبدأ القومي ، فلا بد لهم من أن يكونوا هنودًا وهم مسلمون ،
ولذلك يعدون من ضمن العالم الإسلامي .
( وفي جزائر الهند الشرقية الهولندية 35 مليونًا من المسلمين ، يرسلون كل
سنة عشرين ألفاً من الحجاج إلى مكة ، ويعودون منها أعظم تمسكًا بالإسلام ،
فالحركة الإسلامية في جاوى تعدّ والحالة هذه من أعظم الحركات حماسة في العالم
الإسلامي .
فإذا وضعنا هذه الحقائق أمامنا وتأملنا فيها استخرجنا منها ما يأتي :
1- إن الحركة القومية في العالم الإسلامي قد تفوقت لأول مرة في التاريخ
على رابطة الإخاء في بيت الإسلام ، وانتثرت كنانة مشروع الجامعة الإسلامية
القديمة ، وظهرت منها سهام الحركات القومية .
2 - لم يظهر حتى الآن أي دليل على التحالف بَين هذه الحركات ، فلا
مصطفى كمال باشا ولا الملك ابن سعود يقبل أن يكون الملك فؤاد خليفة .
3 - إذا حاولت الدول الغربية أن تسيطر على هذه الأمم وتستغلها فإننا نسوقها
إلى تأليف عصبة ضد العالم المسيحي في الغرب .
فيجب على سياسة الغرب وتجارته أن يتخليا عن كل رغبة في السيطرة ،
ويقبلا موقف التعاون بكل ارتياح وإخلاص ، ونحن في حاجة ماسة إلى مساعدة هذه
الشعوب وإعداد زعمائها لحكمها حكمًا ذاتيًّا سلميًّا .
ولا شك أن الجامعات الأمريكانية في القاهرة والآستانة وأزمير وبيروت قد
خطَت الخطوات العظمى حتى الآن في هذا السبيل . وفي الكليات والمدارس
الإنكليزية في فلسطين ومصر والعراق وإيران نحو خمسة آلاف طالب قد يخرج
منهم زعماء في العالم الإسلامي ، فهم يتعلمون الآن ويرقون مواهبهم الطبيعية ،
وسيكونون جسرًا بين العالم الإسلامي الجديد والعالم المسيحي الجديد ) اهـ .
فليتأمل .
***
( الاحتفال بعيد المقتطف الخمسيني )
جاءنا من سكرتيرة لجنة الاحتفال ما يأتي :
حضرة العلامة صاحب مجلة ( المنار ) المفضال :
أتشرف أن أقدم مع هذا بيان تأليف لجنة مركزية في آخر يونيو سنة 1925
للاحتفال بيوبيل المقتطف الذهبي ، والنداء الذي وجهتْه اللجنة إلى الأدباء والشعراء
والعلماء ليشتركوا في هذا اليوبيل . وقد نشرنا هذه الدعوة في مختلف الأقطار
الشرقية كفلسطين وشرق الأردن وشبه جزيرة العرب وسورية ولبنان والعراق
والجزائر والمغرب الأقصى وتركيا وبلاد الفرس والهند وفي الأقطار الأوربية
والأمريكية ، فلبى أهل العلم والفضل هذه الدعوة من كل جانب ووافونا بما جادت
به القرائح شعرًا ونثرًا ، مع رسائل الثناء العظيم على هذا المشروع ، والشكر
للقائمين به وشد أزره ، وقد نوهت به بعض الصحف التركية والفارسية والهندية
والفرنسية والألمانية والإيطالية ، علاوة على الصحف العربية العديدة . وكان
لدعوتنا ، عدا تلك النفثات التي ستجمع في كتاب ( الذكرى ) لليوبيل النتائج التالية :
أولاً : اكتتاب عام اشتركت فيه الجالية السورية واللبنانية في أمريكا الجنوبية
لتقديم هدية تذكارية ، وقد وصلت هذه الهدية ، وهي تمثال فاخر من البرونز ، مقام
على قاعدة من المرمر ، وعليها لوحة من الذهب الإبريز ، نقش عليها بيتان من
الشعر باسم الذين أهدوا الهدية .
ثانيًا : اكتتاب أهالي حاصبيا في البرازيل لتقديم دوانين وقلمين من الذهب
لصاحبَي المقتطف .
ثالثًا : اشتراك الجامعة الأمريكية ببيروت اشتراكًا رسميًّا في هذا اليوبيل
وقرارها أن تقيم احتفالاً حافلاً في منتداها في نفس اليوم الذي يقام فيه الاحتفال
بالقاهرة .
رابعًا : اشتراك جمعيات متخرجي الجامعة المذكورة في مختلف الأقطار
للاحتفاء باليوبيل كل منها بالطريقة المتيسرة لها .
خامسًا : اشتراك أهل طرابلس الشام يرأسه صاحب مجلة ( المباحث ) اشتراكًا
فعليًا ، فيقيمون حفلة في مدينتهم في اليوم الذي يقام فيه الاحتفال في القاهرة .
أما الاحتفال في القاهرة فسيقام بعد رمضان الكريم وسيعلن عن الموعد فيما
بعد . هذا وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم الملك فؤاد الأول -أيده الله-
فشمل هذا اليوبيل برعايته السامية .
فالرجاء يا سيدي أن تفسحوا في صحيفتكم الغراء مكانًا لهذه التفاصيل بعد
نشر نداء اللجنة ليشترك معنا أهل العلم والفضل في مصر ، خدمة للنهضة العلمية
الجديدة ، وتقريرًا لجهود العاملين .
وتقبلوا خالص الشكر سلفًا مع عواطف الإكرام .
... ... ... ... ... ... ... ... سكرتيرة اللجنة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ( مي ) ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... القاهرة 24 مارس سنة 1926
ترون مع النشرة التي مع هذا أنه قد تألفت في مصر جماعة للاحتفاء باليوبيل
الذهبي لمجلة المقتطف تقديرًا لآثارها العلمية مدة نصف قرن . واختارت من بين
أعضائها لجنة تنفيذية لبث الدعوة وتنظيم العمل . واللجنة تود أن يشترك في هذا
الاحتفاء أبناء القومية العربية في أقطار الأرض جميعًا ، لاعتقادها أن ذلك من
رغبات أنفسهم .
وإذا كان الاشتراك بالحضور فعلاً غير متيسر للجميع ، فاللجنة تدعو العلماء
والأدباء والشعراء والجمعيات والمعاهد ، والأندية العلمية والأدبية والنقابات
الصحافية ، وأصحاب المجلات والصحف عامة إلى الاشتراك في هذا الاحتفاء بما
يتيسر الاشتراك به من الحضور بالفعل ، أو بإرسال ما تجود به القرائح من شعر
أو نثر يناسب المقام . وسيجمع المختار مما سيرسل ويلقى في الاحتفال في كتاب
يكون ذكرى هذا اليوبيل الذهبي .
وترجو اللجنة أن يتفضل كل بإرسال بحثه أو قصيدته باسم ( الآنسة مي زيادة
سكرتيرة لجنة الاحتفال بيوبيل المقتطف ، مكتبة المنار شارع زين العابدين رقم 63
بمصر ) على أن يصل قبل 20 أبريل 1926 ، لكي يتسنى للجنة أن تودعه في
كتاب الذكرى .
... ... ... ... ... ... ... ... ... الرئيس
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق رفعت
... ... ... ... ... مصر 26 يونيو ( حزيران ) سنة 1925
اللجنة التنفيذية
الرئيس : حضرة صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف
المصرية العمومية سابقًا ( ووزير الأوقاف الآن )
الأعضاء
صاحب السعادة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية .
صاحب السعادة أحمد شوقي بك .
صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ورئيس المؤتمر السوري .
صاحب الفضيلة السيد مصطفى عبد الرازق المفتش بوزارة الحقانية .
الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة .
صاحب السعادة السر سعيد شقير باشا مدير عموم حسابات السودان .
السكرتيرة : الآنسة مي زيادة .
***
( المنار )
كانت الآنسة مي زيادة المشهورة في عالم الأدب العربي والغربي صاحبة السبق
إلى هذه العناية بتكريم العلم والعلماء ، فدعت إلى دار والدها طائفة من أهل
العلم العصري ، واقترحت عليهم السعي للاحتفال بمرور خمسين سنة على مجلة
المقتطف الشهيرة ، فأجمعوا على القبول وانتخبوا لجنة منهم لتنفيذ ذلك . وسيكون
الاحتفال بمصر في مساء 30 أبريل الحالي ، وسنعود إلى الكلام عليه إن شاء الله
تعالى .
(27/71)
 
رمضان - 1344هـ
أبريل - 1926م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
( الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم )
قد علم قراء المنار من مجلد المنار السادس والعشرين نبأ جرأة الشيخ علي
عبد الرازق الذي كان من علماء الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية على نشر كتاب
باسم ( الإسلام وأصول الحكم ) حاول فيه هدم شريعة الإسلام من أساسها والإباحة
المطلقة للمسلمين بأن يختاروا لأنفسهم من الشرائع ونظم الحكم ما شاءوا من غير
تقيد بنص كتاب إلهي ولا سنة نبوية ، ولا هدي سلف ، ولا اجتهاد إمام متبع
بالأولى .
وعلموا أننا أول من انتدب لتزييف هذا الكتاب وإبطال كفره وضلاله ،
وتحريض علماء الأزهر وغيرهم على الرد عليه ومؤاخذته ، وأنهم قد فعلوا فقررت
جمعية كبار العلماء اشتمال هذا الكتاب على ما ينافي الدين ، ويرد المعلوم منه
بالضرورة بإجماع المسلمين ، وحكمت بمحو اسمه من علماء الأزهر ووجوب طرده
من وظيفة القضاء الشرعي وعدم إسناد وظيفة أخرى في الحكومة إليه ، وأن
الحكومة نفذت هذا الحكم فعزلته من منصب القضاء الشرعي ، وأنه زاد احترامه
عند الزنادقة والمنافقين ولا سيما جمعية الدعوة إلى الإلحاد والزندقة ، والإباحة
المطلقة ، وصارت جريدتهم السياسة تلقبه بالعلامة المحقق .
ونذكر الآن أن بعض العلماء ألفوا كتبًا في الرد التفصيلي على ذلك الكتاب
وقد أهدي إلينا منذ العام الماضي كتابان حافلان في ذلك ( أولهما ) سمي ( بنقض
الإسلام وأصول الحكم ) من تصنيف الشيخ محمد الخضر حسين أحد مدرسي جامع
الزيتونة وقضاة المحاكم الشرعية في وطنه تونس قبل هجرته منه - وقد نال أخيرًا
شهادة العالمية الرسمية من الجامع الأزهر بعد الامتحان الرسمي فيه - ( وثانيهما )
سمي ( حقيقة الإسلام أصول الحكم ) وهو من تصنيف الشيخ محمد بخيت المطيعي
أحد كبار علماء الأزهر الحاضرة وأشهر المدرسين فيه ، وقد كان تقلب في القضاء
الشرعي ورياسة المحاكم حتى كان أشهر أعضاء المحكمة الشريعة العليا في مصر
ثم أسند إليه منصب مفتي الديار المصرية .
فهذان المصنفان في الرد على كتيب الشيخ علي عبد الرزاق يفوقانه فيما نال
من شهادة أزهرية ، وقضاء شرعي في محكمة ابتدائية ، ولا يلحق غبار واحد منهما
في العلوم الشرعية ، إذ انصرف كل همه إلى الكتابة الأدبية ، وتقاليد أعداء الإسلام
من الشعوب الإفرنجية ، وهذا تعريف وجيز بالكتابين .
***
( نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم )
بلغت صفحات هذا الكتاب 245 صفحة كصفحات المنار ، وقد رتبه ترتيب
الأصل المردود عليه كتابًا كتابًا ، وبابًا بابًا ، وقال في مقدمته :
( وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من
أمهات المباحث ثم نعود إلى ما نراه مستحقًّا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي
ألفاظه بعينها ، ونتبعها بما يزيح لبسها أو يحل لغزها ، أو يجتثها من منبتها .
وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها ، ويسهل على القارئ
تحقيق البحث وفهم ما تدور عليه المناقشة ، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا
الكتاب الموضوع على بساط النقد والمناظرة .
وقد طبع الكتاب في العام الماضي بالمطبعة السلفية طبعًا حسنًا وأهداه مؤلفه
إلى خزانة جلالة ملك مصر المعظم ، وثمن النسخة منه 10 قروش ما عدا أجرة
البريد ، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر .
***
( حقيقة الإسلام وأصول الحكم )
بلغت صفحات هذا الكتاب 447 صفحة بقطع المنار ، وحروفه فهو مرتب
ترتيب ما سبقه ، ولكنه لم يكتف بتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق ، وإبطال
دعاويه بكونها دعاوى لا تقوم عليها بينة على كونها كما قال سلبية ، بل استطرد
إلى إيراد الشواهد على إثبات ما ادعى نفيه من نظم الحكومة الإسلامية بالنقول من
الكتب المعروفة ، وأهمها مبحث بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنظام القضاء
وما يتوقف عليه ، وقد عقد لذلك سبعة أبواب ( الأول في الوظائف والأعمال البلدية)
وفيه 23 فصلاً ، أدخل فيها الوظائف الدينية كإمامة الصلاة ( الثاني في العمالات
المتعلقة بالأحكام ) ، وفيه ستة فصول ( الثالث في العمالات الجهادية ، وما يتشعب
منها ) ، وفيها 11 فصلاً ( الرابع في العمالات الجبائية ) وفيه ثلاثة فصول...إلخ
وقد طبع الكتاب في المطبعة السلفية أيضًا طبعًا حسنًا ، وثمن النسخة منه 15
قرشًا ، ويطلب من مكتبة المنار بمصر .
 
الكاتب : محمد أحمد الغمراوي
ربيع الأول - 1345هـ
أكتوبر - 1926م

العلم و الدين
( 2 )
وبعد : فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون
الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى . وأن ليس إلى التقائهما من سبيل ؟
ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور :
( الأمر الأول ) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس
بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما ، فالعلم لم يصل بعد
إلى إثبات وجود الله ، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء ، ولا سبيل إلى أن
يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء ، أو يوم ينزل الدين عن وجود
الله ونبوة الأنبياء ، هذا أمر .
( الأمر الثاني ) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة
الأنبياء ، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع
أن ينصرف عنها ، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية ، وما
وصل إليه العلم من النظريات والقوانين .
( الأمر الثالث ) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن
يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا
تناقضه ؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث ، وقد فعل ،
وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر
اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي ، فهو
لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض .
هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته .
وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين ، أليست
الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما
ما ينفيه صاحبه ؟
فإذا كان هذا معنى الخصومة ، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله
ونبوة الأنبياء ؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير ، فهو يصرح بأن
العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء ، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما
انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص .. . فهو إذن مسلم بأن
العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما
وتمحيصهما . وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن
يتناوله بالبحث والتمحيص . وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة
الأنبياء ، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن
مباشرة أسباب الخصومة فيه ، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا
تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة ؟
فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء ، وأن
ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي ، وأنه إذا كان العلم الحسي لم
يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع
الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [1] ولم يضن على الدين بالمساعدة
والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة ،
وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [2] ، وهي في كتب العقائد
مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده ، فليرجع القارئ إليها إذا شاء .
بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود
الخصومة بين العلم والدين ، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى
يعرض لها العلم بحكم وجوده ، ولا يستطيع أن ينصرف عنها ، قال الدكتور : وهنا
ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من
النظريات والقوانين .
على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك
القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه ، واكتفى
بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته ، وفي علم الجيولوجيا
تعرض لهذا ، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف ، هذا
خلاف ، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان .
زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض ، وأن
مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه ، ولن
يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين ، ومثل ذلك ما بين
نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف ، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور
عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين ، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل
أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها .
ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف ، وأدعى إلى السخرية ، والاستهزاء
بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله ، ومن علوم لا يحسن القول
فيها ، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها ، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه
وكيف تجني الحماقة على جانيها ، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين
المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون
بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما
يتحدثون فيه ، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل ، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة
يتسلى بها الصبية ؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي
يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار ؛
لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن
ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات ، إذ
ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم ، ولم تصر
بعد من اليقينيات المسلمات فيه ؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا
كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين
نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا ، وأن مذهب النشوء
والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه ، إلى غير ذلك من
أقوال مرسلة ودعاوى عريضة ، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة
لنصوص القرآن .
بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه ، ونقول له : هون عليك
فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم ، ولن ينازع العلم الدين
في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها ، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين
وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ } ( فصلت:
53 ) .
ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه
عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له : إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه
سعادتهم في الدنيا والآخرة . وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور :
أولها : تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات
الكمال .
وثانيها : تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة ، وتكميل النفوس وترغيبها في
العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها .
وثالثها : إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج
الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية ، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا
قليلاً لجزيئات الأمور ؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول ، فقرر القواعد
العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من
غير إخلال بمصالح الجسد ، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما
فيه ضرر بَيِّن .
فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك
لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس ، وإذًا يفوت الغرض
المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل
مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله .
فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما
يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم
وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء،
ولا تجل عن أفهام العلماء ، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن
في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم ، واستجلاء آيات الله في
الكائنات ، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم .
فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف
الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات
الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة
محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في
ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون ، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون ، وأن في ذلك آيات لقوم
يتفكرون ، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات ، ويسوق النفوس والهمم إلى
استجلاء ما في الكائنات من أسرار .
وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب ، وللأرض وما
فيها من المخلوقات والعجائب ؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها ، ولا
لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها ، ورجوعها واستقامتها وميلها ،
واختلاف مناظرها ، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية ، كذلك لا يعرض عند ذكر
الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [3] ، وما يترتب على ذلك من
اختلاف الليل والنهار ، والفصول الأربعة ، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف
طبقاتها وألوانها ، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر
الطبيعية ، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا
الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر
الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ } ( فاطر : 27-28 ) ومن ذا يماري أن الماء منه
حياة كل شيء نامٍ ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها ؟ وأن في
اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة ؟ وإن كان لا
يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء .
وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق
وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم
يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا ، فتكتسي العظام باللحم ؛ فإنما يذكر الظواهر
التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل
على حيوان إنساني ، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها
إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى ، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة
الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومضغة هي في الواقع إنسان
تام الأجزاء ، ولكنه غير تام التكوين ، فهل ينفي ذلك أن النطفة صارت علقة وأن
العلقة صارت مضغة ؟ وهل يطعن ذلك في القرآن أو ينقضه ؟ كلا ، وكيف
يكون العلم ناقضًا للقرآن أو مكذبًا له ، وكيف يعادي القرآن العلم والقرآن يحيل
الناظر على العلم ويزكيه ويصدقه وينبئ بأن في الكائنات أسرارًا وآيات قد فصلها
لقوم يعلمون ؟ وهل يزكي القرآن العلم والعلماء هذه التزكية ويأمرنا بسؤال أهل
الذكر في قوله : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( النحل : 43 ) ثم هو
مع هذا يعادي العلم ويرد حكمه ؟ لا أظن عاقلاً يسلم بهذا .
بقي من الأمثلة التي ساقها الدكتور مسألة خلق السموات والأرض وتحديد مدة
الخلق وما بين مذهب النشوء والارتقاء وبين القرآن من خلاف ؛ فأما مذهب النشوء
والارتقاء ، فلا يزال العلماء الباحثون فيه يرونه نظريًّا غير مدلل ولا مبرهن ،
فليس من بأس منه على القرآن على فرض أن في نظرياته ما يخالف القرآن .
وكذلك مسألة خلق السموات والأرض لم يأت القرآن فيها بتفصيل ينفيه العلم .
فجملة ما يفهم من ظاهر الآيات أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقتا [4]
وأن السماء كانت كالدخان [5] ، وأن الأرض تم تكوينها قبل أن تخلع السماء
صورتها الدخانية المعتمة ، وتلبس هذه الصورة ذات اللون البهيج ، وظاهر القرآن
أيضًا أن السموات سبع طباق ، وأنها ذلك الشيء البديع الصنع ، المنسق الأجزاء
المحكم البناء ، المحيط بالأفق الذي يسحر العقول { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً
مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } ( الملك :
3 ) .
هذه هي السموات ، لم يعرض القرآن لبيان حقيقتها ولم يكشف عن ماهيتها
ولا عن حقيقة ذلك الشيء ذي اللون الأزرق البديع ؛ فإذا أثبت العلم أن الأرض
جزء من الشمس فليس في القرآن ما ينفي ذلك ، وقد يكون فيه ما يثبته ؛ وإذا أثبت
العلم أن هذا الشيء الأزرق الذي يعلو رؤوسنا ويسمى سماء هو فضاء تسبح فيه
الكواكب ، وأن من الكواكب والنجوم ما لا يصل إلينا نوره إلا بعد ألوف أو ملايين
من السنين ؛ فليس هذا بالذي يضير القرآن في شيء ، أليس هذا الفضاء في رأي
العين متسق الأجزاء كالبناء متناسق التركيب ما ترى فيه من تفاوت ؟ وكونه سبع
طبقات لا يختلف في شيء مع العلم ، أليس العلم قرر أن هذا الفضاء مَسْبَح للكواكب
وأن هذه الكواكب متفاوتة البعد في طبقات متمايزة ؟ وماذا يمنع من أن هذا
الفضاء سبع طبقات متمايزة لكل طبقة منها خصائص ليست للطبقة الأخرى ؟
وأما تحديد مدة الخلق بستة أيام وما فيه من زعم منافاته للعلم فقد أجاب القرآن
الكريم عنه فدل على أنه { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42 ) فلئن كان
العلم يثبت أن الدنيا قديمة العمر ، وأنها مرت في أطوار مختلفة كل طور منها
استنفذ آلافًا من السنين ؛ فإن القرآن يصرح بأن من الأيام ما يقدر عند الله بألف
سنة ، بل منها ما يقدر بخمسين ألف سنة قال تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ( الحج : 47 ) وقال : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ( المعارج : 4 ) ثم إذا لاحظنا أن لغة العرب تستعمل السبعين والألف أمثالاً
لإفادة الكثرة من غير قصد إلى التحديد بالعدد المعين ، لم يكن ثمَّ مانع من أن يراد
بهذا العدد الكثرة التي تتناول ملايين السنين [6] .
هذا تأويل بعض ما أشكل على الدكتور من آي القرآن الكريم لم نخرج فيه
عما يفهم من ظاهر اللغة وظاهر القرآن ، ولم تحتج في بيانه إلى ارتكاب تجوّز
نلتمس له القرائن العقلية وإن كان هذا مما أذنت به اللغة ونطق به القرآن في كثير
من الآيات .
ولئن فرض أن السلف أو غيرهم لم يفهموا من بعض آي القرآن ما يفهمه من
بعدهم ، ولئن أَوّل العلماء آية كريمة ، فكان في بعض تأويله غير موفق ؛ فليس
ذلك بالذي يضر القرآن في شيء ، فإن القرآن لم ينزل للسلف وحدهم ، ولقد كان
القرآن ولا يزال حجة قائمة على المدارك والإفهام .
وبعد فماذا بقي في مقال الدكتور من شبهة يحتاج القارئ إلى أن نتحدث معه
في شأنها ؟ أستغفر الله لقد أُنسيت .
بقي الأمر الثالث الذي حدث عنه الدكتور بأنه أعظم من الأمرين الأولين
خطرًا ، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا ، بقيت ثالثة الأثافي ، بقي أن العلم
يطمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ، وأنه يعده ظاهرة اجتماعية وأنه لم
ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض .
وليس بعجيب أن يطمع العلم في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ما دام
هذا العلم من نوع ما يدعيه دكتورنا لنفسه ، ولكن العجيب أن نطمع من دكتورنا في
أن لا يختم بحثه بضرب من التناقض والسخف أفظع وأشنع مما بدأ به بحثه فيترك
القارئ يستمتع ببقية من عقله بعد أن يفرغ من قراءة هذيانه ؛ فلقد رأيت مما
قدمناه من المقال أن الدكتور يقول بملء فِيهِ : ( إن العلم ينصرف انصرافًا تامًّا عن
البحث في وجود الله ونبوة الأنبياء - وهما أساس الدين - إلى ما يمكن أن يتناوله
بالبحث والتمحيص ويقرر أن العلم لا يستطيع أن يتناولهما بالبحث
والتمحيص وأنت لا تراه الآن ينقض ما قرره أولاً ويعود فلا يكتفي بأن
يطمع العلم في إخضاع الدين لبحثه ، بل يزعم أن له الحق في أن يضع الدين
نفسه موضع البحث ، وقد فعل فهل رأيت كهذا التناقض والتخبط ؟
على أننا نصرف النظر عن هذا التناقض أيضًا ، ونسأله ماذا يقصد بالدين
الذي يعده ظاهرة اجتماعية ؟ ويزعم أنه لم ينزل من السماء وإنما خرج من
الأرض ؛ فإذا كان يريد من الدين مجموع العادات والأحوال التي يكون عليها الناس
في وقت من الأوقات ، فله أن يسمى هذا ظاهرة اجتماعية لا ننازعه ولا ندفعه عن
ذلك ؛ وإذا أراد به التعاليم المعينة التي أرسل بها نبي من الأنبياء إلى أمة من الأمم
فإننا لا نسلم له بذلك فإن المعروف من تاريخ الديانات أن الآتين بها لاقوا من
عنت أممهم وعدائهم ما لاقوا ، وكم ذاق الأنبياء من أممهم صنوف العذاب والتنكيل،
وليس حديث موسى وهارون وما لقيا من عنت بني إسرائيل ، وليس حديث محمد
- صلى الله عليه وسلم - وما لقي من أذى قومه بالذي يؤيد زعم الدكتور ، ولو كان
الدين المنزل ظاهرة اجتماعية اقتضتها روح الأمم والجماعات ، كالثورة الفرنسية
وغيرها من الثورات ، لثارت الأمم له ولم تثر عليه ، ولجأت به الجماعة لا الفرد ،
ولكن إذا جاء به الفرد تلقته أمته بالتكريم والتبجيل لا بالتعذيب والتنكيل ، وهذا غير
ما عرف من تاريخ الديانات .
أرجو أن يكون في هذا البيان شفاء لما عسى أن يكون قد علق بنفس القارئ
من شبه الدكتور طه ووساوسه وأن يكون هذا البحث قد انتهى بنا إلى النتائج
الصحيحة الآتية :
وهي أن الدين المنزل من عند الله لا سيما دين الإسلام ليس بينه وبين العلم
من خلاف ولا خصومة ، وأن الإسلام والعلم سيبقيان صديقين وفيين وحميمين
متآلفين يتعاونان على خير الإنسانية حتى يصلا بها إلى منازل السعادة والكرامة
ويكون الناس بهما إخوانًا على سرر متقابلين .
كم أحب أن يفكر الدكتور طه في عاقبة طيشه وتهوره ، وكم أود أن يتروى
في بحثه وفيما يكتب ، وألا يطير وراء الشهوات ، ولا ينخدع بما يقرأ له في كتب
الفرنجة من الأباطيل والترهات ، وأن يتجنب الكلام في شئون الدين ويحتفظ لنفس
إن أراد أن يفتتن بآراء الملحدين ، إنه إن فعل ذلك يعصم مصر من شر مستيطير ،
ويرح نفسه من عناء كثير ، فليس الإسلام كالمسيحية وليست مصر كفرنسا ؛
فللشرق كرمه ووداعته ، وللغرب تهوره وحدته .
ومصر وإن كانت كغيرها من بلاد الله جادة في حياتها العقلية فإنها بالغة
بفضل دينها وإيمانها وعزائم رجالها فوق ما بلغته الأمم الأخرى التي تقدمتها ، فلئن
كانت الأمم الأخرى قد وجدت من دينها عقبة تمنعها من النهوض فاضطرت للثورة
عليه ، فإن مصر ستجد من دينها وتأييده لها على ما تحاوله من الآمال الشريفة خير
عون ، وأقوى ظهير تركن إليه ، إن شاء الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
***
ملحوظة
هذا البحث قدم إلى جريدة السياسة الأسبوعية في يوم الخميس 29 يوليو
رجاء نشره كما نشرت مقال الدكتور طه حسين فوعدت وسوفت ثم أخلفت .

( المنار )
هذا يدل على أن السياسة لا تنشر أمثال تلك المقالات الإلحادية من باب حرية النشر الواسعة بل هي لسان حال هؤلاء الملاحدة الإباحيين في هذا الباب ، كما أنها لسان حال حزب الأحرار الدستوريين في السياسة ، بل ظاهر إطلاقها أنها لسان حال هؤلاء يشمل هذا ولكننا نعرف منهم أفرادًا أولي دين وعسى أن يحملوها على ترك الدعاية الإلحادية أو ينفصلوا من حزبها محتجين .
__________
(1) المنار : المراد بالموارد الخصبة أنها سبب الخصب وإلا فالظاهر أن توصف بالمذبة .
(2) سبب هذا أن صاحب المقالة أرسلها أولاً إلى جريدة السياسة اليومية لأنها رد على ما نشر فيها كما سيأتي .
(3) المنار : لعل الكاتب يريد أنه لا يقرر ذلك تقريرًا فنيًّا ، صريحًا قطعيًّا ، وهذا لا ينفي أن فيه آيات بينة في ذلك على ما اتفق عليه علماء هذا العصر كقوله تعالى : [ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ] (الزمر : 5) ، وقوله : [ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ] (الأعراف : 54) ، وغير ذلك مما بيناه في المنار بالتفصيل .
(4) سورة الأنبياء .
(5) سورة فصلت .
(6) المنار : التحقيق أن اليوم في اللغة هو زمن مبهم ، يفسره ما يقع فيه من حدث كأيام العرب في حروبها وغيرها ومنه [ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ] (آل عمران : 140) ، قد فصلنا ذلك في التفسير .
(27/521)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الأولى - 1345هـ
ديسمبر - 1926م

إعجاز القرآن
كان صديقنا خزانة الأدب ، ولسان العرب مصطفى صادق الرافعي خص
الجزء الثاني من كتابه آداب اللغة العربية ببيان إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ثم
رأى أن يفصله منه ويصدره بالعنوان الدال على موضوعه واقترح عليَّ أن أكتب له
مقالا وجيزًا يُصدر به الكتاب ويعرضه به على أولي الألباب فكتبت له ما يأتي
فصدَّره وعرضه به وهو :
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } ( الإسراء : 88 ) .
القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه وفي علومه وحكمه وفي
تأثير هدايته وفي كشف الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة وفي كل باب من
هذه الأبواب للإعجاز فصول ، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول وقد
تحدى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه وحكى لهم عن
ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله فظهر عجزهم على شدة حرص
بلغائهم إلى إبطال دعوته واجتثاث نبتته ، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى
جميع الأمم فظهر عجزها أيضًا وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض
الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في
فصاحته دون هدايته ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به
أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم .
ثم ابتدع بعض الأذكياء في القرن الماضي دينًا جديدًا وضعوا له كتابًا [1]
توخوا وتكلفوا فيه تقليد القرآن في فواصله وادعوا محاكاته في إعجازه بهدايته
ومساهمته بإنبائه عن الأمور الغائبة المستقبلة فكان من خزيهم وخذلان الله لهم أن
اضطروا إلى كتمان هذا الكتاب المختلق والإفك الملفق لكيلا يفتضحوا بظهوره
وهم مازالوا يجمعون ما كانوا طبعوه من نسخه قبل أن يظهر فيهم الداهية[2] الواقف
على مخازي تزويره وهم يحرقون ما جمعوه منها ، ولعلهم ينقحونه ثم يبرزونه
لجيل لم يطلع عليها .
وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين
الله قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا وللتشكيك في الدين طرائق
قددًا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتماري في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما
روي عن بلغاء الجاهلية من منظور ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور
ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب
المعاصرين ومنهم الذين يدعون إلى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن
الخاصية المضرية ، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام وعن
الإيمان بإعجاز القرآن ؛ فإن من أوتي حظًّا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من
آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز
القرآن ببلاغته وفصاحته وبأسلوبه في نظم عبارته ، وقد صرح بها من أدباء
النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأميركانية
في كتابة الخواطر الحسان [3] .
وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام مرة يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من
حكمائها فكان مما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة
النصرانية : إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ بمثل آيات موسى وعيسى
المسيح ( ع . م ) ، قال : إن محمدًا كان يقرأ القرآن مولهًا مدلها [4] ، صادعًا
متصدعًا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات
الأنبياء من قبله اهـ .
لقد حار العلماء في حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبتت
عندهم بالوجدان والبرهان حتى قال بعضهم : إن الله - تعالى - قد صرف عنه قدر
القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم وذلك أن إدراك كنه
العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة ، والمقام مقام عجز
مطلق فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد والأثير في المادة والكهرباء في
الكون تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها ، ويعجز العارفون عن بيان كنهها
وحقيقتها وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يُستغنى عنها كذلك ما
عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في
الهداية أو الأسلوب أو حسن البيان فيه لذات عقلية وروحية وطمأنينة ذوقية وجدانية
تتضاءل دونها شبهات الملحدين وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين .
فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا وهو من فروض الكفاية وقد تكلم
فيه المفسرون والمتكلمون وبلغاء الأدباء المتأنقون ووضع الإمام عبد القاهر
الجرجاني مؤسس علوم البلاغة كتابيه ( أسرار البلاغة ، ودلائل الإعجاز ) لإثبات
ذلك بطريقة فنية وقواعد علمية وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها
كتاب (إعجاز القرآن ) للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره ؛
لأنه طبع مرتين أو أكثر فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنفت فيها
تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان إذ هي داعية إلى قوم أجمع وبيان أوسع
وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب وأخلب للب وأصغى للأسماع وأدنى إلى
الإقناع .
استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع والشاعر الناثر المبدع صاحب
الذوق الرقيق والفهم الدقيق الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها
والمثاني صديقنا الأستاذ ( مصطفى صادق الرافعي ) فصنف في إعجاز القرآن
سفراً لا كالأسفار ، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت الأوائل ، فكان مصدقًا
للمثل السائر ( كم ترك الأول للآخر ) ناهيك بمنثور للآلئه في نظم القرآن العجيب
وأسلوبه المباين لجميع الأساليب فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل ،
يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل ولا هو مسجوع كسجع الكهان ولا
شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان ، ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين
والكلمات والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع والطولى منها لا تتجاوز
سطورها جمع القلة وأطولها آية الدين فقد تجاوزت مئة كلمة وكل نوع منها يؤدي
بالترتيل اللائق به المعين على تدبره .
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين
الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه وددت لو مد هذا البحث مد
الأديم بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات
في طولها وقصرها ، وقوافيها ، وفواصلها ، ومناسبة كل منها لموضوع الكلام
واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام [5] .
كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا
أعرض بها كتابه هذا على القارئين ، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل ولا سيما
قصار سور المفصل فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله ، دع ما فيها
من غرر مباحثه وحجوله إذاً لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح
لقراء العربية عامة وللمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص بأن يقرؤوا
هذا الكتاب بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم والتفقه في كتاب الله تعالى
وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه مما لا يجدونه في غيره قال شيخنا الأستاذ
الإمام -رحمه الله تعالى- : ( إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصًّا يعرفه أهله ومن امتزج
القرآن بلحمه ودمه ، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل
فأولئك عنه مبعدون ) .
وقال أيضاً : ( فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة وذلك بممارسة الكلام
البليغ منها ) .
وقال في وصف من امتزج القرآن بلحمه ودمه حاكيًا عن نفسه : إني عندما
أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي ، وأن الرسول - صلى الله تعالى
عليه وسلم - ينطق به كما أنزله عليه أو نزل به عليه جبريل عليه السلام. اهـ
وبهذا امتاز الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى- على الأقران إن كان له أقران .
إن الله تعالى قد أوجد بالقرآن أعظم انقلاب في البشر بتأثيره في أنفس العرب إذ
جعلهم بعد أميتهم أساتيذ الأمم وسادت العجم وما فقد المسلمون هدايتهم إلا لجهلهم
بأسرار لغته لذلك يهاجمه أعداؤه الملاحدة والمستعمرون من طريق لغته فليعلم
المسلمون هذا وليحرصوا على حفظ دينهم بحفظ لغتهم وممارسة آدابها وأسرار
بلاغتها ، ولتكن غاية هذا كله فهم القرآن كما كان يفهمه سلفنا الصالح
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } ( الأحزاب : 4 ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
... ... ... ... ... ... ... ... ربيع الأول سنة 1345
تنبيه
كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية جزء ضخم تبلغ صفحاته 369 صفحة
وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرون قرشًا ما عدا أجرة البريد .
وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر .
__________
(1) هم البهائية وهيهات أن يأتوا بقرآن إلا إذا خلقوا سبع سماوات ولم نشر إلى معارضتهم في كتابنا هذا إذ لا تسمى معارضتهم ولا تذكر ( الرافعي ) .
(2) هو عباس أفندي ابن معبودهم البهاء .
(3) نقول : وصرح لنا بذلك أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه (نجمة الرائد وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران ولا نعرف في شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي والأمر بعد إلى العقل والعقل ليس له دين إلا الحق والحق واحد لا يتغير (الرافعي) .
(4) قال لي الأستاذ الإمام : إن المؤلف استعمل هنا كلمة إفرنسية لا أعرف لها مرادفاً في لغتنا العربية معناها أنه كان يقرأ في حال مؤثرة في نفسه وفي نفس من يسمع قراءته فعبر عنها بالتدله .
(5) قلنا : سيكون هذا إن شاء الله غرض كتاب برأسه والنية معقودة عليه من قديم كما أشرنا إليه في هذا الكتاب فاللهم عونك وتيسيرك (الرافعي) .
(27/673)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا


رمضان - 1345هـ
أبريل - 1927م
قانون الأحوال الشخصية في مصر
والتنازع بين جمود الفقهاء
وإلحاد زنادقة المتفرنجين
( 1 )

لقد بيَّنَّا في مقالات كثيرة من مجلدات المنار منذ سنته الأولى إلى الآن ما كان
من تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم للإسلام وأهله ، واشتراكهم مع الحكام
والمتصوفة في أسباب إضعافه , وإضاعة ملكه .
وبيَّنَّا في مقالات أخرى مفاسد ملاحدة المتفرنجين من المسلمين ، وإضاعتهم
بقايا تراث الإسلام في شعوبهم من أدب وفضيلة ودين ، وكنا نبين في أثناء بعض
هذه المقالات , وفي مقالات مستقلة شدة حاجة المسلمين إلى حزب إصلاحي معتدل
يعرف أهله حقيقة الإسلام الصحيح الخالي من الخرافات والبدع ، الداعي إلى
الصلاح والإصلاح والسعادة والسيادة والملك ، ويعرفون ما يتوقف عليه الجمع بين
هذين الأمرين في هذا العصر من علوم وفنون ونظام , وليكونوا هم أهل الحل
والعقد في شعوب الإسلام ، ثم فصلنا القول في هذه الأحزاب الثلاثة في كتاب
( الخلافة أو الإمامة العظمى ) الذي كتبناه , ونشرناه عند شروع الترك في هدم خلافة
آل عثمان الصورية ؛ لبيان ما يجب على المسلمين في هذه الحال .
كان الفقهاء المقلدون أعوان الملوك ، والسلاطين المستبدين ، والحكام
المفسدين ، وكان هؤلاء أنصارهم ورافعي شأنهم ، وكان الغبن في ذلك على الشعوب
الإسلامية التي ابتليت برياسة الفريقين , ثم اشترك مع الفقهاء في هذه المكانة من
الأمراء والملوك ، وأعوانهم شيوخ طرق الصوفية بعد أن صارت رياسة للعوام في
الاحتفالات البدعية ومآدب الطعام ، ليس فيها شيء من التصوف ولا من هداية
الإسلام ، فلولا الملوك الجاهلون وأوقافهم ؛ لما تفرق المسلمون شيعًا وأحزابًا باسم
المذاهب ، بل كانوا يستقيمون على هدي السلف الصالح ، أمة واحدة متحدة في دينها
ودنياها ، تستفيد من علم كل نابغ مجتهد فيها من غير تعصب ، ولا تحزب لأفراد من
العلماء يرجح كل حزب منهم ظن إمامه على نصوص الشارع ، بل جعلوا أقوال
شيوخهم المتأخرين من مقلدي مقلدي المقلدين ، كنصوص القرآن فيما يشبه التعبد
بألفاظها ، وعدم الخروج عن معانيها ، وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة ، ونافت
جميع مصالح الأمة ، حتى ضاق من الحكام بهم كل ذرع ، واضطروا إلى مخالفة ما
تعارفوا على أنه هو الشرع ، إلى أن انقلب ذلك الوضع ، وصار الحكام على هؤلاء
الجامدين ضدًّا ، بعد أن كانوا ردءًا لهم ورفدًا . فأما الترك فقد تركوا الشرع كله ،
ونبذوا فرعه وأصله ، وألغوا محاكمه ومدارسه الشرعية ، واستبدلوا به تشريع
الغرب , وقوانينه الوضعية .
وأما مصر فقد سبقت الترك إلى أخذ القوانين المدنية والجزائية عن الإفرنج ،
ثم جهر ملاحدتها في أثناء وضع القانون الأساسي للحكومة الدستورية , وفي أثناء
وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الأول بأنهم يطلبون حكومة لا دينية ,
وقانونا مدنيًّا للأحوال الشخصية يكون عامًّا نافذًا على جميع المصريين ، من ملاحدة
ودينيين ، مسلمين وغير مسلمين ، ثم نشرت جريدتهم ( السياسة ) مقلات كثيرة
إلحادية بقلم تحريرها , وبأقلام أنصارها من غيرهم ، ونصروا كتاب الشيخ علي
عبد الرزاق وهو من أركان حزبهم ، نصرًا مؤزرًا ؛ لجحده التشريع الإسلامي ,
وزعمه أن الإسلام ليس له دولة ولا حكومة ولا تشريع ؛ لأنه دين روحاني محض ،
ومن ذلك الحين طفق كُتَّابُ جريدة السياسة يطعنون في جميع علماء الدين
ويحقرونهم ، وكان الدكتور طه حسين أول طاعن في الإسلام والمسلمين من أركان
محرري السياسة ، ومنهم : محمود أفندي عزمي أول من كتب في الجرائد مقترحًا
أن تكون الحكومة المصرية لا دينية , والأحكام الشخصية فيها مدنية ، وهو الآن
إمام هذه الدعاية من محرري السياسة .
ثم نجم قرن الإلحاد في مجلس البرلمان في دورته السابقة , ثم في دورته
الحاضرة من أفراد من الأعضاء لم يجدوا لهم مفندًا ، بل وجدوا مؤيدًا , طلب بعض
المسلمين منهم في الدورة الماضية فرصة لصلاة المغرب , وتخصيص مكان
يصلون فيه كما كانت تفعل الدولة العثمانية ، فقال بعض الأعضاء : إننا لا نريد
صلاة , أو ما هذا معناه فنفذ قوله .
وفي الدورة الحاضرة طرحت مسألة تكذيب الدكتور طه حسين للقرآن ,
وطعنه في الإسلام في مجلس النواب الحاضر , فأنحى بعض الأعضاء باللائمة على
الحكومة ؛ لتركها إياه معلمًا لأولاد الأمة في أعلى مدارسها ( الجامعة المصرية ) ،
وعدم عقابه على الطعن في دينها الرسمي ؛ فتصدى للرد عليهم صاحب الدولة
رئيس الوزارة عدلي باشا يكن , ولكن شايعهم في إدارة نظام المفاوضات صاحب
الدولة سعد زغلول باشا رئيس المجلس حتى كاد يلجئ رئيس الوزارة إلى الاستقالة ,
فتلافى ذلك بعض النواب , وأجلوا البحث إلى أن اجتمع الرئيسان , واتفقا على
ترك هذه المسألة للقضاء , ثم لم يفعل القضاء شيئا .
وبقي الدكتور طه حسين يلقن نابتة الأمة التشكيك في الدين , ويجرئهم على
الإلحاد فيه .
وصاح عضو من أعضاء مجلس النواب في إحدى جلساته : بأنه يجب
القضاء على الدين الذي يبيح تعدد الزوجات - يعني دين الإسلام - وقال آخر :
( إن مصطفى كمال باشا لم يفعل إلا إزالة تكايا أهل الطريق الخرافيين ) , فلم ينكر
عليهما المسلمون منهم , ومعناهما واحد , ولكن قال قائل في هذا المجلس : ( إنني
بصفتي مسلمًا ) أقول كذا , في مسألة إسلامية خاصة بالمسلمين ، فصاح بعضهم في
وجهه : لا تقل : إنني مسلم , ليس ههنا إلا مصري يمثل جميع المصريين , أو ما
هذا معناه ؛ فلم ينكر هذا أحد على قائله بأن تمثيل النائب لجميع المصريين يحرم
على المسلم أن يصرح بدينه ، فههنا مسألة غفل عنها هؤلاء المتفرنجون , وهي أن
هذا المجلس يضع قوانين شرعية إسلامية خاصة بالمسلمين , وهي موضوع مقالنا
هذا , فيجب أن يعلم المسلمون بأي صفة , أو بأي حق يشرعونها .
ثم إن المعاهد الأزهرية كانت قد نالت من الحكومة المصرية مطالب كانت
تعدها ثمرة ؛ لاشتراكها في الأعمال الوطنية التي قامت بها الأمة منذ ثورة سنة
1919 , فسلبتها إياها الحكومة الائتلافية الدستورية الحاضرة ؛ فثار طلاب الأزهر ,
وملحقاته بإغراء بعض المدرسين ثورة شؤمى سددوا فيها سهامهم إلى الدستور ،
على ما يعتقد الجمهور ، فنصح لهم العقلاء من أساتذتهم بترك هذا التهور ,
والإعراض عمن أغراهم به ، فغرتهم كثرتهم , وشقشقة ألسنتهم , فلم تغنيا عنهم
شيئًا ، كبحت الحكومة كل ما كان لهم من جماح ، وقصصت كل ما كان لهم من
جناح ؛ فأصبحوا في معاهدهم جاثمين ، وانطلقت ألسنة الجرائد في أعراضهم ،
وطفقت النيابة العامة تبحث عن موجبات العقاب القانوني من أقوالهم ، وتدعو إلى
دور القضاء المتهمين من طلابهم وأساتذتهم ، ثم حكمت على بعضهم ؛ فغلبوا هنالك ,
وانقلبوا صاغرين ، ولم يكونوا في ثورتهم , ولا في سكونهم بمهتدين .
ثُم نقب بعض النواب عما أخذ الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر من وزارة
الأوقاف من المال الذي أنفق في سبيل مؤتمر الخلافة الذي تولى مع هيئة كبار
العلماء الدعوة إليه ، فجاءهم وزير الأوقاف ببيانه ، وقدره 2500 جنيه ؛ فهاجت
الأحزاب الائتلافية الساخطة على شيخ الأزهر ، وعلى العلماء العاملين في مؤتمر
الخلافة ، وأنشأت جرائدها تشايع من بالغ من النواب في إنكار هذا العمل ، وكان
لذلك سببان سياسي , وإلحادي ؛
( السبب الأول ) أن الأحزاب البرلمانية المؤتلفة التي تمثلها الحكومة
الحاضرة تعد شيخ الجامع الأزهر ، وكبار علمائه من أنصار حزب الاتحاد الذي
كان يؤيد الوزارة التي تولت أمر الحكومة في عهد تعطيل الدستور بقوة الاحتلال
القاهرة ؛ إذ كان يعد نفسه ويعدونه هم حزب السراي ) العامرة ، وكان حسن نشأت
باشا وكيل وزارة الأوقاف ، ورئيس الديوان الملكي بالنيابة ، هو المرجع لشيخ
الأزهر ، والسكرتير العام للمعاهد الدينية في أمر الدعوة إلى تأليف مؤتمر الخلافة ،
ولذلك كان حزب الاتحاد وحده هو المؤيد لهذا المؤتمر , وهو الذي لا يزال يدافع
عنه وعن أهله في جريدته إلى اليوم كما بلغنا , وكانت الجرائد الوفدية ,
والدستورية تطعن فيه ، وهي التي أثارت مسألة نفقاته من بعد ، وألبسوها ثوبًا من
التدليس , أو التزوير ، تولى كبره بزعمهم الأستاذ الأكبر ، وشاركه في وزره كل
من أصابه شيء من المال للمساعدة على هذا العمل ، ذلك بأنه وجد في الوثائق
الرسمية أن الشيخ طلب من وزير الأوقاف مبلغًا من أموال الأوقاف الخيرية ؛ لينفق
على بعض ( الأعمال السائرة ) في المعاهد الدينية , وهو ( لا يدخل في ميزانيتها ) ,
فأعطاه وزير الأوقاف خمسمائة جنيه من فضل وقف يسمى وقف أم حسين عملاً
برأي لجنة الأوقاف الاستشارية ، ثم طلب مبلغًا بعد مبلغ , فكان جملة ما أخذه
2500 جنيهًا أنفقها في هذه السبيل ، وهو زهاء .
( السبب الثاني ) أن حزب الملاحدة افترض هذه الحملة وما ألبسته من ثوبي
زور ؛ للانتقام من رجال الدين وتحقيرهم ، وإبطال ثقة العامة بدينهم وعلمهم ،
فطفق كتابه يحبرون المقالات في إثر المقالات ، ويوالون الصيحات الهيعات : أيها
المسلمون ، انظروا ما فعل علماؤكم الدينيون ، أكلوا أموال الفقراء والمساكين ،
واستحلوا ما حرم رب العالمين ، فأثبتوا لكم أنه لا ذمة لهم ولا دين ، وإننا نحن
الذين ينبذوننا بألقاب الإلحاد والزندقة ، والإباحة المطلقة ، نغار على دينكم وأوقافكم ،
ونضرب على أصابعهم أن تسدر أخلافكم , الأوقاف الأوقاف ، ذهبت الأوقاف ،
هلك مستحقو الأوقاف , فعاقبوا شيخ الأزهر ، على ما دلس وزوّر … .
هل يصدق أحد من علماء الدين ، أو رجل مستقل الفكر ، ولو من غير
المسلمين ، أن أحدًا من هؤلاء الصائحين النائحين ، يغار على الأوقاف ، أو يدافع
عن الفقراء والمساكين ، وهم يعلمون أن عشرات الألوف من الجنيهات تصرف
منتها كل عام في غير مصارفها الشرعية ، ولا يرون جريدة تقول كلمة في ذلك ؟
أم يعتقد عاقل أن شيخ الأزهر خدع وزير الأوقاف العالم القانوني ، وغشه بإيهامه
إياه أن ما طلبه من المال لبعض الأعمال السائرة في المعاهد الدينية كان يريد إنفاقه
على العلم والتعليم بشرط أن لا يدخل ميزانية المعاهد ؟ أيجهل أحد من رجال
الحكومة وأصحاب الصحف ومحرريها , أو من الواقفين على الشؤون العامة من
أعضاء البرلمان وغيرهم أن وزير الأوقاف , ووكيل وزارته , ولجنة الشورى فيه
كانوا يعلمون أن شيخ الأزهر قد طلب المال ؛ لأجل النفقة على مؤتمر الخلافة الذي
شرع في دعوة العالم الإسلامي إليه ؟
كلا , إنهم يعلمون ذلك , ولكنهم يغشون من لا يعلم من النواب والعوام ، فإن
كان في الطلب تزوير , فالمسئول الأول عنه وزير الأوقاف , لا شيخ الجامع الأزهر .
والحق أن شيخ الأزهر طلب ما يعتقد أنه حق مشروع , وأنفقه في سبيله ،
وإن أساءت السكرتارية في تفصيله ، فإن مسألة الخلافة من أهم المسائل الإسلامية
التي يجوز الإنفاق في سبيلها من أموال الأوقاف الخيرية العامة , وأما الشكل الذي
أبرز الطلب فيه , وبنى الدفع عليه , فالظاهر أنه أمر شكلي وضعته لجنة الاستشارة
في الأوقاف .
كان مجموع ما أجملناه من حوادث مصادمة الدين ، وتحقير رجاله موسعًا
لمسافة الخلف ، وسوء الظن بين رجال الدين ، وبين دعاة الإلحاد الذين صرحوا في
مقالات عديدة نشرت في جريدة السياسة بأن ثقافة التفرنج الجديدة التي ترفع أركانها
مدرسة الجامعة المصرية ستقضي على الثقافة الإسلامية التي كان ينبوعها الجامع
الأزهر .
في أثناء هذا التنازع ، والتصارع بين الإسلام والإلحاد قامت الحكومة
بمشروع قانون الأحكام الشخصية الذي نص فيه على : منع عقد المسلم التزوج على
زوج ثانية إلا بشروط فوض الأمر فيها إلى القاضي , وعلى أحكام أخرى مخالفة
للمذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر , وأمثاله من مدارس أهل السنة ، فأوجس
جمهور علماء الأزهر وغيرهم خيفة منه ، وعدوه خطوة أو خطوات في الطريق
التي سبقت إليها الحكومة التركية من تحديد سن الزواج في كل من الزوجين الذي
تبعتها فيه الحكومة المصرية , ومن وضع ( قانون العائلة ) الذي هي بصدد اتباعها
فيه ، وأخوف ما يخيفهم منه هو جعل الأحكام قانونًا ، وجعل الشارع له البرلمان
المصري المؤلف من المسلمين ، وغير المسلمين ، وبناء تنفيذه على هذا لا على
كون الشارع له هو الله ورسوله .
ومن سوء حظ الأزهر أن الجامدين على التعصب لكتب معينة في فقه
المذاهب الأربعة ليسوا أصحاب حجة ولا برهان ، ولا يقدرون على الدفاع عن
الدين بالسلاح العلمي القاطع في هذا الزمان ، بل يريدون أن يكونوا على ما عهدوا
في الزمن الماضي من التسليم لهم بما يقولون أنه حكم الله ، وهم يفتون في مسائل
حادثة لم تكن في عصر التنزيل , ولا في عصور الاجتهاد المطلق أو المقيد , أو
التخريج , أو التصحيح , واجتهاد المجتهد ظن له لا حكم لله ، والتخريج عليه أبعد
منه عن ذلك ، والتصحيح لأحد قولين مخرجين على نصوص المجتهد , أو قواعده ،
لا يرتقي صاحبه إلى درجة المخرج له ، ودون هذه الطبقة طبقة ناقلي التصحيح ،
ومنهم أفقه فقهاء هذا العصر على حسب عرف هؤلاء المقلدين ، فهم في الدرجة
الخامسة عند طائفة , والسادسة عند أخرى ، وبينهم وبين معرفة حكم الله تعالى
خمسة حجب , أو ستة باعترافهم .
ألا إن العالم يحتاج إلى إصلاح ، ولن يستطيع شعب إسلامي أن يتحمل أثقال
تقليد هؤلاء المقلدين لمذهب واحد ، ولا أن يجعلوا مصالحهم الزوجية والمنزلية
والمالية منوطة بفهمهم لكتب مذهب واحد في عسره ويسره ، وقد آن للمستقلين في
فهم الدين أن يبينوا يسر الشرع الإلهي للمسلمين ، فقد زالت دولة هؤلاء الجامدين
المشددين ، ويخشى أن يدال منها لملاحدة المتفرنجين ، وفي الأزهر وغيره من
المعاهد الدينية أنصار لهذا الإصلاح سيجدون أعوانًا من جميع الطبقات .
( للموضوع تتمة )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(28/153)
 
الكاتب : مستر كراين

شوال - 1345هـ
مايو - 1927م

محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز و اليمن
في جمعية الرابطة الشرقية
( 2 )

( مدينة سواكن )
زرت بعض المواني الواقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر , وكان
القصد من هذه الزيارة مشاهدة مدينة ( سواكن ) القديمة التي اعتاد الحجاج أن يأتوا
إليها من قبل إفريقية ؛ ليبحروا منها إلى مكة وكانت قديمًا بلدة تجارية عظيمة ,
ولكنها اليوم خالية خاوية . ولا تمر بعض السنين عليها حتى تنعق فيها البوم
والغربان ، وذلك بسبب مزاحمة بور سودان ومصوع لها ، ويوجد في ضاحيتها
قريتان من القش , وأصل سكانهما من الحجاج الذين انقطعوا في الطريق , ولم
يصلوا لا إلى مكة ولا إلى بلادهم ، وكانت علامات الفقر الشديد بادية عليهم , فلا
زراعة , ولا صناعة لهم , ولا هم يتقنون كأهل الساحل صيد الأسماك .
***
( الكلام على اليمن )
( من الحديدة إلى صنعاء )
ذهبت من مصوع إلى الحديدة ميناء صنعاء , وقد أعد لي الإمام جميع أسباب
الراحة , واستقبلني حاكم الحديدة أحسن استقبال .
وهذه البلاد اليمانية الإسلامية العجيبة منزوية عن العالم أكثر من القطب
الشمالي , ولا يزال طراز الحياة فيها كما كان عليه قبل مئات السنين , ولكنه
يختلف كثيرًا عنه في نجد لوجود جبال عالية بين صنعاء والحديدة .
ركبنا في رحلتنا البغال ؛ لأن البغال تسلك حيث لا تسلك الخيل ولا الجمال ,
وبعد ما انقضى على سفرنا من الحديدة يومان ابتدأنا نشاهد هندسة البناء في اليمن
تختلف اختلافًا كليًّا عن هندسة البناء في الحجاز , وقد شاهدنا في طريقنا حقول
شجر البن في بطون الجبال والوديان .
إن هندسة البناء في جدة , ومكة متقنة , وجميلة ، وتدل نوافذها الكثيرة
الواسعة , وأبوابها الكبيرة التي تفتح , وتغلق بسهولة على حب القوم للضيافة ،
وعلى عراقتهم في المدنية , وميلهم إلى ضبط الأمن ، بعكس اليمن التي تدل عزلة
قراها , وانفرادها في الأماكن العالية الوعرة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بصعوبة
على خوف اليمانيين من غزو بعضهم بعضًا , وعلى عدم استتباب الأمن [1] وتشبه
أبنية هذه القرى القلاع الحصينة , والدور الأول منها يخصص للحيوانات , والدور
الثاني للحبوب والذخيرة , ولا يوجد في هذين الدورين منافذ للنور ولا الهواء , وأما
الأدوار الباقية , وهي عادة اثنان فما فوق ؛ فتخصص للسكن , ونوافذها صغيرة جدًّا
لا يكاد يدخل منها الهواء , ولا النور , وجميع هذه الأعمال تدل أن تلك الأبنية على
هذا الشكل ؛ قصد الدفاع عن النفس .
ومن المعلوم أن القطرين اليمن والحجاز يختلف بعضهما عن بعض اختلافًا
عظيمًا , ففي الحجاز سهول واسعة , وصحار مقفرة , وأما اليمن , ففيه الجبال
المرتفعة , والوديان المنخفضة [2] , وتختلف الحياة الاجتماعية فيهما اختلافًا عظيمًا ,
فالحجاز المقدس بنظر المسلمين تأتيه الحجاج من جميع أطراف المعمورة سنويًّا ؛
لقضاء مناسك الحج , ولذلك ترى أهل الحجاز مضطرين بحكم الضرورة إلى ضمان
راحة سكان الأرض , وقلما يأتيها الزوار , أو السياح , وأهلها يخشى بعضهم من
بعض , ويخشون الدسائس التي يدسها لهم جيرانهم ؛ فلذلك تراهم معتادين شظف
العيش , ومعتصمين بالقلاع في رؤوس الجبال .
على أن الإمام أعد لي جميع وسائل السفر , وكنت أينما حللت بالمساء ؛ أجد
غرفة معدة لنزولي بها , ولكنني اضطررت أحيانًا إلى النزول في بعض الخانات
القديمة الواقعة على طريق القوافل بين عدن والقدس .
ولهذه الخانات أبواب , ولكن لا نوافذ لها , وفيها ممر طويل , وغرفة واسعة
خصص قسم منها بالحيوانات , والقسم الآخر بالعائلة صاحبة الخان , وبديهي أن
كثيرًا من الأولاد يولدن في هذه الخانات , وقد خطر لي عند ما رأيتها أن المسيح
ولد في مزود خان كهذه الخانات .
إن المناظر الطبيعية بين الحديدة وصنعاء جميلة للغاية , وقد مررنا بطرقات
تعلو تسعة آلاف قدم عن سطح البحر , ونزلنا في وديان عميقة حارة , وقد وصلنا
إلى صنعاء في الليل على حين غرة , ولما كانت الشوارع لا تضاء بالأنوار ؛
وصلنا إلى الدار المعدة لسكنانا بصعوبة شديدة على ما كان من معونة أنوار الجند لنا .
وأما الدار التي نزلنا بها , فهي مؤلفة من دورين مبنيين بناءً حديثًا جيدًا ,
وفيها حديقة تبلغ مساحتها أكثر من فدان أرض , وقيل لنا : إن هذه الدار بيعت منذ
بضعة أشهر بمبلغ ( 150 ) ريال أميركي أي : ثلاثين جنيهًا مصريًّا . وقد أخبرنا
بعض الجنود الذين رافقونا في الطريق أن الجندي منهم يتناول راتبًا يبلغ ريالين
ونصف أميركيين في الشهر , ويتناول ثلاثة أرغفة من الخبز لا يبلغ وزنها تسعمائة
غرام , ولا يأكل الجند تقريبًا غير الخبز , ولكن بعضهم يشتركون مع بعض أحيانًا ,
ويبتاعون شيئًا من اللحم , ويطبخونه لأنفسهم مرة أو مرتين في الأسبوع , ومن
العجب العجاب أن يرى الإنسان هذه الجنود رغم تناولها المقادير القليلة من الغذاء
تحمل البنادق الثقيلة , وتتمنطق بالعتاد الكثير , وتركض على أرجلها مسافات
شاسعة غير مبالية بالتعب , أو شاعرة بالجوع .
زارنا ذات يوم أحد أمناء سر الإمام المدعو محمد راغب بك , وهو تركي
الأصل , ولد في القسطنطينية , وترعرع في ضواحي البوسفور قرب المدارس
الأميركية التي لي بها علاقات منذ زمن بعيد , وقد حدثني عنها حديثًا طويلاً , ومما
قاله : إن بعض أقربائه درسوا فيها , وهذا كان لحسن حظي ؛ إذ أدخلني إلى حالة
الوئام مع حضرة الإمام , وكان باستطاعته أن يتوسط بيننا بطريق حكيمة .
وفي اليوم الثاني قابلنا الإمام على انفراد في غاية الحفاوة والإكرام , فقال لي
أنه يأذن لي أن أذهب حيث شئت بتمام الحرية , وأن آخذ رسم ما أريد أيًّا كان ما
عدا رسم شخصه , وأنه لم يسمح لأحد غيري قدر ما سمح لي من الحرية في
صنعاء .
إن الإمام في أوائل العقد الخامس من عمره قوي البنية نشيط الحركة , ولما
كانت ولاية حكمه ضيقة الرقعة ؛ كان شديد الرغبة في أن يتولى إدارة شؤونها كلها
بيده من جليلها إلى حقيرها .
فهو يجلس كل صباح في مجلس يقصده فيه من يشاء ؛ ليسأل ما يشاء ,
ويعرض ما لديه من أنواع الشكاوى والدعاوى , وعلاوة على ذلك , فإنه يذهب
يوميًّا إلى أحد الأماكن العامة دون حارس , ولا تابع من الجند , فيصرف فيه نحو
ساعة , وقد يكون منفردًا تحت أشعة الشمس , ولا يرافقه إلا رجل بمظلة الشمسية
حيث يستمع الدعاوى , وينظر في المعروضات المرفوعة إليه , فهو بذلك جامع في
شخصه بين مقامي السلطان , والخليفة معًا مستمدًّا قوة نفوذه من أنه سلالة الإمام
علي الصحيح الخلافة .
وأما ساعة ذهابه إلى المسجد يوم الجمعة , فتلك ساعة خطيرة الشأن جلالاً
وبهاءً يشترك في إقامة معالمها الناس أجمعون ؛ لأنه يوم المهرجان كل أسبوع ,
وعندما يمر راكبًا في العربة عائدًا من الصلاة , فلأقل إشارة يبديها أحد الشعب يقف
المركبة ؛ ليتقبل أي معروض , أو يعنى بأي أمر يرى الناس فيه على أتم استعداد
لقبوله , والخضوع له .
وفي المملكة اليمانية جيش نظامي , وجند من المتطوعة , وكثيرًا ما يشتركان
بالإنشاد العسكري يضجان فيه بأصوات خشنة , وهو يتضمن أبياتًا يرنمون بها بما
أعطوا من قوة وحماسة , ويقال : إنها أنشودة قديمة العهد .
ثم إن الإمام - وإن أبدى لي حين مقابلته مزيد المجاملة , وأباح لي الحديث
على غاية الإخلاص - لم ير من الحكمة أن يظهر فرط العناية بي أمام الجمهور ؛ إذ
كان من الضروري له أن يحتفظ بمقام الاستقلال العظيم , بل بشيء من الاستخفاف
بالأجانب مراعاة القبائل الحربية المتعصبين في الحدود الشرقية من البلاد .
فإن سلطانه , وأحكامه نافذة في مملكته نظير ابن السعود ؛ لمجيئها عن طريق
الدين , وعليها مسحة من الشدة فيه كأنه يتخذ في السلطة نوع الحكم المتحد المزدوج ؛
لأنه مع كونه زيدي المذهب شخصيًّا , ومدار أحكامه على هذه القاعدة ، فإن ثلث
شعبه [3] على جانب البحر الأحمر من أهل السنة , ومنهم عدد معين يشغل بعض
المقامات الصغرى في حكومته .
***
( الضرائب )
أهل اليمن من ذوي الفقر والبؤس الشديد ، ولكنهم لانزوائهم في بقعتهم ,
وانحباسهم عن العالم الخارجي لا يشعرون بهذه الحال .
وإن المرء ليأخذه العجب : كيف يستطاع في هذه الفاقة أن تفرض الضرائب
على اليمنيين , وتجبى إلى الحد المؤذن بإقامة حكومة , ولا سيما في تجهيز جيش
في تلك المملكة كبير ؟
ذلك لا ريب عائد إلى حذق من الإمام فريد , والظاهر أن معظم واردات
الحكومة هو من ضريبة العشر المفروضة على الحاصلات في عامة أنواعها ، على
أن الناس باحوا لي أن العشر قد يترقى - بعسرهم والتضييق عليهم - إلى الربع !
وإنهم لذلك متألمون ناقمون .
***
( المباني )
قل أن ترى في مباني اليمن ما يقل عن ست من الطباق ( أو الأدوار ) , وأما
البناء فعلى درجة عظيمة من مخالفات الجمال , ولم أر إلا القليل مما يدل على حسن
الذوق سواء أكان في هيئة البناء , أو مواده , أم في ملابس الناس وغنائهم , وإنما
يستثنى من ذلك بناء الجوامع , فإن منها عددًا يبدو فيه شيء من الجمال النسبي
على ما فيه من بساطة الهندسة , والرسم خلافًا لبناء المنازل .
وبعض تلك الجوامع يرجع تاريخ تشييدها إلى عدة قرون , وقد ظننت لأول
الأمر أن البنائين أتوا من القسطنطينية لهندستها , وبنائها ، ولكنهم أكدوا لي أن كلا
الأمرين من صنع أهل البلاد أنفسهم .
***
( تعرفي إلى الناس )
لم يكد يستقر بي المقام في صنعاء حتى بادر إلى زيارتي الجم الغفير من أهلها ،
وكلما أردت أن أدرس وجهًا من وجوه حياة اليمن كان أمري ينتشر بين الطبقات ,
فكان يوافيني واحد , أو جماعة من أهل ذلك الشأن , فقابلت الرؤساء , والبنائين ,
والتجار , ورجال العسكرية , ولا سيما العلماء , وفيهم القاضي الكبير الذي يحمل
سمة المسلم التاريخي القديم , وبلغ بيننا التعرف مبلغه حتى أقبل لزيارتي المرار
العديدة .
ولقب ( القاضي ) في اليمن له معنى خاص ؛ فإنه يطلق عادة على طائفة
ممتازة من جميع طلاب العلم , كما أن كلمة ( شيخ ) تستعمل كذلك في الشمال .
***
( سبأ وسد مأرب )
كنت شديد الرغبة في الرحلة إلى سبأ , وعلى الخصوص لمشاهدة السد القديم
الذي كان مصدر خصبها , وزهوها .
إن مؤسس هذه المدينة هو ( عبد شمس ) الذي ابتدع عبادة البعل , أو
الشمس , ثم أضاف إليها القمر , وخمسة كواكب سيارة أخرى , فتم بذلك عددها ؛
أي : السيارات السبع , فكان هذا العدد أصل تلك المدينة ( سبأ ) , وقد بنى أيضًا سدًّا
عظيمًا بين جبلين بحيث ينشأ به خزان من الماء يحيي المدينة , وما حولها من
الأرجاء , ويهب لها الخصب والنماء .
ثم بعد 1500 عام تصدعت جوانب السد ؛ فطغى الماء على المدينة , وما
جاورها من البلاد , ودمر كثيرًا من القرى , ولعل هذه الكارثة كانت أصل الحديث
( الطوفان ) .
وأما الإمام , فمع أنه شديد الحرص على إعطائي كل ما أطلب إلا أنه قال لي
في شأن هذه الأمنية : إن هذه الرحلة من المستحيلات , ومع أن سبأ لا تبعد عن
صنعاء أكثر من 75 ميلاً , فهو لم يتمكن من الذهاب إليها إلا بعد أن اتخذ أشد
الاحتياط لما أن قبائل تلك الناحية على أعظم جانب من التعصب ( الذميم ) يعدون
ذواتهم حراس الكنز العظيم المقدس الباقي من آثار تلك العاصمة القديمة , فلا
يأذنون لأجنبي أن تطأها قدمه , أو يقترب منها , ومما قال لي الإمام : إن بعثة
ألمانية ذهبت للبحث في تلك الناحية قبل الحرب العالمية , فلم يبق البدو على أحد
من رجالها .
***
( حفلة استقبال لرجوع ابن الإمام من سفره )
لم ينقض على نزولي صنعاء عدة أيام حتى ورد نبأ بمجيء ابن الإمام ولي
عهد إمامته بعد يوم واحد , وكان غائبًا عنها ثلاث سنين على رأس فرقة من الجند
في القسم الشمالي من البلاد - أي ( صعدة ) - حيث يتشعب الطريق شعبتين :
إحداهما تتجه إلى مكة , والأخرى إلى نجد ، فكانت عودته بالطبع حادثة ذات شأن ,
فخرجت إلى بعد خمسة أميال من المدينة مع أكثر الأهالي , ولا سيما الجيش ,
وقفتا لاستقبال القادم الكريم على أحسن ما يقال في الإجلال , والاحتفال مما يدل
على سمو مكانة ذلك الشاب عند عامة الشعب , ذلك أن الإمام إنما يرتقي سدة
الإمامة والحكم بانتخاب العظماء من شيوخ البلاد في اجتماع خاص .
ولما كان ولي عهده في الحكم أحد بنيه الأحياء حق له هذا الاحتفاء والإكرام .
وبعد قدوم ذلك الأمير الخطير بأيام زرته , فتوسمت فيه مخايل الحزم ,
والعزم , ودلائل الجد في الأعمال على شخصية جذابة , ولكنها على صورة أضعف
من شخصية والده العظيم .
( للكلام بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : إنما كان أكثر خوف أهل اليمن من الترك الذين ظلوا يغزونهم أربع قرون .
(2) في الحجاز من الجبال والوديان مثل ما في اليمن , وإنما الفرق بين القطرين أن اليمن قطر كثير النبات والشجر خلاف الحجاز .
(3) المنار : كذا في نسخة الترجمة التي أخذناها من الرابطة الشرقية , والصواب : الأكثرية الساحقة من سكان تلك السواحل شافعيون , ويندر وجود الزيدية فيها .
(28/202
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ربيع الآخر - 1346هـ
أكتوبر - 1927م

المراد بالطعن في الدين
و كون مخالفة القرآن كفرًا

( س 23و24 ) لصاحب الإمضاء في دمشق الشام , بنصه على غلطه في
عبارته .
لجناب الفاضل صاحب مجلة المنار الأستاذ رشيد رضا المحترم .
قد وصلني جزء المنار الخامس , فقرأت فيه قرار النيابة العامة عن كتاب
الدكتور طه حسين , وما علقه المنار عليه , وإذ لم أتيسر للحصول على نسخة من
الكتاب المذكور , حيث منعته الحكومة ؛ لم أقرأ منه إلا ما طبعته جريدة الميزان في
دمشق , ولكني مع ذلك سأوجه لكم الكلمات التالية فيها سؤالان , أرجو إجابتكم
إياهما في المنار .
ولربما تتعجبون من ذلك كما تعجبتم مرة من قبل عند ما سألتكم بعض الأسئلة ,
فجاوبتم عليها في المنار ، ولا بد أن سبب تعجبكم هو الفكر الغارس فيكم أنه من
واجبات المبشر المسيحي أن يطعن في الإسلام ، ولكني أتأمل أن المستقبل سيزيل
هذا الفكر عنكم وعن بقية المسلمين , فيدرك الجميع أن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده بوجود بشارة في ديانته المسيحية ليس لها وجود في
الإسلام , ولا يمكن وجودها فيه , مع كل ما يحتويه القرآن من الأوامر والنواهي
المفيدة , حيث يرفض الاعتقاد بموت المسيح على الصليب , وقيامته من بين
الأموات .
وذلك ليس فقط اعتقاد بولس كما يقال , ولكنه يظهر بكل وضوح من سفر
أعمال الرسل ، ومن رسائل بطرس ويوحنا أن موت المسيح وقيامته هما محور
تعليم الرسل ، فأساس الديانة المسيحية منذ الأول ، ولكن ليس قصدي هنا أن أطيل
الكلام في هذا الموضوع ؛ بل أتقدم إلى السؤالين الناتجين عن قراءتي جزء المنار
الخامس .
وأولهما : ما هو معني الطعن في الدين ؟ إنه ليس من أمري , ولا من
مقدرتي أن أحكم فيما إذا كانت استنتاجات الدكتور طه حسين ثابتة أم لا علميًّا ،
ولكنه - بحسب ما يفهم من كتابه - وصل إليها عن مبادئه العلمية , دون غاية
أخرى , فهل يجوز تسميتها طعنًا في الدين ؟ أليس معنى الطعن نوعًا من الاستهزاء
والاحتقار ؟ أما إذا كان طعنًا كل ما يقال عن ديانة خلاف عقائدها ؛ فكيف نتجنب
عنه في بلاد يسكنها المسلم بجانب المسيحي واليهودي , وكل منهم لا يعتقد بعقائد
الآخر , بل يرفضها ؟ أفيكون كل ما يقولونه عن دين بعضهم لبعض طعنًا , وهم
يتكلمون به عن ضمير صالح وإن كانت أدلتهم غير مقبولة وغير مسلم بها عند
الخصم ؟ أما الطعن إذا كان بمعنى الاستهزاء والاحتقار ؛ فيمكن التجنب عنه ؛ بل
هو واجب .
وسؤالي الثاني هو هذا : إذا وصل مسلم في أبحاثه العلمية إلى نتيجة تخالف
شيئًا من تعاليم القرآن أو من العقائد الإسلامية , فهل يحسب لذلك كافرًا أو طاعنًا في
الدين , ولو كان لم يزل يعتبر نفسه مسلمًا في الأمور الدينية والأدبية ؟ وهذا السؤال
يهمني جدًّا جوابه ؛ لأنني بصفتي مبشرًا مسيحيًا , لا أريد أن أقول عن مبادئ
الإسلام , ولا أن أفتكر عنها غير ما هو مُسَلَّم به من أهله ، ولا يبعد عني الفكر أن
المسلمين المتنورين بعد مدة وجيزة سيغيرون اعتقادهم في القرآن , فيميزون فيه
بين الأمور الدينية والأدبية من جهة , وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة
أخرى ، كما صار أيضًا بين المسيحيين ؛ لأن كثيرين من المسيحيين اليوم يختلفون
عن مسيحيي القرن الثامن عشر في أفكارهم عن عصمة الكتاب المقدس , مع أنهم لم
يزالوا يشاركونهم بالإيمان بالمسيح كمخلص العالم , والوسيط الوحيد بين الله
والناس .
ويوجد بعض الدلائل لحدوث تغيير كهذا في العالم الإسلامي , كالذي يعمله
الأتراك اليوم , أو كالذي نجده في بعض المجلات الإسلامية العصرية كمجلة
Revue Islamic حيث يقال في العدد الأخير إن قصة آدم لربما مجازية , ولا
واقعة تاريخية .
قد باحثت في هذه الأمور بعض المسلمين الأتقياء المتفكرين من الذين لا
يرفضون البحث مع مبشر مسيحي , ولكني للتخلص من المشاكل العلمية في القرآن
لم أجد عندهم غير فكر التأويل ؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا بوجود غلطة واحدة في
القرآن من أي نوع كان ، وإلى الآن لم أجد أحدًا يعرف بإمكان بقاء المسلم مسلمًا
تقيًّا إذا أوصلته دروسه العلمية إلى نتيجة تخالف نص القرآن , كمسألة وجود
إبراهيم أو عدم وجوده التاريخي .
قد يكون للمنار أسباب أخرى لتسمية الدكتور طه حسين بكافر , ولكن سؤالي
هو هذا فقط : إذا قال عالم مسلم بعد دروس علمية بعدم وجود إبراهيم التاريخي ,
فهل بطل إسلامه ؟ أم بصورة أخرى : هل يجب على المسلم أن يعتبر كل ما يقال
في القرآن من الأمور التاريخية والطبيعية أساسًا متينًا , لا يجوز له أن يخالفه
بشيء ؟ ودمتم .
... ... ... ... ... ... ... القسيس ألفريد نيلسن الدانيمركي
( المنار )
ما ذكرتم في مقدمة السؤال من توقع تعجبي من سؤالكم ؛ فخطأ ، وما قلتم في
الدفاع عن المبشرين , وتبرئتهم من الطعن في الإسلام , فقد طعن فيه بعضهم
بالمعنى الذي به فسرتم الطعن ، وكذلك قولكم : إن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده .... فقد عرفنا من بعض المبشرين أنهم كانوا مستأجرين
للتبشير , فلما وجدوا رزقًا من طريق آخر ؛ تركوه البتة ، وقولكم فيها : إن كتاب
أعمال الرسل ورسائل بطرس ويوحنا تثبت موت المسيح وقيامته , لا يقوم حجة على
المسلمين ؛ لعدم ثبوت هذه الرسائل عندهم , وأنتم لا يمكنكم إثباتها بالتواتر إلى
مؤلفيها , كما علم مما كتبه علماء أوربة المحققون في تاريخها .
أما الجواب عن السؤال الأول وهو : ما معنى الطعن في الدين ؟ فهو أن
الطعن في أصل اللغة قد وضع لمعناه الحسي المعروف وهو الطعن بالرمح أو
الحربة ثم أطلق على الذم والهجو والتكذيب والتحقير القولي الذي يؤذي المطعون
فيه إيذاء نفسيًّا , كما يؤذيه الطعن بالرمح أو الحربة إيذاء بدنيًّا ، وما كتبه طه
حسين في كتابه المذكور قد آذى المسلمين وآلمهم , فصدق عليه أنه طعن في دينهم .
فالمسألة من المسائل التي تعرف بالبداهة ، وأما إذا نقل أحد من النصارى أو
المسلمين أو اليهود نصوصًا من كتب الآخرين مع الأدب في العبارة , وبحث في
أدلتها ، وقال : إنها لم تصح عنده أو عند أهل ملته , وإن ما يعارضها عنده هو
الذي يعتقدون صحته , فإن هذا لا يعده أحد طعنًا ، ومنه ما كتبه السائل في مقدمة
سؤاله هذا , وما رددناه به , فهو ليس طاعنًا في الإسلام بتلك العبارة , ولا نحن
طاعنون في النصرانية بردها .
وأما الجواب عن الثاني , فهو أن من يعتقد اعتقادًا مخالفًا لنص القرآن القطعي
الدلالة عالمًا غير متأول , بحيث يعتقد أن خبر القرآن غير حق ؛ فلا شك أنه لا يعد
من جماعة المسلمين .
فمن أنكر وجود آدم أو إبراهيم و إسماعيل ؛ فهو كافر لأنه مكذب لكلام الله
تعالى ، لا من تأول قصة آدم في معصيته وتوبته وسجود الملائكة له إلا إبليس ,
وما ورد في شأن إبليس من التخاطب مع الرب عز وجل , فقال : إن كل خطاب
فيها تكويني لا تكليفي , وإنها تمثيل لسنن الله تعالى في النشأة الآدمية البشرية ، فمن
يقول بهذا ( وقد قال به بعض علماء المسلمين كما تراه في تفسيرنا ) ؛ لا يعد مكذبًا
للقرآن كمنكر وجود آدم وإبراهيم وإسماعيل بشبهة عدم ثبوت وجودهم بدليل علمي ,
فإنه ليس من شأن قواعد العلم العقلي أو الطبيعي إثبات وجود زيد وعمرو , أو
نفيه كما سيأتي .
وهذا الذي صدر عن مصطفى كمال باشا ورجال حزبه من الترك كفر محض ,
وارتداد عن الإسلام , لا شبهة فيه , وهم يقصدون به هذا الارتداد بغضًا في
الإسلام وعداوة له ، وأما السواد الأعظم من الشعب التركي , فلا يزالون على دين
الإسلام وتقاليده كما عرفوها , وهم يتربصون الدوائر بهؤلاء الذين يجبرونهم على
الكفر بقوة الشعب ومال الشعب وجند الشعب .
وأما ما ارتأيته أن المسلمين المتنورين سيغيرون اعتقادهم في القرآن بعد مدة
وجيزة , فيميزون بين الأمور الدينية والأدبية من جهة ، وبين الأمور التاريخية
والعلمية من جهة أخرى ، فيجعلونه معصومًا في الأولى دون الثانية , كما فعل
النصارى ؛ فهو بعيد , وإنما قربه إلى ذهنك قياس الإسلام على النصرانية , وقياس
القرآن على العهدين القديم والجديد ، والفرق بين الأمرين مثل الصبح ظاهر ،
وفرضك إمكان قيام أدلة علمية تنفي وجود إبراهيم عليه السلام غير معقول ؛ لأن
هذا النفي ليس مما يثبت بالعلم .
فإن وجود إبراهيم وإسماعيل متواتر عند الإسرائيليين وعند العرب , وإن
نازعنا منازع في التواتر التاريخي المتصل , وفي الأنساب المتسلسلة به المثبتة له
علميًّا , فلا يمكن الإتيان بدليل ينفي وجوده علميًّا ؛ لأن نفي وجود شيء في القرون
الخالية لا يمكن إلا إذا كان وجوده محالاً عقلاً ، ووجود رجل اسمه إبراهيم غير
محال عقلاً ، وقد جاء خبر الوحي مؤيدًا لخبر البشر المشهور أو المتواتر , وهو
أقوى منه متى ثبتت صحة الوحي , وهي ثابتة عند أهلها , فإذًا لا يمكنهم الجمع
بين التصديق بالوحي , وإنكار وجود إبراهيم .
نعم قد يوجد شبهات تاريخية قوية تعارض إثبات وجود رجل مشهور خبره
غير متواتر , أو تُعارِض دعوى تواتره , كقول بعض من أنكر وجود المسيح عليه
السلام : إن يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير لم يذكره في تاريخه , مع أنه كان في
العصر الذي قالوا إنه وجد فيه , وقد ذكر من تاريخ اليهود ما هو دون مسألة وجود
المسيح , فليس من المعقول أن يحفل بتلك الأخبار الصغيرة , ويسكت عن هذا النبأ
العظيم الذي هو أهم ما عزي إلى تاريخ قومه عندهم , إذ كانوا كلهم ينتظرون قيام
المسيح , ولا يزالون كذلك إلى اليوم .
وقد رددنا هذه الشبهة بأنها أمر سلبي , قد يكون له علة أقربها إلى التصور أن
هذا المؤرخ لم يصدق دعوى المسيح ؛ فأحب أن لا يذكرها لئلا تكون فتنة لبعض
قارئي كتابه , فيكون كالداعية له .
ومثل ذلك إنكار بعضهم لوجود ( هوميروس ) شاعر اليونان , وزعمهم أنه
رجل خيالي , نسب إليه ذلك الشعر الكثير البليغ , ولا بدع في ذلك , فالقصص
الخيالية والأبطال الخياليون مما عهد وكثر في تاريخ الإغريق ، ومثله ( مجنون
ليلى ) في تاريخ العرب , المشهور أنه رجل من بني عامر اسمه قيس كان يعشق
امرأة اسمها ليلى , وجن بحبها ؛ فلقب بمجنون ليلى , وشبب بها بأشعار اشتهرت
في الأدب العربي شهرة واسعة , وقيل : إن هذه الأشعار لرجل من بني أمية نسبها
إلى قيس العامري ؛ لأجل إخفاء اسمه .
بقي شيء لا ينكره علماء المسلمين , وهو يقرب مما عليه أهل الكتاب في
التفرقة بين ما جاء به الدين من أصول الإيمان بالله واليوم الآخر , وعالم الغيب ،
وأصول الآداب الدينية والعبادات , وأحكام التشريع - وبين ما يذكر في الكتب
الإلهية من أمور الخلق والتكوين وأحوال المخلوقات العلوية والسلفية .
وذلك أن القسم الأول هو المقصود بذاته ؛ لإصلاح أمور البشر , وتزكية
أنفسهم , وتهذيب أخلاقهم , وإعدادهم لحياة أعلى من الحياة الدنيا , فهو يؤخذ برمته
لذاته , كما أمر الله ورسله .
وأما القسم الثاني فإنما يذكر في الكتب الإلهية ؛ لبيان آيات الله في خلقه الدالة
على وحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته , وسائر صفات الكمال الثابتة له ، ولأجل
الموعظة والعبر , ولا يراد من ذكرها ما يريده أهل الفنون والصناعات , ولا
مدونو التواريخ من بيان حقائق أمور العالم العلوي والسفلي بقدر الطاقة التي
توصلهم إليها أبحاثهم , كعدد الكواكب وأبعادها ومساحتها وحركاتها وطبائع المواليد
الثلاثة , وسنن الله فيها ومنافعها ومضارها , وغير ذلك مما جعل الله في استطاعة
البشر الوصول إليه ببحثهم وحدهم , بدون توقف على الوحي الإلهي .
ويرى السائل هذا المعنى في الجزء الأول وغيره من تفسيرنا , فإذا وصل
بحث الباحثين في أمور الكون إلى حقيقة مخالفة لظاهر الوحي فيها , وصار ذلك
قطعيًّا ؛ وجب تأويل عبارة الوحي فيها بحملها على التجوز أو الكناية أو مراعاة
العرف , كغروب الشمس في العين أو البحر مثلاً , وتخبط الشيطان للمصروع في
قول .
ونعتقد نحن معشر المسلمين أن من مزايا كتابنا أنه ليس فيه نص قطعي
الدلالة يمكن أن ينقضه دليل عقلي أو علمي قطعي , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
وغيره , ولا يستطيع أهل الكتاب مثل هذه الدعوى في كتبهم .
ولكن المسلمين على موافقة كتابهم وقطعيات دينهم للعقل , وعدم تعارضهما
مع العلم قد استحوذ على أكثرهم الجهل به من الجهتين الروحية والاجتماعية , فلا
يشعرون بالحاجة إلى الاعتصام به كما يشعر أكثر النصارى في الغرب بالحاجتين ,
ويبذلون الملايين في خدمة دينهم ونشره , على ما في نصوص كتبه من مخالفة
العقل والعلم التي لم يسعهم إنكارها ، حتى قال أعظم رجل فيهم : إنه لا يضرنا
ثبوت اقتباس شريعة موسى من شريعة حمورابي , ولا يحملنا على ترك هداية
الكتاب المقدس ؛ إذ لا يوجد لدينا كتاب غيره تعرف فيه الرب إلى خلقه بصفوة
أنبيائه ورسله - أو ما هذا معناه .
__________
(28/578)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

رمضان - 1346هـ
مارس - 1928م

مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أكمل لنا بالقرآن هذا الدين ، وختم بمحمد صاحب الرسالة
العامة دولة النبيين ، وجعله المثل البشري الأعلى للهداية الإلهية العليا ، وأرسله
رحمة للعالمين ، وبعثه بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ،
وجعلها يسرًا لا عسر معه ، وسعة لا حرج فيها ، فبلغ عنه أصحابه ما أمرهم
بتبليغه من كتاب الله تعالى بالتلاوة والحفظ والكتابة ، ومن سنته في بيانه للناس
بالقول والعمل ، والحكم بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل ، { رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ } ( المجادلة :
22 ) .
تلقى العرب الأميون كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيانه
بالقبول ؛ إذ لم يكن لديهم فلسفة دينية يحكمونها في دين التوحيد والفضيلة ، بعد أن
اجتث الله به شجرة الشرك الخبيثة ، ولا كان لديهم تقاليد تشريعية يعقدون بها
شريعته العادلة النقية ، فسهل فهم الشعوب والأمم له منهم ، وتلقوه بالقبول عنهم ،
فلم يلبث الألوف من مواليهم الأعاجم منذ العصر الأول والثاني أن حذقوا لغة هذا
الدين ففهموا كتابه المنزل ، وشاركوا أساتذتهم العرب في نشر الدعوة وتدوين اللغة
والسنة ، ثم فيما استلزم ذلك من فتح الأمصار ، ونشر دين الله في الأقطار ، فانتشر
الإسلام في الشرق والغرب بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ ، فبلغ ملكه في
جيل واحد ما لم يبلغ ملك الروم ( الرومان ) في ثمانية قرون ، فكانوا أعظم دول
الفتح والاستعمار في الأرض ، وأشدها مراعاة للرحمة والعدل .
ثم نجمت قرون البدع في المسلمين ، ودخلت عليهم فلسفة الأمم وتقاليد الملل
من أقطارها ، واحتاجوا إلى التوسع في التشريع المدني والقضائي والسياسي ،
فوضعوا علم الفقه بداعية حاجة الحكام ، وعلم الكلام لحراسة العقائد من البدع
ونظريات الفلسفة المختلفة ، فاختلط بعقائد الإسلام وأحكامه العملية ما ليس منها ،
وخرجت تعاليمه من فضاء السهولة والبساطة واليسر ، إلى مضايق الحزونة
والتعقيد والعسر ؛ إذ كان الأعرابي في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتعلم من
عباداته الشخصية في مجلس واحد ما يكون به مسلمًا ، فصار يتعذر على المسلم
الناشئ بين المسلمين أن يتعلم مذهبه الديني الموروث في عدة سنين ؛ لأن الأحكام
كثرت بأقيسة المذاهب وتفريعاتها ، وعسر فهمها بضعف لغة المصنفين لكتبها ،
فضاق ذرع الأمة بها ، وانحصر الطالبون لتحصيلها في عدد قليل من أهل الأمصار ،
يطلبها أكثرهم لأجل الدنيا لا لأجل الدين ، فزال بذلك ما ذكرنا من مزايا الإسلام
القطعية التي كان بها على أكمله قبل أن يكتب شيء من المصنفات ، ففي الخبر
المتفق على روايته مرفوعًا المجمع على معناه ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم ، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ) .
ثم انتقل المسلمون من طور إلى طور ، وركبوا طبقًا عن طبق ، بعضهم ينتقد
هذه الكتب الكثيرة ، ويقول : إما أن يكون جلها ليس من الدين ، وإما أن يكون
الدين نفسه غير حق ، وبعضهم لا يزال يقول : إن ما هو مقرر فيها هو دين الله لا
مندوحة لمسلم عن اتباعه وإلا كان خارجًا من هذه الملة ، حتى انتهت حال بعض
حملة العمائم ، وسكنة الأثواب العباعب إلى أن يقول : إن من يهتدي بالكتاب والسنة
من دون كتب المذاهب الفقهية والكلامية فهو زنديق ، وكان لهؤلاء الجامدين
الجاهلين مكانة عند الحكام وعند جمهور الأمة تخشى بها غائلة مخالفتهم ، فزال ذلك
رويدًا رويدًا وهم لا يشعرون ، حتى إذا لم يبق منها إلا القليل في بعض البلاد
( كمصر ) بعد أن زال من بلاد أخرى ، وزال بشؤمة الدين كله من دواوين
حكومتها ومحاكمها ومدارها ( كبلاد الترك ) ، طفق بعضهم يشعر بالخطر على
البقية الباقية من ظواهره ماثلة على شفا جرف ، ولكنهم لا يدرون كيف يخرجون
من جحر الضب كما يخرج هو عند الخطر .
قد أنذر دعاة الإصلاح هؤلاء العلماء الرسميين هذا الخطر الذي هو عاقبة
ضرورية لجمودهم على تقاليدهم فتماروا بالنذر ، وكان لنا في المنار جولات
تفصيلية في بيان ذلك أسبابًا ومسببات ، وعللاً ومعلولات ، ونتائج لمقدمات ، مؤلفة
من اليقينيات أو المسلمات .
ولما كان أصل الداء ، والمانع من قبول كل علاج له ودواء هو التقليد الأصم
الأعمى للكتب المؤلفة لا للأئمة ، بدأنا تلك الحملات والجولات بتك المحاورات
التفصيلية التي نشرناها في المجلد الثالث وما بعده تحت عنوان : ( محاورات
المصلح المقلد ) ، وعرضناها للنقد فلم يرجع إلينا أحد في تفنيدها قولاً ، ولم يكتب
لنا أحد في نقدها فصلاً ، بل حازت القبول فطبعت وحدها مرة بعد أخرى .
ثم كان من أوسع ما كتبناه في هذه الموضوع تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } ( المائدة : 101 ) إلخ ،
والفصل الاستطرادي الذي جعلناه علاوة لتفسير الآيتين الكريمتين ، فالقارئ لذلك
يرى فيه من الآيات المنزلة والأحاديث الصحيحة ، ومن مدارك أساطين علماء
الملة وأئمتها من الأولين والآخرين ، ما هو حجة على الجامدين من المقلدين ،
وعلى الملاحدة والزنادقة المعطلين ، وعلى المحرفين والمسرفين من المستقلين ،
كما أنه برهان مبين لدعاة الإصلاح المعتدلين ، ولا يزال هؤلاء هم الأقلين { ثُلَّةٌ
مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ } ( الواقعة : 13- 14 ) و { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 249 ) .
كنا نعد فرق المسلمين الذين يتنازعون أمر الأمة في هذا العصر ثلاثًا :
( الأولى ) : حماة تقليد الكتب المدونة في المذاهب المتبعة من سنة وشيعة
زيدية وشيعة إمامية وإباضية . وحجتهم أن علوم الشريعة المودعة في الكتاب
والسنة إجمالاً وتفصيلاً قد انحصرت فيها ، فمن لم يأخذ بمذهب منها فليس على ملة
الإسلام ، دع ما يرجح به كل منهم مذهبه على غيره .
( الثانية ) : دعاة الحضارة العصرية ، والنظم المدنية ، والقوانين الوضعية ،
الذين يقولون : إن هذه الشريعة الإسلامية المدونة لا تصلح لهذا الزمان ، ولا
يمكن أن تصلح بها حكومة ، ولا تستقيم بها مصالح أمة . فيجب تركها ، واستبدال
قوانين الإفرنج بها ، أو استقلال كل قوم أو شعب من المسلمين كغيرهم بتشريع
جديد يوافق مصالحهم ، وإلا كانوا من الهالكين ، ومن هؤلاء من يرى من مصلحة
قومه وبلاده المحافظة على مهمات شعائر الإسلام ، وما لا ينافي المدنية من
خصائصه الاجتماعية والأدبية ، ومنهم من لا يرى وجوب ذلك ، وهم درجات أو
دركات في هذه المسائل ، منهم المسلم المتأول ، والزنديق المجاهر أو المستكتم .
( الثالثة ) : دعاة الإصلاح الإسلامي المعتدلين الذين يثبتون أنه يمكن إحياء
الإسلام ، وتجديد هدايته الصحيحة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف
الصالح ، والاستعانة بعلوم أئمة المذاهب كلها بدون التزام شيء معين من كتب الفقه
والكلام المذهبية التي جمد عليها الفريق الأول ، وأنه يمكن الجمع بينه وبين أشرف
أساليب الحضارة والنظام وهو ما ينشده الفريق الثاني ، بل يرى هؤلاء أن ما
يدعون إليه - وهو أقدم هداية الدين وأحدث وسائل الحضارة والقوة - صديقان
يتفقان ولا يختلفان ، وإن كلا منهما يزيد الآخر قوة وشرفًا ، فدين العصر الأول
للإسلام ينفي خبث المدنية المادية الحاضرة ، وينقي قلوب أهلها من الرجس ،
وينقذهم من فوضى الحرية البلشفية ، وأخطار الفلسفة المادية ، ويزكي أنفسهم من
الظلم والفسوق والعصيان . كما أن علومها وفنونها الصحيحة تظهر من إعجاز
القرآن ، ومن آيات الله في الأكوان ما يكمل به الإيمان ، ويوجه قوى هذه العلوم
إلى العمران ، وإصلاح نوع الإنسان .
ثم تولد من بين هذه الفرق أناس مذبذبون بين كل منها .
لا إلى هؤلاء إن نسبوهم ... وجدوهم ولا إلى هؤلاء
يذمون التقليد ويدعون الاجتهاد ، ويزعمون أنهم من دعاة الإصلاح وما هم إلا
دعاة فساد . ولكنهم متقنعون بما أوتوا ، راضون بما أتوا { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } ( البقرة : 11-12 ) .
أولئك الذين يدعون الاستقلال في علم الكتاب والسنة ، والاجتهاد المطلق في
أحكام الشريعة ، وهم لم يعدوا لذلك عدته ، ولا سلكوا لاحِبَ طريقته ، لم يحفظوا
القدر الكافي من مفردات اللغة العربية ، ولم يطبعوا على سليقة البلاغة المضرية ،
ولم تستحكم لهم ملكة البيان بالتمرس والصناعة ، ولا حذقوا قواعد الأصول ، ولا
مرنوا على مدارك الفروع ، ولا جمعوا بين حفظ النصوص وقوة استحضارها عند
عروض الحاجة إليها ، وإنما قصارى أحدهم أن يقرأ تفسير آية أو شرح حديث
فيعجبه ما فهم منه ، ويغتر بما عساه يخطر بباله أنه انفرد به ، مما شأنه أن يقع
للعامي والخاصي ، وأن يكون تارة صوابًا وتارة خطأ ، ومن شاء منهم أن ينصف
نفسه بامتحانها في دعواها ، فليكتب كتابًا أو رسالة طويلة في بعض المباحث
الاجتهادية التي يظن أنه انفرد بها ، من غير أن يراجع فيها الكتب وينقل عن
العلماء ، ثم لينشرها على أهل العلم ، ولو كانوا ممن لا يدعون دعواه ، ويعرضها
على نقدهم ثم لينظر قيمتها بعد نقدهم إياها ، على أن الصواب في مسألة واحدة من
هذا القبيل أو مسائل معدودة لا يدل على ملكة الاجتهاد المطلق ، فالاجتهاد يتجزأ .
من هؤلاء الأدعياء في العلم ، المغرورين بالفهم ، من هم أشد إحالة ليسر
الشريعة إلى العسر ، وسعتها إلى الحرج من مقلدة كتب الفقهاء وغيرهم ، ومن هم
أجرأ على شرع ما لم يأذن به الله ، وعلى القول على الله ما لا يعلمون ، هذا حلال
وهذا حرام ، وهذا كفر وهذا إيمان ، هذا بدعة وتلك سنة . وهم في كل ذلك مفترون
على الله ، وشارعون لما لم يأذن به الله ، وما أسهل ذلك على الغلاة في الدين ,
ولا سيما تحريم ما حرموا من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وما
جهلوا من العلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار سيادة الأمة وتعايش الخلق .
ومنهم من يتعدى حدود اليسر إلى ما هو أدنى إلى الإباحة المطلقة ، ويتأول
النصوص بما تتبرأ به مفردات اللغة وأساليبها ، حتى يكون كزنادقة الباطنية أو أشد
تحريفًا وتبديلاً ، ومن هؤلاء من لا يحتج إلا بما يفهمه هو من نصوص القرآن ،
فيرد الأخبار النبوية كلها ، ومنهم من يرد ما لا يعجبه منها ، ويستدل على ذلك بأن
معناها غير صحيح ( عنده ) ، فلا يمكن إذًا أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قاله .
وتجد على الطرف المقابل لهؤلاء ممن يدعون مذهب السلف ، وينظمون
أنفسهم في سلك أهل الحديث ؛ أناسًا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخبار
والآثار الموقوفة والمرفوعة أو التي لم توصف بأنها موضوعة أو مصنوعة ، وإن
كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن ، أو من الإسرائليات مثل كعب و وهب ، أو
معارضة بالقطعيات التي لا يعرفونها من نصوص الشرع ، أو مدركات الحس ،
ويقينيات العقل ، ويكفرون أو يفسقون من أنكرها أو خالفها .
فالجامدون على تقليد ظواهر كتب الفقه والكلام ؛ كالجامدين على ظواهر كتب
الأخبار والآثار ، كل منهما فتنة منفر للواقفين على علوم هذا العصر عن الإسلام ؛
لأنه يتوقف عند كل منهما على ما ليس منه مما تقوم على بطلانه البراهين القطعية
أو المشاهدات الحية ، أو سنن الله المطردة في الأكوان ، أو النظام الذي يتوقف
عليه العمران ، دع نظريات التشريع المجربة ، ومسلمات التاريخ المؤيدة بعلم
طبقات الأرض وغير ذلك ، تلك العلوم كلها تعد عندهم من علوم الكفار المحرمة فلا
يعتد بشيء منها ، وهم عاجزون عن إقامة أي حجة أو دحض أي شبهة ، ومن جهل
شيئًا عاداه ، ولا سيما إذا عد جهله نقيصة له .
كذلك المتبعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرقي المدني ، هم
منفرون للسواد الأعظم من هذه المدنية وعلومها وفنونها وصناعتها ؛ لأنه يعزو إليها
ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية بجملتها وتفصيلها ورد بعضهم السنن
القولية منها وإنكار بعضهم ... لما لا يوافق رأيه وهواه منها ، وتصدى بعضهم
لتأويلها وتأويل القرآن نفسه بما تتبرأ منه مفردات اللغة وأساليبها ، وإجماع الأمة
الإسلامية وسيرة سلفها . ومن أحدث ما كتبه أدعياء القرآن إنكار مصري لحل
التسري ، وما يتعلق به من الأحكام الثابتة فيه وفي السنة العملية والإجماع المتواتر .
وزعم هندي منهم أن الصلوات المفروضة فيه ثلاث لا خمس ، وكل منهما يحرفه
كتحريف الباطنية أو أشد ، دع القاديانية الذين يدعون نزول الوحي عليهم وأمثالهم .
طلاب الإصلاح الصحيح يريدون توحيد الأمة ، وقد زادها كل فريق من
هؤلاء تفريقًا ، طلاب الإصلاح الحق يبغون أن تكون كما وصفها الله تعالى أمة
وسطًا ، وهؤلاء يجذبها كل منهم إلى طرف من محيط الدائرة إفراطًا وتفريطًا ، هذا
يريد دينا بغير حكومة إسلامية ذات سيادة وعزة ، ولا حضارة علمية فنية ولا قوة
آلية ، وهذا يريد دنيا بغير دين ينهى عن الهوى ، ولا سياج للفضيلة والهدى ، وهذا
يتخبط بين الفريقين لا يدري ما يريد ولا ما يبدئ ويعيد ، وكل أولئك في ضلال
بعيد فمن الناس من يقول : ] ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [
ومنهم من يقول : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ } ( البقرة : 201-202 ) .
هؤلاء هم المصلحون المعتدلون طلاب المنهج الوسط ، وقد أشرنا إليهم هنا
وبينا حالهم ومذهبهم فيما سبق ، تارة في تفسير بعض الآيات ، وتارة بالمحاوارات
والمناظرات ، وتارة بإنشاء الفصول والمقالات ، وتارة بالفتاوى في الأسئلة
والمشكلات .
وقد نشرنا من قبل بعض هذه المباحث في كتاب سميناه ( الوحدة الإسلامية )
وفي كتاب آخر سميناه ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) ، وننشر اليوم بعضها في هذا
الكتاب الذي سميناه ( يسر الإسلام ، وأصول التشريع العام ) ، فعسى أن تكون هذه
الكتب مؤيدة ومعممة لدعوة المصلحين المجددين ، الداعين إلى صراط الله المستقيم
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحجة
على الجامدين الميتين ، وعلى الشذاذ المسرفين ، المتبعين لسبل الشياطين ، والله
ولي المؤمنين ، والعاقبة للمتقين .
(29/63)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

