من كلام رشيد رضا في مجلة المنار

الكاتب : محمد رشيد رضا
_
شبهات المسيحيين على الإسلام

16 المحرم - 1319هـ
5 مايو - 1901م

اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات
النصرانية في الطعن بدين الإسلام ، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه
في مطالعة تلك الكتب ، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات ؛ لأن المدافعة
عن الدين أهم ما أنشئ له المنار ؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي
مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين ، بل السعي في إزالة الأحقاد ،
والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد ، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا
كتابة ؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون ؛ ولذلك نراهم
يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام ، وينشرون الجرائد ( كراية صهيون )
ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي ، وإننا نصبر على هذا التعدي ، ونكتفي بكشف
شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول :
إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين ، كيف اكتفى بمطالعتها من
غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا
دافع له ، ككتاب ( إظهار الحق ) ، وكتاب ( السيف الصقيل ) وغيرها ؟ فأول
جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب ، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين
كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة ؛ لأن الجريدة
التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها ؛
لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه ، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته ، ثم إن شبهاته
تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
( أحدها ) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود
والنصارى .
( ثانيها ) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب ، وإن تعجب ،
فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع ؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له ،
فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به ؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه ؟ ! !
( ثالثها ) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع ، أو لما ثبت في
العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم ، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث ،
وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به ، ونبدأ الجواب
بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول :
إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا
لدعاة النصرانية ، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم ، ولعمري إنه لا تقوم على
ذلك حجة إلا شهادة القرآن ، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان
موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة ، وهذه الشهادة شبهة على القرآن ؛ لأنها
شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه ، بل يشهد هو ببطلان نفسه ،
أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض ، وأما شهادة العقل والعلم
والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها ، وإذا أراد السائل أن
يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها
من الكتب التي ألفها علماء أوروبا ، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين .
وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن ، فهو أن التوراة
التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام ، لا كتاب تاريخ مقتبس من
ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم ، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم
الآثار العادية له ، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه ، ولا تاريخ طبيعي فنبالي
بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب ،
وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية : ( وترابًا تأكلين كل أيام حياتك ) ،
فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان
ونحو ذلك ، فالتوراة حق ، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن
بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ } ( المائدة : 44 ) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي
منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه ، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل ،
وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين
القرآن وكتاب حزقيال و أشعيا و دانيال وغيرهم ؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها
القرآن .
ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة ، فذلك اصطلاح جرى
على سبيل التغليب ، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين
العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة .
وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح
عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام ، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس ،
وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من
التاريخ ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله ، وأنت تعلم أن
النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً ، ويعترفون بأنها كُتبت بعد
المسيح بأزمنة مختلفة ، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها .
والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من
الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } ( المائدة : 14 ) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي ،
كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه ، تقول : كان فلان يقرأ القرآن ، ومثل
هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة ، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام
نزوله .
ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا
شبهة ، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها
بالتاريخ ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا
تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) ؛ أي : عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم ؛ وذلك لأنه
ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها ، وبين ما مُزج بها في
التأليف ، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج
وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة ؛ لأنها إن لم تكن هي
فأين هي ؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى
وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من
الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا ، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها
القرآن نقطع بكذبه ولا غرو ، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون ، وهو معنى قوله
تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ( المائدة : 48 ) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي ، وإن كان للسائل
شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا ، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار ،
ويأخذ الأجوبة الشفاهية ؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم ، ولولا أن فقهاءنا
يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه ، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل
لما كتبنا شيئًا مما كتبنا ؛ لأننا خطباء وفاق ووئام ، وطلاب مودة والتئام ، ولكن ديننا
أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه ، وطلب أن يجاب في المنار فتعين
علينا ذلك .
.
 
غرة ربيع الثاني - 1319هـ
17 يوليو - 1901م
الكاتب : محمد رشيد رضا

شبهات المسيحيين على الإسلام
وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية

كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب
مودة والتئام ، لا عوامل نزاع وخصام ، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين
والنصارى في دين الآخر ؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه
من غير حاجة إلى الطعن ، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا
سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا
على استعذاب هذا المشرب ؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه ؛ لأنهم يؤلفون الكتب
والرسائل ، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها .
وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم ( نقولا أفندي غبريل ) كتابًا جديدًا في
الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو
من الألفاظ التي تدعى شتمًا ، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار ، ثم لقينا
وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه ، ولقينا أيضًا بعض المبشرين
رفقاء المؤلف ، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا ، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا .
لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها ، فالبائع يطلب مشتريًا ،
والمجادل يطلب مجادلاً ؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام
يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة
سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء ، ولا شك أننا إذا
كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة ، يرون
شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا ؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين ، ولولا
أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين .
يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة ، مع معرفة تواريخ
الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم ، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد
علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين ، وكان
موضوع الكلام ( من هو أعظم رجال التاريخ ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين ،
فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم
الرجال ، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي .
فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه ،
فنشأ في مهد المُلك والسلطان ، وأُشرب حب السيادة والحكم ، وشاهد سير المدنية
والعلوم الكونية والسحرية ، وأبصر فنون الصنائع ، وتقلب في ظل القوانين
والشرائع ، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام ، ثم لما بلغ
أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته
من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل ، فاتخذهم عصبية له ، وحاول
تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية ، وظاهر فرعون وجالده
أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس ، ويُستعبد بسلطانها الشعوب ، وهي
قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها ، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من
كثيرين في ممالك متعددة ، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو
مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها ، وموسى قد خرج من مصر
هاربًا بقومه من فرعون ، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة
ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة ، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا
البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق ، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت
ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها ، وقد جرى مثل هذا لنابليون
بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني ، ولمَّا
أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك
بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين ، وما عدا هذا من
غرائب موسى ففي نقله إشكالات ، وفي فهمه شبهات ، وفي دلالته على نبوته
وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر ، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به
من حضر ، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع
المصريين ، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته ، وأُعطي مثل ذكاء
قريحته .
وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية ، وحكم بالقوانين
الرومانية ، واطلع على الفلسفة اليونانية ، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم
الأرض مدنية ، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع
شريعة جديدة ، ولا أن ينشئ أمة ، وإنما كان خطيبًا فصيحًا ، وعلق بذهنه شيء
من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة ، وإذلال النفس لأجل
نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء ، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء
الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى ، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو
المعهود من عامة الناس ، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل
عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي و البدوي ، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى
لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي ، لا بالغرائب وليس ذلك من
موضوعنا الآن ، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول : إن عيسى هو ابن يوسف النجار
زوج مريم ، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى . فموسى كان له أثر عظيم ؛ ولكن
عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح ، ولا في المدنية ، بل
إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع
الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى ، لما فيها من تربية النفوس
على الذل والمهانة ، والرضا بالخسف والهضيمة ، والأمر بترك عمران الدنيا
وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات ،
ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة ؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل
خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء ، وتمحى جميع خطاياه ، ومن اعتقد ذلك
يستبيح كل محظور ويتبع هواه ، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية ؛ لأنها
تأمر بعبادة البشر ، وتطفئ نور العقل ؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه
محال ككون الثلاثة واحدًا ، والواحد ثلاثة ، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ
تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً
في السماء ، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء .
وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية ، فهو زعم منقوض بالبداهة ؛
لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء
والعظمة والتمتع بالشهوات ، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد ، وما
وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا ، ولو
أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته ؛ ولكنها لم تظهر
إلا بعد بضع قرون من ظهوره ، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في
الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم .
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية ،
ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع ،
وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم
بالأمم الأخرى ، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به ، ومع هذا أوجد أمة
ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ .
علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية ، وأن تكون آدابهم
وأخلاقهم على صراط الاعتدال ، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد ، وأن يراعوا
سنن الله في الخلق والأمم ، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها
ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع ... إلخ ،
وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث ، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء
المصالح وجلب المنافع ، وأطلق لهم حرية العقل والفكر ، وساوى بينهم في الحقوق
لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة ، وأعطى المرأة
حرية التصرف في أملاكها ، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء ، وللرق ،
ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ
والأطفال ورجال الدين ... إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق ، وسأفصل القول فيه
في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله .
وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال
التاريخ ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين ، وكونهم على خلاف ما ذكرت في
وصف الدين الإسلامي ، فقلت له : إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين
المسيحية والمسيحيين أو أبعد ، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين
الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص
عنهم كلما ابتدعوا في الدين ، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه
الآن ، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما
اتصل أهل أوربا بالمسلمين ، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في
مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية ، فقال : هذا مبالغة في الجانبين . وانفض
المجلس .
بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة
والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، لا لأنه يرد على
دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما ، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية
وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة ( شبهات المسيحيين على الإسلام ) التي
نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة ، ولو أنصف رجال الدين من اليهود
والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه ؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات
علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع
وعلم النفس إلا هو ، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما
ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي
الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة ، وكذلك يقال
في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات ، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض
التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح .
وحاصل ما نقوله الآن : إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية
الخارقة للعادات المعروفة للناس ، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد ، وهو
أيضًا مشترك بين الجميع ؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك ، فما يقال في نقل
هؤلاء يقال في نقل الآخرين ، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل
غيرهم لوجوه كثيرة ، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من
القرن الأول إلى الآن ، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم
الثقة بدينهم وتاريخهم ، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم ، فيقال إن
التلاعب حصل في إبان الكتمان ، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ
للرجال لأجل معرفة صحة الرواية من عدمها ، ولم يكن لليهود ولا للنصارى مثل
هذه المزايا ، وإما أن يكون بالآيات النفسية والعلمية وهذا لا يظهر في نبي كظهوره
بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما بيناه في درس التوحيد المنشور في هذا
الجزء ، وسنزيده بيانًا فيما سيأتي كما وعدنا ، وحينئذ يكون البرهان الصحيح في
هذا الوقت على نبوة موسى وعيسى عليهما السلام شهادة نبينا لهما ، وإن كان الله
تعالى أعطاهما في زمنيهما آيات تناسب حال الأمم فيهما ، ولا يمكن أن تثبت الآن
بنفسها ، ولذلك نرى كل من يتعلم ويعقل من المنتسبين إليهما ينبذها ظهريًّا ،
ويحسبها شيئًا فريًّا ، ولو عرف الإسلام حق المعرفة لقبله وقبلها على وجه معقول .
إذن : إن أفضل خدمة للدين المطلق أن يُعرف الإسلام حق المعرفة ؛ لتعرف
اليهودية والنصرانية أيضًا على الوجه المقبول ، وذلك بالتوفيق بين التوراة
والإنجيل والقرآن ، كما وفقنا في الجزء الخامس لا بالاستدلال بالقرآن على صدق
التوراة والإنجيل ، ثم الاستدلال بما يسمونه توراة من تلك الكتب الكثيرة التي أُلِّف
أكثرها بعد صاحب التوراة وبالكتب والرسائل الكثيرة التي يسمون مجموعها إنجيلاً
على تكذيب القرآن ؛ لأن هذا الصنيع يعود على الموضوع بالنقض فيبطل الدليل
نفسه ، وأقل ما يقال فيه ( تعارَضا تساقَطا ) وتكون النتيجة إبطال الجميع ، أي أن
القرآن هو الدليل على صحة التوراة والإنجيل ، والقرآن ليس من الله - بزعمهم -
فشهادته غير حق ، ودلالته غير صحيحة ، وسنعود إلى الكلام على كتاب ( أبحاث
المجتهدين ) وعلى جريدة بشائر السلام بما يؤلف بين الأديان ، ويدعو إلى إزالة
الأضغان .
((يتبع بمقال تالٍ))


 
غرة جمادى الأول - 1319هـ
16 أغسطس - 1901م
الكاتب : محمد رشيد رضا

شبهات المسيحيين على الإسلام
وحجج الإسلام على المسيحيين

نبذة ثالثة تابعة لما في الجزء الخامس والجزء العاشر
بيَّنا في الجزئين الخامس والعاشر المراد بالتوراة والإنجيل عند المسلمين ،
وهما اللذان يشهد لهما القرآن الكريم ، وبيَّنا أنه لا تنهض للمسيحيين حجة على
إثبات دينهم وكتابيهما ، ونبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام ، إلا من
القرآن ولا يكون القرآن حجة إلا إذا كان من عند الله تعالى ، فعليهم أن يؤمنوا به
ويأخذوا بإصلاحه ليكونوا معنا موحدين لله تعالى ، نعبده وحده من دون البشر
كالمسيح وغيره ، وندعو سائر الوثنيين إلى هذا الإيمان الذي هو غاية ارتقاء العقل
البشري ، وفيه السعادة والنجاة في الآخرة مع العمل الصالح الذي يستلزمه ، وقد
بيَّنا بالدليل المعقول نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام ، وكون ما جاء به وحيًا في
درس التوحيد الذي نشر في الجزء الماضي وسنزيده بيانًا في الدروس الآتية إن
شاء الله تعالى ، هؤلاء المبشرون يدعوننا إلى البحث في الدين ، أو يدعوننا أن
نؤمن بأن بعض الأنبياء إله كامل وإنسان كامل ، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة
حقيقة ، وإن كان العقل ينكر ذلك ويحيله وهو محل الإيمان ، وأن ننكر بعض
الأنبياء ونجحد نبوته بالمرة وإن قام عليها أقوى البراهين ، فإن كانوا يبحثون
لإظهار الحق لأجل اتباعه فليجعلوا العقل أصلاً ويحكِّموه في الدلائل ، وإلا فبماذا
يميز بين الحق والباطل ؟
إن قالوا : كتب الدين ، نقول ( أولاً ) : بماذا تثبت هذه الكتب ؟ فإن قالوا :
بالعقل ، نقول : لزمكم أن العقل هو الأصل ، ولا يتأتى أن يحكم بصحة كتاب يشتمل
على ما هو مستحيل عنده ، و ( ثانيًا ) : إذا كانت كتب الأديان التي تناظرون فيها
متفقة فالدين واحد ، وإلا فبماذا يرجح بعضها على بعض ؟ أليس بالعقل الذي يبين
أيها أهدى وأنهض بما يحتاج إليه البشر من الدين .
للدين ثلاثة مقاصد : تصحيح العقائد التي بها كمال العقل ، وتهذيب الأخلاق
التي بها كمال النفس ، وحسن الأعمال التي تُناط بها المصالح والمنافع وبها كمال
الجسد ، فإذا حكَّمنا عاقلاً لم يسبق له تقليد المسلمين ولا تقليد النصارى في الدين ،
وكلَّفناه أن ينظر أي الدينين وفَّى هذه المقاصد الثلاثة حقها بحسب العقل السليم
فبماذا يحكم ؟
يرى المسلمين مجمعين على أن العقائد لا بد أن تكون أدلتها يقينية ؛ لأن
كتابهم يقول في الظن الذي هو دون مرتبة اليقين في العلم { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ
الحَقِّ شَيْئاً } ( يونس : 36 ) ويقول في الذين احتجوا على شركهم بمشيئة الله
تعالى { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } ( الأنعام : 148 ) ويقول { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ( البقرة :
111 ) ويقول عند ذكر الآيات التي يقيمها على العقائد إن { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ( الرعد : 4 ) { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى } ( طه : 54 )
أي العقول ، ويرى المسيحيين مجمعين على أن أصل اعتقادهم فوق العقل ، وأنه
يحكم باستحالته وعدم إمكان ثبوته ، ولا شك أنه هذا العاقل يحكم بأن عقائد
المسلمين هي الحقة الصحيحة ، ولا يلتفت إلى قول صاحب أبحاث المجتهدين
وغيره : إن ذلك بحث في كنه ذات الله تعالى ، ولا يعرف كنه الله باتفاق المسلمين
وغيرهم ؛ لأن فرقًا عظيمًا بين ما يثبته العقل بالدليل ؛ ولكنه لا يعرف كنهه ، وبين
ما ينفيه ويجزم بعدم إمكان تحققه ، ومثال ذلك أننا نثبت المادة بصفاتها وخواصها
وآثارها ، ولا نشك في وجودها ؛ ولكننا لا نعرف كنه حقيقتها ، بل لم يصل العقل
إلى معرفة كنه شيء من هذه المخلوقات ؛ وإنما عرف الظواهر والصفات ، كذلك
التوراة تصف الله تعالى بصفات يرفضها العقل كقوله في الباب السادس من سفر
التكوين ( فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض ، وتأسف في قلبه ، فقال : امحوا
عن وجه الأرض الإنسان الذي عملته ) وهذا يدل على أنه كان جاهلاً وعاجزًا
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
ثم ينظر هذا العاقل والحكم العادل في المقصد الثاني ، وهو تهذيب الأخلاق ،
فيرى التعاليم الإسلامية فيه قائمة على أساس العدل والاعتدال من غير تفريط ولا
إفراط ، مع استحباب العفو والصفح والإحسان لقول كتابه : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } ( النحل : 90 ) فسَّر البيضاوي الفحشاء بالإفراط في قوة الشهوة
البهيمية ، والمنكر بالإفراط في قوة الغضب الوحشية ، وقوله : { وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ( البقرة : 237 ) وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ( الفرقان : 67 ) إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة عامة وخاصة ، ويرى التعاليم المسيحية مبنية على التفريط والإفراط
يقول كتابهم : ( أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم ) كما في إنجيل متَّى ( 5 : 44 )
وهذا إفراط في الحب لا يقدر عليه البشر ؛ لأن قلوبهم ليست في أيديهم ، ويقول في
إنجيل لوقا ( 19-27 ) : أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أحكم عليهم فائتوا بهم
إلى هنا واذبحوهم تحت أقدامي ) وفي الباب 14 من إنجيل لوقا 25 : ( وقال لهم إن
كان أحد يأتي إليَّ ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا ،
فلا يصلح أن يكون لي تلميذًا ) وهذا تفريط في الحب إفراط وغلو في البغض ومثل
هذا كثير ، ولا شك أن هذا العاقل يحكم لدين الاعتدال على دين التفريط والإفراط ؛
لأن الأول يرقي البشرية ويعزها كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون : 8 ) والآخر يدليها ويذلها كما قال : ( من ضربك على خدك الأيمن
فأدر له الأيسر ) وغير ذلك مما في معناه .
وأما المقصد الثالث ، وهو الأعمال الحسنة التي ترقي النوع الإنساني في
روحه وجسده ، فيرى أن في الإسلام كل عبادة منها مقرونة بفائدتها ، ككون الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وكون الصيام يفيد التقوى وكون العبادة في الجملة
ترضي الله تعالى لقوله : { وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } ( الممتحنة : 1 ) إلى غير ذلك مما
يزكي النفس ويرقي الروح ، ولا يرى مثل هذا في كتب الآخرين ، وإنما يرى في
التوراة - التي هي كتاب الأحكام المسيحية ؛ ولكن المسيحيين يؤمنون بها قولاً لا
فعلاً - أن أحكام العبادات معللة بالحظوظ الدنيوية كقولها في الباب الرابع من سفر
التثنية ( 40 : واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك
من بعدك ) وكتعليل مشروعية الأعياد في الباب 23 من سفر الخروج من العدد 14-
16 بالحصاد والزراعة ، وبالخروج من مصر ، فأين هذا من بيان حكمة عيد الفطر
في قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( البقرة : 185 ) .
يرى أحكام المعاملات الإسلامية مبنية على أساس قاعدة درء المفاسد وجلب
المنافع باتفاق المسلمين ، وأن كليات هذه الأحكام خمس يسمونها الكليات الخمس ،
وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال ، ويرى أن الشريعة الإسلامية
ساوت في الحقوق بين من يدين بها وغير من يدين بها ويراها تأمر بكشف أسرار
الكون واستخراج منافعه بمثل قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } ( الجاثية : 13 ) ويرى التوراة والإنجيل لم يجمعا هذه
المنافع في أحكامها ، بل يخالفانها كثيرًا ، فالوصية التاسعة : ( لا تشهد على قريبك
بالزور ) فأين هذا التقييد بالقريب من أمر القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ( النساء : 135 ) وغير ذلك من الآيات ، وفي الباب الرابع
عشر من سفر تثنية الاشتراع إباحة المسكر وسائر الشهوات على الإطلاق ونصه :
( وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر ، وكل ما تطلب
منك نفسك وكُلْ هناك أمام الرب وافرح أنت وبيتك ) وفي الباب السادس من
إنجيل متى ( 25 : لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون )
وفي موضع آخر : ( لا تشتغلوا من أجل الخبز الذي يفنى ) يأمرهم بهذا مع أن
الخبز أهم المهمات عندهم حتى أمروا أن يطلبوه في صلاتهم بقوله : ( خبزنا
بأكفافنا أعطنا اليوم ) فما هذا التناقض .
لا تأمر هذه الكتب بترك الأعمال للدنيا فقط ، بل ليس للأعمال الصالحة فيها
قيمة ولا منفعة مطلقًا قال بولس في رسالته إلى أهل رومية ( 14 - 4 : أما الذي
يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين ( 5 ) وأما الذي لا
يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يحسب له برًّا ) هذا والله يقول في القرآن:
{ لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ } ( البقرة : 177 )
الآية ، فهل تنجح الأمم بهذه الأعمال أم بإيمان لا قيمة للعمل معه ؟
وأثبت هذا المعنى بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية حيث
ذكر أن أعمال الناموس تحت لعنة ، وأنه لا يتبرر أحد عند الله بالناموس ، وأن
الناموس لا لزوم له بعد مجيء المسيح ، والمسيح نفسه يقول : ( ما جئت لأنقض
الناموس وإنما جئت لأتمم ) ؛ ولكن المسيحيين عملوا بقول بولس فتركوا التوراة
وأحكامها بالمرة ، وقد أباح لهم الرسل جميع المحرمات ما عدا الزنا والدم المسفوح
والمخنوق والمذبوح للأصنام ( أعمال 15 : 28 و29 ) وكأنهم رأوا أن شريعة
التوراة لا تصلح للبشر كما قال حزقيال في الباب العشرين عن الرب أنه لما غضب
على بني إسرائيل قال : ( 23 ورفعت أيضًا يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم
وأذريهم في الأراضي 24 لأنهم لم يصنعوا أحكامي ، بل رفضوا فرائضي ونجسوا
سبوتي ، وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم 25 وأعطيتهم أيضًا فرائض غير
صالحة وأحكامًا لا يحيون بها ) وصرح حزقيال قبل هذا بأن بني إسرائيل عبدوا
الأصنام بعد ما أنجاهم الله من مصر ، فليعتبر بهذا ذلك المبشر المسيحي ، وذلك
اليهودي اللذان أنكرا عليَّ ما كتبته في العدد العاشر من طلب بني إسرائيل عبادة
الأصنام ، وزعما أنه لم يقل بذلك إلا القرآن .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))


 
16 جمادى الأولى - 1319هـ
31 أغسطس - 1901م​
الكاتب : محمد رشيد رضا


شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية
وحجج الإسلام على المسيحيين

نبذة رابعة
ذكرنا في النبذ الماضية أن عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد بعيد
مأخوذة من عقائد الوثنيين ، وقلنا : إن الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند اليهود
والنصارى التوراة ، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن الشريف ؛ وإنما توراة
القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين
من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى ، وفيها تاريخه وذكر وفاته ، وبيَّنا أنه لا
سبيل إلى هروب أهل الكتاب من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم
إلا بالاتفاق مع المسلمين على هذا الاعتقاد .
ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية
والنصرانية ، وكتبهما نقلاً عن كتاب ( علم الدين ) الذي ألَّفَه الخالد الذكر علي باشا
مبارك ناظر المعارف سابقًا ، قال في المسامرة الرابعة والتسعين حكاية عن
الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي بعد كلام ، ما نصه :
( ويقول : إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب السماوية متكئًا في ذلك
على قول ماري أغسطس : إنه لا يصح بقاء الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما
هي عليه ، وعلى قول أويجين بأن ما في التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور
خرافية بدليل أن كلمة ( بَرَّاه ) العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء
معناه رتب ونظم ، ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل ،
فاستعمال هذه الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل ،
فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين ، وحيث إنهم قالوا : إن
المادة ذات حياة ، فتكون الروح أيضًا أزلية ؛ لأنها هي التي بها الحياة ، وبما أن
المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب والقوانين والتوازن ، فتكون
الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة .
ويقول أيضًا : إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي الأزمان الستة
التي ذكرها الهنود ، والجنبهارات الستة التي ذكرها زروطشت للمجوس ، وأن
الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين ، وأن
آدم هو آديمو المذكور في أزورويدام ، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته
بيرا وهكذا .
ويبالغ في القدح في التوراة ، ويقول : إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه ، واغتصاب
الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب والقتل والزناء ونحو
ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه الله تعالى وجعله أمينًا على
أسراره الإلهية ، فانظر إلى اجتراء هذا الرجل على نبي الله موسى عليه السلام ،
وعلى كتاب الله التوراة ، مع أن التوراة هي أساس الإنجيل ، فما يقال فيها يقال في
الإنجيل[1] ؛ ولذلك يقولون : إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم إنه
سيجيء إليهم مسيح ، وكلمة مسيح ككلمة مسايس ، ومسايس لقب شريف باللغة
العبرانية ، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في الإصحاح الخامس
والخمسين ، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور ، ومع ذلك فلم يلتفت هذا
الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال .
ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى ، وأنه هو الإله
وليسوا أول قائل بهذا التجسد ، بل قيل قبلهم في جزاكا و برهمة بقدس الهند وقيل
في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة ، وقال سكان البيرو من أمريكا أن الإله الحق
تجسد في إلههم أودين ، وإن ولادة عيسى من بكر بتول فتح روح القدس يشبه قول
أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت بكر حملت به من أشعة الشمس ، وكان
المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من غير مباشرة أحد لأمه .
وقول النصارى : إن عيسى مات ودفن ، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء حيًّا ، قال
بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري ، وفي أورنيس من أهالي فينكيه
وفي أوتيس من أهالي فريجيه ، إلا أنهم لم يقولوا برفعه إلى السماء ، وكما قيل إن
أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق ،
وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه ، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في
عيسى وإرساله وموته إنما كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب
الخطيئة الأولى ، خطيئة آدم و حواء ، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون
أن تكفر عنه الخطيئة ، ولا شك أن هذا خرافة ، ولهم كلام كثير من هذا القبيل
يطول شرحه ، ولا فائدة في ذكره ) اهـ .
( المنار )
لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك علماء أوربا الدين
المسيحي ، فبعضهم صرح بتركه ، بل وبعض حكوماتهم ؛ فإن الحكومة الفرنسوية
أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها ، وطاردت رجال الدين واضطهدتهم ، ومن بقي
يتظاهر بالدين من عظمائهم فإنما هو لأجل السياسة ، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء
الذين يعبأون بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين
ضروري للبشر ؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء ، ودين الفطرة محجوب
عنهم ؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها حقيقة الإسلام ، أذكر
من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر ( إن الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث
ساعات رديئًا أو قبيحًا ) ولو فهم فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على
اختصارها تغني عن جميع ما يعرفون من كتب سائر الأديان ، وهو مفهوم في الجملة
لمن له أدنى إلمام باللغة العربية وهي { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( وَالعصر :
1-3 ) .
إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد ، ويعلم أن المراد بالإنسان الجنس ،
وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في أفراده ومجموعه ،
وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به والثبات عليه ، وأن الحق هو
الشيء الثابت المتحقق ، وثبوت كل شيء بحسبه ، وأن الصبر يشمل الصبر عن
الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات الضارة ، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله
كالمدافعة عن الحق والمصائب .
كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية ، ثم ظهر
أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى جميع الأقطار ،
واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد ، ولما قام الفيلسوف تولستوي الروسي يفند
تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية ، ويبين بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون
للعلوم والفنون حتى تلامذة المدارس وتلميذاتها ، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما
ازداد المرء علمًا ازداد عنها بعدًا ؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في ظلمات
الجهل والغباوة ، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم ، وقد كانت أمتها في
عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين ، وصارت تبعد عن الدين كلما بعدت عن
العلم .
أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد وقعوا في
بعض الشبهات ، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ عنهم ؛ ولكن السبب
في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم الأوربي ولا بعده ، ولهذا نطالب
علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام تعليم العلوم الكونية بأيديهم ؛ لأننا نثق أتم
الثقة بأنه لا يمكن أن يرجع عن الإسلام من عرفه ، وكيف يختار الظلمة من عاش
في النور ، وإن لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى .
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))

(1) المنار - هذه الجملة وما بعدها من كلام الإنكليزي ، ولا شك أن إبطال التوارة يستلزم إبطال الإنجيل كما قال ، ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بالإسلام .​
 