شوال - 1346هـ
أبريل - 1928م

أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد

للإسلام أعداء كثيرون من أهله ومن غير أهله ، كلهم يحاربونه ويسعون
لإطفاء نوره ، وخضد شوكته ، وتمكين أعدائه من مقاتله . منهم من يسعى لهذا
عالمًا به متعمدًا له ، ومنهم الجاهل غير المتعمد ، والجاهل الذي يظن أن ينصره
ويدافع عنه .
ويمكننا أن نحصر هنا هؤلاء المحاربين للإسلام في تسعة جيوش : ثلاثة من
الأجانب ، وخمسة من المسلمين - وأعني المسلمين الجغرافيين أو الرسميين - أي
الذين يعدون في الإحصاء العام لأهل كل قطر من المسلمين .
فأما الأجانب منهم فهم : المستعمرون والمبشرون ( دعاة النصرانية )
والمعلمون منهم لأولانا في مدارسهم ومدارسنا .
وأما المسلمون الجغرافيون فقسمان : منهم قدماء طال عليه العهد وهم مقلدة
الكتب الجامدون ومشايخ الطرق المبتدعون , وقسمان منهم حدثوا بعد ذلك وهم :
المتفرنجون والملحدون , والقسم الثامن دعاة التجديد والثقافة الناسخة لما قبلها ، وهو
آخر جيش تألف لمحاربة الأديان كافة والإسلام خاصة , والقسم التاسع المتفرنجات
من النساء وهو الآن في طور التكوين ، على أن هذه الأقسام يتداخل بعضها في
بعض .
من المفروض على المنار أن يكافح جميع أعداء الإسلام المهاجمين له في
عقائده وتشريعه وآدابه وملكه ولغته ، وهو منذ أنشئ قائم بأعباء هذه الفريضة
على قلة النصير والظهير ، وقد بدأنا في السنين الأولى بجهاد أعداء دينهم وأنفسهم
من المسلمين ، فدعوناهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلناهم بالتي
هي أحسن ، ثم خضنا معامع مهاجمي الأجانب ولا سيما دعاة النصرانية
( المبشرين ) ، فكان من أبواب المنار المفتوحة في كل جزء باب ( شبهات
النصارى وحجج الإسلام ) ، كما كان من أبوابه فيها باب ( البدع والخرافات
والتقاليد والعادات ) ، وفي أثناء ذلك كنا نلم المرة بعد المرة بمضار التفرنج
الصورية والمعنوية والاجتماعية ، ثم ظهرت مفاسد الملاحدة من المتفرنجين ؛
بمجاهرتهم بمهاجمة الدين في المحاورات والخطب تلقى في المحافل ، والمقالات
تنشر في الجرائد ، فنهد إليهم المنار متتبعا عوارهم مقلمًا أظفارهم ، مبينًا مفاسدهم
ومضارهم .
وماذا عسى أن يبلي قلم واحد في صحيفة واحدة ؛ يناضل هؤلاء المهاجمين
الكثيرين ؟ جهد المقل ، وأداء فرض كفاية أو فروض كفايات ، تأثم الأمة الإسلامية
كلها بتركها ، وما كان عمل المنار بدافع هذا الإثم عن جميع شعوبها في جميع
أقطار الأرض التي ظهرت فيها تلك الإغواءات النصرانية والإلحادية والبدعية ،
وإنما كان يغني عنهم ويدفع لو كان منتشرًا كانتشارها ، يصل إلى كل من تصل إليه
منهم بنفسه أو بترجمة ما ينشره ، على أن هذه المفاسد تظهر في كل بلد أو قطر ؛
بشكل قد يحتاج في رده وبيان بطلانه إلى عبارات وحجج غير التي يحصل بها
المراد في قطر آخر .
نعم .. إن بعض الجرائد الهندية كانت أكثر الجرائد الإسلامية عناية بالترجمة
عن المنار ، وإن بعض أصدقائه قد نهض بمساعدته في تفنيد شبهات المبشرين ،
وإبطال دعوتهم ، وتخسير دعايتهم ، وفي الرد على ملاحدة المسلمين أيضًا - ألا
وهو الطبيب محمد توفيق صدقي تغمده الله تعالى برحمته ، وكل ما نشر لغيره من
أصدقاء المنار في مجلداته الثمانية والعشرين ، لا يوازي بعض ما نشر له في مجلد
واحد ، إنما الذي يفوقه قدرًا وتأثيرًا ؛ ما نشرناه لشيخنا الأستاذ الإمام أجزل الله
ثوابه ، ولا سيما مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية .
ولم يكن هذا التقصير من قلة حملة الأقلام من طلاب الإصلاح الإسلامي الذي
يدعو إليه المنار ، فإنه أنشئ ليكون صحيفتهم ، وقد كثروا بدعوته - ولله الحمد -
ولكن أكثرهم يرى خطأ أن اضطلاع منشئه يغنيه عن مظاهرتهم له ، وبعضهم
غافل عن وجوب هذا التعاون .
هذا ما كان من قبل حرب المدنية الكبرى ، ثم كان من عقابيل هذه الحرب أن
اشتدت وطأة جميع أعداء الإسلام ، كل يحاول الإجهاز عليه من جهته ، وينصر
بعض الأجانب منهم بعضًا عليه ، فكان من عدوان المستعمرين الظافرين ما كان ،
وشرحناه مرارًا آخرها ما أجملناه في فاتحة هذا المجلد إجمالاً أشد تأثيرًا من
التفصيل ، وكان من جرأة المبشرين عقد المؤتمر في تلو المؤتمر جوار المسجد
الأقصى ؛ لجمع كلمة الشعوب النصرانية ، وتنظيم عمل الدعاة للإجهاز على الدين
الإسلامي ، ونشر عبادة المسيح في جزيرة العرب عامةً والحرمين الشريفين خاصةً .
وأما مكافحو الإسلام من المتفرنجين والزنادقة الملحدين ، فقد ابتدعوا دعاية
شرًا من دعاية المبشرين ، وهي دعوة جمهور الأمة إلى التعطيل والإلحاد ، وعلى
ما يترتب عليهما من الزندقة وإباحة الأعراض والأموال ، وانتهاك حرمات الفضائل
والآداب ، وحل جميع الروابط التي تتكون بها الأمة من مقومات ومشخصات ، لا
يراعي في شيء من اقتراف هذه المفاسد والمخازي إلا اتقاء عقاب الحكومة على
مخالفة قوانينها وإنما يراعي هذا من يخاف هذا العقاب لترجيحه اطلاع الحكومة على
جرمه وإثباته عليه وأكثر المجرمين يرجحون إمكان إخفاء جرائمهم أو تعذر إثباتها
في المحاكم - فهم يحاولون هدم الدين الإسلامي من جميع جهاته : الاعتقاد والتشريع
والآداب والفضائل ، وكذا هدم سائر مقومات الأمة الإسلامية ولا سيما العربية من :
اللغة والزي ؛ حتى لا يكون للأمة شيء من ماضيها تحافظ عليه بل حتى لا تكون
أمة ؛ فإن الأمم بماضيها وتاريخها ومقوماتها الصورية والمعنوية بل منهم من يدعوها
جهرًا إلى ترك جنسيتها ووطنيتها والالتحاق بدولة أجنبية قوية كالإنكليز ، دع من
يعملون لذلك سرًّا .
وحجتهم على هذا الإفساد كله ؛ أن كل ما كانت به الأمة أمة في الماضي ، قد
صار قديمًا باليًا ضارًّا ، يجب أن يستبدل به غيره من الجديد ، يقتبس من النظريات
والآداب والتقاليد والأزياء الأوربية ، فهم يدعون إلى كل جديد ، وينفرون من كل
قديم . متكلين في رواج دعايتهم على النابتة الجديدة من الشبان والشابات الذين
يتعلقون عادة بكل جديد ؛ لطرافته ولذته ؛ ولعدم رسوخ عقائدهم وآدابهم واستكمال
عقولهم ، ثم على العوام الذين يتلذذون بكسر قيود الصيانة وإباحة الشهوات ،
وناهيك بمسلمي بلادنا الذين ليس لهم حكومة تغار على عقائدهم وآدابهم وتربي
أولادهم عليها ، وهم على فقدهم للحكومة الإسلامية الموصوفة بما ذكر لا الإسلامية
الرسمية ، فاقدون لطبقة أهل الحل والعقد من السروات الذين يحافظون على مقومات
أممهم واستقلالها ورفعة قدرها من جهة ، ويقومون لها في كل طور وحال بما
يقتضيه من علم وعمل من جهة أخرى ، فأمْر الناس فوضى ليس لديهم قواعد ثابتة
يلوذون بها عند اشتداد عصف هذه الرياح المتناوحة التي تهب عليهم ؛ بما ينشر في
الصحف الضارة والمصنفات المفسدة ، وقلما توجد في البلاد جريدة أو مجلة تتجنب
ما يضر الجمهور نشره في عقائدهم وآدابهم ، وتتحرى ما تعتقد أنه النافع ، دع
اختلاف آراء كتّاب هذه الصحف وأفهامهم وشعورهم في الضار والنافع الذي سببه
اختلاف التربية والتعليم والمعاشرة . ولكن يوجد جرائد يومية وأسبوعية ومجلات
تتوخى وتتحرى وتتعمد الدعاية إلى هذا الهدم والتجديد ، على تفاوت بينها في
التصريح أو التعريض والتلويح ، وأشهرها جريدة السياسة التي يكفلها الحزب الحر
الدستوري ؛ المؤلف من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الوزارء والكبراء وكبار
رجال الحكومة .
ومثلها في ذلك بل أشد مجلة الهلال المشاركة لها في أشهر محرريها ، التي
تدعي أنها لسان حال الشبان العصريين ، ففي كل جزء من أجزائها عدة مقالات
لدعاة تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة ، وقلما تنشر لغيرهم شيئًا يخالفه ،
وحسبك أن سلامة أفندي موسى هو الركن الثابت المتين في تحريرها ، وهي لا
تكتفي بما تنشر له من المقالات في ذلك ، بل تطبع له في كل عام كتاب في تأييد
هذه الدعاية الهادمة للأمة المصرية ؛ ولكل أمة شرقية تغتر بفلسفته المادية الإفسادية ،
وترسله هدية إلى قرائها ترغيبًا لهم في قراءته . وقد زاد هذا الرجل على إخوانه
بأنه يدعو إلى خلع ثوبي الجنسية والوطنية ، والانضمام إلى دولة أجنبية . ثم إنها
تنشر مجلات أسبوعية مصورة ، تجرئ قراءها على نبذ كل عفة وصيانة وفضيلة
سمعنا عنها ، وقرأنا في الأخبار من تفنيد لها ، وإنه ليعز علينا أن يتنكب زميلنا
أميل أفندي زيدان منهج والده الفاضل في مراعاة العقائد والفضائل الدينية وسائر
مقومات الأمة ، ولو في مجلة الهلال وحدها ، إذا كان يصعب عليه ترك المال
العظيم الذي يجنيه من مجلاته الأخرى التي تزين للناس اتباع أهوائهم وشهواتهم ،
وإننا كنا منذ سنتين ننوي بيان هذا بعد مجاهرته به حتى جاء أوانه .
ثم ظهرت منذ سنتين مجلة أخرى أشد جرأة على هدم الدين ؛ والجهد بالطعن
فيه بسخافات من النظريات الفلسفية العصرية ، وقد سبق لي تقريظ لها قبل غلوها في
المجاهرة ، وأشرت إلى ما أنكره عليها ، ثم ظهر من غرور صاحبها في دعوى
العلم والفلسفة ومن معرفة الدين أيضًا ما يقضي العاقل منه العجب . وما له بذلك من
علم ولا فلسفة ، هي رأي ومذهب له يقدر أن يثبته ويدافع عنه وكذلك أمثاله ، وإنما
يترجمون من بعض الكتب والصحف الإفرنجية بعض آراء أهلها ونظرياتهم ،
ويأخذونها قضايا مسلمة بغير علم ولا بصيرة ، وحسبنا دليلاً على هذا ما يردون
عليه من أمور الدين ، ومنها ما هو افتراء يتبرأ منه الدين .
وقد اقتفت أثر هذه الصحف فيما ذكر مجلة حديثة أنشئت في حلب ، فأنكر
عليها بعض الناس هنالك ما نشرته من حكاية طعن في الإسلام ؛ لأن أكثرهم لا يزال
غافلاً عما تعنيه بالجديد والحديث والاستغناء به عن القديم ، وأن المراد ترك الإسلام
من أساسه .
لا نريد في هذا المقال الرد على هؤلاء ، وإنما نريد إعلام قراء المنار بحالهم
وبرواج إفسادهم في البلاد ؛ بسبب الجهل بحقيقة الدين وعدم التربية عليه ، مع عدم
التربية الاجتماعية والسياسية أيضًا ، وأن نعلمهم مع هذا بأن بعض قراء المنار
ومحبيه ، يقترح عليه أن نزيد فيه بعض الفصول العلمية والأدبية والمباحث الفنية
العصرية ؛ لترغيب القراء من كل الطبقات في قراءته .
أعود إلى أول سياق المقال فأقول : إنه لولا جمود مقلدة الفقهاء الذين احتكروا
التعليم الديني في بلاد الإسلام منذ قرون ، ولولا بدع أهل الطرق الصوفية
وخرافاتهم ؛ وهم الذين كان سلفهم يعنون بالتربية الدينية ؛ ليكون الدين وجدانًا عند
صاحبه لا يقبل البحث والجدل ، فانقلب بعدهم إلى إفساد لا يقبل الإصلاح بحيلة من
الحيل ؛ لولا هؤلاء وأولئك لما كان لهؤلاء المفسدين ولا للمبشرين أدنى تأثير في
إغواء المسلمين .
لئن كانت مقلدة المذاهب المعروفة هي بقية الآخذين بظواهر الإسلام ، فما هذا
بمبرئ لهم من تهمة الجناية عليه والتنفير عنه في هذا العصر ؛ باحتكارهم لأنفسهم
الحكم في كل شيء باسم الدين ، وإيجابهم على الناس اتباعهم فيه ، لتعودهم هذه
الرياسة منذ قرون ؛ وهي رياسة ما أنزل الله بها من سلطان ، وكان ضررها في
الزمن الماضي قليلاً فأصبح عظيمًا ؛ إذ كان من أسباب ارتداد من لا يحصى عن
الدين ، إلى أن تجرأت حكومة إسلامية عظيمة الشأن والتاريخ على الارتداد عنه ،
ومحاولة محو أصوله وفروعه وآدابه ، وكل ماله صلة به من أمتها ، كما محته من
حكومتها ؛ وهي حكومة مصطفى كمال التركية .
العلوم والفنون والصناعات العصرية لا يمكن لحكومة أن تحفظ استقلالها
بدونها ، ولا يمكن لأمة أن ترتقي في زراعتها وتجارتها بدونها ، ومنها ما هو
قطعي لا يمكن الشك في ثبوته ، ولكن هؤلاء الفقهاء الجامدين يتحكمون في الحكم
على من يعتقد هذه القطعيات بالكفر ، وهم الذين كانوا يعارضون الدولة العثمانية
وغيرها بالانتفاع بهذه العلوم والفنون ؛ بدعواهم أنها معارضة للدين مخالفة للقرآن
حتى إنهم كانوا يحرمون علم الجغرافيا ، مع أنه ليس في موضوعه ولا مسائله ما له
علاقة بالمباحث الدينية إلا أن يكون إثبات كروية الأرض ودورانها ، وكان فيهم من
يقول : بتحريمه ويعارض الدولة في تعليمه إلى عهد غير بعيد ، كما يُعلم مما روي
لنا عن العلامة الشيخ سليم بوحاجب التونسي ؛ إذ سأله أحد الوزراء في الآستانة
عن حكمها ، فقال : الوجوب ، فكبر ذلك على عالم كان عنده وسأله عن الدليل ،
فقال : أرأيت إذا كانت الدولة في حرب مع العدو ، وأمر الخليفة وزيرَ الحربية أن
يضع بعض الضباط رسمًا لمواقع هذه الحرب وطرق الجيوش فيها ، مما يتوقف
عليه درء خطر العدو ويرجى سبقه إلى المواضع الحصينة ، ( مثلاً ) ، فهل تجب
طاعته في ذلك أم لا ؟ قال : تجب ، قال وهل يكن هذا لمن لا يعرف علم الجغرافيا ؟
اهـ ، بالمعنى ، ويراجع نصه في ترجمته رحمه الله من المنار .
إن أمثال هؤلاء المتفقهة المحتكرين لعلم الدين والمنتصبين للدفاع عنه بغير
علم ، يزيدون فيها ما ليس منه تقليدًا لبعض المؤلفين الميتين الذين درسوا في كتب
التفسير والحديث ، وشر زياداتهم خرافات زنادقة اليهود والفرس في الخلق
والتكوين وصفة السموات والأرض والكواكب والرعد والبرق وجبل قاف وقرن
الثور والحوت وما أشبه ذلك ، ثم قاموا يكفرون من يخالفهم في ذلك ، فجعلوا هذه
الخرافات الإسرائيلية من أركان الإيمان الذي يخرج منكره من الملة ، على أن الذين
ابتلوا بذكرها في كتبهم من المتقدمين ؛ لغرامهم بكل ما روي لم يرفعوها إلى هذا
الأفق من أصول الدين ولا من فروعه ، فكيف يقل إسلام هؤلاء من أعطاهم الله
تعالى علمًا يقينيًا بأن تلك خرافات باطلة ؟
إن الأرض صارت معروفة للناس طولاً وعرضًا ، مشاهدة بالعينين من أولها
إلى آخرها ، وقد طاف حولها كثير من الناس مرارًا ، يخرج أحدهم من مكانه
متوجهًا إلى الشرق مثلاً ، فلا يزال يستقبل شرقًا ويستدبر غربًا حتى يعود إلى
مكانه من الجانب الآخر ، ثم إن مراكز المخاطبات التلغرافية عمت شرقها وغربها
فكل قطر يعلم ما يتجدد من الأحداث المهمة من غيره كل يوم . أفبعد هذا يقول لهم
هؤلاء الجهال : يجب أن تدينوا الله بأن الأرض سطح مبسوط غير كروي ثابت
على رأس ثور .. إلخ .
إن مسألة شكل الأرض ليست من عقائد الدين ولا من أحكامه ولا من آدابه ،
ولم يوجب الله تعالى على عباده أن يعتقدوا أنها كالرغيف أو لوح الخشب ولا أنها
كرة ، ولا يسأل أحد يوم القيامة عن إيمانه بشكل الأرض ، فإذًا لا يضره في دينه
أن يجهل شكلها ، ولا يضره أن يعرفه بطريق من طرق المعرفة ولكن ينفع في
الدنيا ، وإنما يزعم هؤلاء الجاهلون المفتاتون على الناس في دينهم ؛ الملحقون به
ما ليس منه أن قوله تعالى : { وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ( الغاشية : 20 )
ظاهر في أنها سطح لا كرة . قال الجلال في الأول وعليه علماء الشرع ، وفي
الثاني أن عليه علماء الهيئة ( لكنه قال ) : وإن لم ينقض ركنًا من أركان الشرع .
والصواب أن كثيرًا من كبار علماء الشرع قالوا : إنها كرة ، وأن قوله : ( سطحت )
لا ينافي كرويتها ؛ لأن للكرة سطحًا كغيرها من الأجسام ، وأنه يوجد في القرآن
ما هو أظهر في الدلالة على الكروية منه على غيرها ؛ كقوله تعالى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } ( الزمر : 5 ) ، وإنما التكوير في اللغة اللف
على الجسم المستدير كما بسطناه في مواضع أخرى . ومع هذا كله يوجد من هؤلاء
المفتاتين ومن مقلدتهم من يعدون الاعتقاد بكروية الأرض كفرًا بالله ومروقًا من دينه ،
وهم يجهلون أن هذا المسألة أصبحت في هذا العصر من المسائل القطعية ، فإن
الأدلة على كرويتها لا يمكن نقضها ألبتة ، فإنكاره باسم الدين جناية على الدين .
نعم .. إنه يوجد كثير من أدعياء العلم الديني من يفتنون العوام بتكفير القائلين
بكروية الأرض ، سواء كانوا من الفئة التي أوشكت أن تبيد من الأزهريين أو من
أمثالهم من مقذوفات سائر المدارس الدينية في الشرق والغرب ، بل منهم من لا
يزال يقول : إن الأرض قائمة على قرن ثور ، وإن الزلازل تحدث بهز رأس الثور
أو نقله إياها من قرن إلى قرن ، ولكن أكثر المتعلمين في الأزهر على الطريقة
النظامية ، صاروا يعرفون الحقيقة في ذلك .
وقد بلغني أن عالمًا من أجلّ علماء نجد وأوسعهم اطلاعًا على الكتب المختلفة ،
قال بتكفير من يقول بكروية الأرض . وقد راعني هذا ؛ لأن الذي نص عليه
الشيخ محمد عبد الوهاب إمام النهضة النجدية وغيره من علمائهم ؛ أنهم لا يكفرون
أحدًا إلا بمخالفة الإجماع في المسائل الدينية القطعية ، وهذه ليست مسألة دينية ولا
إجماع عليها . ولأن أكبر أئمة الحنابلة التي استمد الشيخ وخلفاؤه من كتبهم تجديده
للدين في نجد شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وقد ذكر الثاني في بعض كتبه أن
الأرض كروية ، فهل يكفره هذا العالم إن صح الخبر عنه ؟
هذه مسالة جناية المقلدين الجامدين على الدين ، قد فتحنا بابها وتغلغلنا في
زوايا بيوتها منذ السنة الأولى للمنار سنة 1315 ، وإنما ذكرناه هنا لإثبات اشتراك
هؤلاء مع الملاحدة في هدم الإسلام من حيث لا يشعرون كما تقدم في صدر المقال
فهم يفتنون جميع المتعلمين على الطريقة العصرية الاستقلالية عن الإسلام من
جانب ، ويقطعون الطريق على حكماء الدين الراسخين ؛ أن ينشروا حقيقته التي لا
يمكن المراء فيها من جانب ثان ، وأن يدحضوا شبهات الماديين والمبشرين عليه
من الطريق العلمية التي لا يمكن إقناعهم أو إلزامهم الحجة بدونها من جانب ثالث ،
فماذا يفعل المنار ومن على منهج المنار ، في مكافحة أولئك الكفار الفجار ، والحال
ما ذكرنا ؟
إنني أرى كثيرًا من أفضل رجالنا علمًا ودينًا وعقلاً يائسين من الإصلاح هنا
ولست موافقًا لهم على اليأس التام ، وإذا كان هذا رأيي في أعضل أدواء مفاسد هذه
الأمة ، فما دونه من مفاسد المبشرين عندي أهون ، إنني أقول بإمكان تلافي الشر
إذا نهض القادرون عليه نهضة سريعة بنظام محكم ، وذلك أن القوة التي تغلب كل
قوة في هذا العصر هي قوة الرأي العام للأمة ، والرأي العام في مصر لا يزال
متدينًا ، سواء في ذلك مسلموه وقبطه وغيرهم من النصارى واليهود , والنصارى
منهم من جميع الفرق أشد اعتصامًا برابطتهم الدينية الاجتماعية من المسلمين ؛ كما
بيناه من قبل في مقالاتنا ( المسلمون والقبط ) ، وقد طال هذا المقال فزاد على ما
قدرت له ؛ لذلك أرجئ بيان ما ذكرت من الرجاء في انتصار التدين على الإلحاد ،
والإصلاح على الإفساد ، في مقال أفرده له في جزآت فقد آن لنا التصريح وعدم
تهيب سفهاء الكتاب المضلين ، والوزراء والرؤساء المفسدين والله ولي المتقين .
(29/115)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
أبريل - 1928م
من عنيزة إلى قاهرة مصر
في رجب سنة 1346

بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات ، ووافر السلام والتشكرات ، لحضرة الشيخ الفاضل
السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور ، ووفقه وسدده
في كل أحواله آمين ، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما
اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها
الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام
والمسلمين ، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين ، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم ،
وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة ، وأنعم عليكم بنعمه
الظاهرة والباطنية ، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا
واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء
الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من
أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من
الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد
وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها
من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر ،
وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام ، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير
من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في
مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى
قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول
الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها ، وأنه
يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين
الإسلام وتكذيب لله ورسوله ، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها
وأن الله بريء منها ورسوله ، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها ،
ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب
إهمال علمها وعملها .
وَيْح من قال ذلك ، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي
أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة
الفلاسفة ، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في
الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد
والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بذلك ، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين ، ويتأولون قصة آدم
وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة
له ، وإنما قصد به ضرب الأمثال ، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه
شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن
مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها
بكثير ، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد
تصورها ، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع ، وأنه لا
يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا ، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول
صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن .
وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي :
التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها
تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون
بالإسلام ، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله
ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة
ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا
شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه ، ولتقليد
من يعظمه وخضوعًا أيضًا ، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم
يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا
بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل ، فالأمل قد تعلق بأمثالكم
لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء
فضلاً عمن دونهم ، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون ،
وتقوم به الحجة على المعاندين ، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه
والإشارة ؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه ، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم ؛ لأن
فيه الخطر العظيم على المسلمين ، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا
فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار ؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما
يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم ، وصلى الله على
محمد وسلم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الداعي
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن ناصر السعدي
( المنار )
إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله
والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي الدعوة إليهما على الوجه
الذي كان عليه جمهور السلف الصالح ، وفي الرد على خصومهما كما يرى في
مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء ، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة
اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد
نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة ، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير
الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد
أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على
علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته
تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له ، وما نعرفه
إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع
بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر ، ونحن قد
سقناه بالدعوة إلى هذا ، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن
كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب
المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي
ذكرتموها .
ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها
وحديثها ، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية ، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع
الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع
الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات
الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم
فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس ، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد
طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم .
وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة
لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب ، وإن خالفهم في بعض
النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما ، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم
أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل
بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها
ويتفق مع العلم والعقل .
وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد
يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام
كزنادقة الباطنية المتقدمين ، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في
الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها ، فإذا
ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول : إن ما كتبه لا ينافي
الإيمان ولا يصادم الإسلام ، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن
في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة
المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما
لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء
مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة ؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى
من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية
الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه ، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف
وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة .
وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا
نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن ، ورد بعض الشبهات التي يوردها
الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن
اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في
كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره .
والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن ؛ إذ
من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا
لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة ، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير
المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه ، فإنني كنت منذ سنين
كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث
والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها ، وقد كنت
كتبت إلى إمامهم بذلك ، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على
أشهرهم ، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب ، ثم ترجَّح عندي أن تلك
النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها .
(29/143
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م

الرد على الزعيم محمد علي الهندي
في موضوع ملك الحجاز وحكومته وقومه والخلافة
( 1 )

وردت على مؤتمر الصحافة بمصر برقية من مكة المكرمة تنبئ بأنه
( اكتشف في مكة مؤامرة خطيرة ضد حكومة الحجاز أدت إلى القبض على شخص
يدعى الشيخ عبد الله من العسير بتهمة التجسس ، وقد ضبطت في حيازته أوراق
من بينها خطابات إلى الإمام يحيى وولي عهده من ( شوكت علي ) الهندي يحثهما
فيه على النهوض لغزو ابن السعود كما ضبطت خطابات أخرى في حيازة حسن
عطاس وعبد العزيز اليمني تثبت اتصالهما بهذا الزعيم الهندي ) .
وقد اتفق أن ألم بمصر في أثناء ورود هذه البرقية الزعيم محمد علي الهندي
شقيق شوكت علي الشهيرين في طريق سفره إلى أوربة فاطلع على هذه البرقية فرد
عليها ( بتصريحات ) ألقاها إلى جريدة الأخبار الغراء فنشرتها في اليوم 23 من ذي
الحجة الحرام ، فألفينا فيها من المواربة وإخفاء الحقيقة التي نعرفها منه ومن أخيه
أيام عقد المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة ومن بعض ما خطب به في الهند
ونشره في جرائدها ما دَعَّنَا إلى الرد عليه دعًّا ( على إردام الحُمَّى
[*] علينا منذ
شهر ونصف ونهي الأطباء إيانا عن الكتابة والقراءة ) فكتبنا مقالاً لم يتيسر نشره
في الأخبار حيث نشرت تلك التصريحات بل فُقِدَ فاضطررنا إلى كتابة هذا المقال
الثاني ، وكان بعض الكتاب من إخواننا المسلمين نشروا في جرائد أخرى ما
استهجنوا به طعن الزعيم محمد علي في جلالة ملك الحجاز وبث دعايته بمصر في
عداوته له في الوقت التي تظهر الأمة كلها شكر جلالته والثناء عليه لما قام به من
خدمة حجاج بيت الله الحرام بتأمين البلاد المقدسة وتسهيل المواصلات فيها وغير
ذلك ، وتحث الحكومة على موالاته وشد أواخي الاتفاق مع حكومته لمصلحة
القطرين ؛ ولما يقتضيه دين الحكومتين والأمتين ، وإنني أقسم الكلام إلى ثلاثة
فصول :
( 1 ) في دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه .
( 2 ) في حكومة الحجاز وما وعد به ابن السعود فيها .
( 3 ) في قوم ابن السعود وقوته والخلافة ، وتصدي الزعيمين لإقامتها أو
الاتجار بها .
***
( 1 )
دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه
احتج على تبرئة أخيه مما جاء في برقية مكة بأمور :
( أحدها ) قوله : ( وهل مبادئنا وآراؤنا وأفكارنا في حاجة إلى مؤامرات أو
تدبيرات خفية أو أعمال غير مشروعة ) ؟
( ثانيها ) قوله : ( إننا لم نكن ضد ابن السعود شخصه ، ولكن لأنه جعل
نفسه ملكًا على الحجاز ، ونكون ضد الإمام يحيى إذا حدثته نفسه بأن يكون ملكًا
على الحجاز ؛ لأننا نعتقد أن الملوكية هي أول بدعة في الإسلام بخلاف الخلافة
التي لا تعرف الملوكية بحال ) وسماها في آخر تصريحاته وثنًا قال : إنه يجب
هدمه والتخلص منه ، ذكر أنهم يحاربون مبدأ الملوكية ، ويعتقدون أنهم ينتصرون
بالحق ومقارعة الحجة بالحجة ، ويعتقدون : ( أن غير ذلك من الوسائل التي يلجأ
إليه ذوو الغايات من التدبيرات والمؤامرات أو استخدام وسائل الضعف ( كذا )
والقتل والاغتيال من أضر الوسائل المؤدية إلى الفشل ) إلى أن قال : ( ولا نعمل
كما يعمل غيرنا ؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال في سبيل
تقوية دعائم ملكه ، ولو علم أنها لا تنفق إلا على الملذات والشهوات لضن بها
وصرفها فيما هو خير من ذلك ) اهـ ( رمتني بدائها وانسلت ) .
ونقول في تفنيد هذا الدفاع : ( أولاً ) إن مما لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه
أن عداوته وعداوة أخيه لابن السعود عداوة سياسية ، والسياسة هي التي تكون دائمًا
ذات مبادئ ظاهرة ودسائس باطنة ، فهما ينازعان الرجل في ملكه ويسعون لإسقاطه ،
ولا يظن عاقل أن الغرور قد بلغ منهما أن يعتقد أنهما يقلبان ملكًا عن كرسي ملكه
بالحجج ، وقد تألب العالم الإسلامي كله ( تقريبًا ) على الملك حسين وكان هو
وأخوه من أشد الناقمين عليه ، وكان كاتب هذا الرد أشد منهما في ذلك وله في ذلك
المقالات السياسية والفتاوى الشرعية ، والحجج الدينية الناهضة التي نشرت في
المنار وفي غيره من الجرائد اليومية السياسية ، ومنها مقالات ( السيد العلوي ) التي
نشرت في جريدة الأخبار ، ولم يستطع العالم الإسلامي بسخطه ولا بإنكاره وحججه
أن يثل عرش الملك حسين ثم ولده علي من الحجاز ، وإنما ثله سيف ابن السعود
فقط فالمبادئ الظاهرة لا تنافي السعي في الدسائس الباطنة ، والأعمال الخفية غير
المشروعة .
( ثانيًا ) إنه لا معنى لنفي العدواة الشخصية لملك ممن يعترف أنه يسعى
لإسقاط ملكه ؛ لأن عداوة الملك الشخصية لا تكون شرًّا من هذا ؛ إذ لا يعقل أن
يعادى الملك لطوله أو قصره أو لونه أو سمنه أو هزاله أو دمامة صورته أو غير
ذلك من صفاته الشخصية .
ولو كانت عداوة الزعيمين لجلالة عبد العزيز آل سعود لأجل تسميته ملكًا
على الحجاز عداوة لصفة حكمه لا لشخصه ، وكان سببها ما زعمه الزعيم محمد
علي من كون الملكية أول البدع في الإسلام - وكانا لشدة تمسكهما بالسنة يعاديان
كل صاحب بدعة- لعاديا جلالة ملك مصر وجلالة ملك الأفغان أيضًا ، ولواليا الإمام
يحيى ؛ لأنه لم يلقب بلقب الملك ، ومراده ومراد قومه بلقب الإمامة عين ما يريده
الزعيمان من لقب الخلافة ، وإذًا يصح ما يقال من أنهما يغريانه بالزحف على
الحجاز وإنقاذه من الملك عبد العزيز ؛ لتعميم إمامته وتقرير خلافته ، فإن كان
يصدهما عن هذا ما ينتحلان من مذهب السنة وعلمهما أنه هو وقومه على مذهب
الزيدية وأصول المعتزلة فيما يسمونه العدل والتوحيد بالمعنى الذين ينكره عليهم
أهل السنة ، فلم لا يعاديانه لأجل بدعتي التشييع والاعتزال ، وهما المدعيان القيام
بإقامة السنة وهدم الابتداع .
على أن الزعيمين يطعنان في شخص عبد العزيز آل سعود بما لا علاقة له
بملكه ولا بشكل حكمه ، وما أظن الأخ محمد علي نسي يوم وجدته في الصباح
جالسًا في الحرم الشريف مع جماعة وأنا منصرف من طوافي فسلمت عليهم
وجلست إليهم فألفيته يغتاب ابن السعود حتى في شكل لحيته ، وما يقال من كثرة
زواجه ، فأنكرت عليه ذلك أمام بيت الله تعالى حيث تتضاعف السيئات كما
تتضاعف الحسنات ، وما اعتذر به من إخلاصه وحسن نيته وما رددت عليه
بالمعروف واللطف من كون الإخلاص وحسن النية لا يحيلان المعصية طاعة ولا
يبدلان السيئة حسنة ، وكونهما سريرة بين العبد وربه لا نعلمهما فتقوم بهما علينا
الحجة .
حينئذ استدل على إخلاصه وإخلاص أخيه باضطهاد حكومتهما البريطانية لهما
واعتقالها إياهما ورفع شعبهما لهما إلى مقام الزعامة ، فقلت له : أنا لا أطعن في
إخلاصكما فيما قاومتما به حكومتكما ولا في غيره ، لا لما احتججت به عليه بل لأنه
سريرة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، وأما هذه الحجة فهي داحضة عند من يعرف
التاريخ الماضي وأحداث العصر الحاضر ، فإننا نعرف في بلادنا أناسًا اعتقلتهم
السلطة الأجنبية بجهل وغباوة منها فصارت العامة تعظمهم وتجلهم وتعدهم من
المجاهدين في سبيل الأمة والوطن ، ومنهم من نعرفه معرفة الخبر الطويل بأنه
مادّيّ محض يتجر بالوطن والأمة ، ويحتقر الدين والملة ، ثم يدعي الزعامة بمثل
هذه الشبهة .
( ثالثًا ) إن كانا لا يسعيان إلى غرضهما من تحويل حكومة الحجاز الملكية
إلى الجمهورية كما قالا في الحجاز ، أو الخلافة كما قال هو في مصر إلا من
الطرق المشروعة كما ادعى فما بالهما قد بثا الدعوة في الهند إلى ترك إقامة فريضة
الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز ، فهل شرع الله لهما أن يهدما الركن
الاجتماعي الديني العام من أركان الإسلام ( وهو ركن الحج ) لأجل نكاية ابن سعود
وإخضاعه لسياستهما الوهمية ؟ ماذا يجيبان الله تعالى يوم القيامة إذا سألهما عمن
أضلا من عوام الهنود فتركوا أداء فريضة الحج مع الاستطاعة حتى ماتوا ثم جاءوا
في ذلك اليوم يقولون : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ } ( الأعراف : 38 ) .
( رابعًا ) أغرب ما جاء في تصريحات الزعيم الهندي قوله : ( ولا نعمل كما
يعمل غيرنا ؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال ) إلخ ، ما تقدم ،
فأول العبارة صريح في أن الذي يجمع النقود هو الملك ابن السعود ، وأن غرضه
منها تقوية دعائم ملكه ، وهو غرض شريف وآخرها صريح في كونه لا يعلم أين
تنفق ، ولوعلم لضن بها وأنفقها فيما هو خير من ذلك ( وهذه شهادة صالحة )
( والفضل ما شهدت به الأعداء ) ولكن العبارة تنافي ما قبلها فهي تدل على أن الذي
يجمع النقود المشار إليها غيره ، ولعل المراد أنه يجمعها له وباسمه ولكنه لا يوصلها
إليه ، ولم يبلغنا أن فردًا من الأفراد ولا جماعة من الجماعات تجمع نقودًا من الهند
ولا من غيرها لملك الحجاز أو باسمه ، وإن وجد من يعمل ذلك وصح ما قاله
الزعيم فيهم فإن ذلك لا يعيب جلالة الملك الصالح المصلح الذي علم مئات الألوف
من الحجاج بالمشاهدة وعلم الملايين من الناس بالنقل المتواتر أنه ينفق المال فيما لم
يسبقه إليه أحد من ملوك المسلمين ولا خلفائهم من تسهيل أداء فريضة الحج ومنع
الأذى عن مؤديها ، ومنه ما رأوه في الموسم الأخير من تبليط المسعى بين الصفا
والمروة ومنع الرواحل والدواب منه وإراحة الحاج من ذلك الغبار الذي كان يملأ
الأفواه والأنوف حتى يصل إلى الصدور ، ومنها المظلات العامة في الحرم الشريف
وفي منى وفي طريق عرفات لوقايتهم من ضربة الشمس التي كان يموت بها في
كل عام عدد كثير ، دع الأمن العام الشامل من أول يوم والإسعافات الطبية
والسيارات التى كانت تغدو وتروح بين مكة وعرفات لافتقاد من يعجز عن المشي
أو يصاب بأذًى في الطريق فتحمله إلى مواضع الإسعاف .
ولعل الزعيم لم يجرؤ على التصريح بمن عرَّض به أو بهم في مسألة النقود ؛
لئلا يسألوه عن مئات الألوف من الجنيهات التي أخذتها جمعيته من بلاد الهند ،
وقيل : إن كذا وكذا منها قد ذهب بإفلاس أمين الصندوق ، والباقي علمه عند علام
الغيوب ثم يضربوا له ولهم المثل المشهور ( رمتني بدائها وانسلت ) .
هذا ، وإنه قد ورد النبأ الرسمي من حكومة الحجاز على الوكالة العربية في
مصر بأن خبر المؤامرة على الحكومة الذي بلغته نقابة الصحافة المصرية لم يثبت
وإنما ثبت وجود الخطابات من ( شوكت علي ) مع الجاسوس عبد الله العسيري ،
ويؤخذ من فحوى هذه الخطابات أنها اتخذت ذريعة لابتزاز الأموال .
لو شئت لأحصيت كل دعاوى الزعيم الكبير محمد علي في تصريحه وفندتها
وجنيت على قراء مقالي بتكليفهم قراءتها ، وهي لا تعنيهم ولا يعنيهم أمر صاحبها ،
وإن كان زعيمًا لبعض الهنود على أنه فَقَدَ جُلَّ زعامته ، والباقي منها على شفا جرف
هار ، لهذا أكتفي بالمسألتين اللتين تعنيان جماهير المسلمين ومحبي التاريخ الصحيح
من غيرهم ، وهما وعد ابن سعود للعالم الإسلامي بعقد مؤتمر يستنير برأيه في أمور
الحجاز ، وكتابته لملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم وأشهر جماعاتهم وبعض
علمائهم بذلك ، ومسألة رجال قوم ابن السعود وشعبه ومسألة الخلافة وخطل الزعيمين
فيها فأقول :
***
( 2 )
حكومة الحجاز وما وعد ابن السعود فيها
قد صرَّح الإمام عبد العزيز آل سعود بقصده وغرضه من الزحف على
الحجاز تصريحات أذاعت بعضها الصحف المصرية وغيرها ، أولها ما فاه به في
نجد قبل خروجه منها إلى الحجاز ، وخلاصتها أنه يريد تطهيره من إلحاد الظلم
والاستبداد ويؤمنه ويقيم فيه الشرع والعدل مسترشدًا بآراء أهل العلم والرأي في
العالم الإسلامي ، وبعد أن التقى في مكة المكرمة بفضيلة الأستاذ المراغي مندوب
جلالة ملك مصر وبسعادة سفير إيران في مصر ( اللذين ألما بالحجاز على إثر ما
أذاعه الشريف علي وهو محصور في جدة من هدم الوهابيين لقبة الحجرة النبوية
وهدمهم للمساجد والمشاهد ) وما كان من تحاوره مع هذين المندوبين الذكيين اقتنع
بأن ينجز وعده المجمل المشار إليه بصفة تفصيلية رسمية هي أن يدعو أشهر
رؤساء الحكومات الإسلامية المستقلة ، وشبه المستقلة وأشهر الجماعات الإسلامية
في الهند وسورية إلى إرسال مندوبين من قبلهن لعقد المؤتمر الإسلامي الموعود به
ثم يدعو بعض أفراد العلماء في البلاد التي ليست فيها حكومات إسلامية ولا جمعيات
مشهورة لذلك .
كتب بذلك إلى أصحاب الجلالة ملك مصر ، وإمام اليمن وشاه إيران ، وملك
الأفغان ، ورئيس جمهورية الترك ، وسمو باي تونس ، وإلى جماعة علماء الحديث ،
وجمعية العلماء ، وجمعية الخلافة بالهند ، والمجلس الإسلامي الأعلى في القدس
الشريف ، وإلى الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني وإخوانه العلماء في الشام ،
كتب لهؤلاء كتابًا بنص واحد نشر في أشهر الجرائد ، وكان تاريخه 8 ربيع
الآخر سنة 1344 وأهم ما جاء فيه قوله بعد قصده من جهاده : ( إنني والذي نفسي
بيده لم أُرِدْ التسلط على الحجاز ولا تملكه ، وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت
الذي يختار الحجازيون واليًا منهم يكون خاضعًا للعالم الإسلامي وتحت إشراف الأمم
الإسلامية والشعوب التي أبدت غِيرة تذكر كالهنود ) .
( إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي التي لا نزال نحارب من
أجلها مجملة فيما يلي :
1- إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم ، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق
التي لهم في هذه البلاد .
2- سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم للحجاز تحت إشراف مندوبي العالم
الإسلامي ، وسنسلم الوديعة لهذا الحاكم على الأسس الآتية ، وذكر خمسة أسس :
( أولها ) : كون الحكم بالشريعة المطهرة ومرجع الناس إليها .
( ثانيها ) : حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها ، ولكن لا
يصح أن تعلن الحرب على أحد ، إلخ .
( ثالثها ) : لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أي دولة كانت .
( رابعها ) : لا تعقد اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية .
( خامسها ) : تحديد الحدود الحجازية ووضع النظم للحكومة ( موكول
للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله
كل دولة في العالم الإسلامي والعربي ، وسيضم لهؤلاء ثلاثة مندوبين من جمعية
الخلافة وجمعية أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند ، ثم قال : إن هذا ما نواه
وطلب من كل مخاطَب الإسراع بإرسال مندوبيه وإخباره عن الوقت الذي يناسب
عقد المؤتمر فيه ، هذا ملخص المهم من الكتاب ومن شاء أن يطلع على نصه كله
فعليه بالمجلد 26 من المنار ص 54 .
فالقارئ يرى أن ابن السعود إنما وعد بأن يمنح الحجاز استقلالاً إداريًّا في
داخليته ويقيم فيه واليًا منتخبًا ، وقيد فيه هذا الوالي في التصرف الاقتصادي ولم
يجعل له حقًّا في الأمور السياسية ولا العسكرية بل احتفظ بهما لنفسه بالطبع ، ولكن
رؤساء الحكومات الإسلامية التي أراد أن تكون مشرفة على اختيار الوالي الإداري
للحجاز وتحد حدوده وتضع للبلاد النظم الداخلية كلها في حدود الشريعة لم يجب
دعوته العاجلة منهم أحد فسقط ما أعطاهم من الحق في ذلك .
فهذه هي الوثيقة الرسمية التي يدندن حولها الزعيمان شوكت علي ومحمد علي
وكذا سفير إيران بمصر كما نشر عنه في الجرائد من قبل قد بلغ الغرور من
الزعيمين الهنديين مبلغًا لا تتطاول إلى مثله أعناق الملوك أولي الجيوش الجرارة
فتوسعا في تفسير هذا الوعد وأباحا لأنفسهما الإسراف في الطعن والزراية على
الملك المصلح العادل التقي الذي عرضت عليه البيعة بالخلافة العظمى فلم يقبلها
تواضعًا وتنصلاً من أعبائها ، وما يترتب عليها من الفتن فوصفه الزعيم محمد علي
في تصريحه الأخير بمصر ببعض ما نبذه في خطبه بالهند من ألقاب الكذب
وإخلاف الوعد والحنث بالأيمان .
قال في تصريحه : ( لقد رأينا سوء الإدارة الملكية طول مدة حكم الشريف
حسين فقرَّرْنَا تطهير بيت الله الحرام ، وكعبة الإسلام ، بل وجزيرة العرب من
رجس الاستبداد الملكي بحيث لا نسمح ولا نرضى بوجود ملك أو سلطان هناك ،
وقد كان ابن سعود من رأينا وأقرنا على هذه الفكرة ووافقنا على مبدئنا وأعطانا
عهدًا صريحًا ووثيقة كتابية بذلك لا تحتمل التأويل ، وكنا نودّ وهو يقول بأنه من
أشد الناس محافظة على سنة الرسول أن يتذكر أنه عليه الصلاة والسلام هو
( الصادق الوعد الأمين وأن يتذكر بأن من أخلاق الإسلام أن المؤمن إذا قال صدق ،
وإذا وعد لا يخلف ، وإذ حلف لا يحنث ) إلخ ، فما قيمة هذين الرجلين ، وما قيمة
جمعيتهما التي فشلت فيما أنشئت لأجله حتى يدعيان هذا التصرف في جزيرة
العرب .
إن ابن سعود لم يخص محمد علي وشوكت علي بوعد غير ما وعد به العالم
الإسلامي عامة ، ومن ذكرنا من رؤساء حكوماته وأشهر جماعاته وهو ما يفهم من
كلام محمد علي هنا بأن لا يكون في جزيرة العرب ملك ولا سلطان ، وإنما وعدهم
كما وعد العالم الإسلامي كله بتطهير الحجاز من الظلم والاستبداد وقد وفى بوعده
هذا خير الوفاء ، وأما وعده المتعلق بشكل الحكومة الداخلية في الحجاز الذي ذكرنا
نصه الرسمي فلا يصح أن يقال : إنه أخلفه إخلافًا يستحق عليه أمثال هذه المطاعن
وإنما حال دون إنجازه أمران ليسا من سعيه ولا من عمله :
( أحدهما ) : ما أشرنا إليه من عدم إجابة رؤساء الحكومات الإسلامية إياه
إلى إرسال مندوبين من قبلهم للتمهيد لذلك الإنجاز بعقد المؤتمر الإسلامي وغيره ،
فاضطر إلى عقده بدون تدبير أحد منهم لتقصيرهم لا لتقصيره ، وسنذكر ما كان من
أمر من أرسلوا وفودهم إلى المؤتمر وأهمه تهنئتهم لابن السعود بنصبه ملكًا على
الحجاز .
( ثانيهما ) : رأي أهل الحجاز أنفسهم ، فهم لم يرضوا أن يكون عليهم
مسيطرون من دول أجنبية عنهم المستقل منها مخالف لهم في المذهب كاليمن وإيران
أو في الجنس كالترك والأفغان ، وناهيكم بحال الترك بعد انسلاخ دولتهم من دين
الإسلام ، وغير المستقل في أموره تحت سيطرة دول الاستعمار الأوربية ولا سيما
الخارجية ، وإذا لم يرضوا بسيطرة ولا تدخل من الدول الإسلامية في شؤونهم فعدم
رضاهم بتدخل الشعوب الإسلامية المستذلة لدول الاستعمار كالهند والجاويين
والمغاربة أحق وأولى ، وهم - أي أهل الحجاز - معترف لهم من الدول العظمى
بالاستقلال المطلق لذلك بادروا بعد استيلاء الإمام عبد العزيز بن السعود على جميع
الحجاز وتسليم الشريف علي له رسميًّا على مبايعته بشروط تتضمن : التفصي من
كل سيطرة ونص البيعة يدل على ما بيناه من رأيهم آنفًا فلم يسعه إلا قبول بيعتهم ،
وإلا كان مستبدًّا فيهم بتحكيم غيرهم في أمورهم ، وإنما غرضه الأول إزالة
الاستبداد من الحجاز ، فلو أجاب أولئك الملوك والرؤساء دعوته التي سبق
بيانها ورفض ذلك أهل الحجاز لما ساغ له إجبارهم على قبول تلك السيطرة فكيف
وهم لم يجيبوا الدعوة ؟ فهل يقال مع هذا : إن ابن السعود وعد بأن يجعل الحجاز
تحت مراقبة العالم الإسلامي ثم أخلف الوعد مختارًا ، وكذب متعمدًا ؟ كلا إنما تعذر
ذلك عليه من الجانبين جانب الحجاز وجانب الدول والجماعات الإسلامية ، وكان
ذلك هو الخير ولله الحمد .
وهذا نص بيعة علماء الحجاز وشرفائهم وممثلي جماعاتهم لابن السعود بعد
البسملة والحمدلة والتصلية ( نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح والأئمة
الأربعة رحمهم الله تعالى ، وأن يكون الحجاز للحجازيين ، وأن أهله هم الذين
يقومون بإدارة شؤونه ، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز ، والحجاز جميعه
تحت رعاية الله ثم رعايتكم ) .
كتب هذا النص أهل الحل والعقد في العاصمة ثم بايعوه به وتلاهم أمثلهم من
سائر الأمصار وتلاهم مشايخ الأعراب ورؤساؤهم ، وأنت ترى أنهم بايعوه على ما
كان يبايع به الخلفاء الراشدون ، واشترطوا عليه إقامة مذهب أهل السنة ومنهم أئمة
الفقه الأربعة ، وأن يكون الحجاز لأهله لما ذكرناه من ملاحظتهم آنفًا .
وإنما سموه ملكًا ؛ لأن هذا اللقب له شأن عند الدول الأجنبية التي اعترفت
باستقلالهم المطلق ، وهو لقب لا يقتضي الاستبداد والظلم ، ولا هو ممقوت عند الله
ولا عند رسوله والمؤمنين فقد كان نبي الله داود ، ونبيه سليمان عليهما السلام ملكين ،
وقد امتن الله عليهما بذلك بل امتن على قومهما بني إسرائيل بقوله : { اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً } ( المائدة : 20 ) الآية ، وبهذه
احتججت على محمد علي بمكة المكرمة .
ولقب الخليفة لم يكن بأمر من الله تعالى ، ولم يطلقه الصحابة إلا على أبي
بكر وحده لأنه خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ولقبوا سائر الراشدين بأمير
المؤمنين ، ثم صار المؤرخون يطلقونه على الراشدين من بعدهم وعلى خلفاء
الأمويين والعباسيين .
ومن استقرأ أقوال ابن السعود في شكل حكمه ، سواء منها ما نشره في
بلاغاته وخطبه الرسمية وغير الرسمية ، وما دار بينه وبين الجماعات أو الأفراد
من أهل الحجاز وغيرهم يراها صريحة في التبرؤ من عظمة الملك وحب العلو في
الأرض ، أو تفضيل نفسه على أحد من الخلق ، بل هو يتنصل كثيرًا من لقب ملك
وقول : أنا رجل بدوي أو من عامة الناس ، ويرى أعماله وأحكامه وشمائله مصدقة
بذلك فهو أبعد من الطبقات الوسطى في الثروة والترف والتنعم في مأكله ومشربه ،
والتطرس والتطرز في ملبسه ، والإفناق والتورُّن في سائر أحوال معيشته ، اللهم
إلا الطيب فإنه يتطيب دائمًا ويفضل عطر الورد على غيره ، ويحب النساء
ويكرمهن متأسيًا بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في قوله : ( حُبِّبَ
إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) رواه الإمام أحمد
والنسائي من حديث أنس ، وهو كثير الصلاة ، ولا سيما في الليل .
وجملة القول أنه ليس في عبد العزيز بن السعود شيء مما يشكو منه محمد
علي الهندي وبعده من غطرسة الملك وكبريائه - من قول ولا عمل ولا خلق ولا
تحكم ولا تحجب ولا تكبر- بل هو يتحرى سيرة الخلفاء الراشدين بقدر طاقته ،
فهل يعذر هو وأخوه وجمعيتهما على عداوته لأجل لقب يزعمون أنه منبع الضلال
والشرور ، وإن تحلى به بعض الصالحين والأنبياء المرسلين ؟
كلا إن الرجلين ليسا من البلادة والجهل بحيث يعتقدان أن للألقاب هذا الشأن
والتأثير بل يغالطان ويسفسطان كما هو شأن أمثالهما من أهل النزعات السياسة ،
وإنما كانا يسعيان لأمر لهما فيه هوًى شخصي ، وهو جعل الحجاز جمهورية يدير
أمرها مجلس إسلامي مؤلف من جميع الشعوب الإسلامية لكل شعب فيه من
الأعضاء بنسبة عدده ، فإذا كل لكل مليونيين فما دونهما من كل شعب مندوب أو
عضو في هذا المجلس كما نقل لي عنهما ، وليكن مثلا يكون لنجد عضو واحد
وللحجاز عضو واحد ، ولمصر سبعة أعضاء ؛ لأن أهلها 14 مليونا ؛ وأما الهند
فيكون لمسلميها 35 عضوًا ؛ لأنهم يبلغون 70 مليونا ؛ وعلى هذا يكون لهم الرأي
الغالب في أنفسهم ، فكيف إذا أمكنهم استمالة بعض الأعضاء من الشعوب الأخرى
والاتفاق معهم ؟
وقد بينا في هذا المقال ضعف هذا الرأي وأفن العقل الذي يتخيله ، وما لأهل
الحجاز من العذر في عدم قبوله ، وإن ابن السعود لم يَعِدْ بهذا وإنما أشار في خطابه
لرؤساء الحكومات الإسلامية بأن المندوبين في المجلس الإسلامي الذي يحدد الحدود
الحجازية ويضع النظم المالية والإدارية للحجاز ( سيحدد عددهم باعتبار المركز
الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي ) إلخ ، ما تقدم آنفًا ، ومنه أنه لم
يعط الهند إلا ثلاثة أعضاء لجمعية الخلافة واحد منهم .
وقلنا فيه أيضًا : إن رؤساء هذه الدول لم يقبلوا الدعوة لإنجاز هذا الوعد
ونزيد عليه أنه لما عقد ملك الحجاز المؤتمر الإسلامي العام حضر مندوبون من قبل
إمام اليمن ورئيس جمهورية الترك وملك الأفغان دون غيرهم ، وقد جاءت هذه
الهنود مهنئة لجلالة الملك عبد العزيز وراغبة في شد أواخي المودة والصداقة معه ،
ولم يتعرض أحد منهم للاعتراض على ملكيته .
وإنني لما اقترحت في المؤتمر الاحتجاج على إلحاق منطقة عقبة ومعان
بحكومة شرق الأردن التي جعلتها الدولة البريطاني تحت سيطرتها ، وهي منطقة
حجازية وتقرير طلب إعادتها إلى الحجاز كان مندوبا الحكومة المصرية قد حضرا
المؤتمر متأخرين فانسلا من الجلسة بحجة أنهما غير مفوضين بالتدخل في أمور
الحجاز السياسية تبعهما مندوب اليمن ومندوب الأفغان لهذه الحجة ، ومعلوم أن هذه
المسألة تتعلق بحدود الحجاز التي وعد ابن السعود بجعلها من خصائص مندوبي
الدول الإسلامية .
ثم إن جلالة ملك الحجاز قد أرسل إلى المؤتمر بيانًا بخطته في حكومة الحجاز
ليبدي رأيه فيه فقرأه الرئيس وطلب من الأعضاء إبداء رأيهم فيه فقلت : إنني لا
أرى حاجة للمناقشة فيه ، فهذه الخطة صارت معلومة لنا إلخ ، فلم ألق معارضة
تذكر في هذا الرأي ، بل كان مقبولاً من المؤتمر وتقرر عدم المناقشة فيه .
هذا وإن تفصيل هذه المسائل سيجده محبو الاطلاع عليه في رحلتي الحجازية
الأخيرة إذا يسر الله طبعها ، وخلاصة القول : أن الزعيمين الهنديين كانا شاذين في
مكة المكرمة وكان شذوذهما وتهورهما مدعاة الاستغراب من مندوبي جميع الشعوب
وتعجب العقلاء كيف صار هذان الرجلان زعيمين سياسيين في الهند ولا عجب فإن
التهور في الجرأة والشذوذ في القول والعمل أعظم مجلبة للعوام .
ولم نسمع من الزعيمين المكرمين في مكة كلمة في طلب إحياء الخلافة
الإسلامية في الحجاز ولا في غيره ، وإنما هذه نبأة جديدة صاح بها محمد علي في
مصر ، ويرى القراء في آخر هذا المقال ما يهمهم من أمرها مختصرًا مفيدًا .
***
( 3 )
رجال ابن السعود وشعبه
لخص الزعيم المذكور ما بسطه من أسباب عداوتهم لابن السعود بقول :
( ومما تقدم تبين أننا نخالف ابن السعود لسببين : ( الأول ) تمسكه بالملك وعدم وفائه
بالعهد الذي تعهده لنا ( الثاني ) أن تمسكه بالملك يجعله في حاجة إلى من يعتز به
في ملكه ، فهو يعتز برجاله ورجاله جهلاء ، ونشهد أنهم مخلصون للدين إخلاصًا
أعمى ، وعيبهم جهلهم ، أما ابن السعود ، فنشهد أنه لم يكن جاهلاً ، ويعرف أن
الحق معنا ، وأن الدعوة إلى الخير لا تكون إلا بالتي هي أحسن ، ولكنه لم يستطع
مقاومة جهل رجاله ، وإلا خرجوا من يده ولم يبق له من يستعين به على الاحتفاظ
بالملك غيرهم ، فلهذا تراه يغمض العين على القذى ) اهـ .
يعني الزعيم برجال ابن السعود شعبه من أهل نجد ، وغير نجد من البلاد
التي تدين لسلطانه ، وهم الذين اشتهروا بلقب الوهابية ، ويعني بجهلهم عدم
وقوفهم على أمر السياسة وآداب الحضارة والعمران ، وشدتهم في الدعوة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو يشهد لهم بالإخلاص للدين وسمى إخلاصهم
أعمى ؛ لأنهم لا يراعون فيه أساليب الدعاية وآداب الحضارة وعلومها العصرية فيها
ويشهد لسلطانهم ابن السعود بأنه ليس بجاهل مثلهم ، ولكنه مضطر إلى الإغضاء
عن جهلهم وعدم التصدي لمقاومة هذه الجهل ؛ لئلا يخرجوا عليه فلا يبقى له قوة
يحافظ بها على ملكه ، وجناب الزعيم السياسي اللائم المليم يصرح بأن محافظة ابن
السعود على رجاله هؤلاء وإغماض عينه على قذى جهلهم هو السبب الثاني
لعداوتهم له ومقاومتهم إياه ، وقد تلطف هنا فسمى ذلك مخالفة ونتيجة هذه المقدمات
أن عداوتهم أو مخالفتهم له لا تزول إلا إذا ترك ملك الحجاز أولا وقاوم قومه حتى
يلجئهم إلى الخروج عليه ترك طاعته وإسقاط حكمه ثانيًا .
فأي عادل أو عاقل بريء من الهوى يوافق جناب الزعيم ويخطئ ابن السعود ؛
لأنه لا يوافقه ويوافق أخاه شوكت علي في الأمرين كليهما ، والسعي معهما لإقامة
جمهورية في مكة تكون تحت سيطرة جميع الشعوب الإسلامية على فرض أن هذا
صواب في نفسه ، وما هو إلا خطأ لا يحتمل الصواب ؟ بل أي عاقل يتوقف في
الحكم بالهوس والجنون على رجلين يطالبان ملكًا من الملوك بخلع نفسه من الملك
والانسلاخ من إمامة شعب قوي يطيعه طاعة دينية مكنته من تأسيس سلطنة عظيمة
أقام فيها العدل ونشر الإصلاح والتعليم والتحضير للبدو وحفظ الأمن في بدوها
وحضرها حفظًا لا يوجد له نظير في مملكة من الممالك حتى الأوربية والأمريكانية ،
ويتوقع لها جميع العارفين بحالها في الشرق والغرب مستقبلاً عظيمًا إذا أطال الله في
عمره حتى يتمكن من تنفيذ مقاصده ، ويعللان طلبهما بأنهما على حق فيما يقترحان
عليه ترك ملكه وقومه لأجله واتباعهما فيه ؟ وأي عاقل يصدق هذا الزعيم اللائم المليم
أن ابن السعود يعتقد أنهما على حق فيما ذكر ويوافقه على أن جريمته الموبقة هي
الحرص على ملكه الباطل والمحافظة على شبعه الجاهل : وإيثارهما على خيال محمد
علي العالم الفاضل ؛ لأن متخرج في مدرسة إكسفورد البريطانية ؛ ولأن له جمعية
سياسية خيالية جعلته هو وأخاه زعيمين لها ؟ صدق الله العظيم في قوله : { وَلاَ
تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ( ص : 26 ) وقوله : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ( الجاثية : 23 ) .
أما والله لولا اتباع الهوى والغرور بالزعامة لما صدر مثل هذه الكلام عن مثل
( مولاي محمد علي الزعيم الكبير ) فالرجل لوذعي الذكاء متخرج من أعلى
المدارس الإنكليزية ولكنه عصبي المزاج حديده إذا غضب وغلب عليه الهوى لا
يدري ما يقول ، في طلاقة لسان ، وجرأة جنان ، وزهو بالزعامة ، وتعود على
تصفيق عوام الهنود له في كل ما يقول ، ومنه كما نقل إلينا أنه قال في جماعة منهم
( إنه لا تأتي سنة 1927 أو 1928 ( الشك مني ) إلا وقد خرج الإنكليز من الهند )
فصفقوا له تصفيقا .
لو كان الرجل مخلصًا للإسلام والمسلمين في مساعيه السياسية لعد وجود
الشعب النجدي على الحال التي يعرفها ونعرفها من أعظم نعم الله على هذه الملة في
هذا العصر ، وأعظم أسباب الرجاء في تجديد مجد الإسلام ، وإقامة شرعه الذي
هدمته حكومات الحضارة الإسلامية الناقصة في كل مكان ، كان شرهم في ذلك
الترك الذين لم يشتهر محمد علي وشوكت علي في الهند وغيرها إلا بتصديهما
لتعزيز خلافتهم الوهمية الباطلة ، وإن كان لهما عذر سياسي في هذا لأن الدولة
العثمانية كانت سياجًا للمسلمين في الجملة كما كان يقول الأستاذ الإمام .
الشعب النجدي أو الوهابيون هم أصح الشعوب الإسلامية عقيدة وأقواها إيمانًا
فإن آية الإيمان الكبرى هي بذل المال والنفس في سبيل الله وهم كذلك ، ويظهر أثر
إيمانهم في أعمالهم فكلهم يؤدون جميع الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج
وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن منكر ، حتى إنه ليقل فيهم من تفوته صلاة
الجماعة حيث تقام بغير عذر شرعي ، وهم أصدق الناس حديثًا وأشهم أمانة قد تمر
السنين ، ولا يتهم أحد منهم بخيانة أو عدوان على غيره ، وأما شدتهم في الدعوة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي موجهة في الغالب إلى البدو وهي لائقة
بهم لخشونتهم .
وكلهم طائعون لإمامهم وسلطانهم في المنشط والمكره فإذا دعاهم إلى النفير
العالم أو الخاص نفروا خفافًا وثقالاً لا يكلفونه مالاً ولا وسلاحًا إلا من حاجة فهم على
سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بقدر علمهم
ومعرفتهم ، وهم من جراء ذلك يقبلون كل علم وعمل يوافق الشرع ويردون كل ما
خالفه ، فإذا تيسر تعليمهم كل ما ترتقي به الأمم في الحضارة من طريق الشرع
قبلوه ( ومنه أساليب الدعوة والإرشاد في الأمصار ) وإمامهم ابن السعود يعلم هذا
وينوي تنفيذه ، وكل ذلك يتوقف على كثرة المال ومساعدة الزمن ، والزعيم اللائم
المليم يعلم كل هذا ، ولكنه يريد أن يكون ابن السعود تابعًا لهواه ؛ لأنه كان ناصرا
له بجمعيته على الشريف حسين .
***
( 4 )
مسألة الخلافة
إذا أطلق المسلمون كلمة الخلافة فإنما يعنون بها الحكم الإسلامي الصحيح
الذي كان الخلفاء الراشدون أكمل مثال له ، وحكم الخلفاء الراشدين قد اشتهر في
العالم الإنساني لا الإسلامي وحده بأنه أكمل حكم أقام العدل المطلق بلا أدنى محاباة
لأحد من البشر لأجل دينه أو نسبه أو قوته أو غناه أو فقره أو قرابته أو عداوته أو
صداقته كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالنصر الصريح ، وأنه أكمل مثال لما
يسمونه في هذا العصر ( بالديمقراطية ) أي حكم الشعب ، وقد شهد بذلك العارفون
المنصفون من غير المسلمين ، وإن تخبط في فهمها ومعرفة قيمتها علي أفندي عبد
الرازق وأمثاله من الهادمين لمجد الإسلام الذين يلقبون أنفسهم بالمجددين .
كل مسلم صادق الإيمان بما جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
يتمنى لو يعود للمسلمين حكم الخلافة هذا ، وكل من وقف حق الوقوف على حكم
عبد العزيز بن السعود في بلاده ثم في الحجاز ، وإن لم يتم له فيه ما تم له في نجد
يعلم - وإن منعه الهوى أن يشهد بما يعلم- أنه هو النواة الوحيدة لإعادة حكم
الراشدين ومجد الإسلام الذي أسسوه إذا أتيحت له الأسباب والمساعدة من المسلمين ،
ومحمد علي وشوكت علي من أعلم الناس بهذا الأمر ولكنهما يدعيان أنهما
سيقيمان حكم الخلافة بإقناع جميع الشعوب الإسلامية به ، وإن من المقدمات لإقامتها
هدم قوة ابن السعود التي هي القوة الإسلامية الوحيدة القائمة على أساس الدين .
لا أستثني من هذا العموم حكومة الإمام يحيى في اليمن فإن قومه الزيدية الذين
هم دعامة حكمه وأصل عصبيته لا يقاتلون إلا في مقابلة جُعْل مالي يتقاضونه منه ،
وقد كان كثير منهم يقاتلون جيشه تحت لواء عدوه السيد الإدريسي ؛ لأنه يعطيهم
من الدراهم ما لا يعطيهم الإمام يحيى ، وأما غير الزيدية وهم الشافعية الذين يؤلفون
السواد الأعظم في اليمن فهم لا يقاتلون معه لإمامته بل كثيرًا ما يقاتلونه ، وسبب
خضوع أولي القوة والعصبية منهم له وجود رهائن من أبناء سادتهم وزعمائهم عنده
يهدد من عصاه بالفتك بهم ، ولعله لا يوجد في بلاد نجد وملحقاتها رجل واحد لا
يطيع الإمام عبد العزيز بوازع العقيدة الدينية .
أفيعقل مع هذا أحد من البشر أن الوسيلة الوحيدة لإحياء حكم الخلافة هدم
سلطان هذا الإمام بحجة أن أهل الحجاز سموه ملكًا وإن اشترطوا عليه مع هذا
اللقب أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلخ ، ما تقدم في
نص بيعته .
وأما سائر الشعوب الإسلامية فأمر حكوماتها من حيث القرب أو البعد من حكم
الخلافة معلوم : الترك نبذوا الخلافة والشرع الإسلامي برمته من حكومتهم ،
وشرعت جمهوريتهم التي يقدس نوع حكمها ( أي الجمهورية ) محمد علي وشوكت
علي في تغيير دين الشعب نفسه ، فبدأت بإباحة الردة عن الإسلام وكثير من
المحرمات التي يعد الإسلام استحلالها كفرًا ، ثم ألغوا من قانونهم المادة القائلة : إن
دين الدولة هو الإسلام فتركوا مخادعة الشعب باسمه بعد ما خضع صاغرًا لترك
شرعه ، ولبس البرنيطة كارهًا ؛ لأنها شعار غير أهله ، والآن نسمع نبأة جديدة
عنهم في تغيير الصلاة بجعلها كصلاة البروتستانت وغيرهم من النصارى بأن
يجلس المصلون على كراسي يسمعون المعازف وآلات الطرب في المساجد إلخ [1]
وملك الأفغان قد شرع في الاقتداء بهم في التفرنج والاستعانة برجالهم على إدارة
جيشه وملكه وبالإفرنج أيضًا ، ومصر التي هي أجدر بلاد الحضارة الإسلامية
بالحكم الإسلامي وإعادة الخلافة قد اقتبست القوانين الإفرنجية للأمور المدنية
والعقوبات وأحلتها محل الشريعة ثم وضعت أساس حكومتها على قوانين أوربة
النيابية ، ولما قام كبار علماء الأزهر ومَنْ وافقهم من سائر طبقات الشعب منذ سنتين
بالدعوة إلى عقد مؤتمر للبحث في شئون الخلافة وإقامة خليفة للمسلمين كانت
الحكومة المصرية ومعظم نوابها المنوط بهم أمر التشريع ضدًّا على جمعية الخلافة ،
وكانت أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية تهزأ بهم وتسخر منهم وتصد عنهم ، ثم قامت
قيامتها وقيامة مجلس النواب على وزارة الأوقاف ؛ لأنها أجابت دعوة الأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر إلى صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية باسم المعاهد الدينية
صرفه على السعي لعقد مؤتمر الخلافة ، ثم عقد المؤتمر ، ولم ينته إلا بالخيبة
والفشل ، وأما حكومة إيران فهي أبعد حكومات الشعوب الإسلامية عن إحياء حكومة
الخلافة التي يدّعي الزعيمان الدعوة إليها ؛ لأنها حكومة شعب شيعي يدين الله تعالى
ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ... ويعتقد أن الحكم الإسلامي الحق لن يقوم في
الأرض إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الذي
دخل السرداب في ( سُر من رأى ) التي تسمى الآن ( سامرا ) منذ أحد عشر قرنًا ،
وينتظرون خروجه منه كل يوم .
هذا حال الشعوب الإسلامية المستقلة ، على ما في استقلال مصر من قيود
وسيطرة احتلال أجنبي ، ومن المعلوم أن سائر المسلمين خاضعون لدول أوربة .
فاسمع بعد تذكر هذا ما صرح به الزعيم محمد علي الهندي لجريدة الأخبار
عن خطة جمعيته في إعادة الخلافة :
قال : ( واعتقادنا الراسخ أننا سنعمل إن شاء الله إلى اليوم الذي تجتمع فيه
كلمة الأمم الإسلامية ملوكية كانت أو غير ملوكية فتنفرد كل أمة بشئونها الداخلية
حسبما يتفق مع عوائدها وطباعها وما يتفق مع مصالحها وإدارة شئونها .
( وأما الشئون الخارجية فيجب على المسلمين جميعًا أن يكون ( أمرهم
شورى بينهم ) وبذلك ترى المسلمين جميعًا في المستوى اللائق بهم ) يعني وإن هذا
لا يتم إلا بإعادة حكم الخلافة أي الرجوع إلى أحكام كتاب الله كما قال : والمراد إذًا
أن تكون السياسة الخارجية لجميع الأمم الإسلامية وحكوماتها على اختلاف أنواعها
تحت إدارة الخليفة الأعظم القائمة على أساس الشورى في مجلس مؤلف من جميع
تلك الأمم ليتفق سابق كلامه مع لاحقه .
على أنه ذكر بعد هذا أن أهل الهند ساخطون على ابن السعود لتدمير رجاله
الجاهلين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعِترة والصحابة رضي الله عنهم ، ثم
قال : ( وكل مهمتنا أننا نواجه تيار هذا السخط والغضب إلى تحقيق غايتنا السامية
التي نعتقد بحق أنها لخير الإسلام والمسلمين ، فما علينا إلا إحياء الهمم وتوجيه
القلوب وتحويل الأنظار إلى وجوب إعادة عهد أبي بكر وعمر ) اهـ بنصه .
أما قوله : إن رجال ابن السعود ذمروا آثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار
عِترته وأصحابه فهو كذب وبهتان دليله أن هؤلاء ليس لهم آثار مبنية تدمر وإنما
دمر القوم بعض مشاهد القبور المشيدة المزينة على خلاف ما ثبت في الأحاديث
الصحيحة من النهي عن ذلك ولعن فاعليه ، والأمر بهدمه وتسويته بالتراب كما بيناه
مرارًا .
وقوله : إن مسلمي الهند ساخطون على ابن السعود باطل على إطلاقه فخيار
مسلمي الهند من علماء الحديث وأنصار السنة ومن العقلاء والسياسيين راضون
عن ابن السعود ومؤيدون له ، وإنما الساخط عليه الشيعة وخرافيو أهل الطرق
المبتدعة .
وهب أن قوله صحيح فهل يتجرأ عاقل على القول بأن سخط الهنود على ابن
السعود هو الوسيلة الوحيدة لإعادة حكم أبي بكر وعمر ؟
فخلاصة ما قاله الزعيم محمد علي أنه يعتقد أن سعيه وسعي جمعيته سينتهي
بإقناع جميع الأمم والدول الإسلامية بأن تكون كل دولة من دولها مستقلة في إدارتها
الداخلية ، وأن تكون سياستها العامة وعلاقاتها الخارجية مع الدول تابعة لخليفة واحد
يكون في الحجاز ، وأن الوسيلة الموصلة إلى هذا الإقناع هي سخط بعض عوام
الهنود أو كلهم على ابن السعود ؟ وهل يروج هذا الهوس إلا عند عوام الهنود ؟
فالمعقول الذي لا يُعْقَل غيره أن تكون خطة محمد علي جمع أموال عظيمة من
الهند تقبضها جمعية الخلافة ؛ لتزيل بها حكم ابن السعود من الحجاز وتضع بدله
حكم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم يكون مآل هذه الأموال كمآل الأموال
التي جمعت من قبل لإحياء خلافة الترك .
وقد وجدت جمعية في ألمانية لمثل هذه الغاية أحسن نظامًا من جمعية الخلافة
الهندية ، وهي تدعو الناس إلى دفع زكاة أموالهم إلى فروعها لأجل هذه الغاية .
ومن المسلمين من يرون في الخلافة آراء أخرى بعيدة عن الشرع والعقل .
ونحن قد سبقنا إلى وضع أصول النظام لإعادة الخلافة في كتابنا الذي أفردناه
لهذه المسألة ( كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى ) .
والحق المعقول أن العالم الإسلامي غير مستعد الآن إلى تمحيص هذه المسألة
وتنفيذ الواجب ، وأن خير الوسائل لها ما اقترحناه كتابة على المؤتمر الذي أقيم
بمصر فلم يعرضه السكرتير العام عليه ، وقد نشرناه في المنار ، وفي بعض
الصحف المصرية { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ( النحل : 9 ) اهـ الرد .
( المنار )
كتبنا هذا المقال في ثلاثة فصول أرسلناها إلى جريدة الأخبار الغراء التي
نشرت تصريحات الزعيم محمد علي الهندي فنشرتها وكنا نرسل المسودة قبل أن
نقرأها لالتياث صحتها ، وبعد إتمام نشرها فيها أودعناها في المنار بعد شيء من
التنقيح والتصحيح ؛ لأننا قرأناها بعد ذلك مجتمعة وكان كل فصل ينشر قبل كتابة
ما بعده .
__________
(*) إردام الحمى عبارة عن دوامها وطول مكثها .
(1) المنار : هذا الخبر يؤيد ما بلغنا منذ بضع سنين عن مصطفى كمال أنه يمهد السبيل لتنصير الترك لتبقى كأوربة من كل وجه ولكنه ينبغي من إنكلترة أن تكافئه على ذلك بمخالفته وعد الترك شعبًا أوربيًّا.
(29/162
 
اول خبر عن تدهور صحة الاستاذ رشيد رضا!
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م

الجزء الثالث من المنار
ومرض منشئه

ألمَّ بنا مرض كان خفيف الوطأة لكنه صار طويل المدة ، واقتضى أشد الحمية ،
ونهي الأطباء إيانًا عن القراءة والكتابة والتصحيح ، وأمرهم لنا بالاستراحة العقلية
والجسدية مدة المرض والنقاهة ، فاقتضى ذلك تأخير هذا الجزء من المنار وجعل
تاريخه سلخ ذي الحجة - وكان موعده سلخ ذي القعدة - وأن نجعل جله من
المقتبسات والمختارات التى هي أولى بالمنار من غيره من الصحف لما فيها من بيان
مزايا الإسلام ، ونسأله تعالى أن يُتم لنا الشفاء ويسبغ علينا العافية .
__________
 
الديموقراطية الحقيقية في الإسلام
لسعادة الكاتب الجليل الأمير شكيب أرسلان

ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م

لما تأخر الإسلام سلبه الناس محاسنه الحقيقية بل سلبوه محاسن ثبتت له ولم
تثبت لغيره ، وهكذا شأن الضعيف في كل وقت ، وهو أن يُسْلَب كل شيء حتى
الحقيقة وحتى التاريخ .
اطلعت في ( الأخبار ) في عددها المؤرخ في 29 جمادى الأولى على مقالة
عنوانها ملاحظات وتحقيقات توخى فيها محرِّرها الشيخ محمد السيد الطويل من
القسم العالي بالأزهر إثبات روح الديموقراطية والحكم النيابي والنظام الشورى
للشريعة الإسلامية والرد على من زعم أن الحكم النيابي إنما جاء من الغرب ،
وإننا إذا نظرنا إلى الوراء لا نجد شيئًا من روح الديموقراطية عندنا في الشرق .
ولقد أتى صاحب الرد بآيات بينات على ديموقراطية الإسلام ووجوب الشورى
في أحكامها مما لا حاجة معه إلى التكرار لكن أحببت بهذه العجالة أن أزيد
الموضوع بيانًا فأقول لمن ظن أن الديموقراطية هي من وضع الأوربيين :
إن الأمة الفرنسية كانت من القديم تنقسم في طبقاتها الاجتماعية إلى ثلاثة
أقسام : الأشراف والكهنة وسواد الأمة ، ولكن لم تكن حقوق هذه الطبقات واحدة ،
وكان الأشراف يستبدون بالعامة كما يشاءون وكذلك الإكليروس أي الكهنة كانت لهم
امتيازات عظيمة ، والشعب إنما كان آلة يستخدمها في مصالحه الملك وكل من
الأمراء أصحاب الإقطاعات ، وما زال الأمر كذلك إلى زمان لويس الثالث عشر إذ
حصلت أزمة اقتصادية احتاجت المملكة بها إلى عقد مجمع من الطبقات الثلاث
للمذاكرة في تسديد الأمور ؟
فاجتمعوا في سنة 1912 أو 1913 لا أتذكر الآن جيدًا تاريخ ذلك المجمع
العام ، وفي أثناء المذاكرات تلفظ أحد نواب الشعب بجملة معناها أن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة ، فما كادت تخرج تلك الكلمة من فيه حتى قامت قيامة الأشراف .
التفت إليه أحدهم قائلا : ( ويحك أتجرؤ أن تقول : إن الأمة الفرنسوية عائلة
واحدة ، وبذلك تجعلنا أقارب لكم ، ما أنتم إلا خدم عندنا ) ثم إنهم عندما أرادوا
إعطاء الآراء لم يقبل الأشراف أن يكون لنواب الشعب حق التصويت على قاعدة
المساواة في الأصوات أي أن صوت النائب الشعبي يكون مساويًا لصوت النائب
النبيل .
وبقي هذا الحق منكرًا على الشعب إلى زمن لويس السادس عشر أي زمن
الثورة الفرنسوية عندما نالوه بالقوة .
فليذكر لنا التاريخ من أوله لآخره نادرة واحدة للإسلام مثل هذه النادرة ، ومتى
تجرأ مسلم خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا من الأمراء أو شريفًا من آل البيت على أن
ينكر على أقل مسلم كونه أخًا له .
وليقس القارئ هذه النكبة بنكبة الملك الغساني جبلة الذي كان نصرانيًّا وأسلم
في زمن عمر وجاء يطوف البيت الحرام فداس أعرابي على ثوبه فالتفت نحوه
ولطمه ، فذهب الأعرابي إلى الخليفة عمر وشكا إليه لطم جبلة إياه فأمر الخليفة
بإحضار هذا أمامه ، وقال للأعرابي : إن شئت الطمه كما لطمك .
فقال جبلة لعمر : ( أيستوي عندكم الملك والسوقة ؟ ) فقال له : ( نعم )
فذهب جبلة بعد ذلك إلى الشام ومنها التحق بالقسطنطينية ورجع إلى النصرانية .
وليتأمل القارئ كيف كان عمر يقيم الحد على أولاده حتى الموت ، وليتأمل
كيف أن الشريعة لم تجعل لأحد على أحد مزية ولا امتيازًا ، وكيف أن الرسول
صلى الله عليه وسلم كان يقول : لو سرقت فاطمة بنت محمد لأمرت بقطع يدها [1] .
وليقايس بين ذلك وبين قوانين الأوربيين الأساسية التى فيها أن الملك مقدس
وغير مسؤول ، وإذا قيل : إن الرق قد وجد في الإسلام ، فالجواب أنه لم يوجد
فضيلة حث عليها الإسلام بصريح القرآن ومتواتر السنة أكثر من تحرير الرقيق ،
على أن النصرانية لم تنكر الرق كما ظهر من كلام بولس الرسول .
وإن كانوا في أوربا قد اتفقوا مؤخرًا على إلغاء الرق فلا يجوز أن ننسى أن
الشعب الروسي إلى زمان الإمبراطور بولس كان رقيقًا لأمرائه ، وأن النبيل كان إذا
باع قرية يملكها يبيعها مع الأهالي الذين فيها لا يملكون لأنفسهم أمرًا بل حكمهم كان
حكم الحيوانات التي في القرية ، هذا كان شأن الأمة الروسية منذ 150سنة لا زيادة ،
ولا يجوز أن ننسى أن الفرنسيس بعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من جنوبي
فرنسا استعبدوا البقية التى بقيت من المسلمين ، واغتصبوا أملاكهم ، واستعملوهم
خولاً وخدمًا مدة طويلة حتى اندمجوا في غمار الأمة الفرنسية ، وتُنوسيت أصولهم ،
ولا يجوز أن ننسى أن الحرب قامت في أمريكا من سنة 1863 إلى 1866 من
أجل تحرير العبيد ، وأن الأميركيين سكان جنوبي الولايات المتحدة حاربوا سكان
شماليها مدة سنوات عديدة من أجل إصرارهم على استعباد السود ، وكذلك إلى هذه
الساعة ، وقد رأيت ذلك بعيني في سياحتي إلى أميركا في الشتاء الماضي ، لا يقدر
السود أن يجالسوا البيض ولا في مكان .
وفي الولايات الجنوبية للسود قُطُر مخصوصة يركبون فيها بالسكة الحديدية
ومقاعد انتظار في المحطات خاصة بهم بحيث لا يختلطون مع البيض ، بل أولادهم
لا تقدر أن تتعلم مع أولاد البيض في مدارس واحدة وكنائسهم أيضًا لا يدخل إليها
البيض .
وفي أفريقيا الرسالات التبشيرية منذ قرنين أو ثلاثة تعمل لتنصير السود وقد
تمكنت إلى هذا اليوم من تنصير ثمانية ملايين في غربي أفريقيا وجنوبيها وأواسطها .
وقد نصت كتب أعمال الرسالات الدينية المذكورة على أنه في مدة الثلاثة
القرون التي استمر بها التبشير الديني لم يعهد أن مبشرًا اقترن بامرأة سوداء إلا
اثنين أو ثلاثة ؛ ذلك لأن الأبيض يأنف من التنزل إلى خلط دمه بدم الأسود ، أقول
الأبيض والأسود كلاهما خلقه الله تعالى ، وكلاهما بشر ويمشي بحسب قول نبيه :
( إنما بعثت إلى الأحمر والأسود ) ويتذكر كتابه الذي فيه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( الحجرات : 13 ) فإذا كان المبشر الأوربي الذي يعظ طول النهار في أباطيل
الدنيا ، وفي العدل والمساواة هو نفسه لا يتنزل إلى خلط نسبه بنسب أولئك الذين
يعظهم ويرَّغِبهم في قبول دينه ، فكيف تكون حالة التاجر الأوربي أو الحاكم أو
الجندي الذي ليست مهنته التبشير ؟
لا جرم أن مبدأ المساواة هو أبعد المبادئ عن عقلية الأوربيين ، وإن كانوا
قرَّروها في الأعصر الأخيرة ، فإنما قرروها فيما بين شعوبهم ، ولم يكونوا ليعترفوا
بها للشعوب الأخرى ، وإنني لأتعجب ممن يقول : إن آثار الرقي التى شوهدت في
الشرق في الخمسين سنة الأخيرة إنما هي ثمرة إدخال القانون الروماني في إدارة
الشرق .
فأنا أقول لمثل هذا : أين كان القانون الروماني في أوربا ، وفي فرنسا بخاصة
عندما كان لا يجرؤ أحد نواب الشعب في هذه المملكة أن يقول : إن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة حتى تقوم قيامة الأشراف ويعتدوا تلك الكلمة كفرًا ؟ هل كانت فرنسة
غير مملكة رومانية لاتينية روح رومة وثقافتها وقوانينها منبثة في جميع شعاب
إدارتها ؟
إن الكاتب الفيلسوف الإنكليزي المستر ولسن عندما جاء منذ أشهر إلى باريس
واحتفل أدباء الفرنسيس بتكريمه في السوربون وخطبوا الخطب الشائقة وجاوبهم
بخطبة عن الديموقراطية الحقيقة نشرتها الجرائد كان من جملة قوله فيها : ( إن
الديموقراطية الحقيقة لم تثبت إلا للإسلام والنصرانية ) .
وأنا أقول : إن شهادته بها للإسلام هي أغلى جدًّا من شهادته بها للنصرانية
التى هي مذهبه ومذهب أمته ومذهب الأمة التى كانت مختلفة في تكريمه .
فالإسلام يشهد له كثير من فلاسفة الأوربيين بالديموقراطية الصحيحة مع
قصور معلوماتهم عنه وينكرها عليه أناس من أبنائه ، لا بل وينسبون إلى غيره
محاسنه ويجردونه من المزايا التى فُطِرَ عليها .
وهكذا أولعنا بتشويه محاسن أنفسنا وبجحد فضائل قومنا وبنحل غيرنا ما هو
في الحقيقة لنا ، وصرنا - لمجرد أن نُنعت بالرقي - نقلب حسنات أجدادنا سيئات ،
ونقلب سيئات الأوربيين حسنات ، أو نتعامى عنها أو نتلمس لها عذرًا ، هكذا .
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
برلين 4 ديسمبر 1927
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار ذكر الكاتب الشاهد من الحديث بالمعنى ، ونحن نذكر سببه ونصه المرفوع وتخريجه فنقول: روى الجماعة البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن امرأة مخزومية سرقت فأهم قريشًا أمرُها وعظم عليهم أن يقام الحد على شريفة منهم فقالوا : من يكلمهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فخطب فقال : (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .
(29/197
 
الكاتب : شكيب أرسلان

ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م

أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا
[*]
لصاحب السعادة أمير البيان الأمير الجليل شكيب أرسلان

إن الموضوع الذي سنخوض فيه لا نقصده لذاته بل لمتعلقه ولا نتعرض إليه
من قليل أو كثير من جهة أساسه بل تَعَرُّضنا له إنما هو من جهة مغزاه ، وما يئول
إليه فقد راق لبعض الناس في الشرق حتى لبعض حكوماته والهيئات الرسمية فيه
أن يوهموا عامة الشرقيين أن الدين في أوربة منفصل انفصالاً تامًّا عن السياسة ،
وأن أوربة لم تبلغ هذا المبلغ من الرقي إلا بفصل السياسة عن الدين ، وأن
الحكومات الأوربية لا تُدْخِل المسائل الدينية في شئونها ، بل تَعُدُّها خارجةً عن
اختصاصها .
وقد يبالغون لهم في هذه الترهات حتى يخيلوا لهؤلاء الشرقيين المساكين أن
الدول الأوربية تنظر إلى الدين كأنه غير موجود في الدنيا ، وأن هذا قد كان السر
في نجاحها ، وكثير من الشرقيين المساكين يصدقون هذه الأقاويل ؛ لعدم اطلاعهم
على الحقائق وليس هؤلاء المصدقون بطبقة العوام ؛ لأن العوام جهلهم بسيط ،
والجهل البسيط أقرب إلى العلم ، وأبعد عن الخطر ، ولكن أولئك المصدقين بهذه
الأضاليل هم من الفئة التى تدعي أنها راقية ، وأنها متعلمة وأنها عصرية
المشرب [1] الحقيقة أن هذه الفئة عندنا في الشرق مؤلفة من أنصاف متعلمين هم
من أشد الناس خطرًا على المجتمع ، ومن الملائمين للاستعمار الأوربي في
الشرق؛ لأن العلم الناقص أضر بالمجتمع من الجهل التام فإن الجهل التام يقبل
أصحابه النصح والإرشاد ، وأما العلم الناقص فإن أصحابه هم على حد من لا يدري
ولا يدري أنه لا يدري وفي ذلك البلاء الأعظم .
ولندخل الآن في الموضوع فنقول : منذ أشهر تخوض الجرائد الأوربية في
قضية الخلاف الذي نشب في إنكلترا بين الأساقفة والحكومة من أجل كتاب الصلاة
حتى إنه لا يكاد يمر يوم إلا نجد فيه بحثًا عن هذه المسألة .
ولما كان الناس عندنا في الشرق لا يعلمون لد نبات هذا الخلاف ولا سبابه
( كذا ) وكانوا يقرءون عنه ولا يفهمون الدواعي التى دعت إلى اختصام الحكومة
الإنكليزية والإكليروس الأنكليكاني في كتاب الصلاة الذي يعتمد عليه الشعب
الإنكليزي رأينا أن نشرح لهم هذه المسألة مُعَوِّلِينَ في ذلك على مقالة نشرها الأستاذ
توماغرينفود أحد أساتذة جامعة لوندرة ورأيناها منشورة في مجلة جنيف في عددها
الأخير ، قال : وجد على باب كنيسة ليفربول الكاتدرائية عبارة من قلم لونج بوتون
من رؤساء الكنيسة البروتستنتية يقول فيها : إن البروتستنتية في خطر .
ولم يخطئ القسيس المذكور في هذا الحكم إذا نظرنا أنه من أجل مسألة دينية
قامت في إنجلترا أساقفة على أساقفة ووزراء على وزراء ومحافظون على محافظين ،
وعملة على عملة وقد كان معظم ذلك يومي 13و15 ديسمبر سنة 1927 ؛ إذ
مجلس اللوردة ومجلس العموم تحولا إلى شكل مجمع من المجامع الدينية كالتي
كان يعقدها آباء الكنيسة في القرون الأولى وأخذ الاعضاء يتشاحنون في سر
استحالة الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح وفي تناول القُرْبَان المُقَدَّس وفي
الأسرار الإلهية وفي الطقوس الكنسية بينما الجدال قائم أيضًا في المطبوعات وفي
الرعويات وفي العائلات على أشده من أجل كتاب الصلاة الجديد حتى إن أزمة
الفحم وحركة العمال وقضية استعدادات أمريكا البحرية ومشكلات عصبة الأمم
أصبحت نسيًا منسيًّا في جانب مسألة كتاب الصلاة ، فبمجرد ما تلفظ الإنسان
بكلمة (
book prayer ) تقوم القيامة فأناس معه وأناس ضده فلا تجد إلا
متعصبًا لهذه الجهة أو للأخرى ، فلماذا البرلمان يتدخل في مسألة دينية كهذه ؟
الجواب هو ما سترى .
من المعلوم أن الكنيسة الإنكليكانية هي كنيسة الدولة في إنكلترا ، وفي
الأصل كان الانشقاق ناشئًا عن فضائح زوجية بدت من هنري الثامن الذي كان أول
من انشق عن رومة وحمل البرلمان الإنكليزي سنة 1534 على قرار معناه أن ملك
إنكلترا هو الرئيس الأعلى لكنيسة إنكلترا ، ثم جاء بعد هنري الثامن خلفه إدوارد
السادس وأضاف إلى علم سلفه هذا طقسًا كَنَسِيًّا جديدًا أنشأه له ( كرافير ) سنة
1549 ودستورًا للإيمان يشتمل على 42 مادة صدر سنة 1552 وهو دستور
مشرب بروح عقيدة كلفين ، ثم إن هذه العقيدة قد هُذِّبَتْ ونُقِّحَتْ في أيام الملكة
إليزابث ولخصت في 39 مادة سنة 1526 وصارت دستورًا للإيمان الإنكليكاني
فمنها نفي رياسة البابا ونفي ذبيحة القداس , ونفي عقيدة استحالة الخبر والخمر إلى
جسد المسيح ، وإنكار القول بالمطهر ، وإنكار عبادة القديسين والصور ، وإنكار سر
الاعتراف والغفرانات وغير ذلك ، وأما الطقس الجديد الذي يشتمل على العقيدة ،
وعلى المبادئ التى هي عمدة المذهب الإنكليكاني فقد انحصر في كتاب اسمه كتاب
الصلاة العامة ، فهذا الكتاب محرَّر فيه نص الصلوات وترتيبها ونص العظات
والتراتيل والمراسم الدينية وإدارة الأمور المقدسة ونظام الرتب الكهنوتية وهلم جرَّا ،
فكتاب الصلاة هو للإنكليز عبارة عن كتاب قداس وكتاب سواعية وكتاب مزامير
وكتاب طقوس وكتاب رتب كهنوتية وحبرية وهو يتماز بأمور كثيرة عن كتب
الكنيسة الرومانية التى انشقت الكنيسة الإنكليزية عنها ، فهو أولا محرَّر بالإنكليزية ،
وفيه تلخيص للكتب الدينية الضرورية للقداس الإلهي وبموجبه تنزلت الساعات
القانونية السبع إلى خدمتين كل يوم إحداهما في الصباح والأخرى في المساء ، وهو
يلغي الأوراد وطلب الشفاعات والاستغاثات بالقديسين و بمريم العذراء ويحذف
الأماثيل المأخوذة من حياة القديسين والآباء ويختصر الفرض الكنسي والكلمات
المكررة فيه ، ويطوي الاحتفال بكثير من أعياد القديسين ، وعلاوة على ذلك يحدث
تغيرًا في قانون القداس ويحوله إلى معنى آخر يخرجه من معنى الذبيحة وعن
استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ، وكذلك يلغي التذكارات المتنوعة فيما
يتعلق بالموتى والصلوات على أرواحهم مما يؤول إلى الاعتقاد بالمطهر ، ويبطل
على الخصوص كل ما له تعلق بسر القربان المقدس .
وفي أيام الملكة ماري التى رجعت إلى الكثلكة ألغي كتاب الصلاة هذا مدة
وجودها لكن لم يطل الأمر حتى أعيد في أيام الملكة إليزابيث سنة 1559 ثم إنه في
أيام جيمس الأول سنة 1604 وفي أيام كارلوس الثاني سنة 1662 وأخيرًا في سنة
1859 أدخلت على الكتاب المذكور تعديلات غير أساسية ، فكتاب الصلاة الحاضر
هو الكتاب الذي صدر سنة 1662 على أنه إذا كان هذا الكتاب لم يتغير منذ ثلاثة
قرون ، فلا يمكن أن يقال : إن حياة الكنيسة الإنكليزية الداخلية لم يقع فيها تغيير
طيلة هذه القرون ، بل هذه منقسمة إلى ثلاث كنائس : الكنيسة الدنيا وهي التي
أصحابها يمليون إلى العقيدة الكلفينية والبرسبيتيرية والكنيسة الواسعة وهي التى
أصحابها يميلون إلى الحرية والأفكار العصرية ، والكنيسة العليا وهي التي أبناؤها
يميلون شيئًا إلى الكثلكة .
ففي أواسط القرن التاسع عشر هب نفر من اللاهوتيين المنسوبين إلى الكنيسة
العليا وأرادوا الرجوع إلى الكثلكة ، لكن بدون خضوع للبابا ولا اعتقاد بعصمته
ومع التمسك بالرتب الكنسية الإنكليكانية فحصلت لهم مقاومة شديدة وقفتهم عند
حدهم إلا أن هذه الحركة قد تقدمت اليوم ونمت واشتدت الرغبة في استعمال
الطقوس الرومانية وفي الاعتقاد بحضور المسيح في الخبز والخمر ، وتسمى هذه
الفئة بالأنجلوكاتوليك ، ولقد تجاوزوا في الحقيقة حدود كتاب الصلاة الذي عليه
المُعَوَّل من سنة 1662 وأخذوا بإقامة شعائر مخالفة لروح الكتاب المذكور ولنصه ،
مثال ذلك أنهم اتخذوا الملابس الحبرية في كنائسهم كما في الكنائس الرومانية
واستعملوا البخور ورجعوا إلى ممارسة الاعتراف واستعملوا ما يقال له : بيت
الجسد مع مكان خاص لحفظ الخبز والخمر ليتمكن المؤمنون من عبادتهم في أي
وقت أرادوا فلذلك تبقى أبواب كنائسهم مفتوحة دائمًا ، وفي بعض الأبرشيات نجد
بعض الأساقفة يقدمون بكل صراحة على مخالفة قواعد المذهب الإنكليكاني وطقوسه
وفي أبرشيات أخرى يغضون النظر عنها فهذه الاختلافات جعلت الصلاة العامة
المشتركة في غاية الصعوبة وأحدثت شقاقًا خطيرًا في وسط الكنيسة الإنكليكانية
يدعو إلى النظر في مسألة توحيد الطقس ، ففكر الأساقفة في وجوب النظر إلى
نزعة فرقة الأنكلوكاتوليك ، وفي سنة 1956 تألفت لجنة للتدقيق في كتاب الصلاة
والنظر في تعديله فاستمرت هذه اللجنة تعمل نحو عشرين سنة ، وفي شهر يناير
سنة 1927 أخرجت مشروع التعديل الذي تقدم في 29 سنة 1927 إلى المجلسين
الروحانيين في كنتربري و يورك فهذان المجلسان لم يكن لهما إلا إبداء الرأي على
المشروع بمجمله فقد صدقاه بالأكثرية العظيمة ، وخالف فيه بعض الإنجيليين
وبعض أناس من الأنكلوكاتوليك لأسباب تخالف الأسباب التي خالف من أجلها
الإنجيليون ، ولكن كان لا بد من تصديق الجمعية الوطنية الكنسية المسماة
(
Assembly church ) التى تأسست بموجب قانون سنة 1919 لأجل
مهمة النظر في القوانين العائدة إلى كنيسة إنكلترا قبل تصديقها في البرلمان ، وهذه
الجمعية مؤلفة من مندوبين غير أكليريكيين تابعين للأبرشيات ومن مندوبين
أكليريكيين ومن الأساقفة ، ففي اجتماع عقدته هذه الجمعية سنة 1927 للمذاكرة في
مشروع تعديل كتاب الصلاة قررت بأكثرية عظيمة المشروع الجديد ؛ إذ وافق 34 من
الأساقفة ، وخالف أربعة فقط ، ووافق 253 من المندوبين الأكليريكيين وخالف 37 لا
غير ، وكذلك المندبون غير الأكليريكيين ، أو العالمانيون فقد وافق منهم 230 وخالف
92 أما المطارين الأربعة المخالفون فكانوا مطارين فورسستر وإكزيتر ونورفيش ،
وبير منغام ، ولم يبق إلا طرح المشروع في البرلمان .
فقبل أن نتكلم على ما جرى في البرلمان بشأن كتاب الصلاة نرى من الواجب
أن نبين ماهية التعديلات الجديدة ، فكتاب الصلاة الجديد يبقى على ما كان عليه
كتاب الصلاة المحرَّر سنة 1663 بوجه عام ، ولم يقع تغيير في النصوص التى
ارتضى بها الشعب حتى اليوم ، وإنما أضيف إلى النصوص سنة 1662 نصوص
أخرى يكون بموجبها الخيار لأبناء الأبرشيات في الترك والأخذ بحسب ميلهم ، فهذه
الطريقة أرادوا بها اتقاء الانقسام فكانت نتيجتها زيادة الانقسام ؛ لأنها مخالفة لروح
عهد الوحدة الذي صدر سنة 1659 ففي هذا العهد مادة خاصة بالخدمات الدينية
تصرح بأن الشعائر التى هي تحت الاستعمال في سالسبري و هيرفورد و بانجور
و بروك و لينكولن قد ألغيت كلها وتوحدت بصورة واحدة عامة لكل المملكة فليس إذن
في جميع الاختصاصات التى يعترف بها البرلمان للكنيسة الأنكليكانية ما يخول هذه
حق الإذن بإقامة شعائر مختلفة عن الأولى ، ثم إن ملك إنكلترا عندما يتوج من
رئيس أساقفة كنتربري يجب أن يقسم اليمين بأنه يحفظ كنيسة إنكلترا بتمامية
طقوسها وبعقيدتها وشعائرها ونظامها كما هي مبينة في قوانين المملكة الأساسية ،
وعلى هذا يكون متعذرًا أخذ موافقة الملك على كتاب الصلاة الجديد بدون تغيير
العهود السابقة .
فمن التغييرات التى أدخلت على كتاب الصلاة نذكر أنه أضيف إلى جدول
القديسين الذين تعترف بهم الكنيسة الأنكليكانية قديسون آخرون لم يكونوا معروفين
لديها وهم مثل ماريو ليكارب القديس يوحنا فم الذهب والقديس كوتبرت والقديس
لاوون الكبير والقديس أفسلمس والقديسة كاترينة دوسبين والقديسة مونيك والقديس
باسيلوس والقديس أيزينوس والقديس برناردوس والقديس فرنسيس داسيس
والقديس أغناطيوس فهؤلاء صاروا بحسب كتاب الصلاة الجديد من قديسي الكنيسة
الأنكليكانية .
وكذلك قرَّروا الاحتفال بعيد تذكار الموتى 2 نوفمبر بما فيه من جمع الصدقات
التي من شأنها إيجاب الاعتقاد بالمطهر ، فهناك عبارة نصها : ( أيها الرب الخالق
المنقذ لجميع المؤمنين امنح المؤمنين من موتانا جميع النعم التي لا توصف من آلام
المسيح حتى في يوم رجوعه يتمكنون أن يتقدموا إليه كأبناء حقيقيين ) والحال أن
المادة الثانية والعشرين من المواد التسع والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني
تنكر عقيدة المطهر وتجعلها اختراعًا منافيًا لكلمة الرب ، وكذلك كتاب الصلاة القديم
يلغي الصلوات التى من شأنها الاعتراف ولو من طرف خفي بعقيدة المطهر ، ولا
يلزم من ذلك أن نقول : إن المطهر مذكور في كتاب الصلاة الجديد ليس ثَمَّ أدنى
صراحة به في الجديد كما في القديم ، كما أن الصلاة لأجل أرواح الموتى باقية
مبهمة أيضًا في الأول والثاني ، ومثل ذلك صلاة الموتى التى يقترحها الكتاب الجديد
فهي متروكة تحت خيار المؤمنين ، فيمكننا أن نقول مع مطران نورفيش إن التغيير
الذي جاء به الكتاب الجديد بشأن الصلاة للأموات عبارة عن تغيير في الشعائر
العامة لا في العقيدة نفسها كما أن رئيس أساقفة كنتربري عندما كان في مجلس
اللوردة يدافع عن الصلوات الجديدة للموتى وعن عيد 2 نوفمبر قرر بدون أن يكون
مخطئًا أن تذكار الموتى لم يكن في وقت من الأوقات مخالفًا لعقيدة الكنيسة
الإنكليزية ، وأن الحرب العامة جاءت بما يؤيد ضرورة توسيع الشعائر المتعلقة
بالموتى .
ومن جملة ما زيد في كتاب الصلاة الجديد الأدعية الخاصة لأجل الملك
والأسرة الملوكية وللسلطنة البريطانية ولجمعية الأمم وكذك الإذن باستعمال القميص
الخاص والبطرشين والغفارة في أثناء مناولة القربان ، نعم إن كتاب الصلاة لم
يسمح حتى الآن بلبس حلة الكهنوت التى كان يطالب بها الأنكلوكاتوليك بحجة أنها
أليق لباس بعقيدة جسد الرب .
وكذلك من جملة التغييرات إعطاء الخيار في أمر المعمودية والتثبيت والزواج
ففي مراسم الزواج بحسب الكتاب الجديد لا يسأل الكاهن المرأة كما في الكتاب القديم
عما إذا كانت تريد أن تطيع وأن تخدم وأن تحب وأن توقر الذي سيكون بعلها ،
ولكن يسألها عما إذا كانت تريد أن تحبه وتوقره وتقومه وتحفظه ، والسؤال نفسه
يلقى أيضًا على الزوج أي يلحظ الإنسان في ذلك إشارة دينية على المساواة
الاجتماعية بين الذكور والإناث .
وأهم التعديلات في الواقع هو ما تعلق بشعيرة الأفخارستية أي سر القربان
المقدس ، وهي المتروكة لاختيار المؤمن ، فهذا التخيير هو الذي أثار الثائرة الشديدة
وأوجب رد كتاب الصلاة بحجة أن فيه تسامحًا عظيمًا مع الأنكلوكاتوليك ، ونظن أن
الخلاف هو في الشكل أكثر مما هو في الأساس ، فالكتاب الجديد مثل القديم فيه
صيغة تقول : إن المسيح مات لأجل فدائنا ، وإن هذا الفداء كان واحدًا تامًّا كافيًا كما
في المادة الواحدة والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني ، فهذه الصيغة لا تنفي
تمام النفي الحاجة إلى القداس الذي هو تكرار غير دموي لقضية موت السيد المسيح
على الصليب ؟ ومن المعلوم أن المذهب الأنكليكاني لا يجوز القداس مع تناول
القربان الفردي أي أن يتناوله الكاهن وحده كما عند اللاتين ، فالكاهن الإنكليزي لا
يقدر أن يتناول القربان إلا إذ كان محاطًا بعدد كافٍ من المؤمنين الذين يريدون
الاشتراك فيما يسمى بالعشاء السري ؛ فلأجل هذا جعلوا في شعيرة القربان
الاختيارية عبارة يلقيها الكاهن على المؤمنين في أثناء المراسم المتعلقة بالقربان
المقدس فيما إذا كان الكاهن وجد أن المؤمنين الحاضرين على المائدة الإلهية لا
يبلغون العدد الكافي لتناول القربان معًا .
ومما يجب أن لا ننساه أن المادة الثامنة والعشرين من دستور الإيمان
الأنكليكاني تنكر بتاتًا عقيدة استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح مما هو حجر
الزاوية في القداس الروماني كما قرَّره مجمع ترنتا ، فليس بصحيح أن الكتاب
الجديد يتسامح في هذه القضية من حيث الأساس ، ولكن مما لا ينكر أن صورة
الشعائر من جهة التخيير قد تؤدي إلى نتائج تخالف الأصل ، وتحمل على الانتقاد ،
ففي الكتاب القديم نص صيغة يفهم منها أن تناول القربان قد شرعه المسيح تذكارًا
لموته وآلامه ، والحال أن الكتاب الجديد يحذف هذه الصيغة ، ويجعل محلها كلامًا
يدل على أن الخبز والخمر هما مقدمان لله كقربان احترام وشكر حتى يمنحنا
باستحقاقات آلامه غفران خطايانا .
ثم إن الكتاب الجديد يحذف تمامًا العبارة التى في الكتاب القديم تنكر حضور
المسيح بجسده ودمه في الخبر والخمر ويَعُدّ ذلك عبارة وثنية ، ويصرح بأن الخبز
والخمر لا يتغيران بعد كلمة التقديس ، وأن الجسد الحقيقي للرب هو في السماء ؛
ولا يعقل أن يكون في أماكن متعددة في وقت واحد ، ويوجد ابتهال للروح القدس
لأجل أن يبارك ويقدس الخبز والخمر حتى يكونا فينا جسد المسيح ودمه ، فهذا
الابتهال الذي يشبه من بعض الوجوه الصلاة اليونانية يؤدي إلى الاعتقاد بأن كلمات
التقديس لا تكفي لتحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح وأنه يجب لذلك تدخل
الروح القدس ، وحينئذ يلزمنا أحد أمرين لا مناص من أحدهما : إما أن يكون هذا
الابتهال ضروريًّا لأجل حصول النتيجة ؛ وعليه يكون الأنكليكان قد حرموا تقديس
الخبز والخمر من البداية ؛ لأن كتاب الصلاة المعروف بكتاب 1662 لا يحتوي هذا
الابتهال ، أو أن يكون الابتهال لا يفيد معنى جديدًا ، وعليه يكون وضعه هنا موجبًا
للخلاف بدون ضرورة ، وزد على ذلك أن صيغة الابتهال تحتوي مشكلاً جديدًا في
العقيدة وهو أن الروح القدس يُبْتَهَل إليه حتى يجعل الخبز والخمر فينا جسد المسيح
ودمه ، فيمكن أن يرد على ذلك بأنه إذا كان الخبز والخمر يصيران فينا جسد
المسيح ودمه ، فلماذا لا يصيران هما جسد المسيح ودمه في ذاتيهما ؟ فمن هنا لا
يبقى لنا إلا أن نعتقد باستحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح بصورة حقيقية ،
ولكن هناك فرق ؛ لأنه بحسب الكتاب الجديد عند ما يتناول المؤمن الخبز والخمر
لا يحولها الروح القدس إلى جسد المسيح ودمه إلا في المؤمن ، وبعبارة أخرى
الحضور الحقيقي للمسيح في الخبز والخمر لا يتم إلا في الشخص المتناول للقربان ،
وبعملية مقارنة من الروح القدس ، هذا كما لا يخفي يشابه العقيدة الكلفينية وقد
سلم بها كرانمر وجرى إدخالها في الابتهال المار الذكر خيفة أن يَجُرَّ ذلك إلى عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر ، ففي المادة الثامنة والعشرين من دستور
الإيمان الأنكليكاني هذه العقيدة ممنوعة وهناك يقول : إن تقديس العشاء السري لم
يكن من المسيح شعيرة مقصودًا بها الحفظ أو النقل أو الرفع أو العبادة ، فالحفظ
مقصود به إيداع الجسد محلاًّ خاصًّا ، والنقل يراد به الزباح ( والطوفان ) والرفع
يعني القداس ، والعبادة يراد بها الاعتقاد بسر القربان المقدس ما هو معروف بالتعبد
عند الأنكلوكاتوليك ، وبهذه المناسبة يجب أن نظهر الفرق الكلي بين الأنكلوكاتوليك
والأنكليكان المحافظين الذين يقال لهم : إنجيليون فإن هؤلاء يرفضون التعبد
المذكور بجميع لوازمه ، ولا يقولون : إن روح القدس يحول طبيعة الخبز والخمر ،
بل إن الخبز والخمر ينزلان المسيح تنزيلا روحيًّا في قلوبهم لا غير ، أما
الأنكلوكاتوليك فمنذ خطبة بوزي على الأفخارستية سنة 1843 قد صارت عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر من أركان إيمانهم ، وهم يحتفلون بعيد
جسد الرب الذي لم يجرؤ كتاب الصلاة الجديد أن يجعله في روزنامته ، وفي
كنائسهم يوجد دائمًا بيت للجسد يتعبد له المؤمنون في كل ساعة ، وعلى هذا يجب
تعديل المادة الثامنة والعشرين من قانون الإيمان التى مر ذكرها .
والنتيجة نفسها تكون للاقتراح الجديد المتعلق بحفظ الخبز والخمر لمناولتهما
للمرضى فبحسب كتاب الصلاة القديم وبحسب المادة الثامنة والعشرين من قانون
الإيمان ما يبقى من الخبز والخمر المقدسين بعد إجراء الشعيرة الأفخارستية ينقسم
بين المؤمنين الذين اشتركوا في تناول القربان ، وإن وجد مريض يطلب تناول
القربان وجب على الكاهن أن يكرر الشعيرة الأفخارستية بشرط أن يوجد عدد كاف
من متناولي القربان يتناولون مع المريض ، فإن لم يوجد هذا العدد الكافي فالكاهن
يكتفي بإيصاء المريض بأن يندم على خطاياه ويقنعه بأن مجرد طلبه تناول القربان
بعد كما لو تناول بالفعل ، ولا يجوز أن يتناول الكاهن والمريض القربان بدون ذلك
العدد الكافي من المؤمنين إلا في ظروف مستثناة ، وذلك بأن يكون المريض مصابًا
بمرض تخشى منه العدوى ، فلا يجوز أن يقربه الناس وفي هذه الحالة يجب على
المريض تقديم طلب خاص للكاهن ، فهذه الصعوبات الواقفة في وجه الاستمتاع بسر
الأفخارستية لم تزل موضع اعتراضات الأنكلوكاتوليك ، وكانوا كلما اتسعت حركت
أكسفورد تزداد العرائض المقدمة إلى رئيس أساقفة كنتربري بطلب إصلاح شعيرة
الأفخارستية للمرضى بل نقول : إن الأنكلوكاتوليك ذهبوا إلى أبعد من هذا وهو أنهم
جعلوا في كنائسهم كلها بيتًا للجسد ، وأنهم يناولون المرضى القربان المقدس عند
طلبهم إياه برغم ما يحصل لكهنتهم من توبيخ أساقفة الكنيسة .
فالذين حرَّروا كتاب الصلاة الجديد إنما أرادوا إعطاء هذه المخالفات شكلاً
قانونيًّا فأذنوا بحفظ الخبز والخمر المقدسين لكن لأجل إعطائها للمرضى فقط ، ولا
يجوز أن يكون المقصد من ذلك الحفظ شيئًا آخر ، ولا أن يجعل لذلك احتفال خاص ،
ولا أن يوضع الخبز والخمر فيما يقال له : بيت الجسد كالذي عند الكاتوليك بل
في صوان مما يقال له أومبري وهو شيء لا يوضع على مذبح بل يكون في أحد
حيطان الهيكل .
وبالاختصار جميع المسائل المتعلقة بحفظ الجسد تكون عائدة إلى الأنظمة التى
ينشرها مجمع الأحبار ، ويكون التنفيذ عائدًا إلى مطران الأبرشية ، فجعل مسألة
حفظ الجسد من الأمور القانونية ، وكذلك التخيير في الاعتقاد بسر الأفخارستية
أوجب سخط الإنجيليين الشديد الذين يذهبون إلى أن حفظ الخبز والخمر له قيمة
رمزية لا غير ، وأن الاعتقاد بحضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر مخالف
للعقيدة الإنكليكية ، ثم إن الإنجيليين يقولون : إن كتاب الصلاة القديم فيه كل ما يلزم
لأجل استمتاع المرضى بتناول القربان ، وقد يمكن أجراء بعض التوسيع في نظام
التناول .
أما مسألة وضع القربان في صوان يكون مندمجًا في الحائط بدلاً من أن يكون
مرفوعًا على مذبح ، فلا يمنع الأنكلوكاتوليك من التعبد للجسد ، وفي هذا لا نرى
الإنجيليين مخطئين ؛ لأن التساهلات التى أجريب للأنجلوكاتوليك لا تمنعهم من أن
يعترضوا على الأساقفة في الضغط على ضمائرهم بما يتعلق بهذه العقيدة ، ويتذكر
الناس الرسالة التى نشرتها التيمس في 28 إبريل الماضي من قلم ماكي وروس
وفيها رفض التجديدات التى وضعت لهم في كتاب الصلاة الجديد والتى كان يغض
النظر عنها مطران لندن منذ سنوات عديدة ، وقد كانت هذه الخطة التى يسير عليها
بعض رجال الإكليروس الأنجلوكاتوليكي حائزة عضد رجال آخرين مثل اللورد
هاليفاكس والسير هنري سليسر اللذين كتبا إلى التيمس في 20يونيو الماضي قائلين :
إن المؤيدين لهذه الخطة هم عدد كبير من المؤمنين ، إذن الأكليروس الأنكليكاني
هو على بينة من أنه برغم التنبيهات والتحديدات الأسقفية يوجه فئة من قبيل ماكي
وروس واللورد هاليفاكس وآخرين من الأنكلوكاتوليك لا يحجمون عن مخالفة أوامر
الكنيسة ، ولم يمض زمن طويل على الحادثة التى وقعت بين القس بولوك و بستر
وبين الدكتور بارنس مطران بيرمغنام في كنيسة القديس بولس ، وكيف أن القس
المذكور قطع على المطران المشار إليه كلامه عندما كان يريد أن يمتحن قضية
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر ( المطران بارنس أسقف بيرمنغام هو من
ألد خصوم الأنكلوكاتوليك ، وممن يعلنون في خطبهم استحالة سر الاستحالة المسمى
بالأفخارستية أي حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر ، وقد استشهد مرة في
إحدى خطبه في وسط الكنيسة بأقوال محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في شهر
يناير الماضي قام أحد الناس في كنيسة وستمنستر ، واحتج احتجاجًا شديدًا في أثناء
قداس الصباح وجرى في الوقت نفسه في كنيسة غوبتر في داروين عربدة شديدة
على الأنكلوكاتوليك اضطر فيها البوليس إلى دخول الكنيسة وإخراج الشعب منها .
والشكوى واقعة على الأنكلوكاتوليك من أنهم يريدون إلغاء الإصلاح
الأنكليكاني بعضه إن لم يكن كله ، فالدكتور داغيل ستول مثلا وهو من مقدمي
الأنكلوكاتوليك يعلن إرادة الرجوع إلى القداس الروماني وإلى عبادة القربان المقدس
وإلى استعمال القميص التى يلبسها القسيس عند مناولة القربان وسائر الألبسة
الكهنوتية التى يصطلح عليها رجال الكنيسة الرومانية ، نعم إنهم برغم هذا كله لا
يريدون الخضوع للبابا ولا يقولون بعصمته ولا يزالون بعيدين عن رومة نظير
الآخرين ، ولقد ظهر من المنشور البابوى الأخير بشأن اتحاد الكنائس أن البابا أيضًا
لا يوافق عليه إلا على شرط الخضوع التام للسلطة الرومانية .
وقصارى ما في الأمر أن الأنكلوكاتوليك بدون أن يرجعوا إلى البابا يقدمون
على بدع غير مؤتلفة مع العقيدة الأنكليكانية وهذا ما يعترف به الإنجيليون
والإنكليكانيون المعتدلون ، ولقد صرح الدكتور هدلم مطران إكلوسستر الذي هو من
المعتدلين بأن الأنكلوكاتوليك أصبحوا يتجاوزون مبادئ الكنيسة الإنكليكانية ، وأنه
يخشى عليهم من ثورة الشعب الإنجليزي الذي بلغ صبره عليهم أمده الأقصى ،
وهذا هو السبب الحقيقي في رفض مجلس العموم تصديق كتاب الصلاة الجديد .
وإن امتيازات الكنيسة الإنكليكانية في إنجلترا يقابلها فرض الخضوع للتاج
الملي الإنكليزي ، فكل تجديد أو تعديل في رسوم الصلوات غير ممكن إلا بموافقة
الملك الذي هو رئيس الكنيسة الإنكلكيانية ، وذلك بعد تصديق البرلمان ، وقد رأينا
أن مجلس اللوردة بعد المناقشة بياض يومين كاملين صدَّق على كتاب الصلاة الجديد
بأكثرية 241 ضد 88 ( 13 ديسمبر ) وبرغم مهاجمات اللورد هاليفاكس من جهة
الأنكلوكاتوليك ومهاجمات اللورد كوشندون من جهة الإنجيليين قرَّر اللوردة بالأغلبية
الثقة في هيئة الأساقفة الذين كان يرأسهم رئيس أساقفة كنتربري ، ولم يعهد أن حفلة
في مجلس اللوردة بلغت من الزحام ما بلغته تلك الحفلة فلم يتخلف أحد بل إن
المرضى من اللوردة حملوا إلى تلك الجلسة حتى لا يحرموا الاشتراك في تلك
المناقشة .
وكان المنتظر بعد أن جرى تصديق المشروع في الجمعية الكنسية وفي مجلس
اللوردة أن يقع تصديقه في مجلس العموم إلا أن الأمر جرى بالعكس ، فالمستر
بريدجمان ناظر البحرية قدم المشروع الجديد بشيء من التثاقل والفتور والمستر
بلدوين رئيس النظار أعلن أنه يحيل هذه القضية إلى رئيس أساقفة كنتربري ويترك
المجلس حرًّا في التصويت ، فالحكومة لم تتظاهر بعضد المشروع ولا رفضه لكن
ناظر الداخلية السير جونسون هيكس وهو من المتشددين في البروتستانتية نهض
وطلب رفض الكتاب الجديد قولاً واحدًا وبيَّن خطر المسامحات الواقعة في العقيدة ،
وقال : إن الأساقفة الإنكليكانيين خرجوا عن صلاحيتهم بالتساهل مع الأنكلوكاتوليك
الذين يريدون وضع شعائر جديدة مخالفة لشعائر كنيسة إنجلترا فكان لكلام ناظر
الداخلية تأثير شديد لم يقدر اللورد هوك سيسل على منعه ، وبعد مناقشة استمرت
ثماني ساعات ( 15 ديسمبر ) رد مشروع الكتاب الجديد بأكثرية 240 ضد 207 .
فرفض مجلس العموم للمشروع أعاد المسألة كما بدأت ، وكان في نية رئيس
أساقفة كنتربري الاستقالة من منصبه الأعلى بمجرد تصديق الكتاب إلا أنه اضطر
بعد رفضه إلى متابعة جهاده وتقرر إعادة الكتاب تحت النظر والتدقيق بواسطة
مجمع الأساقفة ، ثم رده إلى البرلمان مرة ثانية ، والمظنون أنه تدخل عليه شروط
مشددة فيما يتعلق بقداس الخبز والخمر وفي كيفية حفظهما في الكنائس ، ولكن ليس
من المؤكد أن هذه التعديلات تكون كافيةً لإرضاء المعارضين .
فالكنيسة الأنكليكانية تجتاز أزمة شديدة وهي واقعة بإزاء أحد أمرين : إما أن
تتخلص من وصاية البرلمان وتنفصل عن الحكومة انفصالاً تامًّا ، وعند ذلك يكون
لها الحرية في سن القوانين الكنسية التي يراها الأساقفة مناسبة أو أن تبقى خاضعة
لقرارات البرلمان ، وتجري الجزاء القانوني الصارم على المشاقين حتى يتسنى
تطهير الكنيسة الأنكليكانية من عناصر المخالفة وعند ذلك يخرج الأنكلوكاتوليك
على الكنيسة علنًا ، وفي مثل هذه الحالة يزداد ضعف الكنيسة الأنكليكانية برغم
صفتها الرسمية وتزداد الشيع والنحل البالغة اليوم مائة وستين في بلاد الإنجليز ،
فالكنيسة الأنكليكانية لا تكون قد فقدت في الآخر مميزاتها القومية فقط ، بل تكون
زعزعت أركان القانون الأساسي الإنجليزي بصورة لا يعرف منها جيدًا مقدار
التأثير الذي سيحدث بذلك لإنجلترا وسلطنتها اهـ ( ما نشر في مجلة جنيف ) .
وقرأنا رسالة من جريدة الديبا بتاريخ 30 يناير الماضي تشرح قصة رفض
البرلمان لكتاب الصلاة الجديد ، وقد ورد فيها أن مجمع الأساقفة استاء استياءً شديدًا
من ذلك الرفض وتَفَوَّهَ بما يشبه الاعتراض على مجلس العموم ، ولكن خطة
الأساقفة هذه ستزيد الأمر إشكالاً ، ولقد ظهر أن الأساقفة استخفوا بالرأي العام
الإنجليزي ولم يتوقعوا من أبناء الكنيسة الإنكليكانية مثل هذه الشدة في تمسكهم
بتقاليدهم .
ومما زاد هيجان الخواطر نشر تقريرعن المحادثات التي جرت من سنة
1921 الى سنة 1925 تحت رئاسة الكاردينال مرسييه لأجل النظر في توحيد
الكنيسة الإنكليزية مع الكنيسة الرومانية .
فالإنكليكانيون دهشوا عندما اطلعوا على كون رئيس أساقفة كنتربري هوالذي
جرت تلك المحادثات برأيه ، وأنه أنفذ لها ثلاثة ممثلين حضروا منها الجلستين
الأوليين . فالإنجليز ناقمون على أساقفتهم هذا المسلك الجريء والمظنون أن
المناقشات عند ما يعود كتاب الصلاة الى مجلس العموم ستكون أشد من ذي قبل
وربما يرد الكتاب ثانية ويفضي الأمر الى انفصال الكنيسة عن الحكومة وهذا مما لا
يرضاه أكثر الإنكليكانيين .
ثم جاء في جريدة ( جورنال دوجنيف ) بتاريخ 28 مارس أن رئيس أساقفة
كنتربري أصدر بيانًا صريحًا عن التعديلات المراد إدخالها على كتاب الصلاة ، وأن
الأساقفة رجعوا عن كثير مما كانوا أرادوا حمل الناس عليه ، وبالإجمال تقرَّر
إعطاء الحرية للعمل بالكتاب القديم أي كتاب سنة 1662 .
نعم إن الصلاة لأجل الملك جعلت من الشعائر المفروضة بدون تساهل ، وهذا
مما يزيد الوحدة بين الحكومة والكنيسة ، وأما حفظ الخبز والخمر فقد كان قرار
الأساقفة فيه حازمًا وذلك بأنه لا يجوز حفظهما إلا لمناولة المرضى لا غير ، ولا
يجوز استعمالهما على وجه آخر ، وكذلك محل وضعها منصوص عليه بصورة لا
تدع محلا لعبادتهما ) اهـ .
نعود إلى القول بأن هذا النقل الذي نقلناه لا نقصد به المسألة المختلف عليها
بين الإنجليز من حيث هي والتي لا تعنينا من هذه الجهة ، وإننا لنوقر حرمة عقائد
الناس ولا نقابلها إلا بالاعتبار التام كيفما كانت ، فتعرضنا لهذا الموضوع لم يكن
لذاته .
وإنما مقصدنا إقناع الشرقيين الذين يلعب بعض المفسدين بعقولهم بأن أرقى
أمة في أوربة ، بل أرقى أمة اليوم في العالم وهي الأمة الإنجليزية لا تقدر أن
تصلي إلا تحت تصديق مجلسي الأعيان والنواب ، وتحت أمر الملك ، وأن هذه
المباحثات والمناقشات الاعتقادية الصرفة قد جرت في مجالس دنيوية سياسية هي
أكبر المجالس من نوعها في الدنيا .
فالذين يسفسطون بكلمة فصل الدين عن السياسة وبدعوى نبذ دول أوربة
للقضايا الدينية تمامًّا يكفيهم هذا المثال { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ( الرعد : 33 ) .
... ... ... ... ... ... ... لوزان 8 أبريل1928
... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(*) المنار : انتهت الأزمة في الشهر ( ذي الحجة - يونيو ) برفض البرلمان البريطاني للتعديل
المقترح في كتاب الصلاة - مرعاة للتطور الاجتماعي والديني والسياسي في الأمم النصرانية وتقريبًا
للبروتستنتية من الكاثوليكية أمها - وقرَّر إبقاءه كما كان بالرغم من أنوف طلاب التجديد .
(1) المنار : وأنها مجددة وإن كل قديم قبيح وكل جديد حسن .
(29/201)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م

الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد
حكومة الترك اللادينية

قد وقع ما توقعنا وصرَّحنا به مرارًا من عزم ملاحدة الترك الاتحاديين
فالكماليين على نزع ثوب الإسلام الذي كانوا يلبسونه زورًا ورياء للشعب التركي
الذي يدين الله به وجدانًا وتقليدًا ، وأنهم كانوا يعملون لهذا متريثين ، ويسيرون إليه
متمكثين ، مراعاة لسنة التدريج ، وحذرًا من خيبة الطفور ، ولكن التركي إذا ظفر
بَطَرَ ، وظن أنه العزيز المقتدر ، فلذا كان ظفرهم الأخير باليونان مجرئًا للكماليين
على الإيجاف والإيضاع في هذه السبيل فأبطلوا التعليم الديني ومدارسه والشريعة
الإسلامية ومحاكمها ، واستبدلوا بها ما يجافي طباعهم وتقاليدهم وأخلاقهم من شرائع
بعض الشعوب الأوربية وقوانينها ، وأعلنوا إباحة الردة عن الإسلام وجواز التدين
بكل دين ، والبراءة من كل دين ، وتزوج المسلمة بالكافر ، ورقصها مع الفاسق
والفاجر ، وأكرهوا شعبهم على لبس البرانيط - كل هذا كان مع وجود مادة في
قانون الجمهورية الأساسي صُرِّحَ فيها بأن دين الدولة هو الإسلام .
ولأجل هذه المادة التي كذَّبتها الأقوال الرسمية والأفعال الرسمية والأحكام
الرسمية والقوانين الرسمية ، وتصريحات الجرائد الرسمية وغير الرسمية باحتقارهم
للدين وبراءتهم منه لأجل هذه المادة كان بعض المسلمين الأغبياء الغافلين يظن
بإغواء الملاحدة المارقين ، أن الدولة التركية لا تزال دولة إسلامية ، وأن كل تلك
الأقوال والأفعال والأحكام الكفرية المعادية للإسلام لا تنافي الإسلام ؛ لأنها من
التجديد المدني والتقدم إلى الأمام ، وترك القديم البالي الذي أخلقته الأيام وأبلته
الأعوام .
هكذا كان يقول ملاحدة بلادنا المصرية في تأييد الكماليين والترغيب في
كفرهم ، وهكذا كانوا يكتبون ، ولهذا كانوا يدعون ، ولمثله عندهم فليعمل العاملون ،
ولكن الحكومة التركية الكمالية لم تعد تطيق الصبر على بقاء كلمة الإسلام في
قانونها ، فقررت إزالتها ومحوها ، بل قررت إزالة اسم الله تعالى من اليمين
الرسمية المقررة في القانون ؛ لأنها لم تكن وضعت اسم الإسلام في القانون خوفًا من
قيام الشعب عليها ، فلما ظفرت بإخماد كل ثورة عليها والتنكيل بأهلها تجرأت على
البراءة من الاسم كالمسمى .
وإنه ليسر عقلاء المسلمين الصادقين هذا الجهر لسببين :
( أحدهما ) : أن كراهة المسلم الصادق للنفاق أشد من كراهته للكفر الصريح ،
ولا سيما النفاق بالقول الذي يصرح العمل بتكذيبه .
( ثانيهما ) : أن تلبس الحكومة التركية بظاهر الإسلام أو تحليلها باسمه
زورًا وبهتانًا يخدع العالم الإسلامي الجاهل بها ، ويظل على ما تعود معتمدًا في
إعزاز الإسلام عليها ، فيظل غافلاً عن قوة الإسلام نفسه وعن قوته هو بالإسلام ،
وإني لمعتقد أن ما كان شائعًا من قيام السلطان العثماني التركي بمنصب الخلافة كان
أقوى الأسباب في ضعف المسلمين ، وتمكن الأجانب من استعبادهم ، والاستئثار
بخيرات بلادهم .
فإذا كان في هذا الكفر البواح من حكومة الترك ومجلس الأمة لها ضرر
بغيرهم من المسلمين فهو سوء القدوة بالترك التابع لما كان من المبالغة في تعظيمهم
بالباطل ، وتعلق الآمال بهم بالوهم ، لا فوات ما كانوا عليه من إقامة أركان الإسلام
وإحياء كتابه وسنته والدفاع عنه ، فإنهم لم يكونوا كذلك ولا سيما الجيل الأخير منهم .
ولما وثق الأوربيون بارتداد الحكومة الكمالية بهيئتيها التشريعية والتنفيذية عن
الإسلام وبعدواتهم له وبدعايتهم للشعوب الإسلامية ، ولا سيما الأعجمية إلى اتباع
خطواتهم في ذلك فرحوا ، وصرَّح بعضهم بأن الإسلام قد فقد كل قوة وعصبية ،
وطمع دعاة النصرانية منهم بتحويل سائر المسلمين عن الإسلام وأرصدوا لذلك
الأموال الكثيرة على تصريحهم بأن العقبة الكؤود في طريقهم هي عصبية جزيرة
العرب ولا سيما الوهابية منهم . وطلب بعض جمعياتهم إرسال مائة مبشر إلى
جزيرة العرب خاصة . ومما زاد في طمعهم في تقصير جميع المسلمين دعاية
الإلحاد في مصر .
***
الإلحاد والزندقة بمصر
ها نحن أولاء نرى ملاحدة بلادنا هذه تُنَوِّه بكفر الترك الكماليين وتثني على
كل خطوة من خطواتهم فيه ، وتنافح عنه في جرائدها ، وتدعو إلى مثله كلما
سنحت فرصة ، ولجريدة السياسة مراسل خاص في الآستانة مصري الأصل اسمه
( عمر رضا ) يمدها في كل أسبوع بمقالة ينوِّه فيها بأعمالهم ، ويجلي كفرهم
وضلالهم بحلي الخلابة وحللها ، وهو الذي كان يراسل جريدة الأخبار الإسلامية من
قبل بقوة دينهم ومتانة إسلامهم ، ولكل وقت وكل حال سياسة ودين عند هؤلاء .
ولكن كان من حسن حظنا أن كان أول ماقتٍ لهذه الدعاية الإلحادية وصادّ
عنها هو جلالة ملك البلاد ، ولم يكن الزعيم المؤثر سعد زغلول باشا براض عنها ،
ولا بمساير لها ، بل كان ضدًّا على دعاتها في الجملة ، حتى إنه اشتد في أثناء
المناقشة بمجلس النواب في كتاب طه حسين الذي كذَّب فيه القرآن ، وكاد يرفس
وزارة عدلي باشا رفسة يسقطها بها إسقاطًا يجعل زعماء الحزب الدستوري في سفل
سافلين ، ولكنهم أجلوا البحث في المسألة حتى تمكنوا من إسلاس قياده وإسكاته عن
تأييد المطالبين بعقاب طه حسين في المجلس ، حرصًا على ما يسمونه بالسياسة
الائتلافية ولولاه لنجحوا في دعايتهم إلى لبس البرنيطة .
***
التفرنج ومبادئ
الإلحاد في الأفغان
كان المشهور في العالم الإسلامي أن أشد الشعوب الإسلامية عصبية إسلامية
مسلمو نجد ومسلمو أفغانستان ، وقد ذكرنا هذا من قبل ، ولكن رُزِئَتْ الحكومة
الأفغانية في هذا الزمن الأخير ببعض ملاحدة الترك فأفسدوا عقائد بعض رجالها
الأفغانيين وزيَّنوا لملكها شر أنواع التفرنج وأضرها وهو تفرنج النساء بالتبرج
والزينة وهتك حجاب الحياء والصيانة المقتضي للإسراف في النفقات ؛ لأجل
الانغماس في الشهوات واللذات .
واتباع سنن الترك في لبس البرنيطة وانتحال القوانين الأوربية وغير ذلك من
المفاسد التي جنت على الدولتين العثمانية والمصرية ، وقد شرعت الدولة الأفغانية
الجديدة تقلد الترك ولا ندري إلى أي شوط تصل في ذلك وإنا لمنتظرون .
كنا كتبنا ما تقدم كله منذ أشهر ، ولم يتسع له الجزء الثاني وتأخر إصدار هذا
الجزء لما تقدم من السبب ، وفي أثناء هذه المدة أتم ملك الأفغان رحلته الأوربية
الآسيوية ، وكان من أخبارها أن زوجته الملكة ثريا كانت في أوربة وفي أنقرة
سافرة متبرجة بزينتها مسرفة فيها حتى إننا رأينا في بعض صورها الشمسية صورة
نصفية برزت فيها عارية من كل ثوب ليس عليها إلا الجواهر التي تتلألأ على
صدرها - ومنها أنها كانت ترقص مع الرجال وخص بالذكر مصطفى كمال باشا -
ومنها أن كبار العلماء في إيران لما علموا بأخبارها هذه أرسلوا إلى بعلها الملك
برقية صرَّحوا له فيها بأنهم لا يقبلون أن يروا في بلادهم الإسلامية ملكة مسلمة
تنتهك حرمة الإسلام بسفورها وتبرجها المحرم شرعًا ، فاضطرت عند وصولهما
إلى إيران أن تحتجب احتجابًا تامًّا كنساء إيران ، وكانت تبرز في مصر
كالمصريات غير المسرفات في التبرج .
ومن أخبار هذه الرحلة أن الملكة ثريا قد ابتاعت من الحلي والحلل وهي في
باريز ما قيمته مئات الألوف من الجنيهات ، وهذا يدل على أن التفرنج الأفغاني قد
بدأ مسرفًا على طريقة إسماعيل باشا الخديو في مصر ، كأن ملك الأفغان ورجاله لم
يطلعوا على تاريخ ذلك الإسراف ولا علموا بما كان من نتائجه .
بيد أن ملك الأفغان قد فَضَلَ إسماعيل بعنايته بأمر القوة العسكرية العصرية
التي لا يمكن لدولة حفظ استقلالها بدونها وجعل الشعب كله عسكريًّا مستعدًّا في كل
وقت لبذل النفس في سبيل الدفاع عن بلاده وغير عاجز عن الهجوم على غيره إن
اضطر إلى ذلك . ولكن الاستعداد النظامي والآلي لذلك لا يكفي إلا إذا أمدته القوة
الروحية والوحدة القومية .
والشعب الأفغاني الآن عرضة لفساد العقائد والأخلاق بالتفرنج الجديد وما يتبع
ذلك طبعًا من التفرق أو ( انقسامه على نفسه ) كما يقال في التعبير العصري .
وسنبين في جزء آخر أسباب ما نخافه على هذا الشعب الإسلامي الباسل من
فساد العقيدة والأخلاق والتفرق ، وكون ذلك أضر فيه منه في الشعب التركي وأشد
خطرًا على حكومته ، وما حاولنا من نصح من لقينا من رجال الحكومة الأفغانية
بمصر ومكة المكرمة ثم ما كتبناه إلى جلالة الملك أمان الله خان في مصر .
((يتبع بمقال تالٍ))
(29/226
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

المحرم - 1347هـ
يوليو - 1928م

تقريظ المطبوعات الحديثة

( روح الاشتراكية )
تأليف الدكتور غوستاف لوبون وترجمة الأستاذ عادل زعيتر خريج جامعة
باريس ، عني بنشره إلياس أفندي أنطون إلياس صاحب المطبعة العصرية ثمنه 20
قرشًا مصريًّا .
الدكتور غوستاف لوبون عالم أوربا الاجتماعي الشهير وصاحب المؤلفات
الاجتماعية الفذة لا يحتاج عند جمهور القراء إلى تعريف ، خصوصًا وقد اشتهر هذا
العالم الجليل بدرس الشئون الشرقية عامة والعربية خاصة وله عطف على الشعب
العربي وعناية كبيرة بمدنيته التي ظهرت آثارها بكتابه الشهير ( حضارة العرب )
حتى إن جماعة من أدباء مدينة بيروت كانوا أقاموا له حفلة شكر في مدينتهم اعترافًا
بفضله وشكرًا لإنصافه لأمتهم العربية كما اشتهر هذا الفيلسوف بالابتعاد عن التعصب
والتصريح بالحقائق التي يحاول معظم علماء الغرب ورجاله سترها كتعصب أوربا
ولا سيما فرنسا موطنه ضد الحكومات الإسلامية والإسلام .
كان آخر ما ألف الدكتور غوستاف هذا الكتاب ( روح الاشتراكية ) بعد ( سر
تطور الأمم ) ، و ( روح الاجتماع ) ، و ( الآراء والمعتقدات ) ، و ( الثورة
الفرنسية ) . فجاء كتابًا قيمًا في أبحاثه جليلاً في مراميه ، عز على صديقنا الأستاذ
عادل زعيتر أحد أركان النهضة العربية أن تحرم الأمة العربية من ثمراته ، فعني
بترجمته ترجمة سلسة فجاءت حلة قشيبة من حلل العربية التي تكتسي بها مؤلفات
الغرب ، فنثني على همة المترجم ونرجو أن يوفق إلى انتخاب أمثال هذه الأسفار
القيمة ، ونحث القراء على اقتناء هذا الكتاب النفيس .
لكن هذا الكتاب كأمثاله في علمه لا يخلو من نظريات مخالفة للأديان ، لا
يعسر على علماء الدين المحققين تأييد جانب الدين فيها .

 
ربيع الأول - 1347هـ
سبتمبر - 1928م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده

أوردنا في رسالة خلاصة السيرة المحمدية جملة من خصائص قريش التي
فضلوا بها القبائل والشعوب ، وكانوا أهلاً لظهور الإصلاح الإسلامي فيهم وبعثة
خاتم النبيين منهم ، ثم رأينا في هذه الأيام جملة في ذلك فيها تفصيل لبعض ما
أجملناه هنالك وزيادة عليه في كتاب ثمار القلوب للثعالبي فأحببنا نشره في المنار ،
ليكون كالتكملة لما أوردناه عند كتابة تلك الرسالة من غير مراجعة كتاب ما ، وفيه
زيادة على ما هنا ، على توخينا الإيجاز هنالك قال الثعالبي رحمه الله :

أهل الله
كان يقال لقريش في الجاهلية : أهل الله ؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من
المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى .
( فمنها ) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله ،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها .
( ومنها ) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة ( الرفادة شيء تترافد به
قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا )
والسقاية والرياسة واللواء والندوة .
( ومنها ) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم و إسماعيل عليه السلام
من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم
وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم .
( ومنها ) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد
وفج عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات
والصور والشمائل ، عفوًا بلا كلفة ، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة ، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة ، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض ، ولا المجرب كالغمر ،
ولا الأديب كالفضل ، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور ، ورأوا
الغرائب التي تُشْحَذ ، والأعاجيب التي تُحْفَظ ، فثبتت الأمور في صدورهم ،
واختمرت وتزاوجت ، فتناتجت وتوالدت ، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة ،
والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم ؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل
البرية ، وأحسن الناس بيانًا ، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم ، وكذلك ينبغي أن
يكون الإمام ، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم .
( ومنها ) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم
المكتسبة من التجارة ، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي
هي صناعتهم ، والتجار هم أصحاب التربيح ، والتكسب والتدنيق ، وكان في
اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من
العجب ، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في
الدين فتركوا الغزو ؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال ، فلما زهدوا في الغصوب لم
يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم و النجاشي بالحبشة و
المقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء ، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا
غزوا كالأسود على براثنها [1] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من
كثير من خصائصهم في الجاهلية [2] .
فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ، تظاهر شرفهم ، وتضاعف كرمهم ،
وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله ، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة ،
وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أهل القرآن
هم أهل الله تعالى وخاصته ) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة : ( هل تدري
على من استعملتك ؟ استعملتك على أهل الله ) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة ؟
قال : ابن أبزى . قال : استخلفتَ على أهل الله مولى ؟ قال : إنه أَقْرَؤُهم لكتاب
الله تعالى ، قال : ( إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا ) .
قال بعض السلف : حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من
بيت الله ، وأقربهم قرابة من رسول الله ، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير
قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام - النبوة ،
والخلافة والشورى والفتوح - فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب
والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة ، وإمامة في مغرس رسالة إلا
من قريش ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الأئمة من قريش ) وقال عليه
السلام : ( قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها ) وأنشد :
إن قريشًا وهي من خير الأمم ... لا يضعون قدمًا على قدم
أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه
لم يبلغ مبلغ قريش :
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب في ماء زمزم
وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم ، وغرر غرائبهم ، ما تكثر
فائدته وتطيب ثمرته ، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم
وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته
في فصل له وهو قوله : العرب كالبدن وقريش روحها ، وهاشم سرها ولُبُّها ،
وموضع غاية الدين والدنيا منها ، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا ، وحلي العالم ،
والسنام الأضخم ، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم ، وسر كل عنصر
شريف ، والطينة البيضاء ، والمغرس المبارك ، والنصاب الوثيق ، ومعدن الفهم ،
وينبوع العلم ، ومناهل الظامي إلى الحلم ، والسيف الحسام في العزم ، مع الأناة
والحزم ، والصفح عن الجرم ، والإغضاء عن العثرة ، والعفو عند القدرة ، وهم
الأنف المقدم ، والسنام الأكوم ، والعزم المشمخر ، والصبابة والسر ، وكالماء الذي
لا ينجسه شيء ، وكالشمس لا تخفى بكل مكان ، وكالنجم للحيران ، والماء البارد
للظمآن .
ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان ، وأسد الله وذو الجناحين وسيد
الوادي وساقي الحجيج ، وحليم البطحان ، والبحر والحبر ، والأنصار أنصارهم ،
والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم ، والصديق من صدقهم ، والفاروق من فرق بين
الحق والباطل منهم ، والحواري حواريهم ، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ، ولا خير
إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم ، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب
العالمين ، وإمام الأولين والآخرين ، وسيد المرسلين وخاتم النبيين ، الذي لم تتم
لنبي نبوة إلا بعد التصديق به ، والبشارة بمجيئه ، الذي عم برسالته ما بين الخافقين ،
وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون ، فقال : { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } ( المدثر :
36 ) وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } ( الأعراف : 158 )
وقال صلى الله عليه وسلم : ( بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة ) وقال :
( نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر ، وأعطيت جوامع الكلم ، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح
خزائن الأرض ) وقال : ( أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض ) .
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } ( الحجر : 72 ) وقال : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ( القلم : 1 ) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله
فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله ، وناقل مديحه ،
وراوية كلامه جبريل ، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
__________
(1) براثن الأسد أظافره ، ولا يظهر هنا ، فلعل الأصل فرائسها .
(2) وصف البصيرة بالنقد صحيح ؛ إذ بها يتميز ويعرف الجيد والرديء ويحتمل أن تكون الكلمة (النافذة) .
(29/322
 
الكاتب : شكيب أرسلان

ربيع الأول - 1348هـ
أغسطس - 1929م

ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
( 2 )

نشرنا في الجزء الأول تحت هذا العنوان ما ترجمه لنا الأمير شكيب أرسلان
من كتاب ( العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسية ) للضابط ( جول سيكار )
وننشر هنا ترجمة الفصل الثاني منه وموضوعه للتلميذ النجيب صاحب الإمضاء
هذا نصها :
احتكاك الإسلام بالمسيحية
(1) هل تنصير المسلم ممكن ؟ وهل هو مرغوب فيه ؟
إن البراهين مهما تكن قوية جلية الدلالة على تفوق المسيحية تفوقًا كبيرًا فهي
ستلاقي أمامها حتى عند المسلمين الذين لا يستنكفون عن المناظرة ( وعددهم قليل
جدًّا ) هذا الجواب البسيط : ( هذا مخالف لما جاء في القرآن ، ومن المعلوم أن
الكتاب الكريم فوق كل مجادلة لأنه كلام الله ذاته ) .
ومع ذلك نقول بأن تنصير المسلم باختياره ممكن خلافًا للرأي الغالب ، وإن
كان أصعب بكثير من تنصير الوثني .
وإننا نجد لذلك أمثلة قاطعة في الماضي أثبتها التاريخ ، وأنا لا أتردد في قبول
النظريات التي بنى عليها رونيه بازان (
Bazin ) مقدمته القيمة لكتابه ( حياة الأب
فوكو ) : إن الإنسان في جملته وعامة أمره يصعب عليه من طبيعته أن يعيش بدون
دين ، أولسنا نرى في كثير من الأحيان تلك العقول التي تتبجح بأنها تحررت من
الاعتقاد وصارت تراه وهمًا باطلاً تسقط - طال الزمان أو قصر - في الشك
المطلق أو تُحبس في نوع من التصوف الضار كالبلشفيكية أو الشيوعية الثورية ؟
فإذا افترضنا أن المسلم المترقي وصل يومًا ما إلى هذا الحد وصار لا يستمد من
إيمانه ما يرضي عقله وقلبه ، فلماذا لا نعتقد أن تفوق المسيحية سيستغويه كما
استغوى كثيرًا من الشعوب ، وينتهي بالميل إليها من نفسه ، فيعتنق باختياره دينًا
كثير الفضل ساعد على المدنية إلى درجة عظيمة ؟ ومن الوجهة الوطنية المحضة
أليس الأحسن ترك المسلم يتجه في هذا الطريق من أن نراه يسقط في أحضان
المذاهب السلبية أو الضارة [1] .
ولا محيد لنا عن الاعتراف بأن أكثر نصارى اليوم ليسوا نصارى إلا بالاسم ،
هذا إذا لم يتظاهروا بالردة والكفر ، فلهذا هم لا يؤثرون التأثير المطلوب لجلب
إخواننا المسلمين إلى المسيحية [2] .
قال أحد أعيان وهران السيد محمد بن رحال : ( إن الأضرار التي يحدثها عند
الأوروبي انحلال العائلة ، وانحطاط الأخلاق ، وشرب الخمور ، ومزاولة الميسر ،
والانهماك في الملذات ، والفوضى ، ومحبة المال محبة لا حد لها ، والإباحية ، إلى
أضرار أخرى - تجعلنا نتساءل : أي الفريقين أشد مرضًا ؟ أو أيهما المريض ؟
ولماذا لا يصير الإسلام ملجأ لأوروبا وطريقًا لنجاتها ؟ وهل يمكن للأوروبي أن
يتحمل كالمسلم وهو ليس له ذلك السند القوي الذي لا يؤثر فيه شيء ألا وهو
( الإيمان ) ؟ [3] .
هذا وإن العقبة الكئود في سبيل تنصير المسلم هي العداوة والاحتقار الذي
يلاقيه المتنصر في وطنه فالمتنصرون المغمورون في أوساطهم يظلون عرضة
للتعصب المحيط بهم ، وهم بلا شك يكونون مرغمين لسلامة أنفسهم على أن
ينزحوا عن بلادهم ، هذا إذا لم يصل الضغط عليهم إلى حد إرجاعهم عن اعتقادهم
الجديد .
على كل حال يجب أن نترك لمبشرينا حرية تامة في أعمالهم ، على أنها
يجب أن تكون مجردة عن كل ضغط وإرهاق ؛ لأن ذلك ينافي روح المسيحية ،
فإذن يجب ألا يجد المبشرون في أعمالهم سواء الخيرية أو التبشيرية عقبات من حقد
بعض موظفي الإدارة الملحدين أو المعادين للكنيسة فقط ، الذين يغتنمون مثل هذه
الفرصة لإظهار عداوتهم للدين ، وكذلك يجب ألا تجد الأعمال التبشيرية قيدًا من
حذر بعض الموظفين الجبناء أو القليلي الدراية الذين في خشيتهم انفجار التعصب
الإسلامي قد يستنتجون من هذه الحركة الاختيارية الروحية المحضة نتائج غير
مرضية لسلطتنا .
فالنتيجة التي يمكن أن تحصل هي ضد ما يعتقدون ، نعم إن من قلة المعرفة
عدم الاعتراف بأن المسلم ( إلا ما قل ) يجد حتمًا في تعاليم علمائه حاجزًا لا حد له
في سبيل التقارب التام بين القلوب .
وإذا تنصر الأهلي [4] كان تنصيره سببًا في جعله من أنصارنا نهائيًّا ، هذا
بقطع النظر عن الواجب الذي يحتمه عليه وجدانه من احترام النظام والسلطة
الموجودة كما تقتضيه روح الإنجيل [5] .
ولتعضيد هذه النظرية نقتبس من بحث كان نُشر في مجلة أفريقية الإفرنسية
( عدد 10 أكتوبر سنة 1926 ) باسم كافيه (
Cavê ) قوله :
( لابد من بيان أن تنصير أبناء العرب في تونس وكذا في الجزائر ودخولهم
في الجيش الفرنسي ، واتباع أبنائهم أيضًا هذه الطريقة يفتح طريقًا سهلاً للتفرنج ،
ولو لم يتجنسوا بالجنسية الفرنسية ، فكأننا نخلق نوعًا من المالطيين لا همَّ لهم إلا
أن يذوبوا فينا ، ويجب أن نعترف بأن الاندماج الديني على الطريقة التي اتبعت فيه
ينتج عند الأهالي من كل وجهة نتائج تفوق الاندماج المدني الذي كان أُعلن ( أي في
مجلس النواب ) ولكن لم ينفذ بمرسوم للتجنيس ، ومن جهة أخرى نرى أن النزاع
الديني يمكن أن يستحيل إلى عداء وسوء تفاهم حتى في أوروبا يضمحل ، والنتيجة
الأخيرة أن تبديل الاعتقاد يتبعه تبديل العقلية كلها ) .
وما أصدق هذا القول أيضًا : ( لو أن مجهودات رجال مثل الكردينال لفيجري
لم تعترض لكنا نجد في شمال أفريقية بضعة ملايين من المدغمين فينا بدلاً مما هو
الواقع إلى اليوم من وجود بعض آلاف من الفرنسيين في وسط عشرة ملايين من
السكان الأهليين ( أي المسلمين ) وأخص بهذا الإدغام والاندماج البربر سكان بلاد
الأصليين أبناء القديس أغستينوس والقديس بولي من غير أن يشعروا ، فكان يمكنهم
اليوم أن يتكاتفوا معنا تحت العلم الفرنسوي ضد أعمال التفرقة التي يسعى لها منذ
بضع سنين بعض دعاة وطنية مضطربة ذات لهجة معادية للأجنبي ) .
فحينئذ أصرح بدون تردد أنه يجب على رجالنا السياسيين ، وكذا على الرجال
المكلفين بحكم الأهالي ( أي المسلمين ) أن يعضدوا حركة التبشير بطريق مباشر أو
غير مباشر على أن تكون مجردة عن كل ضغط ، نعم يجب تعضيدها عوضًا عن
خنقها ، ويجب أن ينظروا في ذلك بعين المصلحة الوطنية وانتشار السلطة
الفرنسوية ، فهاك نتيجة تستحق البحث بكل إمعان من طرف الذين يقبضون على
زمام حكمنا والذين لا غاية لهم إلا عظمة فرنسا .
( 2 ) موقفنا في المسألة السياسية الدينية
إنني أريد بهذا العنوان بيان الموقف الذي أقترحه في هذا الطريق الوعر بما
لدي من التجارب الشخصية ، محررًا فكري من كل حكم سابق ، ومن كل احترام
إنساني ، ومن كل ما تملق نحو الأفكار التي كانت معتبرة منذ زمان قليل ، ولا
يهمني إلا شيء واحد هو المصلحة الفرنسوية :
إذا احترمت الدين والعادات والتقاليد ، وتسامحت في بعض الأفكار الباطلة
عند المسلم ، وإذا لم تتكلم عن النبي إلا باحترام تكون قد أحسنت الأدب ، وتكون قد
أحسنت السياسة .
ومن آيات التسامح التي يمكن أن تظهرها لإخواننا المسلمين ما يجب علينا
اتقاؤه من جرح عواطفهم ، مثال ذلك أنك إذا كنت معهم في شهر رمضان فليس من
الذوق أن تدخن وخصوصًا إذا كنت في مكان مغلق ؛ لأنه يكفي استنشاق رائحة
الدخان لإبطال الصيام [6] ، وكذلك يجب ألا تأكل لحم الخنزير بمحضرهم في أي
وقت كان ، وهم يعترفون لك بجميلك هذا ؛ ولكن لا تبالغ .
ليس من الأوفق أن تشجع الإسلام ، ولا أن تحاربه ، فتشجيعك إياه علامة
ضعف يؤسف لها كثيرًا ، ومحاربتك له قد توقظ التعصب ، وفي هذا المعنى قال
كاتب فأجاد في قوله : ( إن الإسلام في أصله قوة معاكسة لرغائبنا وأمانينا وميولنا ،
وتلك القوة يمكن أن تخمد وتسكن ، ولكن لا يمكن أن تقهر أبدًا ، ومن الواضح أن
من مصلحتنا أن نُعْمِل جهدنا في عدم انتشاره عند الشعوب التي تحت سلطتنا ،
وهذه السياسة التي أبانت التجربة حكمتها لم تكن متبعة دائمًا ) .
وقال الجنرال بريمون (
Bremond ) المعروف باختباره للعالم الإسلامي :
مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام لا يمكن أن يكون مواليًا لمن هو غير مسلم ،
إذن فليس معقولاً أن نجعل أنفسنا في مقام حماته ، فإذا احترمناه وإذا أعطيناه جميع
الحريات الممكنة كان ذلك من جنس السياسة ؛ ولكن من الخطأ الكبير أن ننشر
الإسلام بين قبائل البربر ، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية ،
وأن تكون معاملتنا للمسلمين أحسن من معاملتنا لغيرهم : إن للعربية مزاياها وجمالها ؛
ولكنها كثيرة التعقيد فلا تصلح أن تكون أداة بسيطة واضحة سهلة التعليم للحياة
العصرية [7] .
إنه لمن خطل الرأي أن تكون نية بعض الكتاب والرجال السياسيين الحسنة قد
فاتت خبرتهم ، ذلك بأنهم كثيرًا ما يُظهرون أمام المسلمين أنهم يعتقدون تفوق
الإسلام ، فالمتعصبون من المسلمين أو أولئك الذين لا يزالون يعتقدون علوية دينهم
منهم - وأعني الأغلبية الساحقة - يغتنمون ما في مدحنا من مبالغة ويظنونه احترامًا
منا للحقيقة دُفعنا إليه بإرادة الله الذي يدفع الإنسان لإظهار خضوعه بارزًا ماثلاً أمام
ما يعتقدون هم أنه الدين الحقيقي .
إن خيلاء المسلمين الذي لا حد له ينبغي ألا يشجع على أن عقليتهم قابلة
للتطور ، وإذا كان المسلمون - حتى أحرار الفكر منهم أو من يزعمون ذلك - لا
يقبلون أن يمس اعتقادهم المحترم ككل اعتقاد مخلص ؛ فإن المسلمين المتنورين [8]
يزيد عددهم يومًا فيومًا ، والتعصب يضحمل أمام مصلحة حسن فهمها ، وبعض
الآيات القرآنية التي تعارض روح العصر معارضة عنيفة أو تُعارض العقل فقط [9]
تسقط بسهولة وسيزيد سقوطها كما دلت على ذلك السوابق .
ويجب أن نعترف بأن روح التسامح مع الديانات المخالفة كثيرًا ما تقع من
المسلم أو يتظاهر بها على الأقل .
فإذا كان احترام عقلية محكومينا الخاصة هو محور سياستنا ، فذلك لا يقتضي
المبالغة فيها أكثر مما يجب في الخضوع إلى المبدأ لأننا إذا فعلنا سنؤخر إلى ما لا
نهاية كل إصلاح ، وكل تقدم في كل مرفق من مرافق الحياة خوفًا من جرح
عواطف المسلمين ، وذلك لأن عندهم أوهامًا لا تتفق والتقدم .
إياك وأن تخوض في أمر الدين مع المسلمين ، فالرجل ذو التربية الحسنة
سيترك لك الكلام ويتحاشى جرح عاطفتك ، وفي كثير من الأحيان يكتفي بابتسامة
ويخرج بالحديث عن موضوعه ، وأما إذا كان الكلام مع رجل بسيط أو متعصب
فستتعرض لجواب قاسٍ منه .
إنك إذا تكلمت عن الإسلام لتمدحه أو لتذمه فإنك في الحالة الأولى تستفيد
الظنة والشك في إخلاصك ، وفي الحالة الثانية تلقي في القلوب حقدًا كبيرًا ، وكذلك
مدح المادية أو الإلحاد أو ذم الديانة المسيحية ضلال محض ، وكثيرًا ما يقف بعض
الأشخاص هذا الموقف ، فهم يريدون إظهار اختيارهم للإسلام ؛ ولكن في الحقيقة هم
إنما يستسلمون لدافع فيهم إلى إظهار عدائهم للدين المسيحي أولأي حركة لرجال
الكنيسة .
المسلم تشمئز نفسه من عدم الدين ، وإذا كان من المتنورين ؛ فإنه يرى أن
محاربة الأوربي لعقيدته وهدمه بهذا العمل للركن الأصيل في مدنيته الخاصة غير
معقول .
وعند كلام فيو
Veuillot عن أولئك السياسيين الذين يجتهدون في إخفاء
البقية الباقية لنا من الدين بحجة عدم إيقاظ التعصب الإسلامي قد اتهمهم بأنهم
يرتكبون أعظم خطيئة وسوس لهم بها الشيطان ، فلا شيء يكرهه التعصب
الإسلامي كشعب بلا اعتقاد ولا إله [10]
وبهذه المناسبة نقول بأنه لا بأس بتبديد بعض الأوهام وبعض الجهالات
المتمكنة من الأهالي ( أي المسلمين ) فمثلاً نجد كثيرًا منهم لا يزالون يعتقدون أنه
ليس من عقائد المسيحية خلود الروح وإثبات الحياة الأخرى ، ويتخيلون أيضًا بأن
الصور والتماثيل التي تزين الكنائس يعبدها المسيحيون عبادة وثنية ، مع أنهم إنما
يحترمونها كرمز لإيمانهم أو لمحبتهم ، كما يحترم العلم الوطني رمز الوطن وكما
يقبل الإنسان صورة شخص عزيز عليه [11] .
( 3 ) عقيدة التثليث
إن لعقيدة التثليث في قلوب المسلمين عداوة شديدة جديرة بالاهتمام بما لها من
النتائج المهمة في التفريق بيننا وبينهم ، والفكرة التي يتصورونها من هذا الاعتقاد
تضرنا كثيرًا حتى عند من يتجملون منهم بإظهار حرية الفكر ، مع أن التثليث كما
يقول علماء الكلام عندنا ليس إلا مظهرًا من مظاهر الوحدة الإلهية خضع أمامها
أكثر العقول تكبرًا ودعوى ، وهذا علامة على ما يسمونه بساطة التفكير
( وبالألمانية
Keit .Eiseitig Die ) في الشعوب السامية .
فهم لا يفهمون أو على الأقل أغلبيتهم بأن كلمات ( أب ) ( ابن ) لا تطلقها
المسيحية بكيفية مادية ولكن روحية محضة ، ويجب أن نقف عند هذا الحد في كل
مناظرة في هذا الموضوع [12] .
قال مسلم صديق في كلامه - وقد كنت بينت له ما تقدم - إن هذا الإيضاح
كشف له سرًّا ، وإن هذا الإيضاح يمكن أن يبدد ما يعتقده المسلمون ضد المسيحية ،
وبذلك تضعف كراهتهم للأجانب .
( 4 ) ( الاتفاق في مسألة الاعتقاد )
يعتقد المسلمون أن كل من لا يشاركهم في الاعتقاد سَيَخْلُدُ في العذاب ، قال
بوتجان و أحمد ضيف في كتابهما المسمى ( منصور ) : والتقينا في الإسكندرية
بصبيان أوربيين ، وهم في جمالهم كالملائكة ، فقلت إن هؤلاء الصبيان سيكونون
خدمًا لنا في الجنة ، وفكرت في الكفار الذين سيذهبون إلى جهنم ، وكلما نضجت
جلودهم بدَّلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب . إذًا فقد حان الوقت لنبين لهم إلى
أي حد بلغ تسامح المسيحية واتساع صدرها مع الديانات الأخرى .
ونحن نقتبس هنا كلامًا في القضاء والقدر ورد في نشرة البابا بيوس التاسع
بتاريخ 10 أغسطس سنة 1863 : إن أولئك الذين يتحملون جهالة مظلمة عن ديننا
المقدس يتبعون بكل خضوع القوانين الطبيعية التي وضعها الله في قلوب الجميع ،
وهم مستعدون للخضوع لله واتباع حياة شريفة قويمة ؛ لذلك يمكنهم أن يحصلوا
على الحياة الخالدة بواسطة النور الأبيض والرحمة الإلهية ( التي يجهلونها لأن الله
الذي لا حد لرحمته لا يتحمل أن يخلِّد عبدًا في النار إذا لم يكن مسئولاً عن ذنب
اختياري ) [13] .
وقد كتب أغريفوريوس السابع وهو أحد كبراء البابوات في القرون الوسطى
إلى أحد أمراء المسلمين . نحن أقرب الناس إليكم لأن الإله الذي تعبدونه نعبده نحن
أيضًا [14] .
إن الاحترام العميق الذي تكنه قلوب المسلمين لاسم الله يذكِّرنا بإيمان القديسين
المسيحيين القوي ، وقد شاهدت ذلك وأثَّر في نفسي .
من جهتهم ليسوا كلهم متفقين على كراهتنا كراهة بالغة ، فهم يعلمون أن الله
سيحكم يوم القيامة فيما فرق بين الناس في هذه الدنيا وخصوصًا الديانات المختلفة .
على أنه إذا كان هناك بيننا وبين المسلمين خلاف في الاعتقاد الأساسي فهناك
نقط نتفق عليها ويجب أن نتشبث بما يوحد لا بما يفرق .
قال الدكتور أنريكو أنسباطو الإيطالي : إن الشرقي في وقت مجده رجل على
الفطرة ، فعدم الفهم يبعده ويملؤه حذرًا ، وهو كثير الحذر مما لا يفهمه ، والمسلم
الذي يتأمل في الأزل واللانهاية ( الأبد ) لا يمكنه أن يكون عدوًّا للمسيحي الذي
يعمل بمثل أعلى في العدل والحرية ، وإنما يجب على أوربة المسيحية أن تنير
العالم الإسلامي ، وأن تتعلم كيف تعطيه النور .
وإذا أبعدنا من الطرفين الآراء المتطرفة للمتعصبين أو المتشددين الذين لا
يقبلون أي تنازل ، فيمكن القول بأن الاتفاق على محايدة دينية يمكن الوصول إليه
بسهولة نسبية .
ومن الواضح أن التعصب لا يخشى من جهتنا [15] ، إن التحامل الوراثي في
الأهليّ علينا لا يزال قويًّا ، وإن كان هناك بعض الشواذ ، وإذا كان الأهلي لم يصل
بعد إلى محبتنا ( وأنا لا أستثني الأهلي الذي أسبغ عليه فضلنا وأخذ ثقافتنا ويتمتع
بمدنيتنا ) فالسبب الأصلي في ذلك راجع إلى الشقة التي حفرها الإسلام بين أهله
وبين الخارجين عن عقيدته [16] .
قال رونيه بازان : هل الأهالي أقرب ( أي المسلمون ) منا الآن بفكرهم من
أول الاحتلال الجزائري ، وهم صاروا يستعملون عن طيب خاطر كثيرًا من
الخيرات التي أتت بها مدنيتنا ؟ فهل قبلوا هذه المدنية ؟ وهل يمكن أن نقول بأنهم
يعتبرون أنفسهم رعايا مخلصين لفرنسا إلى الأبد ؟ يكفي أن نعرف شيئًا من تاريخ
الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة ، لا تاريخ النواحي التي ضُمت إلينا قريبًا ؛ ولكن
تاريخ المقاطعات الثلاث القديمة - الجزائر ووهران وقسنطينة - ليكون الجواب : لا ،
بل يكفي أقل من ذلك مجرد فسحة مدة ساعة في وسط الجماهير الإسلامية ، ومعرفة
قراءة ما في عيونهم ، لا شك أنه في مدة الحرب الكبرى جاءت الألوف من رعايا
فرنسا من عرب وبربر ليحاربوا مع جنودنا جنبًا لجنب ، وكثير منهم ماتوا لسلامتنا ،
وهذا برهان على الإخلاص لا ينسى أبدًا ؛ ولكن كثيرًا من الشعوب والقبائل منذ
كان العالم حاربت لا ليدافعوا عن قضية لهم ؛ ولكن ليرضوا شجاعتهم ومصلحتهم
وكبرياءهم ، فمن الخطأ ومن الخطر أن نعتقد بأنه منذ سنة 1914 اندمج فينا مسلمو
أفريقية أو تقربوا منا أو بيننا وبينهم تفاهم واعتبار ومودة وتلك هي الصلات
المتينة [17] .
والخطأ راجع إلى الرجال ( المختلفين في الأصل والمواهب ، المتشابهين في
الوهم والحكم الباطل ) الذين تولوا الأعمال الأفريقية في القرن السابق وفي أول هذا
القرن ؛ فإنهم لم يفهموا أن مدنيتنا مسيحية قبل كل شيء .
ولكن لتكن لنا الثقة بالمستقبل ، وفي أثناء الانتظار يجب ألا نضيع الفرص :
فرص التقرب ، ولا شيء أثمن منها في الوقت الحاضر بعد التأثير الأدبي الناتج
عن اشتراك المصالح ، وكلما نمت العلائق الفردية اضمحلت الأوهام وزاد الرخاء
المادي ، وتكونت أجيال مستعدة للتفاهم ، وراغبة في العيشة المشتركة .
والنظر إلى قوتنا المادية والعسكرية والاختراعات العصرية سواء الجدية أو
الهزلية يستهوي خيالهم ، وإن لم يُظهروا الإعجاب بها ، ووسائل الراحة التي
يوجدها التقدم وخصوصًا نظرهم إلى اتحادنا وتكاتفنا ، كل هذا يمكن أن يقرِّب بين
الجنسين [18] .
( 5 ) التأثير الأدبي
إن على الأوروبيين الذين يعيشون بالقرب من المسلمين أن يشغلوا وظيفة
المربي ، إن خير خدمة يؤدونها لهم إعطاؤهم طرقًا للعمل والتعمير ، ومُثُلاً للصبر
والمثابرة والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل ، وخير القدوة التي يمثلونها لهم هي
الحياة الشريفة التي لا عيب فيها ، والفضائل العائلية ، والاستقامة التامة والوفاء
بالعهد ، والشرف في المعاملات ، والصدق في كل المناسبات ، تلك كلها خصال
يحتاجها مسلمونا أشد الاحتياج ، فينبغي أن تنتمي فيهم وتقوى .
ونزيد على تلك الأخلاق المثال العالي للأخلاق الإنجيلية ، وتجدها ممثلة في
جماعات التبشير في أفريقية الشمالية ( ! ! )
وينبغي لنا نحن الإفرنسيين أن لا نشارك في هذا المدح جماعات التبشير
الأجنبية ؛ لأنها في كثير من الأحيان تعمل لغرض سياسي لخير دولتها أكثر مما
تعمل لغرض ديني [19] .
وأكون ملومًا إذا أنا لم أشارك جميع الرجال المنصفين الذين يُظهرون إعجابهم
بالآباء البيض والأخوات البيض التابعين للكردينال لفيجري لما قاموا به من الأعمال ،
وقد شاهدت ذلك مدة توظيفي الطويل في الجزائر وتونس ، فتبشيرهم ينحصر في
إعطاء المثل بواسطة الإحسان والانقطاع الكلي لمساعدة أصحاب العاهات الأخلاقية
والمادية من الأهالي ، وبواسطة مدارسهم يعملون على رفع مستوى المسلمين
الفكري المنحط ، وتحسين حالة معيشتهم .
ومنذ احتلال المغرب الأقصى ما انفك الآباء الفرنسيسكان والأخوات يقتدون
بهم بانقطاع وإخلاص يستحقان الشكر من فرنسة كما يستحقانه من الكنيسة ، وإن
في المثل الشريف الذي يضربونه ما يشرف بلادنا أعانهم الله .
وفي الختام يجب بواسطة حكومة حازمة عادلة محسنة أن نقطع الطريق على
أخطار الشيوعية والاشتراكية الثورية التي تجد مذاهبها عند سكان أفريقية الشمالية
أهل الفكر الخفيف المعادي لسلطننا غالبًا أرضًا خصبة [20] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عبد السلام بلافريج
تعليق المنار على جملة الكتاب
وخطاب إسلامي حر إلى العقل الفرنسي الحر- إن أمكن أن يبلغه الخطاب
قد اطلعنا على كتب كثيرة لكتاب فرنسة المختلفي الأفكار والآراء في بيان
حال مسلمي مستعمراتها الأفريقية ( ما يريدون جعله منها كسورية ) وما ينبغي أن
يعاملوا به ، وقد رأينا كل كاتب يتَّبع هواه ، ويغني على ليلاه ، دون ليلى حكومة
فرنسا الجمهورية الحرة ، ويبغي مصلحة نحلته أو فرقته دون مصلحتها ،
فالكاثوليكي المتعصب يرمي في كل ما يكتبه إلى إقناع الحكومة بمقاومة دين الإسلام
نفسه ، ومحاولة إفساده على الأهالي بحجة أن المسلمين لا يمكن أن يخلصوا لفرنسا
ويحبوها ، ويؤمَن انتفاضهم عليها ما داموا مسلمين ، ومن هؤلاء جول سيكار مؤلف
هذا الكتاب ، ومن يؤيد كلامه بالنقل عنهم من قسوس الجمعيات الدينية ومبشريها .
والمالي المفتون يحصر همه في إقناع هذه الحكومة بسلب ثروة المسلمين
بالوسائل النظامية - كما تفعل الآن في المغرب الأقصى من انتزاع ملكية الفلاحين
والقبائل لأرضهم - والحيلولة بينهم وبين العلم العصري بحجة أنه لا يمكن أن يدوم
خضوعهم لها إلا بالفقر والجهل .
والعسكري الذي لا يرى وسيلة لترقيته ونيله المكافآت المالية والرتب العسكرية
إلا بوجود العداوة بينهم وبين فرنسة ، فهو يحاول إقناعها دائمًا برسوخ هذه العداوة
ويتمنى دائمًا حدوث الثورات والفتن التي يظهر فيها الحاجة إلى الجند واقتناع
الحكومة بأنها مدينة لهم .
لقد انسلخ على استيلاء فرنسة على الجزائر قرن كامل ، ولا يزال هؤلاء
الكتاب يقولون لها إن المسلمين لم يزدادوا في هذا القرن بطوله إلا بغضاء لها ،
ويلفقون الأدلة الخطابية والمغالطات الجدلية لإقناعها بمعالجة هذا الداء ، والذي جزم
به موسيو جول سيكار أن العلاج محصور في مداراة المسلمين في الظاهر وإفساد
دينهم عليهم بالإلحاد المادي العصري توسلاً بذلك إلى تنصيرهم الذي هو العلاج
الأخير الممكن عنده ، ويصح أن يقال في كل هؤلاء الكتاب ما قاله معروف أفندي
الرصافي الشاعر العراقي الشهير في وزراء الدولة العثمانية الثلاثة الذين تولوا
منصب الصدارة العظمى عقب إعلان الدستور :
مضى(كامل) من قبل (حلمي) وإن جرى ... كما جريا (حقي) فمثلهما حقي
إن لم يبصروا للحق غير طريقهم فإن طريق العدل هو أوضح الطرق
سبحان الله ! أَيُستذل شعب ويهان وتسلب ثروته وأوقافه ، ويُفَضَّل غيره عليه
في بلاده بل يؤمر بترك دينه ويحال بينه وبين العلم والنور ولا يكتفي منه مع هذا
كله بالطاعة بل يؤمر فوقها بالشكر والمحبة .
ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
إن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات في فرنسة يحيط بهما نفوذ الجمعيات
الدينية ورجال المال ورجال العسكرية : ثلاثة أسوار تمنع من وصول أي رأي حر
يخالفها ، ولو وجد في فرنسة زعيم حر واسع الفكر ، كبير الهمة قوي الإرادة
كالسنيور موسوليني في إيطالية - لأمكنه حين يضع مصلحة الدولة والأمة فوق كل
مصلحة مع عدم التصعب الديني أن يعرف الطريقة المثلى لإرضاء مسلمي أفريقية
في ممالكهم الثلاثة ، وما به تعمر بلادهم ويرتقي مجموعهم ، وتستفيد فرنسة من
ثروتهم وقوتهم أضعاف ما تستفيده الآن من غير أن تخسر هذه الملايين التي تنفقها
لتوطيد الأمن وقمع الثورات ، وإيقاع الرعب والإرهاب في القلوب لحفظ الهيبة .
ولو شاء مثل هذا الرجل أو غيره من كبار الرجال أن يستشير في هذه المسألة
كبار أهل الرأي من مسلمي هذه البلاد وغيرها ، لأمكنه أن يعرف من مصلحة
فرنسا ما لا يمكن أن يعرفه من هؤلاء الكتاب الافرنسيين وأمثالهم من المسلمين
كالسي قدور بن غبرايط مثلاً ، ولو وُجد هذا الرجل لاقترحنا عليه أن يعقد مؤتمرًا
للنظر في هذه المسألة تحت رياسة رجل فرنسي حكيم حر كالدكتور غوستاف لوبون
يدعو إليه من يشاء من الرجال المستقلين منهم ومنا ، ولكن لا سبيل لنا والحالة في
فرنسة كما نعلم أن نبلغ أولي الأمر فيها ما نجزم بأنه خير لفرنسا مما هي عليه في
سياسة المغرب وسياسة سورية .
إنني كنت عرضت على موسيو روبير دوكيه أشد غلاتهم في هضم حقوق
سورية ما أراه خيرًا لها في سياستها وتجارتها ونفوذها الأدبي مما تجري عليه في
ذلك ، فقال إن هذا أمر معقول غير خيالي وقابل للتنفيذ إن وجد منا ومنكم من يقوم
بتنفيذه ، وإنني إلى الآن أضمن وجود من يقوم بتنفيذه منا إذا رضيت فرنسة به ،
ومن ذا الذي يستطيع إيصاله إليها وإقناعها به وموسيو روبير دوكيه لم يفعل ذلك ؟
إذن يجب أن تنظر فرنسة ما يفعل الزمان في أطواره في سورية والمغرب
والزمان أبو العجائب .
__________
(1) المنار : ملخص هذه النظرية في إمكان تنصير المسلمين بعد أن ثبت بالتجارب الطويلة أنهم لا يقبلون دينًا يخالف القرآن ، هي السعي لإيقاعهم في الكفر والتعطيل بالتعاليم العصرية ، وبما أن الدين المطلق من الحاجات الفطرية اللاصقة بالإنسان وجدانًا وعقلاً ، وبما أن فقده يوقعه في ضروب من الحيرة والشكوك المظلمة ، ويهوي به في مهاوي المذاهب الضارة كالبلشفية أو السلبية كاللاأدرية - فإذا وقع المسلم في هذه المضايق المظلمة بعد فقده للإسلام وجهله لتعاليم القرآن الهادية المعقولة يسهل عليه أن يقبل الديانة النصرانية باستغوائه بمزاياها الصورية والمدنية الملزوزة بها لزًّا قهريًّا التي سماها الكاتب تفوقًا ، فملخص النظرية أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا ما دام يعرف هداية القرآن أو شيئًا منها ، وهذا حق سببه أن صاحب الحق الجلي الموافق للعقل والفطرة لا يمكنه أن يتركه بإيثار الباطل غير المعقول عليه .
(2) يعني أن النصارى الذين يراد أن يستهووا المسلمين للدخول في جماعتهم ليسوا نصارى إلا
بالاسم ، ومنهم من يتبرأ من هذا الدين (وفاقد الشيء لا يعطيه) فكيف يمكن أن يُنصِّروا المسلمين .
(3) المنار : إننا نحن علماء الإسلام ودعاته نعتقد اعتقادًا جازمًا أن فساد العقائد المسيحية والأخلاق والفوضى المادية والفلسفية لا علاج لها في أوروبا و أمريكة إلا الإسلام الصحيح : إسلام القرآن والسنة التي كان عليها مسلمو العصر الأول ؛ لأنه هو الدين الوحيد المعقول الذي لا ينقضه العقل والعلم ولا تعارضه قواعد العمران .
(4) (الأهلي) لقب المسلم الوطني في أفريقية الفرنسية ، وهو عنوان الاحتقار عند الفرنسيين الواضعين له .
(5) المنار : لماذا لا يوجد هذا الاحترام عند نصارى الدولة العثمانية الذين ثاروا عليها في كل قطر كثروا فيه ؟ .
(6) المنار : قوله إن المسلم الصائم يستاء من تدخين جليسه صحيح ؛ ولكن تعليله إياه غير صحيح .
(7) هذا كلام كله رياء ، فالجنرال يعلم أن البربر مسلمون ، وأنه ليس لهم لغة علم ودين غير العربية، وأن فرنسة تجتهد في الحيلولة بينهم وبين الإسلام ولغته لأجل تنصيرهم ، والمسلمون لا يطلبون منها إلا أن تدع لهم ولغيرهم حريتهم في دينهم ولغتهم ، فلا تجبرهم على شيء .
(8) يعني بالمتنورين : المتفرنجين من الملاحدة ومرضى القلوب .
(9) ليس في القرآن شيء يعارض حكم العقل الصحيح القطعي ، وطالما تحدينا العالم المدني بهذا في المنار ، وصرَّحنا بأننا مستعدون للرد على كل شبهة عليه ، وأما معارضته لروح العصر في خاصة بما فشا في هذا العصر من مفاسد الأفكار المادية والاجتماعية كالشيوعية ، ومفاسد الإسراف في الشهوات فقط ، وأما المسيحية الحقيقية فلا تتفق مع روح العصر مطلقًا ؛ لأن ما فيها من الغلو في الزهد وغيره كان شريعة مؤقتة إلى أن يأتي روح الحق محمد صلى الله عليه وسلم .
(10) المنار : هذا مكر ديني سياسي من الكاتب بأحرار قومه ، يريد به أن لا يُظهروا عدم تدينهم بالنصرانية أمام المسلمين .
(11) هذا تأويل لا يقبله المسلم الذي يفهم حقيقة التوحيد ، فإذا كان مع هذا يعرف دينهم ؛ فإنه يرى فيه نصوصًا صريحة في عبادتها ولا سيما السيدة مريم التي يسمونها والدة الإله ، وإلا فما معنى وضعها في المعابد .
(12) المنار : إن التوحيد الخالص عند المسلمين يقتضي اعتقاد بطلان الشرك بجميع أنواعه ، ومنها التثليث وتعظيم الصور والتماثيل واتخاذها كما هو صريح وصايا التوراة التي هي أساس عقيدة الأنبياء كإبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام ، وإذا سُمي اعتقاد البطلان عداوة ، فالنصارى يعادون كل ما في الإسلام من العقائد الصحيحة وأولها التوحيد الخالص ، ومن الغباوة أن يظن الكاتب أنه بهذه الكلمة المبهمة المجملة التي قالها في تقريب التثليث يخدع أحدًا من المسلمين : أما عوامهم فيكتفون في إبطاله بقول النصارى إن الثلاثة واحد ، وأما خواصهم فيعلمون أن هذه العقيدة بتفصيلها من عقائد قدماء الوثنيين ، وقد ألف بعض المتأخرين منهم كتابًا سماه (العقائد الوثنية في الديانة المسيحية) ذكر فيها النصوص الصريحة من كتب البوذيين وغيرهم في هذه العقيدة ، فلم تستطع مجلة المشرق الجزويتية أن ترد عليه بالاعتراف بأن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى عقيدة الثالوث ، وقولها إن ذلك ثالوث نجس ، وإن ثالوث النصارى مقدس ! ! ! وإننا نعلم بالاختبار من أحرار النصارى أن علماء اللاهوت المستقلين أنفسهم لا يؤمنون بهذا التثليث ؛ ولكنهم لو بينوا الحقيقة للشعب ، ومنها أنه عقيدة وثنية أدخلها الرومانيون في العقيدة لبطلت ثفته بالدين كله ، وتعذر إقناعه بالفضائل الدينية ، فليفهم هذا صديق الكاتب الذي زعم أنه أعجبه ذلك الإبهام الذي سماه إيضاحًا .
(13) إن هذا البابا وجميع البابوات يعتقدون أن كل من ليس بكاثوليكي فهو كافر خالد في جهنم وإن كان مسيحيًّا ، وإن كلمته في رحمة الله تعالى لا تدنو ولا تقرب في تعظيم شأنها من قوله تعالى في كتابه القرآن : [ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ] (الأعراف : 156) وهو قد قيَّد عدم الخلود في النار بمن لم يكن مسئولاً عن ذنب اختياري ، ويدخل في هذا القيد ما كان من الذنوب دون الكفر بالله وكتبه ورسله ، ورحمة الله أجلّ من ذلك وأوسع .
(14) هذه كلمة تودد واستمالة لذلك الأمير المسلم هو غني عنها بقوله الله تعالى في القرآن :
[ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ] (المائدة : 82) وبإباحته تعالى للتزوج منهم مع قوله في الأزواج [ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ] (الروم : 21) مع العلم بأنهم لا يعبدون الله الذي نعبده كما نعبده ؛ فإننا نعبده وحده وهم يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من القديسين ، وقد أمرنا تعالى بأن ندعوهم إلى الإسلام بقوله : [ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ] (آل عمران : 64) .
(15) إذا كان مثل هذا الكتاب الباحث عن وسائل الاتفاق محشوًّا بالتعصب فماذا يقال في غيره ؟ .
(16) كل دين من الأديان يحفر شُقة خلاف بين أهله والمخالفين لهم ، وفي الإنجيل نص صريح بأن المسيح جاء ليفرق بين المرء وأبيه وأمه وإخوته ؛ ولكن الشُّقة التي حفرتها معاملة فرنسة للمسلمين في دينهم ودنياهم هي أوسع وأعمق مما تقتضيه العقيدة في الشريعة الإسلامية السمحة التي تأمر بالعدل والبر والإحسان للمخالف غير المحارب للمسلمين ، وتحرِّم ظلمه ، وكذا خيانته وإن كان حربيًّا.
(17) لعله لا يوجد في البشر من الأثرة والغلو في استعباد البشر أطغى ولا أبعد عن الحق والعدل ممن يغمط قومًا بذلوا دماءهم في الدفاع عن المضطهدين لهم في دينهم ، السالبين لثروتهم وأوقافهم ويعدهم مقصرين وغير مخلصين في خدمتهم لاحتمال تلذذهم بشجاعتهم وإعجابهم بها ، فهو يطلب من مسلمي أفريقية أن يكونوا مخلصين في بذل دمائهم في الدفاع عن فرنسة كإخلاصهم في عبادة الله تعالى ، بل يوجب عليهم أن يكونوا لها أشد إخلاصًا لأنهم يرجون من الله الثواب ، ولا يجوز لهم أن يطلبوا من فرنسة ثوابًا ، ولا رفع شيء من الظلم والعقاب ! ! .
(18) لعله يعني أنه يلجئهم للتنصر .
(19) المنار : لعل المؤلف نسي دعواه من أن كل ما ارتآه ووصى به فإنما غرضه منه خير دولته فرنسا ومصلحتها .
(20) إن أقرب الأسباب لقبول المسلم لهذه المذاهب ما اقترحه المؤلف في أول الفصل من إفساد دينه عليه .
(30/211
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الآخرة - 1348هـ
ديسمبر - 1929م
ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
( 2 )

حقيقة حال الإنكليز
قد بيَّنا في الفصل الأول من هذا المقال حقيقة حال اليهود : ما يعدُّ لهم وما يعد
عليهم ، ومنه ما هو خفي عن أكثر الناس .
وأما الإنكليز فأمرهم مشهور عند قراء الصحف وغيرهم لكثرة خوضها في
سياستهم وأعمالهم ، ونقلها مناقشات برلمانهم فيها ، ونقل أقوال صحفهم وصحف
الأمم الأخرى في نقدها مدحًا وذمًّا ، وإنما تخفى على الكثير منهم أخلاقهم وصفاتهم
العامة ، وما طرأ عليها من تغير ، فنذكر ما يعنينا من ذلك .
كان القوم مشهورين بالصدق والعدل والحزم والتدبير ومراعاة حرية الناس في
أديانهم وآرائهم ، وبالوفاء بالوعود والعهود في معاملاتهم الشخصية والدولية ، كما
اشتهروا بالدسائس والحيل والكيد والمكر ، والعجب والكبر ، والرياء والإفك
[*] ،
ولم يكن كل ما يقال في الشهرتين حقًّا ولا كله باطلاً ؛ وإنما مرجع أكثر ما يوصفون
به من فضيلة إلى أخلاق الأفراد ومزايا الشعب يفيض شعاعه على الحكومة ، كما أن
مردَّ أكثر ما يوصفون به من رذيلة إلى الحكومة ، وقد يثور غباره في وجوه الشعب ،
وما كانت تمدح به حكومتهم وحدها ، فمنه ما هو حق إلا أنه نسبي لا تام في الغالب ،
ومنه ما هو من تأثير الدعاية ( البوربغنده ) التي لم يتقنها أحد كإتقانهم ، ولا تنفق في
سبيلها دولة كإنفاقهم ، وأعني بالنسبي أمرين ( أحدهما ) ما يكون من المقايسة بين
الإنكليز وغيرهم من المستعمرين ولا شك أنهم أمثل وأعقل وأنبل ( وثانيهما ) ما
يكون من التوازن بينهم وبين الحكومات الوطنية للبلاد التي يتولون أمرها بالأسماء
المختلفة أو المختلَقَة التي يضعونها لها كغيرهم ( كالحماية والاحتلال والإجارة
والانتداب ) وما غُلب أولو سلطان وإمارة على حكمهم وانتُزعت منهم بلادهم ، إلا
بظلمهم وإسرافهم في أمرهم ، فهؤلاء القوم يتحرون أن يكونوا أقل منهم ظلمًا ، وأمثل
حكمًا ، ولو لم يفعلوا إلا النظام في الظلم ، والمساواة بين كبير الناس وصغيرهم في
الحكم ، لكفى ذلك مروِّجًا للدعاية لهم ، والتنويه بفضلهم على غيرهم ، على أنهم لا
يساوون أنفسهم بغيرهم من أهل هذه البلاد ، ولا يتنزهون عن محاباة صنائعهم
وأعوانهم على تمكين نفوذهم فيها ، ولا يتقون ظلم أي زعيم وإذلال أي عزيز يطالب
باستقلالها ، أو يأنسون منه خطرًا على حكمهم ، أو اشمئزازًا من ظلمهم .
وللإنكليز مزية أخرى على غيرهم من المستعمرين ، ولا سيما اللاتين وهي -
كما قال لنا الدكتور يعقوب صروف من دعاتهم وسماسرة سياستهم - أنهم يسمحون
لأهل البلاد التي يسوسونها بشيء من ثروتها ومظاهر الحكم والجاه فيها يتمتعون به
في ظلهم ، من حيث يعترق الآخرون لحمها ، وينتقون المخ من عظمها ، ويستأثرون
بالكبير والصغير من الحكم والنفوذ فيها ، وقد قلدتهم دولة أخرى في نصب تماثيل
للحكم في بعض مستعمراتها من أهلها ؛ لكنها لم تدع لهم أدنى نصيب من مسمى
الأسماء التي تفضلت عليهم بها ، فكانت أضر على أهل بلادهم منها على أهل البلاد
التي لم تنصب فيها شيئًا من هذه التماثيل .
وأما فضيلة الإنكليز العليا فهي أنهم أدنى إلى مراعاة سنن الاجتماع ، ومسايرة
ما يتجدد فيه من الأطوار والأحوال ؛ ولكن بعد طول الروية والاختبار ، والتنازع
بين طرفي التفريط والإفراط ، كما يعلم من الفرق البيِّن بين إدارتهم في مصر
والسودان ، وفي الهند وزنجبار ، بسبب اختلاف حال كل من القطرين الزوجين
المتقابلين في العلم والجهل ، والقرب والبعد من قوة الرأي العام ، وكما ظهر أخيرًا
من التفاوت في تصرفهم وسياستهم في القطرين العربيين المتجاورين ، فلسطين
وشرق الأردن من جهة والعراق من جهة أخرى بسبب التفاوت بين حاليهما في القوة
والضعف ، ففي العراق مئات من الألوف الشاكي السلاح ، وألوف كثيرة من
الضباط العلماء بفنون القتال ، وقد أضرموا نار ثورة قُتل فيها عشرات الألوف من
الرجال ، وأُنفق فيها الملايين من المال ، ومن ورائهم زعماء سياسيون يعرفون
كيف يطالبون بالحرية والاستقلال ، وقد قربوا منهما ، ولن يرضوا بما دونهما .
فأما أهل شرق الأردن فقد سيموا من الخسف والاستعباد ، ما لا نظير له في
بلد من البلاد ، إذ باعهم أميرهم لملك الإنكليز بيعًا سياسيًّا بعقد معاهدة لا يطيق ذلها
أحد ، ولا يقيم على خسفها إلا عير الحي والوتد ، فاكتفى أذكاهم فهمًا وأقواهم عزمًا
باسترحام الأمير لتعديل بعض مواد العقد ، وتخفيف وطأة ما فيه من أحكام الرق ، وهم
قادرون الآن على تمزيق ذلك الصك ، ونبذ ما انتحله عاقده من حق المُلك ، وهي قدرة
لا تدوم لهم ، إذا طال أمد هذا الحكم عليهم .
وأما أهل فلسطين ، فقد انحصر همهم في مقاومة الوطن القومي للصهيونيين ،
ومطالبة الإنكليز بنظام حكم نيابي يساوي بينهم وبين غرباء اليهود المعتدين ، ونرى
الإنكليز لا يسمعون لهم شكوى ، ولا ينصفونهم في دعوى ، بل يحابون اليهود
وينصرونهم عليهم ، ويمهدون لهم انتزاع رقبة أرضهم من أيديهم ، والاستيلاء على
مرافقها ومنافعها ، والاستئثار معهم بمصالح حكومتها ، وغرضهم الباطن من ذلك
تفريق الوحدة العربية في قلب بلادها ، وإيجاد أعداء للعرب من غير الإنكليز
يشغلونهم بهم عن عداوتهم ، ويعلِّقون أمل الفريقين ببقاء حكمهم عليهم .
وأما سببه الظاهر فهو أن اليهود أقوى من العرب أهل البلاد مالاً واتحادًا
ونفوذًا ماديًّا ومعنويًّا في إنكلترة وسائر أوربة وفي الولايات المتحدة الأمريكية
وغيرها ، لا الوفاء بما يسمى ( وعد بلفور ) والإبرام لعهده ، فكم من وعد أخلفوه ،
وكم من عهد نكثوه ؟ كوعودهم لمصر ومعاهدة السودان معها ، ولقد وعدوا العرب بما
عاهدوا عليه الملك حسينًا من قبل أن يَعِدوا اليهود ، وكان وعدهم له باستقلال جميع
البلاد العربية بحدودها الطبيعية الشاملة لجزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية
ومنها كليكية صريحًا جليًّا مع استثناء لعدن وتحفظ في سواحل سورية الشمالية
( لبنان ) والبصرة ، وأن للعرب لقوة في بلادهم أعظم من قوة اليهود ؛ ولكنهم كانوا
يجهلون قدرها وإقامة البرهان المقنع للإنكليز عليها ، وهي قوة الوحدة فيما لهم من
الكثرة ، وسنبين قيمتها في الفصل الثالث من هذا المقال .
فالإنكليز كغيرهم من أهل أوربة لا يعرفون حقًّا إلا للقوي ، ولا يفون بوعد
ولا عهد إلا للقوي ، ولا يعدلون في حكم إلا مع المتساوين في القوة أو الضعف ،
فإن تنازع الأقوياء مع الضعفاء كانوا مع الأولين على الآخرين ، بل أقول : إنهم لا
يحترمون ولا يخافون ولا يرجون إلا القوة ، ولا يستحيون من وصف الشرقيين
عامة والعرب خاصة بهذه الصفة ، ولعمري إنها عامة في البشر ؛ ولكنها في
الغربيين أقوى وأظهر ، وأعم وأشمل ، لاستحواذ الأفكار المادية عليهم ، وانحلال
عرى الملكات الأدبية من قلوبهم ، حتى إن أحد كتاب فرنسة طعن في الجيوش
المغربية الإسلامية التي استبسلت في الدفاع عن وطنه وقومه بأن الدافع لهم إلى ذلك
حب الشهرة بالشجاعة والنجدة ، لا الإخلاص لدولته في الطاعة والمحبة ،
فالأوربيون يحتقرون الشرقيين ويسخرون منهم ، كلما رأوا أثرًا من آثار السلطة
الأدبية في أعمالهم .
ولقد شهد فيلسوف الإنكليز ومفخرهم ، بل شيخ فلاسفة أوربة كلها في علوم
الأخلاق والاجتماع بأن الأفكار المادية التي ظهرت أولاً في الشعب اللاتيني فأفسدت
أخلاقه قد دب دبيبها إلى الشعب الإنكليزي ، فطفقت تفتك بأخلاقه ، فهي تعدو في
سيرها فيه المرطى ، وتنهزم من طريقها الفضيلة فترجع القهقرى ، حرب ساحقة
ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم ، وقد وقعت هذه الحرب من بعده ، وكان فتكها
بأخلاق الشعوب وفضائلها ، أضعاف فتكها بجحافل جيوشها وفصائلها ، وصياصيها
ومعاقلها ، وأساطيلها الحربية والتجارية ، بل سرت عدوى هذا الفساد إلى جميع
الأمم في سائر البلاد .
كان لكل من إنكلترة وفرنسة اسم سمي ومقام علي في العالم بما نبغ في
بلادهما من العلماء والأدباء والشعراء والمخترعين والفنيين ، وبما كانتا تبثان من
الدعاية لأنفسهما في برقيات شركاتهما وصحفهما وكتبهما ، وألسنة من يتربى ويتعلم
في مدارسهما ، وكذا ألسنة من يستميلون ويصطنعون في البلاد المختلفة وأقلامهم ،
وقد كان من الإفراط والغلو في هذه الدعاية في مدة الحرب على طولها ما أعقب رد
الفعل على مدى أطول وسوء تأثير أعرض وأعمق .
كانوا يذيعون في كل يوم أن الدولة الألمانية دولة عسكرية قاسية القلب ، فظة
الطبع ، مسرفة في الطمع والجشع ، والضراوة بسفك الدماء ، والنهم بسلب الأموال ،
وأنها لا تبغي من هذه الحرب إلا استعباد البشر ، والاستبداد في حكم الأمم .
وأما هم فلا يبغون من قتالها إلا الدفاع عن أنفسهم وعن إخوانهم في الإنسانية ،
ووقايتهم من الخطر الذي يتهدد حريتهم ، واستقلال جميع الشعوب كبيرها
وصغيرها ، قويها وضعيفها ؛ لأن الحرية القومية كالحرية الشخصية حق طبيعي
عام للبشر ، فإن ظفروا كانت العاقبة سعادة جميع البشر ، وإن خسروا حاق الشقاء
بجميع البشر ! ! وقد كان القدح المعلى في تعميم هذه الدعاية للدولة البريطانية ،
وكان ممن خدع بها دولة الولايات المتحدة ، وكان أول مخدوع رئيس حكومتها
الدكتور ولسن ذو النزعة الدينية ، والعاطفة الإنسانية الأدبية ، فانبرى لمساعدتهم ؛
وإنما كان النصر الأخير لهم بمساعدته المادية ، وبما وضعه للصلح من القواعد
( الأربع عشرة ) السياسية الأدبية ، وكان أول من خُدع بهذه القواعد الاشتراكيون
والعمال من الألمان ومنهم بحارة الأسطول ، فأكرهوا دولتهم على طلب الصلح ،
حتى إذا ما قضي الأمر ، قلب الحلفاء للرئيس ولسن ودولته ولجميع البشر ظهر
المجن ، وظهر من طمعهم وقسوتهم وضراوتهم وجشعهم ونهمهم أضعاف ما كان من
قبل .
أخلفوا الوعود ، ونقضوا العهود ، وكان جزاء العرب من الانضواء إليهم ،
والخروج معهم على دولتهم العثمانية طلبًا لاستقلالهم ، أن عاملتهم إنكلترة وفرنسة
شرًّا مما عاملت به جميع أعدائها من استعباد واستبداد ، وسفك دماء وسلب أموال ،
حتى إنهم كانوا يدمرون القرية الآمنة المطمئنة من البلاد التي كانت تحارب دولتها
تحت رايتهم على من فيها من رجال ونساء وأطفال لتهمة واهية لم تقرن ببحث ولا
تحقيق ، وحتى إنهم سلبوا من مملكة الحجاز سكة الحديد الإسلامية التي جعلها
الشريف حسين تحت تصرفهم في الحرب ، وكان جيشه يدمر بديناميتهم جسورها
ويقلع حديدها في أرض الحجاز نفسها ، معتقدًا أنها تبنى بأموال الإنكليز بعد الحرب
وتكون له هي والبلاد المنشأة فيها ! ! فلا غرو أن يزول كل ما كان لهاتين الدولتين
من حرمة ومكانة أدبية في الشرق ، وأن يعتقد شعوبه أنهم شر البشر على البشر ،
وأنه لا حرية ولا حرمة ولا حياة للإنسانية إلا بنقض غزلهم ، ونكث فتلهم ، بل
بتقليص ظلهم الاستعماري من الوجود ، وهذا ما أفادت الحرب شعوب الشرق في
مقابلة ما خسروا بها .
كان سبب نجاح الإنكليز في الاستعمار الذي استولوا به على ما يقرب من
ربع البشر أنهم لم يكونوا يدخلون قطرًا إلا بدعوى قصد الخير له ولأهله : تارة
لإنقاذ الشعب من ظلم أمرائه وحكامه ، وتارة لحفظ عروش أولئك الأمراء من
الثورات والفتن والفوضى ، كما كان سبب نجاحهم في السياسة أنهم لم يكونوا
ينقضون عهدًا أو يتفصون من عقاله إلا بضرب من التأويل يظهرون فيه أنهم على
حق ، كما قال أعظم ساسة أوربة في القرن التاسع عشر البرنس بسمارك وزير
ألمانية ومؤسس وحدتها للسنيور كريسبي وزير إيطالية في حديث لهما في تسيير
سياسة أوربة : وماذا نفعل بإنكلترة ؟ قال كريسبي : نقيدها بمعاهدة ، قال بسمارك :
ولكن الإنكليز أبرع الناس في التفصي من عُقَل المعاهدات بالتأويل ... ونقول نحن :
إنهم إنما يحتاجون إلى التأويل مع الدول القوية ، وأما الشعوب الضعيفة كالعرب فلا
يحتاجون معهم إلى تأويل ، على أنهم سمُّوا استعباد البلاد العربية التي وعدوها
الاستقلال : انتدابًا يراد به المساعدة على النهوض بأعباء الاستقلال بعد زمن غير
طويل ! !
لكن هذا الظلم والاستبداد الذي ابتدعوه في فلسطين شيء غريب في تاريخهم
وتاريخ الاستعمار والاستعباد ، لم يخلق مثله في البلاد ، وهو لا يتفق في صورة من
الصور ولا معنى من المعاني التي وضع لها لفظ الانتداب .
هو خَلْق شعب جديد يُجتلب من أوشاب أوطان كثيرة في مشارق الأرض
ومغاربها إلى وطن شعب آخر لينزعه منه ويحل محله فيه ، وتمكينه من ذلك بالظلم
والمحاباة في هاتين السنتين ، ولا سيما أثناء الثورة الفلسطينية ما عجب منه
واستغربه جميع الناس في جميع أقطار الأرض .
فلئن كان هذا من غرائب ظلم الإنكليز ، فأغرب منه قدرة اليهود على
توريطهم فيه ، وإصرارهم عليه بعد ظهور فضيحتهم ، وهتك سريرتهم ، ولهذا
يخاف اليهود أن لا يدوم هذا الإصرار ، وأن يُكره الشعب الإنكليزي حكومته على
إنصاف العرب والاعتراف بحقوقهم في يوم من الأيام ، وهذا ما جرَّأهم على محاولة
انتزاع هذا الوطن من العرب بالمناجزة ، دون ما ألفوه هم والإنكليز من نيل مآربهم
بالمطاولة ، فأوقدوا نار الثورة الحاضرة ، ظانين أنه يمكنهم إقناع الشعب البريطاني
وسائر شعوب المدنية من وضع تبعته على العرب بالدعاية الكاذبة ، فبدا لهم من الله
ما لم يكونوا يحتسبون ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، وظهر للشعب الإنكليزي
ولغيره ما لم يكونوا يعرفون ، وكانت هذه الفتنة نصرًا من الله للعرب والمسلمين ،
إذ نبهت شعوبهما كلها إلى التعاون على حفظ حقوقهما الوطنية والدينية في فلسطين .
وجملة القول في الإنكليز أنهم لا يزالون أقرب إلى العقل والفضيلة من
غيرهم ، وبذلك يمكن الاستعانة بشعبهم على حكومتهم ، وقد كان اليهود أقدر من
العرب على ذلك إلى أن أحبطت الثورة التي أثاروها عملهم ، وعلَّمتْ العرب كيف
يظهرون له حقهم ، ثم وُجد في هذا الشعب مَن بحث حتى عرف حق العرب واعترف
به في بعض جرائده الكبرى ، وأخذ يقيم الحجج على ما للدولة من المصلحة في
اتباعه ، ثم على العرب دون غيرهم إقناعها بالقول والعمل ، بما في مودتهم من
النفع ، وبما في عداوتهم من الضرر بل الخطر ، وإنهم لفاعلون إن شاء الله تعالى .
( 3 )
ماضي العرب وحضارتهم
( 1 ) العرب أعرق الأمم في التاريخ ذكرًا ، وأرسخهم في الحضارة قدمًا ،
فقد ثبت عند المحققين من علماء التاريخ والآثار واللغات ، الذين يستمدون علومهم
من العاديات أن قدماء المصريين والكلدانيين والفينقيين كانوا من جزيرة العرب ،
وهم مؤسسو أقدم الحضارات ، وأن شريعة حمواربي التي عثر عليها منقبو الآثار
في العراق من الألمان عربية ، وهي أقدم الشرائع التامة المدونة ، وكان معاصرًا
لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، و إبراهيم من أنباط العرب القحطانيين ، وجد
العرب العدنانيين ، إخوة العبرانيين ، فبنو إسرائيل فرع من الأرومة العربية
السامية .
ذلك أصل الحضارة القديمة التي استمد منها اليونان فالرومان مدنيتهم ، وأما
الحضارة الحديثة فواضعو أساس علومها وفنونها هم العرب العدنانيون في العهد
الإسلامي ، كما يشهد لهم بذلك الحكماء والمؤرخون المنصفون من علماء الإفرنج
على ما بينهم وبين الدول الأوربية ودعاة الدين من التنازع والتخاصم .
ولا ننكر أن العرب استمدوا من كُتب اليونان والفرس والهنود الذين كانت
حضاراتهم قد درست وعفت رسومها ودُفنت كتبها في أرماس خزائن الملوك
والبيوتات ، فنبشوا تلك القبور ، وأحيوا تلك الرمم ، وصححوا واستدركوا ، وزادوا
واستنبطوا ، وقرنوا العلم بالعمل ، واستقلوا في ذلك حتى صار لهم فن مستقل
خاص بهم ، ووضعوا من العلوم ما لم يكن لغيرهم ، وكان ذلك كله في وقت قريب
خارق للعادة ، فقد حقق حكيم الاجتماع الفرنسي الأكبر الدكتور ( غوستاف لوبون )
في كتابه ( تطور الأمم ) أن ملكة الفنون لا تحصل في الأمم إلا في ثلاثة أجيال :
جيل المقلدين وجيل المخضرمين وجيل المستقلين ، قال : وشذ العرب وحدهم
فاستحكمت لهم ملكتها في جيل واحد صار لهم فيه فنون خاصة بهم ، وفي كتابه
( حضارة العرب ) الذي صنَّفه قبل هذا الكتاب بعشرات السنين تفصيل لهذه الشهادة
والدلائل عليها والرسوم الممثلة لها ، وقد صرح فيه وفي غيره ولا يزال يصرح
بأن العرب أساتذة أوربة في مدنيتها الحاضرة .
أنبياء العرب وملوكهم
( 2 ) قد كان في العرب أنبياء مرسلون ، وكان فيهم ملوك استشاريون
مقيدون ، كملكة سبأ التي قالت لرجال الدولة { أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } ( النمل : 32 ) وكان الدين هو المرشد الأول إلى الحضارة
فيهم وفي جميع الأمم ، وأكثر ما بقي من آثار فنون الأقدمين وصناعاتهم عليه
الصبغة الدينية الباعثة عليه كأهرام مصر وبرابيها ونواويسها ، وكذلك شرائعهم
وآدابهم ، وإنما كانت تغلب البدع الوثنية على عقائد الدين الصحيحة وأحكامه التي
يجمعها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ، ومن أهم أركان العمل الصالح
العدل والصدق والأمانة ، كما أن أعظم أركان الإيمان التوحيد ، وفي آثارهم
المنقوشة ومخلفاتهم الباقية ما يدل على جميع ذلك ، وممن حفظ لنا القرآن ذكرهم
من أنبياء العرب هود و صالح و شعيب حمو موسى الكليم مؤويه مدة فراره من
فرعون ، واختلف العلماء في نبوة تُبَّع ، و ذي القرنين أعظم ملوك الحضارة
والفنون والسياحة في الأرض و لقمان الحكيم ، وحسب العرب أن منهم محمدًا
رسول الله وخاتم النبيين ، وهو الذي أكمل الله به الدين ، وأتم نعمته ورحمته على
العالمين { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( آل عمران : 85 ) .
منهج الإسلام والعرب في إصلاح شأن البشر
( 3 ) إن منهج الإسلام في رفع شأن البشر هو أن إصلاح الأنفس بالعقائد
الصحيحة الداحضة للأوهام والخرافات ، والأعمال الصالحة الصادة عن الفواحش
والمنكرات ، والأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والمعاملات - مقدَّم
على الترقي في العلوم والفنون والصناعات .
وهذا المنهج هو الذي سار عليه العرب المسلمون في أنفسهم وفي غيرهم في
أثناء الفتوحات ، وقد شهد لهم به المؤرخ الصادق ، والاجتماعي المنصف
(غوستاف لوبون ) بكلمة تشبه كلمات بلغائهم في إيجازها وسعة معانيها وهي قوله
( ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب ) ويؤيد هذه الشهادة العقل
كالنقل ، فإنه لولا فضائلهم - ورأسها العدل والرحمة - لما أمكنهم أن يثلوا عرش
كسرى وقيصر في الشرق في أقصر مدة ، وكانت حكوماتهما أرقى حكومات
الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا ؛ وإنما ثل العرشين التليدين الراسخين أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة رضي الله عنهم في الربع الأول من
القرن الأول للهجرة ، ثم امتدت الفتوحات في الشرق والغرب ، وقبل أن يتم
القرن حاصروا الروم في القسطنطينية وفتحوا كاشغر من ممالك الصين ودخلوا
أرضها من أقصى الشرق ، وفتحوا أفريقية و مراكش و الأندلس من أقصى
الغرب ، فلولا عدلهم وفضلهم ، وتفضيل جميع الشعوب إياهم على حكامهم ، لما
أمكنهم ذلك مع البعد الشاسع عن وطنهم ، ومهد سلطانهم في جزيرة العرب ، بل
كانت تلك الفضائل هي السبب في دخول الناس من جميع الشعوب في دين الله
أفواجًا طائعين مختارين ، وتبع ذلك تعلمهم اللغة العربية لغة هذا الدين وشريعته
وناشريه بمحض الرغبة ، لا بدعاية الجمعيات ولا بإلزام الحكومة أو نفوذها ( كما
يفعل الإفرنج في هذا العصر ) .
المانع من استيلاء العرب على العالم كله
( 4 ) لقد كان مقتضى هذا الإصلاح الإسلامي العربي أن يعم الأرض
ويملك أهله من العرب ، سائر ممالك الشرق والغرب ؛ ولكن حال دون ذلك تعارض
المانع والمقتضي ، أما المقتضي فقد عرَّفناه إجمالاً بما تقدم ، وأما المانع الذي حال
دونه فهو ( على قاعدة تقابل العدم بالملكة ) عدم الاستقامة على ذلك المنهج
الإصلاحي الذي شرعه الإسلام وسار عليه الرسول وخلفاؤه الراشدون ، وكان أول
من سنَّ الخروج عنه معاوية بن أبي سفيان ، ببغيه على أمير المؤمنين علي عليه
السلام والرضوان ، ثم بإكراهه الناس على بيعة ولده الفاسق يزيد ، واحتكار
السلطان لبني أمية ، فهدم بذلك الحكم الإسلامي الشوروي المبني على أساس سلطة
الأمة ، وأقامه على الأساس الوراثي المبني على تغلب القوة ، فما زالت القوة تعمل
عملها حتى سلبتهم هذا المُلك المغصوب ، وتغلغل نفوذ أعاجم الفرس في الدولة
العباسية ، ثم قضى عليها همج الشعوب التركية ، فتفرقت السلطة ، وتمزقت الوحدة ،
وزلزلت العدالة ، وزالت الخلافة .
من ثم قال أحد علماء الألمان المتعصبين لجنسيتهم أنه ينبغي لنا أن نقيم
لمعاوية تمثالاً من الذهب في أعظم ساحة من عاصمتنا ( برلين ) وينبغي مثل ذلك
لجميع شعوب أوربة ، إذ لولاه لكانت هذه الشعوب كلها عربية تدين بالإسلام ، وبين
ذلك بنحو ما قلناه آنفًا ؛ ولكن قال أحد أحرار فرنسة ما معناه : لقد كان من سوء
حظ أمتنا أن كان أكثر الجيش الذي فتح به العرب القسم الجنوبي من بلادنا من
بربر أفريقية الذين لم يتمكن الإصلاح الإسلامي من أنفسهم فكانوا ينقضون العهود
ويعتدون على الكنائس وغيرها ، حتى أثاروا العصبية والنخوة في أنفسنا ، وراجت
دعوة الاستنفار العام لقتالهم وإخراجهم من ديارنا ، ولو كان أكثرهم من العرب الذين
عرفنا سيرتهم العادلة في الشرق والأندلس لما وقع من ذلك العدوان شيء ، ولما
راجت الدعوة إلى قتالهم وإخراجهم ، وإذًا لسبقنا أوربة في الحضارة بضعة قرون .
إسقاط حرمة الخلافة وإضاعتها
( 5 ) كان إسقاط حرمة الخلافة أولاً بقتل الخليفة الثالث ، ثم بالخروج على
الرابع ، من مقدمات سقوط وحدة السلطة العربية التي انتهت بتعدد السلاطين ودول
الطوائف ، وكان اتساع دائرة الفتوحات في الشرق والغرب وصعوبة المواصلات
مما يتعذر معه وحدة السلطة بدون خضوع ديني لمقام الخلافة يملك على النفس
وجدانها وعملها ، فيحول بذلك دون الخروج على الحكومة والاستبداد دونها ، ولئن
رتق بنو أمية ما فتقوا بتمكنهم من جمع الكلمة ، وتوحيد السلطة ، وتوجيه المسلمين
إلى الجهاد في الكفار ، وفتح الأمصار ، وحمد لهم الجمهور هذا على كراهته لفسوق
أكثرهم ، فلقد كان رتقهم له بالعصبية مع الإسراف في الترف والتفريط في العلم
والتقوى رتقًا واهيًا ، ولمقام الخلافة منافيًا ، ولذلك كان أمده قريبًا .
قضى بنو العباس على بني أمية بقوة العصبية التي ابتدعوها ، ثم قضوا بها
على خلافة النبوة التي تقلدوها ، واعتمدوا فيها على الأعاجم فكانت بذلك شرًّا مما
قبلها ، وإنما امتاز أوائلهم بالعلم ، فبلغ الذروة في عهد المأمون ، كما كان لهم مزيد
حرمة عند الأمة بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن شان عِلمَ المأمون
نصرُه للبدعة ، وما كان ينبغي للخليفة أن يتعدى حدود قطعيات الكتاب والسنة ،
ويضطهد حرية الاجتهاد في العلم والدين ، بنصر فريق على فريق من الباحثين ،
فالملك يجب أن يكون - كما يقول ساسة هذا العصر - بمعزل عن المذاهب
والأحزاب ، ثم ما زال يضعف العلم ويتضاءل نفوذ النسب ، وتتفرق قوى العرب ،
وتحل محلها عصبية العجم ، حتى صار الخليفة شبحًا من أشباح اللعب ، يُزين
بالحرير والذهب ، ويُستنطق بما لا يريد أو بما لا يفهم ، ويوقع على ما لا يقرأ أو
على ما لا يعلم ، ويتحرك بتحريك البطانة والحاشية والحرس ، وإنما يُعظَّم تعظيمًا
صوريًّا ، ويُمَكَّن من اللذات البدنية ما دام مواتيًا ، فإن نبا أو أبى قتلوه ونصبوا شبحًا
آخر مكانه ، لا يرى وسيلة لاستدامة اللذة والفخفخة والزينة ، إلا التجرد من الأمر
والنهي والرأي والإرادة .
سعي الفرس لإسقاط مُلك العرب
( 6 ) بدأ زنادقة الفرس بالسعي لهدم مُلك العرب لاستعادة دولتهم الفارسية
وملتهم المجوسية ، من طريق الدسائس الدينية والسياسية ، وإحياء العصبية
الشعوبية ، وتوسلوا إلى ذلك بتفريق الكلمة من طريق التشيع لأئمة البيت من آل
علي و فاطمة عليهم السلام ، فشعر بذلك آل العباس رضي الله عنهم فنجحوا
باستمالة دعاية الثورة والقوة ، وبقيت للعلويين دعايتا الألوهية والعصمة ، وقد فطن
الخليفة العباسي الأول لخطر زعامة الثورة وإدارة الحكومة ، فاحتكروا موارد
الأموال ، واصطنعوا الرجال ، وتم هذا الأمر للبرامكة منهم في عهد الرشيد أو كاد ؛
ولكنه فطن لذلك فبطش بالبرامكة تلك البطشة الكبرى ، بيد أن قوة الترك الجندية
الوحشية ، قد قدرت على ما عجزت عنه سياسة الفرس الدينية والأدبية ، فإنما
أثمرت دسائس شيعتهم الباطنية في إفريقية دون بلادهم وما يقرب منها ، فكانت
الدولة التي أسسوها بمصر- هي الفاطمية أو العبيدية - عربية محضة باقتضاء
موقعها ، ولم تستطع التغلب على الدولة العباسية بتعميم دعايتها ، وأما الذين سلبوا
ملك العرب وقوضوا هيكل حضارة العرب فهم الترك ، وكان الجاني الأكبر في
إدخالهم في الدولة والاعتماد على جندهم في حفظ سلطان الخلافة - هو المعتصم
الجاهل بالسنة والناصر للبدعة ، وأنى له أن يفهم مغزى قول الرسول صلى الله
عليه وسلم : ( اتركوا الترك ما تركوكم ) أو يحذر ويتقي مضمون قوله صلى الله
عليه وسلم : ( أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ) يعني الترك .
سلب الترك لمُلك العرب
( 7 ) مهد التتار السبيل لبني عمهم الترك باجتياح سلطنة الخلافة العباسية
العربية بالتقتيل والتدمير والتتبير ، وكان الفرس قد سبقوا إلى إضعافها بالتفريق
والتدبير ، أفرطوا في تقديس الخلفاء العباسيين وتفخيمهم بالألقاب والزينة
والاحتفالات الرسمية ؛ ولكنهم فرَّطوا في طاعتهم ، وأزالوا ما كان من حصر وحدة
الرياسة فيهم ، ففرَّقوا السلطة ، واستبدوا بالدولة ، وغلبوا الخليفة على أمره ، وافتاتوا
عليه في حكمه ، حتى تجرأوا على قتله ، فوهت قوة الوحدة ، وكثر السلاطين في
الدولة ، ووقف سير العلم والحضارة ؛ لأن العلم كان عربيًّا وكان المرشد إليه القرآن
العربي ، وكان العرب هم الذين أحيوا منه ما أماته الزمان ، وجددوا ما أخلقته صروف
الحدثان ، وجاراهم فيه مواليهم وتلاميذهم من الفرس والسُّريان ، وكانت الحضارة
عربية بالتبع للعلوم والفنون العربية ، وكان الترك أبعد شعوب البشر عن العلم
والحضارة ؛ وإنما عندهم من آلة المُلك : الحرب والعصبية ، فكانت دولتهم دولة حرب
وفتح ، لا دولة علم وفن .
وكان أكبر سيئات الترك العثمانيين إيثار لغتهم الهمجية ، على اللغة العربية ،
لغة الدين والعلم والأدب والحضارة ، وتحريهم إضعاف الأمة العربية واستذلالها لئلا
يعود إليها حقها في الخلافة الإسلامية وحكم المسلمين ؛ فإن الله تعالى بعث رسوله
محمدًا خاتم النبيين في الأمة العربية ، وأنزل عليه كتابه المعجز للبشر باللغة
العربية ، فجعل هدايته لهم عربية وحكمهم به عربيًّا فقال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً
عَرَبِياًّ } ( الرعد : 37 ) ولذلك انتهت عداوة دولتهم للغته بعداوتها له ، وهؤلاء
خلفاؤهم الكماليون يعدون التكلم بالعربية والتعلم للعربية وكتابه التركية نفسها
بالحروف العربية من أكبر الجرائم السياسية التي يعاقب قانونهم مجترحها ، فلا
غرو أن يقول رسول الله النبي العربي فيما يعد من دلائل نبوته بخبر الغيب ( أول
من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ) وهو يدل بالإشارة أو فحوى
العبارة إن لم يكن بنصها على أن سالبي ملك أمته لا يعدون منها ، وقال الحافظ ابن
حجر في شرح البخاري أن المراد هنا بالأمة أمة الجنس لا أمة الدين . ونحن لا
نطعن في إسلام الشعب التركي نفسه ؛ وإنما نطعن في جهل دولته وعصبيتها ،
التي انتهت بضعف دينها ودنياها ، ثم بما يشكو منه كل مسلم منهم ومن غيرهم من
نبذ خلفها لكتاب الله وشرعه ظهريًّا .
استقلال العرب وحالهم بعد الحرب
( 8 ) تغلب الترك العثمانيون على الدولة العباسية في الشرق ، وخذلوا
الدولة الأموية في الغرب ( إذ استنصرت بهم على الأسبانيين فلم تنصرهم )
واستولوا على مهد الحضارة العربية في العراق وسورية ومصر ، فأضعفوا
الحضارة والعلم في هذه البلاد ؛ ولكنهم لم يستطعيوا إماتة اللغة العربية فيها ، ولا
الإدالة للغة التركية منها ، ودان لهم أمراء الحجاز ؛ ولكنهم ظلوا أصحاب السيادة
والنفوذ فيه وحاولوا بعد ذلك كله قهر عرب الجزيرة وإخضاعهم لحكمهم فظلوا
يقاتلونهم عليها أربعة قرون ونيف ، فنقصوها من أطرافها ، واستولوا على ثغورهم
البحرية ؛ ولكنهم عجزوا عن قهر أئمة اليمن وأمراء نجد وإخضاعهم لحكمهم ،
فالعرب الصرحاء الخُلَّص ظلوا في عقر جزيرتهم مستقلين في حكم أنفسهم ، لم
يقهرهم الترك عليها ، بل ظلوا يدافعونهم عنها وينتصرون عليهم فيها ، حتى إذا
مزقت الحرب الأخيرة سلطنتهم الواسعة ، ظهرت جزيرة العرب في الوجود مستقلة
تامة الاستقلال سالمة من كل نفوذ أو امتياز للدول الأجنبية فيها ، إلا ثغر عدن الذي
اغتصبته الدولة البريطانية في القرن الماضي والمقاطعات التسع اليمنية التي تدَّعي
حمايتها ولا تتدخل في أمر حكوماتها ، وإلا ما كان وهبه الملك علي بن حسين من
أرض مملكة الحجاز لإمارة شرق الأردن ، وهو ثغر العقبة المنيع على البحر
الأحمر والمنطقة الممتدة منه إلى معان أهم المحطات لسكة الحديد الحجازية ، فكل
من هذا وذاك موضع نزاع بين الإنكليز والدولتين العربيتين المستقلتين في جزيرة
العرب : مملكة اليمن الإمامية ومملكة الحجاز ونجد الملكية ، وقد اعترفت الدولة
البريطانية بالاستقلال التام المطلق لهذه الدولة دون تلك ، وعقدت معها معاهدة على
قاعدة المساواة ؛ ولكن بقيت منطقة العقبة ومعان موقوفة لتحل عقدتها بالمفاوضة
السياسية ، وأما الاعتراف باستقلال اليمن فقد تعددت فيه المراسلات والمفاوضات
بين الدولتين البريطانية واليمانية ، ولابد أن تنتهي قريبًا برجوع الأولى عن كل حق
تدعيه فيما عدا منطقة عدن ، فإنه يستحيل تركها إياها لليمن .
حال الممالك العربية اليوم
( 9 ) ذلك شأن مهد الأمة العربية ومنبت أرومتها ، ومعقل قوتها ، لم يغلبها
عليه كله أحد ، فهي لا تزال فيه عزيزة النفس ، قوية البأس ، مرفوعة الرأس ،
وأما ما يتصل به من مواطن حضارتها وعمرانها ، وعواصم خلافتها أو سلطانها ،
وهي مصر وسورية والعراق فقد احتل أكثره الإنكليز وبعضه الفرنسيس قبل
الحرب وبعدها ، وجعلوا حكوماتها العربية تحت سيطرتهم العسكرية بدعوى
مساعدتها على إصلاح شؤونها إلى أن تقوى على النهوض بأعباء استقلالها المعترف
لها به بنفسها ، ولا تزال هذه الشعوب العربية تنازع هاتين الدولتين في دعواهما ما
تسميانه حق الاحتلال والانتداب ، ولابد من وصولهما إلى حقهما في الاستقلال
المطلق في يوم من الأيام .
( ولا ننسى الممالك العربية الإفريقية الأربع فهي لابد من استقلالها أيضًا ؛
فإن استعباد الأمم الكبيرة بالقهر العسكري لن يدوم إذا هي عرفت نفسها وحال العالم
وسنن الاجتماع فيه ؛ ولكن كلامنا الآن ليس فيها ) .

استحالة ظهور اليهود على العرب
( 10 ) عُلم مما تقدم أن الأمة العربية أقوى وأعز وأفضل من الشعب
اليهودي ماضيًا وحالاً ، وأرجى منه استقبالاً ، فهي لا تزال ذات مُلك وسلطان ،
وممالك وأوطان ، ولغة حية ، وشرع نافذ وعادل ، فإن كانت ثروة اليهود النقدية
أكبر ؛ فإن ثروة العرب الطبيعية أعظم ، ألا وهي ثروة الأرض التي هي أصل كل
ثروة بأقواتها ومعادنها ، وهم يملكون عشرات الألوف والأميال منها ، وإن كان
اليهود أقدر على تسخير القوة البريطانية بدهائهم ومكرهم وأموالهم ، فالعرب أقدر
على إبطال كيدهم هذا بكثرتهم ، إذا هم جمعوا كلمتهم ، وبنفوذهم في العالم
الإسلامي الذي يعطف عليهم لأنهم قوم نبيهم ، وأرومة دينهم ، وحفظة قبلتهم ،
وعُمَّار مساجدهم الثلاثة المقدسة : المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ،
فإن لم يقدروا على ذلك بالإقناع البرهاني الذي يفضلونه ، فسيقدرون عليه بالدفاع
الحربي الذي لا يخافونه ، وقد علم زعماء الأمتين ، أن ما بذلتاه من الدماء والأموال
في سبيل الدفاع عن الدولتين ، لو بذلتاه في سبيل حريتهما واستقلالهما ، لكان كافيًا
لهما ، وأن تلك الملايين من رجالهم التي سخرتها الدولتان لأنفسهما في الحرب ما كان
يمكنهما تسخيرها بالقوة ، وأنها لو ثارت عليهما في وقت ضعفهما لما فقدت في قتالهما
عُشْر ما فقدته في قتال أعدائهما ، وإذًا لخسرتا الحرب وفاز بها أعداؤهما .
وقد رأوا بأعينهم ، وخبروا بأنفسهم ، ما كان من تأثير الثورة المصرية
الصغيرة العزلاء على بريطانية العظمى بعد الحرب الظافرة هي فيها على حين كان
جيشها من جميع الأسلحة يموج في أرض مصر ، كما تموج أساطيلها في كل بحر ،
وعلموا أنه لولاها لم ترفع تلك الحماية التي ضُربت عليها ، ولم يعترف لهم
بالاستقلال المقيد فيها ، ثم رأوا ثورة العراق التي فتحتها الدولة البريطانية فتحًا ،
وأخذنها عنوة لا صلحًا ، وجعلتها تابعة للإمبراطورية الهندية ، وكيف كانت سببًا
لتأسيس حكومة وطنية فيها كما تقدم قريبًا ، ثم رأوا الثورة السورية ، وما أبلت في
القوى الفرنسية ، على قلة الموقدين لنارها ، وقلة ما أتيح من الوقود لها ، وكونها
كانت في دائرة ضعيفة من البلاد لم تتعد النار إلى غيرها .
فهل تظن هذه الطغمة من اليهود الصهيونيين أنهم ينتزعون من قلب هذه الأمة
العزيزة قطرًا من أشرف أقطارها وأعزها ، بعد أن استيقظت من رقدتها ، وشعرت
بقيمة نفسها ، وهبت لاستعادة وحدتها ، على اختلاف مواطنها وعقائدها وتربيتها ؟
وما كان ضعفها الماضي إلا بتفرقها وجهلها بقوتها ومكانتها ، ومتى كان الغنى
والثراء ، والمكر والدهاء ، والكيد والرياء ، من الضعفاء الجبناء ، يطرد الأمم
القوية من أوطانها ، ويغلبها على ملكها وسلطانها ، والحق لها ، والسيف بيدها ؟
وهم إنما يعتمدون على قوة غيرهم ، ولن يدوم لهم تسخيرهم ، وعلى تفرق
خصومهم وقد زال ، ولم يبق لاتحادهم إلا النظام وهو إن شاء الله قريب المنال .