16 جمادى الآخرة - 1319هـ
29 سبتمبر - 1901م​

الكاتب : محمد رشيد رضا

شبهات المسيحيين على الإسلام
وحجج الإسلام على المسيحيين

النبذة السادسة
لو أراد الإنسان أن يناقش هؤلاء المسيحيين الذين يؤلفون الكتب في دعوة
المسلمين إلى النصرانية ، ويحكم العلم في مصنفاتهم ، فيرد على كل خطأ يجب رده
لاحتاج أن يكتب على كل صحيفة من صحائفهم السوداء كتابًا مستقلاًّ ؛ لأنهم يرمون
الكلام على عَوَاهنه فيخطئون من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون ، ويتعمدون
الإيهام والتغرير لأنهم يكتبون للعامة الذين لا يدققون .
يقول صاحب كتاب ( أبحاث ) الجدليين لا ( المجتهدين ) في الفصل الأول
من البحث الأول إنه يثبت صحة التوراة والإنجيل ( بالحجة الدامغة والبرهان
المنطقي ) ثم يورد الآيات القرآنية وهي عنده جدلية لا منطقية ويحرفها عن معناها
كما حرَّف هو وسلفه التوراة والإنجيل ، وقد بيَّنا من قبل معنى التوراة والإنجيل
وإثبات القرآن لهما ، وكون هذا الإثبات لا ينافي إرسال نبي آخر بشريعة جديدة
أكمل منها ، وبيَّنا أيضًا وجه كون الديانة الإسلامية أصلح لحال البشر وأهدى
لسعادتهم ، بل وبيَّنا كيف أبطل بولس شريعة التوراة والإنجيل وجعل المسيحية
إباحية لا قيمة فيها للعمل الصالح ؛ وإنما العمدة فيها على الإيمان بأن المسيح جاء
ليخلص العالم .
فكيف جاز عند محبينا من دعاة المسيحيين أن يبطل هذا الرجل اليهودي
بذلاقة لسانه وخلابته شريعة موسى و عيسى عليهما الصلاة والسلام ، ولا يجوز في
نظرهم أن يرسل الله محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام بالبراهين العقلية فيصدق
المرسلين ، ويقضي على المارقين ، ويؤنب المحرِّفين ، ويبين الحق في اختلاف
المختلفين ، ويخاطب اليهود والمسيحيين ، بمثل ما خاطب عيسى الكتبة والفريسيين
بأنهم لم يقيموا الكتاب ، بل أخذوا بالقشر وتركوا اللباب ، وأنهم لو أقاموه لما ساءت
حالهم ، ولما وجب خزيهم ونكالهم ؛ ولكن اليهود والنصارى كانوا في زمن البعثة
في أشد الخزي والنكال ، وعند آخر طرف من الغواية والضلال ؛ ولذلك تقلص
بشمس الإسلام ظل سلطانهم بعد حين { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 ) .
أورد صاحب الأبحاث سبع آيات من القرآن المجيد ، وقال إن الآية الأولى
تفيد أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس ، نعم وقد اهتدى بهما من قبل
أقوام فسعدوا ، ثم حرَّفوا وفسقوا ، وانحرفوا فشقوا ، حتى جاء الإسلام بالهداية
الكبرى ، والحجة العظمى ، فاهتدى به بعضهم فسعدوا وسادوا على الآخرين ،
وكانوا مع أهله الأعلين ما كانوا به مهتدين .
وقال إن الآية الثانية وهي : { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ( المائدة : 68 ) تبين صحتهما ، وهو كذلك ولكن للآية تتمة لم
يذكرها المصنف ؛ لأنه غير منصف وهي قوله : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } ( المائدة : 68 ) فكأنه يأمرنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل هو ومن
على شاكلته بالتوراة ، والمراد بما أُنزل إليهم من ربهم القرآن ؛ فإنه لم ينزل بعد
التوراة والإنجيل غيره ، فالله تعالى يأمر أهل الكتاب بأن يكونوا مسلمين يؤمنون
بالكتب كلها ، ويبين أن تعللهم واحتجاجهم على عدم اتِّباع القرآن بأنهم أصحاب
كتاب سماوي لا حاجة لهم بغيره احتجاج باطل وتعلل كاذب ؛ لأنهم لم يقيموا
التوراة والإنجيل وأوضح هذا بالآيات الأخرى الناطقة بأنهم حرَّفوا ، وبأنهم نسوا
حظًّا مما ذُكِّروا به ، وأنهم لو أقاموهما لما حل بهم الخزي والنكال { وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ( المائدة : 66 ) وكذلك وقع لإخوانهم الذين أسلموا فقد فازوا ببركات السماء
والأرض ، وتتمة الآية التي نحن بصددها { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } ( المائدة : 68 ) وهذه الحجة
قائمة عليهم إلى يوم القيامة ؛ فإن هؤلاء الدعاة يخدعون عوام المسلمين بوجوب
اتِّباع التوراة ويوهمونهم أنهم متبعون لها ، ويقول صاحب الأبحاث أن محمدًا يطلب
إقامة حدودها ، ولا يوجد في الدنيا نصراني يقيم حدًّا من حدود التوراة أو يعمل
بأحكامها في العبادات والمعاملات ، فما لهم يشفقون على المسلمين وينصحون لهم
بإقامة هذه الحدود ولا ينصحون لأنفسهم ولا يشفقون عليها ؟
وقال : والثالثة تبين أن الإنجيل مُنَزَّل من عند الله ، وأن محمدًا راضخ
لأحكامه ، والآية الثالثة هي قوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } ( المائدة : 47 ) وليس فيها إخبار بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام راضخ
لأحكامه ؛ ولكن هؤلاء الناس يستبيحون أن يُحَمِّلوا الآيات ما لا تحمله لتأييد أهوائهم ،
وبذلك أفسدوا كتبهم وجاءوا يفسدون علينا كتابنا ؛ ولكن الله حفظه من التحريف
والتبديل ، في الآية قراءتان إحداهما بكسر لام ( وليحكم ) وهي متعلقة بقوله تعالى
قبلها : { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ } ( المائدة : 46 ) أي أعطينا عيسى الإنجيل ليحكم أهله
فيه ، وأهله هم بنو إسرائيل لأن القرآن أخبرنا بأنه أرسل إلى بني إسرائيل فعرف
أنهم أهله ، وكذلك الإنجيل الذي عندهم الآن يقول إن المسيح قال : ( لم أبعث إلا
إلى خراف إسرائيل الضالة ) .
والقراءة الثانية بسكون اللام ، وهي حكاية للأمر السابق عند الإتيان ، أي
آتيناه الإنجيل وأمرنا من أرسل إليهم بالعمل به ، ويحتمل اللفظ أن يكون أمرًا مبتدأ
ورد على سبيل الاحتجاج على النصارى بعدم العمل بالإنجيل المُصَدِّق للتوارة
والمقتضي للعمل بها على ما تقدم بيانه آنفًا ، وإذا جاز لدعاة المسيحيين اليوم أن
يحتجوا على المسلمين بأن القرآن يأمرهم بالإيمان والعمل بالتوراة والإنجيل ولا
يرون هذا الاحتجاج مقتضيًا لإيمانهم بالقرآن ، فكيف يدعون أن أمر محمد صلى الله
عليه وسلم لهم بالحكم بالإنجيل يستلزم أن يكون هو راضخًا لأحكامه .
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
 
غرة رجب - 1319هـ
14 أكتوبر - 1901م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين

النبذة السابعة
ذكرنا في النبذة السادسة أن صاحب كتاب الأبحاث أورد سبع آيات من القرآن
العزيز وحرَّفها عن مواضعها لإثبات كتب اليهود والنصارى ، وإلزام المسلمين
باعتقادها والأخذ بها ، وبيَّنّا فيها تحريفه وكون الآيات حجة للمسلمين على اليهود
والنصارى لا العكس بالكلام على ثبوت آيات منها ، وفي هذه النبذة نتكلم على
باقيها .
قال : ( والرابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه
بالقرآن ) ونقول : إن الآية الرابعة هي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } ( النساء : 136 ) والمسلمون يعتقدون أن نبيهم جاء بالحق وصدَّق المرسلين ،
وأمرنا بأن نؤمن برسل الله وكتبه السابقة ؛ ولكن لم يكلفنا بالعمل بتلك الكتب لأنه
أغنانا عنها بكتاب أهدى منها لا نحار في روايته ، ولا نضل في درايته ، مشتمل
على جميع ما فيها من صحيح الاعتقاد ، معصوم من التحريف والتبديل ، محفوظ
من الضياع والنسيان ، حاوٍ لما لا يوجد فيها من المعارف الإلهية كما سنبينه بعد
إن شاء الله تعالى ، خالٍ من الإضافات التاريخية والآراء البشرية التي ألحقت
بما بقي من الكتب السماوية .
على أن هذه الآية قد اختلف المفسرون في المخاطبين بها ، فقيل هم المنافقون
المؤمنون في الظاهر ، المرتابون أو الجاحدون في الباطن ، كأنه يقول لهم أيها
المدَّعون الإيمان بالله وكتابه ورسوله وسائر كتبه ورسله بأفواههم وظواهرهم ، عليكم
أن تؤمنوا بقلوبكم وتطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم ، وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب
لما روي من أن ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك
وبموسى والتوراة و عزير ونكفر بما سواه فنزلت الآية ، وقيل : هم المسلمون مطلقًا
ولا يَعْتَدُّ المسلمون بإيمان مسلم إذا أنكر الإيمان بالأنبياء السابقين أو كذَّب كتبهم ؛
ولكنهم لا يكلفونه بالبحث عنها والعمل بها ؛ لأن الله تعالى أغنانا كما قلنا ولأنه قد
ضاع بعضها ونسي كما قال تعالى : { فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } ( المائدة : 14 )
وحرّف بعضها كما قال سبحانه : { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } ( المائدة : 41 ) وكيف نأخذ بكتاب نسي حظ عظيم منه ، ربما كان مبينًا ومفسرًا للباقي ، أو فيه ما ليس فيه مما لا بد منه فيكون أخذنا به على غير وجهه ، أو يكون ديننا ناقصًا ويصدق علينا قوله تعالى في أهل الكتاب : { أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ( البقرة : 85 ) الآية ؟ ونكتفي هنا بالاستدلال
على نسيان أهل الكتاب حظًّا منه بالقرآن الكريم ؛ لأن كلامنا مع الخصم في دلالة
القرآن على صدق الكتب ، وسنثبته بعد بشهادة تلك الكتب وأقوال رؤساء
الديانة النصرانية .
قال : ( والخامسة تبيّن أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا
يعرفون القرآن ) ونقول إن هذه الآية هي قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن
نُّؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( سبأ : 31 ) ولا دلالة فيها على ما ذكر
حتى على تقدير أن المراد بالذي بين يديه الكتب المتقدمة ؛ لأن سبب رفضهم
الإيمان هو دعوة القرآن ومن جاء به إلى ذلك الإيمان ، أي أنهم قالوا : إننا لا نؤمن
بالكتاب الذي جئت به يا محمد وقلت إنه من عند الله ، ولا نؤمن بالكتب التي قلت
إنها جاءت قبلك من عند الله ، فأين الدليل في هذا على أن أهل مكة كانوا يعرفون
التوراة والإنجيل بذاتهما ويتدارسونهما وهم أميون لا يوجد فيهم ، بل ولا في العرب
كافة من يكتب إلا أفراد لا يبلغون طرف جمع القلة - قيل إنهم كانوا ستة نفر -
والوجه الثاني في تفسير قوله تعالى : { وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( سبأ : 31 ) أنه
يوم القيامة وما يتلوه من الثواب والعقاب وهو الأظهر .
قال : ( والسادسة تبين إقرار محمد بصحة الكتاب ومساواته إياه بالقرآن )
ونقول إنه أورد الآية السادسة هكذا : ( قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما - القرآن
والإنجيل - أتبعه ) فانظروا أيها المنصفون إلى أمانة هؤلاء الناس في النقل ، وإلى
تحريفهم في المعنى وهم يخاطبون المسلمين ويعرفون حرصهم على القرآن العظيم
وقد أنزل الله تعالى الآية هكذا : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ( القصص : 49 ) أي أهدى من القرآن والتوراة لا
الإنجيل كما زعم مصنف كتاب الأبحاث ، والدليل على ذلك قوله تعالى قبل هذه
الآية : { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا
رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ
تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } ( القصص : 47-48 ) ( وفي قراءة ساحران )
وحكمة إسناد الكفر بموسى إليهم بيان طبائع الأمم وتشابه أطوار البشر حتى كأن
الحاضر عين الماضي ، ولذلك قال الحكماء : التاريخ يعيد نفسه ، والآيات حجة على
المكابرين وبرهان قاطع لألسنة المعاندين ، وليس فيها ما يدل على المساواة بين
القرآن والتوراة في كل شيء فإن تعجيز المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى
مما جاء به موسى ومما جاء به محمد لا يقتضي أن ما جاء به أحدهما مساوٍ لما جاء
به الآخر ، أرأيت لو قيل لجاهل بعلم المنطق ينكر على علمائه وكتبه : ألف لي
كتابًا فيه يكون خيرًا من كتاب إيساغوجي وكتاب ( البصائر النصيرية ) أتقول : إن
هذا القول يدل على أن الكتابين متساويين من كل وجه ؟
قال : ( والسابعة تبيّن الإقرار الصريح على أن التوراة صحيحة سالمة فيها
حكم الله ، وأن متبعها ليس في حاجة إلى أن يُحكِّم أحدًا سواها ) ، ونقول : إن الآية
السابعة هي قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } ( المائدة : 43 ) هذا ما أورده المصنف منها وتتمتها { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة : 43 ) وهي لا تدل على ما قاله لما نبينه هنا تبيينًا .
الآية واردة في التعجيب من حال اليهود الذين يحكِّمون النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم في بعض أمرهم ، وهم غير مؤمنين به كالذين طلبوا حكمه فيمن زنى
من أشرافهم ، وقالوا : إن حكم بالجلد أخذنا بحكمه ، وإن حكم بالرجم فلا نأخذ به . مع
أن حكم الزاني منصوص عندهم في التوراة ؛ ولكنهم يريدون اتباع الأسهل والأخف
ووجه التعجيب أن هؤلاء القوم ليس لهم ثقة بدينهم ولا إذعان لكتابهم ، فهم
يحكِّمون صاحب شريعة غير شريعتهم ، وشريعتهم التي يقولون إنها من عند الله
وفيها حكمه بين أيديهم ، ومن العجيب أنهم لا يقبلون حكمه إذا هو وافق ما عندهم ،
وهذا نهاية البعد عن الإيمان الصحيح الخالص بكتابهم ، ولذلك قال تعالى بعد
استفهام التعجب من تحكيمهم { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة : 43 ) أي ليس إيمانهم بكتابهم صحيحًا لأنهم أعرضوا عنه أولاً فتحاكموا
إليك يا محمد ، ثم أعرضوا عن حكمك الموافق له ثانيًا ، أو النفي لصفة الإيمان
عنهم بالإطلاق ، فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم
وما جاء به ، أي أنهم فسدت نفوسهم وبطلت ثقتهم بالدين مطلقًا حتى لا يرجى منهم
أبدًا .
وظاهر أن القول بوجود حكم لله أو أحكام متعددة في كتاب الله لا يقتضي أن
يكون ذلك الكتاب كله صحيحًا سالمًا من التحريف ، مشتملاً على جميع ما أنزله الله
تعالى ، فإنني أقول إن كتاب السيرة الحلبية مثلاً فيه حكم الله ، ولا أعتقد أن كل ما
فيه من الله تعالى ، وأنه سالم من التحريف ولا حاجة لغيره ، بل أعتقد مع هذا أن
فيه أقوالاً اجتهادية وآراء للمؤلف ونقولاً لا تصح ، وإننا في حاجة إلى غيره .
يتصل الكلام