تأثير ثورة فلسطين في العرب والمسلمين
( 11 ) لقد كانت الثورة التي أوقد اليهود الصهيونيون نارها في فلسطين بعد
تلك الثورات الموضعية على أقوى دول الأرض ، وبعد تلك اليقظة الشرقية العامة
التي أحدثتها الحرب ، وبعد خيبة آمال بعض الشعوب الشرقية ، التي كانت
مخدوعة ببعض الدول الغربية - آخر صيحة داعية إلى وحدة الشعوب العربية ،
وتعاطف الشعوب الإسلامية ، فقد اضطرب لها المسلمون والنصارى جميعًا في
سورية ولبنان والعراق والحجاز ونجد واليمن ومصر وتونس والجزائر ومراكش ،
واهتز لها المهاجرون من العرب في العالم الجديد من الشمال إلى الجنوب ، وظهر
أثر ذلك جليًّا قويًّا في جرائد هذه البلاد وجماعاتها بالاحتجاج والانتصار وجمع
الإعانات ، وهي أول حركة عربية سياسية أظهر العطفَ عليها ملوكُ العرب
المستقلون ، فقد أرسل صاحب الجلالة السعودية عدة كتب وبرقيات في إظهار
عطفه وعطف أهل مملكته النجدية والحجازية على عرب فلسطين - على بعده
واشتغاله بقمع ثورة داخلية في نجد - منها ما هو باسم سماحة زعيمها السيد أمين
الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين ، ومنها ما هو
للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر ( وسننشر ذلك ) ومنها ما هو
لصاحب الجلالة البريطانية ملك الإنكليز ، وقد تبرع لمنكوبي العربَ في هذه الثورة
بخمسمائة جنيه ، وتبرع نجله ونائبه في الحجاز بمائة جنيه ، وأُلفت بأمره لجنة
لجمع الإعانات بمكة جمعت مبلغًا يعد كبيرًا من أهل الحجاز ، وتبرع صاحب
الجلالة اليمانية الإمام يحيى حميد الدين بثلاثمائة جنيه ، وشارك العرب في هذا
الشعور والعطف على أهل فلسطين مسلمو الأعاجم ، ولا سيما في الهند و جاوة
بالاحتجاج والإعانات ، بل شارك الهندوس مسلمي الهند في عطفهم هذا ، وتمنى
الجميع لو يرسلون جيشًا منهم إلى فلسطين لحماية المسجد الأقصى وأهله من عدوان
اليهود .
بل هذه أول مرة صرَّح فيها شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية في مصر
بالعطف على المسلمين في أثناء ثورة سياسية بينهم وبين شعب أجنبي تؤيده الدولة
البريطانية ، بعد أن أجرَّت السلطة المصرية ألسنة علماء الأزهر وألجمتهم ،
وحرَّمت عليهم ما هو مباح لجميع المصريين من إبداء رأيهم في الأمور السياسية ،
وقد كانوا من قبل أصحاب الرأي الأعلى والقدح المعلى في جميع المصالح الإسلامية
والوطنية ، حتى إنهم هم الذين ولَّوا محمد علي باشا على مصر .
ومما يصح أن يذكر بالإعجاب أن صوت الأستاذ الأكبر محمد مصطفى
المراغي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية قد ارتفع في هذه المسألة في
وقت خرست فيه ألسنة جميع أمراء مصر وكبرائها الأحرار حتى غير المقيدين
بسياسية الحكومة ومشربها ، لا الوزراء والرؤساء الرسميين وحدهم ، وهو من
كبارهم ، فهذا فتح جديد في النهضة العربية واليقظة الإسلامية معًا ( وسننشر
كلامه ) .
وقد كنت اقترحت على سلفة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في أول
العهد بظهور الطمع الصهيوني في المسجد الأقصى ، والعثور على صورة لقُبة
الصخرة يعلوها العلم الصهيوني - أن يكتب فتوى على سؤال في ذلك تتضمن ما
يجب على المسلمين من استنكار ذلك ، ووجوب حماية المسجد الأقصى عليهم …
فاعتذر رحمه الله فألححت عليه وأكثرت من اللوم حتى غضب ، فقال : يا سيد
رشيد أتظن أنه ما بقي أحد يغار على الإسلام غيرك ؟ والله إننا نغار مثلك ؛ ولكنك
أنت مطلق ونحن مقيدون ، وأنت تعلم أننا ممنوعون من كل شيء يتعلق بالسياسية !
مستقبل العرب مع الإنكليز
( 12 ) إننا نرجو أن يحيط الشعب الإنكليزي العاقل بما ذكرنا وذكر غيرنا
من الحقائق ، فنجد منه عونًا على حكومته بتغيير سياسته مع الأمة العربية ،
والجلاء عما تحتله من بلادها الحجازية واليمنية وغيرها ، والاتفاق مع حكوماتها
على ما يضمن له مصالحه الاقتصادية ونفوذه الأدبي في جميع بلادها ، فوالله لو أن
في الشعب الفرنسي من الروية والتدبير مثل ما في الشعب الإنكليزي لأمكنه إكراه
دولته على تأليف دولة سورية واحدة تقضي على نفوذ الدولة البريطانية في الأمة
العربية كلها ، ثم في سائر الشعوب الشرقية المتصلة بها .
كان من آفات الظفر في هذه الحرب أن الغرور قد استحوذ على عقول
الظافرين ، وإن كان ظفرهم بقوة غيرهم لا بقوتهم ، فلولا الولايات المتحدة
لاستولت ألمانية على جميع ممالكهم ، وكان من آفات هذا الغرور أن الدولة
البريطانية ظنت أن قوة السلاح خير لها من قوى التدبير والعقل والإصلاح ، وأنها
قد ورثت جميع السلطنة ( الإمبراطورية ) العثمانية باحتلال القسطنطينية ، وأنها
ستملك بلاد إيران والأفغان بالأساطيل الجوية ، كما رسخ قدمها في مصر وسائر
البلاد العربية ، وأنه قد تم ما كانت تحلم به من امتداد إمبراطوريتها من حدود برقة
إلي حدود الصين من الغرب إلى الشرق ، ومن الإسكندرية إلى الكاب من الشمال
إلى الجنوب ، فبدا لها من جميع هذه البلاد ما لم تكن تحتسب ، بل بدا لها من الهند
ينبوع ثروتها الثرور ، وسوق تجارتها التي لا تبور ، ما لم يكن يخطر لها ولا
لغيرها ببال ، إذ هب مئات الملايين فيها يطلبون الاستقلال ، وينذرون الدولة قرب
الزوال ، وطفق الباحثون من علمائها يبحثون في هِرمها ، ويقدرون ما بقي من
عمرها ، على قاعدة قول الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه ... ترقب زوالاً إذا قيل تم
ولكن هذا كله قد كبح جماح ذلك الغرور ، وتغلب حزب العمال المعتدل على
حزب المحافظين المغرور ، وجنح حزب الأحرار إلى العمال ، فمن ثم قويت الآمال
بمراعاة هذه الدولة العظيمة لمقتضى الحال ، وطول بقائها في أوربة كلسان
الميزان .
بشارات أنبياء اليهود في المسيح والمُلك
( 13 ) اليهود الماديون واللادينيون يتكلون على إنكلترة في إعادة ملك
سليمان وهيكله إليهم كما تقدم ؛ ولكن دين الإنكليز وشرفهم ومصالحهم المرتبطة
بأربعمائة مليون من المسلمين ومن العرب غير المسلمين أيضًا تأبى عليهم ذلك ، على
تقدير قدرتهم عليه .
واليهود المتدينون يعتمدون على بشارات أنبيائهم ، وهذه البشارات مبهمة
ومشروطة باتباعهم لوصايا التوراة كلها ، وقد تركوا هذا عندما كان ممكنًا ، وقد
أصبح غير ممكن ، ثم إنه مقيد بمجيء المسيح وجريان ذلك على يديه ، وقد جاء
المسيح الحق عليه السلام فكفر أكثرهم به ، فأيد الله تعالى من آمن به على من كفر
كما قال عز وجل في آخر سورة الصف { فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت
طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } ( الصف : 14 ) وقد
كتبنا مقالاً طويلاً في بيان تلك البشارات وما كان من قيودها وشروطها وما تقتضيه من
حرمانهم من أرض الميعاد والمُلك إلى الأبد ، سننشرها في الجزء الآتي إن شاء الله
تعالى .
أنباء خاتم النبيين في أمر اليهود مع المسلمين
( 14 ) إن عندنا معشر المسلمين بشارات من خاتم النبيين وواسطة
المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أوضح وأفصح وأصرح من بشارات أنبياء
اليهود ، كأخبار المسيح الدجال الذي يظهر فيهم ، فيتعصبون له ويقاتلون المسلمين
والنصارى في فلسطين وغيرها ، فيُخذلون ويغلبون على أمرهم ، ومنها ما رواه
البخاري و مسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : ( تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا
يهودي ورائي فاقتله ) وله روايات أبسط من هذه الرواية ، فاحذروا أيها
الصهيونيون المتهورون أن تعجِّلوا بفتح باب البلاء على أنفسكم ، بل احذروا وقد
فتحتموه أن تصروا عليه ، وأرجئوه إلي مجيء مسيحكم ، فإنا له مرجئون ،
وانتظروا فإنا منتظرون .
__________
(*) الإفك : صرف الشيء عن وجهه الحق إلى غيره .
(30/450)
 
رمضان - 1348هـ
مارس - 1930م
الكاتب : محمد رشيد رضا

نظرية داروين والإسلام

جواب إشكال ألقيناه في نادي الخطابة لجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة ،
وكنت أردت أن أكتب في موضوعه محاضرة طويلة فلما لم أجد فراغًا لذلك ،
اخترت نشره لأنه مفيد في موضوعه بالإجمال ، وهذا نصه :
أعطاني أحد الشبان في الليلة التي تكلمت فيها على مسألة القدر في موقفي
على هذا المنبر ورقة وضعتها في جيب جبتي ، ثم قرأتها بعد عدة أيام ، إذ كنت
نسيتها فإذا فيها مقدمة فيما يسمى مذهب داروين يتلوها بضعة أسئلة يرى كاتبها أنها
من أقوى الحجج والبراهين القطعية الناقضة الهادمة لما عبَّر عنه ( بنظرية الخلق
الإلهي ) والحق المقرر عند علماء الكون المحققين من المتلقين لمذهب داروين
بالتسليم وغيرهم ، أنه نظرية أو مجموع نظريات قابلة بذاتها للثبوت وللبطلان ،
أي بصرف النظر عما يعارضها من نصوص الأديان المستندة عند أهلها على
أصول قطعية مؤيدة بالبراهين ، ومن مذهب الروحانيين الذين لا يقتصرون في
تعليل أمور الخلق والتكوين على سننن المادة ونواميسها وحدها .
وأما خلق الله لكل شيء فليس مسألة نظرية إلا عند ملاحدة الماديين ، وهم
شرذمة قليلة من مجموع الشعوب ، والسواد الأعظم من علماء الكون والفلاسفة
وغيرهم من البارعين في جميع العلوم والفنون ، ومن العوام السليمي الفطرة - يوقنون
بأن للعالم خالقًا عليمًا حكيمًا ، ويقيمون على ذلك الدلائل العقلية والعلمية اليقينية ،
والمِلِّيُون من أهل العلم والفلسفة يؤيدون بهذه الأدلة نصوص مللهم ، وغير المليين
منهم وهم قليل فريقان : أحدهما ينكر بعض نصوص الأديان ، والآخر لا يثبتها ولا
ينفيها ، ومن هؤلاء عالم كبير من علماء الإنكليز نقل إلينا المقتطف عنه أنه سئل
قبل موته : هل يؤمن بالإله الخالق ؟ فقال ما معناه : ليس عندي أدنى شك في وجود
إله للطبيعة ؛ فإنه لا يمكن لعاقل أن ينظر في هذا الكون العظيم ، وما فيه من دقائق
النظام وعجائب الإبداع ويعتقد أنه وُجد بالمصادفة ، أو أنه يستند إلى مبدأ ضرورة ،
فالمعقول الذي لا أعقل غيره أن للطبيعة - مادتها وقواها - خالقًا قادرًا ذا علم
وحكمة - وربما قال : عاقلاً - وأما إله الكنيسة فليس عندي ما يثبته ولا ما ينفيه
اهـ .
ولقد سبق هذا العالم الإنكليزي إلى مثل كلمته في إثبات وجود الخالق عالم من
كبار علماء الكلام في الإسلام ، لا أذكر الآن أهو النسفي صاحب العقائد المشهورة أو
غيره ؟ قال : اتفق البشر على الإيمان بوجود صانع خالق للعالم ما عدا شرذمة قليلة
ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي ، وهو - أي زعمهم هذا - بديهي البطلان .
وقد انقسم علماء الغرب في نظرية داروين إلى أنصار يؤيدونها بمقالاتهم
ومصنفاتهم بمعنى أنها أقرب ما وصل إليه علم البشر من التعليل المعقول لاختلاف
الأنواع ونظام الخلق ، لا بمعنى أنها حقائق قطعية كالقواعد الرياضية لا يمكن
نقضها ، وكم نقض تقدم العلوم نظريات كانت مسلَّمة مثلها لأنها كانت أقرب ما
عُرف في موضوعها إلى العقل - وإلى خصوم يردون عليها ويوردون الشكوك
والاحتمالات في أصولها وفروعها ، وقد كان الرجحان العلمي لأنصارها إلى عهد
قريب ، إذ دخل العلم المادي في طور جديد ، واتسعت دائرة علم النفس ، وكثر أنصار
الروحيين الذين يثبتون بالاختبار ما أثبتته جميع الأديان من أقدم عصور
التاريخ ، من أن للبشر أرواحًا مستقلة لها أعظم التأثير في خلقهم وتكوينهم وعلومهم
وأعمالهم .
إنني بعد قراءة تلك الورقة ذكرت هذه المسألة في أول مرة حضرت هذا
النادي ، فلخصت المسألة وذكرت بالإجمال الموجز رأي علماء المسلمين فيها ،
وصرحت بأنني مستعد لإلقاء محاضرة مفصَّلة فيها ، فكان أن إدارة جمعية الشبان
المسلمين جعلت هذه الليلة موعدًا للمحاضرة بدون استشارتي ، وطبعت ذلك وآذنتني
به أول من أمس ، وأنا في شغل شاغل عن المراجعة والتفكر في الموضوع ، وعن
كتابة ما ينبغي فيه ؛ لأنه ليس من الموضوعات التي يكفي فيها الجواب عن الأسئلة
التي كتبها صاحب الورقة ، والجواب عنها في غاية السهولة ، بل هنالك أصول
وفروع تتعلق بها أهم من تلك الأسئلة أرى أن شبابنا في أشد الحاجة إلى تمحيصها ،
ولما أجد فراغًا في هذين اليومين لكتابة محاضرة حافلة كاملة ؛ لذلك رأيت أن
أكتفي الليلة بذكر نص الورقة المشار إليها ، والأجوبة عن أسئلتها بالإجمال ، وما لا
يدرك كله لا يترك قله .
نص الورقة
( لقد غفل المسلمون واستهتروا بدينهم حتى تركوا الملحدين يأخذون منه
مآربهم ، وينالون منه ويتطاولون عليه بحججهم الناصعة الواضحة القوية يريدون
هدم صرحه ، أولئك الذين غفل عنهم المسلمون وتركوهم يعملون بنشاط حتى تغلبوا
على الإسلام ؛ وذلك مما دفعني لأن أقف موقفي هذا راجيًا من حضرة الأستاذ أن
يُدلي بواضح حججه وبيانه مجيبًا على ما سأقدمه من الأسئلة ، ولا أريد تخلصًا من
الإجابة فقد تخلص مني الكثيرون لقلة اطلاعهم ) .
( هنالك نظرية علمية حديثة ظهرت في القرن الماضي وشاعت الآن في
جميع أنحاء العالم لما لها من حجج وأدلة لا يمكن أن يخطئها أحد ، تلك هي نظرية
التطور التي تقول : إن جميع الأجناس ترجع إلى أصل واحد ، قامت هذه النظرية
وناقضت نظريتنا وهي نظرية ( الخلق الإلهي )
( 1 ) هل خلق الله جميع الكائنات في عصر واحد أم استمرت عمليته إلى
عصور متفاوتة ؟ وهل لا يزال الخلق مستمرًّا ؟
( 2 ) ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل
( أوفبوس )
Evobeppus التي تشبه الحصان ، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان
الحالي ؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان مثلاً والحيوان الذي يشبهه مثل
الصلة بين الحصان والبغل ؟
( 3 ) ما معنى وجود أعضاء في جسم الحيوان أو النبات لا وظيفة لها مطلقًا ،
بل قد تكون هذه الأعضاء مضرة في الإنسان أكثر مما تفيده ؟
( 4 ) ما معنى قدرة بعض الناس على حركة آذانهم وعجز الآخرين عن ذلك ؟
( 5 ) ما فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر ؟
( 6 ) لماذا يمر الجنين بأطور مختلفة من الحياة : تراه في حداثته جرثومة ،
ثم يصير مثل الأسماك ، ثم مثل الزواحف .. إلى أن يصل إلى شكله النهائي ؟
وهل هذا يدل على أن هناك علاقة بين الإنسان وتلك الحياة التي مر بها الجنين ؟
وإن صح ذلك كان هذا أقطع دليل على صحة نظرية التطور . اهـ بحروفه .
إنني قبل الجواب أنصح لإخواني وأبنائي في السن من السامعين - على حفظي
لدرجاتهم في العلم والفضل - أن يكون غرضهم من السماع لما أقوله هو التعاون بيني
وبينهم فيما أوتينا من علم وبيان على تحقيق ما بين هذه النظرية ، وما بين نصوص
ديننا من خلاف ووفاق على قاعدتنا التي نقررها دائمًا ، وهي أن من معجزات
الإسلام أنه قد جاء به نبي أمي مر على بعثته 13 قرنًا ونصف ، ولم تقم حقيقة
علمية قطعية تنقض نصًّا من نصوصه القطعية ، ولا تنفي أصلاً من أصوله
الاعتقادية ، وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو
المذهبية بين خصمين يكون هم كل منهما الظهور على خصمه ، وتتبع عثراته
ومؤاخذته في تقصيره ، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق
التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي ، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة ،
وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه
النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة ، ولا عدُّوها
قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة .
ولعله ما كبَّرها هذا التكبير إلا لحفز الهمة للعناية بها وإقامة الحجج البالغة
على تأييد الدين الذي هو مناط سعادتنا في الدنيا والآخرة ، بعد هذا أقول :
( أولاً ) إن الملحدين لم ينالوا من المسلمين ما نالوا ( بحججهم الناصعة
الواضحة القوية ) كما قال ، بل لأنهم يتلقون الكفر عنهم قبل أن يعرفوا الإسلام
معرفة صحيحة ، وبدون أن يتربوا عليه تربية عملية تغذي المعرفة الصحيحة ،
فمنهم من يتعلم ويتربى في مدارس دعاة النصرانية التي أُسست لأجل هدم الإسلام
وتحويل أهله عنه إلى النصرانية أو إلى الإلحاد ، وقد قال موسيو جول سيكار
الفرنسي في كتابه الحديث ( العالم الإسلامي في الممتلكات الفرنسية ) ما معناه أن
المسلم يتعذر أن يتحول عن الإسلام إلى النصرانية ، فالطريقة المثلى لتنصير
المسلمين إيقاعهم في الإلحاد والتعطيل أولاً ؛ حتى إذا ما أصبحوا بغير دين وزال ما
للقرآن من السلطان على عقولهم سهل حينئذ تنصيرهم ؛ لأن البشر لا يستطيعون
أن يعيشوا بغير دين .
ومنهم من يتعلم في المدارس المصرية وأمثلها مدارس وزارة المعارف ،
وليس فيها من التربية الدينية شيء حتى أن الصلاة لا تُقام فيها ، وقد قل من يصلي
فيها حتى أن الذين يناط بهم تعليم الدين فيها وهم خريجو مدرسة دار العلوم صاروا
يتركون الصلاة إلا قليلاً ، ولا سيما الذين استبدلوا الزي الإفرنجي بالعمامة والجبة
والقباء .
( ثانيًا ) إن الملاحدة ما تغلبوا على الإسلام كما قال ، وإنما تغلبوا على
بعض التلاميذ والأحداث من المسلمين الجغرافيين ، فانتزعوهم من حظيرة الملية
الإسلامية لما لهم في هذا من المقاصد الدينية والسياسية التي يجهلها هؤلاء التلاميذ
وآباؤهم الأغبياء .
( ثالثًا ) إن قوله : إن الحجج والأدلة على نظرية التطور لا يمكن أن يخطِّئها
أحد ، مخالف للواقع ، فقد خطَّأها كثيرون بحق وبغير حق .
الأجوبة المجملة عن أسئلته
أما السؤال الأول فجوابه أن النصوص تدل على أن الله تعالى خلق الخلق
بالتدريج على نظام مقدر في علمه ، مثاله أن الله تعالى قال في سورة الانبياء { أَوَ
لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ } ( الأنبياء : 30 ) الرؤية هنا علمية معناها أو لم يعلموا ، والرتق المادة
المتصل بعضها ببعض ، وهي التي عبَّر عنها في سورة فصلت بالدخان ، وهو اسم
للمادة الرقيقة الخفيفة التي دون الماء ومنها بخار الماء ودخان النار وغيره مما
يسمى في الاصطلاح العلمي بالسديم والغاز ، ومنه قوله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( الدخان : 10-11 ) .
والفتق هو الفصل بين أجزاء المادة ، فهذه الآية توافق رأي علماء الكون في
هذا العصر كما هو ظاهر ، ولم يكن رأيهم هذا مما يخطر في بال أحد من العرب
الأميين ، ولا من غيرهم في ذلك العصر ، وهي جديرة بأن تُعَدَّ من معجزات القرآن
العلمية عند الذين استنبطوا هذا الرأي من مباحث علمية دقيقة بعد بطلان نظرية
قدماء علماء الهيئة من اليونان وغيرهم .
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ،
وفي بعضها زيادة { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ } ( هود : 7 ) واليوم في اللغة
العربية هو الزمن الذي يُعرف أو يُحد بوقوع شيء فيه طال أو قصر ، وقد قال الله
تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ( الحج : 47 ) وقال :
{ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ( المعارج :
4 ) ومنه أيام العرب المشهورة في وقائعهم وحروبهم كيوم ذي قار ويوم أوارات ...
إلخ ، فالمراد بأيام خلق السموات والأرض عصور تم في كل عصر منها طور من
أطوار خلقها وقد فصلت بعض التفصيل في سورة فصلت ، وهذه الآيات تتفق مع
مذهب النشوء دون نص التوراة الذي أذكره إن شاء الله في البحث التفصيلي إن قُدِّر
لي كتابة محاضرة فيه . ويقول الله تعالى في خلق الإنسان : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ
مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ } ( المؤمنون : 12 ) وقال : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ( نوح :
14 ) فهو تعالى لا يزال خلاقًا عليمًا حكيمًا .
وأما السؤال الثاني فجوابي عنه أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات
الجيولوجية بعضها مع بعض ولا مشابهة بعضها لبعض الحيوانات الباقية ، كما
أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات التي لم يوجد ما يدل على وجودها في
عصور طبقات الأرض القديمة ، وسبب التشابه بين النبات الذي من فصيلة واحدة
أو فصائل مختلفة كالتشابه بين ورق الزيتون وورق الرمان ، ومذهب داروين في
تعليل أمثال هذا التشابه لا يقوم دليل قطعي ولا قريب من القطعي على صحته ،
وإن كان أكثر ما فيه من تعليل يعد إلى الآن أقرب من غيره إلى إثبات حكمة الله
تعالى في نظام خلقه ، وإذا فرضنا وصوله إلى درجة اليقين لم يكن ناقضًا لنص من
نصوص الدين القطعية ما دام لا ينافي كون الله هو الخالق لذلك بهذا النظام .
وإنه ليوجد بين بعض الجماد وبعض النبات من التشابه ، وبين بعض النبات
وبعض الحيوان من التناسب ما تحار العقول في سببه ، ويمكن استنباط أسئلة
لا تحصى من هذه الأمور لا يمكن الجواب العلمي عنها { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً } ( الإسراء : 85 ) .
ومما يقال فيه على غير طريقة داروين : إن الخالق الحكيم المختار جعل من
آيات النظام في خلقه هذا التشابه وهذا الاختلاف بين أنواع المخلوقات ، وجعلها
درجات بعضها أعلى من بعض في الأجناس والأنواع الدنيا والوسطى والعليا
تشترك في بعض مقوماتها ومشخصاتها ، وتختلف بالفصول التي تميز بعضها من
بعض كما يقول علماء المنطق ، وقد قال بعض علمائنا من قبل وجود داروين : إن
المخلوقات في جملتها من جماد ونبات وحيوان وإنسان ومَلَك تقوم بنظام متناسب ذو
درجات ترتقي من الأدنى إلى الأعلى ، فأعلى أفق الجماد يتصل بأدنى أفق النبات ،
وأعلى أفق النبات يتصل بأدنى أفق الحيوان ، وأعلى أفق الحيوان يتصل بأدنى أفق
الإنسان ، وأعلى أفق الإنسان يتصل بأفق الملائكة الذين هم الواسطة بين الخالق
تعالى وبين عباده في الخلق والأمر ؛ ولكن هذا التشابه والتناسب بين هذه الدرجات
لا يقتضي أن يكون بعضها قد تحول عن بعض ؛ وإنما تقتضي هذه الوحدة في نظام
الوجود أن يكون صادرًا عن خالق واحد عليم حكيم { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن
تَفَاوُتٍ } ( الملك : 3 ) .
وأما الجواب عن السؤال الثالث ، وهو : ما معنى وجود أعضاء في أجسام
الأحياء ليس لها وظيفة ؟ فأقول فيه أولاً : إن عدم علمنا إلى اليوم بأنه ليس لها
وظيفة ولا فائدة لا يقتضي عدم وجود ذلك وإمكان الوقوف عليه في وقت من
الأوقات ، وأن يكون غير قول داروين بأنها أعضاء أثرية ، وقد كان مجهولاً إلى
القرن الماضي ، وثانيًا أن العلم بسبب وجود هذه الأعضاء وحكمتها ليس من علم
الدين الذي يُسئل مثلي عنه ، وإني لأعلم مما أقرأ من مباحث علماء الكون في
الكتب والصحف أنهم يعترفون بأن ما يجهلون من أسرار هذه الموجودات أضعاف
أضعاف ما علموا منها ، وأنهم كلما ازدادوا علمًا بكشف شيء جديد منها علموا من
جهلهم ما لم يكونوا يعلمون ، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه :
كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
ويعجبني قول الدكتور يعقوب صروف في مقالة له في أعجب ما وصل إليه
علماء العصر من عجائب علم الفلك وغيره ، أنهم لا يزالون مع هذا يجهلون كنه
حبة الرمل ، ومخ النمل ، علم واسع وجهل مطبق ، يدل على سعة علم الخالق عز
وجل .
( وثالثا ) يقولون : إنها كانت أعضاء تؤدي وظيفتها في طور من أطوار
الحياة للحاجة إليها فيه ، ثم زالت هذه الحاجة فزالت الوظيفة كما يقولون في المِعى
الذي لا يهضم إلا النبات ، وهذا - وإن صح - لا ينقض عقيدة من عقائد الإسلام ،
ولا يعارض نصًّا من نصوصه القطعية ، كما أنه ليس برهانًا قطعيًّا على تحول نوع
من أنواع الحيوان إلى آخر ، ولا سيما الإنسان الذي هو سيد عوالم هذه الأرض ،
وإن دارون وأمثاله من العلماء الذين عرفوا كثيرًا من أسرار خلقته الجسدية
الحيوانية ، قد جهلوا ما هو أعظم منها من أسرار حياته الروحية والعقلية ، وكذا
مزية النطق التي عدَّها الحكماء الأولون هي الفصل الظاهر المميز له على جميع
الحيوانات حتى القريبة الشبه الحيواني منه ، ويصدق عليهم قول المتنبي في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وأما الجواب عن السؤال الرابع ، وهو : ما معنى قدرة بعض الناس على تحريك
آذانهم دون بعض ؟ فجوابه أن معناه أنه يوجد في الناس من يتمرنون على تحريك
بعض أعضائهم بأعمال بما يعجز عنها من لم يتفق له ذلك ، والأقرب أن مسألة
تحريك الآذان من هذا القبيل ، وقد يكون سبب سهولته على بعض الناس دون
بعض أن بعض أجدادهم كانوا يعيشون عيشة يحتاجون فيها إلى إصغاء شديد يؤثر
في الأذن . والاستدلال به على كون الإنسان كان حمارًا أو حصانًا أو قردًا ، ثم صار
إنسانًا ، وقد بقيت في بعضه هذه المزية من مزايا أصوله السابقة - استدلال ضعيف
وسخيف ، فإذا لم تصل تلك التعليلات المعقولة في نفسها والمبينة من نظام الكون
وحكمة الخالق فيه ما ليس في غيرها إلى كونها دليلاً على نظرية التحول ، فهل
يصح أن تدعم بتحريك بعض الناس لأذنيه ؟ ولماذا لم يكن هذا التحريك عامًّا إذا
كان سببه ما ذكر ؟ وإنني لما علمت بهذه المسألة منذ سنين كثيرة حاولت أن أمرن
أذني على الحركة ، فصعب علي ذلك ؛ ولكنني كررت المحاولة فحركتهما .
وأما جواب السؤال الخامس عن فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر
فهو ما قاله بعض أئمة سلفنا : من قال لا أدري فقد أفتى ، وإنني لست من علماء
هذا الشأن ، وقد قلت فيهم ما نقلته عن جمهورهم من أن ما يجهلون من أسرار خلق
الإنسان وغيره حتى حشرتي النمل والنحل أضعاف ما يعلمون ؛ ولكن من استطاع
أن يقيم لي من جوابه عن هذا السؤال حجة أو شبهة على بطلان نص من نصوص
كتاب الله ؛ فإنه يجدني مستعدًّا لدحض حجته ، أو بطلان شبهته ، إن شاء الله تعالى .
(30/593)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
ربيع الأول - 1349هـ
أغسطس - 1930م

الفتح الأوربي والفتح الإسلامي
والاستعمار البريطاني والفرنسي

يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم ، فهم
يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم ، شغلهم الفاتحون
لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم ، وتشريع عادل ، وتاريخ مجيد ،
وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم ، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل
مرعبة من مظاهر قوتهم ، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم
واستذلالهم ، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال ، وتنكيس رؤوس الرجال ،
حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد
أن سلبهم سعادة الدنيا .
كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من
أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم ،
مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، ويسمحون
لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم ، وبجميع الأعمال التي
يقدرون عليها لترقية أنفسهم . ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا
للمسلمين في الأمور الروحية ، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية ،
وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر
على الأداء .
وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون
عليها أكثر ثمرات كسبهم ، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم ،
ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم -
يسومونه سوء العذاب ، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم ، وإن هو دخل في
دينهم . وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية ، وقد كان رجال سياستها
يسخرون من الإنكليز ؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون
عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة ، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية ،
ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة ، ويكتفون في
سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية
ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية
العامة لا خروج عنها .
كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في
مستعمراتها على سيرة دولته ( فرنسة ) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن
السياسة الإنكليزية الاستعمارية ، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان
الاستقلال ، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في
استعباد البشر ؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة ،
ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها ، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها !
إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي
عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب ، وتُلقي بين
المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء . أما إفساد
الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات
بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة ، وإما إلقاء العداوة
والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات .
والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة
أهلها على المطالبة باستقلالها ، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم
إلى القيام بشئون الإصلاح فيها ، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته
الحيوانية ، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه
من أهل بلاده .
وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم
من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم ، كما يمنعون منها
المسلمين أنفسهم ؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند
تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا
بالمعروف وينهوا عن المنكر ، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين
بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً ، إذا كان فيما
بينهم بصفة لا يضر غيرهم .
وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على
دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية ، وقيام حكومة تركية من
أنقاضها ، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها ، وأبطلت محاكمها
ومدارسها وأوقافها ، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية ، وعلى كتابة
اللغة التركية بالحروف اللاتينية ، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة
لا يثق بها مسلم ؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية ، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية .
ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه
كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا
الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه ، وقد حاول اغتيال رئيس
جمهوريته الإلحادية ( اللاييك ) مرارًا فلم يظفر به ، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى
بانقلاب آخر .
فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج
المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة . وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل
لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد ،
ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى ،
واستعانت على ذلك بحيلة صورية ، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة
رسمية أو شرعية ، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا
(مرسومًا سلطانيًّا ) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني
على شعب البربر ويجرد نفسه منه ، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور
هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية ؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق
الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية ،
ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي
تقدر عليها ، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى ، وهم
يزعمون أنه أصدره ، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به ، بل عادت بعد موته إلى
ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة
المخزن ( الطيب المقري ) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام
بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة
العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره
يحل محل الشريعة الإسلامية ، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية .
أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا
الحق ، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع ، كأحكام الزوجية والطلاق
والإرث ، وهي منصوصة في القرآن ، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة
القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ( يونس : 15 ) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن
أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم
بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين .. إلخ ، وكذا مَن استحل
أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم ، وإذا كان من يجحد مثل
هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام
بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم ؟ ! قال صاحب
عقيدة جوهرة التوحيد :
وَمَن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل
تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل ، وكان قد
استحوذ عليهم الخوف والجبن ، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة
هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله ، مع البحث في
آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين ؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم
يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام
بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين ، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل ،
ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين ، ومصلحة
البشر أجمعين .
(31/148)
 
ربيع الآخر - 1349هـ
سبتمبر - 1930م
الكاتب : أحمد محمد شاكر

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن الحكيم
تقريظ العالم العامل والقاضي الفاضل
خادم السنة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر

القرآن كتاب الله إلى خلقه ، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة ، أو هو كما
وصفه به سبحانه وتعالى { بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه } ( إبراهيم : 52 ) ونِعم
البلاغ .
نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية ، وتعمها
الجهالة العمياء ، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي ،
فصاروا أمة على قلب رجل واحد ، كلمتهم واحدة ، وهم يد على مَن سواهم . وبعد
أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم ، ولا يحميهم منهم
إلا بَيْداؤهم المحرقة - غزوا أعداءهم وفتحوا بلادهم واستنزلوهم عن ملكهم ،
فصاروا سادة الأرض ، كل هذا في بضع عشرات من السنين ، وكل هذا بهداية الله
لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه .
ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض ، وأرقى ضروب الحكمة ،
فلما اهتدوا به ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته - كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم ،
قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم .
وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض ، من عدل وحرية ومساواة بين
الناس ، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره
وفي كل حالاته .
ثم مرت عصور وأزمان ، وإذا المسلمون متفرقون ، وإذا هم مستعبَدون ،
وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين ، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا
مَن كانوا في الحضيض ، إذ هم في الذروة ، وإذا هم يهجرون القرآن .
ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا - تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه بأن
الرسول الأعظم سيد الخلق عليه السلام سيشكونا إلى ربه : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } ( الفرقان : 30 ) .
تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه صلى
الله عليه وسلم ، إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم - لما كانوا على ما نرى من ضعف
واستكانة وذلة ، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم ، ونفوسهم حاجة إليهم .
أخذ الصدر الأول والسلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويعلمونه
للناس ، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث ، لا يرضون حكمًا في
دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له ، نزولاً
على حكم الله ، فكان علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون ،
وكانوا كلهم بهذا مجتهدين .
ثم ضعفت النفوس والهمم ، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن
أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح ، فصار بعض العلماء يقلد مَن
سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام ، عن غير أمر منهم أو مشورة ، بل مع
نهيهم - رضي الله عنهم - عن التقليد .
فكان هذا بدء الضعف ، ثم توالت العصور ، فإذا المقلد مقلَّد ، وإذا الأمر
فوضى ، وإذا هم فرق وشيع ، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية
المذاهب !
وأمامك تاريخ المسلمين ، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن ، فكلما بعدوا عن
كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر ، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم .
ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة أنشأ علماء الإسلام
يفسرون لهم كتاب الله ، وكلٌّ على قدر همته ، فكثرت أنواع التفاسير للسلف
والخلف ، متقدمين ومتأخرين ، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها ، وقد
يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير ، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من
الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن ، ولم تفرط أمة في حفظ ما
كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا . فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين ؟ !
ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلا تفسير أبي
جعفر الطبري المتوفَّى سنة 310 ، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم
مقلدين .
ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث
مرفوعة ، وآثار موقوفة ، وباستنباط أحكام الفقه منه ، تعليمًا للناس كيف يفهمون
وكيف يصلون إلى الاجتهاد .
ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى
لها ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ .
حتى أن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن
الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها ، ولا إلى استنباط حكم ، بل ولا إلى الثقة
بالنقل ، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة وبأحاديث موضوعة ، من
غير تحرٍّ في الرواية ، ولا استعمال لموهبة العقل السليم .
وبالله ، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد -
يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له ، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة
( العالِمية ) وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا - ما عرف كيف ينبغ في المماحكات
اللفظية .
ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته ، وعلمًا من أعلام الهدى ، وهو الأستاذ
الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله ، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي
كتابها ، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره ، وكان منارًا يُهتدى به في هذه
السبيل ، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير ، وكان - فيما أظن - يرمي
بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك ، فينهجوا نهجه ، ويسيروا على رسمه ،
ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً ، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ ، وبقي دهماؤهم
على ما كانوا عليه .
ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد
محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام ، وزادها
وضوحًا وبيانًا ، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة ، وجمعها في أجزاء على أجزاء
القرآن الكريم ، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه ، فكأنه أُلهم من
روحه ، لم يكل ولم يضعف ، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة ، وكثيرًا من
العاشر .
فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق ، ولا أستثني ؛ فإنه
هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح
الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على
كثير من العلماء والمفسرين .
ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة ، غير مقلد ولا
متعصب ، بل على سنن العلماء السابقين : كتاب الله وسنة رسوله . ولقد أوتي
الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها -
ما جعله حجة وثقة في هذا المقام ، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه .
ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله
فيها ، وأرشد إلى الموعظة بها . وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها . وأعلن
حجة الله على الناس .
فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر ، ممن
اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية ، ويدفع عن الدين ما
يعرض لأذهانهم الغافلة عنه ، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء ، مع البلاغة
العالية ، والقوة النادرة . لله دره !
وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية ، وكأنه لم يترك بعده
قولاً لقائل ، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم . وهذا قيام بواجب
قصَّر فيه أكثر المسلمين ، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا
صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها ،
وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة
للإسلام ، وهي أمة البربر المجيدة . وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من
أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين .
ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في
شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم ، فحللها تحليلاً دقيقًا
وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة ، وأقام الحجة القاطعة على أن
الإسلام دين الفطرة ، وأنه دين كل أمة في كل عصر . ونفى عن الإسلام كثيرًا مما
ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون ، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من
أبنائه عن سبيله ، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة
ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم .
وإنه لكتاب العصر الحاضر ، يفيد منه العالم والجاهل ، والرجعي والمجدد .
بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين .
وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه
من الشبان على مطالعته والاستفادة منه ، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن
يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام ، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها
بالجهالات المتكررة .
ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها
ومعاهدها حق الدرس ، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً ، بل لا تدفع عنه مَن أراد
به عدوانًا ، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة .
فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه ،
وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه ، وهم عماد الأمم .
ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم
يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله ، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث
فيها ، وذلك بحول الله وقوته .
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي
(31/193
 
ربيع الآخر - 1349هـ
سبتمبر - 1930م
الكاتب : محمد رشيد رضا

آراء ساسة فرنسا
في سياستها الإسلامية
وإمكان الاتفاق على ما هو خير منها لها وللإنسانية

لقد آن للعالم الإسلامي أن يعلم ما تكيده له دول الاستعمار في دينه ودنياه ،
وأن يبذل ما يستطيع من حول وقوة للدفاع عن نفسه من حيث هو أمة واحدة كما
قال الله تعالى ، وكل شعب من شعوبه وكل فرد من أفراده كعضو لجسد واحد كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقله تنظيم الدعاية والمقاطعة العامة
الاقتصادية ، وأكبره الثورة العامة المدنية فالدموية ( وقد جمعت بينهما الهند ) وآن لهذه
الدول أن تعلم أن هذه الشعوب قد تنبهت أو هبَّت من رقادها وشعرت بآلامها ، فلم تعد
تطيق ما كانت تسام به من إرهاق واستذلال ، فضلاً عما تحاوله هذه الدول من الزيادة
عليه ، وأن تعلم مع هذا أنه يوجد في عقلاء المسلمين من يود الاهتداء بالبحث معها
إلى الاتفاق على معاملة مشتركة تكون خيرًا للإنسانية في ترقيها وتوقيها أسباب
الحروب الساحقة الماحقة ، وحلاًّ للإشكال يكون جامعًا بين
الممكن من مصلحة المستعمَرين ومصلحتها.
وبهذا القصد نشرنا ما نشرنا في مسألة المغرب الإسلامي وما تفعله فرنسة فيه
لتعلم هي وكل من يقرّوه أننا لا نبغي به التشهير بسياستها تشفيًا منها وتحريضًا
على عداوتها ومقاطعة المسلمين لها ، إلا بعد اليأس من إنصافها ، وقد سبق لي
السعي لمثل هذا الجمع بين المصلحتين في معاملتها للسوريين في حديث طويل
ألقيته إلى مسيو روبير دوكيه في بيروت ( إذ قابلني بالنيابة عن الجنرال غورو في
أوائل مارس سنة 1920 ) فقال - بعد المناقشة الطويلة فيه - : إنه رأي يمكن
تنفيذه وليس بخيال ، ولكن يجب درسه وتمحيصه والاتفاق على طريقة تنفيذه بين
الفريقين . ثم حاولت مثل هذا السعي في ( جنيف ) مع مندوب فرنسة في عصبة
الأمم المتحدة موسيو هانوتو الشهير فلم يتح لي ذلك ، وقد فصلت هذا وذاك في
المنار كما يعلم القراء .
ولكن أحرار فرنسة الذين لا يهمهم إلا مصلحتها العامة قلما ينظرون في أمثال
هذه الآراء الحرة ؛ فإن تقاليد وزارة الخارجية الفرنسية السياسية الدينية ( الأكليركية)
والعسكرية أرسخ من تقاليد العجائز في تقاليدهن الدينية والمنزلية ، وقد خرجت
بها عن حد المعقول والمعتاد عند الحكماء والعقلاء الذين يتحرون الاستفادة مما يُنتقد
عليهم . فإن هؤلاء السياسيين إذا رأوا انتقادًا موجهًا إلى دولتهم يدفعونه بغير تأمل
ويعذرون أنفسهم أو يعتذرون عنها بأنه كلام عدو ، وقد يكون كلام صديق أو
ناصح لمصلحة له في النصيحة ، وقد قال الشاعر العربي الحكيم في ذم الأعداء :
عداتي لهم فضل علىّ ومنّة ... فلا أذهبَ الرحمنُ عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ولكن رجال السياسة الاستعمارية في فرنسة لا يحبون اجتناب زلاتهم ، وإن
عرفوها من أنفسهم وأصدقائهم ، وإنما ينكرون ويتأولون كما فعلوا في مسألة البربر .
قد ابتُلي مسلمو الجزائر فتونس فمراكش بالدولة الفرنسية ، فكانت سيرتها
فيهم أشد استبدادًا واستعبادًا وظلمًا من استعمار إنجلترة وهولندة أضعافًا مضاعفة وقد
وجد من عقلاء الشعب الفرنسي ومن عقلاء المسلمين من حاولوا إقناع هذه الدولة
بإنصاف هؤلاء المسلمين ، ولا يزال يوجد في المسلمين من يحب هذا ويريده إن
كانت هذه الدولة تقدر قدره وتريده .
ولكن ، متى تريد وبين يدي أُولي الأمر في عاصمتها عدة مصنفات جديدة قد
عني مصنفوها بإقناعها فيها بأنه لا يمكن خضوع مسلمي إفريقية بالإخلاص لها إلا
إذا ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى أو ملاحدة ، وبأن ردهم عنه ممكن .
فبعضهم يختار فيه إكراههم على النصرانية بالقوة القاهرة كما فعلت إسبانية في
الأندلس ، وبعضهم يختار إكراههم على تربية أولادهم وتعليمهم في المدارس
التبشيرية والإلحادية ما يحول بينهم وبين الإسلام ولغته . وسياسة كبارهم بالشدة
والقهر ، وإفساد أمرائهم وزعمائهم بالاصطناع والتمكين من الشهوات المفسدة
للأخلاق ، والاستعانة بهم على كل ما يريدون من الاستيلاء على ثروة الأمة
وتحويلها عن شريعتها وآدابها .. إلخ .
إن كتاب ( الإسلام في المستملكات الفرنسية ) الذي ألفه الضابط موسيو
( جول سيكار ) أحد الموظفين الفرنسيين في مراكش - يعد معتدلاً بين تلك الكتب التي
تغري فرنسة بإخراج مسلمي إفريقية من دينهم ، ولما انتقدناه في مجلد العام الماضي
تعجب قراء المنار من كنود هذه الدولة التي سفك مغاربة المسلمين دماء مئات
الألوف منهم في الدفاع عنها ثم يجدونها تعدهم أعداءً غير مخلصين لها في الباطن ،
وتحاول إهلاكهم في الآخرة بالكفر والإلحاد ، كما أهلكتهم في الدنيا بالفقر والإذلال ،
فكيف لو قرأ هؤلاء تلك الكتب التي تحضها على حرمانهم من كل علم نافع
وإكراههم على ترك دينهم بالقوة كما فعلت إسبانية بسلفهم من مسلمي الأندلس ؟
عثرت صحيفة الفتح أخيرًا على نسخة من كتاب ( السياسة الصريحة )
للضابط الفرنسي الكابتن أدينو وقد ترجم وطبع بالعربية سنة 1347 هـ ، فلم تلبث
حكومة الاستعمار أن جمعت نسخه ومنعت نشره ؛ لأنه صرح فيه بسياستها السرية
لاعتقاده أنه أنفع لها من الرياء الذي تحاول إخفاءها به ، وهو لا بد أن يشف أو
يتمزق فتظهر الحقيقة في وقت غير ملائم .
وقد نشرت الفتح الغراء منه جملاً نختار منها الآن ما نصه :
( أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع
الحوادث السياسية أم لا ؟ بلى ، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون
لهم كافيًا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد . هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم
مبادئ قوانينها بالمغرب ، وذلك أننا كثيرًا ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدن
أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها
وتوافق فكرة المسلمين . وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم
أمر يضيِّق لنا الفضاء الرحب المعد هنا لفرنسة .
لا ؛ لا نسعى في هذا الأمر أبدًا ، وإذا فعلنا وبالغْنا في تعليمهم فإنما نحن
جالبون على أنفسنا خطرًا عظيمًا يقف بوجه مهمتنا هنا .
الإسلام تهديد لفرنسة وخطر عظيم على نفسها ؛ لأنه لو انحاز المسلمون عن
جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا .
أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي
تود صعودًا وانتشارًا ؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يومًا ما على
كلمة واحدة واتفاقهم عليها .
إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدم كلمتي ، وهي أن لا يسعوا في
تحديد شوكة ( إرهاف حربة ) يصابون بها يومًا ما ، ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما
عثرت قط في التواريخ على أن فرنسة حاربت إنجلترا لتمنعها من هدم
مستعمراتها [1] وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة
وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا عليه ؛ لأن وجودنا بأرض
المغرب هو معلوم لقصد فائدتنا الشخصية من أرضه ، وإذا كانت الفائدة هي التي
تقود زمام أمة فكل شيء لديها مباح والحرب أكبر دليل عليه .
وما هي أيضًا حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى لأمر ليس هو بالهين ، في
جلب عاقبة ليست بمحمودة النتيجة ، أو عملنا لمنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود ،
أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم . وبعبارة أخرى أقول : إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله
في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها .
قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام : إن تعجب من بقاء بلاد الجزائر
تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [2] وصدقًا قال .
وإني لآتي هنا بمقال الأب فوكول تأييدًا للفكر ، قال :
لا يكون لكم المغرب ملكًا ما دام فيه المسلمون !
أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالمًا بأن المسلمين سيطلعون على مقالي هذا
ما غيرت من لهجته ! [3]
ماذا يطلب منا المسلمون ؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أن نخبرهم بكل صدق
وحقيقة ليتخذوا احتياطاتهم . وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة المموّهة الخادعة
الكذابة التي لا تريد أن تُغضب أحدًا من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع
الناس ، وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرها لا تحترم أحدًا .
خلاف هذه الفكرة أبغي ، أود أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة
فنصرح لهم : هل بودنا أن ندعهم سائرين على إثرنا عفوًا من أنفسهم ؟ أم
سنرغمهم عليه قوة منا ؟ لا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع
حالة الإسلام .
لماذا نقاسم المسلمين الجزائريين حقوقنا ؟ ونحمي المغاربة حماية ، على
حين نقف مع الأمة التركية قرنًا تجاه قرن وهم منتمون إلى دين واحد ؟ [4] .
إذا تولت أمة مقاليد أمة ثانية - ولو ضعيفة - فإنه لابد من وقوع امتزاج
واندماج فيما بين الفريقين . وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن أن تندمج في الإسلام كما
أن الإسلام لا يقبل منها شيئًا خارجًا عن تقاليده ، ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون
المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما عليه البروتستانتيون والإسرائيليون اليوم ،
وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنبًا لجنب [5] .
أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معًا ، وكل منهما على
ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة . وقد تدوم هذه الحالة إذا
أيدتها القوة ، والقوة أمر لابد من اضمحلاله ، وستحتاج فرنسة يومًا ما إلى جنود
للمدافعة عنها فماذا يكون عملها يومئذ ؟ لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب منذ اليوم ؟
لكن بقي علينا أن نقول : هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين
ونجلبها لجانبنا ؟ . اهـ .
( المنار )
نشكر لهذا الكاتب صدقه وصراحته اللتين يقل مثلهما في قومه ، وهو لم يُجِب
عن سؤاله الأخير ؛ لأن الاستفهام فيه إنكاري لا حقيقي ، يريد أنه لا سبيل إلى ذلك .
ونحن نقول : إن هذا في الإمكان إذا كانت فرنسة تترك غرور الضباط وإغواء
الأب فوكول وأمثاله من الآباء في سياستها الصليبية ، كما تركته في إدارتها
وسياستها الداخلية ، وتتبع سياسة الحق والعدل والإنسانية ، أو ما جعلته شعارها رياءً
وخداعًا وهو ( العدل والمساواة والحرية ) ، بأن تترك لهم حريتهم الدينية والأدبية
والاجتماعية ، وتساعدهم على عمران البلاد بترقية الزراعة والصناعة والتجارة
بنظام يكفل لها الربح العظيم والثروة الواسعة ، وتعقد معهم محالفة عسكرية توجب
عليهم إمدادها بالجند والمال إذا هي اصطلت نار حرب لم تكن فيها معتدية كما
يوجبه عهد عصبة الأمم ، والمسلمون أشد أهل الملل وفاءً وصدقًا ، وإذا كانوا قد
استبسلوا في دفاعهم عنها في الحرب الأخيرة على شدة إساءتها إليهم في دينهم
ودنياهم فكيف يكون شأنهم معها إذا هي أحسنت إليهم إحسانًا حقيقيًّا لا يرتابون
فيه ؟ ! وأما الذين يضربون لها المثل بخروج الهنديين والمصريين على إنجلترة
مع إحسانها في معاملتهم فهم خادعون ؛ فإن إنجلترة لم تكن محسنة لهؤلاء بل مسيئة ،
وقصارى الأمر أن إساءتها إليهم دون إساءة فرنسة لمسلمي إفريقية ، وأما الإحسان
الحقيقي فلا يكفره المسلم وهو يؤمن بقول الله تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ
الإِحْسَانُ } ( الرحمن : 60 ) .
ثم نذكِّره بأن أهل أمريكة قد أخرجوا الإنجليز من بلادهم بالقوة الحربية وهم
متحدون معهم في اللغة والدين والمذهب وكذا في الجنس الغالب .
إن هذا الضابط يهدد مسلمي المغرب بقوة دولته العسكرية القاهرة التي لا
يعقل في العالم غيرها ، ولكن الأمم إذا عرفت نفسها وشعرت بوحدتها تعذرت
سياستها وإدارتها بالقوة العسكرية ، وما القوة إلا تهاويل وأراجيف من الوهم تزول
بأول ثورة ( تبدأ ) بها الأمة على المقاومة كما وقع في بلاد كثيرة وظهرت بوادره
في المغرب الأقصى وكذلك إخضاع المستعمرين للشعوب بالتماثيل الآلية التي
ينصبونها لها باسم سلطان أو ملك أو أمير أو باي أو رئيس ، ومن يستخدمونه بأسمائها
من وزير ومدير ومفتٍ وغير ذلك ، قد آن لزمنه أن يولي مشيَّعًا باللعن
ولرجاله أن يُنبذوا مَوسومين بالخيانة .
__________
(1) ينبه هذا الفرنسي قومه إلى اجتناب كل ما يقوي شوكة المسلمين من علوم إسلامية أو أوربية ، ويقول : إننا إذا اضطهدنا المغرب لا نخشى أن تعارضنا دولة أخرى كالإنجليز ؛ لأننا لم يسبق لنا في التاريخ محاربة الإنكليز عندما يهدمون مستعمراتهم اهـ والمنار يذكِّره بأن إنكلترة طردت فرنسة من الهند ثم من مصر وحاربتها لأجل الاستعمار وأذلتها باعتقال أعظم إمبراطور سياسي حربي تولى أمرها وهو نابليون الأول ، ثم يذكره بتحرش ألمانية بفرنسة في أغادير ، ويذكره أخيرًا بأن الحرب العامة لم يكن سببها إلا التنازع على الاستعمار ، وبأن فرنسة إذا هوجمت مرة أخرى فلن تجد من أسباب الدفاع عنها بعض ما وجدته فيها من مستعمراتها ومن أمم الأرض حتى الولايات المتحدة ! ! .
(2) يريد الجيل الذي كان يعرف ذكريات جهاد الأمير عبد القادر ، وكان في قلوبه رجاء باستئناف الجهاد اهـ . ويستدرك المنار على هذا بأن الجيل الآتي في جميع إفريقية سيحارب فرنسة بنظام علمي أوربي يكون أقوى من حرب ذلك الجيل بالسلاح إذا هي أصرت على ظلمها وسياستها الحاضرة ، فهل تطمع في سوق مليون جندي منه إلى أوربة لقتال ألمانية أو إيطالية ؟ ! كلا ثم كلا .
(3) المنار : نشكر له هذا التصريح ونصارحه بأن فرنسة تعجز عن إبادة المسلمين من المغرب ، إن فرضنا أنها تجد من يعمره لها من غيرهم ، وهي عن إخراجهم من الإسلام أعجز ، وإن إخراجهم منه - إن أمكن ؛ ولو إلى النصرانية - يكون أشد خطرًا عليها ما دامت مصرة على أثرتها وظلمها ؛ لأنهم يجدون من مساعدة دول النصرانية حينئذ عليها ما لا يجدون اليوم ولا سيما أمثال الأب فوكول خليفة الأب بطرس الناسك .
(4) يتساءل هذا السياسي الفرنسي : كيف يجوز أن تتبع فرنسة سياسة صليبية مع تركيا في القرون الماضية كلها لأنها كانت دولة مسلمة، ثم يعترفون للجزائريين بحقوق ولأهل المغرب الأقصى بحماية مع أن الجميع أبناء دين واحد ؟ ! .
(5) المنار : والمسلمون يصارحونه بأنه لا جنسية لهم في غير دينهم ، فهم لا يقبلون الجنسية الفرنسية لأنها تخرجهم منه فيخسرون الآخرة مع الدنيا ؛ لأن فرنسة لا تساويهم بأبناء جلدتها الأوروبيين في كل شيء وإن تجنسوا بجنسيتها كما عُلم بالتجربة .
(31/219)
الكاتب : الطلبة المغاربة بباريس
__________
كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلام
في المغرب الأقصى ؟!

( جاءتنا هذه الرسالة الممتعة من جماعة شبان المغرب في باريس وكان قد
تم تحرير هذا الجزء من المنار وجمع حروفه فأخرنا طبع آخره وتصديره ونشرناها
فيه لجمعها للحقائق في المسألة التي نحن بصددها ، ولا سيما بيان هؤلاء الشبان
لمطالب مسلمي المغرب من حكومة بلادهم التي لا يرضون بدونها . وهذا نصها ) :
استغربنا ما كتبته جريدة ( الأهرام ) في أحد أعدادها من تكذيبها ما تسعى إليه
فرنسة من هدم الديانة الإسلامية في المغرب الأقصى . وحجة الأهرام في ذلك أن
علماء المغرب الأقصى أكبر علماء الإسلام ، ولا ندري أتريد بذلك تهكمًا مقصودًا ؟
أم هي تنطق بلسان الحق ؟
ثم حجتها الأخرى هي كون فرنسة الدولة اللادينية الوحيدة في أوربة ، كأنها
تجهل كلمة غامبتا : ( إن اللادينية بِضاعة لا تصدر إلى خارج فرنسة ) . وكأنه
غاب عن الأهرام أن فرنسة سمحت منذ ثلاثة أشهر للمؤتمر الأفخارستي الذي ينظر
في مسائل التبشير بأن يعقد في تونس ، واشتركت في المؤتمر رسميًّا يمثلها مندوبها
السامي في تونس الذي حضر في جلسات ذلك المؤتمر ، ومنحت مليونين من أموال
المسلمين لأعضائه ، وسمحت لأبناء المدارس الفرنسيين في تونس أن يتجولوا في
الشوارع مُرْتدين لباس الصليبيين الذين أتوا فيما مضى لفتح تونس مع القديس
لويس ! ! فهل تستطيع الأهرام أن تصف فرنسة بأنها ( لا دينية ) ؟ ! [1] .
أما قضية المغرب الكبرى التي تقيم اليوم العالم الإسلامي وتقعده - نعني
القضية البربرية - فهي ليست بنت اليوم ، بل خاض فيها من قبل كثير من الساسة
والكتاب الفرنسيين ، بل الموظفين في الحكومة المغربية ، نخص بالذكر منهم
لوجلي في كتابه ( فرنسا وتعليم البربر ) ومارتجافي في كتابه ( مغرب البربر)
وسيكار في كتابه ( الإسلام في الممتلكات الفرنسية ) وأزار في مقالاته العديدة ،
وسوردون في كتبه عن ( عوائد البربر ) ولويس برينو في أبحاثه عن ( مسألة
التعليم في المغرب ) ونزيد عليهم عضو الأكاديمية الفرنسية الكبرى لويس برطران
في كثير من كتبه وعلى رأسها كتابه ( أمام الإسلام ) الذي نال فيه من كرامة مصر
وسب فيه إخواننا المصريين سبًّا بذيئًا .
اتفق رأي هؤلاء كلهم - ووراءهم جيش عظيم من القسيسين والمبشرين -
على أن إسلام البربر المغاربة إنما هو إسلام سطحي ، وأنه لا سلطة له على
أرواحهم ، وأنهم أعداء ألداء للعرب والشريعة الإسلامية ، وأن ذكريات النصرانية
لا تزال حية في نفوسهم ، وأنهم لا يزالون يذكرون الحكم الروماني وسيادة القياصرة ،
وأن عصيان البربر في العصر الأخير لملوك المغرب ليس له من سبب إلا
تخوُّفهم من سلطة الشريعة الإسلامية .
ولا يخفى ما في هذه النظرية السيئة السريرة من كذب وبهتان وتحامل بعثته
أهواء دينية تتعصب للمسيحية تعصبًا شنيعًا . كأن أصحابها يرون أن تاريخ
المغرب ينحصر في ولاية السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحفيظ ، التي كانت
مضطربة أشد الاضطراب [2] . وينسون أو يتناسون أيام المغرب الزاهرة تحت
دول البربر ، كالمرابطين والموحدين . فهاتان الدولتان العظيمتان لم تكتفيا بتعضيد
الإسلام ونشر شريعته في المغرب فقط ، بل ذهبتا لنشره وتعضيده في إسبانية
والسنغال وإفريقية الشمالية كلها ، ويتناسون أيضًا أن الدولة المرينية هي التي
شيدت أجمل مدارس العلم وأفخمها في فاس ومكناس ومراكش وغيرها ، وكذلك
القصور البديعة التي يندهش السياح أمامها اليوم ، فلماذا لم تقضِ هذه الدول
البربرية - بما كان لها من السلطة والحرية - على الشريعة الإسلامية إذا كان
البربر يبغضونها ويخشون سلطتها ؟ . بل إن أولئك الفرنسيين المتبعين للهوى
المتعبدين للغرض تناسوا ولاية المولى إسماعيل إذ كان المغرب موحدًا توحيدًا تامًّا ،
وتناسوا ولاية المولى الحسن على قرب عهد الناس بها ، ولكن هي الأغراض تعمي
وتصم ، ولو أردنا أن نقيم الأدلة التاريخية على إسلام البربر وإخلاصهم للشريعة
المحمدية لما وسعها المقام في هذا الرد الموجز .
وقد اقترح أصحاب هذه النظرية الموظفون في الحكومة المغربية عدة
اقتراحات عملية - بناءً على نظريتهم الفاسدة - من شأنها أن تبعد البربر من
العرب والإسلام ، وتبعثهم على الإخلاص لفرنسة والاندماج فيها وترجعهم إلى
المسيحية (دين أجدادهم قبل الإسلام ! ! ) [3] وهنا نلخص مقترحاتهم فيما يلي :
( 1 ) يجب على فرنسة أن تبعد العربي عن البربري ما أمكن .
( 2 ) يجب أن تُفتح مدارس فرنسية بربرية يحظر فيها تعليم الإسلام
والعربية .
( 3 ) تُغلق الكتاتيب القرآنية في القبائل البربرية وتُعرقل على رؤساء
الطرق الصوفية والوعاظ المسلمين وسائل الوصول إلى هذه القبائل .
( 4 ) تشجيع التبشير في القبائل ومنح إعانات مهمة للجمعيات التبشيرية
والسعي في تسهيل أعمالها .
وآخر ما وصل إليه تفكير هؤلاء المقترحين اقتراح تأسيس محاكم عرفية لا
يحكم فيها قضاة الإسلام ولا تطبق فيها الشريعة الإسلامية وإنما تعتمد على عادات
تكونت عند البربر مدة ثورتهم على السلطان وخروجهم عن أحكامه ، مع قوانين
فرنسية أحدثت في المغرب لمصلحة الاستعمار ، ولهذا تتكون إدارة تسمى ( إدارة
العدلية البربرية ) تقابل ( وزارة الحقانية الإسلامية ) وبهذا تستطيع فرنسة أن تبعد
الإسلام من قبائل البربر الإبعاد الأخير .
ماذا كان موقف الحكومة الفرنسية إزاء هذه المقترحات ؟ !
الواقع أنها في أول الأمر لم يكن لها موقف واضح ، بل إن المارشال ليوطي -
المقيم العام سابقًا - كان يحبذ في كثير من الأحيان تعريب البربر ، ثم جاء بعده
(ستيغ ) فاستغوته النظرية البربرية ففتح مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها البربر كل
شيء - كما قال ( لوجلي ) - إلا اللغة العربية والإسلام ، وصارت لغة البربر تُكتب
فيها بالحروف اللاتينية بعد ما كانت تكتب بالحروف العربية ، ومن المعلوم أن
المسيو ( ستيغ ) بروتستنتي متعصب لمذهبه ، فأجاب طلبات المبشرين
البروتستانتيين ، واضطر أن يعين معهم الجمعيات الكاثوليكية ، ودخل بهذا العمل
برنامج البربر في طور التنفيذ ، وصار المراقبون الفرنسيون في القبائل البربرية
يمنعون تأسيس المساجد ، ويعينون على إقامة الكنائس في عقر تلك القبائل التي
لا يوجد فيها مسيحي واحد ، ومنع فعلاً تجول رؤساء الطرق الصوفية في تلك
النواحي ، وأبعد منها أصحاب الكتاتيب القرآنية ، وجُعلت للعرب - سكان المدن
وبعض القبائل - جوازات خاصة لا يتمكنون من السفر إلى القبائل البربرية إلا بعد
الحصول عليها بعد جهد جهيد ومشقة عظيمة ، وظلت حكومة فرنسة جادة في عملها
وتنفيذ خطتها ضد الإسلام مجردة من كل عاطفة سامية أو شعور شريف .
وكان المغاربة يعلمون نيتها ويلاحظون أعمالها متألمين من ذلك أشد الألم ،
غير أن عقلاءهم مطمئنون لاعتقادهم أن البربر سيظلون معتصمين بدينهم ، وأن
علاقاتهم بإخوانهم العرب لا يمكن انفصامها ، بل ستجعلهم يستعربون حتمًا ؛ لأن
البربري لا يرى في العربي عدوًّا مبينًا - كما يدعي الفرنسيون - بل يرى فيه أخًا
مخلصًا في الوطنية والدين . يعيش كما يعيش ويفكر كما يفكر . ويُضطهد كما
يضطهد . ويشتركان في عداوة عدو واحد . وهؤلاء العقلاء لا يسلِّمون أن فرنسة
ستعزل البربر بنوع من العزل بل يرون أن البرابرة لا يمكنهم الإخلاص لفرنسة
ما دامت لا بد من أن تفقرهم وتجردهم من كل ما يملكونه من ثروة وأرض ومال ،
وأن تعاملهم بأشد أنواع القساوة والطغيان .
عندما رأت الحكومة الفرنسية أنها أمكنها تنفيذ الفكرة السابقة بدون أن تلقى
معارضة قوية من المغاربة ظنت أن الوقت مناسب لتنفيذ آخر اقتراح وصل إليه
المشتغلون بالقضية البربرية من الفرنسيين ليكون ( مسك الختام ) في هذه القضية ،
فأعلنت باسم السلطان المعظم أمرًا عاليًا ( ظهير شريف ) يقال إنه وُقع بطرق غير
مشروعة ، يقضي منطوقًا ومفهومًا بعزل البربر - أكثرية البلاد الساحقة - عن بقية
إخوانهم المسلمين ، وتجريدهم رسميًّا من شريعة القرآن . وبذلك يهدم في هذه البلاد
أعظم شطر من الإسلام وهو الشطر التشريعي الاجتماعي على حين يكفل سعي
المبشرين هدم الشطر الآخر ( وهو الروحي الاعتقادي ) ولا يخفى ما في هذا
( الظهير ) من العدوان على الشعب المغربي المسلم ، والمس بسيادة السلطان التي
تحميها العهود الدولية ، وعهد الحماية الذي عقده المولى عبد الحفيظ بنفسه ،
وأصدرت الإقامة العامة ( دار المندوب السامي ) بهذه المناسبة قرارًا للصحف
الاستعمارية في المغرب تهنئ فيه نفسها بهذا النجاح العظيم ووصولها إلى إنقاذ
البربر من قانون الإسلام !
هياج المغاربة على فرنسة
لأجل البربر ومقاومتهم بالقوة
شاع هذا الخبر السيئ في طول البلاد وعرضها وعم الاستياء في جميع
نواحي المغرب ، لا فرق بين المدن والقبائل ، أما في المدن فأخذ الناس يتجمهرون
في المساجد يتلون صيغة مخصوصة يرددونها جماعات بأصوات مرتفعة : أنهم لا
يرضون أبدًا ( أن يفرق بينهم وبين إخوانهم البربر ) واتخذ الناس من أوقات صلاة
الجماعة فرصة للقيام بإعلان الاحتجاج والسخط العظيم ضد مشروع التمسيح
(التنصير ) الفرنسي الذي يريد أن يكتسح الإسلام من قلوب المغاربة المسلمين [4]
فأمر ولاة الأمور الفرنسيون أن تُقفل تلك المساجد التي { أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ } ( النور : 36 ) وفعلاً أقفلت في مراكش وألقي القبض على ثلاثين
شخصًا في مدينة الدار البيضاء وزجوا في السجون ، وعزل مؤذن وإمام مسجد في
مدينة تطوان لسماحهما للمسلمين بالاجتماع في المسجد وقراءة صيغة الاحتجاج .
والحركة في الرباط وفاس وسلا كانت أقوى وأهم ، فقد وقع اجتماع كبير احتشد
فيه ما ينيف على 7000 شخص وألقيت فيه خطب تبين خطر الموقف الحاضر ،
ولم يمض وقت يسير حتى زجّ من كان يخطب في السجن مع المجرمين .
ووقع في فاس أعظم اجتماع من أجل هذه القضية ، انعقد في كلية القرويين
( الجامعة الإسلامية الوحيدة في المغرب ) وخطب في ذلك الجمع الحاشد خطيب بيّن
المصيبة الكبرى ونتائجها الوخيمة على مستقبل الإسلام . وبعد ذلك خرجت تلك
الجموع متجمهرة تتضرع إلى الله تعالى وتوجهت إلى المشهد الإدريسي ضريح
مولاي إدريس ، حيث ألقيت الخطب الحماسية على الشعب وتليت آي الذكر الحكيم ،
ومن هنالك خرج الجمهور متوجهًا لبيت شيخ الإسلام يطلب رأيه وموقفه في هذه
المسألة الكبرى . وكانوا في طريقهم يرفعون أصواتهم هاتفين : ( تحيا شريعة
الإسلام تحت راية الإمام ) وعندما وصلوا إلى دار الشيخ رجعوا متوجهين إلى بيت
حاكم المدينة ( باشا فاس ) وبلغهم وهم في الطريق أن أحد الخطباء ألقي القبض
عليه ، ولما انتهوا إلى بيت هذا الحاكم ومحكمته أمرهم أن يعينوا من بينهم وفدًا
خاصًّا يتقدم إليه ، وأمر المتظاهرين أن يتفرقوا فأبوا ، فأمر عساكره أن يستعملوا
العصي في تفريقهم ، وأما الوفد فقد قابله الحاكم بالسب والإهانة ، وأمر بجلد أفراده
مئات من الأسواط ، وكل ذلك بمحضر المندوب الفرنسي في المحكمة وبأمره
الخاص ، مع أن أعضاء هذا الوفد كلهم من الأشراف والأعيان والتجار والمفكرين .
ثم أمر بإلقاء القبض على آخرين حتى بلغ عدد المقبوض عليهم ما فوق الخمسين
ودون المائة ، ألقوا جميعهم في غيابات السجون ، وكان هذا التصرف المرهق من
أهم الأسباب لاشتداد الحركة وارتفاع مقياس الحرارة ، وصار الناس يعلنون أن
السلطان - الذي باسمه صدر هذا الأمر - قد خالف شروط البيعة التي كان على
رأسها : ( احترام الكتاب والسنة ومناصرة الإسلام ) وأصبح مسؤولاً عن هذه
المخالفة ( وقالوا ) إن البيعة التي قُدمت للسلطان هي باسم الشعب المغربي كله لا
فرق بين العرب والبربر ، فمن الواجب على السلطان إذن أن يطبق شريعة الإسلام
في القبائل البربرية كما يجب أن يطبقها على الآخرين ولو بالجبر ما داموا يعترفون
بالإسلام دينًا ، على أن البربر يطالبون أن يحكم بينهم بالشريعة الإسلامية دون
غيرها ، ولم يعلنوا في يوم من الأيام نفورهم من أحكام الإسلام .
وقد أثارت هذه الحادثة في نفوس المغاربة ذكرى مصيبة الأندلس ، فإن عدو
الإسلام عندما دخل غرناطة تعهد أن يحترم الإسلام والمسلمين ، ولما استقر له
الأمر كان أول ما قام به هو القضاء على الإسلام . وأصبحوا يحدثون أنفسهم بأنه
إذا كانت أغلبية سكان المغاربة من البربر الذين يراد إجبارهم على مفارقة إخوانهم
المسلمين فسيصبح العرب أقلية ضئيلة في هذه البلاد ، ولا يبعد أن تجبرهم فرنسة
يومًا ما على اتباع هذه القوانين التي وضعتها للبربر ، والتي تجبر المغاربة جميعًا
على قبولها اليوم .
مخاطبة الوفود للسلطان
في مسألة البربر
وأما جلالة السلطان فقد كان مصطافًا في فرنسة عندما كانت هذه الحوادث
الكبرى تمثل في المغرب ، وكان للبلاد أمل عظيم في أوبته ، وبمجرد قدومه أعدت
وفود عظيمة فيها أكابر العلماء والأشراف والأعيان تألفت في فاس والرباط وسلا ،
واتفقت جميع الوفود على مطالب واحدة تقدم باسم ( الشعب المغربي المسلم ) وكل
مادة منها هي سعي إلى استرجاع حقوق ضيعها على المغاربة ولاة فرنسة في
المغرب ، وقد كان على رأس الوفد الفاسي أحد علماء المغرب المشاهير وأحد كبار
الهيئة العلمية في كلية القرويين الشريف السيد عبد الرحمن بن القرشي وزير
الحقانية سابقًا . وعندما تشرف بمقابلة جلالة السلطان خطب خطبة ضافية بصفته
رئيسًا للوفد ، وبيَّن فيها ما كان للبربر من سوابق عظيمة في إعلاء كلمة الإسلام ،
والتضحية في سبيل إعزازه ، وبين أن الحكم بينهم كان بالشريعة الإسلامية في كل
أدوار التاريخ ، مستندًا في ذلك إلى حجج تاريخية مقنعة . فأجابه جلالة السلطان :
(إنه سيتأمل في الأمر وينظر في المسألة ) وبمجرد ما شاع هذا الرد ورجع الوفد
إلى فاس من غير نتيجة معينة - هاج الشعب هيجانًا عظيمًا ، وأقفلت الأسواق ،
ووقعت مظاهرات كبرى ، واصطدم البوليس مع الجمهور ، وسقط كثير في الطرقات
والشوارع .
وعلى إثر ذلك ألقي القبض على رئيس الوفد ( ابن القرشي ) وزير الحقانية
فيما قيل . وعلى رئيس الغرفة التجارية ( ابن عبد السلام الحلو ) أحد أعضاء الوفد
الكبار ، وظلت الحكومة تقبض وتسجن إلى أن بلغ عدد المسجونين بهذه المناسبة
نحو مائة وخمسين شخصًا ، كلهم من خاصة الأمة وأعيانها . وبعد أن أودعتهم في
سجن فاس رأت أنهم يستحقون أن يكونوا في سجن آخر فيه من أنواع العذاب ما
ليس في سجن فاس ! فنقلتهم إلى سجن تازة العسكري وحكمت عليهم بالسجن إلى
أجل غير مسمى . وقد أشارت حتى الجرائد الفرنسية في باريس إلى هذه الحادثة
الأخيرة وذكرت بعض أسماء المسجونين .
هياج البربر وإعلانهم
الاعتصام بالإسلام
أما القبائل البربرية نفسها فلا تسأل عما قامت به من الهيجان العظيم ، بل قد
أقامت المناحات في كل جهة إظهارًا لاستيائها العظيم مما يراد بها ، وتجمعت قبائل
كثيرة حول المحاكم التي أقامتها فرنسة هناك وأعلنت للولاة الفرنسيين أنها على
الإسلام تحيا وعليه تموت ، ولم تكتفِ بذلك بل أرسلت وفودًا إلى جلالة السلطان
تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين ،
وبينما جلالته يعدهم بإرسال القضاة الشرعيين إذا بولاة فرنسة يسجنون جميع
الأفراد التي جاءت موفدة ، ولا يكتفون بذلك بل يجبرون المديرين لتلك القبائل من
المسلمين ( العمال ) على توقيع رسائل مضمومها شكر فرنسة والامتنان لها من هذا
العمل المجيد ، ونحن نعرف أفرادًا من هؤلاء امتنعوا من التوقيع على مثل هذه
الرسائل فكان عقابهم أن يسجنوا في بيوت الأدب ( الكنف ) وأن تسلَّط الأيدي
الفرنسية على وجوههم بالضرب واللطم حتى دميت تلك الوجوه .
وهنا نجد الفرصة سانحة لعرض مطالب الشعب المغربي التي قدمتها وفود
البلاد بصيغة واحدة وهي وحدها كافية في إطلاع إخواننا من أبنا الشرق على مظالم
فرنسة وعدوانها على الإسلام في المغرب ، ففي كل مطلب احتجاج صارخ على
عمل قامت به فرنسة ضد ذلك المطلب ، ولا يعقل أن يتجه شعب كامل إلى مطالب
بعينها وهو حاصل عليها ، وإنما يطلب ما كان مفقودًا ولا نتيجة رغبة شعب بأسره
إلى هذه الناحية بخصوصها إلا بعد ما رأى أن كيانه ضائع ، وأن حياته آيلة إلى
الفناء وهي هذه :
مطالب الشعب المغربي المسلم
1- احترام نفوذ جلالة السلطان بالإيالة الشريفة وتثبيت سلطته الدينية
والدنيوية ، وذلك بجعْل سائر الولاة المخزنيين ( ولاة الدولة ) من قضاة وقواد
وباشاوات ومحتسبين ونظار وأمناء الأملاك مسئولين أمام الحكومة الشريفة ( لا أمام
غيرها من الموظفين الأجانب ) .
2- إصدار ظهير شريف بجعل سكان سائر الحواضر والبوادي خاضعين
لحكم الشريعة الإسلامية .
3- تنظيم المحاكم الشريفية وإصلاحها وتولية الأَكْفَاء فيها ، سواء محاكم
القضاة أو محاكم الباشاوات والقواد والمحتسبين وتعميمها في سائر القطر المغربي لا
فرق في ذلك بين حواضره وبواديه .
4- توحيد برامج التعليم في جميع المدارس والتي تؤسس لتعليم الوطنيين في
المدن أو في القبائل ، وتعميم اللغة العربية التي هي لغة القرآن ، وتعميم التعليم
الديني الإسلامي في كل هذه المدارس .
5- احترام اللغة العربية - لغة البلاد الدينية والرسمية - في جميع
الإدارات بالإيالة الشريفة ، وكذلك في سائر المحاكم وعدم إعطاء أي لهجة من
اللهجات البربرية أي صبغة رسمية ، ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية .
6- إيقاف حركة المبشرين على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم ، ومنعهم من
التجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها ، وعدم السماح لهم بنشر أي
شيء يمس كرامة الإسلام وكرامة النبي صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع
النشر .
7- عدم منح أي إعانة من ميزانية الدولة الشريفية أو إعطاء أي ملك من
أملاك المخزن الشريف للجمعيات التبشيرية ، وللساعين في تشييد الكنائس وأندية
التبشير في أطراف البلاد المغربية .
8- عدم السماح للمبشرين بإحداث ملاجئ للأيتام وللقطاء المسلمين وإحداث
مدارس صناعية وعلمية ( كما يسمونها ) للبنين والبنات ، والإنفاق على ذلك من
المال المعد للمصالح العامة من أموال جماعة المسلمين ( كما هو مقرر في الشريعة
الإسلامية ) أما ما سبق تأسيسه من هذا النوع فإما أن تقوم به الحكومة الشريفية وإما
أن يُقفل ، وعلى كل حال لا ينبغي أن يبقى تحت نفوذ المبشرين .
9- لا يعيَّن الرهبان والمبشرون مدرسين في مدارس الحكومة الشريفية أو
قائمين بإدارتها .
10- عدم التعرض لفقهاء المكاتب والمشارطين لتعليم ( اللغة العربية والقرآن
الكريم بالقبائل ) وإعطاء الحرية للوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية للتجول
في الأنحاء المغربية بقصد تعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره .
11- إسقاط جوازات التنقل بداخل الإيالة المغربية ( وخصوصًا فيما بين
المدن والقبائل البربرية ) والاكتفاء بورقة التعريف الشخصية حتى لا يظل
الحضري بعيدًا عن أخيه البدوي ، ويتعذر بذلك التفقه في الدين .
12- اعتبار جميع السكان الموجودين بالبلاد المغربية - ما عدا الأجانب -
تحت رعاية مولانا السلطان وسلطته ، خاضعين للمحاكم الشرعية والمخزنية التي
تؤسس باسمه الشريف ، وكذلك اعتبار جميع المغاربة مسلمين ، ما عدا يهود
المغرب ؛ بمعنى أنه لا توجد ملة ثالثة معترف بها للمغاربة الوطنيين .
13- منح العفو العام عن جميع المسجونين والمنفيين في هذه القضية البربرية
وعدم التعرض بسوء لكل من خاض فيها .
وبعد : فهذه هي مطالب الشعب المغربي التي يتعذب من أجلها عدد كبير من
عظمائه وشيوخه وشبانه في غيابات السجون . وهذا هو الملخص البسيط الذي
نقدمه لإخواننا الشرقيين عن حركة المغرب الكبرى التي تثير شعور العالم الإسلامي
أجمع ، وعلى رأسه الأمة المصرية الكريمة ، وجامعة الأزهر الشريف معقل
الإسلام وحصنه الحصين ، والجمعيات الإسلامية المخلصة في مصر .
فهل لمفوضية فرنسة في مصر أن تكذب هذه الحوادث التي ذكرناها تكذيبًا
صريحًا ؟ !
وهل لها أن تقول : إن فرنسة لا تأخذ من مالية المسلمين المغاربة ومن أحباسهم
( أوقافهم ) الإسلامية إعانة مهمة للجمعيات التبشيرية التي تنشرها في كل أنحاء
المغرب ؟
وهل تستطيع أن تنفي أنَّ عددًا من المراقبين الفرنسيين على رأسهم المراقب
المدني في قبيلة زمور منع البربر من بناء مسجدهم الإسلامي وأعان المبشرين على
إقامة الكنيسة هنالك بدل المسجد ؟
وهل لها أن تكذِّب أن هذا المراقب نفسه ومراقب قبيلة بني نطير ( إحدى
القبائل البربرية ) خطبا في دائرتي نفوذهما قائلين : ( إن العرب إنما هم غزاة
غرباء ، وإن فرنسة إنما أتت للمغرب رغبة في إنقاذ الشعب البربري من العرب
وشريعتهم وسلطتهم ؟ )
وهل لها أن تقول : إنه لا يوجد في القبائل البربرية مدارس فرنسية تجبر
البرابرة على تسليم أولادهم إليها جبرًا وهي خالية من الإسلام ومن العربية ؛ بل فيها
تبغيض الإسلام للبربر والتنفير من العرب ؟
فما قول جريدة الأهرام المحترمة ومِن ورائها مفوضية فرنسة ؟
هل تقول بعد هذا : إن ما يُنسب إلى فرنسة لا يمكن يعتقده إلا البسطاء
السذج ؛ في معرض ردّها على جمعية الشبان المسلمين التي تعرف الحقيقة
وتساعد على نشرها لا تبغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا ؟ اللهم إن الحقائق
واضحة لا يمكن أن ينكرها إلا مَن في قلبه مرض ، أو في صدره غرض .
وأخيرًا نتقدم باسم الشعب المغربي إلى الأمة المصرية الكريمة وعلى رأسها
رجال الأزهر الشريف والمشتغلون بمسائل التدين والإسلام وقادة التفكير في مصر
شاكرين مغتبطين على مشاركتنا الفعلية لنا في أحزاننا واحتجاجاتنا ضد الحكومة
الفرنسية العاتية .
ونود أن يظل الرأي العام المصري واقفًا على الحقيقة الواقعة في المغرب
اليوم ، وأن يناصر الأمة المغربية المسكينة في موقفها الجدي ضد فرنسة التي
اعتدت على دينها ووحدتها ، كما اعتدت على جميع حرياتها ، فليس هنالك أكذب
من ظالم ولا أصدق من مظلوم .
ونتقدم إلى إخواننا من أبناء الشرق الإسلامي وأممه راجين منهم أن يعينونا
على نشر هذه الحقائق بين أممهم وأن يساعدونا على رفع احتجاجاتنا الصارخة إلى
العالم شرقيه وغربيه وأن يناصرونا ضد طغيان فرنسة ، ويعرفوا جميع الشرقيين
بالموقف الحاضر في المغرب الأقصى .
ولنا أقوى الأمل في إجاباتهم هذا الرجاء الصادر من أعماق قلوب شعب
مظلوم ، وقيامهم بالواجب معنا جنبًا لجنب . وحسبنا الله ونعم الوكيل .
... ... ... ... ... ... ... ... الطلبة المغاربة بباريس
__________
(1) المنار : لتعلمْ جماعة شبان المغاربة وسائر المسلمين أن رئيس تحرير الأهرام يعلم كل ما ذكروه من محاربة فرنسا للإسلام ويعلم أكثر منه ولكنه مغرور وبجهل جمهور قراء الأهرام المسلمين ، فهو يحارب دينهم بقلمه مساعدةً لفرنسة ولغير فرنسة ، ويخدع أغرارهم بنشر مديح بعض منافقيهم له جزاءَ مدحه لهم ، ولكن سريرته قد ظهرت في هذا العهد .
(2) المنار : كان لفرنسة تأثير عظيم في هذا الاضطراب .
(3) أي بزعم هؤلاء المضلين والحق أنه لم يتنصّر منهم في ذلك العهد إلا الأقلون .
(4) المنار : هذه الأخبار إجمال للرسائل التي جاءت من عدة بلاد من المغرب وكانت سبب إصدار البيان الإسلامي العام الذي نشرناه في هذا الجزء وفيها أن الصيغة التي أعلنوا بها الخير هي ما اعتادوه في أوقات الشدائد كالأوبئة والحروب من قولهم : يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير ، وتكرارها برفع الأصوات ألوفًا من المرار .
(31/225)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

المحرم - 1350هـ
يونيه - 1931م

إلحاد في القرآن
ودين جديد بين الباطنية والإسلام

{ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } ( النساء : 115 )
طبع القرآن المجيد في خاتمة هذا العام ، طبعة جديدة مشوهة حواشيها
بتحريف سخيف لآياته في العقائد والأحكام ، وُصف كذبًا وزورًا بأنه تفسير للقرآن
بالقرآن وبهذا الوصف بِيعت نسخ كثيرة منه قبل طبعه باسم الاشتراك ، لمَن صدقوا
أنه ليس فيه إلا تفسير كل آية بالدلالة على كل ما في معناها أو موضوعها من
الآيات .
ومن هؤلاء بعض أهل العلم الديني وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة مفتي الديار
المصرية السبَّاق إلى اقتناء المطبوعات الجديدة المفيدة للمطالعة أو المراجعة .
وعرض الاشتراك فيه على آخرين بوصف آخر ، فقبلوه به ، وهو أنه تفسير
عصري سياسي يقيم الحجج من القرآن على بطلان الحكومة الشخصية الملكية وذم
استبداد الملوك ( ! ) وإثبات الحكومة الوطنية النيابية ( ! ) ويزيل من طريقها
عقبات التشريع المدني الذي وضعه الفقهاء وغيرهم من علماء الدين حتى ما كان
منها منصوصًا في القرآن كالحدود الشرعية وتعدد الزوجات والتسري ، وكل ما
مستنده السنة النبوية . بل يبيح لهم تعمُّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بآرائهم وما يدعون من المصلحة بأهوائهم .
وعرض على بعض الماديين بأنه تفسير مادي يتأول لهم ما ورد في عالم
الغيب من الجن والشياطين والملائكة ومعجزات الأنبياء والمرسلين ، فيكفيهم من
الإسلام أن يتعرفوا بألفاظ القرآن ، ويتصرفوا في معانيها بما يشاءون غير مقيدين
باللغة العربية في مفرداتها ولا تركيبها ونظم أسلوبها ، ولا بما ورد عن النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه فيها ، ولا مَن دونهم من أئمة الحديث والفقه
بالأَوْلى .
ويلزم من هذا بالأَوْلى ألا يلتزموا كل ما قبله هذا الملحد من أحكام القرآن غير
محرف ؛ إذ ما جاز له من الرد والتأويل بالهوى يجوز لغيره على قاعدته في
اختلاف معاني القرآن باختلاف الزمان والمكان وهو ما صرح به في ما نشره
بالأهرام .
ثم تم الطبع وظهر الكتاب ، فوقع في يد فضيلة شيخ الأزهر فبادر إلى
مخاطبة الحكومة بمصادرته لتضمنه مخالفة ما أجمع عليه المسلمون من دين الله
تعالى . فصادرت الحكومة ما كان في مطبعة الحاج مصطفى البابي الحلبي وأولاده
منه وما وجد في إدارة البريد أو سكة الحديد مهيئًا لنقله .
ثم نشرت جريدة الأهرام حديثًا بعد حديث لفضيلة شيخ الأزهر في شأنه ليتهما
لم يُنشرا ، فإنهما على كونهما لم يبينا للناس أهم ما يجب بيانه من تحريف تلك
الحواشي لكتاب الله ، واشتمالها على ما هو ارتداد صريح عن دين الله ، لا يحتملان
التأويل لغةً ولا شرعًا ، قد تضمنا اتهام بعض علماء الأزهر المدرسين في قسم
التخصص منه - وهو أعلى أقسامه - بنشر هذا الكتاب ، ويلزم منه موافقة صاحبه
على ما فيه ، والتصريح بأن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية قد قرر نقل
اثنين من هؤلاء المتهمين من قسم التخصص إلى معهد أسيوط من باب الاحتياط قبل
التحقيق في أمرهما .
فبهذا وذاك فهم عامة الناس وبعض خاصتهم أن هذا التفسير الجديد للقرآن
موضوع خلاف بين علماء الأزهر أو بين شيخ الأزهر وبعض مدرسي القسم
الأعلى فيه ، لا مما يتفق علماء الملة على كونه مخالفًا لإجماع المسلمين ، وقد
نشرت الجرائد من عهد قريب لبعض العلماء إنكارًا على بعض ما نُشر في مجلة
الأزهر والمعاهد الدينية ( نور الإسلام ) مع الوعد بتتابع النشر ، ( ونحن قد جاءتنا
رسائل متعددة في الرد على هذه المجلة في مسائل تتعلق بالعقائد ومقام الرسول
صلى الله عليه وسلم وحديثه ) ، فيكون للناس عذر إذا ظنوا أن الخلاف في التفسير
الجديد كالخلاف فيما تنشره مجلة المعاهد الدينية مما يعهد مثله دائمًا بين العلماء .
ولما نُشر في جريدة الأهرام وغيرها أسماء هذين المدرسين ( وهما الشيخ
محمد العدوي والشيخ عبد الجليل عيسى ) قويت الشبهة في اتهام الأستاذ الأكبر
إياهما لعلم المشتغلين بالقضية الوطنية - أو جمهور الناس - أنهما من الميالين إلى
الوفد المصري والمتصلين بأكبر زعمائه بصداقة سابقة ، وأنهما من جماعة العلماء
الذين أنكروا على فضيلة شيخ الأزهر ومَن معه من هيئة كبار العلماء الرسميين -
ذلك المنشور المشهور الذي نشروه لتأييد الوزارة الإسماعيلية الحاضرة ، ووضعوا
بيانًا آخر في موضوع الشقاق في القضية الوطنية ، ولم يتمكن الشيخ من منع
نشرهم له إلا بجهد وعناء عظيمين .
فبهذا وجد واضع الحواشي البدعية الإلحادية طريقًا ممهدًا للرد على شيخ
الأزهر بأنه إنما سعى لدى الحكومة التي ينصرها بأن تصادر تفسيره لتأييد سياستها
لا للدفاع عن الدين ، وطعن على فضيلته بأنه لم يعهد منه النضال عن الإسلام
والمسلمين ، ويخشى أن يصدقه في هذه الدعوى أكثر المصريين ، مستدلين - كما
استدل - بسكوت الشيخ عن الإنكار على أعمال الفرنسيس في المغرب الأقصى
وإيطالية في طرابلس وبرقة ، والحق أن هذا لا يقاس على ذاك وإن كان واجبًا
وضروريًّا ؛ فإن سكوت الشيخ - وهو رئيس العلماء الدينيين - عن هذا الكتاب يعد
إقرارًا له ، وإنكاره إياه يقتضي منع نشر الإلحاد والفساد باسم القرآن ، وأما الإنكار
على عدوان الدولتين على الإسلام والمسلمين فقصاراه أنه يقوي التكافل والتعاون
بين المسلمين في الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم ، ولكنه لا يمنع ذلك العدوان إلا إذا
ترتب عليه عمل كبير ، وإنا لنعلم أنه وجد من الناصحين مَن حذر فضيلة الشيخ
الاستهداف لهذه التهمة وسوء تأثيرها في سمعته .
وشبهة الشيخ على هذين الأستاذين - كما علمناه من حديثنا مع فضيلته - أن
الرجل كان مصاحبًا لهما ، ونحن نعلم أنه كان ينزل ضيفًا على أحدهما وعلى
المرحوم الشيخ محمد عبد العزيز الخولي خير أطباء مصر وأنفع وعاظها ، ويلقى
عندهما أو معهما سائر إخوانهما من المدرسين الممتازين في الأزهر باستقلال الفكر ،
والإنصاف والأدب في البحث ، والدفاع عن الإسلام بدلائل العلم ، ونعلم أيضًا
أنهم كانوا يناقشونه مناقشة علمية في فهمه الشاذ الذي نذكره قريبًا كيف تدرج فيه ،
ولم يكونوا يثنون عليه بمثل ما نقل إلينا من ثناء الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر عليه
في محفل من المهنئين له بالرياسة ، ولا كانوا يعرفون منه كل هذا الإلحاد الذي قاءه
في هذه الحواشي الجديدة . ويا فضيحة الأزهر إن كان هؤلاء يوافقونه فيه ، وإني
لأشهد أنهما أنكرا أمامي كل ما أنكرته عليها .
لهذا كله افترص هذا المبتدع ما نشرته الأهرام من حديثي الشيخ لإعلان
تفسيره هذا واتهامه فيه وتهديده له ، وصرح - بما نشره في الأهرام وغيرها -بأنه
مبطل للحكومة الحاضرة بدلائل القرآن وأنه سيبين هذا للناس . ومن المعروف عنه
أنه من غلاة أنصار الوفد ، وقد سبق تأييده له من طريق الدين ، بما فيه تحريف
ظاهر للقرآن المبين ، وهو يرجو أن يكافئه الوفد إذا عادت له الكرة المرجوّة إلى
الحكم ، ولهذا تجرأ على تهديد شيخ الأزهر في رده عليه ، وسنبين خطأ ظنه في
موافقة الوفد له على إلحاده ، وخيبة أمله في ازدلافه إليه بالباطل .
صفة الإلحاد الجديد في تفسير القرآن :
لهذا الضعف الذي وجدته في مقاومة شيخ الأزهر لهذا الإلحاد ، ولما رأيته من
الضعف فيما نشر في الجرائد من إنكار هذا الإفساد - وجب عليَّ أن أبادر إلى بيان
ما ينبغي أن يعلمه المسلمون في هذه الفتنة الجديدة ، بما لا تحوم حوله الشبهة ، ولا
تدنو من قائله الظنة ، وأنشره في الأهرام قبل نشره في المنار ، وقبل أن يكثر
أنصارها من الجاهلين وأصحاب الأهواء الإلحادية والسياسية . فأقول :
( أولاً ) إن هذه الحواشي ( الهوامش ) القليلة المبهمة لا يصح أن تسمى
تفسيرًا بوجه من الوجوه وخاصة ما سماه ( تفسير القرآن بالقرآن ) ؛ فإنه على
اعتماده فيه على فهمه الشاذ المخالف للغة والشرع - وهما مادة كل تفسير - يحيل
فيه عند أكثر الآيات التي يكتب شيئًا بإزائها على آيات متعددة وعلى سور كثيرة لا
يمكن أن تكون بمعنى الآيات أو الآية التي جعلها مفسرة لها ، وقصاراه أن يكون في
بعضها مسألة منها ، وأكثر الآيات لا يفسرها بشيء .
وقد فتحت المصحف الآن لأجل كتابة شاهد على ما قلت ؛ فجاءت أمامي
سورة الجن ، فإذا هو قد كتب في حاشيتها ما نصه :
( 6- 10 ) : اقرأ الصافات وتدبرها آية آية ثم الأعراف إلى 38 و 39 وما
بعدها إلى آخرها ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء ثم الإسراء
والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب ، ثم هود
والسجدة والناس ، ثم الفاتحة ثم 146 و165-167 في البقرة . بعد هذا تفهم أنه
يطلق الجن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين ، ويعبر عن
الإنس بسائر الناس المقلدين ، والتابعين المستضعَفين . اهـ . بحروفه .
هذه الحاشية تقنع كل مَن له مسكة من العقل - أن كاتبها ليس له مسكة من
العقل ، ولا شمة من العلم ، وأنه لا يفهم ما يكتبه هو ، فكيف يفهم كلام الله تعالى ؟ !
الذي يتوقف فهمه على إتقان اللغة العربية ، وسعة العلم بالعلوم الشرعية ، وهو
لم يؤتَ منهما شيئًا له قيمة . أمر مَن يبتليه الله تعالى برؤية ( هوامشه ) أن يقرأ
عشرين سورة من السور الطوال والمئين وطوال المفصل ووسطه وقصاره بترتيب
معين ، عطف بعضه بثم وبعضه بالواو ، ثم بقراءة ثلاث آيات من البقرة بعد
قراءة الفاتحة وقال : ( بعد هذا تفهم أنه ( أي الله عز وجل ) يطلق الجن والجنة
على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين ، ويعبر عن الإنس بسائر الناس
المقلدين ، والتابعين المستضعفين ) .
إن في هذه العبارة من ضروب الجهل ما يربأ الإنسان بكرامة نفسه ويضن
بقيمة وقته أن يضيع شيئًا منه في شرحها وبيانها ؛ إذ لا يوجد عامي ولا خاصي
يتوهم أن فيها شبهة على دعواه فنحاول ردها رحمة به ، وحسب الأمي أن يفتش
في سورة الفاتحة التي يحفظها كل مسلم عن صحة دعواه التي لا نعرف في اللغة
اسمًا ولا وصفًا يليق بها . وإنما ذكّرني ذكره الفاتحة فيها ما استنبطه غلام أحمد
القادياني مسيح الهند الدجال من الدليل منها على مسيحيته ، وما استنبطه منها أتباعه
من بقاء النبوة والوحي بعد خاتم النبيين ، بل دعوى هذا المفسر الجديد أبعد عن
اللغة العربية من دعوى أولئك الأعجمين ؛ لأنه أجهل بها منهم .
وأقول : ( ثانيًا ) إن ما ذهب إليه من تحريف آيات الله في الجن كما رأيت آنفًا
وفي الملائكة وفيما أيد الله به رسله من الآيات الكونية كعصا موسى وإحياء عيسى
للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله تعالى وغير ذلك وزعم أن هذا من فهم
القرآن الذي تقتضيه علوم هذا الزمان - قد سبقه إليه ملاحدة الباطنية منذ أكثر من
ألف سنة ، فليس هو مما أفاضته عليه فلسفة هذا العصر وعلومه المادية في شيء ،
وعهدنا به أنه لا يعرف من هذه الفلسفة ولا من هذه العلوم شيئًا ، إلا ما قد يراه في
بعض الصحف وقلما يفهمه . وقد كان أولئك الباطنية ممن حذفوا الفلسفة الطبيعية
والعقلية والعلوم الرياضية ، وأتقنوا علوم اللغة العربية ، كما يرى القارئ في كتاب
رسائل إخوان الصفا من كتبهم ؛ ولذلك انخدع كثير من المتعلمين بدعايتهم التي
أرادوا بها تحويل الناس عن دين الإسلام بالانتقال البطيء من درجة في التأويل
لنصوص القرآن والحديث إلى درجة ، ولم يفاجئوهم بمقصدهم دفعة واحدة .
ما أظن أن هذا الباطني الجديد قرأ شيئًا من كتبهم فسَرَتْ إليه دعوى الإلحاد
منها . فالذي أعلمه أنه لا يُعْنَى بمطالعة الكتب القديمة ولا الحديثة ، ولكن لا يبعد
أن يكون قد لقي بعض دعاة البابية البهائية فهم ينشرون دينهم في مصر وفلسطين
وسورية ، وكانوا ممنوعين من ذلك في عهد الدولة العثمانية .
ومما ينقل عنهم أن المراد بعصا موسى ما آتاه الله من القوة الروحية ، ومن
إحياء عيسى للموتى إزالة جهل موتى القلوب بالعلم والتهذيب ، ولكنهم مع هذا
يدَّعون ظهور لاهوت الرب في ناسوت المسيح تمهيدًا لمثل هذا في معبودهم البهاء ؛
ولهذا قلت في العنوان : إن الدين الجديد الذي يبث دعايته مفسر دمنهور الجديد
هو وسط بين الباطنية والإسلام .
وأقول : ( ثالثًا ) إن ما يوجد في بعض هذه الحواشي وفي مقدمتها من المسائل
الصحيحة في الجملة : كسنن الله تعالى في خلقه ، وتعظيم القرآن لشأن العلم والعقل
والبرهان ، وهدمه لتقليد الآباء والأجداد في الإيمان وأصول الدين ، وخطابه للأمة
بما يجعلها به متكافلة في تربيتها وسياستها وآدابها ، وجعْله حكومة الأمة شورى بين
أولي الأمر وأهل الحل والعقد منها ، وتكريمه للإنسان وإعلائه لشأنه بالتوحيد والعلم
وعزة النفس ، وجعله الجزاء على الأعمال بقدر تأثيره في تزكية النفس ، وموافقته
لمصالح البشر في كل زمان ومكان ؛ لأنه دين الفطرة المكمل لها الجامع بين
مصالحها الجسدية والروحية - إن ما يوجد في مقدمته وبعض حواشيه من هذه
القضايا جُله أو كله مأخوذ من تفسير المنار ومن مجلة المنار أيضًا ، يعلم ذلك كل
من يقرؤهما ، ولكنه قد وضع بعض هذه القضايا في غير مواضعها ، وحرّف كثيرًا
من الآيات عن مواضعها لإدخالها فيها ، وسأبين هذا بالشواهد في مقال آخر . ومنه
يعلم أنه ربما لا يوجد في تفسيره كلمة حق قد انفرد هو بها .
ومن شاء أن يطلع على مآخذها صحيحة غير محرفة ولا مخالفة لقواعد الدين
ولا لفصيح اللغة فليراجعْها في مظانها من فهارس أجزاء التفسير العشرة ، كلفظ
سنن الله ، وسنن الاجتماع ، والإسلام ، والقرآن ، والجزاء ، ولا سيما الفصول
التي نلخص بها مسائل كل سورة في أبواب أصول الدين وفروعه وقواعد الاجتماع
وسنن العمران .
تنقُّل هذا الملحد في إلحاده بالتدريج :
وأقول : ( رابعًا ) إن هذا الرجل قد عُرف بالولوع بالشذوذ وحب الشهرة في
مخالفة جماعة المسلمين في أمور، له في بعضها وجه ما من المسائل العلمية ، ثم فيما
ليس له وجه حتى في مخالفة العقائد القطعية ، وتحريف نصوص القرآن الإجماعية ،
فأول ما عرف به من ذلك أنه لا يكاد يصلي إلا بنعليه ، والصلاة بالنعلين جائزة
إذا كانتا طاهرتين أو خاليتين من الخبث ولكنها ليست واجبة ، وهي - في الغالب-
منافية للنظافة إن لم نقل للطهارة ، وإنما كانوا يصلون بنعالهم في العصر الأول ؛
لأنهم كانوا يصلون على التراب ، لا على الحصير أو البساط . ثم حكي لنا عنه أنه
لا يتوضأ في السفر ولو من بلده إلى غيرها من بلاد وطنه ، بل يصلي بالتيمم دائمًا
مع وجود الماء وإنما التيمم رخصة بشرطه لا عزيمة .
ثم إنه لما زار المدينة المنورة وعاد منها إلى مكة سنة 1344 لأجل أداء
فريضة الحج - لم يُحْرم من ميقاتها الذي كان يحرم منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه ، وهو ( ذو الحُليفة ) ، فشذّ دون جميع مَن كان معه من المسلمين .
ولا حاجة إلى بسط شبهته والجواب عنها هنا وقد شددت عليه النكير فيها بالمشافهة
في وقتها .
ثم إننا سمعناه يرفع عقيرته في المؤتمر الإسلامي العام في مكة المكرمة في
مسألة عملية ظننت أنها شذوذ جزئي من جهله بالفقه ، ثم تبين الآن أنها فرع لأصل
من أصول دينه الجديد ؛ ذلك أنه عندما بحث أعضاء المؤتمر في اقتراح إنشاء سكة
حديدية بين جدة ومكة المكرمة تُؤخذ نفقاتها من ضريبة يفرضها ملك الحجاز على
الحجاج وامتنع الملك ابن السعود من ذلك ؛ بأنه لا يحل له فرض هذه الضريبة -
ادعى هو أنه يحل له ذلك ، و ( الإسلام لا يمكن أن يمنع الإصلاح ) ، فأخذ يرفع
عقيرته ويصيح في المجلس بهذه القاعدة التي لا تدل على جواز إكراه الملوك للناس
على دفع أموالهم لأمثال هذا الإصلاح وقد بسطت حكم الشرع في هذه المسألة في
المؤتمر ، بما لم ينكره أحد من أعضائه كما أنكروا عليه قاعدته المخترَعة ، وكان
الأستاذ الظواهري من حاضري تلك الجلسة .
ثم جهر في نادي جمعية الشبان المسلمين بتحريف كلام الله تعالى في مسألة
عرش ملكة سبأ ، فقام الناس في وجهه وأهانوه .
ثم ألَّف رسالة في الزواج أنكر فيها التسري وملك اليمين بما هو أبعد عن
اللغة والشرع والتاريخ من كل تلك الجهالات وهو مما خالف فيه الإجماع المعلوم
من الدين بالضرورة ، وقد احتدمت في إنكاري عليه ؛ حتى لم يعد يزورني منفردًا !
ثم كتب مقالة ونشرها في جريدة من جرائد الوفد الشهيرة - أراد التقرب بها
إليه والزلفى عنده بأقبح من كل ما تقدم من الجرأة على العبث بكلام الله تعالى ،
جعل عنوانها قول الله عز وجل : { يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً } ( مريم :
85 ) ، أراد أن يُثْبت فيها أن الآية تصدق على جماعة الوفد الذين ذهبوا إلى
لندن للمفاوضة في عقد المعاهدة بين مصر و إنكلترة ، وسخر فيها من علماء
المسلمين في تفسيرهم للتقوى ، كما سخر من أئمة الحديث والتفسير في رواية سحر
اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ، فعبر عنهم بوصف المسلمين بما يشعر أنه ليس
منهم ، ولا يليق بمن يطالب بحرية الرأي والفهم أن يسخر من هؤلاء الأئمة فيما
يخالفهم فيه .
وبلغني أنه كان يكلم بعض أنصار الوفد - الذي رآه يستحسن مثل هذا الإلحاد
والتحريف لكتاب الله - في مكافأة الوفد له على هذه الخدمة ، فأجابه بأنه يجب عليه
أن يصبر ؛ لأن حالة الأمة الإسلامية الآن لا تساعد على ذلك ! .
فهذا الاستدراك الذي ذكرناه هو الذي جرَّأه على أن يطبع كتاب الله مسخمًا
حواشيه بما ذكر وبما هو أبعد في الضلال وأوغل في الإلحاد من كل ما ذكر ،
وعلى أن يهدد فضيلة شيخ الأزهر بأنه إنما أمر بمصادرته لما فيه من التصريحات
السياسية المخالفة لحكومة مصر الحاضرة .
نعم ؛ إن فيه شيئًا كثيرًا مما ذكره ، بعضه صحيح وبعضه باطل ، والقصد
منه سياسي ظاهر ، وهو أن يجعله الوفد - عندما تعود السلطة إليه -إمام المسلمين
في دينه الجديد ، الذي يتوهم أنه هو الموافق لحال هذا العصر والواقع أنه إلحاد
قديم .
وأنا أعتقد أنه هو القاضي على جميع آماله هذه ؛ فإن أكبر زعماء الوفد من
المسلمين متدينون فعلاً لا سياسةً ، يصلون ويصومون ويَدينون الله بما هو مقرر في
كتب أهل السنة والجماعة من العقائد والعبادات ، وفي مقدمتهم الرئيس الجليل
مصطفى باشا النحاس ، ومحمد نجيب باشا الغرابلي ، وفتح الله باشا بركات ، وحمد
باشا الباسل ، وكل منهم أحسن منه فهمًا للقرآن ؛ لأن لهم من علم اللغة وغيرها ما
ليس له . فكيف يرضى أحد منهم أن يجعله إمامًا له ، أو يجهل أن تكريمهم إياه
يُسقط مكانتهم من نفوس الأمة ؟ !
وأقول: ( خامسًا ) إن أهل السنة والجماعة وغيرهم من الفرق الإسلامية
مجمعون أن مَن جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة يُحكم بكفره
وارتداده عن الملة الإسلامية ولا يقبل منه تأويل إلا إذا تاب وأناب .
وفي هذه الحواشي عدة مسائل جحد كاتبها فيها ما ذكر ، ومهد لها السبيل وقدم
لها الاحتجاج بما ذكره في مواضع كثيرة من حرية الاعتقاد ، ولكن ما فاته في
اعتقاده لا يمنع علماء المسلمين أن يبينوا لهم أن عقيدته غير عقيدتهم ، وأن يحثوا
الحكومة على منعه أن يشوه كتاب الله وينشر تحريفه بينهم ، ولا يمكن لأية
حكومة مصرية أن تخالفهم في هذا ، ولا يرضى أحد من زعماء الوفد المسلمين
بهذا ، وحتى القبط منهم فلا يعرضون لهذه المسألة بوجه من الوجوه .
جحد هذا الملحد للمجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة :
وأقول : ( سادسًا ) إن أفظع ما خالف به إجماع المسلمين فيما هو معلوم من
دين الله بالضرورة إجازته عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرأي
والمصلحة فيما كتبه عند قوله تعالى : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( النور : 63 ) ، فقد كتب عندها ما نصه :
( عن أمره ) : يفيدك أن المخالفة هي التي تكون للإعراض عن أمره وأما
التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها ، بل هي من حكمة الشورى . اهـ .
بحروفه . فإطلاقه جواز المخالفة للرسول بهذه العلة يشمل السنن العملية والقولية ،
القطعي منهما والظني .
فهذه القاعدة من قواعد هذا الدين الجديد تبطل من قواعد الإسلام وجوب تقديم
النص على الرأي والاجتهاد المبني على الرأي ودعوى المصلحة ، وجميع علماء
القوانين الوضعية موافقون للمسلمين فيها . ( على أنه يعني بالرأي الهوى لا القياس
الفقهي ؛ لأنه لا يعرفه ) ومن فروع هذه القاعدة ما رفع به عقيرته في المؤتمر
الإسلامي بمكة المكرمة ، وهو يقتضي أن كل ما أخذه إسماعيل باشا من أموال الأمة
المصرية بأنواع الضرائب والمغارم كان جائزًا شرعًا ؛ لأنه أخذه باسم إصلاح
مصر وجعْلها مدينة أوربية !
ومما يتعلق بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وخالف فيه المسلمين -قوله
في تفسير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) - ما نصه ( ص68 ) :
( جعل أُولي الأمر مع الرسول في الطاعة لاعتباره رئيس حكومة شورية
تنفذ قانون الله ، وكل رئيس ينفذ حكم الله له هذه الطاعة ) !
والمقرر عند المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يطاع لرسالته لا
لرياسته ، وهو مقتضى تعلق الحكم بالمشتق ؛ فقد كانت طاعته واجبة منذ بعثته
وقبل أن تكون لأمته حكومة ، وهي عامة فيما يتعلق بمصالح الحكومة وما لا يتعلق
بها ، فلو أمر أي مؤمن أمرًا خاصًّا بشؤونه الشخصية وجب عليه امتثال أمره . وقد
قال الله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } ( الأحزاب : 6 ) وليس لكل
رئيس حكومة هذه الأولوية .
وقد سبقه بعض الملاحدة إلى ادعاء أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
إنما كانت واجبة ؛ لأنه رئيس الحكومة وأن هذه الطاعة قد سقطت بعده ، وأنها
واجبة لكل رئيس حكومة من ملك أو أمير أو سلطان .
وكان بعض رجال النيابة المصرية ألقى محاضرة في هذا الموضوع منذ بضع
عشرة سنة - قرر فيها أن السنة النبوية كانت شريعة مؤقتة خاصة بعصر الرسول
صلى الله عليه وسلم .. إلخ ورددت عليه ردًّا مفصلاً في مجلة المنار . والمشهور
عن هذا المفسر الجديد أنه لا يحتج بالسنن القولية ، وقد ظهر من تفسيره هذا أنه لا
يبالي بالسنن العملية أيضًا ، وقد احتج عليه الشيخ عبد الجليل والشيخ العدوي بإقامة
النبي صلى الله عليه وسلم حد الزنا على ماعز والغامدية باعترافهما به مرة واحدة ،
فلم يمنعه ذلك من إصراره على القول بأن الحد لا يقام إلا على مَن اعتاد الزنا
وأصر عليه واشتهر به !
ومما أجمع عليه المسلمون وعُلم من الدين بالضرورة - الآيات الكونية التي
أيد الله تعالى بها رسله عليهم السلام على ظواهرها من نصوص القرآن وكذلك ما
في معناها من آيات الله التي وردت في القرآن مطلقة وهو يحرف تلك الآيات كلها
بما هو جحد صريح لما أجمعوا عليه ولا يحتمل النص سواه ، وشبهته في هذا كله
أن ظواهر هذه الآيات مخالفة لسنته تعالى في نظام الخلق ، وهو يتأول الآيات
القطعية الدلالة في ذلك بما تتبرأ منه اللغة والتاريخ وإجماع أهل الملل كاليهود
والنصارى مع المسلمين . وهذه المسألة قد ذكرها كل مَن رد على هذا الإلحاد إجمالاً ،
وذكرناها في القولة الثانية من مقالنا هذا عرَضًا ، وسأذكر عبارته في عصا
موسى وإحياء عيسى للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله وفي قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } ( المؤمنون : 50 ) مع أدلة بطلانها لغةً وشرعًا وعقلاً
وتاريخًا ، وأبين جهله بمعنى سنن الله تعالى ، وبمعنى كونها لا تبديل لها ولا
تحويل ، وألزمه الحجة بما يُعرف في العالم بالمشاهدة في كل زمن من وقوع أمور
مخالفة للسنن المعهودة في نظام الخلق ، ومنها ما قرأناه اليوم في بعض الصحف من
ولادة امرأة في إسبانية بضع بنات سليمات الأبدان ، وغير ذلك مما يسميه الماديون
( فلتات الطبيعة ) ، دَعْ جهله الذي حمله على تقييد قدرة الله ومشيئته وحكمته بما
يسميه هو أو غيره من الناس - سننًا إلهية أو طبيعية وجهله بكون واضع السنن هو
فوق السنن .
وأختم هذا المقال المجمل بأن ما انفرد به من هذه الحواشي التي سخم بها
المصحف الكريم - هو مجموعة جهالات وسخافات ، يظن أن ما مهده لها من
تجهيل الأمة الإسلامية من عصر النبوة إلى هذا العصر وزعمه أنه لم يفسر القرآن
منهم أحد تفسيرًا صحيحًا ، وأن هذه المنقبة قد ادُّخِرت له - سيتلقاه كثير من الناس
بالقبول ، ويكون به مؤسس دين جديد بين البهائية والإسلام ، وأن الوفد المصري
سيرفع به قدره بين الأنام ، وقد ظن مثل هذا الظن مَن سبقه إلى إنكار حكومة
الإسلام ، وهو يفوقه بشيء من أدب اللغة وخلابة الكلام ، فخاب ظنه ، وسيكون هو
أشد خيبة وأسوأ عاقبة منه .
فأدعوه بعد هذا البيان الوجيز إلى التوبة إلى الله تعالى والبراءة من هذا
الإلحاد ، وأنبئه بأن الباطنية قد ألفوا كتبًا كثيرة ، وأسسوا جمعيات قوية ، وسفكوا
دماءً غزيرة ، بل أسسوا خلافة ودولة في مصر وغيرها ( دولة العُبَيديين التي
أسست الجامع الأزهر و المشهد الحسيني ) ، كل ذلك لإقناع المسلمين بتأويلاتهم
الباطلة للقرآن ؛ فخاب سعيهم ، وحفظ الله كتابه من إلحادهم ، وقد بقي لهم أتباع في
غير مصر التي كانت مركز خلافتهم ، فهل يمكن أن تتبع مصر مثله فيما هو
أسخف من تأويلاتهم ، ولا قوة له في علم ولا حكمة ، ولا عصبية ولا مال ؟ !
كلا ، فليعتبر بتلك العاقبة ، وإلا فلينتظر سوء الخاتمة ، وخسران الدنيا قبل
الآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، وإني له لمن الناصحين ، والعاقبة للمتقين .
***
المقالة الثانية
السرقة والتزوير في دعوى التفسير
وعدت في المقال الأول الذي نشرته الأهرام بأن أبين في مقال آخر أن ما
أورده الملحد في مقدمة ( هوامشه ) من مزايا القرآن الصحيحة قد سرقها كلها من
تفسير المنار ، ثم ادَّعاها لنفسه بالزور والبهتان ، وجعلها في المقدمة لأجل الإعلان ،
وإيهام الناظر فيها أنها مما فاق به جميع المفسرين من ( الهداية والعرفان ) ؛ إذ
زعم أنهم هدموا بتفاسيرهم جميع أصول القرآن ( كما في الصفحة الثانية منها ) وقد
قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوجب الله اتباعه لرسالته ، لا لرياسته
- كما زعم هذا الملحد المبيح لمخالفته - : ( المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور )
متفق عليه .
وقد كان من رأيي - الذي أفضيت به إلى فضيلة شيخ الأزهر - أن لا يُنشر
عن هذه الضلالة والجهالة شيء في الجرائد يُشعر بأن لهوامشه قيمة أو تأثيرًا ولو
في الكفر ؛ لئلا يكون ذلك وسيلة لإعلانها ، وما يبغيه مبتدعها من الشهرة والربح
منها ، ولأجل هذا وحده لم أسبق غيري إلى الرد عليها ، وأرجو أن تكون مقالتي
الأولى كافية لإقناع مَن قرأها بأن هذه الهوامش التي سميت تفسيرًا للقرآن بالقرآن
- ليس فيها من حقيقة هذه التسمية شيء ، فلا هي مساعدة للمسلم على فهم القرآن ،
ولا قوية التأثير في تشكيكه في الإيمان ، ولا هي تصلح بسخفها شبهة للملحدين
والمبشرين على الصد عن الإسلام ؛ لأن ما فيها من التحريف سخيف لا يقبله
الخواص ولا العوام .
ولكنني أخشى أن يظن من يطلع على مزايا القرآن في مقدمتها أن تلك
الهوامش شرح لها ، وأنها مما امتازت به على غيرها ، فيرتكب جريمة اقتناء هذا
المصحف المشوه المحرف لأجلها . فأنا أبين في هذا المقال بعض المواضع التي
سرقها منها ؛ ليعلم الناس بطلان ما أوهمه في مقدمته ، وما صرح به لمندوب
الأهرام في حديثه الذي نشره له - من أنه لم يعتمد في فهمه القرآن على تفسير أحد
من المتقدمين ولا من المتأخرين ، وإنما هو علم استفاده من نظره وسياحاته في
العالمين .
ولا أدري ما حكم هذه السرقات الكثيرة في دينه الجديد ؟ ! هل تثبت بها
الجريمة العلمية الأدبية عليه لتعدد ما ارتكبه منها كما قال في حكم الزاني والسارق ؟
أم هي مباحة عنده وإن كان مرتكبها كاذبًا في دعواه ، ومزورًا غاشًّا للناس ؟
شر آرائه الإلحادية في مقدمة تفسيره :
كل ما في مقدمته من معنى صحيح قبل ذكر المزايا وبعدها - فهو مسروق من
تفسير المنار أيضًا ولكنه مقترن ببعض آرائه الفاسدة وقواعد دينه المبتدع أو التمهيد
له ، وشره وأعرقه في الافتراء وإبطال ثقة المسلمين بدينهم ما يأتي :
( أ ) قوله : ( وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلاً من
أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله ) وقد فرَّع على هذه
الفِرْية الطعن بجميع المفسرين وكتبهم ، وكتب اللغة التي يعتمدون عليها .
( ب ) زعمه أنه قرأ في بعض المسائل خمسين تفسيرًا فرآها كلها متفقة
يرجع أصلها ( إلى رواية مكذوبة أو رأي ميت لا يصح أن يكون تفسيرًا لكلام الله )
وقد أثبت قبل هذا أن من عيوب التفاسير رد بعضها على بعض ، فإذا اتفق مع هذا
خمسون منها على بعض المسائل لرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض
الصحابة صحت عندهم أو رأي لبعض الأئمة قوي دليله - فكيف يقبل المسلمون
طعنه فيهم كلهم وزعمه أن الرواية مكذوبة وهو من أجهل الناس بعلم الرواية ، أو
زعمه أن رأي من مات من أئمة المفسرين لا يصح أن يكون تفسيرًا للقرآن ؟ وهل
كتب تفسيره هو ليعمل به الناس ما دام حيًّا فقط ؟ !
( ج ) زعمه أن معنى كون القرآن متشابهًا هو ( تحمّله لاختلاف الآراء
والأنظار في كل زمن أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين ) وهذا
الإطلاق فاسد ؛ لأنه يشمل العقائد وأصول الدين وحدود الله وقواعد أحكامه ، وهي
كلها قطعية ومقتضى كلامه أنه ليس فيها شيء قطعي ، وهو يناقض قوله في حاجة
الناس إلى الدين . وأما الذي قررناه في التفسير ولم يفهمه فهو أنه يوجد في القرآن
آيات في الخلق والتكوين والأدب والتاريخ وغير ذلك - تحتمل كل منها معاني قد
يظهر منها في كل زمان ما يدل على أنها من عند الله تعالى ، وتجد بيان هذا في
الوجه السابع من وجوه إعجاز القرآن ( صفحة 210 ، جزء أول ) .
( د ) زعمه أنه لا يضر الناس اختلافهم في فهم القرآن ( ما داموا يرجعون
إلى المحكمات من الأصول والأمهات ، أي يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون
الصالحات ) ، فقد حصر أصول الدين المحكمة في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل
الصالح ، ولم يجعل منها الإيمان بالرسل وما أيدهم الله به من المعجزات ، وغيرها
من أصول العقائد وقواعد الأحكام . وهذا أصل من أصول دينه الجديد الذي يريد به
هدم الإسلام .
أكتفي الآن بهذه الأباطيل مجملة ، وأذكر عبارته في المزايا العشرين بلفظه
على ما فيها من الضعف والإدماج والتكرار ، وأبين بعض مآخذها من تفسير المنار
بالاختصار وأتحرى أن يكون أكثر الشواهد على هذه المآخذ من الجزء الأول منه . فأقول : ...
مزايا القرآن العشرين
من مقدمته مميزة بوضع خطوط فوقها
( 1 ) بلاغة الأسلوب الذي يقوّم به الإنسان لسانه وقلمه ، وبه يبلغ ما يريد
من نفس السامع . اهـ .
هذه المزيَّة مقتضبة من بحث ( بلاغة القرآن ) في الصفحات ( 201 و202
و230 من جزء التفسير الأول . ومنها قولنا - في آخر ص 202 وأول ما بعدها -:
( الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس
السامع بإصابة موقع الإقناع من العقل ، والوجدان من النفس ) !
( 2 ) خطاب جماعة الأمة في الأحكام الاجتماعية بما يجعل الأمة متضامنة
في الأعمال ؛ فيظهر مسئوليتها ويقرر سلطتها . اهـ .
بينا هذه القاعدة في مواضع من تفسير المنار ؛ فأنت ترى في فهرس الجزء
الأول منه ( الأمم ) تكافلها ووحدتها ، ص 309 و322 و384 .. إلخ ومما جاء في
ص322 ما نصه : ( وما جاء الخطاب بهذا الأسلوب إلا لبيان معنى وحدة الأمة
واعتبار أن كل ما يبلوها الله من الحسنات والسيئات ، وما يجازيها به من النعم
والنقم - إنما يكون لمعنى موجود فيها يصح أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق
كأنه وقع به ؛ ليعلم الناس أن سنة الله تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون الأمم
متكافلة ، يعتبر كل فرد سعادته بسعادة سائر الأفراد وشقاءه بشقائهم ، ويتوقع نزول
العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يواقعها هو { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً } ( الأنفال : 25 ) وهذا التكافل في الأمم هو المعراج
الأعظم لرقيها ؛ لأنه يحمل الأمة التي تعرفه على التعاون على الخير والمقاومة
للشر ؛ فتكون من المفلحين .
( 3 ) تعقيب الآيات بما يناسبها من صفات الله كعليم وحكيم .. إلخ .
راجع هذه المسألة بعينها في ص 416 من الجزء الأول ، ولو شئت لذكرت
نصها ونصوصًا أخرى من غيره ، ولكن جميع المفسرين يبينون هذه المناسبات .
( 4 ) تعظيم شأن العقل وجعْله أساسًا لفهم الأحكام وسير الأمور والأعمال .
اهـ .
هذه القاعدة مبينة في مواضع كثيرة من تفسيرنا وقد قلنا في بيان الأصول
والقواعد الشرعية العامة المستنبطة من سورة البقرة من الجزء الأول ص 121 ما
نصه :
( القاعدة 33 ) بناء أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع على إدراك
العقل لها واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد ، وسد ذرائع الفساد ..
إلخ ، وذكرت بعض آيات الشواهد . وفي ص250 منه ما نصه : ولذلك جاء
القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي والتفكر والتدبر والتذكر ، فلا تقرأ منه قليلاً
إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ويأمرك بالنظر فيها .. إلخ وفيه بعض آيات
الشواهد .
( 5 ) إعلاء النفوس وإعزازها بتوحيد الله وعدم الذلة للمخلوق . اهـ .
هذه القاعدة مبينة في مواضع كثيرة جدًّا من أجزاء تفسيرنا ، أولها في تفسير
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ( الفاتحة : 5 ) من الجزء الأول قولنا ( ص60 ) :
ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء
ذلك ( أي ما قدمناه من استفراغ القوة في الاستقلال من طريق الأسباب ) وهو روح
الدين وكمال التوحيد الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار
ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين ، والشيوخ الدجالين ، ويطلق عزائمهم
من قيد المهيمنين الكاذبين من الأحياء والميتين ، فيكون المؤمن مع الناس حرًّا
خالصًا وسيدًا كريمًا ، ومع الله عبدًا خاضعًا { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً
عَظِيماً } ( الأحزاب : 71 ) .. إلخ .
( 6 ) تقرير حرية الاعتقاد والقضاء على الرياسة الدينية حتى يكون
الخضوع في الدين لله بوازع من النفس لا بالضغط والإكراه . اهـ .
هاتان مسألتان لا مسألة واحدة ، فأما حرية الاعتقاد ومنع الإكراه في الدين فقد
بيناها في عدة مواضع وذكرناها في قواعد سورة البقرة العامة بقولنا في ( ص 116
من الجزء الأول ) :
( القاعدة العشرون ) ( حرية الدين والاعتقاد ومنع الاضطهاد الديني ولو
بالقتال حتى يكون الدين كله لله ، ومنع الإكراه على الدين ) .. إلخ وفيه بعض آيات
الشواهد على القاعدة .
وأما مسألة القضاء على الرياسة فإنما تصح إذا أريد بها سيطرة رجال الدين
الرسميين على الناس في فهمهم للدين كما هو معهود في بعض الملل وهذه مبينة في
مواضع كثيرة من تفسير المنار ومجلة المنار ومنها ما ذكرناه آنفًا في مأخذ
المزية الخامسة مما ذكره هو . وقد بسطها الأستاذ الإمام في ( كتاب الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية ) .
( 7 ) رفع شأن الإنسان بالمساواة بين جميع الطبقات وجعْل الامتياز للأتقى
. اهـ .
هذه المسألة مبيَّنة في مواضع كثيرة من تفسير المنار أيضًا أولها ما في مقدمة
التفسير ( ص29 ) من بيان أخوة المسلمين من جميع الأجناس وفيها الاستشهاد بآية
الحجرات { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( الحجرات : 13 ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم
- في خطبة حجة الوداع - : ( يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي
على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على
أسود إلا بالتقوى ، { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( الحجرات : 13 ) ، ألا هل
بلغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فليبلِّغ الشاهد الغائب ) وذكرنا بعد هذا ما
حدث من العصبية الجنسية في المسلمين وما كان من مفاسدها .
( 8 ) هدم التقليد الذي يقضي على استقلال الفكر ويُضعف الاستعداد الفطري
في البحث والاستنتاج :
قد حققنا هذه المسألة في مواضع كثيرة من أجزاء التفسير ومن المنار أيضًا .
وجعلتها القاعدة الثالثة عشرة من قواعد سورة البقرة ( ص114 ) ، فتجد في فهرس
الجزء الأول منه ما نصه : التقليد .. بطلانه وذمه ( صفحة 24 و 32 و68 و108
و114 و173 و178 و180 و203 و306 و395 و425 و429 و448 و489
و491 ) .
( التقليد التجرد منه لطلب اليقين بالبرهان ) 441 .
( كونه كفرًا بنعمة الفطرة والدين وخروجًا من نورهما ) 185 و395 .
( 9 ) الجزاء على العمل بمقدار تأثيره في النفس لا بالفدية والشفاعة . اهـ .
هذه المسألة ما رأيت أحدًا سبقني إلى بيانها بمثل ما بسطته في مواضع كثيرة
من التفسير ، منها ما ذُكر مع مسألة الشفاعة والفداء . ومنها ما ذكر مع تفسير آيات
أخرى ليست مقرونة بعدم الاتكال على الشفاعة والفداء ، ومن الأول تفسير قوله
تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ
مِنْهَا عَدْلٌ } ( البقرة : 48 ) وهو في ص305 من الجزء الأول وما في معناها
وهو آية ( 123 ) ، ومن الثاني تفسير : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ( آل
عمران : 25 ) من الجزء الثالث ص268 بما نصه : بأن رأت ما عملته محضرًا
موفًّى لا نقص فيه ؛ فكان منشأ الجزاء ، ومناط السعادة أو الشقاء ، دون الانتماء
إلى دين كذا أو مذهب كذا أو الانتساب إلى فلان وفلان من النبيين والصالحين . إلا
أنهم يرون يومئذ أن الجزاء يكون بشيء في داخل نفوسهم لا من شيء خارج عنها ،
يكون بما أحدثته أعمالهم فيها من الصفات الحسنة أو القبيحة ومقدَّرة بقدر ذلك ..
إلخ .
( 10 ) بيان السنن العامة وهي النواميس والأنظمة الطبيعية ، بالبحث فيها
يفهم القدر والميزان ، وينكشف العلم ويزداد الإيمان . اهـ .
هذه المسألة مما امتاز بها تفسيرنا أيضًا ، وتجدها مفصلة في كل جزء منه .
ففي فهرس الجزء الأول وحده ما نصه :
سنن الله المطَّردة في الكون : ص23 و36 و58 و61 و71 و242 و259
و344 و413 و423 .
سنن الله في نظام الاجتماع البشري 11 و242 وما بعدها و336 و344 .
وأما سنن الله تعالى في الكائنات التي يفهم منها معنى القدر فهي مكررة فيه ،
وقد جعلتها الأصل السادس من الأصول العلمية والعملية في تلخيص سورة الأنفال ،
وتجده في صفحة 286 من الجزء الثامن ، وراجع في هذا الجزء وزن الأعمال
أيضًا . ( ص 319 ) .
( 11 ) هيمنته على الكتب بالحكم على الأبحاث الفلسفية وتقرير الصحيح
من المذاهب وجمع الناس كلهم على طريقة مرضية تجمع خلاصة الكتب ولا تفرق
بين أحد من الرسل . اهـ .
هيمنة القرآن على الكتب الإلهية من أعظم مزاياه وهو نص قوله تعالى في
سورة المائدة بعد ذكر التوراة والإنجيل { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ( المائدة : 48 ) ، وهو لم يتكلم عليها في مكانها
بشيء وفي تتمتها حكمة اختلاف الشرائع ، وهي مسألة أخرى ، وقد بينا معناهما
في تفسير الآية بما لم نَرَ ما يدانيه في التفاسير المعروفة ( راجع صفحة 410-
420 من الجزء الرابع ) وعدم التفريق بين الرسل مسألة أخرى بيّنها جميع
المفسرين ؛ لأنها من أصول عقائد الإسلام .
وتكلمنا على هيمنة القرآن على الكتب الإلهية في مباحث إعجازه أيضًا ، ومنه
الفصل في الخلاف بيننا وبين أهل الكتاب ، وتحقيق الحق في مسائل طعن ملاحدة
أوربة في كتابة التوراة وكتب الأنبياء بعد فقدها بإحراق بختنصر لهيكل سليمان ...
بما لا تجد له نظيرًا في غير المنار وتفسيره ، وأول موضع ذكرت فيه هذه المسألة :
( النوع السابع ) من إعجاز القرآن من صفحة 212-215 من الجزء الأول
وآخره الفصل الاستطرادي الذي عنوانه : ( هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل
وشهادته لهما وعليهما ) وهو في صفحة 342 من الجزء العاشر .
( 12 ) ذكر ما فيه الفائدة والعبرة من القصص والحوادث . اهـ .
هذه عبارة مبهمة قاصرة يجد قارئ تفسيرنا أول بسط لها في صفحة 327 من
الجزء الأول ويرى لها شواهد متعددة في مواضعها من الأجزاء الأخرى مفصلة
تفصيلاً ، ومنها ما في صفحة 201 و464 من الجزء الثاني وما في الفصل الذي
عقدناه عقب ذكر قَصَص الرسل من سورة الأعراف بعنوان : ( سنن الله وحكمه في
هذه القصص وأمثالها والاعتبار بها ) وهو في صفحة 14 من الجزء التاسع .
( 13 ) هدايته العامة وأحكامه المنطبقة على مصلحة كل شعب في كل زمان
ومكان . اهـ .
هذه المَزِيَّة قد بيناها في مواضع كثيرة من أجزاء التفسير ، تارة بالإيجاز
والإجمال ، وتارة بالإسهاب والتفصيل ، مثبتين أنه لا يمكن الاستغناء عن هدايته
وأحكامه بما هو خير منها أو يغني عنها ، راجع في ذلك صفحة 221-224 من
الجزء الأول وبحث ( الرجاء في اهتداء الإفرنج بالإسلام ) في ص358-362 من
الجزء العاشر ، وفي الصفحة الأخيرة منها التصريح بمثل عبارته وقد سبقها
تصريحات كثيرة . وأما هو ففي حديثه الذي نشرته الأهرام ما يدل على أن سبب
تحريفه لآيات القرآن وحملها على غير ما عمل به الرسول الذي أنزلت عليه صلى
الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وسائر أئمة المسلمين - هو زعمه أن حال
الزمان والمكان تقتضي ذلك ؛ فهو إذًا لا يقول بظاهر هذه القاعدة ، بل يقول بضدها
وهو أنه لا يمكن العمل بأحكام القرآن إلا بما حرفها هو به حتى في الحدود القطعية .
( 14 ) تشابُه معانيه ؛ ليتسع مجال الإفهام فيه . اهـ .
قد بينا آنفًا مراده الباطل من هذه الجملة ، في الكلام على مسألة حرف ( ج )
وهو قد قلب بها ما كتبناه في هذه المسألة في أواخر صفحة 435 من الجزء الأول
وهو : وهذا الضرب من البيان مما امتاز به القرآن على سائر الكلام ؛ فإنك لَترى
فيه فنونًا من الاستدراك والاحتراس ، قد جاءت في خلال القصص وسياق الأحكام ،
تقرأ الآية في حكم من الأحكام أو عظة من المواعظ ، أو واقعة تاريخية فيها عبرة
من العبر - فتراها مستقلة بالبيان ، ولكنها باتصالها بما قبلها قد أزالت وهمًا ، أو
تممت حكمًا ، وكان ينبغي لأهل العربية أن يقتبسوا هذا الضرب من البيان ،
ويتوسعوا به في أساليب الكلام ؛ فإن القرآن قد أطلق لهم اللغة من عقالها ، وعلَّمهم
من الأساليب الرفيعة ما كانت تستحليه أذواقهم ، وتنفعل له قلوبهم ، وتتحرك به
أريحيتهم ، ولكنهم لم يوفقوا لاقتباس هذه الأساليب الجديدة .. إلخ .
( 15 ) تكريره المسائل ومزْجه القصص بالأحكام لينفخ روح الهداية بصور
مختلفة والنفوس تتأثر بالشيء بمقدار تكريره وتجديد ذكره . اهـ .
هذه المسألة مما بسطته في مواضع كثيرة من تفسير المنار ولم أطَّلع لأحد
على كلام فيها ، وأخصر عبارة لي فيها ما في صفحة 121 من الجزء التاسع :
(اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب ، والإنذار والتبشير ، في
سياق الآيات الواردة في قصة أُحُد - هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام
وضروب الحِكَم والأحكام بعضها ببعض .. إلخ .
وفي صفحة 201 من الجزء العاشر في التكرار ما نصه :
والتكرار الذي يقتضيه المقام أعظم أركان البلاغة ؛ لأنه أعظم أسباب إقناع
العقل والتأثير في الوجدان .
( 16 ) بناؤه الحكومة على الشورى وتقريره سلطة الأمة للقضاء
على الاستبداد وحكم الفرد الذي يُضعف الإرادة ويولد النفاق والجبن . اهـ .
شرحت هذه القاعدة من قواعد التشريع الإسلامي شرحًا واسعًا في تفسير :
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ( آل عمران : 159 ) ومن سورة آل عمران ( 3 : 159 )
من الجزء الثاني ( ص198 ) وفي تفسير آية طاعة ( أولي الأمر ) في سورة
النساء ( 4 : 58 ) وهي من صفحة 180-222 من الجزء الخامس وفيها تفصيل
الكلام على أولي الأمر وأهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة ، ومقارنة ذلك
بالمجالس النيابية في هذا العصر .
وأما الاستبداد وظلم الملوك وإفساده للأمة وإذلاله لها فقد بسطته في مواضع
كثيرة أولها ما في تفسير : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } ( البقرة : 124 ) من
سورة البقرة ( 2 : 124 ) وهو في ص456-459 من الجزء الأول . ولعل آخرها
ما عبرنا عنه في فهرس الجزء العاشر بقولنا : ( الملوك والرؤساء ، وإفسادهم
للأخلاق بتقريبهم لأهل النفاق ) ص539 .
( 17 ) تخييره الإنسان بين الانتقام بالعدل من المسيء والعفو بما تدعو إليه
المصلحة ، حتى تنتشر العزة في النفوس ، ويذوق كل امرئ لذة فضله وجهاده .
اهـ .
هذه المسألة مبينة في مواضعها من جميع التفاسير وتجدها في تفسير : ] فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا [ من سورة البقرة ( ص420 من الجزء الأول ) وفي تفسير : { وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } ( الأنفال : 60 ) في سورة الأنفال ( ص63 ج
10 ) وفي مواضع أخرى منه كالمقابلة بين الإسلام والنصرانية .
( 18 ) نظامه الاجتماعي وتأسيسه على الفضيلة وحسن المعاملة . اهـ .
هذه جملة مبهمة تدخل في قواعد كثيرة من قواعد نظام الإسلام الاجتماعي
التي بيناها في مواضع كثيرة من تفسيرنا ، منها تفسير آية : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً } ( البقرة : 143 ) وآية معاملة اليتامى بما فيه إصلاحهم ، وكلاهما في
الجزء الثاني . وفي آخرها ثماني قواعد اجتماعية في حكم الإسلام تدخل في ذلك
أيضًا .
ومن أهمها ما بسطناه في حكمة تحريم الربا في الجزء الثالث وهو أن الإسلام
دين عدل ورحمة وفضيلة وهو في صفحة 106-117 ثم في صفحة 123-131 م
الجزء الرابع . ( ومنها ) ما ذكرناه في شكل الحكومة الإسلامية وفي نظامها المالي
أصلاً أو استطرادًا ، ومن مباحثها ما تقدم آنفًا في المزيتين 16 و17 .
( 19 ) كتاب يؤاخي العلم ، ويسير مع الفطرة ، يقنع العقل بالحجة ، ويؤثر
في النفس بالموعظة الحسنة . اهـ .
هذه أربع مسائل لا مسألة واحدة ، وقد تقدم ذكر المسألة الثالثة والرابعة منها
في بيان مأخذ المزية الأولى من تحديدنا لمعنى البلاغة من التفسير ، وكذا في بيان
مأخذ المزية الرابعة وهي تعظيم شأن العقل ، وهما مشروحتان في مواضعهما
المناسبة من أجزاء التفسير ، وأما مؤاخاته للعلم فهي مشروحة في مواضع كثيرة من
التفسير والمنار ، وفي كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وكذا رسالة
التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام ، وهو صاحب الفضل الأول في تقرير هذه الحقيقة ،
وأول موضع فصلتها فيه من التفسير ( الوجه السادس ) من وجوه إعجاز القرآن
وهو ( عجز الزمان عن إبطال شيء منه ) ، وفيه الرد على مَن زعم أن فيه شيئًا
معارضًا بشيء ثبت بدليل علمي قاطع ، وهو في صفحة 207 من الجزء الأول ويليه
الوجه السابع من وجوه إعجازه وهو ( اشتماله على تحقيق كثير من المسائل العلمية
الكونية والتاريخية كانت مجهولة للبشر ) وترى في أول الكلام على الإسلام من
فهرس الجزء العاشر ما نصه : إظهار الله إياه على جميع الأديان بالحجة والبرهان
والهداية والعرفان ، والعلم والعمران ، والسيادة والسلطان ( صفحة 389 ) .
وأما كوْنه دين الفطرة بمعنى موافقته لها ، وتقويمه إياها ، وكونه للنوع
البشري كالعقل لأفراده - فهو مبين في مواضع كثيرة أيضًا سيأتي بعضها بنصه في
الكلام على المزية العشرين التالية . وتعبير هذا السارق والمزور عن ذلك بالسير
مع الفطرة مبني على زعمه الإلحادي جواز تحريفه للقرآن ، وتغيير أحكامه لموافقة
المبتدعين في هذا الزمان .
وقد شرح الأستاذ الإمام معنى الفطرة البشرية وما كان عليه البشر قبل بعثة
الرسل وشرع الدين في تفسير قوله تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ( البقرة : 213 ) بما لم يَحُمْ حوله أحد من المحققين ،
وتجده في الجزء الثاني من التفسير ( من ص276- 301 ) .
( 20 ) كتاب يجمع بين صلاح الروح والجسد فيضمن للناس سعادة الدنيا
والآخرة . اهـ .
وقد سبق فيما مرّ من مآخذ بعض هذه المزايا بعض الشواهد على المسألة
وهي كثيرة جدًّا جدًّا في تفسيرنا ، بعضها تفسير للآيات المناسبة لها وأظهرها قوله
تعالى في سورة البقرة : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } ( البقرة : 143 ) وهي في
أول الجزء الثاني كما تقدم - ومنها في الشواهد ، وقد بيناها في قواعد سورة البقرة ،
فجعلنا أهلها القسم الأول من المهتدين بالقرآن ثم قلنا في القواعد ( القاعدة 22 )
إن من شأن المسلمين طلب ما هو لازم للإسلام من سعادة الدنيا والآخرة معًا كما
تقدم في القاعدة الأولى .
وإنما تتحقق الغايات ولوازم الأمور بطلبها والسعي لها . فليس من هداية
الإسلام أن يترك المسلمون الدنيا ومعايشها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء ، تابعين
للمخالفين لهم من الأقوياء ، ولا أن يكونوا كالأنعام ؛ لا همّ لهم إلا في شهواتهم
البدنية ، وكالوحوش التي يفترس قويها ضعيفها ، وهذا الجمع بين الأمرين مقتضى
الفطرة ، والإسلام دين الفطرة ، ثم ذكرت بعض الشواهد .
وأنت إذا نظرت كلمة الدين من فهرس الجزء الأول تجد فيه بحث اقتضائه
السعادة في ستة عشر موضعًا مبينة بأرقام صفحاته ، وتجد مع هذا في حرف السين
( سعادة الدارين تابعة لآثار اعتقاد الإنسان وعمله في تزكية نفسه ) .
وقد قال هذا السارق المزور في التفسير - بعد هذه المزية ( 20 ) ما نصه -:
( هذا ، وإن القرآن بهذه المزايا جدير بالعناية ، ولتعلم أن الله تعالى سماه
قرآنًا ؛ ليُقرأ على الدوام ليكون خلقًا وملكة في النفس ، لا ليكون كالقوانين تراجَع
مواده عند الطلب . وإن في دوام القراءة تجديد الأفهام الداعية إلى إحياء العلم وبث
الهداية ) . اهـ .
وهذه الخاتمة مسروقة من تفسير المنار أيضًا ، ولكنه أساء بجعْل سبب العناية
بالقرآن محصورًا فيها ؛ لأنه لم يتيسر له سرقة غيرها من المزايا الاعتقادية
وغيرها ، أو لأنها لا توافق دينه الجديد ، وهذا إذا كان يعلم أن قوله : ( إن القرآن
بهذه المزايا جدير بالعناية ) يدل على الحصر على أنه قال في كلامه على السنة :
( إن القرآن دستور فيه كل شيء من أصول القوانين ) .
وأما المواضع التي سُرقت منها هذه العبارة فهي في تفسير المنار كثيرة ، بل
هي أول ما قررته في فاتحة التفسير من الجزء الأول ، فقد أوردت بعد البسملة
آيات في وصف القرآن وهدايته في صفحتين ونصف صفحة وقلت بعدها ما نصه :
( أما بعد : فيا أيها المسلمون ، إن الله أنزل عليكم كتابه هدى ونورًا ؛
ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم ، ويُعدّكم لما يَعِدكم به من سعادة الدنيا والآخرة ،
ولم يُنزله قانونًا دنيويًّا جافًّا كقوانين الحكام ، ولا كتابًا طبيًّا لمداواة الأجسام ، ولا
تاريخًا بشريًّا لبيان الأحداث والوقائع ، ولا سِفرًا لوجوه الكسب والمنافع ؛ فإن كل
ذلك مما جعله تعالى باستطاعتكم ، لا يتوقف على وحي من ربكم ، وهذا بعض ما
وصف الله تعالى به كتابه في محكم آياته ( إشارة إلى الآيات السابقة ) ، تدبرها
سلفكم الصالح واهتدوا بها ؛ فأنجز الله لهم من سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة ما
وعدهم ... ( وههنا أوردت بعض هذه الوعود القرآنية ) .
ولنا فتوى في حكمة إنزال القرآن أوردنا فيها 24 آية من أمثال هذه الآيات
و15 حديثًا في معناها ، وهي ( ص258 من مجلد المنار الثامن ) .
ثم قلت - بعد زهاء صفحتين - ما نصه :
صلحت أنفس العرب بالقرآن ؛ إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلواتهم
المفروضة ، وفي تهجدهم وسائر أوقاتهم ، فرفع أنفسهم ، وطهرها من خرافات
الوثنية المذلة للنفوس المستعبِدة لها ، وهذب أخلاقها ، وأعلى هممها ، وأرشدها إلى
تسخير هذا الكون الأرضي كله لها ، فطلبت ذلك فأرشدها طلبه إلى العلم بسننه
تعالى فيه من أسباب القوة والضعف ، والغنى والفقر ، والعز والذل ، فهداها ذلك
إلى العلوم والصناعات .. إلخ .
ثم قلت : إنما يفهم القرآن ويتفقه فيه مَن كان نصب عينيه ووجهة قلبه في
تلاوته في الصلاة وغيرها ما بيّنه الله فيه من موضوع تنزيله ، وفائدة ترتيله ،
وحكمة تدبره ، من علم ونور ، وهدى ورحمة ، وموعظة وعبرة ، وخشوع وخشية ،
وسنن في العالم مطردة ، فتلك غاية إنذاره وتبشيره ، ويلزمها عقلاً وفطرة تقوى
الله تعالى بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به بقدر الاستطاعة ؛ فإنه كما قال :
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ( البقرة : 2 ) .. إلخ .
( فإن قيل ) : ألا يصحّ أن يكون صاحب هذه الحواشي التي سماها تفسيرًا
بما سرقه من تفسير المنار من مزايا القرآن بالحق ، مع ما أورده فيها من إلحاد
الزنادقة وتأويل الباطنية الباطل - ممن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا ؟
( قلت ) : لا ، بل هو ممن خلطوا الكفر بالإيمان ومثله في تفسيره مثل
المنافقين الذين قال الله فيهم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ( التوبة : 107 ) .
فلا يجوز لمن يَدين بالإسلام - أو باليهودية أو النصرانية أيضًا - أن يقتني
هذا المصحف المحرف لكتاب الله ، الذي يجعل أصول الإيمان كفرًا ؛ فإن اقتناءه
شر من اقتناء كتب الكفر والإلحاد الأخرى ، ومَن وافقه على ما فيه من مخالفة
أصول الدين ، واتباع غير سبيل المؤمنين - فهو مرتد عن الإسلام ، وبريء من
جميع الأنبياء ، لا يختلف في هذا عالِم من علماء المسلمين ، ولا من علماء أهل
الكتاب ؛ فإنه جحد معجزات موسى وعيسى عليهما السلام ، وكون السيدة مريم
العذراء وابنها آية من آيات الله بحملها به من غير أن يمسها بشر .. إلخ . وسنزيد
ذلك بيانًا في المقال الثالث إن شاء الله تعالى .
(موضوع المقال الثالث (أصول دينه الجديد) وهي خمسة ومقدماتها التمهيدية له وهي خمسة ) .
((يتبع بمقال تالٍ))
(31/673)
 
صفر - 1350هـ
يوليو - 1931م
الكاتب : محمد رشيد رضا

إلحاد في القرآن
ودين جديد بين الباطنية والإسلام
( 2 )
المقالة الثالثة
ما قدمه من التمهيد لهذا الدين الجديد
قد مهد هذا الملحد لبيان الحاجة إلى دينه الجديد بهذه الدعاوي الخمس :
( 1 ) قوله : ( إن هؤلاء المسلمين بعدوا عن القرآن ولم يعملوا به ، ففريق
منهم لم يفكر فيه واكتفى منه بالانتساب إليه ، والفريق الآخر الذي يظن أنه متمسك
به بعد عنه من جهة الخطأ في التعاليم ) . اهـ .
( 2 ) قوله : ( وقد بلغ الدسّ والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلاً من
أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله ) . اهـ .
( 3 ) قوله في أصحاب المذاهب إنهم حكموا أصولهم في القرآن : ( حتى
صار ميدانًا للجدل وأصبح غير صالح للحياة ، فهدايته فُقدت بالمجادلات في الألفاظ
والمذاهب ) ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة ، والتفسيرات المتحجِّرة
العقيمة .
( 4 ) قوله : ( وقد تغيرت معاني القرآن أيضًا وتبدلت مقاصده باعتماد
المفسرين على كتب اللغة التي تفسر الألفاظ بلازمها ، وتقصرها على بعض معانيها ،
فتكون بذلك بعيدة عن فقه اللغة فيتغير معناها المراد في القرآن ) اهـ .
( 5 ) زعمه أن القرآن ليس له معانٍ قطعية ثابتة ، بل ألفاظ تقبل الآراء
والأنظار المختلفة المتعارضة في كل زمن وهذا معنى كونه متشابهًا ، وإذًا يجب
تفسيره في كل عصر بما يناسبه . وقد ذكرنا قوله هذا في المقال الماضي وسنعيده
قريبًا في بيان أصول دينه الجديد .
خلاصة هذه الدعاوى الخمس أن جميع المسلمين قد بعدوا عن دين الإسلام ،
ولا يكاد يوجد أحد منهم عليه ، وأن سبب ذلك هو هدم المفسرين لجميع أصول
القرآن وتبديلهم لها ، وكوْن علماء المذاهب حكموا أصولهم فيه ، فزالت هدايته ،
وضاعت معانيه ومقاصده ، وأنه لا يمكن الاعتماد في فهمه على كتب اللغة التي
استمد منها المفسرون ؛ لأنها فاسدة بعيدة عن فقه اللغة فتتغير بها المعاني المقصودة
من القرآن ، ولأنه ليس له معانٍ ثابتة يجب التزامها في كل زمان .
ونتيجة ذلك كله أنه لما كان لا بد للناس من الدين وأنه ( لما كان القرآن آخر
الكتب الإلهية كان واجبًا على الناس أن يرجعوا إليه لمعرفة حقيقة الدين ) ولما كان
لا يمكن أخذ دين القرآن من كتب التفسير ولا من أصول المذاهب وفروعها ولا من
كتب اللغة وأنه لا بد أن تكون معاني القرآن في هذا العصر موافقة له دون ما قبله
- ولما كان هو الذي بين هذا في تفسيره - تعين أن يكون ما جاءهم به ( هذا الملحد)
هو دين القرآن الذي لا بد لهم منه ، وهذا عين ما كان يقوله دعاة ملاحدة الباطنية
من أن مراد الله من القرآن لا يمكن العلم به إلا من إمامهم المعصوم كما هو مبين
في كتب المقالات والتاريخ والمناظرات معهم ( راجع أخصرها وهو القسطاس
المستقيم للغزالي ) ، وإننا نشير إلى بطلان مقدماته بالاختصار فنقول :
أما الدعوى الأولى فهي صادقة في كثير من المسلمين لا في جميعهم ، وقد بينا
هذا في مواضع كثيرة من تفسير المنار ومجلة المنار ، ونعبر عن هؤلاء المسلمين
بالجغرافيين ، أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الحكومات وعلماء
الجغرافية للأمم والشعوب مع بيان أديانهم الرسمية . وقد سرقها هذا المدعي الكذاب
إلا أنه جعلها عامة ، ومقدمة لنتيجة باطلة . بل عللها بما يجعل حكمه عامًّا يشمل
مسلمي السلف كلهم .
وأما الدعوى الثانية فهي باطلة ، ليس فيها للحق شية ولا شائبة ، فالروايات
الموضوعة قليلة في أكثر التفاسير ، ولا يعتمد عليها في هدم شيء من أصول الدين ،
وأما دينه هو فتهدمه نصوص القرآن القطعية ، والسنن القولية والعملية .
وأما الدعوى الثالثة فمقدمته تصدق في بعض آراء المقلدين المتعصبين
لمذاهبهم من المفسرين ، وهي التي نبين القول الراجح منها في تفسيرنا . والأقيسة
المؤلفة من مقدمات جزئية ، لا تنتج نتيجة كلية ، فدعواه أن هداية القرآن فقدت
بذلك دعوى باطلة .
وأبطل منها زعمه أن معاني القرآن ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة ،
والتفسيرات المتحجرة العقيمة ، أما النسخ الأصولي فالسيوطي حصر آياته في
عشرين ، وحقق بعض الأصوليين كالشوكاني أنها بضع آيات فقط ، دع إنكار بعض
المفسرين للنسخ من أصله ، وترجيح آخرين لكثير من نقضه لما قيل فيها .
ومن العجيب الغريب أن هذا الملحد المغرور يتصدى لنسخ آيات العقائد
والأخبار الإلهية التي أجمع العلماء على أنها كلها محكمة لا يعرض له النسخ ،
وبنسخ أيضًا كثيرًا من الأحكام القطعية بفهمه الباطل . ثم يزعم أن القرآن قد
ضاعت معانيه كلها بذهاب المفسرين إلى نسخ بعض الآيات بآيات أخرى خير منها
للأمة أو مثلها !
وأعجب من هذا وأغرب أنه يزعم أن القرآن يحتمل جميع الآراء والأفهام ،
وهو ينكر على أعلم الناس به ما فهموه منه !
وأما التفسيرات التي سماها المتحجرة تقليدًا لأدعياء التجديد الإلحادي من
المتفرنجين فلا يقبل لمثله قول فيها بعد ما علم من جهله وإلحاده وبراءته مما أجمع
المسلمون على أنه من محكمات القرآن وأصول الإسلام .
وأما الدعوى الرابعة فهي ظاهرة البطلان أيضًا فالمحققون من المفسرين
راسخون في فقه اللغة ، وكتب اللغة في جملتها قد حققت المعاني الأصلية للألفاظ ،
ومنها ما فرق بين الحقيقة والمجاز ، وعابوا على الفيروزآبادي الخلط بينها ،
وحشر الألفاظ الاصطلاحية فيها . وناهيك بمفردات القرآن للراغب وأساس البلاغة
للزمخشري دلالة على ذلك ، وهذا جهل منه لا يحتاج دحضه إلى التطويل .
وأما الدعوى الخامسة فنذكر وجه بطلانها في الكلام على الأصل الثاني من
أصول دينه الجديد ، وإنما نقول هنا : إنها مستمدة من إلحاد الباطنية . قال النسفي في
عقائده : النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطن إلحاد .
وقال السعد التفتازاني في شرحه لها : سميت الملاحدة باطنية لادَّعائهم أن
النصوص ليست على ظاهرها بل لها معانٍ باطنة لا يعرفها إلا المعلم ( يعني
الذي يسمونه الإمام المعصوم ) .
بعد هذا التمهيد نبين أصول دين هذا الملحد الجديد ، فنقول :
الأصل الأول للدين الجديد
تفسير القرآن بالقرآن دون اللغة والسنة
هو ما سماه طريقته في تفسير القرآن وهو ( كشف معنى الآية وألفاظها بما
ورد في موضوعها من الآيات والسور ، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن ،
ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه بنفسه كما أخبر الله ، ولا يحتاج إلى شيء من
الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في
الاجتماع .
أقول : هذا الأصل كله جهل وغش ، سببه أن مدعيه فاقد لكل ما اشترطه
العلماء من العلوم التي يتوقف عليها فهم القرآن وتفسيره . وبيانه من وجوه :
( الوجه الأول ) أن مَن لم يكن يفهم القرآن بما أوتي من العلم باللغة الفصحى
وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته العملية والقولية لا يمكن أن يفهم كل آية
بمراجعة ما يناسبها في لفظها ومعناها ، وإنما الذي قررناه في تفسير المنار هو أن
الذي يفهم الآيات المتعددة في موضوع واحد يحتاج إلى استحضارها عند إرادته
بيان حكم الله تعالى في ذلك الموضوع .
( الوجه الثاني ) أن هذه الطريقة أكبر شاغل عن تدبر القرآن والاهتداء به ،
إذ يأمره عند تلاوة الآية الواحدة بمراجعة آيات كثيرة يدَّعي هو أنها بمعناها . ومن
المعلوم بالضرورة أنه قد يكون في كل آية منها معانٍ أخرى غير اللفظ أو المعنى
المراد من المقابلة وحينئذ يضطرب اختلاط هذه المعاني فلا يسلم للقارئ منها شيء .
( الوجه الثالث ) قوله إن الله أخبر بهذا هو كذب وافتراء على الله ، فإن الله
لم يخبر بهذا ، ولو أخبر به لبيَّنه بالعمل رسوله الذي أنزل عليه بتلاوة الآية مع كل
ما نزل بمعناها ، ولنقل ذلك بالتواتر ولكنه لم ينقل قط لا تواترًا ولا آحادًا .
( الوجه الرابع ) قوله : ولا يحتاج إلى شيء من الخارج .. إلخ باطل فإن ما
يحتاج إليه مريد فهم القرآن من الخارج ( ولا يصح إسناد الاحتياج إلى القرآن نفسه )
غير ما ذكره كثير ، وأهمه وأوله وأوْلاه بالتقديم معرفة معاني مفرداته وأساليبه في
اللغة والمعاني والبيان ويليه أو يقرن به معرفة حال الأمة العربية قبل نزول القرآن
وفي أثناء نزوله ومعرفة سيرة الرسول وسنته . فهذا ما يتوقف عليه فهم عقائد الدين
الذي جاء به وعبادته وأصول التشريع فيه وهي المقاصد الأساسية للدين وأما معرفة
سنن الله تعالى في الكون والاجتماع فهي مزيد كمال في هذا الدين .
ولكن هذا الملحد يريد هدم بعض قواعد هذه العقائد والأصول والأحكام ،
محتجًّا على هدمها بمخالفتها لسنن الكون ونظام الاجتماع ، وهو يجهل هذه السنن
كما يجهل تلك القواعد والأحكام .
( الوجه الخامس ) أن الله قد وكل بيان كتابه إلى رسوله الذي أنزل عليه
بمثل قوله { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( النحل : 44 ) وقرن
طاعته بطاعته أمرًا ونهيًا ، ووعدًا ووعيدًا ، فزعم هذا الملحد أن المسلم لا يحتاج
في فهم القرآن إلى غير القرآن .. إلخ هو كفر بالقرآن وبمن أنزل عليه القرآن ، وبناءً
على هذا قال صلى الله عليه وسلم للناس : ( خذوا عني مناسككم ) وقال : ( صلوا
كما رأيتموني أصلي ) ولكن هذا الملحد لم يحرم بالحج من الميقات كما أحرم النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ لأنه غير متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وقد
أمر القرآن باتباعه ، وناط به حب الله تعالى والفلاح في الآخرة .
وجملة القول في هذا الأصل الذي انتحله لتفسيره بالباطل أنه يستغني عنه
المفسر إذا أراد جمع الآيات في كل موضوع بكتاب ( فتح الرحمن لطالب آيات
القرآن ) وكتاب ( مفتاح كنوز القرآن ) وكتاب ( نجوم الفرقان ) وما في موضوعها ،
بل أرقامه التي وضعها هو للمراجعة ليست عامة لكل الألفاظ ولا لكل المعاني .
وهي قاصرة على ما يفهمه هو ، وفهمه سخيف باطل كما علم من الشاهد الذي
أوردناه منه في المقال الأول في الإنس والجن .
وقد وضع الشيخ ثناء الله الهندي المعاصر تفسيرًا سماه ( تفسير القرآن بكلام
الرحمن ) وتباع الطبعة الثانية منه في مكتبة المنار . وإنا لنذمه إذا قلنا إنه أصح من
هذا الملحد فهمًا ، وأوسع علمًا . والحافظ ابن كثير يُعنَى في تفسيره بإيراد الآيات
الكثيرة في معنى الآية التي يفسرها . ونحن أشد عناية في تفسيرنا بإيراد ما يتوقف
عليه تحقيق المعنى اللغوي أو العلمي من هذه الآيات ، وما يصح شاهدًا على بعض
المعاني المطلوبة يغني عن إطالة القول في بعض آخر .
***
الأصل الثاني في الدين الجديد
المُحْكَم والمُتشابه من القرآن
وهو زعمه أن أصول الدين المحكمات في القرآن هي الثلاثة الآتية وأن
القرآن كله متشابه قال : ( أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف عن الناظرين ولا
يضر الناس اختلافهم في المعاني والأفهام ما داموا يرجعون إلى المحكمات من
الأصول والأمهات ، أي يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات ) .
المراد من هذا الأصل أنه ليس في القرآن نصوص قطعية الدلالة في العقائد
ولا في التشريع يجب على أهله التزامها علمًا وعملاً ، بل يكفي كل أحد أن يؤمن
بأن للعالم إلهًا وباليوم الآخر ويعمل الصالحات بحسب رأيه غير مقيد في ذلك بما
أجمع المسلمون على نقله من عهد الرسول إلى هذا العهد من قول ولا فعل ، وله أن
يفهم القرآن كما يشاء ؛ لأنه قابل بتشابهه لكل فهم وكل رأي ( قال ) : ( وإن آراء
المفسرين فيه تابعة للبيئة والظروف المحيطة بهم ، وهذه تتغير وتتجدد ، فالجمود
على آراء فاتها الزمان مؤخِّر للأمة ، وجعل القرآن مقيدًا بهذه الآراء ضار به ؛ لأنه
يجعله غير صالح لكل وقت فيضيق سعته ) اهـ .
خلاصة هذا أنه يمكن أن يكون لكل فرد يدعي اتباع القرآن دين خاص به ،
وقد صرح بهذا فيما سماه الواجب الختامي لمقدمته بقوله : ( والواجب أن كل إنسان
يعمل في خاصة نفسه بما يفهمه ويقتنع به ، ولا يكون تابعًا لأحد بدون برهان ) .
وأول ما يخطر في بال من وقف على ما تقدم من مقدماته أنه يريد من
( فهم كل إنسان ) ما يخطر بباله من معاني القرآن ؛ لأنها متشابهة لا يمكن القطع
بشيء منها . وهو لا يبيح لأحد أن يعتمد فيها على كتب اللغة ولا على السنة النبوية
ولا على إجماع السلف ، فضلاً عن مذاهب الأئمة ، وهذا هو الذي يجري عليه في
العمل ، فإنني لما أقمت له الحجة على بطلان ما كتبه في مسألة الإماء والتسرِّي أو
التزوج بهن لم يقبل مني الاحتجاج بنص اللغة ولا بما جرى عليه العمل من عهد
النبي صلى الله عليه وسلم فهو يزعم أن قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً
أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } ( النساء :
25 ) أن مملوكات اليمين هن الخوادم .. إلخ . وقد قال يومئذ لمَن كان يتكلم معهم
في هذه المسألة - إن السيد لم يقنعني .. !
والذي قررناه في المنار وفي تفسير المنار فيما يشبه هذه المسألة أن الأحكام
الثابتة بالنصوص القطعية والسنن العملية المتبعة وإجماع الصحابة يتعين على كل
مسلم اتباعها .
وأما المسائل الاجتهادية فيجب على الباحث في الأدلة أن يعمل بما يثبت عنده
منها في المسائل الشخصية ، ومن لم يكن من أهل الاستدلال فيستفتي فيما يعرض
له من ذلك من يثق بعلمه ودينه ، وسائلاً عن حكم الله ورسوله . ولكن هذا الملحد
جعل الأحكام وكذا العقائد كلها فوضى كما علمت ، فهدم بهذا أعظم قاعدة للدين تقي
أهله من الفوضى في عباداتهم وآدابهم وبه يكونون أمة واحدة متحدة في عقائدها
وعباداتها .
وكذلك أهمل وجوب العمل بنصوص الكتاب والسنة في أحكام المعاملات
المتعلقة بأمور الأمة والدولة فقال - بعد ما تقدم - : ( فمرجعها أهل الشورى من
العلماء فإن الذي يقررونه باجتهادهم وتطبيقهم هو الواجب اتباعه والعمل به ، ولا
يجوز لفريق من الأمة أن يشذ عنه ) .
والذي قررناه في تفسير { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) وغيره أن طاعة أولي الأمر وأهل الحل
والعقد بالشورى بينهم هي في المرتبة الثالثة بعد طاعة الله وطاعة رسوله وخاصة
بما ليس فيه نص قطعي وهو المسائل الاجتهادية في المصالح العامة والأحكام
القضائية . ومن أصول دينه الجديد أن كلام الله تعالى ليس فيه نصوص قطعية يجب
التزامها دائمًا ، وأما رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تجب طاعته بمقتضى رسالته .
وكما ترى :
الأصل الثالث للدين الجديد
إباحة مخالفة الرسول بمحض الرأي والمشاورة
وهو ما صرح به في تفسيره لقوله تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( النور : 63 ) ؛ إذ قال كما تقدم في المقام
الأول ما نصه ( يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره ،
وأما التي تكون للرأي والشورى فلا مانع منها بل هي من حكمة الشورى ) اهـ أي
فهي مرجحة على الطاعة له صلى الله عليه وسلم هذا مع كونه في تفسير آية سورة
النساء المشار إليها آنفًا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) أوجب طاعة الرسول من حيث هو رئيس حكومة
شورية ، لا من حيث رسالته ، فالظاهر أنه كما يخص هذا الوجوب بعصره صلى
الله عليه وسلم يخصه بما كان تنفيذًا لحكم الشورى .
نعم ، إنه فسر قوله تعالى { صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ( الأحزاب : 56 )
بقوله ( ص 234 ) : ( أقبلوا عليه بكل ما يُحكم الصلة بينكم وبينه ولا تعارضوا
في شيء من أحكامه وتعاليمه ، انظر النساء في 65 ) .
فهو على شذوذه ومخالفته اللغة والاجتماع في هذا التفسير للصلاة والتسليم
أحال فيه على آية 65 من سورة النساء وهي قوله تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ( النساء : 65 ) الآية وقد فسرها بقوله : ( يفيدك
أن مقتضى الإسلام تحكيم دين الله والرضاء بقضاء رسوله ، فكل من ينتسب إلى
الدين ولا يخضع لحكمه لا يكون انتسابه إلا رياءً ونفاقًا ) ! اهـ .
فقد علم بهذا أن مراده بعدم المعارضة في أحكام الرسول وتعاليمه خاص
بقضائه صلى الله عليه وسلم بحكم الله ، لا عام لكل أوامره ونواهيه التشريعية ،
وهو مقتضى قاعدته وجوب طاعة الرسول في عصره لرياسته للحكومة لا لرسالته
مطلقًا . مع تقييدها بعدم مخالفة الرأي والمصلحة جمعًا بين نصوصه السقيمة على
ما فيها من التعارض والاختلاف .
ومن فروع هذا الأصل وما قبله زعمه أن السرقة والزنى لا حدّ على فاعلهما
إلا إذا تكررا وصارا من العادات له . ولما احتج عليه بعض أهل العلم بإقامة النبي
صلى الله عليه وسلم حد الزنا على ماعز والغامدية وقد زنيا مرة واحدة رفض هذا
الاحتجاج ولم يعتد بفهم النبي صلى الله عليه وسلم للآية ولا بعمله في تنفيذ حكم الله
تعالى ؛ لأنه مخالف لرأيه ، وزعمه أنه كان صلى الله عليه وسلم يطاع في عصره
لرياسته لا لرسالته .
***
الأصل الرابع للدين الجديد
النزعة المادية
ترى هذا الملحد مقلدًا أتباعه الماديين في إنكار ما وراء المادة المدركة بالحس
مما ثبت في كل دين وتاريخ كل أمة وأشهر ما يعبر عنه بالملائكة والجن والشياطين
كما ترى في المعاجم والمعالم العلمية والتواريخ والكتب الدينية فهو يحرف الآيات
في ذلك تحريفًا مخالفًا لما هو متواتر عن أهل اللغة وعن جميع رسل الله تعالى
وأتباعهم . وكذلك عرش الرحمن فإنه يفسره بالملك ، ومُلك الله ( بضم الميم ) عبارة
عن جميع مخلوقاته التي يتصرف فيها ويطلق على التصرف بالتدبير ، كما يطلق
المِلك ( بالكسر ) على التصرف في الأعيان . ونصوص الكتاب والسنة صريحة في
أن العرش مخلوق عظيم فوق السموات كلها وأنه كان قبل تكوين السموات والأرض
على الماء ، وأن له حَمَلَة من الملائكة ، وأنهم يكونون يوم القيامة ثمانية ، وقد شبهنا
كونه مركز التدبير العام للعالم كله بالبناء الذي تولد فيه الكهرباء لمدينة عظيمة
تنيرها كلها وتدير جميع آلات الصناعة فيها ، وهو يحرف الآيات فيه وأما الأحاديث
النبوية فلا تدخل في دينه من باب التشريع ولا من باب اللغة والتفسير .
إن هذا التحريف ليس مما ابتدعه خيال هذا الملحد بل هو مسبوق إليه من
الباطنية وغيرهم كما قلنا مرارًا . وقد ذكر الدكتور بوست في قاموس الكتاب
المقدس معنى كلمة شيطان وأشار إلى مواضعها من العهد الجديد وذكر ثلاثة آراء
لهم في تأويل نصوص الإنجيل في دخول الشياطين الناس والبهائم وإحداثهم فيهم
أعراض الجنون قال :
( 1 ) إنه يشير إلى دخول مبدأ الشر فيهم واستيلائه عليهم وإن إخراج
الشياطين بكلمة الرب يشير إلى غلبته على الشر بتعليمه وسيرته ( قال ) على أن
ذلك يخالف النص الصريح .
( 2 ) إن المجانين لم يكونوا بالحقيقة تحت صولة الشياطين ، إلا أنه حيث
ظن الناس بذلك تكلم ربنا ورسله حسب اعتقاد العالم .. إلخ .
( 3 ) إن دخول الشياطين كان أمرًا حقيقيًّا ظهر على هيئة أمراض جسدية
وعقلية ( قال ) وهذا هو الصواب - إلى أن قال - وأخيرًا لا بد من هذا التفسير لمن
يعتبر المسيح صادقًا . اهـ . المراد منه ، وهكذا يقول كل عاقل في إخبار الرسول
الذي يؤمن به والكتاب الذي جاء به .
وأما الملائكة فالإيمان بهم من أصول العقيدة وأركان الإيمان وهو يلي الإيمان
بالله تعالى ، ويليه الإيمان بالرسل ( عليهم السلام ) ؛ لأن الوحي الذي يكون به
الرسول رسولاً يكون في الغالب الأكثر بتبليغ الملائكة . وكون الملائكة من عالم
الغيب المقابل لعالم الشهادة أو المادة معروف في جميع الأديان الإلهية .
ومن المعروف عندهم أنهم قادرون على التشكل في الصورة الجسمانية ، وأنهم
كانوا يتمثلون للأنبياء عليهم السلام بصور البشر ، وهذا ثابت عندنا في نصوص
القرآن والأخبار النبوية الصحيحة . وأهل الكتاب يصورونهم بأجنحة اتباعًا للمأثور
عندهم . ولكن تلك الصور خيالية . وأما الأجنحة فهي ثابتة عندنا بقوله تعالى في
أول سورة فاطر : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي
أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( فاطر : 1 ) .
وملاحدة الباطنية يتأولون هذه النصوص وتبعهم ملحد دمنهور ، ولكن كلامه
في الآيات المختلفة في خلقهم وأعمالهم مذبذب ليس له قاعدة ولا نظام كالمعروف
عن الباطنية ، فهو يسميهم في قصة آدم من سورة البقرة رسل النظام وعالم السنن ،
ويقول في قوله تعالى { أُوْلِي أَجْنِحَةٍ } ( فاطر : 1 ) : ( يمثل لك السرعة في
إجراء سننه تعالى في الكون وتنفيذ أمره ) يعني أنه ليس هنالك مخلوقات لها أجنحة
حقيقية ، ويقول في قوله تعالى في قصة مريم : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا
بَشَراً سَوِيًّا } ( مريم : 17 ) ما نصه : ( يُفهمك أنها رؤيا تمثيلية ، وبشارة روحية)
وفي مواضع أخرى يحيل على الآيات المتشابهة كالآيات في ملائكة الموت الذين
يتوفون الناس فلا يمكن لمتبع دينه السخيف أن يقف بعقيدته في الملائكة على معنى
جامع معقول ، فضلاً عن مخالفته للمنقول ، ولأرباب الأديان والعقول .
***
الأصل الخامس لهذا الدين الجديد
جَحْدُ مُبْتَدِعِهِ لآياتِ الله التي جاءت على غير المعهود
عند الناس كمعجزات الرسل عليهم السلام
إن أكثر البشر في مشارق الأرض ومغاربها يعتقدون أن هذا العالم علويّه
وسفليّه - صنع خالق عليم حكيم مريد مختار ، وأنه لم يوجد بالمصادفة والاتفاق ،
أو تأثير ضرورات المادة العمياء ، وفي كل شيء منه آيات دالة على ذلك . وشذ
أفراد منهم ظنوا أن سنن النظام العام المطَّردة تنافي أن تكون فعل فاعل مختار ،
يقدر أن يتصرف في الكون كما يشاء ، فأقام الله تعالى حجته البالغة على عموم
قدرته وشمول إرادته ، وكونه هو المقدر للسنن ( النواميس ) والمتصرف فيها
والحاكم عليها ، ولا تتقيد قدرته بها ، إذا اقتضت حكمته شيئًا غيرها . فأوجد في
الكون آيات أخرى مخالفة للمعروف عند البشر ، ومنها ما أيد به رسله عليهم السلام
فأقام بهم الحجة على الذين تقيدت عقولهم بما ألفته حواسهم ، وكان ما جاءت به
الرسل من أخبار عالم الغيب ( ومنه الملائكة والجن ) وما أيدهم الله تعالى به من
الآيات أكبر فائدة للشعوب المهتدية بالدين لغيرهم في كشف أسرار الكون الخفية ،
وتوسيع دوائر العلوم والفنون الطبيعية والفلكية ، ولو ظلوا مقيدين بمألوفات الحواس
ونظريات العقول لما بحثوا عن غيرها ، ولما وصلوا إلى ما وصلوا إليه في هذا
الزمان ، مما كان يجزم الناس بأنه من محالات العقول وخيالات الأوهام .
ولكن الماديين أنكروا تلك المعجزات بحجة أنها مخالفة لسنن الكون ( نواميس
الطبيعة ) وزعمهم أن مخالفتها محال ، وسلك ملاحدة الباطنية هذه السبيل في
التشكيك في الدين وإفساد عقائد العوام ، واتبعهم في هذا على جهل وغباوة ملحد
دمنهور في دينه الجديد ، كما نوهنا بذلك في مقالنا الأول ، فهو يتأول تلك الآيات
كلها فيزعم أنه لم يكن لموسى ولا لعيسى ولا لغيرهما من رسل الله تعالى آية
على الرسالة إلا الحجة العقلية والسيرة الأدبية ، فلا فرق عنده بينهم وبين الأدباء
والفلاسفة !
وقد فرق بينهم جميع الأمم فقال المؤمنون بهم : إنهم جاءوا بآيات هي من
خوارق العادات ، دالة بعجز البشر عن مثلها ، على أنها من عند الله تعالى
أيدهم بها ، وقال الكافرون بهم : إنها سحر مبين ، ونصوص القرآن في هذا عديدة ،
فلو كانت آياتهم هي الحجج القولية ، والآداب العملية لما وصفها الكافرون بالسحر ،
ولكان قوله تعالى حكاية عن كفار قريش { لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } ( طه :
133 ) { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ } ( الأنبياء : 5 ) دليلاً على أنه صلى الله
عليه وسلم لما يأتهم بآية علمية أدبية ، وهو هو الذي جاء بأكمل الحجج العقلية
والعلمية والتعاليم الأدبية وقد وعدنا بذلك كلمة في شأن عيسى وأمه عليهما السلام
في هذه المقالة فنقول :
الشواهد على جحده لآيات المسيح وأمه عليهما السلام
( 1 ) قال في تفسير قوله تعالى { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } ( المؤمنون :
50 ) ما نصه : ( جعلناهما آية بسيرتهما الحسنة وبالنجاة من الصلب الذي كان
مدبرًا للمسيح فهربت به أمه وهاجر كما يهاجر كل نبي خوفًا من القتل ) . اهـ .
( 2 ) وقال في تفسير قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ
يَشَاءُ } ( آل عمران : 6 ) ما نصه : ( ذكر التصوير في الأرحام هنا مقدمة لذكر
عيسى وإظهار أن الله صوَّره في الرحم كما صور غيره ) .
( 3 ) قال في تفسير قوله تعالى { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} ( مريم : 17 ) ( يفهمك أنها رؤيا تمثيلية ) أي رؤيا في المنام .
ونقول : إن الله تعالى بيَّن في سورتي الأنبياء والتحريم أن هذا الروح ( أي
المَلَك ) نفخ فيها كانت سبب حملها بالمسيح عليه السلام ، وفي الآية الأولى أسند الله
النفخ إلى نفسه فقال : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا
وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 91 ) فهل يتبع هذا الملحد عاقل أو مجنون فيقول
إن المراد من الآية جعلها آية بآدابها ؟ وهو لم يتكلم على هاتين الآيتين بل اكتفى
بالإحالة على هذه الآية وقد أحال فيها على الآيتين 9 و 10 قبلها يعني قوله في
حمل امرأة زكريا بيحيى عليهما السلام ( فآية الله في مجيء الغلام لم تخالف سنته
في نظام التناسل والزوجية ) . اهـ .
وهذا خطأ مزدوج فإن إزالة عقم المرأة وحملها - ولا سيما في الكبر -
مخالف للسنن المعهودة في الحمل ، وآية على قدرة الله تعالى على خرق العوائد .
وأما حمل مريم بالمسيح فليس فيه من نظام الزوجية شيء ، وهو نص ما قصه الله
تعالى من قولها للملك المبشِّر لها { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ
أَكُ بَغِيًّا } ( مريم : 20 ) وفي معناه آية آل عمران { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ } ( آل عمران : 47 ) وهذا الجواب من الله يخلق ما يشاء { إِذَا قَضَى أَمْراً
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران : 47 ) وهذا الجواب من الله تعالى نص
في أن هبة هذا الولد لها يكون بمحض إرادة الله المعبّر عنها بكلمة التكوين لا بسنة
الزوجية المعروفة . ومثله .
( 4 ) قوله تعالى { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران : 59 ) وقد كتب عليها هذا الملحد : ( أي لم يكن
عيسى خارجًا عن نظام البشرية حتى يصفوه بما لا ينبغي لها من الصفات الإلهية .
راجع قصة آدم في أوائل البقرة . اهـ .
وأقول : إنه قال في قصة آدم : ( إنها قصة فيها تمثيل حياة الإنسان وتطوراته )
فأي مناسبة بين قصة تمثيلية لأطوار البشر وبين خلق عيسى وهو شخص معين .
( 5 ) إنه حرف المعجزات المنصوصة في الآية ( 49 ) من هذه السورة بما
يأتي : أما النفخ في صورة الطير من الطين فتحل فيها الحياة فتكون طيرًا فقال فيه :
( يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم وروحه ) .
وأما إبراء الأكمه والأبرص فقد قال فيه : ( إن الأكمه مَن ليس عنده نظر ،
والأبرص المتلون بما يشوه الفطرة ) ثم قال : ( فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه
يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطبية أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي
والفكري بالهداية الدينية ) ؟
نقول : إنه لا يكمل التكوين الجسدي ولا الروحي إنما يزيل بإذن الله هذه العاهة
وهذا المرض من الجسد ، وأما الهداية الدينية فلم يعط نبي من الأنبياء منها إلا
الدلالة والتعليم ، وأما الهداية بالفعل التي هي إتمام التكوين الروحي فهي لله وحده
كما قال عز وجل لخاتم النبيين : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } (البقرة : 272 ) وقال : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } (القصص : 56 ) .
ثم قال - في تحريف قوله عليه السلام لبني إسرائيل - : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } ( آل عمران : 49 ) ما نصه ( يعلمهم التدبير
المنزلي ) ! !
يعني أن من مقاصد المسيح إمام الزاهدين أن يعلم اليهود التدبير المنزلي وهم
عبيد المال وأعلم علماء الأرض بشؤون الكسب والرزق ! !
( 6 ) ثم قال في تفسير الآيات التي في آخر سورة المائدة في هذا المعنى
وفيها إحياء الموتى ما نصه :
( ومن هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل ليشفي مرض
نفوسهم ، ويحيي موت قلوبهم ، فآيته في دعوته ( أي كائنة في دعوته ) وسيرته
وهدايته ، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته ، فلم يكن خارقًا لله في سنته ،
ولا ممتازًا بما يدعو إلى ألوهيته وعبادته ) اهـ .
أما زعمه أنه لم يكن ممتازًا فهذا باطل مخالف لنصوص القرآن ولما عند
النصارى من نصوص الأناجيل ، وأما كون هذا الامتياز لا يدعو إلى ألوهيته
وعبادته فهذا حق أريد به باطل من هذا الملحد الجاهل .
***
( مأخذ هذا التحريف من كلام الباطنية )
إن من اطلع على ما قاله الباطنية وكذا غلاة الصوفية في تأويل هذه الآيات
وأمثالها يعلم أن هذا الملحد قد سلك طريقتهم وأخذ هذا الكفر عنهم بنوعه أو عينه
في بعض العبارات ولم أر له تحريفًا لم أر له نظيرًا إلا تحريف آية الإسراء فقد
أوَّلها بالهجرة من مكة إلى المدينة وقال : إن المسجد الأقصى هو مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم فيها . وقد بلغنا هذا الزعم عن بعض اليهود الصهيونيين فإن صح
هذا النقل كان غير مستقل بهذه السخافة أيضًا .
سورة الإسراء نزلت قبل الهجرة بسنين . ووصف الله للمسجد الأقصى بقوله
{ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ( الإسراء : 1 ) يدل على أن موقعه بالقرب من مهاجر
إبراهيم و لوط عليهما السلام إذ قال تعالى { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا
فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 71 ) وورد في الأحاديث النبوية الصحيحة ذكر المسجد
الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في المدينة والمسجد الأقصى .
وأن ثواب الصلاة في الثلاثة مضاعَف والتفاضل بينها على الترتيب .
وجملة القول أن هذا الملحد قد أخذ إلحاده كله عن ملاحدة الباطنية وبعض
الماديين ولكنه لم يتقن صرف الناس عن دين الله تعالى بعض إتقانهم .
***
مثال من تأويل الباطنية لآيات المسيح عليه السلام
وإنني أذكر شاهدًا واحدًا من تفسير الكاشاني الباطني المنسوب إلى الشيخ
محيي الدين بن عربي في آيات عيسى عليه السلام المذكورة آنفًا من تفسير آية آل
عمران . قال في قوله { وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( آل عمران : 49 ) .. إلخ
( ورسولاً ) إلى المستعدين الروحانيين من أساطين يعقوب الروح { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم
بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ( آل عمران : 49 ) تدل على أني آتيكم من عنده { أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُم } ( آل عمران : 49 ) بالتربية والتزكية والحكمة العملية من طين نفوس
المستعدين الناقصين { كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } ( آل عمران : 49 ) الطائر إلى جناب
القدس من شدة الشوق { فَأَنفُخُ فِيهِ } ( آل عمران : 49 ) من نفث العلم الإلهي
ونفس الحياة الحقيقية بتأثير الصحبة والتربية { فَيَكُونُ طَيْراً } ( آل عمران :
49 ) أي نفسًا حية طائرة بجناح الشوق والهمة إلى جناب الحق { وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ } ( آل عمران : 49 ) المحجوب عن نور الحق الذي لم تتفتح عين بصيرته قط ،
ولم تبصر شمس وجه الحق ، ولا نوره ، ولم يعرف أهله بكحل نور الهداية
{وَالأبْرَصَ } ( آل عمران : 49 ) المعيوب نفسه بمرض الرذائل والعقائد الفاسدة ،
ومحبة الدنيا ، ولوث الشهوات لطب النفوس { وَأُحْيِي } ( آل عمران : 49 )
موتى الجهل بحياة العلم { بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } ( آل عمران : 49 )
تتناولون من مباشرة الشهوات واللذات { وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } ( آل عمران :
49 ) أي في بيوت عيوبكم من الدواعي والنيات . اهـ .
هذا ، وإن صاحب هذا الكلام لا يسميه تفسيرًا للقرآن ، ولا ينكر التفسير
الظاهر المأثور والمعقول ، بل يقول إن هذا تأويل يشير إلى مقاصد روحية وتهذيبية
وِفاقًا لما ورد من أن للقرآن ظهرًا وبطنًا . ولكن الباطنية يزعمون أن ظواهر
القرآن التي يقتصر عليها المفسرون خاصة بالعوام غير المرتقين في معارج العرفان
وأن المعاني الباطنة هي المقصودة بالذات ، التي يستغني مَن ارتقى إليها عما
يكلفه العوام من الأعمال والعبادات .
والذي قعد بملحد دمنهور عن شأو كل مَن كتب في التفسير من أهل الشرع
وأهل الإلحاد ، وأهل الظاهر والباطن - هو أنه جاهل بعلوم الجميع ، ومستعجل
لاستغلال القرآن بإيجاد تفسير الملاحدة الماديين المتفرنجين ، ظن أنه يجد فيهم
عصبية له فيكون إمام المجددين ، وقد خاب ظنه فيهم ، فلم ينتصر له أحد منهم .
***
ارتداد مَن يصدق أصول هذا الدين الجديد
وجملة القول في هذه الحواشي ( الهوامش ) التي دنس المصحف الشريف
المعظم بطبعها عليه أنها إلحاد جديد في كتاب الله تعالى هو أعرق في الجهل
ومحاولة هدم دين الإسلام - من إلحاد الباطنية ، فمن صدق تلك الأصول التي
أجملناها كلها أو بعضها يُحكم بارتداده عن دين الإسلام بإجماع المسلمين ، ولا يجوز
لامرأته المسلمة أن تعاشره معاشرة الأزواج ، ولا يرث المسلمين ولا يرثونه ،
ونحن لا نخشى أن يتبعها جماعة تتألف منه ملة جديدة كالبابية والبهائية أو الأزلية ،
ولا فرقة مارقة مع التمسك بأركان الإسلام الخمسة كالمسيحية القاديانية ، وإنما
نخشى أن ينتشر هذا المصحف فيظن بعض الجاهلين بأصول الدين وعقائده أنه
تفسير لبعض آيات القرآن فيعلق بأذهانهم بعض ما فيها من العقائد الفاسدة أو بعض
تحريف آيات الأحكام المخالف لإجماع المسلمين . فهذا أهم ما حملنا على كتابة هذه
ونشرها في الأهرام التي هي الآن أوسع الجرائد انتشارًا . فنحن نجزم بأن بيع هذا
المصحف حرام ، واقتناءه حرام ، إلا لعالِم قادر على تفنيد ما فيه من الكفر
والضلال ، ونعتقد أن جميع علماء الإسلام يوافقوننا في هذا .
هذا ، وإنه قد جهر بهذا الفكر في وقت سئم فيه العالم المدني من مفاسد
الأفكار المادية ، وضعف الحياة الروحية الدينية ، وتألفت كتب وتأسست جمعيات
في أوربة وأمريكة لإحياء العقائد الدينية ، وسنحت الفرصة لعلماء المسلمين
الحكماء العارفين بحال هذا الزمن لعرض هداية القرآن الوسط الجامعة بين الحياتين
الجسدية والروحية على العالم المدني ، وإقناعهم بأنها هي التي تخرجهم من هذه
الفوضى المادية والأدبية ، والأخطار الاستعمارية والبلشفية ، التي يخشى أن تدُعَّهم
دعًّا إلى حرب عامة أخرى تدمر هذه الحضارة وتقضي على أهلها .
وقد فصَّلنا هذا في المنار وتفسيره وجزمنا - تبعًا لأستاذنا الإمام - بأن العالم
المدني كله سيتبع هداية القرآن { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } ( ص : 88 ) .
وقد ضاق المقال عن بيان جهل هذا الملحد بالسنن العامة والاجتماعية التي
يتوكأ عليها في هدم الدين ، فوجب أن نخصه بمقال آخر هو مما يهتم به جميع
المتدينين . اهـ .
( المنار )
أرسلنا هذه المقالات إلى جريدة الأهرام التي فتحت باب الخوض في هذه
المسألة على مصراعيه في وقت عطلت فيه جرائد المسلمين اليومية لأسباب سياسية
محلية ، ولكن الأهرام أبطأت في نشرها ، حتى أن المقالة الثالثة الأخيرة قسمت
متفرقة في زهاء ثلاثة أسابيع ، ولم يعتنَ بتصحيحها ولا تصحيح ما قبلها فيكثر فيها
الغلط والتحريف والسقط .
وقد علمت أن بعض علماء الأزهر وغيرهم حفظوا نسخ الأهرام التي نشرتها
ولابد أن يستغنوا عنها بالمنار ، ومن لا يقتني المنار ينبغي له أن يصحح ما نشر
في الأهرام بالمقابلة عليه . وليعلم القراء أن هذا الملحد هو محمد أبو زيد الذي كان
دخل مدرستنا دار الدعوة والإرشاد وكنت كتمت اسمه حياءً من خزيه وعاره ، ولكن
قال لي الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر : وماذا عليك من ذلك وقد ارتد أحد المسلمين
الأولين ممن كتبوا الوحي عن الإسلام فلم يضر ارتداده الإسلام ولم يشوه المسلمين ،
وقال غيره من إخواننا إن الله تعالى قال في كتابه - وهو الهدى للمتقين - :
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ } ( البقرة : 26-27 ) وهذا الرجل المخذول منهم ، هداه الله .
((يتبع بمقال تالٍ))
(31/753
 
جمادى الآخرة - 1350هـ
أكتوبر - 1931م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

إلحاد في القرآن
و دين جديد بين الباطنية و الإسلام

المقالة الرابعة
السنن الكونية الاجتماعية ونظام الكون
لقد أكثر هذا الملحد من ذكر السنن الإلهية ونظام الكون في هوامشه ومقدمتها ،
وجعلها هي المستند له في جحود آيات الله تعالى التي أيَّد بها رسله ، وتحريف
الآيات الواردة فيها وفي أخبار عالم الغيب كما تقدم ، وقد وعدنا بإظهار جهله في
هذه المسألة فنقول :
إننا بفضل الله قد انفردنا دون سائر المفسرين بالكلام على هذه السنن والنظام
الإلهي في تفسيرنا ومجلتنا ، وهو قد سمع ذلك منا ولكنه لم يفهمه ، بل لبسه
كالفرو مقلوبًا ، ونكس على رأسه فاتخذه منكوسًا ، نحن قد أوردناه لتقوية الإيمان ،
والحجة على إعجاز القرآن ، فجعله هو شبهة على الإيمان بالغيب وجحود آيات
الأنبياء عليهم السلام ، وما أوردناه من تأويل لبعض ما يحتمل التأويل على طريقة
المتكلمين ، قصدنا به تقريبه من عقول الجامدين على المألوف من النظريات
العقلية أو العلمية ، لئلا يَرُدُّوا النصوص بها فيرتَدُّوا ، وقد صرحنا مرارًا بأن الذي
ندين الله به من أخبار عالم الغيب ، وما في معناها من آيات الله تعالى في الخلق ،
هو الإيمان بما صح منها بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ، وقد جعلها هذا الملحد
قانونًا لتحريف ما لا يحتمل التأويل ، كما قال الله : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ } ( آل عمران : 7 ) الآية ،
فوجب أن نأتي بخلاصة في المسألة مما نشرناه في مواضع متفرقة في المنار
وتفسيره ، ونقفي عليها بتفنيد ضلالته فيها ، فنقول :
قد أخبر الله تعالى في مواضع من كتابه بأن له سُنُنًا في عباده والأقوام الذين
بعث فيهم رسله ، وأن سننه لا تبديل لها ولا تحويل ، وأخبر أيضًا بأنه أحسن كل
شيء خلقه ، وأتقن كل شيء ، وأن كل شيء عنده بمقدار ، وأن خلقه في منتهى
الإحكام والنظام .
فما بيَّنه الله تعالى من أنواع هذه السنن ، كنصره لرسله على الجاحدين
المعاندين لهم ، ومن إهلاكه للظالمين ، ومن تدميره على الفاسقين المفسدين - فهو
كما قال تعالى .
وكذا ما بيَّنه من نظام الخلق ومقاديره ، ككون الشمس والقمر بحسبان ، وما
جعله لهما في السماء من المنازل والبروج ، ومن كونها لا تفاوت فيها من فطور ولا
فروج ، فهو كما قال عز وجل .
وأما ما لم يبيِّنه لنا من ذلك في كتابه بنوعه أو عينه ، فالطريق إلى معرفته هو
ما أرشَدَنا إليه من النظر في ملكوت السموات والأرض ، وما خلق من شيء ،
والتأمل في آياته في الآفاق وفي أنفسنا ، والسير في الأرض لمعرفة آثار من قبلنا
وكذا من في عصرنا بالأولى .
قد أرشدنا كتاب الله عز وجل إلى كل هذا ، وقد أشرنا في مواضع من المنار
وتفسيره إلى ما هو ثابت بالحس من أن أعلم الناس بسنن الله وحكمه ونظمه في
خلقه هم أكثرهم انتفاعًا بهذا العلم ، واهتداء به إلى تسخير هذا الكون .

سنن الله مادية وروحية :
وبيَّنا أيضًا أن هذه السنن وهذا النظام والتقدير والإحكام والتدبير ، عام في كل
ما خلقه تعالى من عالمي الغيب والشهادة ، أو عالمي الأجساد والأرواح ، أو المادة وما
وراء المادة ، على اختلاف الاصطلاح .
وصرَّحنا بأن ما أيَّد به تعالى رسله من المعجزات ، وكذا ما دون ذلك من
خوارق العادات التي تسمى الكرامات ، إذ لم يكن جاريًا على سنن النظام المألوف في
القوى الجسدية والنظم المادية ، فقد يكون جاريًا على السنن الروحية والمقادير
الغيبية ، وقد يكون بمحض القدرة الكاملة ، فهو مزيد كمال في قدرته وحكمتها لا نقضًا
لهما ، ولا نقصًا فيهما .
فإذا لم يكن من سنته تعالى في حياة الجسد إذا فُقدت بالموت أن تعود إلى
الميت ؛ فإن هذه السنة السلبية لا تنافي أن يهب الله تعالى بعض خواص الروحانيين
من خلقه ، كالملائكة أو المسيح الذي خلقه بالنفخ من روحه في أمه أن يمد بهذا
الروح القوي ميتًا كألعازر أو البنت اللذين روت الأناجيل خبر إحيائه إياهما ،
فيسري فيهما من روحه ما يجذب إليهما الروح التي خرجت منهما بقدرة الله تعالى ،
ومثل ذلك حلول الحياة في عصا موسى في الوقت المعلوم الذي أمره الله فيه بإلقائها
عند بعثته ، وعند امتحان السحرة له ، والله على كل شيء قدير .
لا فرق بين ما لا نعلمه من هذه السنن الروحية ، وما نعلمه من السنن
الجسدية في كون كل منهما فعل مبدع الأرواح ، وخالق الأجساد ، ولا يعترض
بإحداهما على الأخرى عند من يؤمن بأن الخالق واحد هو واضع السنن ومقدرها ؛
ولكن هذا الأمر النادر ينكره من لا يؤمن بأن كلاًّ منهما فعل الله القادر على كل
شيء .
ومن الغريب أن أطباء هذا العصر وأعلم علمائه الماديين يرون من الجائز في
العقل الذي يقرب أن يصل إليه العلم ، أن تعود الحياة إلى جسد الإنسان أو الحيوان
بعد موته بمدة غير طويلة كحياة البنت الميتة التي دخل المسيح عليه السلام بيت
أبيها وأمها وسأل عنها فقيل له : إنها نائمة حتى لا ينغصوا عليه ضيافتهم له ،
فناداها قائلاً : لك أقول يا صبية قومي ، فقامت بإذن الله تعالى .
وأغرب من هذا أن منهم من يقول بإمكان إيجاد الحياة في بعض الأجسام
بطريقة علمية صناعية ، ونُقل أخيرًا عن عالم منهم اسمه مورجان أنه قام بتجارب
عملية أثبت بها إمكان استيلاد مخلوقات حية على سبيل الشذوذ Emergeney
،
وملحد دمنهور لا يصدِّق أن المسيح أحيا الناس من موت الجهل والرذيلة ؛ ولكن
هذا النوع من الإحياء ثابت لجميع العلماء الذين يُعلِّمون الصغار - والجاهلين من
الكبار - ما يزيل جهلهم ويحييهم حياة دينية أو أدبية أخلاقية ، فهو لا يمكن أن تكون
آية لعيسى عليه السلام ينوه بها كتاب الله ، ويخبرنا أن الجاحدين لنبوته وصفوها
بالسحر .
وما عهد من المؤمنين بالله ورسله أحد ينكر هذه الآيات بمثل هذه الشبهة ،
وإنما عهد ذلك من الكافرين بالله وبرسله ، أو من الزنادقة الذين يُظهرون الإيمان
ويسرون الكفر لخداع المؤمنين وتشكيكهم في دينهم توسلاً إلى إخراجهم منه كملاحدة
الباطنية .
السنن من الممكنات بين المحو والإثبات :
فإذا كنا نقول بثبوت سنن الله واطرادها لما بيَّنه الله من ذلك ، فالواجب في
ذلك أن نتبع كتاب الله فيما يبينه من خوارق العادات أيضًا ، فلا نكون ممن قال الله
تعالى فيهم : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ
مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( البقرة : 85 ) .
وإذا أردنا أن نثبت هذه السنن واطّرادها من طريق العلم ونبني عليه تأويل ما
يخالفها كله من نصوص الكتاب والسنة على طريقة المتكلمين المعروفة ( وهو ما
يمكن أن يستمسك به ملحد دمنهور ) فيجب علينا قبل كل شيء أن نبين ما تقوم
الأدلة العلمية القطعية على صحته واطراده واستحالة تغيره وتخلفه مطلقًا ، وحينئذ
لا نكاد نجد شيئًا بهذه الصفات إلا قليلاً من الضروريات ( ككون النقيضين لا
يجتمعان ولا يرتفعان ) وليس منها عودة الحياة إلى من مات ولم يطل العهد على
موته ، كالبنت التي أحياها المسيح عليه السلام ، ولا إعادة وظائف التناسل إلى من
فقدها من النساء والرجال ، كما وقع لزكريا وزوجه عليهما السلام .
والقاعدة عند علماء الكون - حتى الماديين منهم - أن كل ما نقول إنه من
سنن الكون ( أو نواميسه ) فإنما هو بحسب ما ظهر لنا ببحثنا وتجاربنا ، وأنه
يجوز أن يظهر لنا ما يخالفه ويثبت لنا خطأنا فيه ، كما حصل مرارًا فيما ظهر
للباحثين من خطأ من كان قبلهم من العلماء والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين ، ولا
أرجع في التمثيل لهذا إلى ما نقض علماء الحضارة الأوربية من قواعد علوم اليونان
والعرب وأفلاكهم وفلسفتهم ، ولا إلى ما نقض بعضهم من قواعد بعض في القرون
الأربعة الماضية ، بل أكتفي بأهم ما حدث من ذلك في عصرنا هذا :
عثروا على مادة الراديوم الذي لا يجهل اسمه قارئ للجرائد ، دع متلقي العلوم
في المدارس ، فكان بدء عصر جديد في الكيمياء والطبيعة تقوضت فيه سنن
ونواميس كانت من المسلَّمات ، وثبت خلافها ، كإشعاعه الحرارة والنور إشعاعًا
دائمًا من غير أن ينقص من وزنه شيء ، وكعدم تأثير ما حوله فيه من حرارة
وبرودة ، وكتحول المادة الغازية التي تنبعث منه إلى عنصر الهيليوم ، وبهذا ثبت
شيء كان علماء هذا الفن يجهلونه ؛ إذ كانوا يقولون إن عناصر المادة البسيطة لا
يتحول شيء منها فيستحيل إلى غيره .
وقد كانت سنة الجاذبية من المسلَّمات التي لا نزاع فيها حتى قام الأستاذ
أينشتين الألماني بتقويض دعائمها بنظرية النسبية ، التي فتحت في العلم بابًا جديدًا
من أبواب المحو والإثبات في الطبيعيات وفي الرياضيات أيضًا .
وتلك نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي التي تدعمها سنن كثيرة في
الجيولوجية والنبات والحيوان والإنسان قد وقعت في النزع والاحتضار ، كما بيَّنا
في مقالة خاصة في المنار ، أو قُضي عليها بالتبع للقضاء على النظرية الميكانيكية
التي بنيت عليها ، كما نشر في بعض الصحف في هذه الأيام .
أساس الكون ومصدره ومظهره :
وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار
المختلفة ، ألم يكونوا يقولون : إنه مؤلَّف من مادة ذات عناصر بسيطة ، وقوة هي
منشأ التركيب الذي حدثت به الصور المختلفة في العالم كله .
قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر ، فبما
ثبت من تحول القوة إلى مادة ، ثم بما ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح
لا تُعرف له حقيقة ، وأن هذا الوجود الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى
مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء ، وأن كل ذرة من ذراته تتألف من عدة كهارب
سلبية تدور حول كهرب إيجابي - والكهرب هو الوحدة من الكهرباء - وهذه
الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة ولا إنها قوة ، وإنما حقيقتها مجهولة .
وهذا الذي استقر عليه رأي علماء الكون أخيرًا يؤيد ما أثبتناه في المنار وفي
تفسيره من أن أول مظهر من مظاهر التكوين الذي نسميه المخلوق الأول مجهول
للبشر ، وأن علماء الكون اختلفوا في إمكان علم البشر به ، فمنهم من يقول : إنه
يمكن الوصول إلى العلم به بطول الترقي في معارج العلم ، ومنهم من يقول بعدم
إمكان ذلك ، ونقل هذا عن الفيلسوف سبنسر قبل القول الأخير بتركب الذرات من
الكهارب ، ورأينا في هذه الأيام من نقله عن الأستاذ صليفان .
بل هو مثبت لأقوى الأدلة العقلية على وجود الله تعالى عندنا ، وهو أن جميع
مظاهر هذا الكون السماوية والأرضية تطورات تستند إلى حقيقة غيبية لا يعلم أحد
كنهها ، وقد بيَّنا ذلك مرارًا كثيرة منها مناظرة دارت بيننا وبين العلامتين صاحبي
المقتطف .
فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا فما المانع من القول بأن هذه القوة
هي قوة الله وقدرته ؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر تموجات
الكهرباء المجهولة الكنه ، فأي بعد بين قولهم هذا وقول أتباع الوحي : إن الوجود
الممكن الظاهر صادر عن الوجود الواجب الغيبي الباطن و { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ( الحديد : 3 ) .
نكتفي بهذه الكلمة الوجيزة في سنن الوجود الظاهر المدرَك بالحواس ، الذي
بلغ البشر من العلم بها مستوى لم يُعرف في التاريخ ما يقرب منه لأحد من شعوب
الحضارة القديمة .
وإذا نحن ارتقينا عنه إلى علم النفس ، وما تجدد فيه عند علماء العصر ،
علمنا أن في الوجود سننًا غير سنن المادة بأنواعها بعد أن صار التنويم المغناطيسي
من الحقائق الثابتة بالتجارب المطردة ، وما تبع ذلك وتقرر من بعض أنواع الكشف
الذي يعبرون عن بعضه بقراءة الأفكار وبمراسلة الأفكار ، وقد شاهدنا بعض ذلك
بالطريقة الصناعية ، بعد ثبوته عندنا بالهبة الإلهامية .
ووراء هذا وذاك مسألة مناجاة الأرواح التي آمن ببعض مظاهرها مَن لا
يحصى لهم عدد من العلماء الطبيعيين والرياضيين ، ووقف كثير منهم عندها
حائرين .
وفوق ما ذُكر كله قدرة رب العالمين ، وإرادته واختياره في الخلق والتقدير
والتدبير ، وهو واضع السنن والقوانين ، ومُسخِّر الأسباب والنواميس ، الحاكم بها
وعليها وفيها بعد إيجاده لها ، والمبدع لما شاء قبل وجوده وبعده { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } ( يس : 82-83 ) .
الإيمان بقدرة الفاطر فطري أو فكري والشذوذ فيه :
فالإيمان بقدرة الفاطر المبدع ، الخالق المصور المقدِّر ، غريزي في هذا
الإنسان المفكر ، ظهر في أجياله المفكرة في مظاهر مختلفة ، من فطرية ساذجة ،
وفكرية راقية ، ووجدانية شعرية ، وروحانية إلهامية .
وشذَّ أفراد من المفكرين في هذا الأمر وفي اختلاف الناس فيه كشذوذ الناس
في كل علم وعمل ، لم يظهر لهم الصواب في جانب أحد منهم ، ولا في شيء آخر
يصح أن يكون فصلاً فيما اختلفوا فيه ، فكانوا فريقين ( أحدهما ) معطِّل لا يؤمن
بشيء غيبي فوق هذا الوجود المدرَك بالحواس ( والثاني ) شاك حائر بين إثباته
ونفيه .
ذلك بأن البشر قد فُطِرُوا على التفاوت العظيم في الاستعداد للعلم والعمل ،
وهذا التفاوت يقتضي بطبعه الاختلاف في الفهم للشيء والحكم فيه ، والاختلاف بين
الناس في وسائل معارفهم البشرية ومقاصدها ، يفضي بهم إلى الترقي فيها ، فهو
نافع ما لم يكن علة أو معلولاً للتفرق والتعادي .
ومن المعلوم بالعقل والتجارب أنه لا مثار لاختلاف التفرق فيما ترتقي به
الزراعة والصناعة ، ولا في وسائل انتشار التجارة ، إذ لا يرى أحد من الناس
غضاضة على نفسه ولا على قومه في اتباع ما سبقهم إليه غيرهم فيه .
وأما العلم بما يجب الإيمان به من وجود الفاطر وصفاته وشكره وعبادته ، وما
يرضيه أن يكون عليه عباده ، فهو مما لا يرتقي ويتمحص باختلاف الناس فيه ،
ولا هو مما يسهل عليهم أن يأخذ كل قوم ما سبقهم إليه غيرهم فيه بكسبهم
واجتهادهم ، إذ لا يمكن أن يصل ذلك إلى درجة القطع التي يزول فيها الخلاف
بالضرورة ، وقد ثبت بالتجربة في الأجيال والآماد الكثيرة ، أنه كان أعظم أسباب
التفرق والتعادي وسفك الدماء الغزيرة .
حاجة البشر إلى الدين المستمَد من الوحي :
فمن ثم كان البشر في أشد الحاجة لبيان الحق فيه إلى وحي من الله عز وجل ،
تقوم به الحجة على جميع أولئك الفرق من المؤمنين المختلفين ، ومن الملحدين
المعطلين ، والشاكين اللاأدريين { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ( البقرة : 213 ) الآية .
وقد كان من حكم كتاب الله الحق فيما اختلف فيه الناس بمقتضى ما ذكرنا من
غريزة التفاوت بينهم في العلم والفهم والحكم ، أن العالم كله صادر عن قدرة الله
تعالى ومشيئته واختياره ، سواء فيه ما أبدعه ابتداء ، وما خلقه بنظام السنن العامة
في الأسباب والمسببات ، فالسنن وما وضعت له وجرت فيه كل ذلك بيد الله
يتصرف فيها بمشيئته ليس مقيدًا بشيء منها ، فهو إذا شاء غيرها ؛ ولكنه لا يفعل إلا
ما تقتضيه حكمته ، فصفات الله تعالى من العلم والحكمة والمشيئة والقدرة والرحمة
لا تناقض ولا تعارض في متعلقاتها ، كما بيَّناه مرارًا في تفسيرنا .
هذا حكم الله تعالى في كتبه لرسله كما نراه في نصوص آخرها الذي أنزله الله
مصدقًا لها ومهيمنًا عليها ، وسنذكر بعض الشواهد منه فيها .
ويقابله قول معطلة الماديين الذين يُنكرون الخالق والخلق بالمشيئة ، وبعض
الفلاسفة الإلهيين الذين يثبتون لرب العالمين من صفات الكمال ما عدا الاختيار في
المشيئة ، ومذاهبهم في تأثير الطبائع بذاتها ، وضرورة اتصال العلل بمعلولاتها ،
وكون الله تعالى خلق المادة وأودع فيها قواها ونظامها ، وتركها لنفسها فلم يبق له
فعل فيها ، كل ذلك معروف ليس من موضوعنا تفصيله والرد عليه ؛ وإنما غرضنا
من ذكره أن نبين أن الناس على قسمين : مليين على هدي أنبياء الله تعالى يؤمنون
بأن الله فاعل مختار بيده ملكوت كل شيء في كل وقت ، وكفار يزعمون أن كل
حركة وسكون في هذا الكون تجري على سنن نواميس فيه بمقتضى الضرورة لا
تأثير فيها لموجود غيرها ، وما يشاهدونه في كل زمن من وجود أشياء على غير
هذه السنن المعروفة يسمونه ( فلتات الطبيعة ) ويقولون إنه لا بد له من سبب وإن
كنا لا نعرفه ، وما ينقل في كتب المليين من آيات الأنبياء ، منهم من ينكره ومنهم
من يتأوله ، ومنهم من يقول : إنه من فلتات الطبيعة التي لم يظهر لنا سببها ،
فمذاهبهم في هذه المسائل متعددة .
وملحد دمنهور قد جرى على أصل هؤلاء القائلين بأن السنن والنواميس
ضرورية لا يمكن تغيير شيء منها ولا تبديله ولو بفعل الله ومشيئته ، وأنه ما وقع
ذلك في الماضي للرسل ولا لغيرهم ، فهو مخالف لجميع المليين من أتباع الرسل
عليهم السلام ، ولولا هذا لم يكن محتاجًا إلى تحريف ما جاء في القرآن من أخبار
الغيب ومعجزات الرسل .
شبهة ملحد دمنهور في السنن وبيان بطلانها :
قد يقول بغروره بجهله : إنني قد أخذت في هذا بما جهله جميع المسلمين وجميع
المليين من قبلهم ( أي وعرفه ملاحدة الباطنية لا سيما البهائية آخرهم ) وهو ما
نص عليه القرآن في مثل قوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } ( فاطر : 43 ) .
ونقول في جوابه ( أولاً ) : إن سنة الله التي قال إنه لا تبديل لها ولا تحويل ،
هي نصر رسله على المعاندين لهم من أقوامهم ، كما هو صريح الآيات التي وردت
فيها في سور الإسراء والأحزاب وفاطر والفتح ، وفي السور التي لم يذكر فيها أنه
لا تبديل لها أيضًا .
وجاء لفظ السنن جمعًا بهذا المعنى في سياق الكلام على غزوة أحد من سورة
آل عمران { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
المُكَذِّبِينَ } ( آل عمران : 137 ) وجاء بمعنى التشريع الديني في سياق محرمات
النكاح وحكمتها من سورة النساء { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم
وَيَتُوبَ } ( النساء : 26 ) فهو لم يقل هذا في أمر الخلق والتكوين ، وربما كنت أنا
الذي التزمت إطلاق هذا اللفظ على ما يسميه علماء الكون والفلسفة بالنواميس
الطبيعية في المنار والتفسير ، وفي نظام مدرسة الدعوة والإرشاد ، إذ أطلقت اسم
سنن الكائنات على الدروس التي وضعها الدكتور محمد توفيق صدقي - رحمه الله
تعالى - في علم حفظ الصحة ومقدماته من علم الطبيعة وعلم وظائف الأعضاء ،
فنشرتها في المنار وطبعتها على حدتها بهذا الاسم .
وأول من أرشدنا إلى كون أصول علم الاجتماع من سنن الله في خلقه ،
حكيمنا العربي الواضع الأول لقواعد هذا العلم عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله
تعالى ؛ فإنه يكرر في مقدمته عقب بيان القاعدة العمرانية قوله : سنة الله في خلقه ،
أو سنة الله التي قد خلت في عباده ، ثم زاد عليه في هذا أستاذنا الإمام في مقالات
العروة الوثقى الاجتماعية ، وزدت عليهما تعميم ذلك في النواميس الكونية كلها .
هذا وإنه ليس عندنا دليل ديني ولا عقلي على استحالة وقوع التبديل والتحويل
في هذه السنن ، ولا على اطرادها وعدم الشذوذ فيها مع الجزم بإمكانها .
وأما الأدلة العلمية المبنية على التجارب العملية فقد بيَّنا آنفًا أن أهلها لا
يقولون بوجوب شيء من هذه السنن المعروفة ، بحيث يستحيل نقضه وثبوت خلافه ،
وأنهم يثبتون الشذوذ بالأسباب المجهولة المعبَّر عنها بفلتات الطبيعة ، وبالأسباب
العلمية العملية ، وقد كان بعض الناس ينكرون ما جاء به الأنبياء من أخبار عالم
الغيب كالملائكة والجن والبعث بعد الموت لاستبعادها في مألوفاتهم وزعمهم أنها لا
تعقل ، وما وصل إليه البشر في هذا العصر من أسرار الكهرباء لم يبق شيئًا من
ذلك مستبعدًا فضلاً عن كونه محالاً عقلاً .
أفليس المؤمنون بوجود الخالق الفعال لما يريد ، وأن ( ما شاء كان ، وما لم
يشأ لم يكن ) أولى منهم بالإيمان بقدرته على التصرف في هذه السنن متى شاء ؟
ثانيًا : إذا قيل : إن قوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ } ( الأحزاب : 38 ) مفرد
مضاف يفيد العموم ، وأنه يجري فيه قول علماء الأصول ، بأن العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب ، قلنا : نعم ، وإنما عموم كل شيء في موضوعه ، وموضوع
هذه السنة المنصوصة عباد الله من الأمم مع رسلهم ، ويصح إطلاق اللفظ على غير
ما ورد به النص من قواعد الاجتماع والعمران أيضًا ؛ ولكن لا يصح الاستدلال
بالنص على عدم التبديل فيها .
ثالثًا : إن سنن الاجتماع تختلف باختلاف أحوال البشر في البداوة والحضارة
والقوة والضعف والعلم والجهل ، وآلات القتال والنقل ، فهي أمور نسبية متبدلة ، لا
قواعد رياضية مطردة ، وذلك معروف من سير الأمم وتواريخها ؛ وإنما تكون سنة
بحسب الأحوال التي تكون بها مطردة .
مثال ذلك سنة غلب الكثرة للقلة التي عبر عنها الشاعر العربي بقوله :
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
يراعى في صحتها مساواة الكثرة للقلة في أسباب الغلب الصورية كالسلاح
والنظام ، والمعنوية كالصبر والثبات والإيمان ، فإذا كانت هذه الأسباب متوفرة في
القلة دون الكثرة ، كان لها الغلب وفيها قال الله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 249 ) .
رابعًا : إن السنن الاجتماعية والكونية تتعارض وتتنافى كما تتعارض أسباب
النصر والغلب وأضدادها في المثل المذكور آنفًا ، ومن ذلك تعارض أسباب الصحة
وأسباب المرض ، وتعارض التأثيرات الجسدية مع التأثيرات النفسية ، فمن كان له
الرجحان يكون مبطلاً للآخر ذاهبًا باطراده ، وليس في هذا الوجود الممكن لا علويه
ولا سفليه ، ناموس من نواميس النظام يقوم الدليل القطعي على استحالة تغيره
وتبدله ، بل كله جائز بأسباب مما يعقله الباحثون ويتوقعون حدوثه أو بغير ذلك ،
كما يقولون في خراب هذا العالم وزوال هذه الأرض ، أو انقطاع حياتها وعالمها
بزوال حرارة الشمس بالتدرج البطيء ، أو بتصادم بينها وبين بعض الأجرام
السماوية ، وهو ما تشير إليه آيات القرآن المجيد .
السنن والنظام في الخلق خاضعان لمشيئة الخالق :
ثم أقول خامسًا : إن خالق الخلق بما شاء من النظام والسنن لم يقيد بها قدرته
ومشيئته ويجعلها حاكمة عليه ، بحيث يكون بها مقهورًا لا قاهرًا ، وعاجزًا عن
التصرف لا قادرًا ، حتى لا فائدة في دعائه والتضرع له ، بل دل كتابه - الذي لا
يفهمه هذا الملحد الجاهل بلغته وبشريعته - أنه قيدها بمشيئته ، وأن العالم كله في
قبضته { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ بَعْدِهِ } ( فاطر : 41 ) فهذه الآية صريحة في أن العالم في قبضة تصرف خالقه
في كل وقت ، وأن بقاءه بقدرته تعالى لا بما يظهر من سنن النظام فإنها مفعولة لا
فاعلة ، أو ظواهر صورية ، لا حقائق وجودية ، كما قال بعضهم في سنة الجاذبية .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } ( الشورى : 32-33 ) فحركات
الريح تجري بحسب سنته تعالى في تأثير الحرارة فيها ، وهو يقول أنه إذا شاء
أسكنها .
وقد دل كتابه أيضًا على أنه تعالى جعل للسنن الكونية والتشريعية استثناء
يضعه موضعه بحكمته ورحمته ، حتى أن عذاب الأمم المعاندين لرسله والذي نص
كتابه على أنه لا تبديل فيه ولا تحويل قد دخله الاستثناء بالفعل ، كما قال تعالى في
سورة يونس : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا
عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } ( يونس : 98 ) فإن
يونس عليه السلام كان خرج من قومه عندما جاء موعد ما أنذرهم من العذاب ولم
يؤمنوا ، فلما رأوا بوادر العذاب وكاد يقع بهم آمنوا فنفعهم إيمانهم ولم ينزل العذاب
بهم ، فهذا استثناء من السنة العامة في وقوع العذاب على الأقوام في مثل تلك الحال ،
سواء كان متصلاً أو منفصلاً في الإعراب .
ومما يدل على تقييد السنن العامة بالمشيئة قوله تعالى بعدما ذكر في سورة
يونس : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } ( يونس : 99 ) وهذه
المشيئة إنما تكون بخلق البشر على غير هذه السنن المعروفة في خلقهم من اختلاف
الاستعداد للإيمان والكفر معًا ، ومن ترجيح بعض متعلق هذا الاستعداد على بعض ،
أو بإزالة هذا الاستعداد بعض وجوده ، وهو من سنن الله في نوع الإنسان .
ومن هذا الاستثناء عفو الله تعالى عما شاء من ذنوب عباده في الدنيا والآخرة ؛
فإن عقاب المذنب من سنن العدل ، والعفو والمغفرة من الرحمة والفضل ، فكل
مذنب مستحق للعقاب بحسب سنة الله في تأثير الأعمال في النفس المقررة في قوله
تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس : 9-10 ) وما كل
مذنب يستحق العفو ، وقد اتفق حكماء البشر على أن من الحكمة الاستثناء في
القوانين بالعفو عن بعض العقوبات .
والآيات المحكمة الصريحة في فعل الله لما يريد ، وأنه ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن - كثيرة ، والمسلمون مجمعون على ذلك ؛ ولكن إجماعهم لا قيمة له عند
ملحد دمنهور ولا يحتج به في دينه ، وقد يعبر عنهم بما يدل على أنه ليس منهم كما
قال في تفسير : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } ( الفرقان : 8 )
وهذا نصه :
( ومن الغريب مع هذا الدليل المبين أن المسلمين ينقلون في كتبهم أن النبي
سُحر بناء على حديث رواه اليهود ، كما ينقل النصارى صلب المسيح بناء على
حديث رواه اليهود أيضًا ) اهـ . فقد أنكر على المسلمين لا على المحدِّثين ، ويعني
بقوله : كتبهم ، أصح كتب الحديث وجميع كتب التفسير ؛ ولكنه كذب في زعمه أن
حديث السحر المذكور قد رواه اليهود ، والغرض من ذكر عبارته هنا أنه يهزأ
بأعظم كتب المسلمين في التفسير والحديث هزو الساخر المتبرئ من المسلمين ،
وأما تحقيق المسألة فقد بيَّناه في المنار .
ومنها قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( يس :
82 ) وهذا المعنى مكرر في القرآن ، وهو ظاهر فيما يخلقه تعالى بدون نظام
الأسباب ، كخلق آدم من تراب ، وخلق عيسى بن مريم من أم بدون أب .
وجملة القول في مسألة سنن الله تعالى في نظام الكون وسنن الاجتماع
والعمران : أن ما ثبت منها فهو مقتضى حكمته ، وأنه غير مقيد لعموم مشيئته
وشمول قدرته ، وأن ما ثبت في كتابه أو في خليقته من آياته المخالفة للمعروف من
تلك السنن فهو من تصرفه بمشيئته واختياره ، لحكمة يعلمها في ذلك وقد يعلمها من
شاء من خلقه ، كمعجزات رسله عليهم السلام ؛ فإن حكمتها ظاهرة بيَّنها علماء
أتباع الرسل أحسن البيان .
وإن منتهى الجهل والكفر بالله تعالى جعله مقيدًا بما يظهر لبعض الناس من
هذه السنن مع تخبطهم فيها ، وعدم اتفاق عقلائهم وعلمائهم على ضرورة اطرادها ،
وما هذه الأرض وسننها إلا كذرة من ذراتها في جملتها ومجموعها ، بالنسبة إلى
مُلك الله العظيم الذي ثبت لعلماء الفلك أن بعض أجرامه يبعد عن البعض الآخر بما
يُقدَّر بملايين السنين لسرعة النور ، وهو يقطع نحوًا من مائة مليون ميل في زهاء
عشرة دقائق ، فمن أنت أيها الجهول حتى تبيح لنفسك تحريف كلام الله لتأويل آياته
في خلقه اغترارًا بما لا تُعلم حقيقته من هذه السنن .
فإذا كان شيطان الجهل والغرور قد زيَّن لملحد دمنهور أنه يمكنه أن يكون
رجلاً عظيمًا في الأرض بوضع دين جديد لمن غلبت عليهم ظواهر الفلسفة المادية
لا يوجد فيه شيء مخالف للمألوف عندهم ، فليبعد عن القرآن والإنجيل والتوراة
والزبور ، فإن أديان جميع رسل الله مؤسسة على عقيدة تصرف رب العالمين في
خلقه بمشيئته واختياره في كل وقت ، وعلى تأييده لمن شاء من رسله بخوارق
العادات ، وسنن الاجتماع والكائنات ، وعلى أن عالم الغيب من الملائكة والجن
وغيرهم لا يقاس على عالم المادة ، وأن الإيمان بما ورد الوحي فيه من ذلك كما
ورد أصل من أصول الدين لا يصح الدين بدونه .

عجز فلاسفة أوربة عن وضع دين يخضع له البشر :
وليعلم أن بعض فلاسفة أوربة وأعلام الآداب والتشريع فيها قد وضعوا أصولاً
لديانة سموها الديانة الطبيعية ، راعوا فيها من الفضائل والمصالح العامة والخاصة
ما استحسنه السواد الأعظم من الماديين وغيرهم ؛ ولكن لم يتخذها شعب من
الشعوب ، ولا جماعة من الجماعات ، ولا فرد من الأفراد دينًا يلتزمه في أعماله
وآدابه ! ولماذا ؟
لأن الدين الذي يحتاج إليه البشر لتكميل فطرتهم وإزالة الخلاف من بينهم فيما
يجب عليهم من معرفة الله وعبادته ، ومن أصول التشريع العامة والفضائل الثابتة
التي تحول دون الفوضى الدينية

الفوضى الدينية التي تفرِّق كلمتهم ، هذا الدين لا يمكن أن
يتحقق إلا إذا كان مصدره السلطان الإلهي الأعلى الذي تذعن الأنفس لأمره ونهيه
القطعيين لذاته ، سواء وافق آراءهم والأدبية وأهواءهم ونظرياتهم العقلية وتقاليدهم القومية
والوطنية أم لا ؛ لأن صاحب هذا السلطان أعلم منهم بما يضرهم وما ينفعهم ، وهو
القادر على إثابتهم إذا اتقوا وأحسنوا ، وعلى عقابهم إذا فسقوا وظلموا وأساءوا ،
وعلى العفو عنهم إذا تابوا وأصلحوا ، وعلى استجابة دعائهم إذا دعوا وتضرعوا .
فلو كانت أمور العالم كلها تجري بنظام اضطراري ليس لله فيه مشيئة ولا
اختيار ، لم يكن هنالك محل لثمرة الإيمان من الخوف والرجاء ، وهما الباعثان على
الطاعة والانقياد ، ولزال معنى الدين وذهب التدين هباء .
إلا أن المادية مضادة بل مناقضة لمعنى الدين والتدين ، وقد ظهر بعد الحرب
العامة من مفاسدها ما لم يكن ظاهرًا ، والعالم المدني قد شعر باضطراره إلى الهرب
من هذه المفاسد في العقل والآداب والاجتماع كما نوَّهنا بذلك من قبل ؛ وإنما الدين
الوسط هو الجامع بين المصالح المادية والفضائل الروحية ، كما بيَّناه في تفسير
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } ( البقرة : 143 ) من أول الجزء
الثاني من تفسيرنا .
وإذا لم يكن لرسل الله تعالى من آياته ما يميزهم من الفلاسفة والأدباء ، كما
يزعم ملحد دمنهور ، فأي باعث يبعث الناس على الانقياد لهم بالإذعان النفسي
والوجدان الاضطراري ، وهم يجدون عند الحكماء من الحجج العقلية والأدبية ما هو
أقرب إلى مألوفاتهم ونظرياتهم مما جاء به الأنبياء .

حكاية ابن سينا مع المفضِّل له على النبي صلى الله عليه وسلم :
ألم يعقل هذا الملحد ما سمعه منا وقرأه في كلامنا غير مرة من نبأ الفيلسوف
الكبير الرئيس ابن سينا مع خادمه ومريده المعجب بعلومه وفلسفته المفضل له بها
على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يلومه على اتباعه هذا النبي
صلى الله عليه وسلم وهو دونه بزعمه وجهله ، حتى إذا كانا في بعض ليالي الشتاء
الشديدة القر القارسة البرد في تبريز أيقظ الرئيس خادمه ليأتيه بماء يتوضأ به ،
فاعتذر له بشدة البرد ، وبعدم طلوع الفجر ، فأيقظه سيده الرئيس عندما كان المؤذن
ينطق بالشهادتين على المنارة وسأله ماذا يقول المؤذن ؟ قال إنه يقول : أشهد أن
محمدًا رسول الله ، قال : قد آن لي أن أبيِّن لك فساد عقلك ، وأَفَن رأيك ، في
تفضيلك إياي على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إنك أنت خادمي ، وقد بلغ من إعجابك بي ما تعلم ، وهو ما لم أر ما يقرب
منه من غيرك ، ثم إنك تكسل عن طاعتي في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد ، وهذا
الرجل الفارسي يشيد بالشهادة لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة في
أعلى هذه المنارة حيث البرد على أشده ، وهو في ذلك محتسب أجره عند الله ،
فعندما ترى لي من السلطان على قلبك مثل ما ترى لمحمد صلى الله عليه وسلم على
قلب هذا الفارسي بعد مضي أربعة قرون على بعثته تكون معذورًا فيما تهذي به من
تفضيلي .
وإذا كان من أصول الدين المادي الذي تدعو إليه باسم القرآن أنه يجوز لمتبعه
أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم لترجيح رأيه على طاعته ، أو لما يراه
بالتشاور مع غيره من المصلحة المخالفة له ، فأي معنى يبقى للدين ؟ وكيف تجتمع
الكلمة به على ما يكونون به أمة واحدة ، أوليس من الجائز على هذا أن يترك
الناس جميع ما جاء به الرسول لمخالفته لآرائهم وما يزعمون من مصالحهم غير
المقيدة بدين يتبع لذاته بإذعان الإيمان ، ولا يستحل صاحبه ترك شيء منه إلا بما
ورد النص فيه بكونه عذرًا كالضرورات التي تبيح المحظورات .
ثم إن هؤلاء الماديين لا يجدون أدنى باعث على قبول دين مادي يتوقف
إثبات ماديته على تحريف كثير من آيات كتابه عن مدلولها اللغوي الذي جرى عليه
جميع أهله من عهد النبي الذي جاء بهذا الكتاب إلى اليوم اتباعًا لجاهل مغرور في
تحريفها وجعلها مادية ، وقد حكم علماء أهلها بإلحاده في دينهم ومروقه منه .
ولا يغرن هذا الملحد أن الباطنية قبلوا أمثال هذا التحريف في القرآن من
دعاتهم ، فيظن أنه يوجد من يقبله منه ؛ فإن الذين قبلوا هذا من الباطنية إنما قبلوه
بعد إقناع الدعاة لهم بأنه بيان الإمام المعصوم لمراد الله من كتابه ، وبعد إقناعهم بأن
هذا المعصوم موجود ، وأنه لا يمكن فهم مراد الله وجمع كلمة المسلمين على ما
يرضيه إلا منه . فأنى لك أيها المغرور بإقناع الماديين والجاحدين لوجود الله أو
غيرهم بإمامتك وعصمتك ؟ .
فإن كنت أيها الملحد تعقل أن يتبعك أحد في دينك هذا فلك العذر في الحكم
على أستاذك الذي تبرأ منك ورد عليك إرشادًا لك ، بأنه قد اختل عقله فلا يدري ما
يقول ، وأنه يكيد لك مع شيخ الأزهر ، وفي قولك المناقض لهذا ، وفي سبك
وشتمك له ، مع ادعائك أنك عذرته بجنونه وخرفه : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } ( هود : 121-122 ) .
(32/33
 
مقال فيه كلام عن سلامة موسى
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الآخرة - 1350هـ
أكتوبر - 1931م

التجديد والتجدد والمجددون
( تابع لما سبق )
القضية الأولى
في حقيقة معنى القديم والجديد ، والتجدد والتجديد ،
والتفاضل بين الطريف والتليد
الخلق كله جديد وإنما القديم المطلق هو الله عز وجل ، والجدة والقدم في
المخلوقات نسبيان ، فكل قديم منها كان جديدًا ، وكل جديدٍ سيصير قديمًا ، ومن
الأمثال العامية بل العامة : ( من ليس له قديم فليس له جديد ) ويا له من مثل حكيم
يفهم منه العلماء ما لا تصل إليه مدارك الدهماء .
والتجدد والتجديد في الكون من السنن الإلهية العامة التي هي مصدر النظام
في تكويننا ، والتغير والتحول في أطوار وجودنا ، وعملها فيها عين عملها في آبائنا
وجدودنا { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } ( فاطر : 43 )
فنحن في معمل الكون الأعظم كالماء في معمل الجليد ، كل آنٍ في تجدد وتجديد ،
تارة يكون مائعًا سائلاً ، وتارة يكون بخارًا طائرًا ، وتارة يكون جليدًا جامدًا ، وهكذا
عالم المادة كله ، تجدد طبيعي فطري ، وتجديد صناعي كسبي ، تحليل وتركيب ،
جمع وتفريق ، هدم وبناء ، نماء وفناء ؛ وإنما يجري ذلك كله في مادة موجودة ،
ذات عناصر معدودة ، قديمة في الخلق لا جديدة ، ذات قوى محدودة ، تُصَرِّفها قدرة
غيبية معقولة لا مشهودة ، وهي قدرة الخالق الحكيم عز وجل ، فالتجدد والتجديد
إنما هو في الصور والأعراض ، لا في إيجاد الجواهر والمواد . ويؤثر عن نبي الله
سليمان عليه السلام أنه قال : ( لا جديد تحت الشمس ) وهو صحيح ظاهر بهذا
المعنى ، ويقابله مقابلة التضاد قول بعض حكمائنا : إن العرض لا يبقى زمانين ،
فعلى هذا يصح أن يقال : لا قديم تحت الشمس ، ولا تعارض بين القولين ، ولا
تناقض بين القضيتين ؛ فإن كل ما تحت الشمس قديم باعتبار وجديد باعتبار آخر .
وقد كنت قلت في مقدمة محاضرة في الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد
التعليم ما يصح أن يقال هنا على أنه مقصد لا مقدمة وهو :
( التجديد سنة من سنن الاجتماع ، كما أن التجدد من مقتضى الفطرة والطباع ،
ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم ، ولكل منهما موضع ، فلا تناقض بينهما
ولا تضاد ، إذا وُضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط ) .
( من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلْق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة ، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر ، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتها الجسدية والنفسية ،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعًا مستقلاًّ
بنفسه ) .
( ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد
من محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة ،
ثم تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا ، أو أعلى مكانة وقدرًا ، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل ، والشعوب والقبائل ، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات ، فتكوِّن
رابطة الوحدة ، التي تجتمع بها وشائج الكثرة ، فتكوِّن بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة ) .
( ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تَهْدِي إليه غريزة الاستقلال المقابلة
لغريزة التقليد ، والميل إلى الاستنباط والاختراع ، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير ، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل ) .