 
غرة شعبان - 1319هـ
13 نوفمبر - 1901م
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
الكاتب : محمد رشيد رضا
النبذة التاسعة في كتب العهدين
جعل مؤلف الأبحاث الفصل الثاني من البحث الأول في إثبات صحة التوراة
والإنجيل عقليًّا ، وتقرير هذا الدليل أن الله قادر حكيم فلا بد أن يضع دستورًا
ويكتب شريعة لمخلوقاته العاقلة ، كي تعلم نسبتها إلى خالقها وواجباتها نحوه ،
وواجبات بعضها نحو بعض ، وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب
الطائعين المؤمنين لئلا يكونوا فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأنعام يدوس
بعضهم بعضًا ، وكالأسماك يأكل صغيرَها كبيرُها ، ويفني الناس بعضهم بعضًا
وتستوي الفضيلة والرذيلة ، وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم ، ثم قال : ( فإذا لم
يكن ذلك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل ، فقل لي بعيشك ما هما ، هل
يوجد كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والانجيل ؟ كلا
لعمري ) .
( المنار )
إننا لا نؤاخذ المؤلف على تقصيره في تقرير وجه الحاجة إلى الشريعة ، إذ
يعرف القراء هذا التقصير بمقابلته بما كتبناه وما سنكتبه في بيان الحاجة إلى الوحي
من دروس الأمالي الدينية ؛ ولكننا نذكِّره بأمور إذا تأملها ظهر له أن حجته داحضة .
( 1و2 ) لماذا ترك الله البشر قبل التوراة ألوفًا من السنين لا نعلم عددها من
غير شريعة إذا كان ذلك لا يرضيه ؟ ولماذا لم تظهر حكمته هذه إلا في بني
إسرائيل من عهد قريب ، وكل الناس عبيده والعلة تقتضي العموم ؟ هذان السؤالان
يردان عليه ، وعلى جميع اليهود والنصارى القائلين بقوله ولا يردان على المسلمين ؛
لأن القرآن حل هذا الإشكال بقوله تعالى في الرسل : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } ( غافر : 78 ) فنحن نعتقد أن الله أرسل رسلاً في
جميع الأمم التي استعدت بترقيها إلى فهم توحيده لا يعلم عددهم غيره تعالى .
( 3 ) هل كان أهل الصين كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا ، أو كالسمك يأكل
كبيرهم صغيرهم بلا وازع ولا رادع ، أم كانوا أولي مدنية وفضائل قبل وجود بني
إسرائيل وبعدهم ؟ والتاريخ يدلنا على أنهم كانوا أرقى من بني إسرائيل في العلوم
والمعارف والمدنية والنظام الذي تُحتاج الشريعة لأجلها ، وكانوا أرقى من النصارى
أيام لم يكن عند هؤلاء إلا الديانة التي بثها فيهم مقدسهم بولس ، فما زادتهم إلا عداوة
وبغضًا واختلافًا وتنازعًا وحربًا واغتيالاً في تلك العصور التي يسمونها المظلمة ،
وكان الصينيون في هدوء وسلام ووفاق ووئام ، ما قيل في الصينيين يقال نحوه في
الهنود ، ولا يرد مثل هذا الإشكال على المسلمين ؛ لأنهم بمقتضى هدى القرآن
يجوزون أن يكون الله تعالى بعث في الصين و الهند أنبياء أرشدوهم إلى ما كانوا
فيه من السعادة ، ثم طال عليهم الأمد ، فمزجوا ديانتهم بالنزغات الوثنية الموروثة
حتى حوَّلوها عن وجهها تحويلاً ، كما نعتقد مثل ذلك في النصارى إذ لا شك أن
ديانتهم في الأصل سماوية توحيدية ، ثم حوَّلوها إلى عبادة البشر من المسيح وأمه
وغيرهما .
( 4 ) إن الأوروبيين قد استغنوا بالقوانين الوضعية عن شريعة التوراة ،
وبالآداب الفلسفية عن آدابها وآداب الإنجيل فطرحوا الزهادة ، ونفضوا عن
رؤوسهم غبار الذل ، وقد نجحوا بهذا وارتقوا عما كانوا عليه أيام كانوا متمسكين
بهذا الكتاب الذي يسمى ( المقدَّس ) فكيف تقول إنه لا يوجد غيره لهداية البشرية
وتهذيب أخلاقهم ، وهذا الواقع على خلافه ، وهذا الإشكال لا يرد أيضًا على
المسلمين ؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود والنصارى نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به في الوحي
وطرأ على الباقي التحريف والنسخ ، فلم يعد صالحًا لهداية البشر ، ويعتقدون أن
الأوربيين أقرب الناس إلى دين الإسلام في أخلاقهم الحسنة كعزة النفس ، وعلو
الهمة والجد في العمل والصدق والأمانة والاهتداء بسنن الكون والاسترشاد بنواميس
الفطرة ، والأخذ بالدليل وغير ذلك ، وأنهم كما اهتدوا إلى هذا بالبحث والتوسع في
العلم سيهتدون كذلك إلى سائر ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والفضائل
والأعمال .
( 5 ) إن المسلمين قد ظهر فيهم كل ما ذكره في وجه الحاجة إلى الشريعة
على أكمل وجه لم يعرف مثله في الكمال عند اليهود والنصارى ، فعرفوا ما يجب
لله تعالى ، وما يجب من حقوق العباد وصلح بالدين حالهم ، واجتمعت كلمتهم
وتهذبت أخلاقهم ، وسمت مدنيتهم في كل عصر بقدر تمسكهم به ، والتاريخ شاهد
عدل .
( 6 ) إذا كانت التوراة قد بيَّنت كل ما ذكره من حاجة البشر إلى الشريعة
فلماذا وُجد الإنجيل ؟ وإذا كانت ناقصة فلماذا جعلها الله ناقصة لا تفي بالحاجة ،
وكيف يتم له الدليل بناء على هذا القول على إثبات التوراة والإنجيل بالعقل ؟ وهذا
الإشكال لا يرد على المسلمين المعتقدين بصحة أصل التوراة والإنجيل ؛ لأنهم
يقولون : إن كلاًّ منهما كان نافعًا في وقته ، ثم عدت عواد اجتماعية ذهبت بالنفع
والفائدة ، فساءت حال القوم المنتمين إلى الكتابين ، فجدَّد الله الشريعة بالإسلام على
وجه فيه الإصلاح العام ، فانقشع بنوره كل ظلام ، وحفظ الله كتابه من التحريف
والتبديل ليرجع إليه الذين يضلون السبيل .
( 7 ) إذا كانت التوراة مشتملة على ما ذكره - كما تقدم - فلماذا تركها
المسيحيون فعطلوا شرائعها ، وضيَّعوا حدودها كما بيناه في بعض نبذ الرد
السابقة .
( 8 ) إذا كانت كتب العهد العتيق والعهد الجديد إلهية حقيقية ، فلماذا وُجد
فيها الاختلاف والتناقض والتهاتر ومصادمة العقل الذي لا يُفهم الدين ولا يُعرف إلا
به ، وقد تكلمنا على مصادمتها للعقل قليلاً في بعض النبذ الماضية ، وسنبين بعد كل
ما ادعيناه هنا تبيينًا .
( 9 ) إذا كانت هذه الكتب إلهية وافية بما ذكره المصنِّف من حاجة الناس
للشرائع ، فلماذا وُجد فيها ما يُخل بذلك أصوله وفروعه ، كتشبيه الله بخلقه ونسبة
الفواحش إلى الأنبياء الذين هم أحق الناس وأولاهم بالاهتداء بالدين الذي تلقوه عنه
سبحانه وتعالى ، وغير ذلك مما ينافي الآداب الصحيحة كما ألمعنا من قبل ،
وسنزيد ذلك بيانًا ، ونكتفي الآن بإشارات من لامية البوصيري رحمه الله تعالى ،
قال في شأن العهد العتيق وأهله :
وكفاهم أن مثَّلوا معبودهم ... سبحانه بعباده تمثيلا
وبأنهم دخلوا له في قبة ... إذ أزمعوا نحو الشام رحيلا
وبأن (إسرائيل) صارع ربه ... فرمى به شكرًا لإسرائيلا
وبأنهم سمعوا كلام إلههم ... وسبيلهم أن يسمعوا منقولا
وبأنهم ضربوا ليسمع ربهم ... في الحرب بوقات لهم وطبولا
وبأنه من أجل آدم وابنه ... ضرب اليدين ندامة وذهولا
وبأن رب العالمين بدا له ... في خلق آدم يا له تجهيلا
وبدا له في قوم نوح وانثنى ... أسِفًا يعضُّ بنانه مذهولا[1]
وبأن إبراهيم حاول أكله ... خبزًا ورام لرجله تغسيلا[2]
وبأن أموال الطوائف حُللت ... لهموا ربًا وخيانة وغلولا
وبأنهم لم يخرجوا من أرضهم ... فكأنما حسبوا الخروج دخولا
لم ينتهوا عن قذف داود ولا ... لوط فكيف بقذفهم روبيلا[3]
وعزوا إلى يعقوب من أولاده ... ذكرًا من الفعل القبيح مهولا
وإلى المسيح وأمه وكفى بها ... صدِّيقة حلت به وبتولا
وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا ... لزنى بمحصنة ولا منديلا[4]
لوَّوا بغير الحق ألسنة بما ... قالوه في (ليَّا) وفي راحيلا [5]
ودعوا سليمان النبي بكافر ... واستهونوا إفكًا عليه مقولا[6]
وجنوا على هارون بالعجل الذي ... نسبوا له تصويره تضليلا[7]
إلى أن قال :
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
طلعت به شمس الهداية للورى ... وأبى لها وصف الكمال أُفُولا
والحق أبلج في شريعته التي ... جمعت فروعًا للهدى وأصولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
درست معالمها ألا فاستخبروا ... عنها رسومًا قد عفت وطلولا
ولا يخفى أن هذه المطاعن التي تنافي ما ذكره المصنِّف وغيره من الدليل
على حاجة البشر إلى الشريعة ولا تليق بالوحي السماوي ، لا ترد على المسلمين
الذي يقولون بحقية التوراة والإنجيل لما بيَّناه في الجزء الخامس فراجعه .
((يتبع بمقال تالٍ))
_
(1) بدا له ، في البيت وما قبله ، أي : ظهر له فيه رأي جديد ، وفي سفر التكوين (6 : 6) أن الرب حزن وتأسف ؛ لأنه خلق آدم ، ويلزمه البداء والجهل ، وكذلك في نوح وقومه .
(2) راجع (18 تك) .
(3) يريد رمي داود بالزنا بامرأة أوريا (11 صموئيل 2) ولوط ببناته راجع (19تك) وأما روبيل فيسمونه رؤبين راجع قصة قذفه في (35 تك) .
(4) في (38 تك) أن يهوذا زنى بكنته ظنًّا أنها بغي ، ووعدها بجدي وأعطاها خاتمه وعصابته وعصاه رهنًا على ذلك ، وجاءت منه بتوأم .
(5) القصة في (29 و30 تك) .
(6) في (11 الملوك الأول) أن النساء أملن سليمان لعبادة الأوثان (برأه الله) .
(7) راجع (32 خروج) .​
الكاتب : محمد رشيد رضا