أنواع التجديد والحاجة إليها :
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها به يرتقون في مدارج العمران
ويصعدون في معارج العلم والعرفان ، حتى أن الدين الإلهي الذي يستند إلى وحي
الرب الحكيم بمحض فضله ، لبعض من أعدَّ أرواحهم القدسية لذلك من أصفياء خلقه -
قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور حتى أكمله
تعالى لهم بالإسلام ، عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال .
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين ، أنه قال : ( إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه ،
والبيهقي في المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة ، وأشار السيوطي في جامعه
الصغير إلى صحته ، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته ، وبيان حقيقته وحقيته ،
ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه أو الفتور في إقامته ، ومراعاة مصالح
الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته . اهـ . وموعدنا في الكلام في التجديد
الديني والدنيوي القضية الثالثة .
هذه حقيقة معنى التجدد والتجديد ، وهي تهدينا إلى أن لكل من الجديد والقديم
محلاًّ ، وأن من الجهل تفضيل أحدهما على الآخر مطلَقًا .
المفاضلة بين المتقدم والمتأخر :
وأما المتقدم والمتأخر من الناس فقد كانت القاعدة عند أهل العلم والأدب منا
تفضيل المتقدم على المتأخر ولكن القاعدة عند أهل النشوء والارتقاء العكس وإنما هذا
وذاك بالنسبة إلى جملة أهل العصر ، دون الأفراد النابغين الذين قلما تجود بمثلهم
الأزمان ، ومذهب النشوء الاجتماعي ظاهر في الأمم في أطوار حياتها وقوتها ، بل هو
ظاهر في الدين الإلهي أيضًا ، فقد ارتقت الشرائع الإلهية بحسب استعداد البشر حتى
كان آخرها - وهو الإسلام - منتهى الكمال ، فجعل الله رسوله الذي جاء به خاتم
النبيين ، وبعثته عامة باقية إلى يوم الدين ، وأنزل عليه قبل وفاته { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
وقد كان بعض الأدباء يفضل المتأخرين في بعض الأشياء ، وقد افتتح عنترة
معلقته المشهورة بقوله :
هل غادر الشعراء من متردم
يعني أن الشعراء قبله لم يتركوا لمن بعدهم قولاً يقوله ؛ ولكنه هو جاء فيها
بمعانٍ لم يسبقه إليها غيره ، وقد عارضه ابن أبي حجلة في تفضيل كتابه ( ديوان
الصبابة ) على ما سبقه في معناه بقوله في خطبته : فإن قلت الفضل للمتقدم ، وهل
غادر الشعراء من متردم ؟ أقول : في الخمر معنى ليس في العنب ، وأحسن ما في
الطاووس الذنب .
وكلمة ( الفضل للمتقدم ) صارت مثلاً في أفواه العلماء والأدباء ، ولا أدري
أول من قالها هل هو عدي بن الرقاع الشاعر الأموي الذي ضمَّنها في شعره أم
غيره ؟ وهذا شيخ صناعة الأدب الحريري قد استشهد في تفضيل بديع الزمان على
نفسه في مقدمة مقاماته بقول عدي هذا ، ثم رأيناه عقد المقامة السادسة منها لتفضيل
الطريف على التليد ، ونصر العصاميين على العظاميين ، وإني أحفظ من عهد
طلب العلم عبارته في هذا ، ولا يخلو إيرادها من إحماض وفكاهة ، قال :
( روى الحارث بن همام قال : حضرت ديوان النظر بالمراغة ، وقد جرى
به ذكر البلاغة ، فأجمع من حضر من فرسان اليراعة ، وأرباب البراعة ، على أنه
لم يبق من ينقح الإنشاء ، ويتصرف فيه كيف شاء ، ولا خلف بعد السلف من
يبتدع طريقة غراء ، أو يفترع رسالة عذراء ، وأن المفلق من كتاب هذا الأوان ،
المتمكن من أزِمَّة البيان ، كالعيال على الأوائل ، ولو ملك فصاحة سحبان ووائل ،
وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية ، عند مواقف الحاشية ، فكان كلما شط القوم
في شوطهم ، ونثروا العجوة والنجوة من نوطهم ، ينبئ تخازر طرفه ، وتشامخ أنفه ،
أنه مخرنبق لينباع ، ومجرمز سيمد الباع ، ونابض يبري النبال ، ورابض يبغي
النضال ، فلما نثلت الكنائن ، وفاءت السكائن ، وركدت الزعازع ، وكف المنازع ،
وسكنت الزماجر ، وسكت المزجور والزاجر ، أقبل على الجماعة وقال : لقد جئتم
شيئًا إدًّا ، وجرتم عن القصد جدًّا ، وعظمتم العظام الرفات ، وافتتم في الميل إلى
من فات ، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات ، ومعهم انعقدت المودات ، أنسيتم
يا جهابذة النقد ، وموابذة الحل والعقد ، ما أبرزته طوارف القراسح ، وبرز فيه
الجذع على القارح ، من العبارات المهذبة ، والاستعارات المستعذبة ، والرسائل
الموشحة ، والأساجيع المستملحة ، وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضر غير
المعاني المطروقة الموارد ، المعقولة الشوارد ، المأثورة عنهم لتقادم الموالد ، لا
لتقدم الصادر على الوارد ... إلخ ) .
وللشعراء محاورات مشهورة في تفضيل الحبيب الأول أو الحبيب الآخر ،
ومن المشهور في الأول قول بعضهم :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
وقول آخر :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت مع الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول بعضهم في الثاني :
محا حبها حب الأُلى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حُل من قبل
وقول آخر في الرد على مفضِّل الحبيب الأول ؛ ولكن جاء بحجة دينية لا
غرامية ، وفلسفة دروينية لا عذرية :
أكلف بآخر من علقت بحبه ... لا خير في حب الحبيب الأول
أنشُكُّ في أن النبي محمدًا ... ساد البرية وهو آخر مرسل ؟
والعدل في الحكم أن تقدم الزمان وتأخره لا شأن لهما في المفاضلة بين الأفراد ،
ففي كل زمان أفذاذ ، فالقديم كان جديدًا ، والجديد يعود قديمًا ، كما حققنا ، ولله در
القائل في ذلك :
قل لمن يرى للأواخر شيئًا ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديمًا
وإنما التفاضل بين الأشياء والأشخاص يتعلق بذواتها وصفاتها ، ودرجة انتفاع
الناس وارتفاقهم بها ، فإن كان للمتقدم فضل الابتكار والاختراع ، فقد يكون للمتأخر
عنه فضل التحسين والإكمال الذي يتم به الانتفاع ، وقد اشتهر أن كثيرًا من
المخترعات التي سبق بعض اللاتين أو الإنكليز إلى كشفها قد أتمها الألمان فكان
نفعهم وانتفاعهم بها أعظم .
* * *
القضية الثانية
( فضل الشيء في مزاياه ودرجة الانتفاع به )

جهل هذه الحقائق أو تجاهلها أدعياء التجديد ، فطفقوا يدعون إلى ترك القديم
لأنه قديم ، والأخذ بالجديد لأنه جديد ، وربما وصفوا القديم بالبالي لزيادة التقبيح
والتنديد ، وإن كان على قدمه لا تبلى جدته ، ولا تخلق ديباجته ، ولا تخبو ناره ،
ولا تنطفئ أنواره ، كدين الله القويم ، وكتاب الله الكريم { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } ( الأحقاف : 11 ) .
إن تفضيل الجديد لجدته على القديم لقدمه ، مكابرة للحس وسفه للنفس
ومصادمة للعقل ، وهو باطل ببداهة الرأي وإجماع كل قبيل وشعب ، فإن من القديم ما
يتنافس فيه خواص الناس في أرقى أمم الحضارة ، فيباع بالألوف الكثيرة من
الجنيهات ، إما لقدمه ونفاسته معًا ، وإما لقدمه وحده ، وإن هذه البلاد لتفاخر جميع بلاد
الحضارة بآثارها التليدة ، وليس عندها شيء من مبتكرات حضارتها الطريفة ، وإنك
لترى قصور الملوك والقياصرة وكبار الأمراء والأغنياء مزينة بالصور التي رسمها
قدماء المصورين ، كما ترى على جدرانها دون أرضها أنفس السجاجيد العجمية
والشيلان الهندية القديمة .
وإنك لترى دور الآثار العادية تتغالى في شراء هذه الآثار ، كما ترى خزائن
الكتب العامة الخاصة تتغالى في شراء الكتب القديمة لكبار العلماء المتقدمين ، وإن
علماء هذا العصر في الغرب يشهدون لكثير من قدماء الحكماء والعلماء والشعراء
بالفضل ، ويعترفون بأن منهم من لا نظير له في هذا العصر ولا شبيه .
وأما الأنبياء ، وكبار القديسين والأولياء ، فلا يزال السواد الأعظم في بلاد
الحضارة العصرية يفضلهم على جميع العلماء والحكماء المتقدمين والمتأخرين ،
ويعترف بما امتازوا به في أنفسهم وفي هدايتهم ، بل لا تزال مئات الملايين من
شعوب أوربة و أمريكة تعبد واحدًا منهم ، فأين تذهبون يا أدعياء التجديد الإلحادي ؟
وما شأن من تقلدون من ملاحدة الإفرنج الأفذاذ مع العلم بالنهضة الدينية الجديدة في
أوربة وأمريكة التي أثارتها الحرب الأخيرة ؟
وإن كان كل جديد يحمد ويؤثر لجدته ، فماذا تقولون في هذه السموم الجديدة
المخدرة للأعصاب ، بل المفسدة لصحة الأجساد ، المطفئة لسرج العقول ، التي
يوشك أن يهلك بها هذا الشعب ، إذا لم تنجح حكومته فيما سعى إليه حكمدار
العاصمة لدى عصبة الأمم من صد تيارها ، وقطع الطرق الخفية على تجارها ،
ومن تقليل ما تصدره معاملها في أرقى بلاد أوربة في هذه المدنية المادية الفاسدة
المفسدة .
وأما أحدث نظام جديد للحكومات العصرية فهو النظام البلشفي الذي ترتعد منه
فرائص دول الأرض ؛ وإنما يتمنى له النجاح والانتشار بعض المتململين من إرهاق
دول الاستعمار لهم ؛ ولكن غلاة التجديد الإلحادي معجبون به ميالون إليه ، ولولا
عقاب الحكومة لصرحوا ببث الدعاة له ، ولو لم يكن من فوائده عندهم إلا هدم هداية
الدين ، وتقويض أركان الفضائل وأصول الشرائع الإلهية لكفى .
القول الحق الفصل في القديم والجديد :
والقول الحق في الموضوع : إنه لا بد للبشر في كل عصر من القديم والجديد ،
وإن في كل منهما الحسن والقبيح ، والنافع والضار ، وأن من الناس من هو أميل
بطبعه إلى هذا ، ومن هو أميل إلى ذاك من أجناس الأشياء وأنواعها ، وقلما يفضلها
لمحض جدتها إلا الأطفال ، ومن على مقربة منهم من النساء والرجال ، وأما
العقلاء المستقلون فلا يرغبون عن النوع القديم إلى الجديد إلا بمرجح يرجحه عليه
عملاً بالقاعدة المنطقية في المتساويين ؛ وإنما تكون الجدة مرجحة في جزئيات النوع
الواحد إذا كانت متساوية في سائر صفاتها ؛ فإن الجديد يكون أزهى وأبهج وأثبت
وأبقى ، فمثال الجنس من الأثاث والماعون سرر النوم ، ومثال النوع منه في المادة
ذوات المعادن المختلفة ، وفي الشكل ذوات العمودين وذوات الأربعة الأعمدة ،
وجزئيات النوع منها أفراده ، والعاقل لا يختار شيئًا منها لمحض جدته ؛ إنما
يرجحه بسبب من أسباب الارتفاق والانتفاع به ، إما في ذاته وإما في أمر خارج
عنه ، كالاقتصاد واللياقة والوطنية والقومية .
من مُثُل ترجيح القديم على الجديد الذي هو خير منه في نفسه وفي الارتفاق
والانتفاع به ، وراء المثل المعروفة من رخص الثمن وغلائه ومراعاة قدرة المقتني
المالية ، أن في دار الصناعة البحرية الإنكليزية آلات بخارية لثقب حديد المدافع
وغيره قد حدث بعدها آلات من نوعها تدار بالكهرباء هي خير منها قوة وسرعة
ونظافة - وربما كانت أقل نفقة أيضًا - وهم لا يستبدلونها بها لأن في استبدالها بها
نفقة عظيمة لا تفي بها منفعتها حدثني الدكتور يعقوب صروف أنه رأى هذه
الآلات ، وأن الدليل الذي كان يطوف به هنالك قال له : إن اليابانيين تعلموا منا
صنع هذه الآلات في عصر الكهرباء ، فجعلوا آلاتهم كهربائية فكانت خيرًا من
آلاتنا هذه ، وإن بقاء حاجتنا إليها لا يبيح لنا بذل النفقة الكبيرة التي يتقاضاها
تغييرها .
ترجيح ما هو وطني أو قومي على الأجنبي :
وأما ترجيح كل ما هو وطني وقومي على غيره من جديد وقديم فهو ركن من
أركان الحياة الاقتصادية والسياسية والأدبية في جميع الأمم الحية ، ولا سيما
الإنكليز الذين راعهم رواج المصنوعات الألمانية في بلادهم لرخص ثمنها ، فألَّفوا
عدة جمعيات للبحث في أسباب تلافي هذا ، وقد سألت في بعض صيدليات برلين
وميونخ عن علاج إفرنسي من العلاجات التي أحملها في السفر وأقتنيها في الحضر ،
لعروض الحاجة إليها فجأة في بعض الأوقات ، فكان الجواب في البلدين واحدًا وهو
( هذا لاتيني هذا لاتيني ) لم يقولوا : إنه غير موجود ، بل ذكروا سبب ذلك ، وهو
أنه من صنع اللاتين لا من صنع الجرمان ، ثم استبدلت به علاجًا ألمانيًّا خيرًا منه
فيما وضع له ، ولو وجد علاج مصري أو عربي يقوم مقامهما لفضلته عليهما .
بمثل هذه القومية والوطنية ارتقت شعوب الغرب بأبنائها البارين بأقوامهم ،
المعتزين بأوطانهم ، فهم يفضلون كل ما هو لهم من صناعة وتجارة وتشريع وغير
ذلك من مقومات الأمم ومشخصاتها على ما هو لغيرهم ، فأحكام قضاة الإنجليز
القدماء وقرارات ندوتهم من أصول التشريع عندهم يحافظون عليه أشد من محافظتنا
على الأحكام التي نؤمن بأنها منزَّلة من عند الله تعالى ، بله الأحكام الاجتهادية التي
استنبطها أئمتنا من نصوص شريعتنا وقواعدها ، وقد سبق أسلافُنا الإفرنجَ إلى
الاعتزاز بما لهم من تشريع وغيره في صدر الإسلام ، ومن ذلك ما وقع لعمر
رضي الله عنه مع معاوية لما جاء الشام لابسًا مرقعته ، مرتحلاً ناقته ، إذ قال له
معاوية : ( يا أمير المؤمنين ، إن أهل الشام قد اعتادوا أن يروا حكامهم في ملابس
فاخرة فهم لا يهابون من يكون متبذلاً في لباسه وزيه ) فقال له عمر رضي الله عنه :
( نحن جئنا لنعلمهم كيف نحكم ، لا لنتعلم كيف يحكمون ) .
ومن ذلك أمره رضي الله عنه لقواده وعماله في بلاد الأعاجم بالتزام الزي
العربي ، فقد كتب إلى عامله في بلاد العجم عتبة بن فرقد كتابًا ينهاهم فيه عن زي
الأعاجم ويأمرهم بالمحافظة على عادتهم العربية ، ومما قاله في كتابه : ( تمعددوا -
أي تشبهوا بجدكم معد بن عدنان في شدته وبأسه وخشونة معيشته ، فالمعديون في
العرب كالإسبرطيين في الإغريق - تمعددوا واخشوشنوا وابرزوا واقطعوا الركب -
أي ركاب الخيل - وارموا الأغراض ، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وإياكم
وزي الأعاجم ... إلخ ) ، وقد حفظ العرب شخصيتهم القومية في الممالك التي
فتحوها ما داموا متمسكين بهذه الوصايا وغيرها من مقوماتهم ومشخصاتهم ولا سيما
لغتهم ودينهم ، فكانت الأمم تندغم فيهم وتتعرب وتسلم ، ومن تركها منهم ذاب
واندغم في غيره من الشعوب .
وقد قلَّد الإفرنج أجدادَنا في هذه السيرة ، ولا سيما الإنجليز . وأدعياء التجديد
الإلحادي يحاولون إقناعنا بأن ننسلخ من ذلك كله حتى أحكام الميراث التي خالف
الإنكليز فيها جميع شرائع الأمم كحيازة أكبر الذكور من الأسرة لجميع ما يتركه
أبواه من العقار دون سائر إخوته من بنين وبنات .

احتقار الملاحدة والقبط للمسلمين بدعوتهم إلى ترك شريعتهم :
وأما نحن المسلمين في هذه البلاد فقد بلغ من احتقار أدعياء التجديد لنا أن
يجهر الملاحدة والقبط بها على أعواد المنابر في المدارس الجامعة بدعوتنا إلى ترك
ديننا وشريعتنا كلها ، لا إلى ترك أحكام الإرث وحدها ، ذلك بأنهم احتجوا علينا بأن
الحكومة تركت أحكام شريعتنا في كذا وكذا من العقوبات والأموال فسكتنا لها وقبلنا
حكمها ، فيجب علينا إذًا أن نترك سائر ما شرعه الله لنا من الأحكام الشخصية في
الإرث والزواج والطلاق ، إذ لا فرق عند هؤلاء المفتين المجددين بين النوعين من
أحكام الشريعة .
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
بل لم يقفوا عند هذا الحد من احتقارنا بالطعن في شريعتنا الإلهية الغراء ،
العادلة الكاملة البيضاء ، من أعلى المنابر وعلى صفحات المجلات والجرائد ، حتى
زعموا أن جميع شبابنا المتعلمين أو سوادهم الأعظم يوافقهم في آرائهم ، ويدين لهم
بالزعامة في تجديدهم ، بل استخف بالمسلمين أجرؤهم على الجهر بالسوء فيهم وفي
دينهم [1] ، فطفق يشتمنا ويشتم كل من يدافع عن الإسلام في مصر وفي غيرها ، وهو
من غير أصلاب الفراعنة آلهة المصريين الأقدمين ، التي يوجب عليها في تجديدها أن
ترجع إلى مدنيتهم وإن مر عليها ألوف السنين ، ويخص الكتاب السوريين المسلمين
بالقدح والتفريق بينهم وبين المصريين ، فالمدنية الفرعونية الوثنية لا تنافي التجديد
المطلوب لمصر عنده ؛ وإنما تنافيه الشريعة الإسلامية والحضارة العربية لأنهما
قديمتان باليتان بزعمه وزعم حزبه ، وصرَّح في آخر مقال نشره في هذا الموضوع
بأن النعرة الدينية التي انتصرت بها مجلة المنار على مجلة الجامعة فقتلتها ( فكان
الشباب المصري هو الخاسر بذلك ) قد زالت في هذه الأيام بزوال سذاجة البلاد التي
كانت تجوز عليها هذه الأوهام ، وحاول في هذه المقالة أن يجهز على هذه الأوهام
الإسلامية ، بتحريك النعرة الوطنية المصرية الفرعونية ، التي تأبى دخول آل
الرافعي في جنسية مصر ، ولعل تاريخهم فيها يقارن تاريخ بيت الملك ، وينفي
بالأولى جنسية هذا الواقف بين أيديكم أيها السادة ؛ لأن تاريخ هجرته إليها لا يزيد
على ثلث قرن ، وهو يحرِّم عليكم قراءة مجلته المنار الإسلامي ، بل السماح ببقائها
في مصر ، إذ يقول في آخر هذه المقالة : ( فلنفهم واجبنا ولنعلم أن الوطن خالد ، وأن
شيوخنا وشبابنا مصريون قبل كل شيء ، عليهم واجب محتوم يقاضيهم إياه شرف
البلاد ، وهو أنه يجب أن تكون الصحافة المصرية صناعة مصرية ، لا تنحصر
مصريتها في أن يكون قراؤها مصريين ، بل يجب أن يكون أصحابها ومحرروها
مصريين أيضًا ) اهـ بحروفه .
ولهذا المجدد الذي كان أول داعٍ إلى مساواة النساء بالرجال في الميراث في
العهد الأخير من مجلته هذه دعاية جديدة إلى بث دين البابية البهائية في مصر مع
تصريحه بأنه لا يؤمن به وتعليله ذلك بقوله : ( فإن لنا من المزاج الأدبي الفلسفي
ما يجعلنا نلتمس لأنفسنا صوفية عالمية بغير الدين ) ولكن غرضه من الدعوة
إليها صرف بعض المسلمين بها عن الإسلام لإضعاف جامعته الحائلة دون جعل
مصر فرعونية أي قبطية محضًا ، ولم أصرح بهذا التعليل في المحاضرة .
أيها السادة :
إنني أذكر هذا لأنه من موضوع التجديد والمجددين الذي نعالجه لبيان حقيقته ،
والتمييز بين حقه وباطله ، ومحاولة اتقاء ضرره ، كما قدمت في أوائل هذه
المحاضرة ، فأنا أمر بسبه وقذفه كريمًا بسلام كما أمر الله في القرآن [2] وأتقي قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المُسْتَبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ) رواه
الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد ، ولا أريد أن أخوض مع الخائضين في
مسألة القبط والمسلمين ، والعرب الفرعونيين [3] ؛ وإنما غرضي أن أنبه هذا الشباب
المصري الإسلامي لما يتنازعه في دينه ولغته وثقافته من عوامل الإلحاد والفرعونية
برقيتي التجديد والوطنية ، لتجريده من هداية دينه وأدبه وتشريعه وعربيته وما له
في الإسلام والعربية من تاريخ مجيد ، وما له بإسلامه وعربيته من زعامة في مئات
الملايين من البشر ، لتكون غاية ذلك أن يصير مسلمو مصر بنفوذ شبانهم ملاحدة
حائرين ، يتلمسون صوفية علمية بغير الدين ، يتكلفون لمسها وهيهات أن يجدوها ،
أو يكونوا بابيين يعبدون البهاء دفين عكاء ، أو نصارى كسادة وطنهم من القبط
وأعوانهم يعبدون المسيح عليه السلام .
وكل هؤلاء الدعاة إلى التجديد الإلحادي يعتقدون أن هذه هي العاقبة الطبيعية
للإلحاد ، كما قرره أحد كتاب فرنسة المستعمرين في كتاب جديد له رددت عليه في
المنار ، قال ما خلاصته : إن تنصير المسلمين تنصيرًا مباشرًا من المحال ؛ وإنما
الطريقة المثلى لذلك إفساد دينهم عليهم بالإلحاد ، ولما كان من المحال أن تعيش أمة
بغير دين كانت العاقبة بعد زوال كل أثر للإسلام من أنفسهم ، أن يختاروا دين
الغالبين السائدين فيهم وفي غيرهم وهو النصرانية .
وقد رأيتم في هذه الأيام كيف جدد الأستاذ عزمي دعوة الأستاذ سلامة موسى
إلى نبذ حكم القرآن في الميراث ، وكيف قام الدكتور فخري يعزز هذه الدعاية
وسمعتم وقرأتم ما يحتجون به على المسلمين ويقنعون به شبانهم الغافلين ، عما يراد
بهم ، وهو أن ترك الحكومة من قبل لبعض أحكام الإسلام المدنية والجنائية يوجب
عليهم أن يتركوا سائر أحكامه حتى المسائل الشخصية .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو شاب قبطي اسمه سلامة موسى شديد الشنآن للإسلام والطعن فيه من طريق الإلحاد والإباحة والعصبية الوطنية الفرعونية أي القبطية ، ولم أذكر اسمه في المحاضرة تنزهًا عن الإشادة باسمه ، ومن غريب المشاكلة في الإلحاد أن صاحب مجلة عربية من بيت كريم في سورية جاء مصر ، فكان هذا القبطي وبعض قرنائه الملاحدة محل مودته وإعجابه ، وما زال ينوه بهم في مجلته .
(2) إشارة إلى قوله تعالى : ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) (الفرقان : 63) ، وقوله بعده :
( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان : 72) وقد فهم الجمهور من الآية الأولى أن فيها إشارة لطيفة لاسم ( سلامة ) هذا ، وقد صرحت في المحاضرة بزيادة عما هنا ومنها طعن هذا القبطي بالأمير شكيب أرسلان لدفاعه عن الإسلام ونبزه بلقب وغد ، وقلت : إن الوغد في اللغة هو الدنيء من الرجال الذي يخدم بطعام بطنه ، والأمير شكيب نابغة بني أرسلان ، من سلائل ملوك العرب وأمرائهم من قبل الإسلام ، وهو يعيش في أوربة مع أهل بيته عيشة الكبراء ، ويزوره في داره ويأكل طعامه الملوك والأمراء والوزراء (وأزيد الآن في هذه الحاشية أن ممن ضافه داره في لوزان ملك الأفغان السابق ، وخديو مصر السابق وغيرهما وآخرهم جلالة ملك العراق ومن كان معه في أوربة من وزرائه وحاشيته في صيف هذا العام) .
(3) كان بعد هذا أن دعتني لجنة الخطابة والمناظرة في الجامعة المصرية إلى مناظرة في المفاضلة في هذا الموضوع (المفاضلة بين المدنيتين العربية والفرعونية) فكان لي الفلج بترجيح العربية على الفرعونية ، وتقدم ذكر هذا في المجلد الماضي من المنار (31) .
(32/49)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الآخرة - 1350هـ
أكتوبر - 1931م

مصابنا بالوالدة رحمها الله تعالى

بعد ظهر اليوم السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر ، قد احتسبنا عند الله
تعالى والدتنا ومربيتنا وجرثومة أسرتنا السيدة البرة الرحيمة التقية النقية الشريفة
( فاطمة أم رشيد ) الحسنية الأب والأم ، في منتصف العشر التاسع من عمرها ،
ففقدنا بفقدها أمًّا يندر وجود مثلها في الأمهات - والأمهات أفضل ما في هذه
الكائنات - حبًّا ورحمة وإخلاصًا ونصحًا وإيثارًا للأولاد على النفس مهما تكن
صفاتهم وأحوالهم ، إلا من أفسدت البيئة فطرتها ، وذهب الجهل ومعاشرة الفاسقين أو
الخرافيين بدينها ، فلا حب فوق حب الأم إلا حب الله تعالى لعباده المقرَّبين ، ولا
رحمة تعلو رحمتها إلا رحمته عز وجل للمحسنين ، بل رحمتها أكبر شجنة من
رحمته الواسعة عز وجل ، فقد فقدنا من كانت عندنا ومنا وفينا أفضل المخلوقات ،
من لا يفضلها شيء ، ولا يغني عنها شيء ، إلا رحمة الله تعالى وصلواته على
الصابرين ، وبره وإحسانه للبارين المحسنين ، ونرجو أن نكون منهم في برنا لأمنا
في حياتها ، وصبرنا واحتسابنا لها بعد وفاتها ، ونسأله تعالى أن يجزيها عنا أفضل
ما جزى أمًّا لعباده رؤمًا لأولادها ، رؤوفًا بهم ، عطوفًا عليهم ، محسنة لتربيتهم ،
أَمة من إمائه ، مؤمنة به ، موحدة له ، مخلصة في عبادته ، وأن يتغمدها برحمته
التي يختص بها عباده المقرَّبين ، ويرفعها إلى منازل الكرامة في عليين .
كانت رحمها الله تعالى صحيحة البنية سليمة من الأمراض ، إلا أنه عرض
لها ألم الرثية ( الروماتزم ) في ركبتيها بعد مجيئها إلى مصر منذ بضع عشرة
سنة ، فعالجها الطبيب التركي الشهير شرف الدين بك - رحمهما الله تعالى - بصبغة
اليود دهانًا وشربًا ، فزال المرض وحجت في موسم سنة 1334 وأنا في خدمتها فلم
يزعجها شيء من ركوب الشقادف والنزول منها ، واحتملت ما أرهقنا من نوء البحر
في عودتنا من الطور إلى السويس في باخرة صغيرة وبسهولة .
وصامت معنا شهر رمضان الماضي بدون تعب ولا ضعف ، وكانت تفطر
وتتسحر من طعامنا القوي التغذية فلا تشكو منه ثقلاً ولا طسىً ولا سوء هضم ،
وتصلي معنا في جماعة الأسرة ، ثم تغيرت صحتها عقب عيد الفطر ، واشتكت
واختلف على معالجتها عدة من نطس الأطباء أشهرهم سليمان بك عزمي فخف
المرض ؛ ولكنها ضعفت بالتدريج واشتد تعبها في آخر ليلة من حياتها الشريفة
الراضية المرضية ، وقد صلَّتْ الفجر والظهر يوم وفاتها في وقتهما بالإيماء ، ولم
تقبل أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر كما أفتيتها في مثل هذه الحال ، وفاضت
روحها في الساعة الثانية بعد الظهر .
وكانت التي تتولى خدمتها الخاصة وتمرضها في كل أيام مرضها كِنَّتها أم
أولادنا ، حتى أنها كانت تسهر بجانب سريرها ما دامت تعبة محتاجة إلى شيء من
الخدمة وتنام بجانبه عند الحاجة . وقد قلت لأم محمد شفيع غير مرة : إن كل خدمة
تؤدينها للوالدة فكأنك تؤدينها لشخصي ؛ لأنك نائبة فيها عني ، فإنني أنا الخليق بأن
أقوم بذلك بكل ارتياح مهما يكن نوعه ، فلا عذر لك في شيء من التقصير إلا إذا
كنت أنا مقصرًا معك في شيء ما - وهي بحمد الله واتباعنا لهداية دينه القويم لا
تشكو مني شيئًا ما - ومن فضل الله علينا جميعًا أنني لم أر منها أدنى تقصير
فأرشدها إلى تلافيه ، وقد قلت لها : إنني لا أشكر لك خدمة الوالدة لجنس الخدمة
ونوعها ؛ فإن هذا من التكافل المشترك في حياتنا المنزلية ، وإنما أشكر لك من
أعماق قلبي أنني لم أرك في شيء من هذه الخدمة متبرمة ولا ضجرة .
فهذا الارتياح النفسي لهذا العمل الشريف من الفضائل النفسية لا تكاد توجد في
الكنائن ، بل قلما تتحلى بها ابنة في تمريض أمها في هذا العصر الذي كثر فيه
العقوق ، وهضم الحقوق ، فأقسَمَتْ أنها تشعر في خدمتها بارتياح من تخدم ابنة لها
لا أمًّا ، ولقد كانت المرحومة خيرًا لها من أمها ، وأشد تحريًا لسرورها من بنتها ،
فلو كانت أمها معنا لما استطاعت أن تؤلف بيننا مثلها ، فأنا أسجل هذا في المنار
ليكون مثلاً صالحًا وأسوة حسنة للمؤمنين ، وحجة على الملاحدة والمارقين
والفاسقين ، الذين يجهلون أن سعادة الحياة المنزلية ( العائلية ) من زوجية وأمومة
وأبوة وأولاد لا تأوي إلا إلى بيوت المعتصمين بهداية الدين القويم ، فإليها تأوي
وفيها تثوي وتقيم ، ولئن طاف منها طائف ببيت من بيوت الملاحدة والفاسقين أو
زارته ؛ فإنما تلم به إلمامًا ، ولا تلبث أن تهجره عند حدوث الحوادث الشهوانية ،
وانتياب الكوارث البشرية ، فآداب الإسلام أرقى من آداب الإفرنج وأضمن للسعادة ،
وإن جهل ذلك المتفرنجون .
أيقنَّا موت الوالدة التي كنا نتبرك بوجودها ، ونهتدي بإرشادها ، ونستنزل
رحمة الله ومثوبته ببرنا لها ودعائها لنا ، ففاضت الأعين دموعًا ، ورددت الصدور
زفيرًا ونشيجًا ، وكررت الألسنة حوقلة واسترجاعًا ، واضطربت الأفئدة خفقانًا
ووجيبًا ، وإن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، ولا
نعمل إلا بما شرعه لنا .
لم نعلن نعيها في الجرائد ولا رقاع البريد ولا أسلاك التليفون ؛ وإنما أعلمنا
حفيدها السيد محيي الدين رضا بالخبر لبعد داره عن دار المنار ، وجهزناها على
ملة الإسلام ، وسنة رسول الله عليه أفضل السلام ، وصليت عليها في رحبة الدار
مع من حضر ، وشيعناها إلى مقبرة جديدة في زين العابدين ، فوارينا شمسها عندما
توارت شمس الدنيا بالحجاب ، تغمدها الله بالرحمة والرضوان .
لم نعقد لها مأتمًا ، ولم نغير شيئًا من عاداتنا حدادًا عليها ، وقد وصل الخبر
إلى بعض جرائد الصباح التي تُطبع ليلاً فنشرته ، ثم نشرته بعض جرائد المساء
في اليوم التالي ، فأقبل كثير من أصدقائنا المقيمين في القاهرة لتعزيتنا في الدار
نهارًا وليلاً ، وأرسل كثيرون منهم برقيات التعزية ورسائلها من الإسكندرية وغيرها
من مدن القطر المصري ومصطافه ، وكان في مقدمة المعزين بأنفسهم وببرقياتهم
إخواننا العلماء ، وأخص بالذكر منهم أصحاب الفضيلة شيخ الأزهر الحالي الأستاذ
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ، وشيخه السابق الأستاذ محمد مصطفى المراغي ،
ومفتي الديار المصرية الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم ، وبعض رؤساء الكليات
والمدرسين في الأزهر ، وبعض الوزراء وأولهم صاحب الدولة رئيسهم إسماعيل
صدقي باشا ، والزعماء وكبار رجال الأحزاب وفي طليعتهم صاحب الدولة مصطفى
باشا النحاس رئيس الوفد المصري ، ومحمد فتح الله باشا أحد كبراء الوفد ووزراء
حكومته السابقة ، وحسن باشا عبد الرزاق وإخوته من أركان الحزب الدستوري ، ثم
جاءتنا كتب التعزية من أصدقائنا المحبين المنبثين في الأقطار حتى لندن وباريس
وروما وسورية والحجاز ، فنشكر لكل مُعزٍّ من قريب وبعيد فضله ولطفه ، وندعو الله
أن يلطف بنا وبهم ، ويقينا وإياهم السوء ، ويجعلنا من الصابرين على بلائه ،
الراضين بقضائه ، الشاكرين لنعمائه .
كانت الوالدة - أحسن الله تعالى إليها - من أسلم النساء فطرة ، وأزكاها نفسًا ،
وأطيبهن قلبًا ، كانت خير الأزواج لزوجها ، وخير الأمهات لأولادها ، وكان حظي
من حبها وعطفها أكبر من حظوظ إخوتي وأخواتي ؛ ولكن فيما لم يحرك غيرة أحد
منهم ولا سخطه ، حتى كان والدي رحمه الله تعالى يلقبني ( حبيب أمه ) ولا أذكر
أنني عصيت لها أمرًا في صغري ولا كبري .
أذكر أنني رأيت أترابي من الأطفال مرة قد خرجوا في سماء ( مطر ) حفاة
يمشون في الوحل رافعي أثوابهم إلى ركبهم ، فاشتهيت أن أقلدهم وأنا ابن بضع
سنين ، فجئت الدار فاستأذنتها في أن أخرج حافيًا وألحق بهم ، فلم تأذن لي ، فوقفت
في عتبة الدار حافيًا ومددت إحدى رجلي إلى خارجها وقلت لها أحطها ، قالت : لا
تحطها ، قلت : أحطها ، قالت : لا تحطها ، فكررت ذلك مرارًا ، فلما لم تأذن لي
رجعت ، وما زلت أذكر هذا لها وتذكره لي فلم أنسه ، وما أبرئ نفسي من نسيان
غيره .
ولا أذكر أنها ضربتني في صغري إلا مرة واحدة ، تململت من سخونة ماء
الحمام وحاولت التفصي والهرب ، فضربتني بالطاس على ظهري ، وما زلت
أذكِّرها بها مازحًا ، وتعتذر لي عنها تلطفًا ، ثم كانت أشد عناية من والدي بطلبي
للعلم والاهتمام به والارتياح إلى هجرتي إلى مصر ، إذ علمت ما لي فيها من النية
الصالحة ، والرجاء في التكمل بالعلم وخدمة الملة والأمة .
وكانت دقيقة الفهم ، رقيقة الشعور والوجدان ، تخشع لآيات الزجر والوعيد
من القرآن خشوع العارفين المتدبرين ، وإذا أنشدتها شيئًا من غزل الشعر الغرامي
قالت : هذا فتنة ، لا ينبغي اشتغال الشبان والشواب به ، وقد قرأت لها قصيدة أحمد
شوقي في تهنئة السلطان حسين كامل :
الملك فيكم آل إسماعيلا
فلم أتجاوز حتى قالت لي : هذه مرثية لا تهنئة ، فعجبت لهذه الفطنة ، وسبقها إياي
إلى هذه الفكرة . ثم قرأت لها قصيدته في تهنئة والدة الخديو بعودتها من الآستانة
التي مطلعها :
اكشفي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين
فانتقدت هذا المطلع واستهجنته جدًّا في كلا مصرعيه : فأما الأول فلأن الستر
يستعمل غالبًا في إخفاء ما يقبح إظهاره ، وكشفه يستعمل في الفضيحة ، فيقال :
كشف الله ستر فلان ، وهتكت فلانة سترها ، وأما الثاني فلا يخفى وجهه ، ولا
يحسن كشفه .
وأذكر أنني سمعت وأنا صغير مغنيًا في قريتنا القلمون يقول بيتًا من أغنية
عامية مضمونه أنه يدعو الله أن يغيب القمر ليأخذ البوسة ( القبلة ) ويرى قلعة
حلب على أي شيء هي مبنية فحفظتها فقلتها أمامها ، وقالت لي : ( اسكت ) هذا
كلام عيب إياك أن تقوله ، وإنني وأيم الحق لم أفهم مغزى هذا الإنكار الشديد إلا بعد
أن صرت رجلاً كبيرًا .
وكانت على نزاهتها وأدبها في القول والفعل ذات دعابة وفكاهة وتنادر في
الكلام طبعًا بلا تكلف ، وكانت تتوخى أن لا يستثقل أحد منها قولاً ولا خدمة ، فقلما
تطلب من أولادها أو أحفادها أو كنتها شيئًا بصيغة الأمر ، بل تعرض وتكني في
الغالب ، ولا تكلف أحدًا ما تستطيع هي فعله ولا تشتم خادمًا شتمًا بذيئًا على تقصير ،
ولكنها قد ترفع صوتها عند الغضب ، وقد ورثتُ ذلك منها وهو منتقد وهو طبع
كان يكرهه كل منا .
وكانت مقتصدة شديدة الحرص على كل ما في الدار ، لا يهون عليها أن
يضيع شيء منه ، على حبها للضيافة واعتيادها إكرام الضيوف منذ صارت ربة
بيت ، وتحب أن يُبذل كل ما يستطاع من إكرام الضيوف وبر الإخوان ، فإذا أشرنا
بشيء من الألوان لم تجده لائقًا لقلته اقترحت الزيادة عليه ، وما دعوت الأصدقاء
إلى الطعام إلا ذكرتني ببعض من لم أذكره لها منهم ، حتى كانت تأمرني بدعوة
نسيم أفندي صيبعة للإفطار معنا في رمضان مع الصائمين الذين ندعوهم ولا سيما
السوريين منهم ، فأقول لها مازحًا : هو نصراني لا يصوم . فتقول : لكنه صديقك
وابن بلدنا ، وذوقه ذوقنا ، ولا بد أن يترك الغداء بعد الظهر ، أو يخففه ليقبل الأكل
معكم بعد المغرب ، وأنا لم أذكر لها كلمة نصراني إلا لأجل الصيام ، فقد كان من
المألوف عندها بدارنا ، وإلا فهي معتادة في بلدنا على ضيافة النصارى وغيرهم ،
بل كان بعض أصدقاء والدي منهم يقيم عندنا أيامًا في رمضان فيفطر ويتسحر معنا .
وقد ذكرتني جريدة حضرموت - التي تصدر بسنغافورة -بمكرمة لها كنت
ناسيًا لها ، وهي أنه لما جاء مصر صديقي الجليل المرحوم السيد محمد بن عقيل
قبل الحرب الكبرى ذكرت لها ذلك عندما علمت به ليلاً ، فأمرتني أن أذهب من
ساعتي تلك إلى الفندق الذي نزل فيه وأجيء به إلى الدار ، وقالت : إنه لا يليق
بك وهو صديقك القديم ، وقد صار لك دار وأهل أن ترضى بنزوله في فنادق
المسافرين - وكانت لا تعلم أن هذا معتاد في الأمصار الكبيرة - فلم يسعني إلا امتثال
أمرها .
وكانت صبورًا شكورًا ، مات أربعة من بنيها وأربع من بناتها في حياتها
فبكتهم البكاء الطبعي الشرعي ، دموع تتحادر من العينين ، ونشيج يتردد في الصدر ،
بلا نوح ولا ندب ، ولا تغيير شيء من العادات في اللباس والأكل والشرب ، ولا
غير ذلك مما يسخط الرب .
وأما الشكر فكان أكمل مظاهره منها رضاها من المرحوم الوالد وإطراؤه في كل
أعماله على ما كان من شدته في معاملتها ومعاملتنا أحيانًا ، فلم يكن في أسرتنا مثله في
غضبه وشدته عفا الله عنه ، وما زالت تمدحه وتثني عليه وتدعو له طول حياتها .
وقد ضارها بزوج أخرى من بنات عمومته بعد ولادتها لي - ولم يجمع أحد
من أسرتنا بين زوجين غيره إلا ابن عم له - فلم ينكر هو ولا غيره منها قولاً ولا
فعلاً من غيرة الضرائر على ما كان أهل ضرتها يعملون لإغضابها وإثارة غيرتها
ولكنه رحمه الله تعالى ما استطاع أن يطيل عشرة الأخرى فسرَّحها سراحًا جميلاً .
ومن أغرب آدابها أنها كانت تعد لأولادها عليها بأقل خدمة يؤدونها مما أوجبه
الله عليهم ويعذبهم على تركه ، حتى كان يثقل علي هذا منها أحيانًا ، وقد قلت لها
مرة : لماذا تتحامين أو تستثقلين أمر أي كان من كبيرنا وصغيرنا بما تريدين منه
وأنت سيدة الجميع وصاحبة الفضل على الجميع ؟ فقالت : بل أنت صاحب الفضل
على الجميع . فما آَلَمَتْني بكلمة أشد على طبعي من هذه الكلمة ، فقلت لها : بل أنا
لولا توحيد الله تعالى لما كنت إلا عبدًا لك ، وانصرفت موجعًا من هذا الشعور
الغريب .
وأغرب منه أنها كانت تسترقيني إذا وجعتْ فأرقيها ، والرقية مشروعة ،
ولم تكن من النساء الخرافيات ، وقد ذهبت مرة مع بنتيها لرؤية جامع عمرو فأحاط
بهن سدنة القبور فقلن لهم : إنما نحن متفرجات لا زائرات ، فانصرفوا .
وأعد من فضل الله تعالى عليَّ أنني ورثت منها سلامة الفطرة وطيب السريرة ،
فلم أحمل في قلبي حقدًا على مسيء ولا حسدًا لذي نعمة ، وكذا الاستعداد لذوق
اللغة وحسن الفهم ، وغير ذلك من أخلاقها وخلقها ، كما ورثت من والدي - أكرم
الله مثواهما - عزة النفس والشجاعة والنجدة ؛ وإنما أذكر هذا تنويهًا بفضل الوالدين
وتحدثًا بنعم الله عز وجل ، وأعظمها العلم الصحيح بالإسلام ، والعمل به ، ثم وراثة
النسب الشريف .
كنت أتمنى لو تعيش الوالدة مائة سنة أو أكثر متمتعة بالصحة ، وسلامة العقل
والجسد كما كانت إلى آخر رمضان الماضي ، نتمتع بخدمتها وإرضاء الله برضائها ،
ونقتدي بأخلاقها وآدابها ، ونرجو زيادة نعم الله علينا بشكرها له ودعائها لنا .
وكنت على حبي لها أخشى أن تشتد عليها الأمراض فأراها معذبة أو شاكية
وجعة ، وكانت أصبر على ألم النفس منها على ألم الجسد لأنها لم تتعود هذا ، وقد
شقت عليها الحمية في هذه الأشهر التي ضعفت فيها لما اعتادته من الترف ، وكانت
تتوقع أن يزول كل ما عرض لها فتعود إلى سابق صحتها ، وتتساءل متى يكون
هذا ؟ فأذكرها بتجاوز الثمانين لكيلا تتضجر من بطء ما ترجو .
وكنت على تمني أن يطول عمرها أخشى أن أموت قبلها ؛ لأنني أعلم أن
رزأها بي يكون أكبر المصائب عليها ، إذ كنتُ قرة عينها والعزاء لها والسلوى
عن جميع مصائبها ، وقد كان يشق عليَّ أن أراها متعبة فلا أستطيع طول المكث
معها ، وأحمد الله تعالى أن حفظها في مرضها عقلاً وفهمًا وجسمًا وطهارة حسية
ومعنوية - كما يليق بمبالغة الشافعية في الطهارة - حتى كانت إلى نهاية أجلها
حديدة البصر ، تنظم الخيوط الدقيقة في أخرات الإبر ؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا
يُؤخَّر ، ولقد عاشت طيبة وماتت طيبة فنسأله تعالى أن يجمعنا بها في دار كرامته ،
ويجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائه { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً
وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ( الأعراف : 126 ) .
(32/73)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذكرى صلاح الدين ومعركة حطين[1]

] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [
[*]
سلام عليكم أيها المتذكرون المذكِّرون بتاريخ هذا الرجل العظيم ، المنقذ
لأوطانكم وأمتكم من عدوان المعتدين ، المجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق
والعدل ، بصد سيطرة الغرب عن الشرق .
لقد أحسنتم صنعًا بإحياء هذه الذكرى ، واختياركم لها تاريخ معركة حطين
الكبرى ، التي كانت هي الفاصلة ؛ لأن معارك النصر بعدها كانت متواترة متعاقبة ،
إلى أن تم طرد تلك الزحوف الباغية ، عن هذه البلاد المقدسة ، وعن غيرها من
البلاد العربية ، حتى جزيرة العرب التي شرَّفها الله تعالى على جميع الأرض ببيته
الحرام ، ومرقد رسوله خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام ، فقد كان بعض
زعماء الإفرنج يأتمرون بفتح الحرمين الشريفين ، ولا غرو فإن ثالث الحرمين
أقرب الأبواب إليهما ، وقد عاد الأمر كما بدأ ، فهل نجد على نار الأحداث المشاهدة
هدى ؟
أيها الإخوان المجتمعون لهذه الذكرى المقدسة ، في هذه الأرض المقدسة إنكم قد
رفعتم عن بلادكم وأمتكم كلها عارًا كبيرًا وتقصيرًا معيبًا بالسكون والسكوت عنها
إلى الآن ، وهم يرون شعوب الغرب يتنافسون في إحياء ذكرى معارك الحروب
التي هي دونها من كل وجه ، وأما الرجال العظام فإنهم ينصبون لهم التماثيل ، وإن
كانوا عندهم دون صلاح الدين عندنا ، ويؤلفون في مناقبهم الكتب التي ترفع ذكرهم ،
وتعظم قدرهم ، وترشد الأمة إلى الاقتداء بهم .
نصب التماثيل ممنوع في الإسلام لأنه من شعائر الوثنية ، وأما تصنيف الكتب
وإلقاء الخطب في عبر التاريخ فكل منهما مشروع ؛ لأنه من الحكمة والموعظة
الحسنة ، وقد دوَّن بعض علمائنا تاريخ صلاح الدين ، ونوَّهوا بجهاده ومناقبه في
كتب أخرى ؛ ولكن جمهور الأمة يجهلها ويحتاج إلى التذكير بها ، بالأسلوب الذي
يبعث العبرة ، ويحمل النفوس على حسن الأسوة .
فضائل صلاح الدين كثيرة : من قوة إيمان ، وعلو أخلاق ، وصلاح أعمال
وعدل أحكام ؛ ولكن منته الكبرى على أمم الشرق كافة ، وعلى العالم الإسلامي
والعرب خاصة ، إنما هي كفايته إياهم طغيان الاستعمار الغربي ، والطوفان
الأوروبي ، الذي فاضت سيوله باسم التعصب الصليبي ، في زمن كانت فيه جميع
الشعوب الأوربية في ظلمات حالكة من الهمجية والقسوة والخرافات والجهل المطلق ،
والبعد الشاسع عن هداية الدين المسيحي الصحيح ، الذي ارتكبوا جميع الشرور
والفظائع باسمه ، ووالله إنهم قد كانوا وما زالوا أبعد خلق الله عن دين المسيح
وفضائل المسيح ووصايا المسيح عليه الصلاة والسلام ، ولولا صلاح الدين لأغرق
طوفانهم الشرق كله منذ القرن السادس للهجرة ، فأهلكوا الحرث والنسل ، وطمسوا
نور الحق والعدل وأفسدوا جميع الأرض .
لم يكن صلاح الدين رحمة من الله تعالى بالشرق وحده ، بل كان رحمة
بالغرب وبملوكه وقواده الوحشيين الهمجيين وشعوبه المظلومين أيضًا ، فقد أراهم
بجهاده فيهم ، وبنصر الله له عليهم ما طبعه عليه الإسلام من الحق والعدل ،
والرحمة والفضل ، وعلو الأخلاق والشيم ، فإن كانوا قد خسروا بسيفه نتيجة
الحرب كلها ، فقد ربحوا بمعرفة فضائله وفضائل أمته ما كان خيرًا لهم ولشعوبهم
منها .
رأوا من صلاح الدين ومن أمة صلاح الدين ، ومن جيوش صلاح الدين ،
وعلموا من أمر رعايا صلاح الدين من اليهود والمسيحيين ، خلاف ما كانوا يعلمون
من ملوكهم وشعوبهم ، ورؤساء دينهم ودنياهم ، وما زال علماؤهم ومؤرخوهم
يجلونه وينوهون بفضائله ، ولم تنس سورية ما كان من عاهل ألمانية الأكبر عند
زيارة ضريحه في دمشق من إجلاله له ، ووضع ذلك الإكليل على قبره .
رأوا أن سلطان المسلمين خادم للأمة ، لا يتعدى سلطانه عليها تنفيذ الشريعة ،
فلا سلطان له على أموال الناس ولا على دمائهم ولا على نسائهم ، ولا تحكم له في
أنفسهم ولا في شرفهم فضلاً عن عقائدهم وآرائهم ، بل هو أرفق بهم من آبائهم
وأمهاتهم وأولي أرحامهم [2] .
رأوا أن المسلمين أحرار في دينهم وضمائرهم ، ليس عليهم سيطرة باباوية ولا
كنسية فيها ، على خلاف ما كان عليه ملوك أوربة ورؤساء الدين فيها من استبداد
في الأحكام ، واستعباد للناس ، رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم وعلموا باختبارهم أن
كل ما هاجتهم به الكنيسة لقتال المسلمين من الخطب والقصائد والأناشيد فهو كذب
وبهتان ، ورأوا أن النصارى يعيشون مع المسلمين كالإخوان ، لهم ما لهم ، وعليهم
ما عليهم ، بل لهم أكثر مما عليهم ، فلما انقلبوا مغلوبين على أنفسهم في الحرب ،
رجعوا عليها باللائمة ، وشعروا بحاجتهم إلى تقليد المسلمين والاقتداء بهم في عدل
حكامهم وحرية شعوبهم ، وتقييد تلك السلطة المطلقة والسيطرة المقدسة اللتين
استذلتاهم ، فكان انكسارهم في معارك النزال هو الحافز لهممهم ، والمثير لأفكارهم
والمرشد لهم إلى الإصلاح السياسي والديني ، وما يتوقف عليه من استقلال العقل ،
وحرية العلم ، فتحولوا عن جهادنا إلى جهاد أنفسهم .
جاهدونا عدة أجيال ، ثم جاهدوا ملوكهم وكنيستهم عدة أجيال ، وطفقوا
يترجمون كتب حكمائنا وأطبائنا وفقهائنا وأدبائنا ، يثقفون شعوبهم بها ، على حين
كنا نعود القهقرى بتخريب الأعاجم لبلادنا ، ودكهم لمعاقل قوتنا ، وتقويضهم
لصروح حضارتنا ، وإغراقهم لكتب أئمتنا ، ثم بقضائهم على سلطان خلافتنا ،
وإضعاف لغتنا وإماتة علومنا ، وإذلال نفوسنا بسلطة عسكرية قاهرة استنزفت ثروة
عمراننا ، وألحقتنا بمنابت الشيح والقيصوم من جزيرتنا .
هذا وإن هؤلاء الأوربيين لم ينسوا عداوتنا معشر العرب ، فقد كانت لنا عدة
ممالك عربية ، في شطر أفريقية الشمالي قضوا على استقلالها كلها بأسماء مختلفة ،
حتى أنهم كانوا هم الحائلين دون تأسيس السلطنة ( الإمبراطورية ) العربية التي
شرع فيها محمد علي الكبير في مصر و سورية و السودان ، وأكرهوه على أن يظل
خاضعًا للسياسة العثمانية عدوهم الكبرى في الشرق ؛ لعلمهم أنها سائرة إلى
الانحلال والاضمحلال ، وأن الدولة المصرية الجديدة حية داخلة في سن الشباب ،
ثم ما زالوا يتربصون الدوائر بالدولة العثمانية إلى أن تم انحلالها في الحرب العامة
الأخيرة ، فكان حظهم من انحلالها الاستيلاء على ولاياتها العربية ، والاعتراف
باستقلال ولاياتها التركية وحدها ، وإعلان الحماية على مصر العربية ، ولما
اضطرتهم الثورة المصرية إلى إلغاء هذه الحماية والاعتراف باستقلال مصر قيدَّوا
ذلك بقيود تجعل الاستقلال اسمًا لغير مسماه اللغوي والسياسي ، وعجَّلوا بالاستئثار
بالسودان كله ، فطردوا منه موظفي الحكومة وضباط الجيش من المصريين ، حتى
أن حاكم السودان الإنكليزي لم يسمح لحكومة مصر بتولية ملكها لقاضي السودان
الشرعي ، على أنهم لولا مساعدة مصر و الحجاز العربيتين لهم في الحرب ، لكان
النصر فيها للألمان والترك ، ولزال الاستعمار البريطاني والفرنسي من الأرض .
فعلم من ذلك كله أن دول أوربة العسكرية الاستعمارية تعد الأمة العربية أعدى
أعدائها في الشرق ، وأن وجودها فيه ذنب لا يقاس به ذنب ؛ ولذلك جزتها على
مساعدتها لها على قتال الترك بما تعلمون وتشاهدون ، وتسمعون وتذوقون ؛ وإنما
تشاهدون ظلمًا لا يصبر عليه إلا عير الحي والوتد ، وتسمعون من النُّذر ما يدل
على أن المستقبل المعد لكم ، شر من الحاضر الذي يعنتكم ، وتذوقون من مرارة
الفقر والذل ما لا يوصف بالقول ؛ فإن الذوق أقوى أنواع الإدراك فلا يحتاج إلى
الوصف .
وإنكم أنتم يا عرب فلسطين ، ويا من شرَّفكم التاريخ بمعركة حطين ، قد
خصصتم بما لم يصب به أحد من العالمين ، من الظلم والذل والعذاب المهين ، لا
فرق فيه بين المسلمين والمسيحيين ، بما تحشره الدولة البريطانية في وطنكم من
شذاذ اليهود الصهيونيين ، لتطردكم منه وتعيد فيه ملك إسرائيل ، تكذيبًا لوعيد الله
لهم على لسان المسيح ومحمد عليهما من الله أفضل الصلاة والتسليم .
على أن هذه الدولة المشهورة عند أدباء أوربة وساستها بالرياء الفريسي قد
صبغت الاستيلاء على القدس بالصبغة المسيحية ، ووصفت هذه الحرب بأنها آخر
الحروب الصليبية ، وأقامت الاحتفالات لفتح أورشليم في الكنائس الإنجليزية ،
فلينظر مسيحيو أورشليم و الناصرة و بيت لحم وسائر البلاد التي تشرفت بولادة
المسيح ونشأته وتجواله ومعيشته ، وسمع أجدادهم فيها مواعظه العالية ، ووصاياه
الإصلاحية السامية ، ورأوا آياته وعجائبه الدالة على صدقه ، وتكذيب أعدائه الذين
طعنوا وما زالوا يطعنون في دعوته ، ويقذفون أمه العذراء الطاهرة سيدة نساء
العالمين ، بما برأها الله منه على لسان رسوله محمد خاتم النبيين ، وسماه بالبهتان
العظيم .
لينظر هؤلاء المسيحيون ماذا كان من حظهم من هذا الفتح المسيحي الصليبي ،
الذي هو أجدر أعمال الإنكليز باسم الرياء الفريسي ، وليتذكروا أن صفقتهم كانت
تكون أخسر مما هي لولا كنائس أوربة المسيحية وشعوبها المسيحية ودولها
المضطرة إلى مراعاة شعورهم ، وحسبهم مما هم فيه تفضيل أعداء المسيح
الصهيونيين عليهم ، وجعل وطنه وطنًا لهم ، ليقيموا فيه مسيحهم الذي يجدد لهم ملك
داود وسليمان المادي الذي يزعمون أن أنبياءهم بشروهم به ، ويكذِّبون ابن مريم
الصادق الأمين الذي قال مؤيدًا بروح القدس إنه هو المسيح الحق الذي بشَّر به
أولئك النبيون ، وإن ملكه سماوي لا أرضي ، روحي لا مادي ؛ فإنهم كانوا وما
زالوا عبيد المادة ، فإذا جاءهم ملك مادي لا يزيدهم إلا طغيانًا وغلوًّا في عبادة المال ؛
وإنما كانوا وما زالوا في أشد الحاجة إلى تلك التعاليم الإنجيلية الروحية التي
تصدهم عن هذه العبادة للمال ، والطمع والأثرة على الناس ، حتى بغَّضتهم إلى
أكثر شعوب البشر ، فإن تجدد لهم ملك وهم على ما يعلم جميع الناس فإنهم لا
يكونون إلا كما قال الله عز وجل : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ
نَقِيراً } ( النساء : 53 ) حتى لا يستطيع أحد أن يعيش معهم ولو فقيرًا ( النقير :
النكتة في ظهر نواة التمرة ، وهي كناية عن الشيء الحقير ) .
أيها العرب الكرام ، المحتفلون بذكرى السلطان صلاح الدين العربي العدناني
كما روى ابن خلكان المؤرخ الشهير ، وبذكرى معركة حطين العربية الفلسطينية ،
يجب أن تبثوا في الأمة العربية كلها أن الخطر عليها من الاستعمار الأوربي في هذا
الزمان ، بل في هذا العام ، أكبر وأخطر مما كان قبل معركة حطين الفاصلة ، وأن
ما يجب عليها لدفع هذا الخطر بالأموال والأنفس ، هو أعظم وأشق مما قام به
أجدادهم في حطين ، تحت لواء صلاح الدين ، ففازوا بالنصر المبين .
ربما يتوهم بعضكم أنني أعني بهذه المشقة أن الأمة العربية لا تملك ما يملك
المعتدون عليها ، والجادون في السعي لاستعبادها ، من المدافع والدبابات والطيارات
والأساطيل ، فتقاتلهم بمثل سلاحهم كما أوجب الشرع عليها ، كلا إن هذا أهون
الخطرين ؛ وإنما الخطر الأكبر الذي يندفع باندفاعه كل ما دونه هو قتال العرب
بالعرب ، وتخريب بيوتهم بأيديهم ، بما يبذله هؤلاء المستعمرون لهم من مال
يستأجرونهم به لقتل أنفسهم ، وما هو إلا مما يسلبونه من بلادهم في الحال أو المآل ،
وبما يستخدمون به طلاب الإمارة والوزارة وما دونهما من المناصب لخيانة أمتهم
وهدم معاقل استقلالها ؛ وإنما هو ألقاب باطلة لا يخرجون بها عن كونهم خدمًا أذلة
للمستعمر السالب لسلطانهم الصحيح ، ومجدهم التليد ، فلعنة الله على أمثال هذه
الإمارات والوزارات والمناصب الصورية المدنسة برجس الخيانة ، وعلى هذا
السحت الذي يبيعون به أوطانهم لأعدائهم .
وإن أمة يعيش فيها أمثال هؤلاء الخونة مكرمين مخدومين مزينين بألقاب
الجلالة والعظمة ، والسمو والفخامة والسعادة لا يمكن أن تكون أمة عزيزة مستقلة ،
بل لا بد أن يسلب منها ما بقي لها من استقلال ومال وشرف وحرية ، إلا أن تتوب
إلى ربها ، وتجتث شجرة الخيانة من بلادها كلها ، فالأمة العربية مستمدة للحياة ،
ولا تلبث بعد تطهيرها من هؤلاء الأنذال ، أن يظهر فيها صلاح الدين فيقودها إلى
الوحدة ومجد الاستقلال .
لا أقول لكم عاقبوهم بمثل ما عاقبت وتعاقب به الأمم الحية أمثالهم ، وما أشار
به حكيم الشرق وموقظه السيد جمال الدين الأفغاني قدَّس الله روحه في معالجة
فتنتهم ، بل أقول إن ما دون ذلك من العقوبة الأدبية قد يفضي إلى تطهير الأمة من
رجسهم .
العقوبة الأدبية يملكها الكُتَّاب والخطباء والشعراء والمصنفون والجمعيات
العلمية والأحزاب السياسية ، فعلى هؤلاء كلهم أن يتعاونوا على تنفيذ العقوبة بما
ينظمون من القصائد والمقاطيع والأغاني الوطنية في تشهيرهم ، وتشويه خيانتهم
وتسجيل اللعنة عليهم ، وبما يقولون من الخطب في مثل هذا المحفل الحافل ، وفي
الأندية والسمَّار والمساجد ، وبما يكتبون من المقالات التاريخية والاجتماعية في
المجلات والجرائد ، وبما يصنفون من الكتب والرسائل ، وبما يلقنون من علم
الأخلاق والاجتماع لطلاب المدارس .
وأما الأحزاب السياسية فعليها فوق هذا أن تسعى لإسقاط سلطتهم ، وتأليب
الأمة عليهم ، وإحباط كل سعي في تأليف عصبية لهم في أي عمل من أعمالهم ،
حتى لا يجدوا في الأمة رجلاً قادرًا على العمل يكون آلة للأجنبي المعتدي على
بلادها ، أو آلة للآلة الخائن لها ؛ فإن لبعض الأمور السلبية من التأثير والبلاء في
بعض الأحوال ، ما لا يكون للحديد والنار .
أتدرون أيها الإخوان لماذا رفع الإنكليز الحماية عن مصر ؟ إنهم لم يرفعوها
لِما قتل الثائرون من رجالهم القليلين ؛ وإنما رفعوها للثورة السلبية التي اتفق عليها
الموظفون في الحكومة بامتناعهم من حضور الدواوين ، واشتغالهم فيها تحت سيطرة
الإنكليز ، بل ما تسنى للإنكليز احتلال مصر إلا باستعداء حكومتها إياهم على
طلاب النصفة والإصلاح من شعبها ، وبخيانة الخونة من باشاواتها لها ( وقد بيَّنا
هذا في تاريخ الأستاذ الإمام الذي هو التاريخ الوحيد للنهضتين المصرية والإسلامية )
ثم لم يتمكنوا من سلب نفوذ حكومتها وجعلها آلة صماء في أيدي مستشاريهم ومن
دونهم المفتشين وغيرهم ، إلا بأيدي تلك الجماعة التي كانوا يسمونها مجلس النظار
أو الوزراء ، وأطلق عليها شيخنا الأستاذ الإمام اسم ( جمعية الصم البكم ) .
وإنكم لتجدون أيها الإخوان للثورة السلبية في هذه الأيام مثلاً أكبر وأوسع مما
كان في الثورة المصرية ، وهو الثورة الهندية ؛ ولكن ينقصها أن ساسة الأكثرين
من الوثنيين قد عجزوا عن إرضاء جميع الزعماء المسلمين ، ولو اتفق الفريقان كما
اتفق المسلمون والقبط في مصر ، لأمكنهم أن يعمموا ثورتهم السلبية بعدم التعاون
مع الإنجليز على أعمال الحكومة ، وبعدم دفع الضرائب لها ، وإذًا لكان استقلال
الهند قاب قوسين أو أدنى .
أيها الإخوان - أيها العرب الكرام :
إنه لا خير لكم في هذا الاحتفال ولا فائدة لكم من هذه الذكرى لسلفكم ، إلا إذا
استفزتكم للجهاد في حفظ ما بقي لأمتكم العربية من الاستقلال في جزيرتها ، منبت
شجرتها ، وموطن قوتها ، ومصدر حضارتها ، ومأرزها عند شدتها ، وفي استرداد
ما فقد من بلادها ، ولا تهولنكم عظمة المعتدين الحربية ، ولا ثروتهم المالية ؛ فإنكم
إذا جمعتم كلمة أمتكم ، ووفقتم لنبذ الخونة الذين يقاتلكم الأجنبي بهم ؛ فإن شعوب
أوربة العاقلة المقتصدة لن تسمح لحكوماتها الطامعة بتجهيز جيوش صليبية جديدة
مجهزة بالآلات الحربية الحديثة لفتح جزيرتكم ، والاستيلاء على الحرمين كما
استولوا على الثالث ؛ وإنما يفعلون كل شيء من إذلالكم بكم ، وانتزاع بقية
استقلالكم بأيديكم ، كما قلنا آنفًا لكم ، وقلنا ذلك وكتبناه من قبل لقراء مجلتنا المنار
وتفسيرنا ولغيرهم في بعض الصحف .
ومما كتبناه في مباحث هذه المسألة خاصة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث
ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله زوى
لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها ،
وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة
عامة - أي القحط - وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم -
أي ملكهم وسلطانهم ومستقر قوتهم - وإن ربي قال لي : يا محمد ، إذا قضيت
قضاء فإنه لا يُرد ، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط
عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ،
ويسبي بعضهم بعضًا ) .
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما بشَّر به وأنذر ، وما كان إلا
صادقًا ، وما كان خبره عن الله إلا حقًّا ، فقد أعطى الله أمته كل ما وعدها ، وما
سلب أعداؤها شيئًا من بلادها ، ولا سُلِّطوا على شعب من شعوبها إلا بمساعدة
المسلمين أنفسهم إياهم على أنفسهم ، كما يعلمه كل واقف على تاريخ الاستعمار ،
وآخره استيلاؤهم على هذه البلاد العربية من فلسطين إلى العراق ، فإلى متى تسكت
الأمة للخونة الذين رضوا أن يكونوا شر سلاح للأجانب تفتح بهم بقية بلادها ،
لتقضي على البقية القليلة من ملكها ؟

الأخوتان الدينية والقومية :
هذا وإنني أوصي إخواني في الدين وإخواني في القومية العربية والوطنية
بالحذر التام من التفريق بينهم بدسائس الأجانب الطامعين ، وأعوانهم من الوطنيين
المنافقين المأجورين ، والمتعصبين المغرورين ، الذين يبغون التفريق بينهم
باختلاف الدين ؛ فإن مصلحتهم القومية والوطنية واحدة ، وقوميتهم واحدة ، ولغتهم
واحدة ، وإن المسلمين لا يرون في أخوة الدين الروحية ما يعارض أخوة القومية ؛
لأن الله قد أثبتهما في كتابه العزيز ، فقال في الأولى : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ( الحجرات : 10 ) وقال في الثانية : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } ( الشعراء :
105-107 ) وقال مثل ذلك في أخوة هود و صالح الرسولين العربيين وغيرهما
لأقوامهم المشركين .
وإن المطلعين على التاريخ من إخواننا في القومية العربية ، يعلمون أن دولنا
العربية لم تفرق بين المختلفين في الدين في العدل والمساواة في حرية الاعتقاد
والعبادة والنفس والعرض والمال ، وإن بغي الصليبيين وتعصبهم وما سفكوه من
الدماء البريئة باسم الصليب ونزغة الدين المسيحي إفكًا وزورًا لم يكن له من التأثير
بين المسلمين والنصارى في هذه البلاد العربية عشر معشار ما كانوا يظنون ، بل
كان الجميع يعيشون متحدين متعاونين في أمور دنياهم ، وكل منهم حر مستقل في
أمور دينه على قاعدة الشرع الإسلامي ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) فلم يستطع
الصليبيون الأولون ولا الآخرون أن يُفسدوا علينا من إخواننا في القومية ما أفسده
علينا خلفهم من إخواننا في الدين والقومية معًا بحب الإمارة والوزارة والمال .
أذكر في هذا شهادة لعالم مسلم عربي النسب والأدب ، أوربي الوطن ، وهو
الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي مر ببلادنا سائحًا بعد عودته من الحجاز في عهد
الحرب الصليبية سنة ( 580 ) فإنه قال في رحلته عند ذكر جبل لبنان الذي كان
فاصلاً بين البلاد الساحلية التي احتلها الصليبيون وبين غيرها وذكر ما كان في هذا
الجبل من عُباد المسلمين ما لفظه :
( ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين
( أي للعبادة ) من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ، ويقولون هؤلاء ممن
انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم ، وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا فيه
أنواع الفواكه ، وفيه المياه المطردة ، والظلال الوارفة ، وقلما يخلو من أهل التبتل
والزهادة ، وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين
بعضهم مع بعض ؟ )
( ومن أعجب ما يُتَحَدَّث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين
ونصارى وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ، ورفاق المسلمين والنصارى
تختلف بينهم دون اعتراض عليهم ) إلى أن قال بعد ذكر حرية التجارة للجميع بين
البلدين ( مع الاتفاق والاعتدال في جميع الأحوال ، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم
والناس في عافية والدنيا لمن غلب ، هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة
الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ) انتهى .
ولا يخفى على أحد منكم أيها الإخوان في هذا العهد أن هؤلاء الأجانب
المستعمرين لا هم لهم في بلادنا إلا استعبادنا وسلب ثروتنا ، وأنه لا فرق عندهم
بين المسلمين والنصارى في ذلك ؛ ولكن الإنكليز يفضلون اليهود على النصارى
كالمسلمين في فلسطين لأن لهم ربحًا ماليًّا وسياسيًّا من مساعدتهم ، فهم يبغون أن
يكونوا مانعًا من بقاء هذا البلاد للعرب وحدهم ، فحائلاً دون تأسيس الوحدة العربية
التي شعر العقلاء من جميع البلاد العربية بوجوب التعجيل بتأسيسها قبل قطع
المستعمرين طريقها عليهم [3] .
وكذلك تفعل فرنسة بتفضيل النصارى عامة والماورنة خاصة على الطوائف
الإسلامية ؛ وإنما غرضها من ذلك التفريق بين الطوائف حتى لا يكون لهم وحدة
قومية ولا وطنية ، والدولتان ماديتان ماليتان ، والدين عندهما من بضائع التجارة
المعنوية ، ومنها ما لا ربح له إلا في المستعمرات ، فلذلك تساعد فرنسة الجزويت
في مستعمراتها ( وهي ترى أن سورية و لبنان منها ) ولكنها لا تسمح لهم بالمقام
في بلاد فرنسة نفسها .
فظهور هذه النية السوءى من الدولتين الماديتين للعرب مسلميهم ومسيحييهم
أفضل فرصة تمكنهم من جمع كلمتهم ، والحرص على قوميتهم ووحدة أمتهم ، فلم
يبق عاقل متعلم منهم تغره الدسائس الاستعمارية التي كانت تخدع الفريقين بما
تحملهما به على التعادي ، فتخوف النصارى من كثرة المسلمين ، وتغري المسلمين
بالنصارى لميلهم إلى أعداء أمتهم وبلادهم ، وقد أحبطت مصر العربية هذه الدسيسة ،
وإن أهل سورية وفلسطين لأشد شعورًا من أهل مصر بحاجتهم إلى الاتفاق والوحدة
فجميع زعمائهم يدعون إليهما إذا كان سعد باشا قد انفرد بقوة وفده بإتمامهما في
مصر ، وإن للجميع من تاريخ الدول العربية خير قدوة فيه .
أيها الإخوان في القومية العربية :
إن الغلو في العصبية الدينية لم تعرفه البلاد العربية ولا الأمة العربية إلا مما
بثته فيها الحرب الصليبية ثم المدارس الأوربية ، فقد كانت المدارس هي التي دست
سم التفريق والتعادي في دسم العلم والحضارة الغربية ؛ لأن الذين تعلموا في مدارس
الإفرنج أحسنوا الظن بهم ، وجهلوا مقاصدهم منهم ، وسبب ذلك أنه لم يكن لهم
دولة رشيدة ولا جمعيات قومية توجه أولادهم إلى التربية والتعليم الذي يعزز الدولة
وينهض بالأمة ؛ وإنما كان الرجل يعلِّم ولده لأجل الاستعانة بعلمه على أسباب
المعيشة .
وكان المستعمرون ودعاتهم الذين ربوهم وعلموهم يظنون أن بلادنا إذا آل
أمرها إليه بسقوط الدولة العثمانية فإن أهلها يكونون من أغنى الناس وأعز البشر ،
لا فرق بينهم وبين الإفرنج محرريهم في شيء ، وكانوا يبثون لهم هذه الدعاية ،
فلما زال سلطان الدولة العثمانية عن البلاد ظهر لأولئك الدعاة ولسائر الناس أن
الدولة العثمانية كانت أبر وأرحم منهم ؛ لأنها كانت إلى آخر عهد السلطان عبد
الحميد ترضى من البلاد بقليل من الضرائب وشيء من رشوة الحكام ، وتترك لهم
الحرية في أديانهم ومذاهبهم ولغاتهم وقومياتهم وتربيتهم وتعليمهم وكسبهم ، وما كان
في آخر العهد الحميدي من الضغط السياسي فسببه خوف السلطان على شخصه
وسلطته من أحرار قومه وأعوانهم .
وظهر لهم ولغيرهم أيضًا أن هاتين الدولتين لا يتركان لأهل البلاد - التي
رزئت بنفوذهم وما سموه بالانتداب لمساعدتهم على استقلالهم - استقلالاً ، ولا ثروة
ولا قومية ، ولا وطنًا ولا حرية ، ولقد رأينا أَلَيَنَهُما ملمسًا في الاستعمار أَشَدَّهما
وطأة علينا في هذه البلاد المقدسة ، فقد ابتدع انتدابها فيها بدعًا من الظلم لم يسبقها
إليه أحد من الظالمين المستبدين ، وهو هبة وطننا إلى أوزاع وأشتات من شعب ذي
أثرة وعصبية تستغيث منهما جميع شعوب الأرض ، حتى إننا نرى أرقى هذه
الشعوب في كل علم وعمل وقوة وهو الشعب الألماني يخاف منه ويناوئه ، فماذا
يرجو الشعب الفلسطيني الصغير الفقير الضعيف من البقاء معه ؟ وأنى يأمن إخوانه
في شرق الأردن على أرضهم وديارهم ومعايشهم ، وهم يعلمون أن أرض فلسطين
وحدها لا تكفي اليهود لتأسيس وطنهم القومي وإعادة ملك إسرائيل ، فلا بد لهم من
شرق الأردن وما ضمه الانتداب إليها من أرض الحجاز ، بل لا بد لهم من إعادة
ملك سليمان كله ؟ ونحن أولى منهم بإعادة ملك العرب كله أو ما تقطنه الشعوب
العربية منه على الأقل ؛ فإنه لا حياة لنا ولا بقاء فيما دون ذلك ، بل لا حياة لنا في
أوطاننا التي نسكنها ونملك رقبة أرضها منذ قرون طويلة إلا باتحادها كلها ،
وتعاونها على إحياء الحضارة العربية والعمران الذي تقتضيه علوم هذا العصر
وفنونه ، وجعلها ركنًا من أركان السلم العام ، وهي أكبر خطر عليه الآن بضعفها
وطمع الطامعين فيها .
الجامعتان العربية والإسلامية
أيها القوم :
لا يطوفنَّ في خاطر أحد منكم أن الجامعة الإسلامية التي كثر حديث الإفرنج
عنها وحسبانهم لها كل حساب تعارض ما قام عليه الدليل من وجوب الجامعة
العربية وتوقف حياتكم عليها ، ولا ما يدعو إليه كثير من ساسة الشرق من وجوب
تأسيس جامعة شرقية أيضًا ؛ فإن كل جامعة من هذه الثلاث لها دائرة خاصة بها ،
من حيث يؤيد بعضها بعضًا في دفع عدوان الغرب عن الشرق كله .
يا قوم : إن الواضع لهذه السياسة الشرقية من جميع أركانها وجوانبها هو حكيم
الشرق الأكبر وموقظه من رقاده السيد جمال الدين الأفغاني ، وكان معينه الأكبر
عليه وناشره بلسانه الفصيح القوَّال ، وقلمه البليغ السيَّال شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده المصري ، وقد شرحنا ذلك في المنار وفي تاريخهما الحافل المستقل
واتبعناهما فيه ، وما كان الزعيم السياسي الكبير سعد باشا زغلول الذي وحَّد القومية
المصرية مع حرية كل ذي دين في دينه إلا ربيب الشيخ محمد عبده وتلميذه ، وما
تلقى هذه السياسة إلا منه ، كما شرحناه في هذا التاريخ وأيدناه ببعض خطوط سعد
باشا منقولة فيه برسمها الشمسي العكسي ، فالوحدة القومية والوطنية ، لا خلاف فيها
بين رجال الدين ورجال المدنية .
أيها الفلسطينيون :
إن لديكم شاهدين عدلين على عدم التعارض بين الجامعتين : هما جريدة
الجامعة العربية في القدس ، وجريدة الجامعة الإسلامية في يافا ، ألا ترون كلاًّ منهما
داعية إلى القومية العربية واتحاد جميع الناطقين بالضاد فيها ، وأصحابهما من خيار
المسلمين ؟
وإن لديكم شاهدًا حاضرًا يتضمن شواهد كثيرة ، وهو جعل هذا الاحتفال
بذكرى السلطان صلاح الدين ومعركة حطين مشتركًا بين المسلمين والمسيحيين ،
والداعي إليه من أشهر علماء المسلمين ، وخطباؤه من الفريقين .
وأما الإسلام نفسه فهو أوسع صدرًا مني ومن الشيخ محمد كامل رئيس هذا
الاحتفال القومي الوطني ، ومن سعد باشا زغلول ، ومن أستاذ الجميع الشيخ محمد
عبده ، والسيد جمال الدين ، بل به اهتدينا في دعوتنا هذه .
الحق أقول لكم إن الإسلام يسمح لنا أن نتفق مع اليهود الوطنيين المستعربين
الذين يعيشون معنا على قاعدة شرعنا : ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) ولكنه لا
يسمح لنا بأن نتفق مع الصهيونيين الأعاجم الذين يريدون سلب وطننا منا وجعله
وطنا عبرانيًّا لهم ، فنحن خصوم لهؤلاء دون سائر اليهود .
قال الله عز وجل : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( الممتحنة : 8-9 ) .
وهؤلاء الصهيونيون يريدون إخراجنا من ديارنا ، وغلبنا على أوطاننا ؛ وإنما
هم آلة من آلات المستعمرين في قتل أمتنا كلها ، فالواجب علينا دينًا وقومية ووطنية
أن نجمع كلمتنا ، ونوحد أمتنا ، وأن يستعين المسلمون منا على مسخري هذه الآلة
وغيرها في استعمارنا بالرأي العام الإسلامي ، وأن يستعين المسيحيون منا عليهم
بالرأي العام المسيحي ، فبهذا الاتحاد دون سواه يُرجى أن ندفع هذا البغي والعدوان
عن أنفسنا ، فإن لم نفعل كنا نحن الظالمين لأنفسنا { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ( الكهف : 49 )
والسلام على من اتبع الهدى اهـ .
__________
(1) خطاب لنا ألقي في حفلة الذكرى بحيفا في 25 ربيع الآخر .
(2) شكا إلى السلطان صلاح الدين أحد مماليكه المتميزين لديه بالحظوة والأثرة مستعديًا على جمَّال ذكر أنه باعه جملاً معيبًا أو صرف عليه جملاً بعيب لم يكن فيه ، فقال السلطان له : ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم ، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة وأوامره ونواهيه ممتثلة وإنما أنا عبد الشرع وشحنته - والشحنة عندهم صاحب الشرطة - فالحق يقضي لك أو عليك . اهـ من رحلة ابن جبير .
(3) وإنما رفعوا الانتداب عن العراق لفتك ثورته وشدة شكيمته ودهاء ملكه وكثرة نفقاته ، واستبدلوا به معاهدة تمكنهم من استغلال ثروته وحفظ مواصلات الإمبراطورية فيه ، والتمكن من تقوية سلطتهم العسكرية من حوله .
(*) ( الذاريات : 55 ) .
(32/593
 
رمضان - 1351هـ
ديسمبر - 1932م
الكاتب : عالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله للإسلام
__________
نموذج من كتاب الإنجيل والصليب
لعالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله إلى الإسلام

الباب الثاني
غرض الإنجيل وموضوعه ( الإسلام ) و ( أحمد )
المبشِّر لوقا يبشر ( بالإسلام ) و ( بأحمد )
لننظر الآن في التأويل والتفسير الحقيقي للفظ إنجيل الذي يبشر بالسعادة
الحقيقية ، وماذا يحتمل أن يكون المقصد من كلمة ( أمل ) أو ( ملكوت الله ) ؟
فإذا انكشف هذا السر نكون قد فهمنا روح الإنجيل ولبه ، أسأل الله تعالى أن يمن
على هذا المؤلف الأحقر بأن يجعل له نصيب الفخر بكشف هذه الحقيقة التي تعدل
الدنيا وما فيها بأهميتها العظمى وقيمتها التي لا يساويها شيء ، مع أنها وياللأسف لم
تزل حتى الآن مجهولة لدى كل من المسلمين والمسيحيين وتمحيصها من التحريفات
والتأويلات الفاسدة ، وإبرازها بتمامها وصفائها بالأدلة القاطعة والبراهين المسكتة
بصورة صريحة واضحة بحيث يفهمها كل أحد .
وها أنذا أتحدى بإعلان وإظهار هذه الحقيقة جميع العالم وكافة روحانيي
النصارى ، وأشهر أساتذة الألسنة والعلوم الدينية في دور الفنون الموجودة في العالم
المسيحي ، تسلية لقلوب المسلمين ، وتثبيتًا لإيمان الموحدين ، الذين أصيبوا بأنواع
المصائب ، وأمسوا هدفًا للتحقير والطعن في هذه الأيام الأخيرة ، وها أنذا أفتتح
كلامي بالحمد والشكر وتحياتي مع روحي وحياتي مشفوعة مع شهادة أن لا إله إلا
الله ، تلك الكلمة الطيبة كلمة التوحيد والإيمان الصحيح تقربًا إلى الله الواحد الأحد ،
مكون الكائنات ، وواهب العقول والأفهام ، المطلع على خفايا السرائر والنيات ،
جل جلاله ، وخدمة لدين حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم ، فإني قد
عاهدت الله عز اسمه بأن أقف نفسي على خدمة هذا الدين المبين وخدمة أمته
المظلومة ، والدعاء لها ، والله ولي الإجابة والتوفيق ، بعد هذا أقول :
جاء في لوقا أنه ظهر في الليلة التي وُلد فيها المسيح عليه السلام للرعاة الذين
كانوا في البرية جمهور من الجنود السماوية يترنمون بهذا النشيد : ( لوقا : 14 )
( الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض إسلام ، وللناس أحمد [1] ) .
إن الذي فتح عيني هذا المحرر الفقير ، ووهب له مفتاح أبواب خزائن الإنجيل
وكان له دليلاً في تتبع الأديان الأخرى ، وإنعام النظر في الإنجيل مرة أخرى ، هو
هذه الآية : آية الآيات الإلهية .
إني مطمئن بأن هذه الآية الجليلة ستبعث اليقظة مع الحيرة والدهشة في قلوب
كثير من المسيحيين كما وقع ذلك لي ؛ لأني واثق بأنه يوجد في هذه الملة اليوم
أناس كثيرون بُرآء من التعصب والسفسطة ، وأنهم لا يتأخرون عن الإذعان
والتصديق للكلام الحق ، ولا يترددون في قبول الفكر الصحيح وقتًا ما .
كيف ترجموا هذه الآية ؟
كلما تقدمت في هذا المؤلف الوجيز تزعجني هاتان الواهمتان ، الأولى :
هل يوجد من يشعر بأني راغب في اكتساب الشرف والعظمة بنقد المفسرين
والمترجمين ؟ والثانية : هل أنا مصيب في ترجمتي وعلى حق في تفسيري ؟ إن
في مكتبة هذا العاجز نسخة من الكتاب المقدس بالعبرانية ، ونسخة من ترجمته
بالسريانية الجديدة ، ونسخة ثالثة بالتركية مع نسخة من الإنجيل والتوراة باليونانية ،
ولم أجد ما أحتاج إلى مراجعته من المؤلفات في مكتبة بايزيد العامة لإكمال هذا
العمل النافع ، فأنا مضطر إلى الاكتفاء بما عندي من هذه الكتب على أنه ليس في
المطبعة حروف عبرانية ولا يونانية .
وها أنذا أشرع في المقصود وقبل أن أدخل في بيان شرح الآية التي نحن في
صدد الكلام عنها وأبسط تدقيقاتي فيما سأورده في إثباتها بصورة مفصلة في الفصل
العاشر ، أراني مضطرًا إلى تقديم بعض المقدمات الإيضاحية بعبارة مختصرة
فأقول :
إن الرعاة السوريين الذين ذُكروا في الآية لم يكونوا من خريجي أكاديمية أثينة ،
وقد سمعوا جمهور الجنود السماوية يترنمون بتلك الأنشودة العجيبة ، فلا يمكن إذًا
أن تكون الأنشودة باليونانية ، هذا شيء لا يوجد من يعترض عليه ، ومن البديهي
أنهم كانوا يرتلون التسبيح باللغة السريانية ، ولم يذكر أنشودتهم المهمة هذه متى ،
ولا المبشرون الآخرون ، وأن لوقا كتب موعظته باللغة اليونانية لأنه روماني أو
لاتيني على ما هو معلوم من اسمه .
كلمتان وردتا في اللغة الأصلية للآية المذكورة ولم يدرك أحد ما تحتويان عليه
من المعاني تمامًا ، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من
السريانية على وفق ما وقع في التراجم إلى اللغات الأخرى ، فبناء عليه يجب
البحث عن نشيد الملائكة في اللغة الأصلية ؛ لأن لوقا إنما كتب كتابه متخذًا كثيرًا
من المؤلفات المتقدمة [2] مادة له ، ثم إن تلك المآخذ المتقدمة صارت عُرضة لتنقيح
وتصرف مراقب مجمع نيقية [3] الفاقد للرأفة ، وبعد كل ما كان فإن ترجمتها
باليونانية وقعت على الوجه الآتي كما في ترجمة ( بايبل سوسايتي ) :
( الحمد لله في الأعالي ، على الأرض سلامه ، في الناس حسن الرضا ) .
ومن البديهي أن الملائكة لم ينشدوها باللغة اليونانية ، وإلا كانوا كمن يكلِّم
الرعاة الأكراد في جبل هكاري باللغة اليابانية ، فلنبين الآن التفسير الصحيح
الحقيقي للكلمتين ( إيريني ، السلامة ) و ( أيودكيا ، حسن الرضا ) فيا للعجب !! لكن
انظروا أولاً إلى هذا التفسير الذي فسَّروه هم .
أولاً : كلمة ( دوكسا ) مشابهة لكلمة ( الحمد ) في العربية والعبرانية
والسريانية وهي من الألفاظ المشتركة بين جميع اللغات السامية ، و ( دوسكا )
مشتقة من ( دوكو ) أو ( دوكئو ) .
وبناء على ذلك تكون التسبيحات بمعنى : حمد وعقيدة وفكرة ، والكلمة
المستعملة في السريانية بمقابل ( دوكسا ) هي كلمة ( تشبوحتا ) وفي اللاتينية
Gloria ، والفرنسيون والإنجليز والملل العربية تستعمل كلمات تشبهها .
كثيرًا ما نصادف في صحائف كتب العهد القديم كلمات بعين الكتابة مشابهة
لكلمات ( حمد ) و ( أحمد ) و ( محمد ) فمما يشابه ( محمد ) ما جاء في ( ملوك أول
20 : 6 وهوشع 9 : 16 ويوئيل 3 : 5 ومراثي أرميا 1 : 7 و11 ... إلخ ) .
فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي ( إيريني ) فقد ترجمت
بكلمات ( سلامة ) و ( مسالمة ) و ( سلام ) لكني لا أفهم لماذا يترجم مترجمو
(بايبل سوسايتي ) اللفظ الواحد مرة ( سلام ) ومرة ( سلامة ) وأخرى ( مسالمة ) ؟
إن كلمة ( إيريني ) بمعنى ( سلم ) و ( سلام ) وهي من الألفاظ المشتركة بين
جميع اللغات السامية [4] كما أن كلمة ( حمد ) كذلك موجودة في جميع تلك اللغات ،
ففي السريانية ( شلم ) وفي العبرانية ( شالوم ) التي يستعمل في مقابلتها الغربيون
المنسوبون إلى اللغات اللاتينية
Peace Pax, Paix, Pace, .
من المعلوم أن لفظ ( إسلام ) يفيد معاني واسعة جدًّا ، ويشتمل على ما تشتمل
عليه ألفاظ ( السلم ، السلام ) و ( الصلح ، المسالمة ) و ( الأمن ، الراحة ) أي أن
من أسلم وجهه لله واجب الوجود يكون مسلمًا ، وتزول من قلبه العداوة والخصومة
التي يثيرها الكفر بالإيمان الذي يحل في قلب من أسلم مع الإقرار باللسان ، فهو
للقلب راحة ، وفي الآخرة أمان ، ومن المسلمين المجاورين اطمئنان على العرض
والنفس والمال ، وهذا الإسلام يعطي راحة للفكر ، واطمئنانًا للقلب ، وأمانًا يوم
القيامة .
إن الكلمتين ( إيريني ) و ( شلم ) تفيدان هذا المعنى بعينه ، وأما كلمة ( إسلام ،
سلام ) فهي مع ما تشتمل عليه من المعاني التي شرحناها آنفا باختصار تتضمن
معنى زائدًا وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى ؛ ولكن قول الملائكة
( على الأرض سلام ) لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة ؛ لأن جميع
الكائنات وعلى الأخص الحية منها ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة
الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعية والنواميس الاجتماعية خاضعة
للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات ، وذلك لكي يتمتعوا
بالحياة والرقي ، ويعلو قسطهم من قانون الترقي والتكامل ، وهذه النزعة الفطرية
الضرورية من غرائز البشر تُحْدِث لهم ضروب الاختلاف والتنازع ، وتحملهم على
الشقاق والجدال والجلاد .
فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة ولا يتمكن
أي دين كان أن يضمن دوام السلم العام بين الأمم والأقوام حتى لو تعلقت إرادة الله
عز وجل بذلك لاقتضى أن يبدل سننه الاجتماعية في طباع البشر ونظام معايشهم
ويغير النواميس الطبيعية فيهم ويستبدل بها غيرها .
إن الحكومات المستريحة الآمنة المسالمة إذا لم تكن على حذر دائم من عدوها
تكون مقضيًّا عليها بالتدلي والسقوط ، ولا تزال تتقهقر حتى تصير إلى البداوة
والانحطاط أو الاضمحلال ، وإذا كانت الأمم لا تخشى اعتداء على حياتها أو
عرضها أو مالها ، والحكومات الحاضرة لا تحسب للدماء ولا للنار حسابًا ، فلماذا
نراها منهمكة في المسابقة إلى الاختراعات الحربية المرعبة التي نشاهدها ؟ خرقوا
جبال الألب من أسفلها وهي التي تمردت على ذكاء ( بونابرت ) و ( أنيبال )
وهمتهما ، وعبَّدوا الطريق فيها حتى صارت تمر منها القطارات بالكهرباء ، ويساق
فيها الجيوش .
ليقم كبار العرب - الذين سافروا من حضرموت إلى الصين و جاوا - من
أجداثهم ولينظروا إلى تلك البحار التي مخروا فيها والأمواج التي تسنموا غواربها
ماذا يريدون ؟ أما البحار فهي هي بعينها ، ولكن أي سفن أنشئت ، وأي الآلات
اخترعت لطي تلك المسافات بالسرعة العجيبة ؟ وإلى الرياح العاتية والعواصف
القاصفة في جو السماء ؟ هي وإن كانت باقية على حالها منذ القدم ، ولكن ليبصروا
كيف أن الفن أنفذ فيها التلغراف اللاسلكي وسخَّرها كخادم له ، ثم لينظروا هذه
المناطيد والطيارات ، والمدرعات والغواصات والدبابات ، من مخترعات العقل
والفن ، ما أوجدتها إلا الضراوة بالحرب ، وعدم الثقة بمعاهدات الصلح ، والأمان
من الحرب ، وإذًا يكون ( السلام ) الذي هتفت به الملائكة ليس عبارة عن
الاستراحة والمسالمة الدنيوية ، أو أن يدخل جميع الناس الكنيسة فيصبحون آمنين
مرتاحين تحت إدارة الأساقفة والرهبان خدام الأسرار السبعة ، بل إن كان في الدنيا
شيء قد اكتسب أكبر شهرة في اقتراف المظالم وإيقاد نيران العداوة فلا شك أنها
الكنيسة ، أقول : لا شك ؛ لأن تلك حقيقة تاريخية ثابتة بالفعل ، ويقول المسيح نفسه :
( ما جئت لألقي سلامًا على الأرض ) وأما الذين يصدِّقون بأنه سيتأسس صلح
عام ، فأولئك هم عبيد الوهم والخيال .
الإسلام
الإسلام دين أساس إدارته وحكمه العدل المطلق الذي لا هوادة فيه ؛ لأن
الجرائم والجنايات تعاقب عليها يد العدالة ؛ ولكن الأشرار والمنافقين من المسلمين
لا يزالون يسعون في الأرض فسادًا ، ولم يخل زمن الخلفاء الراشدين - مثال العدل
المطلق الكامل - من مثل هذه الاختلافات والشقاق من الحروب .
إذن فماذا كانت تقصد الملائكة ؟ هل قصدت ( سلام عليكم ) ( شلم لحن ) كما
يريد أن يحيي بعضنا بعضًا ، ويؤدي له رسوم المجاملة ؟ الناس يمكنهم أن
يستعملوا ما يشاءون من الكلمات الرقيقة لأجل المجاملة ؛ ولكن لا حكمة ولا حاجة
أبدًا إلى ذلك في التبشير السماوي ، ولا سيما إذا كان من قبل جيش من الملائكة
يترنمون في جو الأفلاك .
( إيريني ) أي ( الإسلام ) هو الدين المبين ، وحبل الله المتين ، المكمل
للإنسان جميع وسائل تَرَقِّيه المادية والمعنوية ، والكافل له سعادة الحياة والعيش
الرغيد إلى الأبد .
مهما أكن حريصًا على التزام الاعتدال ، وعلى سوق القلم فيما لا يجرح
عواطف المسيحيين ، فلا بد أن أكون معذورًا إذا ما تجاوزت أحيانًا هذه الخطة .
رحماك ربي ، ما أكثر ما ينحي به أحرار الفكر [5] والموحدون في أوروبا
وأمريكا على النصرانية من التحقير الشفهي ، والاعتداء التحريري ، ومن المعلوم
بالضرورة أن مثل تلك المطاعن لا تقع في بلاد المسلمين كتركيا .
ما كان أجدر الكنائس بخدمة الإنسانية لو صرفت عنايتها في مجامعها الكبرى
من مجمع نيقية إلى آخر مجمع للفاتيكان [6] عن فحص الأسرار والأشياء السحرية ،
ووجهت همتها إلى المعاني العميقة للآية التي نحن بصدد التدقيق في معناها : كم
كان للمسيح من طبيعة وإرادة ؟ هل كانت أمه مريم إذ كان في رحمها بريئة من
الذنب المغروس أم لا ؟ عندما يتحول الخبز والخمر إلى لحم المسيح ودمه في
القربان المقدس هل يفقدان جوهرهما أم أعراضهما فقط ؟ إذا كان عقد النكاح
كارتباط المسيح بعروسه الكنيسة أبديًّا ، فيكون افتراق الزوجين وانفصال أحدهما
عن الآخر محالاً حتى الموت أم لا ؟ هل ينبثق الروح القدس من الآب وحده ، أم
من الآب والابن معًا ؟ واأسفا على الكنيسة التي تشتغل بمثل هذه المسائل .
إذن فالملائكة أرادت أن تقول : ( سيؤسس دين الإسلام على الأرض ) .
أقول إلى رهبان البروتستانت وواعظيهم الذين يدَّعون أن المسيح جاء بالسلام :
إن مُدَّعاكم غلط محض ، وإن المسيح قد قال صريحًا وتكرارًا إنه لم يأتِ بالسلام بل
بالسيف والنار والاختلاف والتفريق بين الناس ، فلا مناسبة للسلام بالمسيح ولا
بالمسيحية ، ودونكم هذه النصوص .
( لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا ( إيريني ) على الأرض ما جئت لألقي
سلامًا بل سيفًا ) ( متى 10 : 34 ) وفي موعظة أخرى للمسيح : ( جئت لألقي
نارًا على الأرض ، أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض ، كلا أقول لكم :
بل انقسامًا ) ( لوقا 12 : 49 - 53 ) .
إن تدقيقاتنا ومطالعاتنا العميقة في هذا الموضوع مندرجة في الفصل العاشر
ولكن اضطررت ههنا عند تحقيق معنى الإنجيل إلى تدقيق في المعاني المهمة التي
تتضمنها الآية المذكورة لا غير ؛ فإن الملائكة في هذه الآية تخبر وتعلن صريحًا
بأنه سيظهر دين باسم ( الإسلام ) و ( السلم ) .
فإذا كانت هذه الفكرة التي بيَّناها باطلة ، فالآية المذكورة ليست إلا نغمة لا
معنى لها ( حاشا ) فما دامت النصرانية تعتقد أن الآية المذكورة وحي وإلهام من
قبل الملائكة حقيقة ، فيجب علينا أن نقبلها مثلهم ، ونضطر إلى الاعتقاد بأنها أهم
وأعظم شأنًا من أية آية في الكتب السماوية ؛ لأن هذا الإلهام ليس من قبل نبي أو
رسول أو ملك واحد ، بل هو إلهام من قبل جمهور من الجنود السماوية يهللون
ويترنمون بالذات ، فنحن على هذا مضطرون إلى قبول أن محتوياتها أيضًا عبارة
عن تظاهرات كبيرة وتجليات مهمة جدًّا تتعلق بمنافع البشر وبنجاتهم في المستقبل .
ولنبين أن أنبياء الله قد استعملوا من قبل في أسفار التوراة ( العهد العتيق ) هذا
المعنى اللغوي لكلمة ( إسلام ) بمادة هذا المصدر نفسه ومشتقاته وهي ( سلم ، تسليم ،
إسلام ) العربية ، و ( شلم ، شلوم ) العبرانية ، و ( شلم ) السريانية على الوجه
الآتي :
( أشعيا 44 : 26 و28 ) : إتمام ، إكمال ، إكمال النقص ، الذهاب به إلى
مكانه .
( أشعيا 38 : 12 ) : الإنهاء ، الإيصال إلى المنتهى .
( أمثال سليمان 16 : 7 ) : المصالحة ، الصلح مع .
( يشوع 10 : 1 - 4 ) : عقد الصلح والمصالحة ، التسليم والضبط .
فالإسلام عبارة عن الدين المتمم والمكمل للأديان السابقة والحاكم في الاختلافات
الكائنة بين اليهودية والمسيحية والمصلح بينهما ، ومدخلهما في ضمن دينه المكمل
المتمم ليكون الجميع سوية مُسلِّمين لله ، مسلمين ومؤمنين .
أليس لهذه الآية رابطة بصورة بليغة بآية القرآن المجيد التي نزلت على
حضرة خاتم الأنبياء في حجة الوداع ؟ وبلغها لأكبر مجتمع في عصره { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
( للنموذج بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في الترجمة العربية : وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ، والمؤلف يعلم هذا ونقله فيما يأتي ولكنه يقول هنا : إن الأصل الصحيح هو ما قاله ثم شرحه في التفصيل الآتي ا هـ مصححه .
(2) (لوقا 1:1 -4) .
(3) نيقية هي بلدة أزنيق من توابع خداوندكار .
(4) سام أحد أولاد نوح عليه السلام وهو جد الأقوام السامية .
(5) أحرار الفكر - هم الذين ينتقدون كل الأديان والفرنسيون يسمون هؤلاء (ليبر بانسور) .
(6) مجمع الفاتيكان معطل الآن ، وكان قد دعى من قبل (بيونونو) .
(32/745
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

رمضان - 1351هـ
ديسمبر - 1932م

المنار ومجلة مشيخة الأزهر
المقال الخامس
البُهيتة الأولى : إنكار الملائكة

زعمت مجلة مشيخة الأزهر أن صاحب المنار ( قرر أن الملائكة عبارة عن
القوى الطبيعية ) واحتجت عليه ( بالحوار بينها وبين الله تعالى ) وبقوله تعالى :
{ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } ( النساء : 136 ) .
فهل يريد محرر هذه المقالة بما بهتنا به أن يعتقد قراؤها الذين أنشئت
لإرشادهم بلسان هذا المعهد الإسلامي العظيم أن صاحب المنار لا يؤمن بالملائكة ،
وهو الذي أنشأ مجلته منذ خمس وثلاثين سنة لدعاية الإسلام والدفاع عنه وتبرئته
من البدع والخرافات التي تصد عقلاء البشر عنه وتفتح لهم أبواب الطعن فيه وهو
المفسِّر للقرآن بالجمع بين المعقول والمنقول وتنزيهه عن الخرافات الإسرائيلية
وغيرها ، وهو المتصدي للإفتاء العام في أصول الدين وفروعه حتى لقَّبه العلامة
الشهير الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي بمفتي الآفاق ، على رغم أنف كل
ذي حسد ونفاق ، هل يريد أن يقول في هذا الرجل إنه ينكر أن لله ملائكة منهم
الروح الأمين مبلغ وحي الله لرسله ، ومنهم حملة العرش ، ومنهم ملك الموت
وأعوانه ، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والمدبرات لأمور الخلق بإذن الله .
من كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله ، ولا يكون مسلمًا
ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مليًّا وثنيًّا ، فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف
فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة
35 سنة ، وهو يطالبهم في كل مجلد من مجلته كما يطالب جميع من يطلع عليها
بأن يكتبوا إليه بما يرونه باطلاً أو منتقدًا فيها مع بيان دليله لينشره لهم فيطلع عليه
سائر قرائه كيلا يضلوا بما ضل هو به ؟ حتى إذا سخط عليه أحد محرري مجلة
المشيخة بانتقاده لبعض ما نشره فيها من تأييد البدع والخرافات ، بتحريف الآيات
وتصحيح الموضوعات - أظهر للناس هذا الطعن انتقامًا لنفسه ولها ، لا خدمة للدين ،
ولا نصيحة للمسلمين ، فهل كانوا عاجزين أو جاهلين ، أم لا يهمهم أمر الدين ؟
هذا ما نقوله من ناحية الالتزام العقلي ، ونقفي عليه ببعض الشواهد الناطقة
بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيها ، ويجب أن تكون هذه
الشواهد بعضها من كلامنا في التفسير وفي مجلة المنار ، وبعضها من كلام الأستاذ
الإمام في تفسير المنار نفسه وفي تفسيره هو لجزء عم .
ذلك بأن شبهة المفتري في هذه المسألة هي عبارة للأستاذ الإمام قالها في درس
التفسير بالأزهر ونقلناها عنه في المجلد الخامس من المنار سنة 1320 فاستشكلها
بعض من سمعها منه وبلغوه ذلك فوضح مراده في درس آخر ، لا يزال في علماء
الأزهر الذين حضروه من يذكره ، وقد صرح به في مجلس الصلح أحد محرري
مجلة المشيخة ، ثم كتب بيده إيضاحًا له نشرته في تفسير الجزء الأول معزوًّا إليه
رحمه الله مطبوعًا بحرف أكبر من الحرف الذي نطبع به التفسير .
فهذه مسألة فرغ منها منذ 31 سنة ، ومن مقاصدها إثارتها الطعن في دين
الأستاذ الإمام وعلمه من وراء حجاب الطعن في صاحب المنار ، مع العلم بأن
صاحب المنار إذا كتب فيها فلا بد له أن يعزوها إلى الأستاذ الإمام ، فيرميه الطاعن
بأنه هو الذي أظهر كفر أستاذه للناس ، وكان من حق الوفاء له عليه أن يقبل الطعن
على نفسه وحده ؛ ولكنه قليل الوفاء ، وقد كتب الطاعن مثل هذا في مسألة الطعن
علينا بإنكار وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم والمنكر له هو الأستاذ
الإمام في تفسيره لجزء عم لا في المنار وله سلف فيه من أئمة العلماء ، وسيأتي
بيان ذلك في محله ، وهاك الشواهد :
الشاهد الأول
إن أول موضع ذكرت فيه الملائكة من تفسير المنار لسورة البقرة هو قولي في
الإيمان بالغيب من تفسير الآية الثالثة ما نصه :
( الناس قسمان : مادي لا يؤمن إلا بالحسيات ، وغير مادي يؤمن بما لا
يدركه الحس ، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم ،
ولا شك أن الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها الله
سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر ، إيمان بالغيب . اهـ من صفحة 127 من جزء
التفسير الأول ) .
فهل هذا النص على أن الملائكة جنود لله تعالى من عالم الغيب لها مزايا
خاصة بها ، يتفق هو والقول بأنهم عبارة عن القوى الطبيعية .

الشاهد الثاني
ذكرت في الكلام على الوحي من سياق إعجاز القرآن من تفسير سورة البقرة
أيضًا أن ملك الوحي يتمثل للأنبياء عليهم السلام واستشهدت عليه بآيات ، ثم قلت :
( وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم إنه ممكن في نفسه ، وقد
أخبر به الصادق فوجب تصديقه ، ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تُبق شيئًا من
أخبار الغيب غريبًا إلا وقربته إلى العقل ، بل إلى الحس تقريبًا ، بل ظهر من
الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يُعد عند الجماهير محالاً في
نظر العقل - لا غريبًا فقط - فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى
تصير غازات لا ترى من شدة لطفها ، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة
بطبعها ، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه ، وهو من الأرواح ذات المِرَّة والقوة
العظيمة ، بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلاً على صورة إنسان مثلاً ؟ دع
مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب
إلا وفيها نظير له يقربه من الحس لا من العقل وحده ، وهل الكهرباء إلا قوة
مسخرة للملائكة اهـ . ويليه كلام في أرواح البشر وقول الإمام مالك فيها ( راجع
ص220 من جزء التفسير الأول أيضًا ) فهل معنى هذا أن الملائكة من القوى
الطبيعية ؟
الشاهد الثالث
قلت في الكلام على الملائكة من تفسير آية البر ما نصه : إن الإيمان بالملائكة
أصل الإيمان بالوحي ؛ لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على
روح النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موضوع الدين ، ولذلك قدَّم ذكر الملائكة
على ذكر الكتاب والنبيين ، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب { تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } ( القدر : 4 ) { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } ( الشعراء : 193-195 )
فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة ، إلى أن قلت : والملائكة خلق
روحاني عاقل قائم بنفسه ، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير
مرة اهـ ( صفحة 123 و 124 من جزء التفسير الثاني ) فهل معنى هذا أن
الملائكة قوى طبيعية ؟
الشاهد الرابع
قلت في تفسير آية النساء { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } ( النساء :
136 ) الآية التي أوردها عليّ ما نصه ( فالإيمان بالله هو الركن الأول ، والإيمان
بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني ، والإيمان
بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث ، والإيمان
بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلَّغوها للناس هو الركن الرابع ...
إلخ ( راجع ص 459 ج 5 تفسير ) فهل يمكن أن يكون المراد بالملائكة الذين
يحملون الوحي إلى الرسل عليهم السلام القوى الطبيعية .
الشاهد الخامس
كتبت في الصفحة 316 وما بعدها من جزء التفسير السابع في الكلام على
اقتراح المشركين إنزال ملك على النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم في تفسير
الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الأنعام بحثًا طويلاً في عدم استعداد البشر لرؤية
الملائكة في صورهم الأصلية لقوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } ( الأنعام : 9 ) أذكر من هذا البحث ما نصه :
( والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة
والجن في حالتهم التي خُلقوا عليها ، كما قال تعالى في الشيطان : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ( الأعراف : 27 ) لا لأنهم لا يطيقونها لهولها ، بل
لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام
كالماء ، وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء ، وما
هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء ، والملائكة والجن
من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر ، وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة
وراء عالم المادة ، وليس عند المتكلمين عالم غير مادي ولذلك يعدون الملائكة
والجن من الأجسام اللطيفة ، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام
الكثيفة ، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف
( كالسحاب ) وصورة المائع السيَّال وصورة الثلج الجليد ؛ ولكن الماء يتشكل بما
يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه ، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله
لهما سلطانًا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين
يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم ، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم
وتركيبها مع غيرها من المواد ، فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة
البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه ؛ ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته
الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما ، فإذا وقع ذلك كرؤية
النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات ، والخوارق لا
تثبت إلا بنص ؛ لأنها خلاف الأصل ، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل ،
إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة ، فيكون
التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية ، والتشكيل في غيرها
بالمادة والصورة معًا ، وعلى أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما
ليس لغيرها ، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة ،
فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تَجَلَّوا لهم فيه ) اهـ .
الشاهد السادس
كتبت في ص 162 وما بعدها من جزء التفسير السابع بحثًا آخر في تشكل
الملائكة والجن في الصورة ورؤيتهم في هذه الحالة ، وفيه إثبات رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم لغير جبريل من الملائكة ورؤية بعض الشياطين .
الشاهد السابع
قلت في تفسير { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ } ( الأعراف : 206 ) وهي آخر آية من سورة الأعراف ما نصه : أي
أن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافّين من حوله ومن شاء
تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقامًا من الملائكة
الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها لا يستكبرون عن عبادته ... إلخ ، فراجعه في
( ص 558 من جزء التفسير التاسع ) .
ولو شئت أن أذكر جميع الشواهد من تفسير المنار على أن الملائكة خلق
روحاني مستقل قائم بنفسه ، وأنهم أنواع أولو عبادات مختلفة وأعمال كثيرة لا
يحيط بها إلا خالقها ، وأن الإيمان بها واجب ، وإنكارها كفر لازب لمل القارئ لها .
وهذه الشواهد نصوص قاطعة في ذلك بدحض المفتري لهذه البهيتة التي أراد
بهتنا بها من إبهام المطلع على كلامه أننا ننكر حقيقة الملائكة ونجعلهم أعراضًا
لغيرهم ، ونقفي عليها بدحض شبهات علينا من كلام الأستاذ الإمام يشتمل على
شواهد أخرى من كلامه وكلامنا أخرناها لمناسبتها لها .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(32/753)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
المقال السادس
شبهة الطاعن المحرِّف في مسألة الملائكة

إن تفسيرنا للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة قد بلغت
53 صفحة من الجزء الأول من تفسير المنار ( صفحة 231 إلى 284 ) وأكثره
لشيخنا الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه ، فانتزع طعان مجلة الأزهر منها عبارة واحدة
فرعية محكية جعلها أصل الموضوع وعقيدة لصاحب المنار في الملائكة بقول
الزور ؛ وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير
عنه ، فلو كانت كفرًا لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر فكيف بالحاكي عن
الحاكي ، وإننا نلخص الموضوع في خمس مسائل بعبارة مختصرة يفهمها كل قارئ .
المسألة الأولى
إن آيات محاورات الملائكة للرب عز وجل في خلق آدم عليه السلام من
المتشابهات الواردة في شأن عالم الغيب ، وإن لعلماء المسلمين في مثلها طريقتين :
( إحداهما ) : طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيَّد العقل فيه النقل ...
وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون
كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرِّب هذه
المعاني من عقولنا ومخيلاتنا .
( والثانية ) : طريقة الخلف وهي التأويل ، يقولون إن قواعد الدين الإسلامي
وُضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول ، فإذا جزم العقل
بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يُراد
به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل .
( قال الأستاذ ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما
يتعلق بالله وصفاته وعالم الغيب ، وإننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين
لأنه لا بد للكلام من فائدة يُحمل عليها ؛ لأن الله عزوجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد له
معنى .
هذه عبارة الأستاذ الإمام التي أوردتها في ص 42 من مجلد المنار الخامس ،
ثم في ص 252 من جزء التفسير الأول ، ثم زدت عليها قولي :
( وأقول ) أنا مؤلف هذا التفسير : إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم
عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى ؛ وإنما أذكر من كلام شيخنا وغيره ومن
تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري للناس أن ما انتشر في الأمة
من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب
السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما
يخالفه ، أو طول ممارسة الرد عليهم .
ثم وضحت هذه المسألة في صفحة 253 برمتها ، فبيَّنت فيها للقارئ المؤمن
أن الخير له أن يطمئن بمذهب السلف ولا يحفل بغيره ، فإن لم يطمئن قلبه إلا
بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليه باتفاق أهل السنة سلفهم وخلفهم .
***
المسألة الثانية مذهب السلف في الملائكة
قال الأستاذ الإمام : أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى
بوجودهم وببعض عملهم ، فيجب علينا الإيمان بهم ، ولا يتوقف ذلك على معرفة
حقيقتهم ، فنفوض علمها إلى الله تعالى ، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ؛ ولكننا
نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطير إذ لو كانت كذلك لرأيناها ،
وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار ؛ فإننا نستدل بذلك على
أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ، وأن له علاقة بنظامه
وأحكامه ، والعقل لا يحكم باستحالة هذا ، بل يحكم بإمكانه لذاته ويحكم بصدق
الوحي الذي أخبر به . اهـ من الصفحة 254ج أول تفسير ، فهل يتفق هذا مع زعم
مجلة الأزهر أننا نقول إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية ؟
ثم تكلم فيمن بحثوا في جوهر الملائكة ، وقفى عليه ببيان فوائد الخطاب بينهم
وبين الله تعالى وهي أربع تُراجع في ص 254 و255 منه ، وقفى على هذا
بطريقة الخلف ، ومن تكلم منهم في حقيقة الملائكة وكون قصة آدم على طريقتهم
( وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية
وما لها من المكانة والخصوصية ) .
***
المسألة الثالثة أنواع الملائكة
قال رحمه الله : نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق
العالم أنواعًا مختلفة ، وخصَّ كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا
يتعداه ، فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد في الآيات
والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة ، قال تعالى : { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لاَ يَفْتُرُونَ } ( الأنبياء : 20 ) { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ } ( الصافات : 165-166 ) { وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً } ( الصافات :
1-2 ) ... إلخ { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً *
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } ( النازعات : 1-5 ) على قول من قال : إن
المراد بها الملائكة ، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة
محدودة ، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائمًا والراكع دائمًا إلى يوم القيامة
اهـ ( من ص 259 منه ) أفلا يُعَد هذا نصًّا صريحًا في افتراء مجلة الأزهر علينا
بأننا نقول : إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية .
***
المسألة الرابعة في الملائكة والشياطين والخواطر
قال الأستاذ الإمام في الملائكة والشياطين ما نقلته عنه في الصفحة 266 وما
بعدها من جزء التفسير الأول ملخصًا ( والعبارة لي ) : تقدم أن الملائكة خلق غيبي
لا نعرف حقيقته ؛ وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه ،
وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل ، ونقول الآن
إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه
وسلم ، وقد أُسنِدا إلى هذه العوالم الغيبية ، وخواطر الخير التي تسمى إلهامًا ،
وخواطر الشر التي تسمى وسوسة - كل منهما محله الروح ، فالملائكة والشياطين إذًا
أرواح تتصل بأرواح الناس ، فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة
لنا ( لأن هذه [1] لو اتصلت بأرواحنا ؛ فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا ، ونحن
لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ، ولا عند الشعور بداعي الخير من
النفس ، فإذًا هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا ) والواجب على المسلم في مثل
هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل ، ثم
الاعتبار بها بالنظر في الحِكَم التي سيقت لها القصة .
( وأقول ) : إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة ،
وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها
السلام ، ومن حديث الشيخين في المُحَدَّثين وكون عمر منهم ( والمحدثون بفتح الدال
وتشديدها الملهمون ) ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو ( إن للشيطان
لمة بابن آدم ، وللملك لمة : فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة
الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على
ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ } ( البقرة : 268 ) قال الترمذي : حسن غريب لا نعلمه مرفوعًا
إلا من حديث أبي الأحوص ، والرواية ( إيعاد ) في الموضعين كما أن الآية من
الثلاثي في الموضعين ، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا
فهو غير صحيح ، واللمة بالفتح : الإلمام بالشيء والإصابة .
***
المسألة الخامسة وهي مثار شبهة مجلة الأزهر
جاء في صفحة 267 وما بعدها منه ما نصه :
قال الأستاذ : وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة ، وهو
أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة
حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك - فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر
العبارة ، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة
فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والانسان ، فكل أمر
كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده ؛ فإنما قوامه بروح إلهي
سُمي في لسان الشرع مَلَكًا ، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني
القوى الطبيعية إذ كان لا يُعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها
في الطبيعة ، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها
، وبه قوامها ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره ، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي
تسميته ملكًا ، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة ، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي
تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا ؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع ، فالحقيقة
واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [ وإن كان المؤمن بالغيب يرى
للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه ، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ، ولكن
أعرف قوة لا أفهم حقيقتها ، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس ، وكل يقر بوجود
شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم ، ولا يصل بعقله إلى
إدراك كنهه ، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب
عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدِّر قدره ، فيتفق مع المؤمنين
بالغيب ، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي ، ويحظى بما يحظى به
المؤمنين ؟ ] اهـ ما قاله الأستاذ الإمام في المسألة وهو محل التهمة ، وهذه العبارة
التي بين العلامتين هكذا [ ] قد كتبها بقلمه كالتي قبلها .
***
خلاصة ما تقدم من الرد على هذه البهيتة
( 1 ) إن عقيدتنا وعقيدة شيخنا الأستاذ الإمام في الملائكة هي عقيدة سلف
الأمة الصالح ، وهي أنهم من عالم الغيب الذي نؤمن بكل ما جاء في كتاب الله ،
وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره ، من غير تأويل ولا زيادة ولا
نقصان ولا رأي ولا قياس ، وقد أكثرنا من الشواهد على هذه العقيدة ، وخلاصتها
أن الملائكة من عالم الأرواح العاقلة المستقلة ، وأنهم أنواع لكل منها وظائف
وأعمال خاصة به لا نبحث عن حقيقتها بآرائنا .
( 2 ) إن علماء الكلام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء يتأولون أكثر أخبار
الغيب من صفات الله وأسمائه ومنها بعض ما ورد في الملائكة .
( 3 ) اتفاق علماء السلف والخلف في الأمة على تأويل شيئًا منها تأولاً مبتدعًا
لا ينقض شيئًا من أمور الدين القطعية المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة
وهو مذعن للأمر والنهي يكون معذورًا في تأوله فلا يحكم بكفره .
( 4 ) إننا نقلنا عن أستاذنا في تفسير قصة آدم أن بعض المفسرين من علماء
الخلف المتأولين ذهب إلى أن مجموع ما ورد في نوع الملائكة الموكلين بالأعمال
(من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك لا في كل أنواع الملائكة فيه
إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة ) وخلاصة هذا الايماء أن الروح
الإلهي الذي قام به نظام هذه الأعمال هو أمر وجودي خفي لا ندرك حقيقته ، وأن
المعنى الإيمائي - لا المطابقي لمعنى النصوص - يتفق مع قول الذين يثبتون هذا
الروح الخفي من المنكرين للوحي وعالم الغيب ، ويعبرون عنه بالقوى الطبيعية في
الأشياء ؛ لأنهم إذا سئلوا عن حقيقة هذه القوى يعترفون بأنهم لا يعرفونها ، وبهذا
يكون الخلاف في التسمية ، فالمؤمنون بالوحي يسمون ما به نظام هذه المخلوقات
بالملائكة ، ومن لا يؤمنون بالوحي يسمونها القوى الطبيعية ، والجامع بين
التسميتين أن ذلك أمر يعرف بأثره ولا تعرف حقيقته .
فالأستاذ يحكي هذا عن بعض المفسرين وأنهم قالوه من باب الإيماء والإشارة لا
من باب التفسير للنص أو الظاهر من العبارة . وصرح بأن غرضه منه أن من يميل
إليها ويطمئن إليها قلبه لا يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة السمحة ، فهو لم يكن
موافقًا لهم على هذا الإيماء بل لم يكن موافقًا لهم على ما قالوه من أن هذا النوع من
الملائكة هم المراد بمثل قوله تعالى : ( { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } ( النازعات : 1 )
إلى قوله : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } ( النازعات : 5 ) فإنه فسر هذه الأشياء في سورتها
بالكواكب لا بالملائكة .
( 5 ) إن محرر مجلة مشيخة الأزهر والعضو في هيئة كبار علمائه يرى هذا
كله ثم ينشر في هذه المجلة أن الشيخ رشيد رضا قد قرر في مجلته وتفسيره أن
الملائكة في جملتهم عبارة عن القوى الطبيعية واحتج عليه بحوار الملائكة لربهم في
خلق آدم عليه السلام وبآيات أخرى ، ليفهم قراء هذه المجلة التي رزئ بها الاسلام
أن صاحب المنار ينكر أن يكون لله ملائكة غير هذه القوى الطبيعية .
فإن كان هذا العلامة لم يفهم مما ذكر كله على جلائه ووضوحه وتكراره
والتكرار يعلم ... ( ما نستهجن ذكره ولا يجوز تغيير الأمثال ) ويؤثر في الأحجار ،
كما قال الشاعر :
أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الماء قد أثرا
أقول : إذا كان لم يفهم من هذا كله أن صاحب المنار ناقل عن ناقل عن بعض
المفسرين المتأولين المخالفين لاعتقادهما الثابت بما تقدم من الشواهد الصريحة
وغيرها ، فصرح لعدم فهمه وتمييزه بين المنقول للتقريب ، والمقول المعتقد مع
التأكيد ، بان صاحب المنار هو الذي يعتقد لما نقله عمن نقله عن غيره ، دون ما
صرح بأنه اعتقاده الذي يدين الله به - فكيف يوثق بعلمه وفهمه ويجعل مدرسًا في
الأزهر ومحررًا في مجلته ؟ وإن كان قد فهم هذا كله وتعمد تحريف الكلم عن
مواضعه ، وافتراء الكذب على صاحب المنار بالطعن في عقيدته ، انتقامًا لنفسه ، بعد
أن بين صاحب المنار في مجلته خطأه وجهله بتصحيح بعض الأحاديث التي صرح أو
سع الحفاظ علمًا بالجرح والتعديل بوضعها ، وعدم تمييزه بين دعاء العبادة الخاص
بإله العباد وربهم والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه خلقة ، وبين دعاء العادة واستغاثة
الناس بعضهم ببعض في الأمور الكسبية ، وعدم تمييزه بين السنة والبدعة . أقول :
إن كان قد فهم هذا كله واستباح معه هذا الانتقام بالتحريف والافتراء والبهتان فكيف
يوثق بدينه وبنقله ، وبأمانته على العلم ، ورحم الله الشاعر الذي قال :
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
يجب على الأمة أن تسأل شيخ الأزهر عن هذا فإن لم يجبها كما امتنع إلى
الآن عن الإذن لإدارة المجلة بنشر ما أرسلناه إليها من الرد على هذا البهتان ،
ليرجعوا إلى بسط شكواهم إلى السلطة العليا المسيطرة على مشيخة الأزهر لعلها
تنصفهم منه وأختم هذا بأنني قد رددت في المنار على من قال بمثل ما نقله الأستاذ
الإمام عن بعض المفسرين أو قريب منه وهو تسمية بعض القوى الطبيعية بالملائكة
تأكيدًا لفضيحة المفتري ومجلة الأزهر .
***
رد المنار
على من زعم أن بعض العوالم الطبيعية وقواها
من الملائكة
إن المنار كان ولا يزال بالمرصاد لمتأولي نصوص الكتاب والسنة بما يخرجها
عما فهمه الصدر الأول ، وقد قال الدكتور محمد توفيق صدقي في كتابه ( دروس سنن
الكائنات ) إن كلمة مَلَك أصلها مألك ومعناها الرسالة ، فهي تطلق على كل رسول مما
يرسله الله إلى هذا العالم من المادة أو قواها فما يرسله منها يصح أن يسمى ملكًا بلا
نزاع فالريح تسمى ملكًا أو رسولاً من الله ولذلك قال تعالى في الرياح { وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً } ( المرسلات : 1 ) إلخ ، وإن أنواع المكروبات الخفية المؤثرة في تغيير
بعض الأشياء وتحولها وفي الأمراض كلها من قبيل الملائكة والجن .
وقد نشرت له هذا في ص 603 من مجلد الثامن عشر وعلقت عليه في
الحاشية بالرد الآتي .