 
غرة شعبان - 1319هـ
13 نوفمبر - 1901م

الكاتب : محمد رشيد رضا
انتقاد المقتطف
وكتاب القسطاس المستقيم

عهدنا بالمقتطف الأغر العناية بتقريظ الكتب وانتقادها - لاسيما الكتب
النافعة - بأن لا يقرظ الكتاب إلا بعد قراءته ، أو قراءة جملة صالحة منه يعرف بها
موضوعه ومسلكه فيه ، ومما رأيناه فيه وراء حدود الغرابة الانتقاد على كتاب
( القسطاس المستقيم ) لحجة الإسلام الغزالي عند تقريظه في الجزء الحادي عشر
الأخير حيث قال :
( ومما نراه في حد الغرابة من هذا الكتاب قول مؤلفه أن سائلاً سأله عما إذا
كان يزن حقيقة المعرفة بميزان الرأي والقياس ، أو بميزان التعليم ، فأجاب متنصلاً
من ميزان الرأي والقياس ؛ لأنه ميزان الشيطان ، فلا نكاد نُصدِّق أن عالمًا فاضلاً
كالغزالي ينفي ميزان الرأي والقياس ، ويعتمد على ميزان التعليم في غير المعرفة
الدينية ؛ ولذلك نظن أن في القسم الأول من الكتاب نقصًا ، وأنه حُذف منه ما
يحصر المعرفة المقصودة هنا بالمعرفة الدينية ، وإلا فإذا أُريد بها سائر المعارف
كالزراعة والصناعة والطب وكل العلوم والفنون ، فالاعتماد فيها على الرأي
والقياس كالاعتماد على الحس والمشاهدة ) .
( المنار )
لو طالع المنتقد الفاضل الكتاب لعلم أنه في الدين ، وأن السائل سأل عن
المعرفة الدينية ، فلا حاجة إلى الظن بأن في القسم الأول منه نقصًا ، على أنه لا
حاجة في الوقوف على ذلك لمطالعة الكتاب كله ؛ فإن وصف السائل بأنه من أهل
التعليم ، وأنه يأمر باتباع الإمام المعصوم كافٍ في بيان أن السؤال عن حقيقة
المعرفة الدينية فحسب ، فما بالك وقد سأل الغزالي الله فيمن يزعم من أصحابه أن
القياس ميزان المعرفة أن يكفي الدين شره ( فإنه للدين صديق جاهل ، وهو شر من
عدو عاقل ) نعم إن السائل الذي يذكر الغزالي مناظرته في الكتاب من أهل التعليم
الباطنية القائلين بأن القلب لا يطمئن في الدين إلا إذا وُجد في كل عصر إمام
معصوم يُرجع إليه في الخلاف والمشكلات ، والإمام الغزالي أنكر ذلك عليه ،
وحاجَّه فيه حتى ألزمه وأقنعه ، فقوله في صديق الدين الجاهل بعد ما ذكر : ولو
رزق سعادة مذهب أهل التعليم لتعلم أولاً الجدال من القرآن الكريم ، حيث قال الله
تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ( النحل : 125 ) ... إلخ ، يوقع المطلع على الكتاب في اشتباه ، ويوهم أن
الغزالي من أهل مذهب التعليم ؛ وإنما هو خصيمهم ، ولكن قوله : ( لتعلم أولاً الجدال
من القرآن ) ينفي ذلك الاشتباه ، ويذهب بهذا الوهم ؛ فإن أهل التعليم لا يتعلمون
إلا من إمامهم المعصوم ، ويسلِّمون له بكل ما يقول تسليمًا ، ولعله سمى مذهب
نفسه مذهب التعليم ووصفه بالسعادة استمالة لخصمه ليُقبل عليه ، فيعرف مراده من
التعليم .
الغزالى يقسِّم الناس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام : ( 1 ) الخواص الذين لا
يعتقدون بشيء حتى يثبت عندهم بالدليل والبرهان ، وهم الذين يُدْعَون بالحكمة ،
وهم الذين يزنون بميزانها وهو القسطاس المستقيم الذي يذكره بعد ، و ( 2 ) العوام
السُّذَّج ، وهم الذين يُدْعَون بالموعظة الحسنة والإقناعيات ، و ( 3 ) أهل الجدال
والمشاغبة والمراء والعناد ، ولهؤلاء أحكام وأطوار ، فتارة يحتاج إلى مجادلتهم
ويجب أن تكون بأحسن الطرق وأقربها إلى القبول ، وأبعدها من المراء ، وتارة
يسفَّهون ويجهلون ، فيطلب الإعراض عنهم لقوله تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) وتارة يعتدون على الحق بالقوة ويصدون عن سبيل الله
بالسيف ، فتستبدل المجالدة بالمجادلة ، ويستدل الغزالي على هذا في أثناء الكتاب
بقوله تعالى في شأن الرسل : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ( الحديد : 25 ) ِ يقول : الدعوة
بالكتاب مجردًا إنما هي للعوام ، وبالميزان للخواص ، والمقابلة بالحديد إنما تكون
للمُحادين المعاندين ، الذين يمارون في البرهان ، ويُعرضون عن البيان ، فتأمل
مجمل مذهبه هذا ، واقرأ ما جاء في المقتطف الأغر بعد تلك الجملة قال :
( فإذا صح ذلك فميزان المعرفة عند أهل كل دين كتبهم التي يعتقدون أنها
منزلة من إلههم ، وعلى هذا النحو قال الإمام الغزالي : ( إني أعرف واضع هذا
الميزان ومعلمه ومستعمله ؛ فإن واضعه هو الله تعالى ومعلمه جبريل ومستعمله
الخليل و محمد وسائر النبيين ) ومتى رسخ اعتقاد الإنسان في نفسه هذا الرسوخ
سهل عليه أن يثق ثقة تامة بكل ما في كتابه ، واستغنى عن كل دليل وميزان آخر )
اهـ .
( المنار )
إن المنتقد الفاضل يرى قصارى مذهب الغزالي أن يسلِّم الإنسان بكتابه الديني
تسليمًا مطلقًا ، ويستغني به عن كل دليل وميزان آخر ، وقد علمت مما ذكرنا عنه
آنفًا من التفصيل والتقسيم والتقييد خلاف ذلك ، فكيف لو قرأت كتابه كله وتدبرته ،
وإنني أحب أن يطالع الدكتور يعقوب أفندي صروف هذا الكتاب كله بدقته المعهودة ،
ويصحح ما كتب عنه في المقتطف ، وما أنا بموقن أنه هو الكاتب للنقد ، وإن لم
يكن أحد من البشر مبرَّأ من السهو والخطأ ، وأذكره بالفرق بين القياس في معرفة
الدين الذي ينفيه الغزالي ، والقياس المنطقي الذي يثبته إذ يقول لا ثقة بعلم من لا
يعرف المنطق والقياس في سائر العلوم ، وإن كان هذا مما يحيط به علمه الواسع .

(4/670)
 
غرة صفر - 1320هـ
9 مايو - 1902م​

الكاتب : محمد رشيد رضا

الإسلام في إنكلترا
رأينا في كراسة سياسية تسمى ( ديبلوماتيك فلي شينس ) أي : المنشورات
السياسية لشهري نوفمبر وديسمبر سنة 1887 مقالة بإمضاء المستر جورج كراشي
أحد أعضاء البرلمنت الإنكليزي أخذنا منه ما يأتى تعريبه وهو :
الإسلام دين لا يبتدع أحكامًا ، ولا يخترع للوحي أساسًا جديدًا ، ولا يوصي بغير
معهود ليس له كهنوت خاص ولا رئاسة كنسية ، ولكنه يسن للملة شرعًا وللدولة قانونًا
يكون تنفيذهما باسم الدين . هذا ما قاله ( داود أرقوهارت ) في المجلد الأول من
كتابه المسمى بروح الشرق في الصفحة الخامسة والعشرين من مقدمة طبعته الثانية
سنة 1839 .
إن حقيقة الإسلام التي أماط الحجاب عنها أولاً من اشتهر بروح الشرق ،
وأبرزها للمرتابين من الغربيين ، لم تزل تزداد وضوحًا منذ كشفها حتى تجلت اليوم
بنفسها على وجه لم يبق معه للأكاذيب المفتراة على الإسلام سبيل لسلطتها على
النفوس فيما بعد ذلك التجلي الباهر كان فيما ألقاه القسيس ( إسحاق طيلر ) من
خطابته في المحفل الديني ، صدق أرقوهارت في دعواه أن حقيقة الإسلام أمر مسلّم
عند كثيرين ، فالنبلاء الكرام ( بالكراد ) و . مبري و . راولنسون و . لايارد
و . رولاند و . ستانلي أوف ألدرلي و . ديشانسكي وقوم آخرون من قبيلهم شاركوه
في البصيرة وصدقوه فيما قرره . وكل مسافر عاشر الأقوام المحمدية وأنس إليهم ،
فله عنهم خبر محمود ومع ذلك كله نرى الجمهور في إنكلترا لم تزل آراؤهم في
مواقفها الأولى .
كانت الحقيقة في احتجاب عن أنظار العامة لأن أكثر أهالي إنكلترا
مصروفون إلى النصرانية عن النظر فيما سواها ، وتوارثوا فيها عصبية تظهر لهم
في شعار الدين أما الآن وقد قام قسيس محترم من البيعة الإنكليزية يصدع بهذا الحق ،
فلا بد أن يصغي إلى قوله ويذعن له ملايين ممن كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم
ويعرضون عن مقالات قوم يعدونهم سياحين أو متفلسفين .
هذه الحقائق مما لا يقبل الإنكار ، وإنما كان الإشكال في طريق اجتلاب
الخواطر إليها حتى تجتليها ، وحيث زال هذا الإشكال بهمة أحد القسيسين المحترمين
فالغاية المطلوبة أصبحت مما لا يشك فيه معشر الذين قبلوا نصيحة داود أرقومارت .
ليس السعي لبيان أن الإسلام مما يمكن احتماله فقط ، بل لم نزل نطلب أن يكون من
النفوس في مكانة الاحترام ، وقد استيقنّا الآن أن رجاءنا المُرْجَأ قد تحقق ومدّعانا
الحق قد سلم به .
لا ينبغي أن يظن أننا نحسب دين الإسلام مخالفًا للدين المسيحي ، فذلك مما لم
يخطر لنا ببال قط ، وقصارى ما نقول : إن الغاية من كل دين إنما هو العمل الصالح
والمسلك المستقيم ، ولسنا نحكم على أبناء جنسنا إلا كما قال المسيح عليه السلام
( بثمراتهم تعرفونهم ) وحيث استمسكنا بهذا الأصل فلنا أن نجهر بأن المعتقدين بالدين
المسيحي في هذه الأوقات ليسوا بمنزلة يفضلون بها على المسلمين .
هذا الحق ننادي به ونحن على يقين منه ونحثّ الذين يقولون إنا نصارى . على
أن يضعوا الإسلام في منزلة تنطبق على الواقع ونفس الأمر ، فإن استطاعوا أن
يدحضوا حجتنا بالبراهين الساطعة فليعملوا على مكانتهم ، وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا
فليكن نظرهم إلى الإسلام على حد ما بيّنا مناسبًا للحقيقة الواقعية ، ولينصفوا الإسلام
ذلك الدين القيم الذي هو نظام لمعيشة قسم عظيم من أمم كريمة كثيرة العدد من النوع
البشري .
مما يهم الشعب الإنكليزي خاصة أن يتخلصوا من أطوار التعصب التي لا
تنحصر آثارها في إلحاق العار بهم فقط بل تتعدى إلى جلب المضرة عليهم أيضًا ؛ لأن
لحضرة الملكة ملايين من رعاياها كلهم مسلمون ونحن في مقام على أحد جانبيه
دولة الروسية ، وعلى الجانب الآخر الدولة العثمانية ولا يمكننا أن نزعم عدم المبالاة
بعقابيل الحروب التي قامت على سوقها بين هاتين الدولتين من أمد بعيد ، وإلى الآن
لم تضع أوزارها وضعًا حقيقيًّا . إن الدولة الروس لا يمكنها أن تكون في حرب
مستمرة ، لكنها لا تراعي ما تكلف به من شروط السلام ولا يزال وكلاؤها الخفيّون
مشتغلين بالعمل ( كذا ) وما من زمان إلا والحذر فيه من الروسية ضروري للباب
العالي وهذا مجموع أحوال توجب على دولة الإنكليز أن تسأل نفسها آنًا بعد آن : هل لنا أن نقاوم الروسية أو ندعها وشأنها ؟
كل وجه من وجوه السياسة يتعلق بسلامة الدولة الإنكليزية وبقائها ، يرشدنا
إلى الاعتراف بلزوم عقد معاهدة مع الدولة التي لم تضرنا قط ، وفتحت فُرَصَها
لتجارتنا ، وأبواب بلادها لأشغالنا ، أما الصيحة الفارغة بأن الروسية دولة نصرانية ،
والدولة العثمانية دولة محمدية فقد كان لها إلى الآن أسوأ الأثر في إعماء عقولنا
وخطلنا في سياستنا ، فلنأخذ من الآن بأصل صحيح وهو أن نعلق الحكم بالأعمال لا
بالعقائد ، فإنه ليس خاصًا بالأفراد ، بل كما يكون بها يكون بالأقوام والدول أيضًا ،
فإن قابلنا بين روسيتنا النصرانية وبين العثمانية المحمدية لم يشك في أن المعاهدة
مع العثمانية هي التي تظهر أفضليتها عند الحاكمين بالحق أجمعين ، وإذا ذكرنا
المعاهدة العثمانية فلا نستعمل اللفظ فيها بمعناه السياسي أو تركيبه الديبلوماسي ، ولا
ينبغي أن يفهم ذلك من كلامنا ، إنما المعاهدة التي كنا نجتهد في إعدادها لسنين طويلة
كانت معاهدة مبنية على شروط مساواة مؤسسة على الاحترام من الجانبين ، وظهر لنا
في الأزمان الماضية أن إكمال مثل تلك المعاهدة من المحال . أما الآن فلا نقول : إنها
من قبيل الممكن الذاتي فقط بل صارت من قبيل ما بالقوة القريبة من الفعل .
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الأخبار والآراء
( الاحتفال بتذكار محمد علي باشا )
في يوم الأربعاء الماضي تم لتأسيس محمد علي باشا هذه الإمارة في مصر
مائة عام هجري فاحتفل ديوان الأوقاف بذلك في جامع القلعة وكذلك احتفلت به مشيخة
الأزهر في الجامع الأزهر ، ومن بدع الزمان وغرائب الأيام أن يحتفل في بيوت الله
تعالى بذكر الأمراء والسلاطين والظلمة من الحاكمين ، وهي البيوت التي أذن الله أن
ترفع عن الحظوظ الدنيوية ويذكر فيها اسمه وحده تقربًا إليه وابتغاء مرضاته لا
لذكر أمير ميت ولا لمرضاة أمير حي . فلماذا تنفق أوقاف المسلمين على إحياء
البدعة ومخالفة السنة ؟ ولماذا لا تكون أمثال هذه الاحتفالات في قصور المنعمين
كعابدين ورأس التين ؟ فمحمد علي لم يؤسس دينًا ولم يكن إمام مذهب في دين
وإنما أسس ملكًا عضوضًا بسفك الدماء والقوة والجبروت ، هذا هو محمد علي في
نظر الدين ، والحكمة في الاحتفال بذكره والإشادة بحمده في بيوت الله تعالى دون
بيوت الحكومة يعرفها جميع الناس .
أما محمد علي في نظر التاريخ فهو من الرجال العاملين الذين يحفظ التاريخ
فضلهم ؛ لأن التاريخ سياسي أكثر مما هو ديني أو علمي ، وقد جرت العادة أن يتملق
الناس للأمراء بمدحهم ومدح سلفهم وجعل سيئاتهم حسنات ، فإنك ترى العالم الديني
الذي يحكم بكفر من يحكم بالقانون وظلمه وفسقه يقدس من وضع القانون باسمه ويحكم
فيه بأمره فمدح الأمراء والسلاطين وأصحاب الجاه أكثره كذب ، والمادح محل التهمة ،
والمنتقد لهؤلاء أقرب إلى العدل والإنصاف وإن احتمل أن يكون له هوى في بعض
الأحوال ، وإننا نقول في تاريخ محمد علي كلمة عادلة نرجو أن يتلقاها كل عاقل
بالقبول وهي : إذا ذكر الرجل بأعماله فلمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة وهي :
( 1 ) تأسيس حكومة في بلاد مصر كانت مقدمة لدخول الأجانب فيها واحتلالهم
إياها . و ( 2 ) محاربة الدولة العثمانية وإظهار ضعفها للبرية . و ( 3 ) محاربة
الوهابية وخضد شوكتهم وإبطال امتداد دعوتهم .
وكل عمل من هذه الأعمال محل نظر الناس من بعده له ، ومنهم من يعده
عليه وهم الأكثرون أو المحققون .
أما الأول فالمكبرون لأعماله يتوسعون فيه ما شاءوا ؛ لأن المجال واسع
أمامهم فيذكرون إزالة دولة المماليك الظالمة الغاشمة وهو عمل جليل ، ولكنهم
يستدلون بذلك على أن دولته كانت عادلة وهذا غير صحيح ، فإن حكومته كانت
ظالمة منذ أسست إلى أن تولى الأوربيون السيطرة عليها فكان الظلم يقل كلما كثروا
والبغي يضعف كلما قوي نفوذهم ولكن الحسن في إزالة دولة المماليك من وجهين :
أحدهما : أن الظلم كان مشوشًا وحكومة محمد علي وأبنائه نظمته وكان متفرقًا
فوحدته وكان غير محصور فحصرته .
وثانيهما : أن نتيجة هذا النظام وهذه الوحدة هي تمهيد السبيل لدخول مدنية
أوروبا في مصر والأعمال إنما تمدح وتذم بنتائجها وغاياتها والعاملون إنما يمدحون
بحسن القصد والنية وبإتقان العمل ، فأما محمد علي فقد أتقن عمله ولكن قصده لا
يحمد في نظر الدين ولا في نظر الفضيلة وإنما يحمد في نظر متاع الحياة وزينتها ؛
لأن سيرته الملطخة بالدماء المحترمة تدل على أنه لم يكن يقصد غير الملك
وعظمته له ولذريته من بعده . وأما نتيجة عمله - فهي كما قلنا - دخول الأوربيين
هذه البلاد ونشر مدنيتهم فيها وإلقاء سيطرتهم عليها بالاحتلال الإنكليزي ، فمن يرى
أن هذا خير وسيلة لنجاح البلاد وسعادتها فعليه أن يحمد عمل محمد علي وآل بيته
مهما ظلموا في الأموال والأعراض ؛ لأن الإصلاح الكبير لا يأتي إلا ببذل الثمن
الكثير ، ومن يقول : إن مدنية أوروبا شر على البلاد وأن الإصلاح الإنكليزي بلاء
عليها ووبال ، فليحكم على عمل محمد علي وذريته بالإفساد وليحفظ له سوء الذكر إلى
يوم التناد .
وأما العمل الثاني وهو الخروج على الدولة العثمانية ومحاربتها وقهرها
وإظهار ضعفها ، فلو سألت عنه أي مسلم في أي قطر لأجابك بأنه كان أضر عمل
عمله إنسان على الإسلام والمسلمين ؛ لأنه في ذاته خروج والٍ على موليه وسلطانه
وتلك أكبر الخيانات ، وأقبح الجنايات في الشرائع الإلهية ، وفي القوانين البشرية .
وفي نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية ، في عصر قويت فيه الدول
الأجنبية ، فضعف بذلك الإسلام ، ولم تقم لأهله قائمة بعد ذلك إلى الآن ، ولكنك لا
تعدم ثلاثة نفر أو ثلاثين من الثلاثمائة المليون المسلمين يعتذر عن عمله أو يعده
فضيلة ومحمدة . فأشد هؤلاء المدافعين أَفَنًا في الرأي وصغارًا في النفس من يقول :
إن الدولة العلية لم تكن مرتاحة لاستقلاله ، فكانت تدس الدسائس لزلزاله ؛ أي : إنه
انتقم لنفسه من دولته ، وحاربها لتمكين سطلته ، ومن الناس من يقول : إن تلك
الحرب كانت بمواطأة بين محمد علي ورجال الدولة العلية في الأستانة وأنهم هم
الذين مكنوا له في أرض مصر ليخرج على الدولة ، وأنه كان غرضهم الأخذ على
يد السلطان محمود و تخفيف سلطته الاستبدادية ومنعه من سفك الدماء ، وعزل
العمال والوزراء بمجرد الهوى .
وأما العمل الثالث وهو محاربة الوهابية فأكثر العامة أو كلهم يعتقدون أنه كان
خدمة للإسلام ، كفرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام ، أما الخواص فإنهم
يعلمون أن الوهابية كانوا قائمين بإصلاح إسلامي لو تم لعاد للإسلام مجده الأول وأن
الذين وسوسوا لمحمد علي بمحاربتهم هم الأوربيون الذين ينظرون إلى غايات الأمور
وعواقبها كما هو مصرح به في بعض تواريخهم ، وأما ما شاع في بلاد الشام
والحجاز من أن الوهابية خارجون عن السنة وملحقون بأهل البدعة فسببه بعض
المصنفات التي لفقها العلماء الرسميون المصانعون للحكام وهي مملوءة بالأكاذيب ،
وإنما مذهب القوم مذهب السلف في العقائد مذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد
عظيم على مخالف السنة . هذا هو اعتقاد الخواص ، وهم يقولون : إن هذا العمل
الثالث هو أكبر سيئات محمد علي وأنه به وبما سبقه كان أكبر بلاء على الإسلام
والمسلمين في القرن الماضي .

( مجلة المنار لرشيد رضا،24 مايو - 1902م
 
غرة ربيع الأول - 1320هـ
7 يونيه - 1902م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
آثار محمد علي في مصر

لغط الناس هذه الأيام في محمد علي وما له من الآثار في مصر وأهلها
وأكثرت الجرائد من الخوض في ذلك والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء ،
وماذا حمل القادح على الهجاء غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها
عليها محمد علي وما كانت تصير بالبلاد إليه لو بقيت .
وما نشأ عن محوها واستبدال غيرها بها على يد محمد علي . أذكر الآن شيئًا
في ذلك ينتفع به من عساه ينتفع ، ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع ، كانت حكومة
البلاد المصرية قبل دخول الجيش الفرنساوى فيها من أنواع الحكومات التي كانت
تسمى في اصطلاح الغربيين حكومات الأشراف وتسمى في عرف المصريين
حكومات الالتزام وتعرف عند الخاصة بحكومات الإقطاع , وأساس هذا النوع من
الحكومة تقسيم البلاد بين جماعة من الأمراء يملك كل أمير منهم قسمًا يتصرف في
أرضه وقوى ساكنيها وأبدانهم وأموالهم كما يريد فهو حاكمهم السياسي والإداري
والقضائي وسيدهم المالك لرقابهم . ومن طبيعة هذا النوع من الحكومة أن تنمو فيه
الأثرة وتغلط فيه أصول الاستبداد وفروعه وتنزع نفس كل أمير إلى توسيع دائرة
ملكه بالاستيلاء على ما في يد جاره من الأمراء . فكان من مقتضى الطبيعة أن كل
أمير لا ينفك عن التدبير والتفكير فيما تعظم فيه شوكته ، وما يدفع به عن حوزته ،
وأن يكون الجميع دائمًا في استعداد إما للوثوب وإما للدفاع . ولكن الأمراء في
مجموعتهم كانوا يقاومون سلطة الملوك فيضطر الملك لاستمالتهم ومجابهة بعضهم
للاستعانة به على البعض الآخر فضعف بذلك استبداد الملوك فيهم حاجة الأمراء إلى
المال كانت تسوقهم إلى ظلم رعاياهم وكانت شدة الظلم تميل برعاياهم إلى خذلانهم
عند هجوم العدو عليهم . ظهر ذلك في خصوماتهم المرة بعد المرة فاضطر الأمراء
أن يخففوا من ظلمهم وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارًا يضبطون عند قيام الحرب
بينهم وبين خصومهم . أحسَّ الأهلون بحاجة الأمراء إليهم فزادوا في الدالة على
الأمراء واضطروهم إلى قبول مطالبهم فعظمت قوة الإرادة عند أولئك الذين كانوا
عبيدًا بمقتضى الحكومة وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معًا ولم يكن
ذلك في يوم أو عام ، ولكنه في عدة قرون كما هو معروف عند أهل المعرفة .
نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به جميع الحكومات المشرقية
وكانت البلاد متوزعة بين عدة أمراء كل منهم يستغل قسمًا منها ويتصرف فيه كما
يهوى ، وكان كل يطلب من القوة ما يسمح له يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به
صولته فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم . لذلك كان كل منهم يستكثر
من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده ولكن كانت تعوزه مؤنتهم إذا كثروا
فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد فوجدوا من العرب أحزابًا كما وجدوا
منهم خصومًا . ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه فاتخذوا
بيوتًا منها أنصارًا لهم عند الحاجة وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في
أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك . لهذا كنت ترى في
البلاد بيوتًا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم .
ذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير
واستجلاب النصير ، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من
إخضاع غيره ، أنصاره من الأهالي كانوا يجارونه في ذلك خوفًا من تعدي أعوان
خصمه عليهم فوقعت القسمة بين الأهالي ولا تزال أسماء الأقسام معرفة إلى اليوم -
سعد وحرام ، هذا يحدث بطبعه في النفوس شممًا وفي العزائم من قوة ويكتسب
القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احترقت نوعها . فكانت العناصر جميعها
في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم بمكانته .
جاء الجيش الفرنساوى والبلاد في هذه الحالة . دخل البلاد بسهولة لم يكن
ينتظرها ، احتل عاصمتها واستقر له السلطان فيها . لم تكن أيام قلائل حتى
ظهر فيه القلق وعظمت حوله القلاقل ولم تنقطع الحروب والمناوشات ولم يهدأ
لرؤساء العساكر بال . يدلك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان
يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق ، وسلبهم
أرواحهم بكل سبيل ، واضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها
وانتخب من أعيانها من يشركه في الرأي لتدبيرها طوعًا لحكم الطبيعة التي
وجدها .
قتل بعض رؤساء الجيش واضطربت عليه البلاد ، وجاء الجيش العثماني
وعاونه الجيش الإنكليزي وخرجت عساكر الفرنساويين من مصر ، ولا أطيل الكلام
فقد ظهر محمد علي بالوسائل التي هيأها له القدر .
ما الذي كانت تنتظره البلاد من نوع حكومتها ؟ كانت تنتظر أن يشرق نور
مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم ، وقد كان ذلك يكون
لو أمهلهم الزمان حتى يعرف كل منهم ما بلغ به غيره الغاية التي كان يقصدها في
بلاد غير بلاده . وما كان بينهم وبين ذلك إلا أن يختلطوا بأهل البلاد الغريبة
ويرتفع الحجاب الذي أسدله الجهل دونهم . أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم
بصير فيضم تلك العناصر الحية بعضه إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة
منها ويأخذها منها ويأخذ في تقوية مصباح العلم حتى ترتقي بحكم التدريج الطبيعي
وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولي .
ما الذي صنع محمد علي ؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت . كان
معظم قوة الجيش معه وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة فأخذ يستعين بالجيش وبمن
يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب
آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا
سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا
يستتر فيه ضمير ( أنا ) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من
الأهلين وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منم وأجهز
على ما بقي في البلاد من حياة في أنفُس بعض أفرادها فلم يبقِ في البلاد رأسًا يعرف
نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه .
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له
يستعملهافي جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك
جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس ليصيّر البلاد
المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت
لأمراء عدة .
ماذا صنع بعد ذلك ؟ اشرأبت نفسه لأنْ يكون ملكًا غير تابع للسلطان العثماني
فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين فأوسع لهم في المجاملة
وزاد لهم في الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة
العثمانية صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكًا من الملوك في بلادنا يفعل
ما يشاء ولا يُسأل عما فعل . وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة
الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها وانقلب الوطني غريبًا في داره ،
غير مطمئن في قراره ، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان : ذل ضربته
الحكومة الاستبدادية المطلقة ، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم
غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة .
قالوا : إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد . نعم عني بالطب لأجل الجيش
والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم .
وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير ، ليستغل إقطاعه الكبير .
هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية ؟ هل تفكر في
بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب ؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي
رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم ؟ هل توجهت نفسه لوضع
حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل ؟ لم يكن شيء من ذلك بل كان
رجال الحكومة إما من الأرنؤد أو الجراكسة أو الأرمن المورلية أو ما أشبه هذه
الأوشاب ، وهم الذين يسميهم بعض الأحداث من أنصاره اليوم دُخلاء . وكانوا
يحكمون بما يهوون لا يرجعون إلى شريعة ولا قانون ، وإنما يبتغون مرضاة الأمير
صاحب الإقطاع الكبير .
أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة ؟ أين
البيوت المصرية التي كانت لها القَدَم السابقة في إدارة حكومته أو سياستها أو سياسة
جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد الثابتة الأوتاد.
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها . فهل أطلق لهم الحرية
أن يبثوا في البلاد ما استفادوا ؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس
لها إرادة فيما تصنع . وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل ، ووجد بعض
المهندسين الماهرين وليسوا بكثير ، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن
فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان
مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب
أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من
النابغين ، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين .
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية ؟ أين هي ؟ وأين الذين نبغوا من
طلابها ؟ فإن وُجد أحد نابغ ، فهل هو من المصريين ؟ عدوا إن شئتم أحياءً أو
أمواتًا .
وجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب
ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وغلقت عليها الأبواب إلى
أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها ، وتخفيف ثقلها
عنها ، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول ، وهذا يدلنا على أنها ترجمت
برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم
ينجحوا ؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون .
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى ( الأفناء : الناس ...
المجهولون ) كما يختطفون عساكر الجيش ، فهل هذا مما يحبب القوم في
العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس ؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة
كما كان يخيفهم من الجيش .
حمل الأهالي على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات ، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر ، والموت الأحمر . وقوانين
الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك .
يقولون : إنه أنشأ المعامل والمصانع ! ولكن هل حبب إلى المصريين العمل
والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم ؟ وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم
الصنعة وينشرونها في البلاد ؟ أين هي ؟ ومن كانوا ؟ وأين آثارهم ؟ لا بل بغّض
إلى المصريين العمل والصنعة بتخسيرهم في العمل والاستبداد بثمرته فكانوا
يتربصون يومًا لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين
عليه ، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه .
يقولون : إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولاً
ضخمًا تُثقل به ظهور البحار ، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار . فهل
علَّم المصريين حب التجنيد ، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم
الخدمة في الجندية وعلمهم الافتخار بها ؟ لا بل علمهم الهروب منها وعلم آباء
الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت بعد أن كانوا
ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون ولا يبالون بالموت أيام حكم المماليك
وكان من ينتظم في الجندية على عهجد محرر مصر لا يخرج منها إلا بالموت . ... هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه ، وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه بأن يقول هذا جيشي وأسطولي أو جيش بلدي أو أسطوله ؟ كلا لم
يكن شيء من ذلك ، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونًا لظالمه فهي
قوة خصمه . كذلك كان يعدها كل عثماني في مصر أو في غير مصر. ليقل لنا
أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا في رتب الجندية إلى
رتبة البكباشي على الأقل ؟ فما أثر ذلك في حياة مصر والمصريين إلا أسوأ الأثر ، كله شر في شر ؛ لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت .
ظهر الأثر العظيم عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز مصر
بأسهل ما يدخل به دامر على قوم ، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس
تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها ، وهو ضد ما رأيناه عند دخول
الفرنساويين إلى مصر ، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير
وجهله الأحداث ، فهم يسألون أنفسهم عنه ولا يهتدون إليه .
لا يستحيي بعض الأحداث من أن يقول : إن محمد علي جعل من جدران
سلطانه بنية من الدين ، أي دين كان دعامة لسلطان محمد علي ؟ دين التحصيل ،
دين الكرباج . دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده . وإلا فليقل لنا أحد من الناس
أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي الجليل ؟ لا يذكرون إلا
مسألة الوهابية وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين ، نعم
إن الوهابية غلوا في بعض المسائل غلوًّا أنكره عليهم سائر المسلمين ، وما كان
محمد علي يفهم هذا ولا سفك دماءهم لإرجاعهم إلى الاعتدال وإنما كانت مسألة
سياسية محضة تبعها جراءة محمد علي على سلطانه العثماني فكان معه ما كان مما
هو معروف .
نعم : أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض
رزنامه لا يساوي جزءًا من الألف من إيراده . وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما
لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة ، وقرر له بدل
ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة .
وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخِلَع أو إجلاسهم
على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك ، وأفاضل العلماء كانوا
عليه في سخط ماتوا عليه .
ولا أظن أن أحدًا يرتاب بعد عرض تاريخ محمد علي على بصيرته أن هذا
الرجل كان تاجرًا زارعًا وجنديًا باسلاً . ومستبدًّا ماهرًا لكنه لمصر قاهرًا ، ولحياتها
الحقيقية معدمًا ، وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره متعنا الله
بخيره وحمانا من شره والسلام .
مؤرخ