( المنار )
ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا ، إلا أنه مذهب له واصطلاح
خالف فيه الناس كما قال ، ولكن له فائدة لا جلها أجزنا نشره ، وهي أن المغرورين
بما أصابوا من علم البشر القليل بشئون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد
أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا ، وإن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون
صحيحًا وإن كان ممكنًا في نفسه . فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين
المغرورين دون الاعتراض على النصوص ، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم بين
علمهم وبين الدين ، ولا يكون أحدهم متدينًا مؤولاً ، خير من أن يكون زنديقًا أو
معطلاً .
أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية
لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه ، وأما ضعفه
شرعًا فهو أظهر ، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الايمان به
كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف ، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا
عقلاً ، والايمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان والأول هو الإيمان
بالله تعالى فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها هؤلاء الكتاب بالدنيئة
الحقيرة ؟ كلا ، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة ولا ممنوع شرعًا
فقد ورد أن الجن أنواع ومنه ما هو خشاش الأرض ، ولا مانع في العقل ولا العلم
من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون وسببًا له ،
وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية . اهـ .
***
شبهة لفظية يظنها الجاهل علمية
نشرنا في صفحة 255 من مجلد المنار الخامس سنة 1320 تحت عنوان
الملائكة والنواميس الطبيعية ما نصه :
سأل سائل : إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية ، والنواميس
التي بها نظام العوالم الحية ، فما معنى { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ } ( النبأ :
38 ) وأمثاله ؟ والجواب : أن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم مستقل
مستتر عنا ، وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعية جذبًا لمنكري الملائكة إلى
التصديق لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون فكيف يكفرون لاختلاف الألفاظ ؟ لا
أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم . اهـ .
وأقول الآن : إن هذه الشبهة التي عرضت لبعض الناس منذ 31 سنة وكشفنا له
خطأه فيها فعقله ورضيه هي التي يقولها الشيخ يوسف الدجوي حتى اليوم يقول :
إن التأويل الذي ذكر في تفسير المنار هو صريح في إرجاع نصوص الدين إلى
أقوال علماء الطبيعة ، لا إرجاعهم هم إلى نصوص الدين ، فهل يقول هذا بعد كل
ما تقدم رجل يعقل أو يفهم ما يسمع وما يقرأ له ؟
بلغني أنه بنى على هذه الجملة في هذه الشبهة مقالاً طويلاً استدل فيه بها على
تأييد بهيتته الأولى بالرغم من كل ما تقدم ، وهي إننا نعتقد أن جميع الملائكة قوى
طبعية وأننا نريد بذلك رد نصوص الدين إلى عقائد الطبعيين ، وأراد نشرها في
مجلة المشيخة فمنع شيخ الأزهر المجلة من نشرها لما فيها من تسجيل فضيحة
المجلة وفضيحة الدجوي . وقد تعلق الدجوي من هذه الجملة بالإبهام والإجمال بكلمة
( لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون ) أي ما يعتقد المنكرون لوجود الملائكة فأراد
أن يهدم بها جميع تلك النصوص الصريحة المفصلة المبينة التي كتب أكثرها
بعدها ! ! لأن مبلغ الدجوي وأمثاله من العلم محصور في التشكيك والمناقشات في
العبارات الجزئية ، دون تحقيق أصل الموضوع في المسائل العلمية كما تقدم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
( 1 ) هذا التعليل كتبه شيخنا بقلمه بعد نشر هذا التفسير في المنار وقبل طبعه على حدته .
(32/758)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
المقال السابع
البُهيتة الثانية : إنكار الجن

هذه أخت التي قبلها ، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض
شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة ، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس .
قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة ( ومثل ذلك ما قرره في المكروبات
عند ذكر الجن في القرآن ، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت
تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات ؟ وهل هي التي قال
عفريت منها لسليمان عليه السلام ] أَنَا آتِيكَ بِهِ[ بعرش بلقيس { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } ( النمل : 39 ) ؟ وهل هي التي قالت لقومها : { إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُّسْتَقِيمٍ } ( الأحقاف : 30 ) إلخ . اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير
المجلة .
يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار
يقول أن الجن الذين أخبرالله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف
الأطباء أمرها في القرن الماضي ، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم
العفاريت والشياطين غيرهم . وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء .
الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي
وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله
صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة ، ولا نزيد
على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا .
وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا
العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما
أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو
المتبادر من النصوص .
ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من
نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها ،
ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء
فيه بين أمرين لا ثالث لهما : إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة
وضوحه وتكراره !! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا
لنفسه لا خدمة للعلم والدين . لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية ،
ولا بمجرد الشهادات المدرسية . وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان
من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح
الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم ، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما
يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم . ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد
الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة 425 484 باكيًا على
العلم والدين .
بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين
( 1 ) جاء في تفسير { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ } (البقرة : 34 ) من جزء التفسير الأول ص 265 ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ
الإمام : (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم
من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن
{ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ( الكهف : 50 ) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة
والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر ، وإنما هو اختلاف أصناف عندما
تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات ، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة ، وقد
أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى :
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً } ( الصافات : 158 ) وعلى الشياطين في
آخر سورة الناس .
( 2 ) زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة 1320
ما نصه بخطه : ( وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم
الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه
نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم . اهـ .
فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من
عالم الغيب ، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر ، والمعقول أن
يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن ، فهم في
الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر ، والشياطين كأشرار البشر الظالمين
المجرمين الفاسقين ، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم ،
وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف .
( 2 ) ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا
عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد .
( 3 ) ذكرت في صفحة 96 من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى :
{ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ( البقرة : 168 ) لا يقتضي
معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في
النفس التي يفسرها قوله تعالى { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : 169 ) وفصلنا ذلك تفصيلاً ، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها
من آية 207 من سورة البقرة أيضًا وهو في ص 257 من الجزء وفيه تفصيل آخر .
( 4 ) ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص 29
ج3 حديث ( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير
البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء ، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل
التمثيل ، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع
من قوله تعالى { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ( الحجر : 42 ) ومشاغبة
دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل
مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق
المسألة . وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول : الجن والشياطين عبارة عن
الميكروبات فقط .
( 5 ) في الصفحات 425 - 430 من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } ( النساء : 117 )
إلى الآية 119 بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني
وما يأمرهم به في وسوسته ، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله ، وهو في جملته
وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها .
( 6 ) في ص 65 ج66 تفسير لقوله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم } ( الأنعام : 128 ) الآية ، وفي أوله : وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم
جماعة من عقلاء الخلق . وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير
الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن ، وهذا نص عبارتنا :
فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه
بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً ، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح
البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة
الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض
والأدواء ، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم
الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها ، بل إحداث الأمراض
الوبائية وغيرها بالفعل ، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق
والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما
هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو
اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم
البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة
عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا
القول من تخيلات المجانين ، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد
اكتشاف ذلك في الأجساد ، وأمر الأرواح أخفى ، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا
من السنين أولى . وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل
اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا
لما جاء به الرسل من خبر الجن ، ففي الحديث ( تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة )
والنسمة في اللغة كل ما فيه روح ، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك
أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره ، وهو تَجَوُّز لا
يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر . وروي عن عمرو بن العاص : اتقوا غبار
مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة . وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله
الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه ، وعمرو من فصحاء قريش
جهابذة هذا اللسان . اهـ .
وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها
حديث ( خلق الله الجن ثلاثة أصناف : صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض
وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب ) أخرجه ابن أبي الدنيا
والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه . وفي معناه غيره .
( 7 ) في ( ص328 - 372 جزء 8 ) بسط قصة آدم مع إبليس . وقد فصلت
في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة .
وقلت : إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى
المكروبات 342 ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ( الأعراف : 27 ) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع
في ( ص 264 - 371 ) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن
مواضعه ، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته ، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على
قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته ، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى
دليلاً ، وأقوم قيلاً .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سبق ذلك في مواضع أشبهها بما هنا ما في ( ص 508 - 515 ج 7 ) تفسير .
(32/767)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
المقال الثامن
البُهيتة الثالثة : ما سماه تكذيب سجود الشمس

هذه هي البهيتة الكبرى التي افترتها علينا مجلة مشيخة الأزهر وسمتها
( عظيمة العظائم ) لتذكرنا من حيث لا يدري محررها بقوله تعالى فيما دونها من
الخوض في حيث الإفك { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ( النور : 15 ) وكل جريمة تصغر وتتضاءل
دون ما سماه ( تكذيب الله ورسوله وتجهيلهما ) وقد أكثر من إعادتها وتكرارها في
الجرائد حتى كدنا نظن أنه صدق نفسه في اختلاقها أو خدع الناس فصدقوها ،
والكلام فيها من وجوه :
( 1 ) صيغة الفرية ومفهومها .
( 2 ) مأخذها من تحريف مقال لنا في نصر السنة ودحض الشبهات عليها قلبه
إلى ضده .
( 3 ) عبارتنا التي حرفها وزعم أنه نقلها بنصها وفصها .
( 4 ) عبارة المفتري المحرف بنصها .
( 5 ) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم .
( 6 ) جوابنا عن حديث الشمس .
( 7 ) أقوال العلماء المتقدمين في استشكاله والجواب عنه .
( 1 ) صيغة الفرية ومفهومها :
قال المحرر بعد افترائه علينا الإفتاء بحل صلاة التلاميذ المسلمين مع النصارى
بالكنيسة وقد أخرنا الكلام عليه ما نصه باختصار ، ولكن بدون تصرف :
( بل وصل الأمر من اجتهاد مجتهدنا .... أن اجترأ على تكذيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي ذر من أن الشمس
تسجد تحت العرش وقال : إن الأنبياء لا تعرف هذه العلوم ، ولو كان رشيدًا لم
يضق صدره بذلك ولوسعه إيمانه بالغيب ، فإن لم يسعه إيمانه بالغيب ، فكان ينبغي
أن يسعه علمه بسعة لغة العرب وكثرة مذاهب البيان فيها ، فإن ضاق علمه كما
ضاق إيمانه فما كان ينبغي أن تضيق سياسته وهي التي وسعت الشرق والغرب .
وبيان ذلك أنه كان يستطيع أن يقرر في الحديث ما قرره العلماء في قوله تعالى
حكاية عن الأرض والسماء ( { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) .
ثم قال ما أذكره عملا بقول العلماء : حاكي الكفر ليس بكافر ، وإنه لتقشعر منه
جلود المؤمنين :
( وكان ينبغي إذ لم يتسع صدره ولا إيمانه ، ولا علمه لشيء من ذلك أن تتسع
سياسته لحسن المخرج منه بأية وسيلة غير تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم ولو
أن يرمي البخاري أو غيره من رواة الحديث بالخطأ والكذب ولا يتعرض لرسول
الله ، فقد كان تكذيبهم أهون من تكذيبه صلى الله عليه وسلم فما أضيق دينه وعلمه
وسياسته ) اهـ بحروفه وما فيها من أدبه مع الرسول الأعظم الذي يدعي تعظيمه
و .. . !
وقد شعر خلافًا لطبعه بأن الذين ابتلاهم الله بقراءة مجلة الأزهر لا يصدقون
هذه الفرية فزعم أنه ينقل لهم عبارة صاحب المنار بنصها وفصها ولكنه نقل لهم
عبارة قصيرة مقتضبة منها كمن ينقل قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ } ( النساء : 43 ) دون ما بعده من الآية . وستعلمون أيها المسلمون من
بياني لما نقله ولأصله ولما قررته في هذه المسألة أي الفريقين أضيق دينًا وعلمًا .. .
أصاحب المنار أم هذا العضو في هيئة كبار علماء الأزهر ؟ وتعلمون درجة
صدق المشيخة في مجلتها ومقدار أمانتها على العلم والدين ، وصدقها في إرشاد
المسلمين في جرأتها على ما تقدم وعلى قولها في آخر هذه المقالة نعوذ بالله منها ثم
من الشيطان الرجيم [1] :
( فالشيخ إذا مخطِّئ لله ورسوله ، مكذب للقرآن والسنة ، وإن شئت فقل مجهل
لهما ! ) نعم شعر بأن الناس يكذبونه ولكن لم يشعر بما يستلزمه هذا الطعن في كلام
كتب سنة 1327 في مجلة المنار أي منذ 23 عامًا من الطعن في علماء الأزهر في
سكوتهم عن الإنكار عليها وهي تخاطب علماء الإسلام وغيرهم في كل سنة بما
يجب عليهم من بيان ما يجدون فيها من خطأ ، أفلا يلزم من سكوتهم هذا وقوع
الطعن عليهم في دينهم وعلمهم ؟ بلى لو كانت المجلة صادقة ، أما وهي مفترية
فإنما يقع ذلك على من أنكر الحق المعروف ونطق بالباطل والزور ومن أقره وهو
قادر على منعه .
يفهم كل من قرأ عبارة هذه المجلة أن صاحب المنار رأى في الصحيحين حديثًا
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس تسجد تحت العرش فاعتقد صحة
سنده أي عدالة رواته وصدقهم وسلامته من كل شذوذ وعلة ، وإنما كذب خبر هذا
السجود فيه لأنه لم يكن عنده من العلم باللغة ولا من الإيمان بالغيب ولا .. و .. .
ما يحمله على تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة ولا مجازًا وقد
رأيتم أدب هذه المجلة في التعبير عن هذا المعنى المفترى والبهتان الجريء .
( 2 ) مأخذ التهمة من مقال في تأييد السنة والدفاع عنها .
إنني ذكرت حديث أبي ذر في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من المنار
في سياق الأحاديث المشكلة وطرق الحل لمشكلاتها من مقال طويل في تأييد السنة
كان حكمًا فاصلاً في مناظرة تلو مناظرة في أصل الإسلام أو أصوله ، وفي النسخ
وأحاديث الآحاد هل هي من الدين أم لا ؟ دارت هذه المناظرات في أثناء أربع
سنين فجعل البهَّات المفتري نصرنا للسنة ودفاعنا عنها تكذيبًا وكفرًا لصاحبها صلى
الله عليه وسلم ولكتاب الله الذي نطق بسجود كل شيء لله عزوجل ، والعياذ بالله من
بهتان من لا يخاف الله .
ذلك أن البحاثة الشهير المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي كان كتب مقالاً
عنوانه ( الإسلام هو القرآن وحده ) وقد نشر في المجلد التاسع من المنار تحديًا
للعلماء ولا سيما علماء الأزهر أن يردوا عليه فكبر ذلك عليهم ، وقال بعضهم
لبعض : إن صاحب المنار هو الذي يريد أن يجذبنا إلى المناظرة معه ، وأمسكوا عن
الرد عليه ، حتى جاءني من قال لي : إن فلانًا من العلماء يريد الرد على الدكتور إذا
كنت أنت لا ترد عليه ، فقلت : وإني لا أرد عليه ولكنني قد أحكم في المناظرة أخيرًا
إذا احتيج إلى حكمي .
فرد العالم الذي أخبرني عنه على الدكتور بمقالين رد عليهما الدكتور أيضًا ثم
حكمت في المسألة حكمًا نشر في الجزء الأخير من المجلد التاسع ، فكتب الدكتور
اعترافًا برجوعه عما أقنعته بأنه كان مخطئًا فيه . ونشرت خطابه هذا في صفحة
140 من مجلد المنار العاشر ثم كتب مقالاً آخر عنوانه : النسخ في الشرائع الإلهية
أنكر فيه وجود النسخ في القرآن مطلقًا وزعم أن السنة القولية ( الأحاديث ) قد نُسخ
بعضها بالقرآن وبعضها بالسنة ولم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في
القرآن .
ونشرنا هذا المقال في الجزء التاسع من مجلد المنار العاشر وطالبنا العلماء
بالرد عليه بشرط التزام ما يليق بالعلماء من الأدب والنزاهة واحترام المناظر . فلم
يتصدَّ أحد من علماء الأزهر للرد عليه ولكن رد عليه العلامة الشيخ صالح اليافعي
من علماء الحضارمة المقيمين في حيدر آباد الدكن الهند بست مقالات نشرت في
ستة أجزاء من المجلد الثاني عشر من المنار وقد حكمني المتناظران فحكمت بينهما
بمقال أيدت به السنة وشرعية العمل بالأحاديث القولية بشرطه .
( 3 ) عبارتنا التي حرفها البهَّات المُفتري :
بينت في تلك المقالة مسألة ( أحاديث الآحاد والدين ) ثم مسألة ( أحاديث الآحاد
تفيد العلم أو الظن ) بما لم أعلم أن أحدًا سبقني إلى مثله في نصر السنة في التفرقة
بين اليقين اللغوي الشرعي ، واليقين المنطقي الأصولي . وانتقلت من هذا إلى بحث
ما يوثق به وما لا يوثق به من الروايات ، وما انتقده المحدثون من أحاديث الشيخين
البخاري ومسلم بجرح كثير من رواتهما وغلط بعض متونهما وذكرت بعض المتون
التي حكموا بالغلط فيها ، ومنها حديث شريك عند البخاري في المعراج إذ صرح بأنه
رؤيا منامية وخالف غيره من رواة البخاري في مسائل أخرى فيه وحديث مسلم ( خلق
الله التربة يوم السبت ) إلخ ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات
في كل ركعة وغير ذلك ثم قلت ما نصه :
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث
لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها ، والقليل منها مختلف فيه وما من إمام
من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها ، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في
صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل ، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم
السبت إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات
الموافقة لذلك - فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تُتخذ شبهة على القرآن
من حيث حفظه وضبطه وعد ضياع شيء منه ( كالروايات في نسخ التلاوة )
ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله
كثيرون ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ
الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى
وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها ، ولأنها مؤيدة لقول الكفار { وَقَالَ الظَّالِمُونَ
إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } ( الفرقان : 8 ) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } (الإسراء : 48 ) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب ؟ والجواب بأنها تذهب فتسجد تحت العرش ، وتستأذن الله تعالى
بالطلوع إلخ . وقد سَأَلَنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد
جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم . فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض
طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه ، فإذا قلنا إنها يصدق
عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى ولأن كل
مخلوق هو تحت عرش الرحمن ، إذا قلنا هذا أو أنه تمثيل لخضوعها في طلوعها
وغروبها وهو أقرب ، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه ؟
اللهم لا .
( ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يُخرَّج بعضه على أنه
من باب الرأي في أمور العالم . والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم
بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه
الحديث الصحيح في تأبير النخل ، ولكن يستثنى الأخبار عن عالم الغيب فهم
معصومون فيه ) ا هـ .
هذه هي عبارتنا بنصها وفصها التي استند إليها البهات المحرف في اتهامه إيانا
برد حديث عمر في رجم الشيخ والشيخة وأنه كان آية من القرآن ورد حديث سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس وتكبيره للأمر بأنها
وردت في الصحيحين ، ونحن إنما ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها كحديث المعراج
وحديث صلاة الكسوف وحديث خلق السموات والأرض في سبعة أيام من باب
التمثيل للأحاديث المشكلة التي تتعلق بموضوع المناظرة التي حكمنا فيها بما بينا به
مزية الصحيحين وأن ما انتقده المحدثون والمتكلمون والفقهاء وردوه من أحاديثهما
قليل لا ينافي تفضيلهما على غيرهما ، وقد ذكرناها بموضوعها لا بنصوصها بل
لم نذكر حديث عمر في الرجم مطلقًا ؛ لأن المقام مقام التمثيل لما انتقده بعض
المتناظرين بالإجمال ، ولم نذكرها لاستئناف انتقاد عليها أو استشكال لها من عند
أنفسنا ، ولا لأجل الأجوبة عنها فإن هذا قد بيناه في مواضع أخرى من المنار
وتفسيره ، ولكل مقام مقال ، من تفصيل وإجمال ، وهذا معهود في جميع الكتب ،
فكيف ينكر مثله الصحف ؟ ولكن باغي العنت بطرق المغالطة في الجدل ، يجعل
حكاية خصمه لقولٍ مذهبًا له ، وسكوته عن بيان شيء في غير موضع البيان حجة
عليه فيما بينه في موضعه مع تجاهله ذلك البيان ، وياليت محرر مجلة الأزهر
يكتفي بمثل هذه المغالطة ولا يفتري عليه الكذب البواح ويرميه بالبهتان .
وقد صرحنا في ذكر حديث الشمس بأن وجه الإشكال فيه هو مخالفة الواقع
المشاهد له وهو كون الشمس طالعة دائمًا لا تغيب عن الأرض طرفة عين ، لا
السجود الذي زعمه وافترى علينا تكذيبه ، على أن شراح الصحيحين وغيرهم
استشكلوا الأمرين وأجابوا عنهما بما سنذكره بعد ، ونحن صرحنا بأن الشمس يصدق
عليها أنها ساجدة تحت العرش دائمًا بالمعنى الذي أثبت القرآن فيه سجود كل شيء لله
عزوجل من الكواكب والشجر والنبات وغير ذلك ، وذكرنا توجيهًا آخر لسجودها
وهو أنه ( تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها لمشيئته تعالى ) وهو عين المراد من
قوله تعالى عن السموات والأرض { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) الذي قال
المفتري أنه كان في استطاعتنا ولم نفعله لأن اللغة ضاقت علينا ، فلم تضق علينا سعة
اللغة بل ضاقت عليه سعة الصدق فافترى علينا ، ولكننا قلنا أن سجود الشمس بهذا
المعنى أو ذاك لا يرفع الإشكال بمخالفة مضمون الرواية للمعلوم بالقطع من مشاهدة
وأدلة علمية على كونها لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين .
وقال العلماء قبلنا مثل قولنا كما سنبينه في المبحث السابع من هذا الرد وأما
قولنا : (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه على
أنه من باب الرأي في أمور العالم ) إلخ فالمراد به النوع المخالف للواقع المشاهد ،
ولا تدل العبارة على أن حديث الشمس المذكور من هذا البعض ، بل تدل على أنه
ليس منه من وجهين ، أحدهما : أنني قلت أنني سئلت من قبل بعض علماء تونس
عنه ، وأنني إلى الآن لم أجب عن هذا السؤال لأنني لم أجد جوابًا مقنعًا للمستقل
بالفهم وسأشرح هذا المعنى بعد ولو كان حديث الشمس عندي من هذا البعض لكان
جوابي للسائل أنه كحديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :
( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) وما في معناه ولم أرجئ الجواب .
الوجه الثاني : أنني استثنيت من هذا النوع من الأحاديث الواردة في أمور
الدنيا التي لا تنافي عصمة الأنبياء ما إذا كان الإخبار عن عالم الغيب ، والطاعن
يقول إن حديث الشمس منه ، وهو مع رؤيته بل علمه بهذا الاستثناء يفتري علي
أنني قست حديث سجود الشمس على حديث تأبير النخل ، وأنني قلت أنه من العلوم
التي لا يعلمها الأنبياء ولم أقل هذا ، فهو لم ينقل شيئًا من تفسيري للسجود ولا من
حصري للإشكال في ذهاب الشمس وغيبتها عن الأرض ولا من سكوتي عن جواب
السائل عنه ، ولا من استثناء جعله من قبيل الإخبار عن أمور الدنيا دون أمور
الدين والإخبار عن عالم الغيب . مع أنه زعم أنه نقل عبارتي بنصها وفصها ليؤيد
بهذه الفرية تلك المفتريات كلها ، ثم قال : إنه ينقل محصلها ، وهو ينقض وعده بنقلها
بنصها وفصها ، ولعل غرضه منه أن أكثر قراء مجلتهم لا يفرق بينهما فيتوهم أنه
صادق أمين في نقله لها ، وهذا نص عبارته :

( 4 ) عبارة المفتري المحرِّف بنصها :
( وإني أحس منك بامتعاض شديد غيرة على المقام النبوي ، ولعلك تستبعد
صدور ذلك من الشيخ أو لا تصدقه ، فلننقل لك عبارته بنصها وفصها وما طعن به
على أحاديث كثيرة في البخاري غير هذا الحديث ، ثم ترقى من تكذيب الرواة في
تلك الأحاديث إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ) .
( قال مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه ، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه ، فإنه كالمقدمة له : رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية :
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، كانت قرآنًا يتلى [2] وأن عمر قال
ذلك بمجمع من الصحابة ولم ينكر أحد عليه أحد ، وهو معروف لا مراء فيه ،
ويستند حضرته في ذلك الرد إلى ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره . يقول :
إن ذلك لو تم لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع
شيء منه ! ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قِبَل الشارع ولا يُعرف إلا
من جهته ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه ، وبين التفريط في القرآن وضياع
شيء منه . ثم رد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله
عليه وسلم رد ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى
بالطلوع الخ إلى أن قال : فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة
عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه ، أي : فكلام النبي كذب لا شبهة
فيه ) اهـ .
هذا ما عزاه إلى ذلك المقال بعد زعمه أنه ينقل العبارة بنصها وفصها ثم
محصلها وكلاهما كذب ظاهر من نقلنا لها بحروفها . فهو لم يذكر إلا عبارة مقتضبة
ناقصة منها لم تبلغ أربعة أسطر وما ذكره من محصل ونص كله كذب وباطل كما
علمت وزاد ما لا ذكر له فيها كحديث الرجم ، فهكذا يكون صدق العلماء وأمانة
النقل عند أحد هيئة كبار علماء الأزهر ومحرري مجلته الرسمية ، أم هكذا يكون
فهم الكلام بطريقة المناقشات الأزهرية .
رحم الله الأستاذ الإمام الذي كان يقول في أمثال هؤلاء العلماء أنهم يتعلمون
كُتبًا لا علمًا ، وقد بين مراده من هذا في رسالة التوحيد بعد بيان خلاصة تاريخ علم
الكلام الذي لا يزال أمثال هذا الرجل يتناقشون في بعض كتبه التي لا يفهمون من
مواقفها ومقاصدها إلا ما قرره الإمام في قوله :
( 5 ) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم :
( ثم جاءت فتن طلاب المُلك من الأجيال المختلفة وتغلب الجهال على الأمر ،
وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي فانحرفت
الطريق بسالكيها ، ولم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ أو
تناظر في الأساليب ، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها
القصور .
ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم ،
فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم ، فوضعوا ما لم يعد للإسلام
قِبَل باحتماله . غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا ، ومن البعد عن ينابيع
الدين أعوانًا ، فشردوا بالعقول عن مواطنها ، وتحكموا في التضليل والتكفير ،
وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم
والدين ، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا كفر وهذا
إسلام . والدين من وراء ما يتوهمون ، والله جل شأنه فوق ما يظنون وما يصفون ،
ولكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط
وكثرة الخلط ؟ شر عظيم ، وخطب عميم ) اهـ .
( 6 ) جوابنا عن الإشكال في الحديث :
عُلم مما تقدم أننا ذكرنا مضمون حديث الشمس في ذلك المقال مع أحاديث
أخرى من أحاديث الشيخين المشكلة من باب التمثيل لإثبات قلة أمثالها في
الصحيحين ولم يكن من موضوع المقال إيراد ألفاظها ولا الحكم في المشكلات ، ثم
إننا بينا في موضعين من المنار رأينا في الإشكال ، بما يبرئ الرسول صلى الله
عليه وسلم من كل ما عصمه الله منه ، كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأول من بياننا
هذا للأمة .
إجمال ذلك أنني وجدت أن أصح رواياته التي اتفق عليها الشيخان هي ما
أخرجاه من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر هكذا بالعنعنة
وإبراهيم التيمي قال الحافظ في التقريب : ثقة ولكنه يرسل ويدلس ، فهذه علة في
سند أصح روايات الحديث تبطل الثقة بها ، ولمسلم رواية من طريق أخرى ذكر
فيها الراوي سماع إبراهيم من أبيه مع عنعنته ولم يعتد بها البخاري ، وثَم روايات
أخرى لا يصح شيء منها سنذكر بعضها ، ولذلك عدت فاعتمدت إعلاله من ناحية
متنه .
وبيان ذلك أنه في أمر غيبي يكثر خطأ الرواة في أمثاله ويختلفون في فهمها
فيروونها بالمعنى الذي فهموه وكثيرا ما يكون فهمهم خطأ ، وأكثر الأحاديث المروية
بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف في ألفاظها ومعانيها
حتى الأمور الحسية التي يفهمها كل أحد كالطهارة وصفة الصلاة ، فإذا لم يجد شُرَّاحها
وجهًا وجيهًا للجمع بينهما حملوها على تعدد ما وردت فيه حتى قال بعضهم بتعدد
المعراج لكثرة الاختلاف والتعارض في رواياته .
وقد بينت وجوه الدفاع عن الأحاديث المشكلة بالتعارض وغيره في مواضع من
المنار وتفسيره أهمها الكلام في أشراط الساعة ولا سيما أحاديث المهدي والدجال
فإن التعارض والتناقض فيها كثير جدًّا .
وإنني أنقل للأمة هذين الجوابين بحروفهما مع عزوهما إلى مواضعهما من
المنار والتفسير لتأكيد تكذيب مجلة الأزهر في زعمها الذي تقدم :
الجواب الأول في علة السند
جاء في الصفحة 725 من مجلد المنار الثاني والعشرين وفي حاشية ص 211
من جزء التفسير الثامن ما نصه :
( ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن جنادة الذي يعد متنه
من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : أتدري أين
تذهب الشمس إذا غربت ؟ قال : قلت : لا أدري ، قال ( إنها تنتهي دون العرش فتخر
ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها : ارجعي ، فيوشك يا أبا ذر أن يقال : ارجعي من حيث
دخلت ، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) وهذا الحديث رواه
الشيخان من طرق عن الشعبي عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن
أبي ذر وهو - أي إبراهيم - على توثيق الجماعة له مدلس ، قال الإمام أحمد : لم
يلق أبا ذر ، كما قال الدارقطني : لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك
زمانهما ، وكما قال ابن المديني : لم يسمع من علي ولا ابن عباس . ذكر ذلك في
تهذيب التهذيب وقد روى عن هؤلاء بالعنعنة ، فيحتمل أن يكون من حدثه عنهم غير
ثقة ) . اهـ .
وأعني بهذا أن روايته عنهم مرسلة ولم يذكر من حدثه بها فثبت أنه يرسل
ويدلس كما قال الحافظ في التقريب ، ومن كان هكذا لا تقبل روايته بالعنعنة فهذه
علة في أصح أسانيد الحديث تبطل الثقة به مع عدم الطعن في البخاري ولا في
الأعمش ولا في إبراهيم التيمي أيضًا .
الجواب الثاني في علة متن الحديث
جاء في باب فتاوى المنار في ص 671 مجلد 24 ما نصه :
(س 26) من صاحب الامضاء المدرس في مدينة تطوان في المغرب الأقصى
الحمد لله وحده من تطوان في 27 شوال 1341 فضيلة أستاذي الوحيد ، وملاذي
الفريد ، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد محمد رشيد رضا سلام على تلك الذات
وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق ويضطرم في سعير البعاد ، غير
أن ثلج ماء عين مناركم قد يطفئ شيئًا من ذاك اللهيب ، ويخمد سعيرها عندما يهيم
الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة ، والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة .
سيدي وسندي ، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات المنار الأغر عما
يأتي من المقرر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية ، وأن
الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس
ثابتة والله تعالى يقول { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } ( يس : 38 ) فأرجو من
فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت
جاحدة أدنى مخالفة ، حفظكم الله وأطال حياتكم ، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم
الكرام ، مدى الليالي والأيام ، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم .
... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب
( ج ) إذا كان ما ذكره السائل من المقرر عند علماء الجغرافية فإن من المقرر
عندهم وعند علماء الفلك أيضًا أن الشمس تدور على محورها كغيرها من الأجرام
السماوية ، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر مجهول
يعدونه المركز لها ، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق حديثًا أن
مجاميع الشموس كلها أو العالم كله يجري في الفضاء لغاية مجهولة ، وتجدون هذا
البحث ما عدا القول الأخير في مقال طويل للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله
في المجلد الرابع عشر من المنار ، وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا إذ تلقاه عنا وهو أن
لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا هو مصدر التدبير
والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى راجع ( ص 590 و 591 ج 8 ) منه
ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ( يونس :
3 ) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها يسمى جريانًا ،
دورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول على قولهم - كدوران المجاميع
الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا ، وأولى منه وأظهر سيرها
مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم لفلامريون المشهور .
على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي ، كما يقال : جرى
القضاء بكذا ، ولك أن تقول الآن : إن أوربة تجري في تنازع دولها لحرب أخرى شر
من الحرب الأخيرة .
وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له ، ففيه وجهان ، أحدهما : أنه ما
ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان
غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } ( الرعد : 2 ) وهو بمعنى ما روي
عن قتادة قال : تجري لمستقر لها : لوقتها ولأجل لا تعدوه ، ثانيهما : أنه مستقر
نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا ويؤيده حديث
أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش ، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة
أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } ( يس :
38 ) قال : ( مستقرها تحت العرش ) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا ورواته
أقل ، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها ، وإن فسر بمعنى
خضوعها لإرادته كقوله { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } ( الرحمن : 6 ) .
والراجح عندنا أنه روى بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبر عنه بما
فهمه والله أعلم . وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع إن شاء الله
تعالى . ا هـ .
وحاصل هذا الجواب المختصر الذي وعدت بالرجوع إليه لأجل تفصيله عندما
تسنح الفرصة ويتسع المجال كما تقدم آنفًا أن الحديث مروي بالمعنى وهو في أمر
غيبي أخطأ بعض الرواة في فهمه كما أخطأوا في أمثاله ولا سيما أحاديث الدجال
المتعارضة المتناقضة فليراجع تفصيلي لها ولأمثالها من شاء في تفسير قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } ( الأعراف : 187 )
الآية من ص 489 507 ج 9 تفسير .
وأما العبرة للأمة الإسلامية في هذا الجواب فهو أن من كبار علمائها الرسميين
في هذا العصر من فقد الصدق في القول ، والأمانة في النقل ، والفهم لمسائل العلم مع
استباحة التكفير للخصم ، وأن قصارى علمهم مشاغبات ومغالطات في الألفاظ
وتحريف لها وإيراد للاحتمالات فيها كما تقدم آنفًا عن الأستاذ الإمام .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وضع الخطوط فوق الكلام الذي يراد التنبيه عليه طريقة علمائنا وأما وضعها تحته فهي طريقة أجنبية وأنا أخصها بالعناوين الفرعية .
(2) عبارتي ليس فيها كلمة واحدة من هذا الحديث على أن البخاري لم يرو المسألة هكذا وهذا المحرر وأمثاله من العلماء الرسميين لا يدرون ما في البخاري إلا إذا راجعوا المسألة فيه ثم لا يدرون لماذا لم يرو هو ولا مسلم في خطبة عمر هذا اللفظ ولا يدرون ما يعارضه ؛ لأن كتب السنة ليست من علومهم ولا مما يحتاجون إليه .
(32/772)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
المقال التاسع
( 7 ) استشكال العلماء لحديث الشمس وأجوبتهم عنه

هذا الحديث رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن والمسانيد والتفسير المأثور
والبيهقي في الأسماء والصفات بألفاظ متقاربة ولكنها غير متفقة ، ورواه غيرهم
بزيادات مختلفة بل مختلقة ، ولفظ البخاري في باب بدء الخلق بسنده : عن الأعمش
عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( أتدري أين تذهب ؟ ) قلت : الله
ورسوله أعلم ، قال ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ،
ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها ارجعي من حيث
جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
العَزِيزِ العَلِيمِ } ( يس : 38 ) ورواه أيضًا في تفسير سورة يس وفي كتاب التوحيد
هكذا بالعنعنة وقد استشكله العلماء من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما وكان استشكالهم
مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف .
وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية
يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا
للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة ، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب
خسوفه حيلولة الأرض بينه و بين الشمس ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق
أيضًا ، وقال الغزالي : إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه
مستديرًا ، وإن هذا من القطعيات . فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على
وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه . ولم يكن
علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن ولا علم الجغرافية أيضًا . ولا
كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها فيرون بأعينهم
مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها ، أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة
الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس بأنه مكذب لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ؟
***
ما نقله الحافظ ابن حجر في استشكال العلماء للحديث وأجوبتهم عنه
قال الحافظ ابن حجر في شرحه له من فتح الباري : والغرض منه هنا بيان
سير الشمس في كل يوم وليلة . وظاهره مغاير لقول أهل الهيئة أن الشمس مرصعة
في الفلك ، فإنه يقتضي أن الفلك هو الذي يسير ، وظاهر الحديث أنها هي التي
تسير وتجري ، مثله قوله تعالى في الآية الأخرى { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس :
40 ) أي يدورون .
قال ابن العربي : أنكر قوم سجودها ، وهو صحيح ممكن . وتأوله قوم على ما
هي عليه من التسخير الدائم ، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد ثم ترجع .
قال الحافظ بعد نقله لهذا : قلت : إن أراد بالخروج الوقوف ، فواضح وإلا فلا
دليل على الخروج . ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من
الملائكة أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في
ذلك الحين اهـ .
فعلم من هذا أن العلماء استشكلوا الحديث وقالوا كما قلنا بأنه مغاير لقول علماء
الهيئة القطعي وأنهم استشكلوا أيضًا سجودها وأنكره بعضهم ولم يكفرهم متأولوه .
وأجابوا عنها بما رأيت وما سترى مما ننقله إليك ، ووازن بعد ذلك بين أجوبتهم
وجوابنا .
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث من تفسير سورة يس من صحيح
البخاري ما نصه : وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله ابن
عمرو في هذه الآية قال : مستقرها : أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم ، فإذا غربت
سلَّمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها فتقول : أن السير بعيد ، وإني أن لا يؤذن
لا أبلغ ، فتحبس ما شاء الله ثم يقال : اطلعي من حيث غربت . قال : فمن يومئذ إلى
يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها . وأما قوله ( تحت العرش ) فقيل : هو حين محاذاته
ولا يخالف هذا قوله : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ( الكهف : 86 ) فإن
المراد بها نهاية مدرك البصر حال الغروب ، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد
الغروب .
وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في
الارتفاع وذلك أطول يوم في السنة . وقيل : إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا .
وقال الخطابي : يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر
تحته استقرار لا نحيط به نحن . ويحتمل أن يكون المعنى : أو علم ما سألت عنه
من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها ، فينقطع
دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها . وليس في سجودها كل ليلة ما يعيق
عن دورانها في سيرها . ا هـ .
ثم قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات في تأويل الحديث والآية :
قلت : وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند
سجودها . ومقابل الاستقرار : المسير الدائم المعبر عنه بالجري ، والله أعلم . ا هـ .
أقول : يعني أن هذه التأويلات خلاف المتبادر من لفظ الحديث . وأما حديث
عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقله
وسكت عليه فهو أعصى على تأويلنا وتأويلهم وأبعد عنهما بُعد الشمس عن العرش
وفي معناه روايات أخرى أغرب منه . ووهب هذا ثقة وثقه ابن معين والعجلي وقال
علي بن المديني وابن حبان : وهب بن جابر مجهول سمع من عبد الله بن عمرو ابن
العاص قصة يأجوج ومأجوج و ( كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت ) ولم يرو غير
هذين ، وقال النسائي: مجهول . وكفى بقول علي بن المديني أنه لم يرو غير هذين ،
حجة على أن رواية حديث الشمس عنه مردودة سواء كان ثقة أم لا !
***
جواب الحافظ ابن كثير في تفسيره
وأجاب العماد ابن كثير عن سجود الشمس تحت العرش بما حاصله أن العرش
قبة ذات قوائم تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رءوس الناس فالشمس إذا
كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش ، فإذا استدارت
في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام ، وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون
من العرش ، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث . اهـ .
وهذا جواب من يصدق الفلكيين في ثبات الشمس في فلكها ودوران الفلك بها حول
الأرض ، وقد نقض ارتقاء علم الهيئة بالمناظير المقربة للأبعاد هذا المذهب اليوناني ،
وأجمع علماء الفلك في هذا العصر على كروية الأرض ودورانها تحت الشمس الثابتة
في مركزها . على أن قوله منقوض على ذلك المذهب أيضًا إذ لا خلاف عند أهله في
كروية الأرض وسكنى الناس على سطحها من كل جانب فلا يتجه القول بأن العرش
فوق رءوس المقيمين في جانب منها دون آخر .
***
ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في حديث سجود الشمس
جاء في الفتاوى الحديثية للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي ما نصه :
وسئل نفع الله به : إذا غابت الشمس أين تذهب ؟
فأجاب بقوله : في حديث البخاري أنها تذهب حتى تسجد تحت العرش . زاد
النسائي ( ثم تستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتؤمر بالطلوع من محال غروبها ) ولا يخالف هذا قوله تعالى { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ( الكهف : 86 ) لأن المراد به نهاية إدراك البصر لها حال الغروب ، وسجودها تحت العرش
إنما هو بعد الغروب . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنها بمنزلة
الساقية تجري بالنهار في السماء بفلكها ، وإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت
الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر . وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا
غربت دخلت نهرًا تحت العرش فتُسبِّح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن
الخروج ، قال : ولم ؟ قالت : إني إذا خرجت عُبدتُ من دونك . وقيل : يبتلعها حوت
، وقيل : تغيب في عين حمئة كما في الآية والحمأة بالهمز ذات الطين الأسود ، حامية
بالياء أي حارة ساخنة ، وقيل : تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش
وتقول : يا رب إن قومًا يعصونك ، فيقول لها : ارجعي من حيث جئت ، فتنزل من
سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق ، وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر . قال
إمام الحرمين وغيره : لا خلاف أنها تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين ، والليل
يطول عند قوم ويقصر عند آخرين إلا عند خط الاستواء فيستويان
أبدًا ، وفي بلاد ( بُلغار ) بموحدة مضمومة ثم معجمة لا تغيب الشمس عندهم إلا مقدار
ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع ) اهـ
أقول : الشيخ أحمد بن حجر هذا هو الفقيه الشافعي المتوفى سنة 973 وهو
قليل البضاعة في الحديث وفي علوم المعقول ينقل من الكتب عند الحاجة ، وما عزاه
إلى النسائي من لفظ الحديث ثابت في البخاري ، وسائر الروايات التي ذكرها لا
تصح . وقد أورد كلام علامة المعقول الأكبر إمام الحرمين ولم يرده لأنه إمام
الأشعرية والشافعية الذين يقلدهم ولا استطاع أن يوفق بينه وبين الحديث .
***
فائدة لها علاقة بحديث الشمس
يقول الفقيه ابن حجر الهيتمي : هذا إذا اختلف العلماء ، فالذي يجب اعتماده
كلام الفقهاء .
ولكن بضاعة أكثر الفقهاء مزجاة في مشكلات الأحاديث ولاسيما غير الفقهية
وقد قرأنا في بعض كتبهم تعليلاً لبرودة مياه الآبار في الصيف وحرارتها في الشتاء
كما يتوهم من لا يعرف الحقيقة وهو أن الشمس يطول مكثها تحت الأرض في ليالي
الشتاء لطولها فيكون دفء مياه الآبار من ذلك ، ويقصر مكثها تحت الأرض في ليالي
الشتاء لقصرها فتظل مياه الآبار باردة ! فكيف يوفق محرر مجلة نور الإسلام بين هذا
التعليل الخرافي وبين ما يفهم من ظاهر الحديث من أن الشمس في الليل تكون تحت
العرش فوق السموات السبع ؟ ؟ كعادته في تصحيح أمثال هذه الجهالات والخرافات ؟
***
كلام الآلوسي وجوابه عن الحديث في تفسيره
قال الشهاب السيد محمود الآلوسي في تفسير آية سورة يس من تفسيره روح
المعاني ما نصه :
وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه
وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال ( يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟
قلت : الله تعالى ورسوله أعلم ، قال : تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن
تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها ارجعي من حيث جئت
فتطلع من مغربها ، فلذلك قوله عز وجل { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } ( يس :
38 ) وفي رواية ( أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم ،
قال : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ) الحديث ،
وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرًا جدًّا . وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو
داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ و ابن مردويه والبيهقي عن أبي
ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ] والشمس
تجري لمستقر لها [ قال : ( مستقرها تحت العرش ) فالمستقر اسم مكان والظاهر
أن للشمس فيه قرارًا حقيقة .
قال النووي : قال جماعة بظاهر الحديث ، قال الواحدي وعلى هذا القول إذا
غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع . ثم قال النووي :
وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها ، وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه
الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها . وأورد ملخص ما تقدم آنفًا
ثم قال : والسجود تحت العرش قد جاء أيضًا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار
عجيبة ، منها أن الشمس عليها سبعون ألف كُلاب ، وكل كُلاَّب يجره سبعون ألف
ملك من مشرقها إلى مغربها ، ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ، ثم
يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا ؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز
وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها ؟ فيأتيهم النداء بما يريده جل شأنه ، ثم
يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله .
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل ، والصحيح من
الأخبار قليل ، وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية
تعويل ، نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته ، وماذا يقال في أبي ذر
وصدق لهجته ؟ والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت
العرش سواء قيل أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد ، أم قيل أنها
تستقر وتسجد تحته من غير طلوع ، فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف
في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين ، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول
والقصر ما عدا عند خط الاستواء ، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق
الغروب ، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما
دامت في البروج الجنوبية ، فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار ، على ما فصل في
موضعه . والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها ، وإلا لكانت ساكنة عند
طلوعها ، بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره ، وأيضًا هي قائمة على أنها
لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش ؟ بل كون الأمر
ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً . وكذا كونها تحت العرش دائمًا
بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته .
وقد سألت كثيرًا من أجله المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار
الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان ، فلم أوفق لأن أفوز منهم بما
يروي الغليل ويشفي العليل . ا هـ ما قرره الآلوسي من استشكال الحديث من
الوجهين وكونه مخالفًا للقطعي وعجْز أَجَلِّ معاصريه من العلماء عما يزيل الإشكال
اهـ .
ثم إنه رحمه الله استنبط له حلاًّ غريبًا بعد مقدمات مؤلفة من خرافات كثيرة
أغرب منه ، خلاصته أن الشمس لها نفس عاقلة مدركة كروح الإنسان ، وأن هذه
النفس هي التي تصعد فتسجد تحت العرش ، ويبقى جسم الشمس المضيء على ما
يراه الناس . ولم أره تجرد من عقله واستقلاله العلمي وأثبت عدة خرافات خلط فيها
بين تخيلات الفلاسفة والصوفية والمبتدعة كما فعل في هذه المسألة ، عفا الله عنه ،
ومن شاء فليرجع إلى عبارته فيه .
***
حاصل أقوال العلماء والعبرة به
وحاصل ما أوردناه من كلام المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين أنهم
اتفقوا على أن الحديث مشكل كما قلنا ، وأنهم أنكروا منه السجود تحت العرش
واحتجاب الشمس عن الدنيا ، وكانت أجوبتهم عن السجود أقوى من أجوبتهم عن
الاحتجاب ، وإن أحدًا منهم لم يكفر أحدًا ممن استشكله ، ولا رماه بتكذيب الله
ورسوله وأن لم يسلم له تأويله ، وأن جوابنا في حل الإشكال أظهر من جميع
أجوبتهم ، وأننا على توفيقنا هذا لخدمة السنة قد رمانا محرر مجلة الأزهر زورًا
وبهتانًا بما علم القارئون ، ولنا أن نتمثل بقول الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود .
***
خاتمة البحث في تحدينا لمشيخة الأزهر فيه
قد علمتم أيها المسلمون مما شرحته لكم في هذه المسألة أن أحد كبار هيئة
علماء المشيخة الرسميين ومحرري مجلتها الرسمية قد افترى علينا في المسألة بغير
أمانة ولا علم ، وترك الذين قد يصدقون كلامه في هذا الحديث ، وربما كانوا مئات
الألوف في حيرة أو شك من دينهم ، إذ علموا منه أن الحديث يدل على أن الشمس
تغيب عن الأرض كلها بعد غروبها عنهم ، وجميع الذين تعلموا الجغرافية منهم ،
وكثير من غيرهم يعلمون علمًا يقينيًّا أن الشمس لا تغيب عن الأرض طرفة عين ،
وإنما تغرب عن قوم وتطلع على آخرين ، كما قال بعض كبار علماء الإسلام
المتقدمين ، فكان الواجب على هذا العالم أن يرشد المسلمين أولاً إلى الجمع بين
معنى الحديث الذي أخبرهم أنه متفق عليه وبين اعتقادهم القطعي لما يخالف
مضمونه قبل أن يقول لهم أن الذي لا يعتقد صحته يكون مكذبًا لله ولرسوله ، وهم
لا يستطيعون هذا الاعتقاد ، وإنني بعد أن بينت لهم ما عندي من حل الإشكال وما قاله
العلماء الذين استشكلوا الحديث من قبل ، وأن ما قلته هو الذي يطمئن به القلب ،
أتحدى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ومن شاء من هيئة كبار العلماء ( غير الدجوي
الذي ليس له في علم الحديث جمل ولا ناقة ، ولا يذكر منه في مقدمة ولا ساقة ، بل
هو يَعُدُّ أعظم حفاظه كالذهبي في عصره أعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ويطعن في صدقهم ) أن يبينوا للأمة طرق هذا الحديث وما يصح منها بحسب
اصطلاح المحدثين وما لا يصح ، وما يجب على المسلمين أن يصدقوه مما يخالف منه
المشاهدة وما تقرر في علم المنطق وعلم الجغرافية الذي يدرس في الأزهر وفي جميع
مدارس هذا العصر ، إما بالجمع بين الأمرين جمعًا معقولاً ، وإما بتكذيب الحس وما
أثبته العلم إن كان مستطاعًا ، إذا كانوا لا يوافقوننا على ما ذكرنا من إعلال متنه
وأصح أسانيده ، فهذه سبيل العلماء حماة الدين لا الافتراء على العلماء الذين هداهم الله
إلى هذه الحماية قبلهم ، والتعالي والتنفج بسلطان الألقاب الرسمية التي لا قيمة لها
عندهم ، وإيقاع الناس في شك من دينهم ، وإذا لم يكف شيخ الأزهر مرءوسيه عن
مثل هذا العدوان والبهتان فسأتحداه بمناظرات أخرى في علم التوحيد وفي التفسير
والحديث ، وإن خالفت مقتضى الحلم والتواضع الذي اعتصمت به إلى الآن .
((يتبع بمقال تالٍ))

(1) يشعر هذا اللفظ بأن قائله غير أبي ذر وهو يدل على روايته بالمعنى كما قلنا .
(32/785)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1351هـ
أبريل - 1933م

تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي

تلك عقائد دين محمد ، وقواعد تشريعه ، وأصول إصلاحه الاجتماعي
والسياسي ، مسرودة بالإجمال ، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن ، مجردة من حلل
المبالغات الخطابية ، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية ، ونحن المسلمين نتحدى
الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم ، ولا سيما أحرار الإفرنج ، بأن يأتونا بمثلها أو
بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء ، وأشهر الحكماء ، وأبلغ الأدباء ، وأنبغ
ساسة الأولين والآخرين ، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في
الأميين ، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين ، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه
وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
( التنفيذ العملي )
وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ
الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية ، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين
أولا بالسر ، ثم بالجهر ، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل
والنفي ، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة ، وبعد الهجرة العامة بالتبع له ،
كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة ، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله
عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا
يظاهروا المشركين عليه ، فنقضوا عهده ، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين
عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين ، وفي
أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين ،
ثم غدر المشركون ونقضوا العهد ، فعادت حالة الحرب ، وفتح المسلمون مكة
عاصمة قريش الدينية والدنيوية ، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من
الهجرة ، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر ، وأنزل
الله تعالى عليه فيها : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في
الشقاق والتفرق والعداء ، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله
كما قال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( الأنفال :
62-63 ) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن
السياسة المبينة في قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ( آل
عمران : 159 ) الآية . وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع
والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية ، وشدة بأسهم ، وعدم وجود الملوك المستبدين
القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم .
فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء ، أو حكيم من الحكماء ، أو
ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين ، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين ، فجعلهم
أهلا لفتح الأمصار ، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة ،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة ، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة ،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة ، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها
وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات ، فأين الوحدة الجرمانية
والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع
والحرب ، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية ؟ بل أين الوحدة
الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة ، ثم
الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية
لها ؟
ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى ، والهداية المثلى ، خلفاء محمد الراشدون ، وكثير
من ملوك المسلمين الصالحين ، بما شهد لهم به تاريخهم ، واعترف لهم به
المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم ، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية
ورقوها ، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها ، وكانوا أساتذة جميع
من جاء بعدهم فيها .
ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع
قواتها الصليبية ، الهمجية منها والمدنية ، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة ، ولا
تزال تحاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه ، بعد زوال قوة دوله ، وغلبة الجهل
على شعوبه ، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه . أفما آن لها أن
تعقل أنها لو اعترفت له بحقه ، لأمكنها أن تصلح العالم كله به ؟ ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
(33/102)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
النتيجة
المقصود بالذات
قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة

إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون
من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه
المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي
لخصنا كلياتها في هذا البحث ، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون
لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا -
أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية
محمد للأمة العربية من خوارق العادات .
وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع ، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا
من رب العالمين ، العليم الحكيم ؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله
تعالى على روح محمد وقلبه ، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة
للبشر عامة ، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة ؟ وما معنى
كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي ، وخلاف
المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع ، وتواريخ الأمم ، وسير
الحكماء والعلماء والملوك ، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا ، وإن كانت من
جنسها ، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم
وأنبأ محمد ( صلوات الله عليه وعليهم ) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته
بقرون ، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من
العلم والحكمة والتشريع .
قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي
الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي ،
وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ،
وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما
ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع
ووقائع التاريخ .
ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي
الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها
ميزان العقل المسمى بعلم المنطق ، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس
وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته .
فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ، وتؤيدها النقول ،
فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وبكتابه
المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان ،
ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به ، بعد أن عجزت علومكم الواسعة ، وفلسفتكم
الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في
الأمم ، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من
شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة ، وتأريث
العداوات بين شعوب الأرض كافة ، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه
الدول أعظم نكبة على البشر ، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم
بها سعادة البشر .
ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر ؛
لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم ،
وإنما يدينون بوازع الفطرة ، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم ،
ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام ، وقد بيَّنا لكم
أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان ، وأنه دين
السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه ، وبها وحدها
يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها .
قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث
في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار ، ولئن عقد هذا المؤتمر
فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم
وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا ، والأخطار إلا تفاقمًا ، وإنما
الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون ، وحجته البينة تناديهم ولكنهم
لا يسمعون : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ } ( الأنفال : 23 ) .
* * *
سؤال علماء الإفرنج
عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية
( بعد تبليغهم لحقيقتها ، ومكان أخبار القرآن منها )
وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار ، فالمرجو منكم أن تسمعوا
وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه
الصحيح الذي يحرك إلى النظر ؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث
دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة
على الإسلام وحجابًا دون حقيقته ، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ
الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر ، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما
نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم
للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق ، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها ،
والحقيقة بنت البحث كما تعلمون .
ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه ( بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا ،
أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم ، فإنما مصدر الدين عالم الغيب )
ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي ، وقد
بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود
الله وعلمه وحكمته ، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم ، وحسبكم أنه ليس في القرآن
منها ما يقوم البرهان على استحالته .
وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته
الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون
الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما
أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره
القطعية ، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب ، ويكفي
في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس ، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح
الحقائق الفنية والوقائع ؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه ، ولا يمكن الوقوف
عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين
الأولين بالكتاب ، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم
العلمية لئلا يكون فتنة لهم ، وقد قال نبي الإنسانية العام : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم )
رواه مسلم في صحيحه .
ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق ( دخان ) وهو عين
ما يسمى السديم ، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا ، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما
الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا ، وأنه جعل من الماء كل شيء حي ، وأنه خلق
جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى ، وأنه جعل
كل نبات موزونًا ، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير .
وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها
بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب
القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ } ( فصلت : 52 ) * { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } ( فصلت : 53-54 ) ( صدق الله العظيم ، وبلَّغ
رسوله الكريم ، والحمد لله رب العالمين )
* * *
الشبهات على القرآن
ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام
كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات
على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها ، وكتبت من
ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب ( حياة محمد ) على مسألة الصلب والفداء .
ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة
المنار وتفسيرها ، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة ( عقيدة الصلب والفداء ) وأزيد
عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث ، والله الموفق وهو المستعان .
__________
(33/104
 
ذو الحجة - 1351هـ
أبريل - 1933م
( الإسلام دين عام خالد )
كتاب جديد للكاتب الاجتماعي المشهور الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي
مؤلف من مقالات نشرها في جريدة الجهاد السياسية اليومية ثم جمعها في سِفْر بلغت
صفحاته 190 صفحة من القطع الصغير ، وصفه بقوله عنه ( تحليل دقيق لأصول
الدين الإسلامي تحت ضوء العلم والفلسفة ) وقد جاءنا نسخة منه في البريد والعهد
بصحابه أنه غضب علينا لانتقادنا بعض كتبه منذ ربع قرن أو أكثر ، فما عاد يهدي
إلينا شيئًا من مصنفاته على ما كان بيننا من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى من
هجرتنا إلى مصر ( سنة 1315 ) بل كتب مقالات شديدة في الطعن علينا : ونحن
قد أمسكنا عن الرد على ما نراه أحيانًا من الخطأ في كتبه ، وفيما ينشره في الجرائد
لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل المذموم أو لما هو شر منه ، وإن أدري أهو الذي
أهداني هذا الكتاب الجديد لثقته بأنه قد حرَّره واجتنب فيه الآراء الشاذة المنتقدة عند
أمثالنا من المشتغلين بالإصلاح الديني والتجديد الإسلامي وهو الأرجح ، أم أرسله
إلينا غيره ممن يحبون الوقوف على رأينا فيه ، وأَيًّا ما كان المُرْسِل والباعث على
الإرسال فقد صار من الواجب عليَّ أن أقرظ الكتاب وأبيِّن لقراء المنار خلاصة
رأيي فيه وفي صاحبه ، على أنني لم أقرأ الكتاب بعدُ ، وإنما أبني كلمتي المجملة
فيه على ما قرأته منه في جريدة الجهاد ، وقد أراجع ذلك فيه للتثبت ، وربما كان
هذا الإجمال هو الذي يضطرني إلى مطالعته ، والتفصيل في نقده عند سنوح
الفرصة .
إن الأستاذ فريد أفندي وجدي كاتب سيال القلم في المباحث الاجتماعية
والمدنية الإسلامية ، شديد التأثر والإعجاب بالفلسفة العصرية ومذهب استحضار
الأرواح ، ولكنه مضطرب متناقض في كل ما كتبه عن الإسلام لقلة علمه بأصوله
وفروعه وكتابه وسنته وتشريعه ، ومن أظهر هذا العلم الناقض المضطرب أنه يأخذ
رواية شاذة ظنية رجع عنها صاحبها في فرع خاص من الفروع العملية الظنية
كالرواية عن أبي حنيفة في صحة الصلاة بقراءة ما يجب فيها من القرآن مترجمًا
بغير العربية فيجعلها حجة على رفض إجماع الأمة وقاعدة كلية إسلامية يستدل بها
على شرعية ما فعلته حكومة الجمهورية التركية من ترجمة القرآن كله بالتركية
وإكراه شعبها على التعبد به - وإن اعتقدوا أن ذلك معصية لله أو كفر بدينه - ومِن
مَنْعِ الشعب من قراءة القرآن المنزل من عند الله باللغة العربية وعِقَاب من يقرؤه
ومن يطبعه ، زيادة على استحسانه منها رَفْضَ جميع كتب السنة والشريعة العربية .
ومن المقرَّر في علم الأصول أن رأي المجتهد ليس حجة في الشرع ، وأن
الاجتهاد لا يصادم الإجماع ولا النص ، وأن القول الذي يرجع عنه المجتهد لا يُعَدُّ
مذهبًا له .
وأما هذا الكتاب فأرجو أن يكون أكثر ما فيه حسنًا أو نافعًا في جملته ، ومن
الحسن فيه ما له قيمة غالية ووزن راجح ، ومنفعة كبيرة ، وهو بيان مزايا الإسلام
بالأسلوب العصري المقبول عند نابتة المدارس الدنيوية ، وما ينقله عن علماء
الإفرنج من الثناء على عقائد الإسلام وتشريعه وحكمته وسيرة الرسول الأعظم في
إقامته وسيرة خلفائه وقومه العرب في فتوحهم وحضارتهم ، ولكن ما فيه من الباطل
في مقصده ، وما انفرد به من رأيه ومذهبه في فهم عقائد الإسلام وقواعده ، قد
يجعلان إثمه أكبر من نفعه .
إن فيه كبوات ونبوات كثيرة منها ما لا يقال له عثار ، ولا يقبل فيه اعتذار ،
ومنها ما يحتمل التأويل ، وما يتسع المجال فيه للقال والقيل ، وسبب ذلك أنه لم
يدرس علوم الإسلام من تفسير كتابه وسنة رسوله وأصول عقائده وفقهه وفروعه
على أحد من العلماء ولا بنفسه دراسة علمية ، إن كان من الممكن فهمها بدون التلقي ،
وإنما معلوماته الدينية أمشاج علقت بذهنه من مطالعات متفرقة في الكتب
والصحف شِيبَتْ بالنظريات الفلسفية والاجتماعية الحديثة ، فولدت له آراء منها
المقبول ، ومنها الشاذ المردود بنصوص الكتاب والسنة ، أو إجماع الأمة ، ويقع له
فيها التناقض والتعارض .
ولقد عهدته في شبابه أقل شذوذًا مما قرأته له في السنين الأخيرة من مقالات
نشرها في جريدة الأخبار ثم في الأهرام وشرها في انتصاره وتأييده لما فعلته حكومة
الجمهورية التركية من المروق من الإسلام ومحاربة كتابه وسنته وتشريعه ومحاولة
محو كل ما يُذَكِّرُ الشعبَ التركيَّ الإسلامي به وبنائها ذلك كله على دعوى ارتقائها في
التجدد الإنساني ارتقاء لا يمكنها معها أن تعتصم بدين قديم بَالٍ … ومن العجيب أن
هذا الكاتب الإسلامي وافقها على هذا المروق ، وعلى تعليله كما أشرنا إليه في
كلامنا على محاولتها ترجمة القرآن بالتركية وكتابة الترجمة بالحروف اللاتينية ،
ولكننا لم نصرح باسمه فيه ، وكنت فهمت من مقالات هذا الكتاب ، أنه نهض من
هذه السقطة وتاب ، فإذا هو مُصِرٌّ عليها كما علم من رده على شيخ الإسلام السابق
صبري أفندي في صحيفة الفتح الغراء .
وأما شذوذه في هذا الكتاب فلا يصل إلى هذا الحد من الشطط الصريح ، بل
هو مزمل بنظريات الفلسفة ، ومزين بالمدائح المحسنة ، ومسجى بالدفاع عن الملة ،
وأول ما علق بذهني منه إذ قرأته في جريدة الجهاد هو أنه فسر الدين والوحي
والإسلام - وشأنه مع المنتهين من العلماء - تفسيرًا فلسفيًّا مخالفًا لما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين ، وفهمه منه وتلقاه عنه أصحابه والتابعون لهم وسائر أئمة
المسلمين ، ولكنه غير بالغ من الصراحة ما يفهم مراده منه كل مسلم .
ومن تناقضه وتعارضه أنه يوافقنا على ما قرَّرْنَاه مرارًا كثيرة في توحيد
الإسلام لشعوب البشر وقبائلهم في جميع الأمور الدينية لتحقيق الأخوة الإنسانية
العامة ثم تراه ينقض هذا بتأييده للجمهورية التركية في أفظع شقاق حدث في الإسلام
بحجة عصبية اللغة وضرورة اختلاف التشريع ، دع مخالفته في أساس الدين
وبعض أصوله وشذوذه في فهمها .
رأيه في أساس الدين وكون الإسلام هو الطبيعة :
إن أساس الدين الذي عرفه في المقدمة الأولى من الفصل الأول من هذا
البحث هو أن لهذا الوجود الظاهر روحًا عامًّا وأرواحًا خاصة بكل نوع من
الموجودات ، وهذه الأرواح كلها تستمد حياتها ونظامها من الروح العام ، ومنها
الإنسان فهو يستمد حياته الجثمانية من ذلك الروح كما تستمد سائر أنواع الحيوان
وكذا النبات ، ولكن له روحًا عقليًّا آخر متصلاً بالحياة الروحانية العامة ، وغاية الدين
القصوى هي اتصال روح الإنسان العقلي الخاص بروح الوجود العام اتصالاً ذاتيًّا
مباشرًا واندماجه فيه . وقد أخذ هذا الأسس من فلسفة وحدة الوجود الهندية التي فتن
بها بعض صوفية المسلمين معطلة التشريع ، الذي قال فيهم الإمام الغزالي : إنهم قد
طووا بساط الشريعة طيًّا فيا ليتهم لم يتصوفوا .
ثم إنه جعل الناس ثلاثة أقسام في الثقافة العقلية : علماء منتهون ، وأواسط
متعلمون ، وعامة مقلدون ، وقرر أن كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث تتطلب من
الدين ما يناسبها من الغذاء الروحاني ، وأن الدين الذي يوفي كلا منها حاجاتها كلها
هو الدين العام الخالد ، فإن لم تجده لجأت الإنسانية إلى شيء جديد . وقفَّى على
هذا ببيان ما تطلبه الطبقة العليا من الدين بقوله :
( لا يتطلب العلماء المنتهون أن يأخذوا عن الدين آدابًا وأخلاقًا ، ولا أَنْ
يتعلموا منه أسلوبًا في الحياة ولا دستورًا في المعاملات يتفق وأصول العدل والإخاء
والمساواة ، فإنهم وضعة المذاهب وبناة الأساليب ، وصاغة الأصول ، وإنما هم
يتطلبون من الدين أن يصلهم بروح الوجود إيصالاً مباشرًا يستمدون منه حياة
لأرواحهم ، ونورًا لعقولهم ، وسكنًا لنفوسهم ، ومُطْمَأَنًّا لوجدانهم )
ثم وصف هؤلاء العلماء وصفًا خياليًّا شعريًّا في اشتغالهم بهذا الوجود وقواه
وآياته وعلله الأولية وحيرتهم في أسرار ذلك وخفاياه ( وقال ) : ( فالتدين لديهم
صعود بالروح إلى قيومها واتصال به في عالمها ) وصرَّح بأن هؤلاء العلماء
الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة ، فهم يعتمدون في تدينهم على
ما غرس في الفطرة الإنسانية من الدين الحق ، وقد حمل بعضهم اليأس من الأديان
الموجودة على وضع دين دعوه الدين الطبيعي ) .
هذه مقدمات خلاصتها أن هؤلاء الذين سماهم العلماء الأعلام المنتهين قد
عرفوا كل الأديان الموجودة ولم يجدوا فيها حاجتهم إلى الدين الموصل لهم إلى ما
يتطلبونه من وصال روح الوجود مباشرة ، وأن كل ما في هذه الأديان من أخلاق
وآداب وفضائل وتشريع ومعارف إلاهية هي دون ما يعرفونه وما وضعوه منها ،
ونتيجة هذه المقدمات أن ما يسميه هو إسلامًا هو الذي يصلح لهذا العصر علماؤه
الأعلام ومن دونهم ، وهو ما صرَّح به قبل الآن في جريدة الأخبار واشترط
لإظهاره والاقتناع به والتمهيد لقبوله أن يترك المسلمون هذا الإسلام الذي يعرفونه
تركًا تامًّا لأجل أن تكون الدعوة إلى الإسلام الذي يفهمه دعوة جديدة مرجوة القبول
أو مضمونة القبول .
وقد صرَّح في هذا البحث الجديد بأن هؤلاء العلماء المنتهين يجدون في دين
الإسلام القديم آية من كتابه موافقة لهم على مذهبهم الذي يذهبون إليه في تطلبهم لما
ذكر من وصال روح الوجود وقيومه مباشرة بلا وساطة وهي قوله تعالى في سورة
الروم : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الروم : 30 ) يعني أنهم
بمقتضى هذه الآية على ما فسرَّها هو به مسلمون ، وإن لم يعلموا ولم يعلم أحد من
المسلمين الذين لا يفهمون هذه الآية كما فهمها أنهم مسلمون ، وبهذا دون غيره يكون
الإسلام دينًا عامًّا خالدًا على رأيه ، والمعقول أن يكون الناس أشد تباينًا وتعاديًا في
دينه إن قبلوه مما هم عليه في أديانهم كلها .
وذلك بأنه فهم أن الفطرة في الآية هي الطبيعة البشرية نفسها ، وأن الطبيعة هي
الإسلام المراد من الآية ، ومن القرآن كله ، قال في ص 26 ( فهذه الفطرة فطرة
المولود قبل أن يلقن دينًا من الأديان وتعليمًا من التعاليم هو الإسلام الذي جاء القرآن
بالدعوة إليه ) ثم قال : ( فالإسلام لا يؤخذ بالتلقين ، وإنما هو الطبيعة نفسها خالصة
من جميع المذاهب البشرية ، فكل مولود يولد مسلمًا بطبيعته ، فهي تؤدي إلى خير
المذاهب في مدى حياته بعلمه وعقله وتفكيره ولا يحتاج لمن يرشده إليه ) ! ! !
لعَمْرِي إن هذا الكاتب لم يكتب هذا تحت ضوء العلم والفلسفة ، بل كتبه وهو
غريق في تخيلات من الفلسفة وأوهامها ، وآراء فجة في حقيقة الدين لم يتم
نضجها ، وتجارب في مخاطبة الأرواح لم تبلغ درجة الحقائق العلمية ، فمثَله فيها
{ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } (النور : 40 )
يرد على هذا الرأي أو المذهب أو الدين مسائل كثيرة متشابكة نذكر منهم ما
يتبادر إلى الذهن بالاختصار ، فإن بسطها لا يمكن إلا بتأليف سِفْر خاص
 
المحرم - 1352هـ
مايو - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا

تقريظ المطبوعات الجديدة
( بقية ما كتبناه للجزء الماضي من الرد على كتاب فريد أفندي وجدي
( الإسلام دين عام خالد ) وزعمه فيه أن الإسلام هو أن يعمل كل إنسان بعلمه وعقله
وتفكيره بدون تلقين من أحد ، وهو ما فسر به دين الفطرة ، أي الطبيعة . وهذا
الزعم هدم لدين القرآن لا تفسير له ، ولا توحيد لجميع الأديان ، كما يزعم ، ويعلم
القارئ ببطلان زعمه بالإيجاز مما يأتي :
( 1 ) الإنسان عالم اجتماعي يعيش بالتعاون العلمي والعملي ، وتنمى معارفه
كلها بتلقي بعض أفراده من بعض حتى إنه يستحيل أن يكون لكل فرد دين هو وليد
فكره وعقله وحده لم يتلق منه شيئًا من عشرائه ، ومن انفرد بشيء فقلما يوافقه عليه
قومه ، إذن يستحيل أن يكون ما ذكره هو الدين في كل قوم أو في البشر كلهم ،
فتعين أنه يريد أن يكون لكل فرد دين يصح أن يسمى الإسلام .
( 2 ) إن كانت الطبيعة التي يولد عليها كل طفل من البشر هي دين الله
الحق الذي سماه الإسلام ، فكل ما يهتدي إليه الإنسان من أول نشأته إلى آخر حياته
بعلمه وتفكيره وعقله هو دين الإسلام ، ومنه عبادة بعض الحشرات وغيرها من
حيوان ونبات وجماد ، وهو يقتضي أن قبائل الهمج من معطلة ووثنية كلهم على
الإسلام ، وأن الذي لا يصح أن يكون من دين الإسلام هو ما جاءهم به النبيون
المرسلون ؛ لأنه تلقين تلقوه من الوحي ولقنوه للناس ، لم يكن مما وصلوا إليه
بعلمهم وتفكيرهم .
( 3 ) هل فهم أولئك العلماء المنتهون من تراجم القرآن بلغاتهم ( وهو يشهد
لها بالصحة والدقة في تحديد معانيه ) هذا المعنى الذي قرَّره في الآية ؟ وهل كان له
من الوقع العظيم في عقولهم ما وصفه وصاروا به مسلمين مؤمنين بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ويكون القرآن كلام الله تعالى ؟ أم هي مترجمة بلغاتهم بغير
المعنى الذي فسرها هو به ، فيكون إيمانه موقوفًا على اطلاعهم على تفسيره ؟
وكيف السبيل إلى اقتناعهم بتفسيره لها في هذه الحال وترجيحه على ما يخالفه من
فهم علمائهم وعلماء المسلمين كافة ؟
( 4 ) إذا أعجب هؤلاء العلماء المنتهون بهذه الآية من القرآن ، وبالآية
الجامعة بين تنزيه الخالق عز وجل ووصفه ببعض صفات خلقه وهي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ( الشورى : 11 ) وأكبروا مخاطبة البشر بهما من
زهاء أربعة عشر قرنًا كما قال ، واتخذوهما منهاجًا من مناهجهم العلمية الكسبية
بعقولهم ، يسيرون عليها في تطلابهم للوصول إلى روح الوجود العام ، أو وصاله
وصال العشاق للمعشوقات ، وكان الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي يعدهم بهذا
مسلمين دائنين بدين القرآن ، وإن لم يتبعوا ما أنزله الله تعالى فيه من عقائد
وعبادات وآداب وشرائع ، ولم ينتهوا عما نهى عنه من المحرمات والرذائل ؛ لأن
هذه الأصول والفروع من الدين مما يحتاج إليه من دونهم من الطبقتين الوسطى
والدنيا في رأيه ، إن فرضنا صحة هذا كله فأي ربح للإسلام القديم وأهله منهم في
حفظ دين القرآن وتجديدهم إياه بفلسفته هو ، وما هو إلا إسلامه دون إسلام محمد
صلى الله عليه وسلم وأتباعه ؟ أم يريد أن يكونوا أتباعًا له في هذا ، فيسمون
محمديين وجديين ؟
( 5 ) مَن هؤلاء العلماء المنتهون وكم عددهم ؟ أليسوا أفراد الفلاسفة والعلماء
الذين انقطع كل منهم لإتقان مسألة أو مسائل من النظريات العقلية والاجتماعية
أو العلوم والفنون فلا يكاد يعنى بغيرها ؟ إن هؤلاء إذا وافقوا القرآن في بعض آياته
فإنما يوافقونه كما يوافق كل منهم غيره فيما يستحسنه من رأيه ، لا لاعتقادهم أنه
كلام ( روح الوجود العام ) الذي هو أقرب وسائل الوصول إليه والزلفى عنده ،
وإنما هو الوسيلة إلى ذلك ببيان الرسول له بأمره ، ولن يكونوا مسلمين إلا بهذا
الإيمان ، وبما يستلزمه من الأعمال ، ولن يصلوا إلى أعلى ما يمكن للبشر أن
يصلوا إليه في الدنيا من معرفة الله عز وجل والكمال في حبه المؤهل لما هو
فوق ذلك في الآخرة إلا بهذا الإيمان والإسلام ، دون الإسلام الذين اخترعه محمد
فريد أفندي وجدي .
( 6 ) إن تسميته ما فعلته الجمهورية التركية من رفض الإسلام كله وإجبار
شعبها على اتباع ترجمة القرآن بالتركية وكتابته بالحروف اللاتينية والتعبد بها من
اعتقادهم أنه حرام أو كفر ، قد يكون عنده من إسلام المنتهين وهو في اعتقاد جميع
المسلمين كفر وارتداد عن الإسلام ممن كان مسلمًا ، فما باله يخاطب به المسلمين
في جريدة سياسية يومية ( جريدة الجهاد ) مُلَبِّسًا عليهم بأنه مجدِّد للإسلام ؟
( 7 ) ليخبرنا الأستاذ فريد أفندي وجدي عمن يعرف في قومه الترك من
هؤلاء العلماء المنتهين الهائمين في حب روح الوجود العام المتطلعين لوصاله ؟ هل
مصطفى باشا كمال وعصمت باشا وأمثالهم من رجال الحرب منهم ؟ وما حقيقة
العبقرية التي زعم أن الترك فاقوا بها غيرهم من الشعوب فأقر هو بسببها حكومتهم
العسكرية على رفضها للشريعة الإسلامية المشتملة على كل ما تحتاج إليه الطبقة
الوسطى والطبقة الدنيا من هداية الدين مما لا يوجد في غيرها ، وقد فضلت هذه
الحكومة شرائع سويسرة و إيطالية وغيرهما عليها ، ولم تستطع أن تسن شريعة
تركية لائقة بعبقريتها ؟
إن كانت هذه العبقرية هي استبسالهم في ظفرهم على اليونان الضعيفة في
عقر دارهم وقلب وطنهم وهو الأناضول فكيف يطمع في إقناع الأمم الفاتحة التي
قهرت الترك ، ومن هم أقوى من الترك بقبول الإسلام الصحيح أو بإسلامه هو ،
وكلها متعصبة لأديانها ؟
إن من أعجب ما في مصر من الفوضى الدينية والأدبية أن ينشر فيها مثل هذا
الإلحاد السخيف ، ويوجد في المسلمين مَن يثني عليه ، وعلى كاتبه بنصر الإسلام ،
والانفراد ببيان حقيقته للأنام ، وينشر هذا الثناء في الجريدة التي نشرته ، ثم لا
يجد من شيخ الأزهر ، ولا هيئة كبار العلماء فيه ، ولا محرري مجلته التي سميت
باطلاً ( نور الإسلام ) من يخطئه ويبين له ولقراء كلامه أنه دعوة إلى إبطال
الإسلام .
وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة ؛ إذ لقيته في دار سفارة
الدولة الأفغانية - وكان قد نشر مقالاً في الانتقاد على فريد أفندي وجدي فقلت له :
إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد على مجلتكم ، وإن الثناء عليها من فئة لا
تخلو من بعض الأزهريين ، والسكوت عليها منكم ومن سائر العلماء ، يتضمن
نقض نقدكم ، وترجيح فهمه للإسلام على فهمكم ، الذي هو فهم المشيخة الرسمية
وأتباعها فسكت ، وكلمت أيضًا بعض من لقيت من علماء الأزهر في هذا المعنى .
وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في حقيقة
الوحي المحمدي وحجة القرآن على جميع البشر الذي نشرت أكثره في تفسير المنار
وطبعته في كتاب مستقل ، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل ،
ومنه تفسير دين الفطرة ، فلما أهدى إليَّ الكتاب صار من الواجب عليَّ شرعًا أن
أعجل بهذا النقد له قبل صدور كتاب ( الوحي المحمدي ) .
(33/238
 
جمادى الأولى - 1352هـ
سبتمبر - 1933م
( حاضر العالم الإسلامي )
( لمستر لوثروب ستودار - والأمير شكيب أرسلان )
( الطبعة الثانية بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر في أربعة
أجزاء )
نشرت مكتبة البابي الحلبي الطبعة الثانية من هذا الكتاب في هذا العام
( 1352 ) في مجلدين كبيرين في كل منهما 782 صفحة كصفحات المنار بحروف
جديدة على ورق جيد . فهو من أحسن الكتب طبعًا ، وكانت الطبعة الأولى في
جُزْءَيْنِ فقط ، فهذه الزيادة جاءت مما أضافه إليها أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
من الحواشي والتعليقات الجديدة على الأصل ، فصارت جديرة بأن تجعل هي
الأصل بطولها وتحقيقها وتعدد مباحثها ، ويجعل كتاب لوثروب حاشية أو ذيلاً لها ،
ولعله لا يزيد عن ربعها .
الكتاب قد اشتهر عند قراء العربية في المشرق والمغرب شهرة تغني عن
التعريف به ، وقد قرَّظنا الطبعة الأولى منه عقب صدورها سنة 1343 فهي قد
نفدت نسخها الكثيرة في بضع سنين فشرع الأمير بعد ذلك في كتابة الزيادات التي
أشعره بالحاجة إليها ما تجدد في العالم الإسلامي وشعوبه من الأحداث المهمة
بالحرب العالمية العظمى والمصائب والكوارث والنوازل التي ألمت بالمسلمين
وبأكثر البشر بربح إنكلترة و فرنسة و إيطالية للحرب ، وتحكمهم الجائر في إرث
الأرض ، وقد بيَّن أمير البيان الحاجة إلى هذه الزيادة بقلمه البليغ في مقدمة الطبعة
الثانية فقال :
( ولما كان قد مضى على الطبعة الأولى سبع سنوات تامات ، جرى خلالها
حوادث ومهمات ، ووقائع هامات ، وحصل ما يسوء وما يسر ، وطرأ ما هو حلو
وما هو مر ، وبالإجمال تجددت قضايا تهم التاريخ العام ، فضلاً عن تاريخ الإسلام ،
وذلك لأن الحرب العامة كانت أشبه بزلزال جيولوجي عام ، كاد أن يأتي الأرض
من قواعدها ، فكثرت على أثرها الانقلابات والتحولات ، وازدادت قابلية الأمم
للتأثرات ، وتم في هذه السنين السبع بين طبعتي الكتاب الأولى والثانية ما لا
يحصل أكثر منه في الحِقَب الطوال ، كان لا مندوحة لنا عن مراجعة النظر في
الحواشي التي علَّقناها على الكتاب أول مرة ؛ لنضم إليها ما جدَّ من الوقائع التي
جرت خلال هذه الأعوام الأخيرة ، ونردف الأول بالآخر ، والأصل بالفرع ،
وتكون الحواشي التي توخينا تعليقها على موضوع من مباحث العلامة ستودارد قد
جاءت بتمام البحث ، ووفت بالغرض ، ونقعت الغلة ، ولم تبق في النفس حاجة ،
وأتت بصورة الوقائع متسلسلة من الأول إلى هذه الساعة ، ثم إنه لم ينحصر الأمر في
سرد الوقائع ولا في تقييد ما تجدد في هذه الأعوام الأخيرة من الحوادث ، بل تعداه إلى
إكمال مباحث كان ضيق الوقت قد قضى باختصارها ، ومطالب ألجأ تحرُّج المكان
دون استنزافها إلى أصبارها ، فأطلقنا هذه المرة فيها للقلم عنانًا ، وأرهفنا للتحقيق
سنانًا ، وأكملنا ما كان قضى ضيق الوقت بإبقائه ناقصًا ، أو برده عن محله ناكصًا .
( وأما كتابنا هذا في أجزائه الأربعة هذه المرة ، فإنه إلى أن يُتَاح للإسلام
حظ هذا العمل الكبير ، يكون من الكتب التي تفي بجانب من هذا العوز ، ويجوز
أن يقال : إنه معلمة إسلامية صغيرة ، بل هو في المباحث الجغرافية والتاريخية
والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعه المجهولة فَذٌّ في بابه ، وكذلك يمتاز
هذا الكتاب بالمباحث السياسية التي قيض لمحررها أن يعلمها من عين صافية ، وأن
يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته ، وقرب سنده ، واستمرار مزاولته لهذه
الأمور من 47 سنة . وفيه بعدُ تراجمٌ وأخبارٌ ، لم يسجلها كتاب ولا جرى بها قلم ،
فلا يجدها الناشد في غيره ، إذ هي نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما
سمعه بالأذن وما كان له فيه أخذ ورد . وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف
ما لا يسع إنكاره الجاحد ، ولا يضيره مراء الحاسد . ولا شك في أن الأمة
الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها ، النازعة إلى النماء بجميع فروعها
وشماريخها ، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة ، ومن جملتها
تأليف المعلمة الكبرى التي هي من ضرورات رقيها وأشراط نموها وبالله التوفيق ،
ومنه نستمد الهداية إلى أقوم طريق ، وصلى الله على النبي العربي العريق ، وعلى
آله وصحبه وسلم .
هذا ما كتبه الأمير شكيب في التعريف بالحواشي التي علقها على كتاب
(حاضر العالم الإسلامي ) وما زاده فيها ، ومن أعلم منه بها وهو أبو عذرتها ،
وغارس فسيلتها ، وجاني ثمرتها ، وقد يظن من يقرؤها وحدها أنه ربما كان مبالغًا
في وصفه لها ، وما هو إلا مقصر كل التقصير ، وما كان التقصير من شأن قلمه
في يوم من أيام عمره ، وإنما كان الآن أمرًا لازمًا لتسمية مصنفه الكبير ، حواشي
معلقة في أذيال كتاب ستودارد الصغير ، وإنه لأَجَلّ من أن يكون أصلاً له أو مَتْنًا
ويقل ذلك الأصل أن يجعل ذيلاً له أو ذنبًا ، ولكنه ظلم نفسه ظلمًا علميًّا أدبيًّا ،
أعقبه ظلمًا ماليًّا ماديًّا ، ومن شاء أن يعلم كُنْهَ هذا الظلم مجملاً ، فلينظر في فهرس
الكتاب قبل أن يعلمه بقراءته كله مفصلاً .
على أن اسم ( حاضر العالم الإسلامي ) لو وضع لتعليق لمصنف الأمير
شكيب هذا وحده ، لكان ظلمًا له وهضمًا لحقه ، وتصغيرًا لقدره ، وإنما الجدير به
أن يسمى ( غابر العالم الإسلامي وحاضره ) أو تالده وطارفه ، فإن مقدمته في
نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه ، ويليها الكلام في الفتح العربي والبعثة المحمدية
وأقوال جمهرة من العلماء والفلاسفة والمؤرخين الأوربيين في النبي صلى الله عليه
وسلم ومنه خلاصة كتاب ( حياة محمد ) لإميل درمنغهم الكاتب الفرنسي الذي اشتهر
بهذا الكتاب ، ويلي ذلك فصول ضافية في علو الإسلام وعظمته ، وسبب هبوط
أهله في هذا الزمان ، وفي مدنية الإسلام والرد على حسادها المكابرين ، وارتقاء
اليونان والرومان العلمي المدني قبل النصرانية وانحطاطهم بعد انتحالها ، والمدنية
العربية وخدمتها للطب ثم الكلام في الفرس والترك والتشيع والتعصب والتسامح
والخلافة والملك وهدي الخلفاء الراشدين وسيرة عمر وعدله خاصة ، وكل ذلك في
لباب الإسلام وماضيه لا في حاضره .
أخذت هذه المباحث 258 صفحة من الجزء الأول ، ووضع بعدها الفصل
الأول من كتاب ستوارد وموضوعه اليقظة الإسلامية وهو في 16 صفحة ، ويليه
ترجمة القس زويمر الأمريكاني أوقح أعداء الإسلام من دعاة النصرانية وأشدهم
إفسادًا ، فترجمة الأستاذ الإمام وصاحب المنار من أشهر أنصار الإسلام ودعاته
وهي للأمير شكيب ، ووضع بعدها الفصل الثاني من كتاب ستودارد وموضوعه
الجامعة الإسلامية وصفحاته 41 وسائر الجزء للأمير ، وهو في بيان حال الدول
المستعمرة والإسلام - وأثر الدولة الروسية في الشرق- والفتوحات الإسلامية في
الهند وحال هذا القطر العظيم في هذا العصر- والإسلام في جاوى ومسلمي فيلبين
- الجزائر الشرقية الهندية الهولندية - وكلها للأمير ، وقس الجزء الثاني على الأول
بل لم أر في فهرسه لستوارد شيئًا .
وجملة القول أن هذا الكتاب معلمة ( دائرة معارف ) للإسلام وشعوبه وخواص
رجاله لا يستغني مسلم قارئ عن الاطلاع عليه والاستفادة منه ، وهو يغني عن
مئات من الكتب التي طرقت مباحثه ، ولا يغني عنه غيره في أبوابه ، إلا أن تُعْنَى
دولة أو جمعية إسلامية غنية بوضع دائرة معارف إسلامية يتولى تحرير كل
موضوع منها علماء أخصائيون في علومهم وفنونهم ، كما تمنى الأمير شكيب ونوَّه
في مقدمته وكما يتمنى كل مسلم يعرف حاجة المسلمين إلى معرفة أنفسهم وتاريخ
دينهم وحضارتهم ، وإن أهم ما فيه بيان الحرب الصليبية التي يجردها الإفرنج
لمحو الإسلام واستعباد المسلمين ، بما يسمونه الاستعمار ، ودعاية التنصير
ومطاعن المستشرقين ، وسنقتبس بعض الأشعة من شمسه المشرقة ، وبعض الجذى
من ناره المحرقة ، لعل المسلمين يستفيدون منها ما يضيء لهم الطريق ، ويحول
عنهم نار الحريق .
هذا وإن ثمن النسخة من مجلدي الكتاب معًا مائة قرش مصري وما هو بكثير .