 
غرة ربيع الأول - 1320هـ
7
يونيه - 1902م
الكاتب : محمد رشيد رضا

__________
آثار محمد علي في مصر

لغط الناس هذه الأيام في محمد علي وما له من الآثار في مصر وأهلها
وأكثرت الجرائد من الخوض في ذلك والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء ،
وماذا حمل القادح على الهجاء غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها
عليها محمد علي وما كانت تصير بالبلاد إليه لو بقيت .
وما نشأ عن محوها واستبدال غيرها بها على يد محمد علي . أذكر الآن شيئًا
في ذلك ينتفع به من عساه ينتفع ، ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع ، كانت حكومة
البلاد المصرية قبل دخول الجيش الفرنساوى فيها من أنواع الحكومات التي كانت
تسمى في اصطلاح الغربيين حكومات الأشراف وتسمى في عرف المصريين
حكومات الالتزام وتعرف عند الخاصة بحكومات الإقطاع , وأساس هذا النوع من
الحكومة تقسيم البلاد بين جماعة من الأمراء يملك كل أمير منهم قسمًا يتصرف في
أرضه وقوى ساكنيها وأبدانهم وأموالهم كما يريد فهو حاكمهم السياسي والإداري
والقضائي وسيدهم المالك لرقابهم . ومن طبيعة هذا النوع من الحكومة أن تنمو فيه
الأثرة وتغلط فيه أصول الاستبداد وفروعه وتنزع نفس كل أمير إلى توسيع دائرة
ملكه بالاستيلاء على ما في يد جاره من الأمراء . فكان من مقتضى الطبيعة أن كل
أمير لا ينفك عن التدبير والتفكير فيما تعظم فيه شوكته ، وما يدفع به عن حوزته ،
وأن يكون الجميع دائمًا في استعداد إما للوثوب وإما للدفاع . ولكن الأمراء في
مجموعتهم كانوا يقاومون سلطة الملوك فيضطر الملك لاستمالتهم ومجابهة بعضهم
للاستعانة به على البعض الآخر فضعف بذلك استبداد الملوك فيهم حاجة الأمراء إلى
المال كانت تسوقهم إلى ظلم رعاياهم وكانت شدة الظلم تميل برعاياهم إلى خذلانهم
عند هجوم العدو عليهم . ظهر ذلك في خصوماتهم المرة بعد المرة فاضطر الأمراء
أن يخففوا من ظلمهم وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارًا يضبطون عند قيام الحرب
بينهم وبين خصومهم . أحسَّ الأهلون بحاجة الأمراء إليهم فزادوا في الدالة على
الأمراء واضطروهم إلى قبول مطالبهم فعظمت قوة الإرادة عند أولئك الذين كانوا
عبيدًا بمقتضى الحكومة وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معًا ولم يكن
ذلك في يوم أو عام ، ولكنه في عدة قرون كما هو معروف عند أهل المعرفة .
نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به جميع الحكومات المشرقية
وكانت البلاد متوزعة بين عدة أمراء كل منهم يستغل قسمًا منها ويتصرف فيه كما
يهوى ، وكان كل يطلب من القوة ما يسمح له يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به
صولته فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم . لذلك كان كل منهم يستكثر
من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده ولكن كانت تعوزه مؤنتهم إذا كثروا
فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد فوجدوا من العرب أحزابًا كما وجدوا
منهم خصومًا . ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه فاتخذوا
بيوتًا منها أنصارًا لهم عند الحاجة وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في
أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك . لهذا كنت ترى في
البلاد بيوتًا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم .
ذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير
واستجلاب النصير ، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من
إخضاع غيره ، أنصاره من الأهالي كانوا يجارونه في ذلك خوفًا من تعدي أعوان
خصمه عليهم فوقعت القسمة بين الأهالي ولا تزال أسماء الأقسام معرفة إلى اليوم -
سعد وحرام ، هذا يحدث بطبعه في النفوس شممًا وفي العزائم من قوة ويكتسب
القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احترقت نوعها . فكانت العناصر جميعها
في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم بمكانته .
جاء الجيش الفرنساوى والبلاد في هذه الحالة . دخل البلاد بسهولة لم يكن
ينتظرها ، احتل عاصمتها واستقر له السلطان فيها . لم تكن أيام قلائل حتى
ظهر فيه القلق وعظمت حوله القلاقل ولم تنقطع الحروب والمناوشات ولم يهدأ
لرؤساء العساكر بال . يدلك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان
يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق ، وسلبهم
أرواحهم بكل سبيل ، واضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها
وانتخب من أعيانها من يشركه في الرأي لتدبيرها طوعًا لحكم الطبيعة التي
وجدها .
قتل بعض رؤساء الجيش واضطربت عليه البلاد ، وجاء الجيش العثماني
وعاونه الجيش الإنكليزي وخرجت عساكر الفرنساويين من مصر ، ولا أطيل الكلام
فقد ظهر محمد علي بالوسائل التي هيأها له القدر .
ما الذي كانت تنتظره البلاد من نوع حكومتها ؟ كانت تنتظر أن يشرق نور
مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم ، وقد كان ذلك يكون
لو أمهلهم الزمان حتى يعرف كل منهم ما بلغ به غيره الغاية التي كان يقصدها في
بلاد غير بلاده . وما كان بينهم وبين ذلك إلا أن يختلطوا بأهل البلاد الغريبة
ويرتفع الحجاب الذي أسدله الجهل دونهم . أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم
بصير فيضم تلك العناصر الحية بعضه إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة
منها ويأخذها منها ويأخذ في تقوية مصباح العلم حتى ترتقي بحكم التدريج الطبيعي
وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولي .
ما الذي صنع محمد علي ؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت . كان
معظم قوة الجيش معه وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة فأخذ يستعين بالجيش وبمن
يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب
آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا
سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا
يستتر فيه ضمير ( أنا ) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من
الأهلين وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منم وأجهز
على ما بقي في البلاد من حياة في أنفُس بعض أفرادها فلم يبقِ في البلاد رأسًا يعرف
نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه .
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له
يستعملهافي جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك
جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس ليصيّر البلاد
المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت
لأمراء عدة .
ماذا صنع بعد ذلك ؟ اشرأبت نفسه لأنْ يكون ملكًا غير تابع للسلطان العثماني
فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين فأوسع لهم في المجاملة
وزاد لهم في الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة
العثمانية صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكًا من الملوك في بلادنا يفعل
ما يشاء ولا يُسأل عما فعل . وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة
الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها وانقلب الوطني غريبًا في داره ،
غير مطمئن في قراره ، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان : ذل ضربته
الحكومة الاستبدادية المطلقة ، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم
غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة .
قالوا : إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد . نعم عني بالطب لأجل الجيش
والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم .
وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير ، ليستغل إقطاعه الكبير .
هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية ؟ هل تفكر في
بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب ؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي
رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم ؟ هل توجهت نفسه لوضع
حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل ؟ لم يكن شيء من ذلك بل كان
رجال الحكومة إما من الأرنؤد أو الجراكسة أو الأرمن المورلية أو ما أشبه هذه
الأوشاب ، وهم الذين يسميهم بعض الأحداث من أنصاره اليوم دُخلاء . وكانوا
يحكمون بما يهوون لا يرجعون إلى شريعة ولا قانون ، وإنما يبتغون مرضاة الأمير
صاحب الإقطاع الكبير .
أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة ؟ أين
البيوت المصرية التي كانت لها القَدَم السابقة في إدارة حكومته أو سياستها أو سياسة
جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد الثابتة الأوتاد.
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها . فهل أطلق لهم الحرية
أن يبثوا في البلاد ما استفادوا ؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس
لها إرادة فيما تصنع . وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل ، ووجد بعض
المهندسين الماهرين وليسوا بكثير ، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن
فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان
مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب
أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من
النابغين ، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين .
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية ؟ أين هي ؟ وأين الذين نبغوا من
طلابها ؟ فإن وُجد أحد نابغ ، فهل هو من المصريين ؟ عدوا إن شئتم أحياءً أو
أمواتًا .
وجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب
ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وغلقت عليها الأبواب إلى
أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها ، وتخفيف ثقلها
عنها ، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول ، وهذا يدلنا على أنها ترجمت
برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم
ينجحوا ؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون .
كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى ( الأفناء : الناس ...
المجهولون ) كما يختطفون عساكر الجيش ، فهل هذا مما يحبب القوم في
العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس ؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة
كما كان يخيفهم من الجيش .
حمل الأهالي على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات ، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر ، والموت الأحمر . وقوانين
الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك .
يقولون : إنه أنشأ المعامل والمصانع ! ولكن هل حبب إلى المصريين العمل
والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم ؟ وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم
الصنعة وينشرونها في البلاد ؟ أين هي ؟ ومن كانوا ؟ وأين آثارهم ؟ لا بل بغّض
إلى المصريين العمل والصنعة بتخسيرهم في العمل والاستبداد بثمرته فكانوا
يتربصون يومًا لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين
عليه ، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه .
يقولون : إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولاً
ضخمًا تُثقل به ظهور البحار ، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار . فهل
علَّم المصريين حب التجنيد ، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم
الخدمة في الجندية وعلمهم الافتخار بها ؟ لا بل علمهم الهروب منها وعلم آباء
الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت بعد أن كانوا
ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون ولا يبالون بالموت أيام حكم المماليك
وكان من ينتظم في الجندية على عهجد محرر مصر لا يخرج منها إلا بالموت . ... هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه ، وهل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه بأن يقول هذا جيشي وأسطولي أو جيش بلدي أو أسطوله ؟ كلا لم
يكن شيء من ذلك ، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونًا لظالمه فهي
قوة خصمه . كذلك كان يعدها كل عثماني في مصر أو في غير مصر. ليقل لنا
أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا في رتب الجندية إلى
رتبة البكباشي على الأقل ؟ فما أثر ذلك في حياة مصر والمصريين إلا أسوأ الأثر ، كله شر في شر ؛ لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت .
ظهر الأثر العظيم عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز مصر
بأسهل ما يدخل به دامر على قوم ، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس
تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها ، وهو ضد ما رأيناه عند دخول
الفرنساويين إلى مصر ، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير
وجهله الأحداث ، فهم يسألون أنفسهم عنه ولا يهتدون إليه .
لا يستحيي بعض الأحداث من أن يقول : إن محمد علي جعل من جدران
سلطانه بنية من الدين ، أي دين كان دعامة لسلطان محمد علي ؟ دين التحصيل ،
دين الكرباج . دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده . وإلا فليقل لنا أحد من الناس
أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي الجليل ؟ لا يذكرون إلا
مسألة الوهابية وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين ، نعم
إن الوهابية غلوا في بعض المسائل غلوًّا أنكره عليهم سائر المسلمين ، وما كان
محمد علي يفهم هذا ولا سفك دماءهم لإرجاعهم إلى الاعتدال وإنما كانت مسألة
سياسية محضة تبعها جراءة محمد علي على سلطانه العثماني فكان معه ما كان مما
هو معروف .
نعم : أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض
رزنامه لا يساوي جزءًا من الألف من إيراده . وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما
لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة ، وقرر له بدل
ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة .
وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخِلَع أو إجلاسهم
على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك ، وأفاضل العلماء كانوا
عليه في سخط ماتوا عليه .
ولا أظن أن أحدًا يرتاب بعد عرض تاريخ محمد علي على بصيرته أن هذا
الرجل كان تاجرًا زارعًا وجنديًا باسلاً . ومستبدًّا ماهرًا لكنه لمصر قاهرًا ، ولحياتها
الحقيقية معدمًا ، وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره متعنا الله
بخيره وحمانا من شره والسلام .
مؤرخ
الكاتب : محمد رشيد رضا
16 ربيع الأول - 1320هـ
23 يونيه - 1902م​
__________
أأحياها محمد علي وأماتها خلفه ؟