 
الكاتب : محمد رشيد رضا
رجب - 1352هـ
أكتوبر - 1933م

دائرة المعارف الإسلامية

كان علماؤنا هم الذين سنوا سنة وضع المعاجم التاريخية بأنواعها ، وضعوها
أولا لرجال الحديث النبوي ، ثم لطبقات العلماء من فقهاء وأدباء وأطباء وغيرهم ،
ولكل من يعنى الناس بتاريخهم من الملوك والوزراء والقواد وغيرهم ثم للأنساب
وللبلدان والأمكنة ، ثم وضعوا المعاجم للاصطلاحات العلمية وأصغرها كتاب
التعريفات للسيد علي الجرجاني وآخر ما وصل إلينا منها ( كشاف اصطلاحات
الفنون ) ثم للكتب المصنفة .
ولكن علماء الإفرنج الذين اقتبسوا العلم والحضارة من سلفنا وكتبنا العربية قد
كملوا هذا النوع من التأليف فوضعوا المعاجم الجامعة لجميع شعب التاريخ وأنواع
العلوم والفنون ويسمونها ( أنسكلوبيذية ) وسماها علماؤنا ( دارة المعارف ) ثم ارتأى
بعضهم أخيرًا أن تسمى الموسوعات أو المعلمة . ولكل شعب من شعوب العلم
والحضارة دائرة معارف جامعة بلغتها غير المعاجم العلمية والفنية الخاصة . وتبلغ
الدائرة منها عشرات من الأسفار الكبيرة ، ويتولى تأليف كلٍّ أفرادٌ كثيرون من
الإخصائيين في العلوم والفنون توزع المسائل على كل منهم فيما يتقنه في وقت
واحد .
هذا النوع من المعاجم الجامعة ضروري لكل أمة لها لغة راقية مدونة كمعاجم
اللغة يتوقف عليها تقدمها العلمي ، وقد كان أول من تصدى لسد هذه الخلة في
نهضتنا العربية الحديثة المعلم بطرس البستاني الشهير صاحب المعاجم العربية
والمصنفات والصحف في بيروت في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي ،
وقد حبذ رأيه هذا والي سورية التركي والصدر الأعظم للدولة وشجَّعاه ووعداه
بالمساعدة ، وسبق إلى هذه المساعدة إسماعيل باشا خديو مصر فاشترك بألف نسخة
من كل جزء يصدر من هذه الدائرة وأهدى مؤلفها مكتبة كبيرة من مطبوعات مصر
للاستمداد منها ، وكانت قيمة الاشتراك ألف جنيه مجيدي ، وصرح بأن هذا المعجم
ضروري للأمة ، ولكن البستاني توفي بعد إصدار عدة مجلدات فتولى العمل بعده
نجله سليم البستاني فانتهى عمله بإتمام الجزء التاسع ، وبعد وفاته تولى ذلك سليمان
البستاني بمساعدة أخويه نسيب و نجيب فأصدر الجزءين العاشر والحادي عشر الذي
انتهى بخلاصة تاريخ الدولة العثمانية من حرف العين . وكان المعلم بطرس أصدر
الجزء الأول في سنة 1876 م ثم كان صدور الجزء الحادي عشر في سنة 1900
وحال دون المضي في العمل كساد العلم وعدم وجود أمير ولا كبير كإسماعيل باشا
يساعد عليه ، وهو يحتاج إلى نفقات كثيرة ومساعدين على النسخ والترجمة من
اللغات المختلفة .
ثم تصدى الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي وجدي لإصدار معجم عصري
جديد يحل محل دائرة آل البستاني فألف كتابًا سماه كنز العلوم واللغة ووصفه بقوله :
( دائرة معارف عامة تحتوي على فصيح اللغة العربية وخلاصات العلوم النقلية
والعقلية والتاريخية والعمرانية وتراجم المشاهير وفيها من الفوائد الطبية والعلاجية
والوسائل الحيوية ما يحتاج الإنسان إليه في سائر أحواله المعيشية ) وشرح هذه
المقاصد بالتفصيل في صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير ،
وقد بدأ بطبعه في سنة 1323 وأتمه في آخر سنة 1324 فبلغت صفحاته 858
صفحة وأتمه بذيل لما فاته من المواد في 16 صفحة .
ولما صدر الكتاب تبين أنه لم يف بشيء مما ذكره في مقدمته وأعلنه في
الجرائد والنشرات ( الإعلانات ) ومن المعلوم بالضرورة أن هذه الصفحات لا تسع
أقرب تلك المقاصد وأسهلها تناولاً على المؤلف ، وهو فصيح مفردات اللغة العربية
فضلا عن خلاصات جميع العلوم النقلية والعقلية إلخ إلخ ، والمؤلف لم يدرسها كلها
ولا بعضها درسًا يتسنى له به أن يكتب خلاصات لها ، فدراسته لم تَعْدُ المدارس
الأميرية الثانوية .
انتقد الناس هذا الكتاب بما كان من غلو مؤلفه في الإعلان عنه كعادته ،
وربما كنا من أشدهم انتقادًا فكسبنا به عداوة بعد صداقة ، ولكن الكتاب راج بتأثير
الإعلان وتقريظ بعض الجرائد التي تراعي في تقريظها إرضاء المؤلفين بدون
وقوف على ما كتبوا ، وهذا الرواج حمله على تأليف معجم آخر مبسوط سماه
(دائرة معارف القرن العشرين ) بلغ عشرة أجزاء ، وقد وصفه بما وصف به كنز
العلوم واللغة وهو كالشرح له ، فما كان من هذا الشرح منقولا من الكتب بنصه فله
حكم تلك الكتب ، وما كان منه منقولاً بالمعنى مع التصرف بزيادة أو نقصان ففيه ما
لا يحصى من الخطأ والغلط ، حتى روي أن أحمد باشا تيمور المؤرخ الأديب
واللغوي المشهور جمع من الأغلاط التاريخية في هذه الدائرة جزءًا كبيرًا ، وسئل
عنه أحد علماء الأطباء المشهورين فقال : إن ما رآه فيه من المسائل الطبية كثير
الغلط ، ونقول نحن : إن ما فيه من الغلط والخطأ في العلوم الدينية من نقله وآرائه
لعله أكثر من غيره .
من ذلك تعريفه للحديث في مادة ( حدث ) بأنه ما روي عن الرسول صلى الله
عليه وسلم من ( الكلام ) . ومنها ما ذكره من سبب تدوينه ، ومنها ما ذكره من
تشكك الأئمة فيه ، ومنها ما ضبطه من عدد ما صح عن بعضهم بسبب تشكيكهم
كقوله : إنه لم يصح عن البخاري إلا ( 2600 ) فقد صح عنه أضعاف ذلك ، وإنما
اختلف الحفاظ في عدد أحاديث جامعه الصحيح بسبب ما فيه من التكرار للحديث
الواحد مختصرًا ومطولًا وموصولاً وغير موصول في الأبواب المختلفة ، وهذا
العدد مع زيادة اثنين عليه هو ما حرَّره الحافظ ابن حجر للمتون الموصولة غير
المكررة . ومن المعلوم أن له في أسانيد جامعه هذا شرطًا خاصًّا به لم يشترطه في
غيره مما يصححه في سائر كتبه ، ومنه بعض أحاديثه المعلقة فيه ، ولا محل
لتفصيل هذا هنا .
( ومنها ) قوله : إن أول من ألف الحديث الإمام مالك في الموطأ .
( ومنها ) أنه عندما ذكر ( المجموعات الشهيرة بالكتب الستة الصحيحة )
أخرج منها جامع الترمذي ووضع فيها سنن الدارقطني ، وهذا لم يقله أحد ، كما أنه
لم يقل أحد : إن هذه الستة كلها صحاح ، وإنما التزم الصحيح في المتون المسندة
منها البخاري ومسلم فقط . وأصحاب السنن يروون الحسان والمعلولة مع بيان
العلل ويكثر في الترمذي الضعاف وهي في ابن ماجه أكثر بل لا تخلو من
الموضوع .
فهذه بضعة أغلاط في كلمة ( الحديث ) وهي من أهون أغلاطه في المسائل
الإسلامية ، فإن الغلط في أصول الاعتقاد وتفسير القرآن .
وجملة القول أن هذه الدائرة لا يوثق بها ولا يعتمد عليها ، ولكنها راجت
عند جمهور الناس على قصورها وقلة مادتها لشدة الحاجة إلى هذه المعاجم حتى إن
وزارة المعارف أخذت منها نسخًا لمكتباتها لعدم وجود معاجم علمية تامة باللغة
العربية غيرها ، وإن كان ينقصها مواد كثيرة ضرورية في كل مقصد وموضوع من
موادها ، وهذا محل الشاهد ، ولا نقصد به هذا الكتاب الذي لم نطلع عليه مجتمعًا
إلا من عهد قريب .
بعد هذه المقدمة أقول : إن علماء الإفرنج لم يرو غليلهم من العلم كثرة وجود
هذه المعاجم عندهم حتى انتدب جماعة من علماء المشرقيات منهم إلى وضع معجم
خاص بالشؤون الإسلامية ، وهو الذي اشتهر بدائرة المعارف الإسلامية ، وقد صدر
منه بضعة أجزاء ولم يتم ، وقد أوشك أن يتم كما قيل ، وإذا كنا في أشد الحاجة إلى
معجم علمي عام بلغتنا ، فإننا لفي أشد الضرورة إلى مثل هذا المعجم الخاص بملتنا
وأمتنا .
وإذا كان لعلماء الإفرنج الذين ألفوا لنا هذا المعجم منة علينا ؛ لأنهم فعلوا لنا
ما لم نفعله لأنفسنا ، فإن من أكبر العار علينا أن لا نبادر إلى نقله إلى لغتنا ، وإن
لمن ينقله إليها لمنة يجب أن نشكرها لهم بالقول والفعل ، ونحمد الله أن نهض لأداء
هذا الواجب جماعة منا فشرعوا في ترجمته بلغة الإسلام العامة التي يقرؤها
المسلمون من جميع الشعوب وهي العربية ، وإن قراءته لأنفع لنا من قراءة الأصل
بلغاته الثلاث ( الإنكليزية والفرنسية والألمانية ) للأسباب الآتية : -
( 1 ) إن حاجة الإنسان إلى معرفة نفسه في المرتبة الأولى ، وحاجته إلى
معرفته غيره فيما دونها من المراتب العديدة ، لا فرق في هذا بين الأفراد
والجماعات والأمم ، وهذا أول معجم عام في هذه الموضوع .
( 2 ) إن معرفة النفس لا تتم في صحتها أو كمالها ، إلا بالوقوف على آراء
الأغيار فيها من المستقلين في الرأي والجائرين فيه ، ولا سيما الخصوم منهم ، ولن
نجد هذا كله إلا عند جماعة هؤلاء الإفرنج المستشرقين .
( 3 ) إن المواد التي يعتمد عليها المؤلفون لهذا المعجم في أوربة غزيرة ،
وإن طريقتهم في النقل والتمحيص معبدة عندهم ، وإن الشعوب الإفرنجية كلها تعتمد
على تحقيقهم وحكمهم لنا وعلينا ، وإن أكثر المعجبين بعلوم أقوامهم وحضارتهم منا
يقبلون ما يكتبونه عن ديننا وحضارتنا وتاريخنا ، بل الأمر أعظم من ذلك ، وهو
أن ملاحدتنا والمرتابين واللاأدريين من أقوامنا يقبلون كلامهم في الكتاب المعصوم
والنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم أيضًا .
( 4 ) إن هذه الترجمة تنقل كلام هؤلاء المؤلفين نقلاً صحيحًا ، وتعلق عليه
في الحواشي ما تراه محتاجًا إلى التصحيح والتصويب أو التحقيق ، ويستعين
المترجمون على هذا بالإخصائيين من علمائنا في كل مادة من المواد تحتاج إلى هذا ،
فبهذا نكون مشاركين للمؤلفين في تأليفهم هذا ، ويكون اسم ( دائرة المعارف
الإسلامية ) موافقًا للمسمى بقدر ما يتفق لها من تحقيق واضعي هذه الحواشي لها .
وأما الذين تولوا أمر الترجمة فهم الأساتذة محمد ثابت أفندي ( ليسانس
وماجستير في الفلسفة ، وأحمد الشنتناوي ( ليسانس في التاريخ وفي الفلسفة )
وإبراهيم خورشيد ( ليسانس في التاريخ ) و عبد الحميد يونس . وقد عنوا بإصدارها
في أجزاء متفرقة كأجزاء المجلات في كل شهرين جزء ، وصدر الجزء الأول في
شهر جمادى الآخرة الماضي الموافق لشهر أكتوبر ، وصفحاته 64 من القطع الكامل
منها مقدمة وجيزة في أربع صفحات وفيها حواش بإمضاء الأساتذة إبراهيم مصطفى
ومحمد مسعود ويوسف الدجوي ، ومحمد فريد وجدي وأحمد زكي باشا .
وحاشيتا الأستاذين الدجوي ووجدي في موضوع خاص بالقرآن من كلام
الدائرة في إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ففيها أن القرآن سمى أباه آزر مخالفًا
لاسمه في التوراة ، فأجاب الدجوي عنها بالاحتمالات التي نعهدها ونعرفها ولا يقبلها
أحد من متعلمي هذا العصر فضلاً عن الإفرنج ، والثانية في زعمها ( أن شخصية
إبراهيم كما في القرآن مرت بأطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسسة للكعبة )
وأوردت الشواهد من السور المكية فالمدَنِيَّة على هذه الدعوى الخاطئة الكاذبة ،
فأجاب عنها فريد أفندي وجدي بكلام طويل أكثره يدور حول الموضوع ويحلق فوقه
عن قرب أو بعد من حيث بقيت أكثر الشبهات رابضة في مكانها ، وسأبين هذا في
مقال خاص إن شاء الله تعالى
فأنصح لمترجمي الدائرة أن يعرضا كل ما له علاقة بالدين الإسلامي ، ولا
سيما الكتاب العزيز والسنة السنية على أعلى علماء الأزهر علمًا ورأيًا ومكانة وهما
الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق والشيخ عبد المجيد سليم
مفتي الديار المصرية ليكتبا أو يختارا من يكتب فيه ما يبين الحق ويدفع شبهات
القوم بما تقوم به الحجة ، ولا يكون موضعًا للنقد ، وسببًا للأخذ والرد ، فتضعف به
الثقة بالدائرة ، وأنصح لقراء المسلمين حينئذ من جميع الأقطار أن يشتركوا في هذا
المعجم ويقتنوه ، وقيمة الاشتراك في ستة أجزاء يتألف منها من 64 صفحة من
القطع الكامل 40 قرشًا في القطر المصري و70 في خارجه منها أجرة البريد .
((يتبع بمقال تالٍ))
(33/474)
 
شعبان - 1352هـ
نوفمبر - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا

المطبوعات المنكرة في الدين
ومشيخة الأزهر

كثرت في هذا القرن المطبوعات المشتملة على ما يخالف أصول الدين
ويصد عن هدايته مما يكتبه الزنادقة والملاحدة بسوء نية ، ومما يكتبه الجاهلون
المغرورون بمعارفهم الناقصة ، كما كثرت في ذلك ما يكتبه الفريقان في المجلات
والجرائد اليومية ، ومنه ما هو مخالف لأصول الدين وفروعه في قوالب مدح له
ودفاع عنه .
وكان مشايخ الأزهر في غفلة معرضين عن ذلك كله لا ينكرون منكرًا ولا
يؤيدون معروفًا إلا قليلاً منهم في قليل مما يسألون عنه ، حتى ظهرت في هذه
السنين الثلاث مشيخة الظواهري فكانت بدعًا من كل ما سبقها في أمور كثيرة منتقدة
منها طلب مصادرة بعض المطبوعات بحق وبغير حق ، ومصادرة كتب تقر ما هو
شر منها وأضر وأشد مخالفة للإسلام وجناية عليه ، وقد أنكر عليها الكتاب من
الأزهريين وغيرهم بعض ذلك كطلبها من الحكومة منع نشر كتاب ( تاريخ بغداد )
الشهير للإمام الحافظ الخطيب لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته أورده
المؤلف بالروايات كما أورد كثيرًا من الثناء عليه .
ثم إنني علمت أخيرًا أن شيخ الأزهر طلب مصادرة كتاب فني في حيوية
الأرض بناء على اشتماله على كفر صار به مؤلفه مرتدًّا عن الإسلام ، ونشر هذا
الخبر في جمادى الأولى ، ولم أر نص ما قررته مشيخة الأزهر في ذلك ، ولا ما
نشرته جريدة الأهرام من خبره ، ولكنني علمت مضمونه من مقالة نشرها مؤلف
هذا الكتاب في جريدة الأهرام ، فرأيت أن المسألة تحتاج إلى بيان وتفصيل ينبغي
أن يطلع عليه مؤلفه ، وكل من قرأ الخبر فأرسلت إلى الأهرام المقالة الآتية في ذلك ،
فكان لها تأثير حسن عند علماء الأزهر وغيرهم ، وأثنى لي عليها من أعرف
ومن لا أعرف ، وإنني أنشرها هنا لئلا تضيع وهذا نصها :
( كتاب حيوية الأرض المُصَادَر ، وحقيقة الإسلام )
قرأت اليوم ( غرة جمادى الآخرة ) ما نشر في الأهرام لمؤلف هذا الكتاب ولم
أطلع على ما نشر ( في 27 جمادى الأولى 17 سبتمبر ) من خبر مصادرة الحكومة
له بطلب مشيخة الأزهر ؛ لاشتماله على كفر صريح خلاصته أن الأرض كائن حي
فيه جميع وظائف الأحياء الفنية ، وأن له إلهًا مدبرًا في داخله هو كالمخ في تدبير
حياة الإنسان ، وأن لكل جرم من الأجرام السماوية - من سدم وشموس وكواكب
وأقمار - إلهًا مستقلاًّ كإله الأرض ، وأن كل جماعة من هذه الأجرام تكون وحدة
سديمية لها إله ، وأن للسدم كلها إلهًا واحدًا هو إله الكون كله ، وهو يقيم الدلائل
الفنية على رأيه هذا كما يقول . بل يستدل عليه ببعض الآيات القرآنية بحسب فهمه
لها .
وذكر في مقاله هذا أنه أرسل إلى فضيلة شيخ الأزهر خطابًا مسجلاً أعلن له فيه
استعداده مع السرور لتبادل الرأي معه بشأن الكتاب قائلا له : ( وثقوا أنني لن أهرب
من الحق إذا بدا لي ، ولن أصر على الباطل إذا تبينته ) .
ثم قال في آخر المقال :
( وبعد فإنني لم آسف على مصادرة الكتاب بقدر ما أسفت على وصفي
بالكفر في الوقت الذي أقول فيه ( أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ) ومع
ذلك فإنني أَتَأَسَّى بمصائب غيري . وقد صدق من قال : إن من يرى مصيبة غيره
تهون عليه مصيبته ، والمصيبة التي أمامي هي مصيبة الأستاذ فريد وجدي فإنه لا
لسبب سوى إبداء رأيه في المحكم والمتشابه من القرآن يرميه بالكفر والإلحاد
حضرة مصطفى صبري أفندي شيخ الإسلام بتركيا سابقًا . فما عسى يا ترى ما
سيقوله عني ) ؟ ا هـ .
أقول : إن مسألة مؤلف كتاب حيوية الأرض ( وهو الأستاذ محمد أفندي
النويهي المدرس بمدرسة الأمير فاروق الابتدائية في المنيا ) يجب النظر فيها من
ثلاث جهات : ( 1 ) حكم الدين الإسلامي فيها . ( 2 ) ما يجب على مشيخة
الأزهر فيها وفي أمثالها . ( 3 ) الفرق بينها وبين مسألة الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي التي لم يفهمها ؛ إذ ظن أن شيخ الإسلام كفره بسبب إبداء رأيه في المحكم
والمتشابه لا لسبب سواه .
( 1 ) أما حكم الدين في مسألته ، فإنما يعرف ببيان حقيقتها وهي : رجل
مسلم يشهد أن لا إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وأن القرآن كلام الله ، عرضت
له شبهة علمية فنية اعتقد بها تعدد الآلهة أو الأرباب في الكون على الوجه الذي
تقدم تلخيصه ، ويرى أن اعتقاده هذا لا ينافي إسلامه ، ولا يكذب نصًّا من كلام الله
ولا من كلام رسوله ، بل هو يتأول بعض آيات القرآن ويراها دالة عليه ، فما حكم
الإسلام فيه ؟
الجواب : أن القول بتعدد الآلهة والأرباب المدبرة لأمور الأحياء في الكون
نقض للتوحيد الثابت بنصوص الكتاب والسنة القطعية عليها المعلومة من الدين
بالضرورة ، وأن الشبهة العلمية الفنية التي عرضت لقائله تنافي كونه جاحدًا معاندًا ،
وكونه مكذبًا بالله ولرسوله بالتعمد ، فهو متأول فيما هو كفر قطعي ، فلا يحكم
عليه بالارتداد عن الإسلام إلا بعد دحض شبهته ، وإقامة الحجة عليه بالتوحيد
الخالص ، وهذا أمر يسير غير عسير ، فإذا رجع عنها - وهو المرجو - كان
إسلامه صحيحًا ، وإن أصر عليها - وهو مستبعد - كان مرتدًّا تجري عليه أحكام
المسلمين ، وسأبين بطلان شبهته هذه .
( 2 ) وأما الواجب على مشيخة الأزهر فهو أن تبادر إلى تفنيد أمثال هذه
الشبهات ، وإثبات الحق للجاهل المتأول بالبراهين والبينات ، فالتأول من موانع
تكفير الشخص المعين ، ومجاله في زماننا أوسع ؛ لأن ما كان معلومًا بالضرورة
من قبل لم يعد معلومًا فيه ، وقد تأكد هذا الواجب على رئيسها الأستاذ الأكبر في
هذه النازلة بعرض الحكومة كتاب ( حيوية الأرض ) عليه ، وزاده تأكيدًا ما كتبه
إليه مؤلفه من استعداده ورغبته في البحث معه فيه ، ووعده باتباع الحق إذا تبين له
، وإنما تقوم الحجة عليه بتبين الحق له كما قال الله عز وجل : { وَمَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } ( النساء : 115 )
وقد علم من مقال الرجل أن شيخ الأزهر لم يبال بكتابه ، ولم يطلبه إلى
رحابه ، ولا ندري ما عذره في نظر المسلمين وما يكون عذره عند ربه ، ولا سيما
إذا كان حكم عليه بالكفر كما يفهم من مقاله ، وما أظن أن يتجرأ على هذا التكفير
على إطلاقه ، وهو يسكت على ما هو شر منه ، على أنه لا يجوز السكوت عنه ،
فليت إدارة الأهرام تستخرج لنا قرار المشيخة الرسمي فيه بنصه ، فإنها أقدر من
غيرها على هذا الاستخراج كما علم بالتجارب .
( 3 ) وأما الفرق بين هذه المسألة ومسألة الأستاذ فريد أفندي وجدي فهو بعيد
مما ذكره مؤلف كتاب ( حيوية الأرض ) ومما فهمه خطأ من المقالات التي نشرتها
جريدة الأهرام في مسألة المحكم والمتشابه من الآيات .
كان أول ما تصدى له شيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي من الرد على
محمد فريد وجدي أفندي هو دفاعه عن حكومة الجمهورية التركية إذْ أعلنت رسميا
مروقها من الإسلام واختيارها اللادينية ( لا ييك ) عليه ، وتفضيل القوانين الأوربية
على شريعته ، وإجبار شعبها على ترك التعبد وتلاوة القرآن باللغة العربية وترجمته
باللغة التركية وكتابة ترجمته بالحروف اللاتينية إلخ ؛ ليقرءوا هذه الترجمة دون
القرآن العربي المنزل من السماء كسائر أذكار الصلاة إلخ ، ففريد أفندي وجدي عَدَّ
هذا من التجديد العصري الذي اقتضاه ارتقاء الشعب التركي فأصبح لا يليق به
التشريع الإسلامي العتيق البالي ، وشيخ الإسلام يعتقد كغيره أن هذا في جملته كفر
وارتداد عن الإسلام ممن فعله وممن يقره ويستحسنه .
وتلا ذلك مباحث نشرها فريد أفندي وجدي في جريدة الجهاد عنوانها ( الإسلام
دين عام خالد ) ثم جمعت في كتاب مستقل ، وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف
لعقائده المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة ، وكل ما كان كذلك فهو مروق
من الإسلام الذي درسه شيخ الإسلام في مدارس الآستانة من تفسير وحديث وتوحيد
وفقه وهو عين ما يُدَرَّس في الأزهر ، وفي سائر بلاد الإسلام ، وقد رد على بعضه ،
وهو أولى من كتاب حيوية الأوض بالمصادرة ؛ لأن ما فيه من مخالفة عقائد
الإسلام قد يخفى على الجمهور ، وما في كتاب حيوية الأرض من مخالفة أصل
التوحيد فهو لا يخفى على أحد من المسلمين .
وتلا هذا مقال نشره فريد أفندي في جريدة الجهاد وغيرها عنوانه ( الإسلام
يدعو إلى الأخوة العالمية العامة ، وإلى توحيد الأديان ، وتحكيم العقل والعلم في
العقائد ) وفي آرائه في ذلك ما ينافي الإسلام المعروف في كتاب الله وسنة رسوله ،
وما أجمع عليه المسلمون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، وفريد
أفندي وجدي قد صرح وما زال يصرح أن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون
ينقضه العقل وعلم هذا العصر ، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما يفسره
هو به ، ثم صرح بأنه كشف شيئًا جديدًا في القرآن يمكنه الاستناد عليه في أساس
رأيه ، وهو تحكيم العقل والعلم في العقائد الإسلامية بلا قيد ولا شرط ، وهو الآيات
المتشابهات .
ومما بناه على هذا الأساس أن الآيات ( المعجزات ) التي أيد الله تعالى بها
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعذاب النار الموصوف في القرآن ، كل ذلك
مخالف للعقل والعلم فلا يمكن الإيمان به ( أي على ظاهره ) وإن ما فهم هو به
المتشابهات والمحكمات يبيح لنا عدم الإيمان بذلك كله ، كما تدل عليه آياته فهو من
المتشابهات إلخ ، والمتشابه لا يمس العقائد القطعية ، بل أنكر عليه عدة دعاوى
مخالفة لأصول الإسلام وعقائده هو يدعو إليها ويناضل عنها ، مع علمه بأنه متبع
فيها لغير سبيل المؤمنين ، فهذا هو الفرق بينه وبين مؤلف كتاب ( حيوية الأرض )
الذي خالف عقيدة واحدة بشبهة فنية هو غير جازم بها ، ويصرح بأنه مستعد
للرجوع عنها إذا تبين له خطؤه فيها ، وسأنشر مقالاً في تحقيق الحق في المتشابهات
يتبين به خطأ الإمام الرازي فيما نقل عنه فريد أفندي وجدي ولم يفهمه ، لا رأيه
وحده [1] .
ثم أقول لصاحب هذا الكتاب أن شبهته هذه نظرية فنية هي لم تبلغ أن تكون
من ناحية الفن نفسه عقيدة قطعية لا يمكن نقضها ، وبناء على هذا يصرح بأنه
مستعد للمناقشة فيها من ناحية الدين ، كما أنه مستعد لذلك من ناحية الفن بالأولى ،
فهم ظنية راجحة عنده يقابلها من قطعيات الدين ومن ظواهره الراجحة ما يبطلها
لهذا يجب عليه ترك ما استنتجه منها ، وهو كون المركز الحيوي المُدَبِّر للأرض
هو إلهها أو إله أهلها ، وحينئذ لا يضره في دينه اعتقاد أصل نظريته هذه . وإنني
أذكر له في هذا المقال المختصر عدة مسائل ، أرجو أن تكون كافية لإقناعه بحقيقة
توحيد الإسلام .
( المسألة الأولى ) إذا ثبت أن للأرض مركزًا لتدبير كل ما فيها من نظام أو
حياة فهذا لا يقتضي أن يكون هذا المركز أو ما فيه من مصدر التدبير إلهًا يعبد ؛ إذ
لا يمكن أن يكون هو الرب الخالق العليم القدير الفعال لما يريد الذي يُدْعَى لكشف
الضر عمن يشاء وهبة النفع لمن يشاء كما أن دماغ الإنسان الذي هو مصدر النظام
الحيوي في شعوره ومداركه ليس ربًّا لجسده يستحق العبادة ويُدْعَى لجلب النفع
وكشف الضر ، وإنما رب الناس ملك الناس إله الناس هو الله الذي أثبت المؤلف
أنه رب الكون كله ، وهذا هو اعتقاد الإسلام .
( المسألة الثانية ) أنه قد ورد في نصوص الكتاب العزيز والأحاديث النبوية
أن الله تعالى قد وكل بالعالم ملائكة من عنده لتدبير أموره من السماء إلى الأرض
وقد اتفق مفسرو السلف على تفسير قوله تعالى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } ( النازعات :5)
بهذا النوع من الملائكة ، وفي الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر أنواع منها كالملك الذي ينفخ الروح في الجنين عندما يتم تكوينه في
الرحم ، والملائكة الذين يتعاقبون على الإنسان في تفسير قوله تعالى : { وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } ( الانفطار : 10- 11 ) وفيها ذكر الملائكة
الذين ينزلون في السحاب ، وملك الجبال ، وملك الموت وملائكته وحملة عرش
الرحمن الذي هو مركز التدبير العام للعالم كله كما بيَّناه في تفسير قوله تعالى :
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ( يونس : 3 ) .
فإذا صح بالأدلة الفنية أن للأرض حياة ، وأن لهذه الحياة مركزًا عامًّا فالأقرب
إلى الشرع حمل هذا على ملك من هؤلاء الملائكة المدبرات لأمور العالم ، ويخالف
أصول الشرع وعقائده تسمية ذلك إلهًا ، والدعوة إلى عبادته ، فإذا كان مؤلف هذا
الكتاب مؤمنًا بأن القرآن كلام الله تعالى ، وأن محمدًا رسول الله ، وليس لنا أن نشك
في إيمانه - فيجب عليه أن يتوب من هذه النزغة كما وعد شيخ الأزهر في الخطاب
الذي أرسله إليه بأنه يرجع إلى الحق إذا تبين له ، وإنه لفاعل إن شاء الله تعالى .
( المسألة الثالثة ) أن الأستاذ المؤلف لا بد أن يكون مطلعًا على ما سبق إليه
فلاسفة اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب القديمة الذين كانوا يقولون : إن لكل
شيء عام ذي نظام روحًا هو المتصرف فيه وقد يسمونه ربًّا أو إلهًا ، حتى الأمور
النفسية والاجتماعية ، فيقولون : إله الحب ، وإله الحرب ، وإله البحر إلخ ، وما
قالوا هذا القول إلا استنادًا إلى شبهة فنية كشبهته ، أو تحريفًا لنص ديني مأثور عن
بعض الرسل الذين كانوا قبلهم بلغوا أقوامهم أن لله تعالى ملائكة سخرهم لإدارة
العالم ، وقد علم أن الإسلام أبطل كل أنواع الوثنية القديمة والحديثة ، وجدد عقائد
الأنبياء المرسلين الذين درست بعضهم أديانهم وحُرِّفَ بعض ، فلا ينبغي لمسلم أن
يشتبه عليه شيء منها .
( المسألة الرابعة ) أن ما استدل به على شبهته من تأويل الآيات في مُحَاجَّة
إبراهيم عليه السلام لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب من سورة الأنعام تأويل بعيد
عن أصول الإسلام وعقائده ، وغير مُجْدٍ في إثبات مذهبه المبتدع ، وليراجع معناها
في تفسير المنار .
( المسألة الخامسة ) أن قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب
الناس على قدر عقولهم قد اشتهر على الألسنة أنه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لفظه ( أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم ) وهو لا يصح مرفوعًا ،
بل طرقه كلها ضعيفة ، ولكن روى البخاري من كلام علي كرَّم الله وجهه أنه قال :
(حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) وذكر مسلم في
مقدمة صحيحه أن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه قال : ( ما أنت بمحدث قومًا
حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) ، ومراد الصحابيين الجليلين رضي
الله عنهما مراعاة عقول الناس وأفهامهم في تعليمهم ووعظهم وهو ما اتفق عليه
علماء فن التربية والتعليم في مراعاة درجات طلاب العلم وأسنانهم ، وليس معناه
هنا وهناك أن يعلموهم خلاف الحق أو أن يكتموا الحق عن كل أحد ، ولا أنه يوجد
في كلام الله وكلام رسوله شيء غير صحيح .
ومن يريد أن يكتب في أصول الإسلام والجمع بينه وبين المسائل العلمية
والفنية فعليه قبل كل شيء أن يكون على بينة تامة من كل منهما وما يصح منهما
وما لا يصح ، والأستاذ فريد أفندي وجدي يتدهور أحيانًا في مباحثه لعدم وقوفه على
ما يصح وما لا يصح من الأحاديث أو من معانيها ومعاني الآيات كعَدِّه من أصول
الإسلام في مباحثه الأخيرة حديث ( الدين هو العقل فمن لا عقل له لا دين له )
وحديث ( الدين المعاملة ) ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ولا ذاك ،
ولا يصح أيضًا ما فسرهما به .
هذا ما أراه كافيًا لبيان الحق في شبهة الأستاذ مؤلف كتاب ( حيوية الأرض )
دفعني إليه ما آنسته في كلامه من الإخلاص والرغبة في تمحيص الحقيقة ، فإذا رآه
كافيًا فليحمد الله تعالى ويدعو لي بخير ، وإن بقيت الشبهة متمكنة منه فالذي أراه أن
يقابلني لنتحدث فيها ، فإن اللسان أقدر على البيان من القلم ، والسلام . ا هـ .
( المنار ) لما نشرت هذه المقالة في الأهرام كتب الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي ردًّا عليها نشرته له الأهرام ننشره ونرد عليه لتمحيص الحقيقة ، وما نحن
عليه من حسن النية ، على ما فيه من مدحه لنفسه وكتابه بما لا نصدقه كله . هذا
نصه :
دفع تهم ورد عدوان
من فريد إلى رشيد
قرأت في ( الأهرام ) كلامًا عني للأستاذ رشيد رضا وقرأت في الصدد نفسه
حكمة للجاحظ وهي قوله : ( الصدق والوفاء توأمان ، والصبر والحلم توأمان ،
فيهن تمام كل دين ، وصلاح كل فساد ، وأضدادهن سبب كل فرقة ، وأصل كل
فساد ) فعجبت من هذا الاتفاق ، ورجوت الله أن يجعلنا من أهل الصدق والوفاء
والصبر والحلم .
عهدت الشيخ رشيد رضا مناظرًا عنيفًا ، ولكني ما كنت أعهده كما أراه أخيرًا
مُتَقَوِّلاً متجنيًا يضع قلمه حيث أراد لا يبالي أين وقع ، ولا يكترث أخطأ أم أصاب ؟
هاجمني الشيخ رشيد ، وأنا آمَنُ ما أكون منه آخِذًا عليَّ أمورًا :
( أولها ) ما كتبته في المحكم والمتشابه نقلاً عن ثقات المفسرين فحكم
بخطئي وخطأ إمامهم فخر الدين الرازي .
( ثانيها ) ادعى عليَّ أني أؤيد ما رضيه الأتراك من مبدأ اللادينية ، ومن
إيثارهم القوانين الأوربية على شريعة الإسلام ، ونقل عني أني قلت : إن كل هذا
اقتضاه رقي الشعب التركي الذي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي
(اللهم عفوًا ) .
( ثالثها ) أني كتبت فصولاً في جريدة الجهاد تحت عنوان الإسلام دين عام
خالد وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف لعقائده .
( رابعها ) أني نشرت بالجهاد تحت عنوان الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية
العامة ، وإلى توحيد الأديان ، وتحكيم العقل والعلم في العقائد ، وأن في آرائنا في
ذلك ما ينافي الإسلام .
( خامسها ) أني صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون ينقضه
العقل وعلم هذا العصر ، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما أفسره أنا به
(أعوذ بالله )
( سادسها ) أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار .
( سابعها ) أني استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا يصح عن النبي
صلى الله عليه وسلم .
هذه جملة التهم التي رماني بها :
فأما عن الأمر الأول ، فإني منتظر أن أقرأ فيما وعد بنشره خطئي وخطأ إمام
المفسرين .
وأما عن الأمر الثاني فإني قد كتبت في مجلة الفتح ، وهي الصحيفة التي
رضيها مناظري مجالاً لمساجلتي ، قولي وهو :
( أما ما ذكره الأستاذ ( أريد مناظري ذلك ) من أن الحكومة التركية تمنع
الأذان والصلاة بالعربية ، وتعاقب من يؤديهما بها ، فالجواب عليه هو ما ذكرته
مرارًا ( أريد في الأهرام والفتح ) وهو أن الأتراك في حالة ثورة لم تنته بعد ،
والثورة تدفع إلى كثير من ( الإفراطات ) وضربْتُ مثلا بالأمة الفرنسية التي تجرأت
على حذف الدين أصلاً من مجتمعها في إبان ثورتها ثم أعادته بعد أن هدأت
أعصابها وثاب إليها اتزانها ) .
فهل فهمت من هذا أنني أقررت الأتراك على ما صنعوا ، وقد وصفته بأنه
نتيجة ثورة ، والثورة فيها إفراط وتفريط وغلو ، وشبهت عملهم بعمل فرنسا إبان
ثورتها ؟
فأنا اليوم أطلب إليه أن يأتيني بالأدلة على ما عزاه إليَّ من نص كلامي ،
لأنها تُهَمٌ تضر بمثلي ضررًا لا حدَّ له ، وتحط من كرامتي إلى مدًى بعيد ، وها أنا
أفصل له طلباتي مستشهدًا جميع قراء ( الأهرام ) عليها فإليه :
أ : من أي كلام لي أخذ عليَّ أني أستحسن مبدأ اللادينية ؟
ب : ومن أي قول لي أخذ تفضيلي للقوانين الأوربية على شريعة الإسلام ،
وقد قلت في جميع كتبي بأن شريعة الإسلام أكمل الشرائع ، وأن أوربا لما تصل
إلى مثلها ، وأنها شريعة خالدة تصلح لكل زمان ومكان ، وأن العالم كله سيعول
عليها في المستقبل ؟
ج : ومن أيَّةِ كتابة لي استمد اتهامي بما ذكره عني من أني قلت : إن الشعب
التركي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي ( أستغفر الله ) أنا الذي
أعلنت على رءوس الأشهاد أن العالم المتمدن كله سيؤوب إليها ، ودللت على ذلك
في بحوث مستفيضة ؟
وأما عن الأمر الثالث ، وهو أني كتبت مقالات تحت عنوان ( الإسلام دين
عام خالد ) فيها ما هو مخالف لعقائده ، فإني أرجوه أن يبين لي تلك المخالفات واحدة
واحدة ، وإني لسائله في هذه المناسبة سؤالات أرجوه الجواب عليها .
أ - إن هذه المقالات نشرت في جريدة يومية منذ سنتين فما الذي حمله على
السكوت عليها إلى هذا اليوم ؟ أما خشي أن يفتتن الناس بها ، وقد رأى عشرات
منهم يحبذونني بسببها كتابة على صفحات تلك الجريدة ، ويثنون عليَّ من أجلها
نثرًا وشعرًا ، وأخذ جماهير منهم يتحدثون بحسن وقعها في مجالسهم وأنديتهم ؟ فأي
مانع منعه طوال تلك الفترة من التنبيه على أخطائها ، فأخفى ما في نفسه حتى
جمعت تلك المقالات إلى كتاب تخاطف الناس منه بضعة آلاف وجال جولته في
الآفاق ، وقرَّظته الصحافة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، وشرع في
ترجمته الهنود إلى لغتهم وبعض الجماعات الإسلامية في أوربا إلى الفرنسية
والإنجليزية والجاوية وغيرها ، فهلا دفعه الواجب الديني إلى تدارك ذلك الخطر
قبل استفحاله وتلافيه قبل استشرائه ؟ إنه لم يفعل شيئًا من ذلك ، ولكنه اليوم بعد أن
لم يبق بلد إسلامي في الأرض لم يتناول هذا الكتاب بالإعجاب هب يعلن على
رءوس الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام ، فهلا كانت تلك الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل ، وتدارك الخطأ فيه ميسور إن كان هناك خطأ ؟
هذا الذي حيَّرني من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه عنه بالأمس ؟
ب : لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه ( الوحي المحمدي )
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له فيه من أمثال مباحثي كما جرت به
عادة المؤلفين ، وثار في الأيام الأخيرة يُعْلِم الناس بأني قد شططت فيما كتبت ،
ويجرؤ على أن يتقول عليَّ ما لم أقل ؟
وأما الأمر الرابع ، وهو قول الشيخ رشيد بأني قد نشرت بالجرائد مقالاً تحت
عنوان ( الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية وتوحيد الأديان إلخ ) وفيه ما يخالف
الإسلام الحق ، وقد مرت على نشر ذلك المقال شهور ، فلماذا لم ينبه الناس إلى تلك
المخالفات من نص أقوالي ، وكان هذا واجبًا عليه للمسلمين جميعًا وهو خبير بما
يجر إليه إهماله ؟
وأما الأمر الخامس وهو أني قد صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه
المسلمون ينقضه العقل ، وأنه لا يقبل إلا بما أفسره أنا به ، فهو من أغرب ما يوجه
إليَّ من التهم ، فإني قد صرحت في كتاباتي كلها بأن الإسلام حاصل على جميع
المقومات الأدبية التي تجعله دين الكافة في كل زمان ومكان ، وبأنه في غير حاجة
لإصلاح جديد ، وأن أسلافنا قد قاموا منه على طريقة فنحن ندعو إليها ونشيد
بذكرها ، فأنا أطالب الشيخ رشيدًا بأن ينقل من كلامي ما يثبت هذه التهمة ليطلع
عليه القارئون .
وأما عن الأمر السادس وهو أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار ، فأنا
أكلفه بأن يثبت ذلك من نَصّ أقوالي ، وقد كتبت للأهرام مقالاً قبل نشرها لمقالة
الشيخ بينت فيه مذهبي في ذلك ، وقد نشرته الأهرام اليوم ، فأنا أسمح له بأن يغفله
من حسابه ، وأريده على أن يأتيني بما اتهمني به من أقوالي التي نشرت قبله .
وأما عن الأمر السابع وهو أني قد استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا
يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجيب بأني قد نقلته من المؤلفات المتداولة
في أيدي المسلمين ، فهب أنه لم يصح أليس يؤيد الكتاب معناه ؟
فما هو ذلك الحديث الذي شن عليَّ الشيخ رشيد غارة شعواء من أجله ؟ هو
(الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له ) ألم يقل الله تعالى في الكتاب عن الكافرين:
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ } (الملك : 10-11 ) وهو أنهم ما كانوا يسمعون ولا يعقلون { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ
السَّعِيرِ } ( الملك : 11 ) وقال تعالى : { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } ( يونس : 100 ) وكرَّر سبحانه في الكتاب قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ( البقرة :
44 ) مرات كثيرة ؟ ؟ أليس معنى هذا كله أن الدين هو العقل وأن لا دين لمن لا
عقل له ؟
وكيف يكون على دين قيم من ليس له عقل يفرق به بين الحق والباطل ،
وبين الرشد والغي ؟
ألم يقل أئمتنا : إنه لا بأس من رواية الأحاديث وإن كانت ضعيفة إن وافقت
ما نص عليه الكتاب من كل وجه ؟
وبعد ، فإن الناس اليوم يتساءلون ما الذي يدفع الشيخَ رشيدًا منذ اجتمعت
القوى وتراصت الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه لأن يندس في الجماعة
يفرق وحدتها ، ويجوس خلال الصفوف يخل تلاؤمها ، يطعن في هذا ويُشَنِّع على
ذاك ، ويملأ الصحف كتابات في خلافات لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى
ناحيته لدرء عاديته ، وكف ثائرته ؟
لو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها ،
فكيف وهي في باطل محض لا مبرر له ؟
فهل هو يرى أن هذا الظرف أحسن الظروف لحملته الشعواء على إخوانه
المسلمين ، وللإعلان بأنه هو وحده حامي حمى الدين ، وملاذ اللائذين ؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد وجدي
( المنار )
لما قرأت هذا الرد وما فيه من الدعاوى والتلبيس بادرت على الرد عليه
بمقالتين أرسلتهما إلى الأهرام ، وهذا نص الأولى .
***
آراء فريد وجدي في الإسلام
( كلمة تمهيد عجلى )
في ضحوة هذا اليوم ( 13 جمادى الآخرة 3 أكتوبر ) قرأت في عدد الأهرام
الذي صدر فيه مقالة عنوانها ( دفع تهم ورد عدوان . من فريد إلى رشيد ) وإمضاء
( محمد فريد وجدي ) بسط فيها ما عرضت لذكره في مقالي عن ( كتاب حيوية
الأرض ) من تلخيص ردود الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في آخر عهد
الدولة العثمانية على ما أنكره عليه لمناسبة اقتضت ذلك ولم تكن اتهامًا مستأنفًا مني ،
بل حكاية وجيزة لاتهام غيري .
بسط فريد أفندي التهم المحكية عن شيخ الإسلام في سبع فأنكر بعضها ،
وأجاب عن بعضها ، وسألني سؤالين :
( أ ) السبب الذي حملني على السكوت عن مقالاته التي نشرها في بعض
الجرائد اليومية ( يعني الجهاد ) حتى إذا جمعت في كتاب وصف تخاطف الناس
الألوف منه وشروع الهنود إلى ترجمته بلغتهم إلخ ، هببت أعلن على رءوس
الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام . قال ( فهلا كانت هذه الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل ، وتدارك الخطأ ميسور إن كان هناك خطأ ؟ هذا الذي حيَّرني
من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه بالأمس ) !
( ب ) لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه الوحي المحمدي
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له من أمثال مباحثي كما جرت به عادة
المؤلفين وثار في هذه الأيام ) إلخ .
كلمتي اليوم في الجواب عن هذين السؤالين ؛ لأن الباعث عليهما اتهامي
بسوء النية واتباع الهوى فيما كتبت ، فأنا أنشر ما أبرئ به نفسي من هذه التهمة
لأن رأس مالي وأساس عملي هو الإخلاص لله وحده فيه فأقول :
( 1 ) إنني كنت أتصفح بعض مقالات ( الإسلام دين عام خالد ) في جريدة
الجهاد ؛ إذ كانت تلقى إليَّ في أول النهار وأنا منهمك في عملي من تفسير القرآن
والفتاوى للمنار وغيرها ، ثم صدرت في كتاب مستقل في أثناء سنة 1351 وأما
كتابي ( الوحي المحمدي ) فقد شرعت في نشر مباحثه في المنار في شهر المحرم
من هذه السنة 1351 وهي ملخصة مما نشر قبل هذه في تفسير المنار ، فأنا لم
أكتب هذه المباحث بعد نشر كتابه ( كما زعم ) فيقال لماذا لم أضمنها الرد عليه
على فرض أنني أستحسن ذلك ؟ وإنني لم أعلم شيئًا مما ذكره من الإعلان لكتابه
هذا فيكون حسدي له هو الباعث على الكلمة التي لخصتها من ردود شيخ الإسلام
عليه .
( 2 ) إنه لما أصدر الكتاب ووصل إليَّ نسخة منه فصارت المقالات
مجموعة عندي يمكن الرجوع إليها بادرت إلى تقريظه في جزء المنار الذي صدر
في شهر ذي الحجة من السنة نفسها 1351 ثم فيما بعد هذا الجزء وأثنيت على ما
فيه من محاسن وانتقدت ما فيه من شذوذ ومساوئ بالإجمال ، ووعدت بتفصيل النقد
والرد بعد أن يتيسر لي مطالعة الكتاب كله ، وأشرت في الرد المجمل إلى مبلغ علم
فريد وجدي أفندي بالإسلام ، وما سبق له قبله من الشذوذ ومخالفة ما أجمع عليه
المسلمون .
فلا وجه لما زعمه من تحيره وتحير جميع الذين قرأوا ما كتبته عنه بالأمس
ولا أدري من أين علم بتحيرهم جميعهم ، بل أدري أنه يقول بغير علم ، وكل من
يرى منه هذه الدعوى يوافقني على هذا ؛ لأنه ضروري .
( 3 ) إنني ذكرت في أول تقريظي ونقدي للكتاب ما كان بيني وبين فريد
وجدي أفندي من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى لهجرتي إلى مصر ( 1315هـ -
1898م ) ثم ما كان من تخالف ونقد ، ثم قلت : ( ونحن قد أمسكنا عن الرد على
ما نراه أحيانًا في كتبه وفيما ينشره في الجرائد ؛ لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل
المذموم أو لما هو شر منه ) .
وأزيد على هذا أنني أكره نشر الجدل الديني في العقائد في الجرائد اليومية لما
يحدثه من الاضطراب والشكوك في إيمان ضعفاء العلم والإيمان ، ولذلك أكتفي غالبًا
في بيان ما أعتقده من بيان الحق وإبطال الباطل على ما أنشره في مجلة المنار ،
ولا أنشر شيئًا من ذلك في الجرائد اليومية إلا لضرورة .
( 4 ) إذا رأيت شيئًا من الباطل في بعض الجرائد ثم رأيت غيري رد عليه
أحمد الله وأشكره أن قام بالواجب الكفائي غيري ، ومنه رد الأستاذ التفتازاني على
فريد أفندي وجدي في مسألة ترجمة القرآن والتعبد بها وما فيها من مخالفة الإجماع
لرأي شاذ منقول عن الإمام أبي حنيفة خالفه فيه جميع أصحابه وعلماء مذهبه ونقلوا
عنه الرجوع عنه ، ومنه رد شيخ الإسلام مصطفى صبري عليه في هذا الموضوع
وغيره مما هو موضوع كلامنا الآن . على أنني قد بينت الحق في هذه المسائل كلها
في المنار وفي تفسيره من قبل ذلك الجدل الذي أكرهه في الجرائد ، فقراء المنار لا
يخشى عليهم أن يضلوا مع الضالين فيها ، وليس في استطاعتي أن أنشر في كل
جريدة ردًّا على ما ينشر فيها مخالفًا لدين الحق ، وأنا وحيد في تحرير مجلتي
وتصحيحها ، وفي تأليف التفسير وغيره من الأعمال العلمية والإدارية وغيرها ،
وإنما القادر على القيام بهذه الواجبات شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بما عنده
من العلماء والكتاب الموظفين .
( 5 ) إنني قد أنحيب في تقريظ هذا الكتاب ونقده باللائمة على شيخ الأزهر
وهيئة كبار العلماء فيه ومجلته الدينية التي هي لسان حاله أن يسكتوا على مثل هذا
الإلحاد في الإسلام ، ثم قلت في آخر الصفحة 240 من مجلد المنار 33 ما نصه :
( 6 ) وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة ( أي مجلة نور
الإسلام ) إذ لقيته في دار سفارة الدولة الأفغانية - وكان قد نشر في المجلة مقالاً في
الانتقاد على فريد أفندي وجدي . قلت له : إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد
على مجلتكم ، وإن الثناء عليها من فئة لا تخلو من بعض الأزهريين والسكوت
عليها منكم ومن سائر العلماء يتضمن نقض نقدكم ، وترجيح فهمه للإسلام على
فهمكم الذي هو فهم المشيخة الرسمية وأتباعها ، فسكت ، وكلمت أيضًا من لقيت من
علماء الأزهر في هذا المعنى ) .
فعلم من هذا أنني لم أسكت عن الإنكار على مقالات ( الإسلام دين عام خالد )
بل سعيت إلى دحض باطلها من أقوى الطرق قبل أن أنتقدها في المنار ، وقبل أن
تجمع في كتاب تتخاطفه الأيدي إلخ .
( 7 ) وأقول الآن : إن كلامي هذا مع الأستاذ العلامة الشيخ محمد الخضر
رئيس تحرير مجلة نور الإسلام لسان مشيخة الأزهر قد كان في العام الماضي .
وأما من تكلمت معهم من العلماء في الموضوع فكانوا أشد مني إنكارًا على تلك
المقالات ، وعلمت أن بعضهم كلم أصحاب الشأن في تلك الجريدة وبيَّن لهم أن
الخطأ فيها من وجوه منها ما هو في القرآن نفسه ، وعلمت أخيرًا أن أحدهم عرض
على الجريدة أن تنشر له مقالات في الرد على فريد أفندي وجدي في كتابه هذا وفي
تفسيره ودائرة معارفه فلم تقبل منه ذلك .
( 8 ) إن كتابي ( الوحي المحمدي ) يتضمن الرد على ما أنكرته في كتابه
( الإسلام دين عام خالد ) بطبيعة موضوعه كما تقدم ، وأستشهد على هذا بنقل ما يأتي
من آخر صفحة240 من مجلد المنار 33 وهذا نصه :
( وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في
حقيقة الوحي المحمدي وحجة القرآن على البشر الذي نشرت أكثره في المنار
وطبعته في كتاب مستقل ، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل ،
ومنه تفسير دين الفطرة . فلما أهدي إليَّ الكتاب أي ( الإسلام دين عام خالد ) صار
من الواجب عليَّ أن أعجل بهذا النقد له قبل ظهور كتابي ( الوحي المحمدي ) ا هـ .
فعلم بهذه المسائل والشواهد بطلان ما اتهمني به فريد أفندي من أنني سكتُّ
على منكراته عند نشرها وهببت اليوم للرد عليها ، وإن الحق الواقع أنني أنكرت
عليها عقب علمي بها في وقته ، وأنني لم أذكرها في مقالي الأخير الخاص بمسألة
( كتاب حيوية الأرض ) إلا عرضًا لتخطئة صاحب هذا الكتاب في زعمه أن شيخ
الإسلام التركي كفَّر فريد أفندي لرأي رآه في تفسير المتشابهات وأنني لخصت في
هذه التخطئة ما حفظته من ردود شيخ الإسلام عليه من باب الحكاية ، فإن ظهر عند
البحث التفصيلي في هذه المسائل أنني أخطأت في شيء مما فهمته من ردوده أو من
كلام فريد نفسه فإنني أستغفر الله منه ، وموعدنا في هذا ما بعد هذه الكلمة التمهيدية
العجلى .
وبعد : فإن فريد أفندي قال في آخر مقالته هذه : ( إن اليوم الناس يتساءلون
ما الذي يدفع الشيخ رشيد منذ اجتمعت القوى ، وتراصت الصفوف لحماية الدين
ودفع الشبهات لأن يندس في الجماعة يفرق وحدتها ، ويجوس خلال الصفوف يخل
تلاؤمها ، يطعن على هذا ويشنع على ذاك ، ويملأ الصحف كتابات في خلافات
لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى ناحيته ؛ لدرء عاديته ، وكف ثائرته ،
ولو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها ، فكيف
وهى في باطل لا مبرر له ) ا هـ بحروفه .
ما هذه القوى التي كانت متفرقة فاجتمعت ، وأين هذه الصفوف التي كانت
متصدعة فتراصت ، وأية حماية للدين ودفع للشبهات ظهرت من جهاد هذه
الصفوف ، وهجوم قوى هذه الزحوف ، حتى وجب ترك الحق الصراح لأجلها ؟
إننا والله لم نر من ذلك شيئًا ، ولا سمعنا له نبأ ، ولكننا عهدنا مثل هذه الجَعْجَعَة
والدهدهة من مثيرها ، فهي لا تخيفنا ، على أننا ما استحدثنا شيئًا جديدًا كما علم من
مقالنا هذا ، ولا خطر في بالنا تحويل طوائف من المسلمين إلينا بذلك ! !
قال فريد أفندي وجدي : إنني هاجمته آخذًا عليه سبعة أمور أخذها من مقالي
في كتاب ( حيوية الأرض ) وطالبني بالأدلة من نص كلامه ليطلع عليه العارفون .
أي وليطلعوا على ما يرد به عليها بالطبع .
ثم إنه يدعي بعد ذلك أن الناس يتساءلون عن الدافع لي إلى كتابة مثل هذا وقد
أبهمه وكبره ، وقال : إني ملأت الصحف به ( منذ اجتمعت القوى وتراصت
الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه ) ووصفه بما نقلته بنصه في آخر مقالي
التمهيدي الأول ، ومنه أنه كان يجب عليَّ تهدئة هذه الثائرة في هذه الظروف لو
كانت في حق صُرَاح ! !
فما باله إذًا يفتح على نفسه بابًا واسعًا أو أبوابًا لنشر ما ننكره عليه من
مخالفته لأصول الإسلام وفروعه ، والظاهر أنه يعني بجمع القوى وتراص
الصفوف مشروعًا جديدًا هو قائد جيشه ورئيس أركان حربه ، وإن لم ير أحد جنديًّا
واحدًا منه ، ولا هجمة على ملحد ولا مبتدع .
فهذا شيخ من كبار الأزهر يكفر من يؤمن بكذا من ظاهر القرآن ويطعن على
أئمة السنة الأعلام [2] وهؤلاء القاديانية يدعون جهرًا إلى مسيحية مبتدعة في
الإسلام وبقاء النبوة بعد محمد خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهذا
مؤلف ادعى أن للأرض إلهًا مستقلاًّ يجب على أهلها عبادته وأن لكل كوكب ونجم
مثل ذلك ، وللعالم كله إلهًا واحدًا ، وفريد أفندي وجدي يقول مثل قوله هذا إلا أنه
يعبر بالأرواح لا بالآلهة ، وهذا مقبول ويعبر عن رب العالمين بروح الوجود العام ،
وهذا مردود ، فإنه يشبهه بالبحر المحيط ، ويزعم أن سائر الموجودات سابحة فيه
كالحيتان فمن الذي رد عليهم .
الظاهر لنا أن الإسلام الذي عبأ هذه الصفوف ورصَّها للدفاع عنه هو إسلامه
الذي بيَّنه في كتابه ( الإسلام دين عام خالد ) بعد أن بينه في دائرة معارفه ، وهو
غير الإسلام الذي يعرفه علماء المسلمين في الأزهر وملحقاته من المعاهد الدينية
وفي سائر بلاد الإسلام ، وإنما هو إسلام يقرر بأنه لا وجود له في الخارج ، وأنه
يستحيل عقلاً أن يوجد إلا بعد أن يرتد جميع مسلمي الأرض عن إسلامهم ويصير
الباقون على عقائده وتقاليده كالذين ألحدوا وارتدوا عنه في كفرهم ومروقهم فبعد ذلك
يقبلون أصول دين القرآن التي هي الإسلام وحدها في رأيه .
فعلى هذا لا يمكن أن يكون جمع القوى ورص الصفوف للدفاع عن دين
المسلمين المعروف أو الموجود ؛ لأنه في رأيه باطل يجب زواله والانملاس منه
كما فعل نصفهم إلا أن يكفر الجميع ويتخلصوا من جميع علاقات الإسلام القديم .
وسأنقل عبارته في هذا الموضوع بحروفها [3] .
وإنما ذكرت هذا لأبين له أن الخلاف بيننا وبينه في حقيقة الإسلام وحقيقة
شريعته ، فالمناظرة في بعض الفروع التي أنكرناها عليه بالإجمال وبناؤها على ما
طالبنا هو به من نقل نصوصها وحصر البحث فيها مناظرة عقيمة يطول أمرها
بغير طائل ؛ لأنه يستطيع أن يجادلنا فيها عدة أشهر كمجادلة الأحزاب السياسية في
مبادئها ونصر زعمائها ، فقد رأينا منهم من كتبوا مقالات في الزعيم المصري
الكبير الشهير هبطوا به فيها إلى أسفل سافلين ، ثم كتبوا فيه مقالات أخرى رفعوه
بها إلى أعلى عليين .
فيجب إذًا تحديد المسائل التي ننكرها من آراء فريد أفندي وجدي في أصول
الإسلام وحقيقته ، ثم أن نرجع إليها بعض الفروع المبنية عليها ، مثال ذلك أنه كتب
مقالات كثيرة في الدفاع عن حكومة الجمهورية التركية فيما فعلته موافقًا لشرطه في
إمكان وجود الإسلام الذي يفقده ، وهو مروقها وارتدادها عن الإسلام الذي كان هو
الدين الرسمي للدولة ، واستبدالها بالشريعة الإسلامية قوانين أوربة إلخ .
فالذي يحل النزاع بيننا وبينه بل بين المسلمين وبين كل من يدافع عن هذه
الحكومة هو أن يصرح لنا فريد أفندي وجدي بحكم دين الإسلام الحق عليها هل هي
مارقة منه مرتدة عنه أم لا ؟ وهل هي مُصِيبة في هذه الردة والكفر بحسب رأيه في
شرط إمكان الرجوع إلي الإسلام الحقيقي الذي يفهمه هو ؟ أم هي ضالة عنه مضلة
لمن يتبعها في ردتها ؟
ولا يقنعنا في جوابه عن دفاعه عنها أنه قال في بعض جداله للمعترضين عليه :
( إن الحكومة التركية في حالة ثورة كالثورة الفرنسية لا تخلو من إفراط وتفريط )
فهذه المسألة ليست محل نزاع في جملتها ، ولا في كل عمل من أعمالها السياسية
والعسكرية والإدارية والاقتصادية ، ولا في فرع واحد من فروعها الدينية كترجمة
القرآن وتحريم قراءته بالنص الذي نزل من عند الله ، بل النزاع في الأصل الديني
العام ، وهو الارتداد عن الإسلام .
وأضرب مثلا آخر للمناظرة أو المجادلة في المسائل الفرعية ، وهو ما أجاب
به عن إنكاري عليه الاستدلال على دعاويه في أصول الإسلام بالأحاديث التي تصح
لها رواية في كتب السنة أو ما حكمت عليه هذه الكتب بالضعف والإنكار أو الوضع
أي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فريد أفندي وجدي يكثر من الاحتجاج بهذه الأحاديث في مسائل تتعلق بأصول
الإسلام ، وقد وجد في عبارتي الأخيرة التي أنشأ يرد عليها حديثين منها ، أكثر من
ذكرهما في مقالاته الأخيرة وهما جملة ( الدين العقل ... ) وجملة ( الدين المعاملة ) .
فأجاب عن الأول دون الثاني من ثلاثة وجوه : ( أحدها ) أنه نقله من
المؤلفات المتداولة في أيدي المسلمين . ( والثاني ) أنه إن لم يصح فإن القرآن يؤيد
معناه ( والثالث ) أن أئمتنا قالوا : ( إنه لا بأس من رواية الأحاديث ( كذا ) وإن
كانت ضعيفة إن وافقت ما نص عليه الكتاب من كل وجه ) .
وهذه الوجوه حجة عليه لا له ، وبيانه من وجوه ( 1 ) إن الكتب المتداولة
بين أيدي المسلمين فيها الأحاديث الباطلة والموضوعة فلا يجوز لمن يريد الاحتجاج
في أصول الدين ولا فروعه أن ينقل من كل كتاب متداول بين الأيدي أي حديث فيه ،
وإنما يجب النقل عن كتب صحاح الأحاديث أو ما دونها من الكتب التي تخرج ما
فيها وتبين درجته ، بل أفتى حفاظ السنة وفقهاؤها بأنه لا يجوز هذا للخطيب ونحوه
فضلا عن المستدل . سئل عن هذا شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فأجاب جوابًا قال
فيه : ( وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه
من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك ، ومن فعله عزر
عليه التعزير الشديد ) إلخ ( راجع ص 32 من الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي).
( 2 ) إن آيات الكتاب التي أوردها لا تؤيد معنى الحديث الذي فسره هو به
وهو وجوب تحكيم عقول الناس في نصوص كتاب الله وفي سنة رسوله ، فهذا
المعنى من الأصول التي خالف فيها فريد أفندي وجدي جميع أئمة المسلمين كما
سنبينه بالتفصيل .
( 3 ) إن رواية الأحاديث الضعيفة جائزة ، وإن لم تكن موافقة لما نص عليه
الكتاب من كل وجه كما قال ، ولذلك رواها الحافظ في المسانيد وكتب السنن ،
والفرق كبير بين روايتها بأسانيدها وبين نقلها بدون رواية ولا معرفة للاستدلال بها
على أصول الدين كما يفعل فريد أفندي وجدي كثيرًا .
( 4 ) إن أصول الدين وعقائده إنما تؤخذ من نصوص القرآن القطعية ، ومن
الأحاديث المتواترة التي تفيد القطع ، دون الأحاديث الأحادية التي لا تفيد إلا الظن
لقول الله تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً } ( يونس : 36 ) وغير ذلك
من الآيات التي بمعناها . وأما الأحاديث الضعيفة فلا يحتج بها على أحكام الطهارة
والنجاسة فضلاً عن عقائد الدين وأصوله . وفريد أفندي يحتج بما دونها على أصول
الإسلام وهي الأحاديث الموضوعة .
فلا بد قبل الشروع في مناظرته في آرائه في الدين من الاتفاق على طرق
الاستدلال في هذه المناظرة كالاتفاق على المسائل الأصلية التي يجب البدء بها ؛
لأن غيرها تابع لها ، وكل ما ذكرته هنا فهو من باب المثال ، لا لجعله موضوع
البحث والجدال .
وإن لديَّ الآن كتابه الجديد في الإسلام ومقالاته التي كتبها بعده . وقد
استحضرت في هذه الأيام دائرة معارفه المملوءة بالأغلاط الدينية والعلمية
والتاريخية كغيرها من كتبه ، فأبدأ بتلخيص آرائه المنكرة مما عندي ، ثم أراجع
مقالاته التي رد عليها الأستاذ التفتازاني والأستاذ مصطفى صبري في دار الكتب
المصرية عند الحاجة إليها . وكتبه في 15 جمادى الآخرة - 5 أكتوبر .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
اقتراح
قبل إرسال هذا إلى الأهرام ألقي إليَّ جزء مجلة الأزهر لهذا الشهر فوجدت فيه
أن الأستاذ فريد أفندي وجدي قد عُيِّنَ مديرًا ورئيس التحرير لهذه المجلة فأقترح عليه
أن تكون المناظرة فيها ؛ لأنها أولى من الجرائد اليومية ومن غيرها بذلك .
... رشيد رضا
هذا ما نشرته في جريدة الأهرام وكنت متوقعًا أن يجادل فيه فلم يفعل ، ولو
فعل لما أغنت عنه الوظيفة الجديدة من شيء ، وإن اغتر بها وتفنج وظهر أنها هي
مراده بتراص الصفوف الذي تهكمنا به ، وبعد أن علمت بخبر جعله رئيسًا لمجلة
مشيخة الأزهر فقد كتبت فيه ما يلي للجزء الماضي فحال دون نشره فيه ما هو أهم
منه .
***
رياسة فريد أفندي وجدي لمجلة
مشيخة الأزهر ( نور الإسلام )
قد خاب أملي وسعي لجعل هذه المجلة في أعلى درجة تدخل في حدود الإمكان ،
بما يليق بشرف الأزهر ومكانته في الإرشاد وبث العلم والإصلاح ، ذلك السعي
الذي بدأته بذلك التقرير الذي اقترحه عليَّ الأستاذ المصلح الشيخ محمد مصطفى
المراغي في عهد رياسته لمشيخة الأزهر ومعاهده ، وقفت عليه بتقريظي ونصائحي
لها بعد ظهورها في عهد رياسة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فكانت
أسوأ مظهر لإدارته للأزهر ولعلم الأزهر ، إذ أراد أن يجمع بها بين البدع
والخرافات القديمة لإرضاء العوام الذين تربوا كتربيته في جحور المشاهد ، وحجور
الموالد ، وبين إدخال الأزهر في مأزق التفرنج إرضاء للمتفرنجين من رجال الدولة
وأمثالهم ، كما بينته في ردي على بدع المجلة ، وعلى ما افترته عليَّ بالتفصيل ،
وأجملته في مقدمة كتاب ( المنار والأزهر ) .
وقد تبعني في ردي على هذه المجلة وعلى المشيخة كثير من علماء الأزهر
وغيرهم فنشروا في الجرائد مقالات كثيرة في مساوئ إدارة الشيخ الظواهري
وسيرته فيها ، وفي الرد على المقالات والفتاوى التي يحررها لسان حاله الشيخ
يوسف الدجوي ، ولم يوجد أحد من الأزهر ولا من غيرهم يدافع عنهما ، فصارت
المجلة محتقرة مبتذلة منبوذة عند جميع الطبقات الراقية من الدينيين والمدنيين ، ولم
يحل دون ذلك جعل الأستاذ الشيخ محمد حسين الخضر التونسي رئيسًا لتحريرها
على أدبه واعتداله ؛ لأن رياسته كانت اسمية وإرادته ضعيفة ، فلم يستطع الامتناع
عن نشر الخرافات وتأييد البدع فيها ، وهو يرى أن الدجوي ينطق بلسان رئيسه
ورئيسها ، ولم تفدها إدارة عبد العزيز بك محمد من رجال القضاء الأهلي أيضا ؛
لأنه ظهر أنه أقرب إلى مذهب الظواهري والدجوي ومشربهما منه إلى إصلاح
الأستاذ الإمام الذي كان ينتمي إليه في حال حياته .
وأخيرًا رأى بعض أصحاب النفوذ العالي في الأزهر أنه لا سبيل إلى جعل
هذه المجلة مقبولة في نظر الطبقات العليا والوسطى من المسلمين ، إلا بتولية أمر
إدارتها وتحريرها لرجل من الأفندية العصريين ، لا صلة له بالأزهر بسبب ، ولم
يأخذ عنه شيئًا من علم ولا أدب ، فاختير لذلك الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي
وجدي فولاه شيخ الأزهر الرياستين للمجلة في مكان عبد العزيز بك محمد والشيخ
محمد خضر براتب كراتبيهما ، فكان هذا كإفتاء وقضاء رسميين على تعليم الأزهر
وكفاءته وكفايته بأنه لا يوجد في خِرِّجِيه أحد يصلح لهاتين الرئاستين كلتيهما ولا
لإحداهما ، وهما يؤيدان انتقادنا الأدبي النزيه المتواضع على التربية والتعليم فيه
واقتراحاتنا الكثيرة لإصلاحهما منذ 35 سنة ، على أننا لم نقل فيهم قولاً في معنى
هذه الفعلة من رئيسهم .
وقد كان من مثار العجب أن تولية الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي لهاتين
الرياستين قد جاءت في إثر مقالات للعلامة الشيخ مصطفى صبري آخر من تولى
مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية في الطعن على بعض آرائه في بعض أصول
الدين وفروعه نشرت في جريدة الأهرام ، ومنها مسألة ترجمة القرآن التي أيد كبار
شيوخ الأزهر رأي شيخ الإسلام فيها بالحق على رأي فريد أفندي ، وبعد انتقاد
مجلة المنار على كتاب فريد أفندي ( الإسلام دين عام خالد ) وبيان ما فيه من
مخالفة العقائد الإسلامية والاستدلال عليها بالأحاديث الموضوعة ، وذكر بعض هذا
الانتقاد عرضًا في مقالة لنا نشرتها جريدة الأهرام ، فأجاب عنها فريد أفندي في
مقالة ففندت رده في مقالتين ، ونشر الثلاث الأهرام ثم سكت وسكتنا ، بل جاءت
هذه التولية بعد رد على آراء فريد أفندي وجدي في مجلة نور الإسلام نفسها بقلم
رئيس تحريرها ، وإنما نذكر هذا هنا لبيان غرابة توليته لرياستي مجلة الأزهر في
هذا العهد ، وفي هذا الحال ، وليس في الأزهر من معقول ولا مُحَال .
على أنه قد ظهر أول جزء من مجلة المشيخة بعد توليه لرياستها خاليًا من
مقالات الدجوي وفتاويه الخرافية والبدعية . وبلغني من بعض علماء الأزهر
المطلعين أن الدجوي جاءه بمقالتين كعادته إحداهما في تأييد خرافات القبور التي
يعبر عنها كأمثاله باسم ( التوسل ) والأخرى في الرد على بحث للمنار في حديث
الذباب وكون أحد جناحيه داء ، والآخر دواء فردهما له أو عليه .
فهذا أول إصلاح سلبي في تطهير المجلة له قيمة كبيرة فنشكره له ، وقد بينا
في تقريظ كتابه المذكور في المنار ما له من مقالات نافعة للمسلمين وما يمكنه أن
ينفعهم به إذا لم يتعده إلى الخوض في العقائد وأصول الدين . ونسأل الله تعالى أن
يوفق مشيخة الأزهر لكل ما فيه النفع للمسلمين .
__________
(1) تقدم في تفسير [ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ] (يونس : 39) في الجزء الخامس تحقيق المراد من التأويل في القرآن وبين خطأ الرازي فيه .
(2) هو الشيخ يوسف الدجوي نشر مقالة قال فيها : إن من يؤمن بقوله تعالى : [ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ ] (الملك : 16) على ظاهرها فهو كافر ، وقد رددنا ضلالته هذه في الجرائد .
(3) كنت أريد نقل عبارته في هذا المعنى من دائرة معارفه وفي المقالة التي بعد هذه ولكن الأهرام أقفلت الباب وسكت هو عن الرد .
(33/513)
 
رمضان - 1352هـ
ديسمبر - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا

دائرة المعارف الإسلامية
ترجمة سيدنا إبراهيم فيها

كنت وعدت بنشر ما في ترجمة سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم من
هذه الدائرة ، والرد على ما فيه من الخطأ المخالف للقرآن العظيم ، وما أخطأ به
الأستاذان الدجوي ووجدي في ردهما عليها . ثم رأيت كثيرًا من الكتاب كتبوا في
الموضوع ومنهم من رد عليهما في الجرائد والمجلات فاكتفيت بذلك في تنبيه
الجماهير ، وإن كان ما اطلعت عليه مما نشر لم يُحِطْ بالمسألة من كل ناحية ، ومن
غريب الجهل أن يعد بعض المسلمين ما في سفر التكوين من أسفار العهد القديم من
توراة موسى عليه السلام ، ويرى أن أخباره أصول مسلمة يجب تأويل ما يخالفها
من آيات القرآن ، والحق أن التوراة هي الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى موسى
عليه السلام وقد عرض لها التحريف ، وإن سفر التكوين ليس منها ، ولا يعرف
مؤلفه وقد ألف الأستاذ جبر ضومط من أساتذة الجامعة الأميركانية في عصرنا كتابًا
رجَّح فيه أن مؤلفه يوسف عليه السلام ، وأغرب منه قول بعض المفسرين بإجماع
المؤرخين على أن اسم أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم تارح لا آزر ، وزعم
بعضهم أن آزر عمه . وقد فصَّلنا هذه المسألة في تفسير المنار .
((يتبع بمقال تالٍ))
(33/630
 
شعبان - 1353هـ
ديسمبر - 1934م
الكاتب : محمد رشيد رضا
غاية مصطفى كمال من مراحله

لما علمت أن مصطفى كمال باشا صرح بأن له غاية يجري إليها في مراحل
مقدرة ، ورأيته قطع ثلاث مراحل منها ، أيقنت بالحدس المنطقي أن غايته أن
يؤسس بالجمهورية التركية اللادينية دولة جديدة وقد فعل ، وأمة جديدة تسمى تركية
إلى أن يتم تكوينها ، ثم تسمى باسمه فهو يقبل دخول كل عنصر فيها إذا قبل
مقوماتها ومشخصاتها التي يقترحها وينفذها بالقوة ولغة جديدة غير اللغة التركية
المعروفة في تركستان وفي الأناضول ؛ ولكنها مركبة منهما ومن اللغات اللاتينية ،
ولا سيما الفرنسية ، وتكتب بحروفها حتى إذا نشأ عليها وحدها جيل جديد بعد الجيل
الأول المخضرم نسبت إليه ، وتنقطع الصلة بين هذه اللغة وجميع لغات الشرق
الإسلامية ، ولا سيما العربية التي سبقه ملاحدة الاتحاديين إلى مناوأتها ، وأقدم هو
وحده على الإجهاز عليها وقطع دابرها من الشعب التركي في مراحل خاصة بها ،
وهو يعتقد أنه لا يتم له الإجهاز على الدين الإسلامي ومحو جميع آثاره من هذا
الشعب إلا بذلك ، ويظن أنه متفق مع زعماء البلاشفة على الانتهاء إلى الإلحاد
والتعطيل بيد أنه يلوح لي أنه إن طال عمره وبلغ آخر هذه المرحلة ؛ فإنه يضع
لهذا الشعب الذي سينسب إليه دينًا جديدًا مستمدًّا من الديانة الطبيعية التي وضعها
لأوربة بعض فلاسفتها ، فاستحسنها جميع شعوبها وعدوها موافقة للعقل والحضارة
والسياسة ؛ ولكن لم يتدين بها أحد ؛ لأن مصدر الدين الموافق للفطرة لا بد أن يكون
سلطانه غيبيًّا فوق سلطان العقل البشري ؛ لأنه هو ملجؤها في كل ما تعجز عنه
عقول البشر في الدنيا ، وهو وجهتها الروحانية إلى ما تجنح له وترتقي إليه من
عالم الغيب .
يظن المعطلة الماديون أن الأنبياء المرسلين هم الذين وضعوا الأديان التي
دعوا إليها ، فيزين لبعضهم غرور القوة إمكان محوها ، ولبعض آخر أن يخضعوا
أقوامهم الضعفاء إخضاعًا تعبديًّا كما يخضعونهم إخضاعًا سياسيًّا واجتماعيًّا ، ولا
تزال أكثر شعوب البشر ضعيفة قابلة لتجارب عجيبة كتجارب البولشفيك في
الروس ، ومصطفى كمال في الترك ، ولكل بداية غاية ، وكل شيء بلغ الحد انتهى.
(34/478)
 
ربيع الأول - 1354هـ
يوليو - 1935م
(35/)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الخامس و الثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (التوبة : 105) .
{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ } (يوسف : 87).
{ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ } (الحجر : 56).
نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد 35
من المنار المجلد 13 من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي ، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا
بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب
عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن ، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من
كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتنفيذه ؛ وسنة
خلفائه الراشدين في فتوحه ، وتأسيس دولته ، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة
الأجناس واللغات ، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات .
وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك :
أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن :
في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه ، ونشأ جيل آخر:
انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله ، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى
دخول الأرض المقدسة ، التي كتبها لهم ، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها :
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (المائدة : 24) ، ونشأ جيل جديد أخذ
التوراة بقوة ، ودخلوا البلاد ، ففتحها الله كما وعدهم .
وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله
عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة ، فقد ربَّى الجيل الأول
من قومه بالقرآن من أول يوم ، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر
سنين ، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين ، وفتح خلفاؤه من بعده ملك
كسرى و قيصر في عشرين سنة ، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ
لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في
الشرق ، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية .
بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي ؟ ما
فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة ، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة ، وكان تأثير كل
من الكتابين بقدْره : التوراة هداية لشعب صغير ، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم
ففتحوه ، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم ، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض
فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر ، ثم سلب ملكهم ببغيهم . والقرآن
هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل ، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها : { وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض } (الأنعام : 165) { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } (النور : 55) ووفَّى لهم بما وعدهم في
أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر
لله ، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية .
ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم .
ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام -
بل أمة دعوته جميع البشر ، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته،
وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين ، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة،
لا خاص مؤقت محدود .
فتح العرب العالم بالقرآن :
إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما
فتحوا أكثر الشرق ، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة
من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن
لا بقوة السيف والسَّنان ، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان ، ودون
قوة الفرس ، اللتين كانتا أقوى دول الأرض ، وكان يدين لهما كثير من
العرب المجاورين لبلادهما ، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن
القوط ( والإسبانيول ) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب ،
ومن الهنود في الشرق ، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه
الأقطار ، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح
السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف ، فهو
تعصب ظاهر ؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد
وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام ، وبه سادتها كلها ؛ وما هو إلا نور
القرآن.
عصر الصحابة ومنتهى علمهم :
إن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي
العظيم العادل الرحيم ، فيما يسمى العالم القديم ، وكان أكثرهم أميين ، لم يكن عندهم
كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده . وما كانوا يعتمدون في
فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هداية
القول والفعل ، وهو سنته وهديه ؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن
والسنن والآثار ؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام ، وعملاً
وتخلقًا به ، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وفتحًا للأمصار ، وحكمًا بين
الناس بالحق والعدل ؛ وقلَّ فيهم الأميون ، وكثر المتعلمون ، ولكن لم يكن في أيديهم
كتاب غير القرآن ، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها ، ويهدون به غيرهم من
الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا . ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه
هدى وصلاحًا ، وعلمًا وعدلاً ، وأدبًا وفضلاً .
عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم :
وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع ، بيد أنهم لم يتخذوا
منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء
حكومتهم وسياستها ، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه ، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة
والقضاء ، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا
تختلف فيها الأفهام والآراء : اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة ،
واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة ، مع
مراعاة الشورى فيها ؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله ، وناهيك بكتب عمر
وعلي إلى عمالهما : ككتاب عمر إلى شريح في القضاء ، وكتاب عليّ إلى الأشتر
النخعي في السياسة العامة .
عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه :
ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه ، تلا ذلك
تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها : كالرياضيات
والتاريخ الطبيعي ، والطب ، والفلك ، والفلسفة بأقسامها ، والتصوف بنوعيه الخلقي
والفلسفي ، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها ، ونقدوا ونقحوا ، وأتموا ما كان
ناقصًا ، وزادوا على من كان قبلهم ؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات
السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم .
كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا
كلها فنونًا صناعية ، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ
فيها ، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه ، قد يعارض غيرهم باختلاف
الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته .
وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية
منه ؛ دينيه كانت ، أو عقلية ، أو علمية ، كما أرشد إليه القرآن الحكيم ، وأن يظل
القرآن والأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتربية الأمة ، كما
كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون
صناعة بشرية ، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية
والسياسية ، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج
أفكارهم وأفهامهم ؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل
شيء بشري ، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه
الله لهم ، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا
يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها ، ولو فعلوا ذلك
لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين ، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا
وابتدعوا ، فتفرقوا واختلفوا ، وفسقوا وضعفوا .
كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم
خليفة المسلمين ، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب ، ثم
نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية ،
وفوائد العلوم والفنون في الحضارة ، وأنَّى للمعتصم العامي ، وكذا المأمون العالم
المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل
المشكك في القرآن ، ونفيه من المدينة إلى البصرة ، وأمر الناس بهجره حتى تاب ،
تلك جناية فوضى العلم في العرب ، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق
والاختلاف .
حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها :
وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة ، جمعوا
فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة ، ألطف مثل لها ما حُكِي عن
امرأة كانت ترفل في حليها وحللها ، مخضبة الكفين ، مطرفة البنان ، وهى تسبح
الله تعالى وتذكره ، فرآها رجل ناسك فقال لها : ما هذا مع هذا ؟! فقالت :
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن ، وتروي الحديث بالأسانيد ، وتنظم
الشعر وتلحنه ، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في
دينهم ، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة .
كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل
كل يوم ، كما يتنزهون في هذه الأيام ، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ
يعزف على عوده ، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير ، فأنصت المغني واستمع
للقرآن يتدبره ، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى : { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } (التكوير : 10) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا
متصدعًا من خشية الله ، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان ،
ومثل هذا لا يقع الآن ، والقوم هم القوم ، ولكنهم ضعفوا في لغتهم ، فلم يبقَ للقرآن
سلطان على قلوبهم ، وغلوا في الدين والحضارة معًا ؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم ،
واتخذه آخرون عبادة .
لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط القرآن بكفالة
الخلافة لاستفادوا من فلسفة اليونان وتصوف الهند وفنون الروم والفرس وصناعاتهم
وتنظيم حكومتهم ما يزيدهم إيمانًا بالله وبصيرة في دينه وقوة في دولتهم ، واعتدالاً
في نعمة حضارتهم ، ولما وجدت بدع النظريات الفلسفية والصوفية وفتن السياسة
الشعوبية سبيلاً إلى التفريق بينهم في دينهم وحكمهم ، ولكنهم نكبوا عنه فانقلبوا بعد
ألفتهم وتوادهم أعداء يتنازعون في متشابه القرآن الذي ألَّف بين قلوب سلفهم بعد
تعاديهم وتقاتلهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا ، وهم يقرءون قوله - عز وجل - :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ } (آل عمران : 7) الآية ، وقوله : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُم ْ} (البقرة : 213) الآية ، وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء :
59) .
سنن الاجتماع في قلب الإسلام لنظم الأمم السريع :
كل ما جرى للأمة الإسلامية كان مقتضى سنن الاجتماع في دين قلَب نظم
الأمم والملل كلها في أديانها ودنياها في جيل واحد ، ودخل فيه أفواج لا تحصى من
كل جنس وكل ملة وكل حضارة وكل بداوة ، قضى شرعه أن يكونوا إخوانًا
متساوين في جميع الحقوق ، لا يتفاضلون إلا باستعدادهم الشخصي ؛ فمنهم من فهمه
بلغته وثقافة من جاء به ، وهم العرب ؛ لأنه لم يكن عندهم ما يزاحمه من التقاليد
الدينية والعادات المدنية ، بل كانوا كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
ومنهم مَنْ لم يفهم منه إلا بعض تقاليده الظاهرة ، ولم يره إلا في مرآة ما كان
عليه قومه من دين وحضارة ، ومنهم من كان مخلصًا فيه ، ومن كان يكيد له
عصبية لقومه وملته ودولته التي قضى عليها ، ومن كان يبتغي به الحياة الدنيا
وسلطانها وزينتها ، ومن كان يريد به وجه الله والدار الآخرة .
حكمة الله في ترتيب الخلفاء الأربعة :
وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه
خير أصحابه علمًا وحكمة وإخلاصًا ؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم ،
وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمرًا من حيث لا يدرون ؛
لتستفيد الأمة من كل واحد ، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين
لم أروها ولم أسمعها من أحد ، وهاك وجه كل واحد منهم ، رضي الله عنهم أجمعين.
قدموا أبا بكر أولاً ؛ فكان في عهده تمحيص الأمة العربية ، وتصفيتها من
النفاق والضعف ، وكان هو أولى الناس بتنفيذ هذه التصفية في حروب الردة
ودعوى المتنبئين النبوة وبقايا العصبية الجاهلية ، وهو مشهود له بأنه كان أعلم
الناس بأنساب العرب وأخلاقهم وأحوالهم ، فتم ذلك بسياسته على أكمل وجه .
وخلفه عمر فكان في عهده فتح الأمصار والقضاء على ملك كسرى برمته ،
وملك قيصر الروم في الشرق كله ، والاستيلاء على الأمم والملل الكثيرة
وخضوعها للإسلام في دينه وحكمه ، أو في حكمه فقط ، وقد ظهر لجميع الأمم في
عهده ومن بعده أنه خير من قام بهذا الفتح ونظمه علمًا وعقلاً وعدلاً وقوة وإخلاصًا.
فبحكمة أبي بكر صارت الأمة العربية أمة واحدة موحدة مثقفة ، وبحكمة عمر
صارت أمة فاتحة حاكمة عادلة مصلحة للبشر ؛ ولما كان من سنن الاجتماع أن
يظهر في هذه الدولة العربية ما هو كامن في بعض أهلها من الاستعداد للفتن
والمطامع ، وما ينفخ في ضرمه خصومها الذين قضت على ملكهم ، ومن المصلحة
أن يظهر حكم الإسلام في إخماده بالحق والعدل - ألهم الله أهل الشورى أن يقدموا
عثمان على عليّ ، وجل عصبة الأول من بني أمية الطامعين في الملك ، وجل
عصبة الثاني من بني هاشم الذين يغلب على أكثرهم الزهد في الدنيا ، وقد كان
بينهما في الجاهلية ما كان من ( التنازع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم )
الذي ألَّف المقريزي فيه مصنفًا خاصًّا بهذا الاسم .
كان عثمان على عدله وفضله شديد الحياء ، لين العريكة ؛ فغلبه قومه على
وصية عمر السياسي الحكيم له بأن لا يحمل أبناء أبي معيط على رقاب الناس ،
فركبوا الرقاب من غير أن يحملهم هو عليها ، فنجمت رءوس الفتنة في عهده ،
وكان كارهًا لها ، إلا أنه لم يستطع كبح جماحها ، فكان شهيد أول ثورة على ولي
الأمر في الدولة العربية ، وكان هذا أشأم سنة في الحكم الإسلامي .
ثم جاء عليٌّ ونار الفتنة مشتعلة ، وكان أولى إمام في الأمة أن يقاومها علمًا
وعدلاً ، وإيثارًا للحق على الخلق ، وللهدى على الهوى ؛ ولو لم يكن لها في تأخر
زمنه - وقد أطال الله عمره - إلا هذه الحكمة والرحمة لكفى ؛ فهو قد سنَّ من سنن
الحق والعدل في قتال البغاة والخارجين على حكم الإسلام ما لم يكن يرجى من غيره
مثله ، وخيرها اتقاء تكفير أهل القبلة بخطأ الاجتهاد ، كما كان هذا التكفير شر ما
فعلوه ، فالإيمان والكفر إنما يكونان بالقطع لا بالاجتهاد .
وقد بينَّا من قبل أن التنازع في الإمامة بين شيعة علي وجمهور الأمة قد كان
تنازعًا بين ما يسمى في هذا العصر السلطة الأرستقراطية ، أي : حكم الأشراف ،
والسلطة الديمقراطية ، أي : حكم الأمة الشوري الانتخابي ؛ ولذلك كان أشد أنصار
الشيعة من بعده الأعاجم الوارثين للعبودية للملوك ، وأن عليًّا لو ولي الأمر من أول
الأمر بسبب قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بحجة وصيته له ولذريته
من فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكانت فتنة عبادته وعبادة آله
ودعوى عصمتهم قضت على توحيد الإسلام من أول وهلة إن ثبتت .
استحالت خلافة النبوة بعد عليّ والحسن عليهما السلام ملكًا عضوضًا ، كما ورد
وهو من سنن الاجتماع ، وكان بنو أمية وقد صفا لهم الملك من أقدر قريش على
استمرار الفتح وتوسيع دائرة الدولة وعظمتها ؛ ولكن تحويل زعيمهم الأول
(معاوية ) لحكم الإسلام الشوري ( الديمقراطي ) إلى عصبية النسب ( الأرستقراطية)
كان سُنَّة سيئة دائمة قضت على دولتهم قبل أن يتم لها قرن كامل ، وهم الذين
أحدثوا بسياستهم الجنسية فتنة الشعوبية فكانت عاقبة هذه العصبية أنْ آل الحكم إلى
الأعاجم ، وصار قائمًا على قوة العصبية دون أصل الشرع ، وزال سلطان الإمامة
الديني الذي تخضع الأمة له بوازع العقيدة ، فصار الحكم الإسلامي عسكريًّا مذبذبًا ،
لا أرستقراطيًّا ولا ديمقراطيًّا .
هذه جملة أسباب ترك الدول الإسلامية لهداية القرآن وهداية السُّنة وجماعة
الأمة ، ولو ظلت الأمة متبعة لهما لأكرهت الدولة على هذا الاتباع في أي وقت
تجتمع به كلمتها ؛ ولكن جمهور الأمة تحولوا عن هذا الاتباع بفساد التعليم ،
وتقصير العلماء في بيانه ، والدعوة إليه والعمل به ، ومطالبة الحكومات بالتزام
هدايته ، بل إلزامهم إياها بنظام تكفله الأمة ، وتيسير السبيل لذلك بجعل لغته مَلَكة
راسخة في الأمة بتعلمها بالعمل ، كما كان عليه أهل العصر الأول ، ولم يفعلوا شيئًا
من هذا ، وهو الذي أضاع حكم القرآن من ناحية السلطان .
وهو ما نوهنا به في تصدير الطبعة الثالثة التي نشرناها في هذا الشهر ،
وصرحنا فيه بأنه حدث لنا به أمل جديد في حياة المسلمين الملية ، لا تعرف حقيقتها
إلا بتجربة عملية جديدة ، وهو ما عزمنا عليه في هذه السنة .
الدعوة الجديدة هي أساس الإصلاح كله :
سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة
المسلمين ، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها ، أو فيما عدا
التعليم الإسلامي المدرسي منه ، الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له ،
وتولي النهوض به ، فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة
القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته ، ولا يصلح له غيرهم .
لما ألَّفنا جماعة الدعوة والإرشاد ، وأنشأنا مدرستها وجدنا عقلاء المسلمين
وأذكياءهم في مصر ، وإستانبول ، وأمصار الهند الإسلامية الكبرى ، وبغداد ،
وسوريةَ متفقين على أنها أعظم عمل إسلامي لا يُرجى الإصلاح المنشود بدونه ؛
حتى إن كبار رجال الترك أكبروه ، وعلموا أنه يحيي الدولة العثمانية حياة جديدة إذا
هي كفلته ونفذته على الوجه الذي اقترحته عليها وقررته الجمعية التي أسست له من
أذكى رجال الدولة ، ولكن زعماء جمعية الاتحاد والترقي - الملاحدة منهم - كانوا
قد أجمعوا أمرهم على إسقاط دولة آل عثمان وخلافتهم ، وإقامة دولة تركية لا دينية
على أنقاضها ، ولولا ذلك لما منعوا الحكومة من تنفيذه بعد أن صدر به أمر مجلس
الوزراء ، وقرر أن تكون نفقات المدرسة السنوية في ميزانية وزارة الأوقاف .
وكان الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر علم بالأمر وأكبره ، فلما عدت من
إستانبول والأمر مقرر رسميًّا ، أقنعني بأنه هو يكفل مساعدتي على تنفيذه في
مصر، وبأن الدولة العثمانية إن أرادت تنفيذه في إستنابول فإن من السهل أن يكون
في كل من العاصمتين مدرسة تابعة لمقاصد الجمعية ومنهاجها ، ففعلت وصدق هو
وعده ، وفتحت المدرسة أبوابها لجميع الشعوب الإسلامية ، وتعاون على نفقتها
ديوان الأوقاف الخيرية العامة ومصلحة الأوقاف ( الملكية ) الخاصة ، حتى إذا ما
اشتدت سيطرة الإنكليز على مصر في عهد الحرب الكبرى ، كادوا للمدرسة كيدهم ،
وأوعز عميدهم إلى وزير الأوقاف ( إبراهيم فتحي باشا ) وكان من صنائعه ؛
فقطع الإعانة التي كانت قررت لمدرسة الدعوة والإرشاد ، وتعذر عودة الخديو إلى
مصر ، فاضطررت بعد صبر جميل إلى تعطيلها .
وجملة القول أنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر
مشتركي المنار ، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة
والعامة بالأولى ، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها ، لم أرد إلا ثقة ورجاء
بنجاح السعي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وجديد أمر الدين بما يظهره الله به
على الدين كله ، حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم ، ولم أيأس من قيام طائفة
من المسلمين بذلك ؛ تصديقًا لبشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بأنه لا يزال في أهله طائفة ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تقوم
الساعة ( رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق ) . وهذه
الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة ، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين
خيار الرجال المتفرقين في الأقطار ، الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على
اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم في الدعوة إلى العلم ، وأرجو من كل
من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا
عنوانه ، وما هو مستعد له من العمل معهم ، إلى أن تنشر دعوتهم الرسمية .
وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا العصر
الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض ، فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على
أمر الله ، وتعاونها على نشر الدعوة ، وجمع كلمة الأمة ، بعد وضع النظام لمركز
الوحدة الذي يرجى أن نثق به ؛ فهي لا ينقصها إلا هذا ، وقد طال تفكيري فيه ،
وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه .
وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا
الأستاذ الإمام ( قدس الله روحه ) من الرجاء في مركز الأزهر - وهو ما يعبر عنه
في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية - وقد قضى هو يائسًا مما كان يحاول فيه ،
وظللت أجاهد في سبيل إصلاحه على ما عرض من أسباب اليأس منه ، التي تفاقم
أمرها أخيرًا ، وكتبت فيها بضع مقالات في المقطم ، ثم ( كتاب المنار والأزهر )
وما هذا إلا لأنني لم أيأس ، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد
مصطفى المراغي عظيم ، أشرت إليه في تصدير الطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي ، بعد أن كتبت عنه في الجزء الماضي من المنار ما كتبت .
كان الأزهر كَنْزًا خفيًّا ، أو جوهرًا مجهولاً عن أهله وحكومته ، وعقلاء بلده
لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به ، والاستيلاء
على زعامة جميع الشعوب الإسلامية في الدين والأدب واللغة بإصلاح التعليم العام
فيه ، ولكن تعليم الإمام - رحمه الله - وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في
طائفة من شيوخه ، والاستعداد في جمهور طلابه ، ولم يبق إلا العمل الجادّ ، ولله
الحمد .
(35/1
 
ربيع الآخر - 1354هـ
يوليو - 1935م
( 2 ) هل الدين الإسلامي دين سياسة أم لا ؟
لأن في أرض جاوا حزبين كبيرين متشاجرين أحدهما حزب المحمديين ،
والآخر شركة إسلام إندونسيا ، وهذان الحزبان مع اتفاقهما في المبادئ السلفية
ما زالا مختلفين في هذا الأمر .
فالمحمديون يقولون بأن الدين الإسلامي ليس دين سياسة ، ولا يمنعنا عن
الاشتراك مع الحكومة والتوظيف بدوائرها السياسية وغيرها ، وحجتهم قوله تعالى :
{ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } ( الممتحنة : 8 ) إلى آخر الآية ، ومدارسهم مرتبطة بوزارة
المعارف . أما حزب شركة إسلام فإنهم يقولون إن الدين الإسلامي دين سياسة ، ولا
يسمح لنا بالتوظف في دائرة الحكومة والارتباط بدوائرها السياسية وغيرها ،
وحجتهم قوله تعالى : { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } ( المجادلة : 22 ) إلى الآخر الآية .
ويحتجون على حجج المحمديين بأن الله نهانا عن الذين قاتلونا في الدين ،
والقتال يكون بالسيف أو بالضغط والإرهاق والاضطهاد ومنع نشر الإسلام وفضائله
لهذا أرجو أن تشرحوا لنا الحق في هذا الأمر لعل الله يهدي الفريقين والذي مال
عن الطريق السوي ، فيتفق الفريقان على نشر الإسلام ومبادئ السلف الصالح بدلاً
عن النزاع الذي لا نتيجة من ورائه إلا الاضمحلال .
أرجو نشر الجواب في أول عدد من مناركم والسلام عليكم .
... ... ... ... ... ... ... من تلميذكم المخلص
... ... ... ... ... ... أبو بكر بن سعيد باسلامة
جواب المنار
...( 2 ) الدين الإسلامي دين سياسة أم لا ؟
إن قول حزب المحمديين إن الإسلام ليس دين سياسة خطأ ، وإن استنباطهم
من هذا القول أن الإسلام لا يمنعهم من الاشتراك مع الحكومة في وظائفها وأعمالها
غريب ، فهو مبني على أصل فاسد ، ولو لم يكن الإٍسلام دين سياسة لكان منعه من
الاشتراك مع غير المسلمين في أعمال حكومة غير إسلامية أشد وأقوى .
وأما احتجاجهم بآيات سورة الممتحنة { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ } ( الممتحنة : 8 ) إلخ ،
فهو في غير محله ، فإن موضوعها أن الإسلام لا ينهى أهله في داره عن البر
والعدل في معاملة الكفار غير المحاربين لهم في دينهم ووطنهم ، وإنما ينهاهم عن
تولي المحاربين المنازعين لهم في دينهم ووطنهم ، والمراد بتوليهم مساعدتهم على
أعمالهم الحربية وكل ما فيه جعل السلطان والقوة لهم على المسلمين . فإذا كان جعل
مدارسهم تابعة لمدارس الحكومة غير الإسلامية يضر الذين يتعلمون فيها بإفساد
عقائدهم وأخلاقهم ودينهم أو يؤيد سلطانهم عليهم - تكون تابعيتها لها مما نهى الله
عنه من توليهم ؛ سواء سمي الإسلام سياسيًّا أم لا ، فإن الحكم منوط بنص القرآن
لا بتسمية الدين سياسة أو عدمه ، وإذا كان ذلك نافعًا للمسلمين بحفظ حقوقهم ويمنع
أو يخفف الأذى الذي يقع عليهم ، فإنه لا يكون محرمًا ، وقد يكون بمقتضى السياسة
الإسلامية مستحبًّا أو واجبًا ، فهؤلاء أحوج إلى إثبات كون الإسلام دينًا سياسيًّا فيما
يعملونه ويطلبونه .
وأما قول ( حزب شركة إسلام ) إن دين الإسلام دين سياسي ، فهو لا يبيح لهم
التوظف في مصالح حكومة بلادهم غير الإسلامية فأصله هو الصحيح ، وما بني
عليه من الحُكم ففيه نظر ظاهر ، فإن سياسة الملة والأمة ليست منصوصة في
الكتاب والسنة بعبارات جلية يفهمها كل أحد أو يقدر كل أحد على استنباطها
من النص ، وإنما أساسها المصلحة العامة وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان
والأحوال ، وأقوم وسائلها التشاور بين أهل الحل والعقد من عقلاء علماء الأمة
بمصالحها لا علماء الاصطلاحات الفقهية وحدها ؛ ألم تر كيف كان سياسي الخلفاء
الراشدين بل إمام سياسة الإسلام الأعظم عمر بن الخطاب يختار أمراءه من دهاة
الأذكياء ، لا من عباد الفقهاء .
وأظهر قواعد أئمة الفقه فيها قاعدة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -
المأخوذة من سياسة السنة وسيرة الخلفاء الراشدين ، وهي أن أحكام العبادات تُبنى
على العمل بظواهر نصوص الكتاب والسنة ، وأحكام السياسة والمعاملات الدنيوية
تبنى على جلب المصالح ودرء المفاسد دون ظواهر النصوص ، فإن تعارضا يؤول
النص لمراعاة المصلحة .
وعندنا من مجربات الشعوب الإسلامية في ذلك ما وقع لمسلمي الهند مع
الدولة الإنكليزية ، فقد كان المسلمون هم حكام الهند ، فسلبت هذه الدولة منهم الحكم
بجهلهم ، فظنوا أن دينهم يوجب عليهم عدوانها عداوة سلبية بأن يجتنبوا مشاركتها
في شيء من أعمال الحكومة الإدارية والقضائية وأن يجتنبوا تعلم لغتها وعلومها
فكانت عاقبة ذلك أن أضاعوا ثروتهم وقوتهم فصاروا أفقر من الوثنيين والبرس
(أي الفرس ) وأضعف ؛ فهل هذا مقتضى السياسة الإسلامية التي تحفظ بها مصالح
الإسلام والمسلمين ؟ كلا إن المسألة أكبر مما فهمه هؤلاء وأولئك فيجب درسها
وتمحيصها على الجامعين بين معرفة نصوص الشرع وحكمه ومعرفة شؤون العصر
على الأساس الذي وضعناه لهم .
(35/127
 
الكاتب : عبد السميع البطل

ربيع الآخر - 1354هـ
يوليو - 1935م

تفسير المنار
الجزء الثاني عشر
للسيد الإمام محمد رشيد رضا ( رضي الله عنه )

يحزنني أن أقرظ هذا الجزء ونحن في مأتم السيد رشيد رضا ، ولا نزال
مأخوذين بدهشة الخبر ، وكأننا في حلم مفزع لا أمام حقيقة صادعة ، ولا أمام
جرائد تفيض جداولها بالنعي والتأبين ، ولا بين معزين من مختلف الطبقات يذرفون
الدمع الهتون ، ويتوجعون لمصيبة المسلمين بفقد الراحل الكريم ، ويتحدثون عن
الفراغ الذي تركه ، وأنهم لا يجدون من يملؤه ، فقد كان السيد الإمام - رحمه الله -
ملء السمع والبصر ، وكان الحجة الثبت ، والمفزع الذي تطمئن إليه النفوس
الشاردة من وساوسها ، وتهدأ به القلوب الواجفة مما يحيك فيها ؛ فتجد برد اليقين ،
وتشعر ببشاشة الإيمان . يجزنني أن أقدم للأمة الإٍسلامية هذا الجزء من التفسير
وأنا في هذه الحالة النفسية التي لم أرها من قبل ، على كثرة النوازل والفواجع ،
ولكن كل المصائب تهون وتتضاءل أمام مصيبتنا في الراحل العزيز ، أحسن الله
نزله ، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

وبعد :
فتفسير المنار أشهر من الشمس ، وأبين من فلق الصبح ، يعلن عن نفسه
بنفسه ، وقد قرَّظه العلماء والفضلاء في الشرق والغرب ، وأثنوا عليه بما هو أهله ،
واتخذوه مرجعًا لهم ، بل استغنوا به عن كل التفاسير التي تُقتنى ، وهو الآن عمدة
المحققين من علماء الأزهر وغيرهم .
ولست الآن بصدد الكلام على مزاياه ومجموعة ما انفرد به عن كل كتب
( التفسير ) فذلك له مقام آخر ، غير أن الذي أريد أن أعجل للقراء به ونحن في هذه
المحنة القاسية - أن أذكر لهم بعض ما امتاز به الجزء الثاني عشر ، وهو آخر
الأجزاء التي أنجز طبعها السيد المبرور ، أحسن الله جزاءه ، ورفع في الجنة
درجته ؛ فقد امتاز هذا الجزء على صغر حجمه بالنسبة لسوابقه بتحقيقات انفرد بها ،
كالكلام على حكمة التحدي بالسورة الواحدة وبالعشر ، وهنا يفيض السيد إفاضة
يتجلى فيها روح الإلهام الصحيح ، والنظر الصادق ، فترى من التحقيقات في
الموضوع ما لا ترى في كتاب آخر ، فإذا أنت انتقلت إلى آية الطوفان : { وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ( هود : 44 ) أطلعك على ما في الآية من
بلاغة روحية تهتز لها النفس ، وتلمس بصدق جانب الإعجاز في الآية الكريمة ،
ويبطل عجبك من تأثير القرآن في نفوس العرب ، ذلك التأثير العجيب الذي بدَّلهم
في سرعة لم يعهد لها نظير ، فأخرجهم من الظلمات إلى النور ، ورفعهم من
الحضيض الأوهد إلى الذروة ؛ فكانوا مشاعيل الهداية ، ومعلمي الأمم ، وقادة
الشعوب بالحق والعدل والعلم ، نعم يبطل عجبك فالقوم كانوا مرهفي الحس ،
سليمي الذوق ، وكانت اللغة لغتهم ، وهم أعلم بمرامي الكلام ووقعه وتأثيره ، فلا
عجب أن كانت هذه البلاغة العالية الأخاذة تأخذ بمجامع قلوبهم ، وتأطرهم على
الإيمان أطرًا ، فاستمع إليه - أثابه الله - يقول :
( ما أفظع هذا المنظر ! ما أشد هوله ! ما أعظم روعته ! ماء ينهمر من آفاق
السماء انهمارًا ، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارًا ، ماء ثجاج ، يصير
بحرًا ذا أمواج ، خفيت من تحته الأرض بجبالها ، وخفيت من فوقه السماء بشمسها
وكواكبها ، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين ،
كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها ، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك
التنزيل ، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل ، واستمع لما بينه به الذكر
الحكيم ، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرًا ، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئًا
مذكورًا ) إلى أن يقول : ( قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في
الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي
وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة : المعاني والبيان والبديع ) .
وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام لا ينافي بلوغ
كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز ، ولا يعد من التفاوت المعهود في
كلام أشهر البلغاء : كأبي تمام ، والمتنبي ، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية ، ومن
بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما ، فآياته كلها في الدرجة العليا
المعجزة للبشر ، وإن كان لبعضها مزية على بعض ، كما تراه في تكرار القصة
الواحدة من هذه القصص ، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله
مفتريات من هذه السورة .
مثال ذلك ما نراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من
سياق هذه القصص كلها ، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها ، وبيانه أن الله
قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة - ومنهم مكذبو الرسل عليهم
السلام - كلها معجزة في بلاغتها ، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم
والوعيد عليه نوعًا لا تجده في غيرها ؛ لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في
الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين ، وقد علم من أول القصة أنها
عقاب للظالمين بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في
أشد مظاهر هولها ، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها بما
تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد
والطرد الذي يحتمل عدة معانٍ مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى ، يمثل لك
هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله
في أمثالهم من أقوام الأنبياء على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في
البلاغة وعلم الأسلوب ، وإحداثها الرعب في القلوب … إلخ . ثم عقد فصلاً ، بل
فصولاً في نهاية القصة كان أحدها للكلام على ما في الآية من بلاغة اصطلاحية ،
وإن من يقرأ العبارتين يتجلى له الفرق بين البلاغيتين ؛ هنا يشعر بأسلوب يهز
أريحيته ، ويملك عليه وجدانه ، ويأخذ النفس من أقطارها ، وهناك تشغله العبارة
والاصطلاحات الفنية عن المقصود من الآية وهو التأثير والعبرة ؛ وبذا
تعرف مبلغ أثر القرآن في نفوس العرب .
وعلى الجملة لقد كتب السيد عدة كراسات في قصة نوح تصلح أن تكون
رسالة وحدها ، ولا سيما الفصل الذي عقده لبيان غضب الله على عباده وعقابهم
ببعض ظلمهم وفسوقهم في الدنيا ، دع ما ختم به سورة هود من عقد خلاصة وافية
لها ، وهي سُنَّة انفرد بها المرحوم السيد وحده دون باقي المفسرين ؛ فقد جرت
عادته أن يعقد خلاصة لكل سورة ، يبين فيها مجمل ما اشتملت عليه من الأحكام
والحِكم والسنن الإلهية في الأفراد والأمم بأسلوب لا يتيسر لغيره .
ومن مزايا هذا التفسير تحقيق الحق في مسألة الهمِّ في سورة يوسف في قوله
تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه } ( يوسف : 24 )
وهنا ترى في كتب التفسير خلطًا وخبطًا وحشوًا من الإسرائيليات تنافي الذوق
والعقل والشرع واللغة ، وترى السيد يجرد قلمه لدحض كل هذه الأقوال ، ويبين
الحق فيها بيانًا شافيًا تطمئن إليه النفس ، كما جلى القصة للناس جلاء ظهرت فيه
وجوه العبرة منها ، ونقاها من كل ما دسته الإسرائيليات فيها ؛ ولذلك اقترح عليه
الكثيرون من الأفاضل طبع سورة يوسف على حدة ، وقد فعل - رحمه الله -
وسيراها الناس قريبًا ، إن شاء الله . ولولا خوف الإطالة لنقلت إلى القراء نموذجًا
من تحقيقاته في سورة يوسف ؛ ليروا كيف يدرك المتأخر ما لا يدرك المتقدم ، ولا
سيما في كتاب الله الذي لا يتناهى إعجازه . رحم الله السيد ، وأحسن عزاء الأمة
العربية والعالم الإسلامي فيه .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
__________
(35/149
 
الكاتب : عبد الله أمين

ربيع الآخر - 1354هـ
يوليو - 1935م

نعي فقيد الإسلام و المسلمين
السيد الإمام محمد رشيد رضا - منشئ المنار

( رضي الله عنه )

ننعي إلى الإسلام والمسلمين ، إمام أئمة المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين
غير منازَع ، وأحذق الأئمة المحققين السابقين منهم واللاحقين غير مدافَع ، زعيم
أهل السنة العاملين ، وأنفذهم بصيرة ، وأرسخهم عقيدة ، وألد خصوم البدعة
وأبطشهم بها يدًا وأثبتهم على قتالها قدمًا ، علم الهداية الخفاق ، وصوتها الرنان في
الآفاق ، المتفاني في تحرير الشعوب الإسلامية لا من البدع والخرافات والأوهام
والضلالات حسب ، بل منها ومن أغلال الاستعباد وقيود الاستبداد ، وأخلص
المخلصين للإسلام والمسلمين ، وعمدة الداعين إلى هدي الرسول الأمين محمد
صلى الله عليه وسلم - السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل
جنة النعيم مستقرة ومثواه ، آمين .
اختاره الحي الباقي لجواره حوالي منتصف الساعة الثانية من مساء الخميس ،
الثالث والعشرين من جمادي الأولى ، سنة 1354 هـ ، الموافق الثاني والعشرين
من أغسطس ، سنة 1935 ، ونعاه من عرف وفاته من أهله وأصدقائه إلى من لم
يعرفها منهم في القاهرة والأقاليم المصرية والأقطار الأخرى ، ونعوه إلى الصحف ،
ونعاه محط الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة في منتصف الساعة الثامنة مساء إلى من يبلغه
صوته من سكان المعمور ، وصدرت الصحف هنا وهناك ناعية باكية مؤبنة مؤرخة ،
وارتجت أنحاء القاهرة بهذا النعي وأُقضت المضاجع فيها ، وانساب المعزون إلى
دار المنار عدد 14 بشارع الإنشا جنوبي وزارة المعارف مساء الخميس يوم الوفاة
وصبيحة الجمعة التالية له ، حتى غصت بهم ساحة الدار والطريق الفسيحة أمامها .
وفي تمام الساعة العاشرة حمل النعش أبناء الفقيد في الهداية والعلم وساروا به ،
وخلفه المشيعون ، وفيهم أقطاب العلم والأدب في البلاد حتى مسجد السيدة الشامية
بشارع نوبار حيث صلى عليه المصلون جمًّا غفيرًا ، ثم حمل على سيارة واستقلت
جمهرة من المشيعين سيارات إلى مدفن أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده في مقابر
المجاورين حيث دفن بجواره ، وأبَّنه على قبره ثلاثة من الحاضرين وهمّ آخرون
بالتأبين ؛ ولكن رؤي أن الزمان والمكان لا يتسعان له فطلب الكف عنه إلى وقت
آخر ، واستمر الناس يفدون على داره أيامًا للتعزية .
وقد روعي في كل مراحل هذا الخطب العظيم من ساعة الوفاة إلى نهاية
التعزية السنة الشريفة النبوية .
وقد نعي الفقيد بعض الأقطار الإسلامية على المآذن ، وصلى عليه كثير منها
صلاة الغائب ، ولا سيما في المساجد الثلاثة : مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت
المقدس .
ولد السيد الإمام رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة 1282 هـ ، الموافق
1 أكتوبر سنة 1865 م في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر الأبيض المتوسط
من جبل لبنان تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال ، حين كان جميع
أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواتري النسب ، وقد اشتهروا إلى شرف
النسب بشرف الحسب وحسن السيرة ، ويمتاز بيته الكريم فيهم بأنه بيت علم
وإرشاد وتقى ورياسة ، وبأنه معقِد رجاء ذوي الحاجات ، ومحط رحال العلماء
والأدباء والحكام والعظماء ، ولذلك نشأ السيد الإمام رضي الله عنه عالي النفس ،
كبير الهمة ، محبًّا للعلم والتقوى والصلاح ، ضاربًا في هذا وذاك بسهام صائبات .
تعلم في كتّاب القرية قراءة القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب الأربع ، ثم
أدخل المدرسة الرشيدية بمدينتهم طرابلس الشام ، وكان التدريس فيها باللغة التركية ،
فأقام فيها سنة ، ثم انصرف عنها ودخل المدرسة الوطنية الإٍسلامية التي كان
يديرها أحد الساعين لتأسيسها أستاذه العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري ، رحمه
الله ، ولما لم تقبل الحكومة العثمانية أن تعدها من المدارس الدينية التي يعفى
طلابها من الخدمة العسكرية ، ألغيت وتفرق طلابها ، فذهب بعضهم إلى مدارس
بيروت المختلفة ، وانقطع بعضهم لطلب العلم في المدارس الدينية في طرابلس
والفقيد منهم ، فخف في طلب العلوم الدينية والعربية والعقلية ووضع وتلقى على
أقطابها وهم مشايخه حسين الجسر ومحمود نشابة وعبد الغني الرافعي هناك ،
ولازم أستاذه الشيخ حسين الجسر دهراً طويلاً حتى أتم دراسته وبرع في العلم
والشعر والكتابة ، وكان في إبان طلبه العلم منصرفًا إلى عبادة ربه ، داعيًا إلى
الإصلاح حتى علا في بلاده ذكره ، وضاقت به حريتها المخنوقة وميدان العلم
والإصلاح فيها ، فهمّ بالاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق الأول ولم
يوفق ، فقدم مصر ، وفي اليوم التالي لقدومه اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده حكيم
الشرق الثاني وبقي ملازمًا له يأخذ عنه ما كان عنده وعند أستاذه من العلم والحكمة
ووجوه الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي , وأصدر أول عدد من مجلة المنار
في العشر الأخير من شوال لسنة 1315 هـ ، مارس سنة 1897 م ، وأخذ ينشر
فيه ما عنده وعند أستاذيه من علم وحكمة وهدى وإصلاح ، ويشد بذلك وبالكتابة في
الصحف اليومية أزر أستاذه الإمام في دعوته حتى اختاره الله لجواره وبقي هو
وحده في الميدان بعد ذلك دهراً طويلا وفيًّا لأستاذه ولدعوته حتى اختاره الله هو
الآخر لجواره رضي الله عنهم وأرضاهم بعد أن صدر من مجلدات المنار أربعاً
وثلاثين مجلدة وجزءًا من الخامسة والثلاثين ، وعدة كتب من إنشائه ، وعدة كتب
من إنشاء غيره من المصلحين .
توفي السيد الإمام - أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والرضوان - عن نحو
اثنتين وسبعين سنة هجرية ، أو نحو سبعين سنة ميلادية قضاها إلا قليلًا منها -
وهي سنوات الطفولة- في دراسة العلم ونشره بالكلام وبالكتابة ، لا سيما العلم بالكتاب
والسنة وهدايتهما وأحكامهما وأسرارهما ، وفي رياضة النفس على العمل بهما ،
وعلى التحلي بالخلق الكريم الذي كان عليه جده الأعظم محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وفي الدعوة إلى سبيل الله وإلى الإصلاح ، وفي محاربة أعداء الدين ،
وردِّ الشبهات عنه ، حتى بلغ في كل هؤلاء الذروة والغارب ، وأصبح منقطع النظير
لا يشق له في ميدان من ميادينها غبار ، ولا يدرك له فيها شأو .
وإن أعجب لشيء فعجبي العظيم لآماله الكبار في إعزاز الإسلام والمسلمين ،
التي لم يخمد لها لهب ولم يهمد لها جمر ، والتي شغلته العمر كله ، وأنهكت قواه ،
وأقامت العالم الإسلامي وأقعدته .
وكان أكبر همه - رضي الله عنه - مصروفًا إلى رد المسلمين إلى أصل
دينهم وهو الكتاب والسنة ، وإلى تحريرهم من رق البدع والخرافات ، وحمايتهم
من عقارب الفتن والشبهات ، وسلّ من أجل ذلك حساميه : لسانه وقلمه وكلاهما أحدّ
من الآخر ، وما زال يرمي البدع والخرافات والمشكلات والشبهات حتى أصاب منها
الكُلى والمفاصل ، وكاد يجهز عليها لانحراف المسلمين بها عن الدين ؛ ولأن هذا
الانحراف أصل بلائهم وذلتهم واستعبادهم . وما كان رضي الله عنه يقنع بهذا - وفي
هذا وحده الكفاية - بل كان يسعى ويجاهد ويشارك في تحرير الشعوب الإسلامية
من الاستبداد قولاً وكتابة وعملاً .
ومن أجل هذا وذاك هجر وطنه الشام إلى مصر وسافر إلى الأقطار الإسلامية
الشاسعة : الهند والعراق وتركية أوربا وبلاد العرب ، بل وعلى أوربا نفسها لدعوة
علماء الإسلام وملوكه وأمرائه وزعمائه لما يعتقد أنه الحق ، ولمشاركته من كان
على شاكلته منهم في السعي والجهاد لإحياء الإسلام والمسلمين .
ومن أجل هذا وذاك كان رضي الله عنه مغتبطًا كل الاغتباط بالمملكة العربية
السعودية ؛ لأنها متوجهة حكومة وشعبًا للعمل بالكتاب والسنة في الشؤون الدينية
والدنيوية معاً ، منصرفة كل الانصراف عن المنكرات والبدع والخرافات وهو ما
يريد أن يوجه العالم الإٍسلامي كله إليه ويصرفه عنه ؛ ولأنها تقيم الدليل الحسيّ
العملي في هذا العصر المادي الطاغي على إمكان حياة الأمم حكومات وشعوبًا
بالكتاب والسنة حياة منزلية اجتماعية سياسية سعيدة ، وبذلك يثبت ما يدعو إليه من
أن القرآن الكريم وما يوافق روحه من السنة الصحيحة أصل لسعادة البشر في الدنيا
كما أنه أصل لسعادتهم في الآخرة ، وكان لا يدخر جهدًا ولا وقتًا في تأييد هذه
المملكة السعودية السعيدة ومحاربة خصومها بلسانه وقلمه وبمساعيه الحميدة .
ومن أجل هذا وذاك كان يحب آل سعود أعزهم الله وأيدهم بروح من عنده
حبًّا جمًّا ، ويقعد للفرص التي يتمكن فيها من الاتصال بهم والإفضاء إليهم بكل ما
عنده من وجوه الإصلاح كل مرصد ويفترصها ولا يدع واحدة منها تفوته .
ومن أجل هذا وذاك كان حريصاً كل الحرص على أن يحتفي بتكريم سمو
الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية حين مروره بالديار المصرية عائدًا
من أوروبا إلى وطنه العزيز ، ويمضي معه أكثر أوقاته ويختلي به ليفضي إليه بما
يجيش في صدره من وجوه الإصلاح .
وكان الفقيد - تغمده الله برحمته ورضوانه ، وأسكنه فسيح جناته - مصابًا في
آخر أيام حياته بعلة تعرف في الطب الحديث ( بضغط الدم ) وكان يعلم علم
اليقين أن خير وقاية تُتقى بها أخطار هذه العلة اجتناب الأعمال العقلية والجسدية ،
وكان مهدداً بفتكها به ، وقد جاءه نذيرها وكشّر له عن نابه وألقي عليه إنذاراً مفزعاً
وهو نوبة قاسية من نوباتها ، وحذره الطبيب شرها .
وأشهد أني سألته في الأسابيع الأخيرة من حياته غير مرة عن صحته سؤال
محبٍّ مشفق يعرف هو مقاصده وأنه لا يخشي شيئاً خشية فقده ، فكنت أفهم منه أنه
يجد في جسمه كله فتورًا وضعفًا ، وكان ذلك يقع من نفسي أسوأ وقع .
وما كان يخفى على السيد الإمام رضي الله عنه - وهو حكيم من أرجح
الحكماء عقلا وأبعدهم نظرًا - أنه يستهدف بالمتاعب العقلية والجسدية للخطر
الأكبر وهو الموت الفجائي المقض لمضاجع الأحياء ، ولكن إيمانه الصادق الراسخ
بالله سبحانه وتعالى - وما أصدق إيمانه وأرسخه - القائل وقوله الحق { قُل لاَّ
أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ
سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ( يونس : 49 ) وتعطشه الشديد الدائم إلى بذر بذور
الإصلاح وتعهدها دائمًا بمدارسة أهل الإصلاح ، وولوعه الشديد بتأييد آل سعود ،
كل هذا دفعه إلى بذل جهوده العقلية والجسدية بسخاء في الحفاوة بالأمير سعود ،
وفي مدارسته إياه شؤون الإصلاح حين مروره بالديار المصرية عائدًا إلى وطنه
العزيز ، ولم يستطع سمو الأمير - أعزه الله وأيد ملك والده بنصره المبين - ولا
بعض من معه أن يحملوا السيد الإمام رضي الله عنه على القصد في الجهود التي
بذلها على النحو الآتي :
استقبل سمو الأمير على رصيف الميناء في الإسكندرية في منتصف الساعة
الخامسة من مساء الاثنين ، الثاني عشر من أغسطس سنة 1935 ، ساعة قدومه
مصر من أوروبا ، ثم بات في الإسكندرية ورافق سمو الأمير منها إلى بنها يوم
الثلاثاء 13 منه وحضر فيها الحفلة التي أقامها لسمو الأمير الكاتب البليغ والخطيب
المصقع الأستاذ الجليل محمد توفيق دياب صاحب الجهاد ، ثم عاد إلى القاهرة
واستقبله في محطها في أواخر الساعة الحادية عشرة من مساء الاثنين التاسع عشر
من أغسطس وكان المحط ساعتئذ غاصًّا بالمستقبلين حتى لم يبق فيه موضع لقدم ،
وانغمس السيد الإمام في هذه الجموع المحتشدة مكرهًا وقد قال من رآه إنه تعب
كثيراً ، وما كادت عين سمو الأمير - حفظه الله - تقع عليه حتى أخذه من يده
وسار به ولكن الزحام غلبهما على أمرهما وحال بينهما ، وفي هذا ما لا يخفى من
التعب والضرر اللذين تعرض لهما السيد الإمام ، رحمه الله .
وفي يوم الثلاثاء العشرين من أغسطس أخذ سمو الأمير يستقبل المهنئين
فسارع السيد الإمام إلى تهنئته ، وتغذى معه ثم حضر الحفلة التي أقامها حضرة
صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا لسمو الأمير ، ودعا فيها سموه لزيارة دار
المنار فتفضل بإجابته الدعوة وزارها يوم الأربعاء 21 منه ، وكان السيد حريصًا
الحرص كله على أن يخلو بسمو الأمير ساعة يفضي إليه فيها بأشياء في نفسه من
شؤون الإصلاح فلم تتيسر له هذا الخلوة في دار المنار ، فاتفق هو وسموه فيها على
أن تكون هذه الخلوة في ( الذهبية ) التي يقيم فيها سمو الأمير في فجر يوم الخميس
22 منه وهو يوم سفر الأمير ، وعلى أن يرسل إليه سيارته تقله من دار المنار إلى
الذهبية وكان الفجر يومئذ على الساعة الرابعة صباحاً إلا دقيقتين ، فجاءته السيارة
- رحمه الله - قبيل الفجر وهو يتنفل ، ثم استقلها إلى الذهبية وكان فيها مع سمو
الأمير الدكتور فؤاد سلطان عضو مجلس الإدارة المنتدب ببنك مصر ، والسيد محمد
الغنيمي التفتازاني شيخ السادة الخلوتية التفتازانية ، ثم حضر بعده الأستاذ الجليل
محمد توفيق دياب صاحب الجهاد ، فاختلى فيها السيد بالأمير ساعة أفضى إليه فيها
بما أراد وحينئذ استراح فؤاده وطابت نفسه وقرت عينه ولكنه أبى أن يقتصر في
الحفاوة بالأمير على هذا القدر المضني لأمثاله وهو في مثل حاله ، ولم ينم أكثر ليلة
الخميس وعزم أن يودع سمو الأمير في السويس ، ولم يقبل رجاءه ولا رجاء بعض
من معه في إعفائه من هذا العناء ، وذهب إلى السويس في سيارة مع الذاهبين -
وما أشق السفر بالسيارات ، فأقل ما فيه من مشقة أن يبقى الراكب في السيارة قاعداً
في وضع واحد لا يمكنه تغييره طول الطريق وما أطولها - ووقف على الرصيف
يودع سمو الأمير حيث أقلعت السفينة التي تقله وعاد أدراجه بالسيارة إلى القاهرة
من غير أن يلوي على شيء في السويس ؛ وذلك لأعمال بدار المنار لابد من
إنجازها .
وبينما هو عائد يجتاز طريق السويس إلى القاهرة بالسيارة مع رفيقيه ، وهما
إبراهيم أدهم بك زوج حماة سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك عبد العزيز سعود
وهو تركي لا يحسن العربية ، وزكي أفندي محمد ثنيان شقيق حرم سمو الأمير وهو
شاب يافع ، وهو منصرف إلى تلاوة القرآن الكريم في المصحف كعادته في أواخر
أيام حياته كلما خلا من عمل أو كلام نافع ، إذ شعر وهو في السيارة بدوار
فاستوقفها ونزل منها ، وقاء ثم ركبها وسارت الهوينى ، واستأذن زميليه أن
يضطجع واضطجع وظنه رفيقاه نائمًا فتركاه ، وقبيل أن يدركوا مصر الجديدة أرادا
تنبيهه فإذا به جثة هامدة ، فسارعا به إلى مركز الإسعاف بمصر الجديدة ، وهناك
ثبت أنه رضي الله عنه قضى نحبه ، فأحضر إلى داره وكان من أمر النعي
والتشييع والدفن والتأبين والتعزية ما بيناه في صدر هذا المقال .
وبعد ، فهل مات السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار حقًّا ؟ نعم مات ،
إذ فارق روحُه الطاهر جسده الشريف ، فأودع القبر هذا الجسد العزيز أما الروح
فبقي معنا وسيبقى ما بقيت هذه الدنيا إن شاء الله تعالى . بقي روحه الطاهر
متلألئًا باسمًا في أكثر من أربعين مجلدة من مجلدات المنار ، وغيره من مؤلفاته ،
وفيما اختاره وقام على طبعه وتصحيحه بنفسه من مؤلفات غيره الأحياء منهم
والأموات ، وفي إخوانه وأبنائه الذين اقتبسوا من علمه واهتدوا بهديه وفي سيرته
التي نسج فيها على منوال الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنه وعنهم
أجمعين .
فمن مجموع هذه الثروة التي تركها يمكن - إن شاء تعالى - أن يبقى المنار
حيًّا يمثل السيد الإمام رضي الله عنه ولو بعض التمثيل ، وينشر ولو بصيصًا من
النور الذي بعثه السيد - رحمه الله - إلى مشارق الأرض ومغاربها ، ويستمد حياته
ومادته من هذا المجموع ، والنية معقودة - إن شاء الله - على إصداره واستمراره .
هذا ما وسعه المقام الآن من نعي السيد الإمام رضي الله عنه ، وإن لهذا اليوم
ما بعده وإن لنا لعودًا على بدء ، أحسن الله عزاء آل رضا ، وعزاء إخوانه وأبنائه ،
وعزاء الإسلام والعالم الإسلامي فيه ، وأغدق عليه ما هو - إن شاء الله تعالى -
أهل له من سحائب رحمته ورضوانه ، وجعله { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا } ( النساء : 69 ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله أمين
( قلم التحرير )
كتب حضرة العالم الأديب الكبير كلمته هذه من أكثر من ستة أشهر لتنشر في
المنار ، وها قد صدق فأله الحسن وصدر المنار بعد استيفاء المعاملات الرسمية
لإصداره . والله نسأل أن يوفقنا للاستمرار في خدمة أثر فقيدنا وفقيد الإسلام
والمسلمين .
(35/153)
 
عودة
أعلى