نشرنا ما نشرناه في المنار من الخلاصة التاريخية لمحمد علي الكبير وحده
وليس فيه تعرض لذكر بيت الإمارة ( العائلة الخديوية ) في مصر بمدح ولا قدح
ولكننا لم نسلم من عقارب السعاية ، فقد قال المحّالون أننا أهنّا هذا البيت الرفيع ،
وهم كاذبون ، فإننا نبرأ من إهانة البيت أو إهانة أي فرد من أمرائه ، ولكن خواص
الناس الذين اتفق لهم الاطلاع على خطبة مصطفى بك كامل التي ألفها وطبعها
وقرأها في الإسكندرية قد عجبوا لما فيها من المبالغة والغلو في مدح محمد علي وذم
خلفه في الإمارة لا سيما إسماعيل باشا ومن بعده . وإنما عجبوا - ولا عجب في
خطل الأحداث - لعلمهم بأنه لا يراد بالخطبة خدمة لتاريخ ، ولا تأييدًا لمعتقد ، ولا
تنبيه الأمة إلى عمل معين يمكن أن تعمله ، وإنما المراد بها إرضاء الأمير الحاضر،
والتزلف إليه ، والشهرة بين الناس . ولهم أن يعجبوا ممن يحاول إرضاء إنسان
بقوله : إن جدك الأعلى بنى ، وأنت وأبوك وجدك الأدنى هدمتم ، وجدكم الأعلى
أحيا وأنتم أمتم ، وجدكم الأعلى حفظ وأنتم أضعتم .
فهذا هو ملخص الخطبة ، ونحن نزيده تفصيلاً تبرئة للمنار من قول السعاة
المحالين أنه أهان البيت الخديوي الآن ، وتوجيهًا للأفكار إلى هذه المسألة الحيوية
التي هي أم المسائل الاجتماعية والسياسية في مصر .
كلام الخطبة المؤيّد بكلام صاحبها في جريدته - وسائر قوله صريح - في أن
الأمة المصرية أمة حية قوية ، عزيزة الجانب ، مستعدة لأن تَبُذَّ جميع الأمم وتعلوها
في كل علم وكل عمل ، وإنما يظهر أثر هذا الاستعداد وهذه الحياة إذا كان أميرها
ومدير شوؤنها كفؤا للإمارة ، قادرًا على الإدارة ، ولذلك جاءها محمد علي الكفؤ
القادر ، وهي على شر حال ، فعمل بأيديها أعظم الأعمال ، وصريح أيضًا في أن
مصر الآن في ذل وصَغَار وضعف ومهانة : حقوق مغصوبة ، ووظائف مسلوبة ،
وعزائم مقبورة ، ومزايا مستورة ولكنه سكت عن التصريح بالسبب للعلم به مما قبله
مع عدم إمكان التصريح به ؛ لأن كل إنسان يفهم أن السيف الذي يقط الرقاب ويفلق
الهام وهو صَدِيء مُفَلَّل لا يعجز عن ذلك بعد السن والشحذ ، وأن العمل الذي يقدر
عليه الإنسان وهو ضعيف ومريض يكون أقدر عليه بعد عود الصحة وثوب العافية.
فكيف دوخت الأمة المصرية الأمم القوية وظفرت بالدول الحربية المستعدة مع
محمد علي واستسلمت وخنعت للإنكليز على عهد توفيق و عباس الثاني ، إن هذا
لعجاب بلسان مقال مصطفى بك كامل ، ولسان حاله بل مفهوم كلامه يقول :
وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
جاء في الصفحة الرابعة من الخطبة أن الأمة المصرية التي فتحت البلاد
والأمصار ، وكان عددها يومئذ لا يزيد عن ثلث عددها اليوم قادرة على بلوغ غاية
العز ... وجاء فيها أن محمد علي ما ضرب وغلب وساد ، وأخضع لسلطان مصر
البحار والبلاد ، إلا بعقل المصريّ وبأسه ، وجاء في الصفحة الخامسة أنه أخذ
مصر ( وهي عليلة ضئيلة لا حراك بها ) ... ( فرآها بعد عهد الشقاء وزمن البلاء
وأيام المحن والفتن قادرة على القيام بأعظم الأعمال ، فيها من روح الحياة وقوة
النهوض ما يزحزح الجبال الراسيات ، وتخرّ أمامه الشمّ الثابتات ) ثم ذكر الجند
الذي جنده وهو جند الغزاة الفاتحين ، وأنه ( أخرج من أولئك الفلاحين الذين طالما
تصرفت فيهم الكوارث كما شاءت أبطالاً وشجعانًا اهتزت الأرض تحت أقدامهم
إجلالاً وإعظامًا وعجزت جيوش العالم عن مجاراتهم ومناظرتهم ) .
وفي الصفحة الخامسة كشف السر عن ظهور المصريين بعد ذلك الذل المهين
بمظهر الفاتحين القادرين وهو أن ( محمد علي ) الذي أدرك بواسع عقله كنوز هذا
الاستعداد في المصريين ( لم يترك لليأس سلطانًا على نفسه ) كأنه يقول إن الأمير
الموجود لم يدرك هذا الاستعداد بعد ظهوره في أكمل مظهر بعمل جده وكان جده رآه
وهو كنز مخفيّ ، وأن هذا يئس من نفسه ومن أمته ولذلك لم يتصد للانتفاع بكنوز
استعدادها الظاهرة . نعم إنه لم يصرح بهذا ولكنه قال في أول الصفحة السابعة أن
من يعرف جيش مصر وأسطولها في زمن محمد علي يظن ( أن حادثًا استثنائيًّا محا
أمة إليها تنتهي القوة وأحلّ محلّها أمة عاداها الزمان فلم يترك لها إرادة ولم يلبسها
غير لباس الوهن والاستسلام ) فهل أن نفسر هذا الحادث الاستثنائي على رأيه
بغير ما تقدم من عدم معرفة الأمير الحاضر بقوة الأمة المصرية ويأسه من نفسه
ومنها ؟ كيف والأمة في أعلى الدرجات ؟ وكأنه ذكر الأسطول تعريضًا ببيع
البواخر الخديوية على عهد هذا الأمير .
بعد هذا نوهت الخطبة ( ص7 ) بالمعامل والمصانع التي أنشأها محمد علي
في المدائن والقرى ، وبالعمال الذين ازدحمت بهم البلاد ولم يذكر لنا مَنْ هدم تلك
المعامل ، ومَنْ غلّ أيدي هذه الأمة الحية عن الأعمال بعد ارتقائها فيها ، ثم عادت
إلى التنويه بالقوة الحربية والسياسية ففي الصفحة التاسعة أن ( محمد علي ) أحاط
مصر بسور من القوة والرهبة وجمع شملها بعد أن كانت مفرقة ؛ فصارت وطنًا
واحدًا لأمة واحدة .
وأنه : ( وهب مصر عقلاً مدبرًا وقلبًا شاعرًا وساعدًا شديدًا ومجدًا تليدًا (كذا)
وأنه وهب المصريين وطنًا وأمة وحكومة ولسانًا ، وطبع على قلوبهم وأفئدتهم
محبة الوطن والشهامة والإقدام وحبّب إليهم الفتح والنصر ورفع الراية المصرية
على كل صقع ومكان ) .
فأين ذهبت هذه المزايا كلها وكيف حل محلها ( الوهن والاستسلام ) وكيف
هبطت من أعلى مكانة تعرج إليها الأمم إلى أسفل تيهور ؟ لا يُفْهَمُ من الكلام إلا أن
أحفاد ذلك الواهب هم الذين استردوا الموهوب وفرقوا الشمل المجتمع ، وحولوا
بسياستهم الشهامة والإقدام إلى ذل ووهن واستسلام ، يدل على هذا ما بعده في
الخطبة .
جاء في الصفحة التاسعة عقيب ما تقدم أن حكومة محمد علي كانت ( قائمة
على مبادئ ثلاثة لا تدوم دولة بغيرها ، ولا تحيا مملكة بدون إحياءها ؛ وهي :
أولاً : حماية الوطن من اعتداء الاجنبي وسلطته .
ثانيًا : ترقية المصري إلى أسمى الوظائف وترشيحه إلى استلام مقاليد
الأمور..
ثالثًا : الامتناع عن الدَّيْن واجتنابه كل الاجتناب ، وظاهر أن أحفاد محمد علي
لم يتمسكوا بهذه المبادئ التي لا تدوم دولة بغيرها فإسماعيل باشا أخذ الدَّين
بالملايين وهو أساس الاستعباد كما في ( ص11 ) من الخطبة ، و توفيق باشا لم
يسمع شكوى المصريين حتى ضباط العساكر من ترقيته الجراكسة والأتراك
( الدخلاء ) في الوظائف السامية وحرمان أبناء الوطن العزيز منها ثم استعان عليهم
بالإنكليز عندما اجتمعت كلمتهم وثاروا يطلبون أحد المبادئ ( الثلاثة ) التي زعم
حَدث السياسة أن ( محمد علي ) أقام عليها حكومته ، وأن إسماعيل باشا وتوفيق
باشا هما اللذان أضاعا البلاد المصرية وأماتاها وهدما دولة جدهما . وفي هذا بيان
لحقيَّة مطالب العُرابيين ، فلا ندري هل فهم الخطيب من خطبته ما فهمه كل قارئ
أم لا ؟ إن كان قاله عن فَهْم فلم يعلن العُرابيين في جريدته ؟ وإن كان قاله من غير
فَهْم فكيف يكن هو مؤلف الخطبة ومنشئها ولا يفهمها ! !
وفي الصفحة العاشرة فصل الخطاب في مقابلة الخطبة بين الماضي والحاضر
قال : ( مصر اليوم تمتثل الاستسلام للإنكليز ، والرضوخ لسلطته ، والامتثال
لإرادته ، وهي هي التي ردته عن الديار تحت إمارة محمد علي وفي ظل رايته )
ثم أثنى على الأمة المصرية بغلب الإنكليز ما أثنى ، وذكر أن إنكلترا ( أرادت أن
تقضي على هذا الملك الجديد وهذه الدولة الناشئة ) فأراها يومئذ بنو مصر أي أمة
هم وأراها محمد علي أي أمير هو !
فتركت الثغور والبلاد آسفة على فشلها معجبة بهذا المجد الباهر ، والعزم
القاهر ، والوطنية الحقة ، والهمة الحديدية ) منطوق الكلام صريح في أن الذي أرى
الإنكليز ذلك العزم القاهر في نفسه ، وفي الأمة المصرية هو محمد علي ، وأنه هو
الذي كان إمام الأمة في الاستقلال ومفهومه أن أميرها في عصر الاحتلال الحاضر لم
يقدر أن يرى الإنكليز .. ، أي أمير هو ؟ وأية أمة أمته ؟ فالنتيجة أنه هو القائد
والإمام في هذا الاستسلام .
ولكن أكثر المصريين إن لم نقل كلهم قالوا : إن الأمير الحاضر ( وفقه الله
تعالى ) قد جاء مصر بهمة محمد علي وعزمه ، وزاد عليه بدينه وعلمه ، ولكنه لم
يجد في البلاد رجالاً أصحاب عزائم يعمل بهم كما وجد محمد علي ، والسبب في هذا
هو ما تقدم في المنار الماضي من كون محمد علي وجد الشجاعة والعزيمة والنجدة
في البلاد فحارب بها وحاربها حتى فنيت بعد ولايته في زمن قريب ، فمقالة ( آثار
محمد علي في مصر ) التي نشرناها في الجزء الماضي يمكن أن يحتج بها من
يعتذر لأميرنا الحاضر ( أيده الله ) وإذا سلمت هذه المدائح والمناقب التي ذكرت في
الخطبة لمحمد علي فهي حجة على كل أولاده وأحفاده ، ويجب أن تبعث في نفوس
المصريين حب محمد علي وبغض جميع ذريته الحاكمين ومقتهم ؛ لأنهم هم الذين
أضاعوا استقلال النفوس فضاع في أثره استقلال البلاد لا سيما بُعْد الدين وإعطاء
الوظائف ( للدخلاء ) .
وإن تعجب فعجب سعي بعض الذين يزعمون حب سمو الخديو الحاضر أو
سعايتهم إليه باسم النصيحة بأن يجتهد في مقاومة كل صاحب إرادة وعزيمة في
مصر ، حتى قال أحدهم لسموه ( إذا لم تقطع هذه الرؤوس الناتئة كما فعل جدك فلا
يصفو لك الملك في مصر ) فليتق الله هؤلاء الذين يقدحون من حيث يمدحون ،
ويغشون في عين ما به ينصحون ، ويضرون الراعي والرعية إذا رأوا أنهم
ينتفعون .
ومما يصح أن يعد حجة صريحة في الخطبة على ما تقدم فيها بالمفهوم من أن
خلف محمد علي هدموا ما بناه ، وأماتوا ما أحياه ، ما في الصفحة ( 13 ) من
المقابلة بين الأمة المصرية ، والأمة اليابانية ، وتفضيل نشأة الأولى على الثانية ،
والحكم بأنها لو سلكت السبيل الذي وجهها إليه محمد علي لبلغت من الشأن والشأو
ما لا يُكْتَنَه كُنْهه ، فإذا وجه الحكام المطلق الأمة إلى شيء هو في طبيعتها
واستعدادها فمن الذي يحولها عنه بعد ذلك إلا الحاكم المطلق الذي هو مثله ؟ الكلام
صريح ، ليس بتعريض ولا تلويح .
هذه هي الخطبة من حيث المقابلة بين الماضي والحاضر ومدح محمد علي
وهجو خَلَفه ولا نتعرض لما فيها من الغلو والكذب على التاريخ كزعم أن محمد
علي وفق بين المدنية العصرية والدين والإسلامي وغير ذلك فمحمد علي لم يكن
عالمًا ولا فيلسوفًا وإنما كان أميًّا لا يعرف من علوم الدين ولا من علوم الدنيا شيئًا .
وفي الخطبة أنه تعلم القرءاة بعد الأربعين . ولكنه لم يتعلم من العلم شيئًا وحسبنا ما
تقدم في المنار من حقيقة أمره . نعم إننا لم ننكر أنه كان جنديًّا باسلاً وشجاعًا حازمًا
وبذلك تيسر له أن يكون قائدًا لأولئك الشجعان الذين أَبَادَ بِهِم ثم أبادهم .
وبقى في الخطبة كلمتان لا بد من التنبيه عليهما . إحداهما ما جاء في الصفحة
( 15 ) من أنه بقى في مصر من الاستقلال الذي أزاله الإنكليز قوة كبرى إليها
انتهت وتنتهي كل قوة في مصر وهي السلطة العالية التي استمدت وتستمد البلاد
منها كل نجاح وفلاح وهي عرش الخديوية الذي يمثل قوة مصر في ماضيها وآتيها.
فمن ذا الذي يستطيع أن يفهم هذا الكلام ، بعد كل ما تقدم من الإيهام ، وهل يصح
أن يسأل قائله عن رأيه في استعمال صاحب هذا العرش المتولي على هذه الأمة
الحيّة لهذه القوة الكامنة أولا ؟ وثانيهما نصيحته في آخر الخطبة للمصريين أن
يتركوا اليأس ويبنوا مجدهم المقبل على ( التربية الوطنية ) ليخرج منهم رجال
عظام يبدلون ليل الأوطان بالنهار . فهل يريد أنه ليس فيهم الآن رجال وهل يريد أن
يعتمدوا على أنفسهم ، لا على عرش الخديوية وقوته الكامنة ؟ وهل يمكن أن يعود
إليهم مجدهم بدون أمير كمحمد علي الكبير ؟ .
كلا ، إنه ذكر التربية الوطنية التي يزعم أنه المنفرد بالحث عليها وأنها
المحيية للبلاد ليفهم الناس أنه هو محيي الوطن بعد محمد علي ولذلك ختم خطبته
بكلمة لم تطبع وهي : إنني خطبت هنا سنة 1896 خطبة كانت من أثرها هذا
الانقلاب الكبير في التربية والتعليم ، وسيكون أثر هذه الخطبة أكبر وأعم في تقدم
الوطن العزيز ؛ فخرج القوم يضحكون من هذا الغرُور .​
 
16 ربيع الثاني - 1320هـ
22 يوليو - 1902م
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
فرنسا والإسلام
لا تزال دولة فرنسا في حيرة وعمه لا تهتدي معهما إلى طريقة تطمئن إليها
في سياسة مستعمراتها الإسلامية فكتابها من الفلاسفة والسياسيين يواصلون البحث في
الإسلام على مر الأيام والأعوام لأجل إشراع هذه الطريقة وما هم بمشرعيها ولما
تطمئن نفوسهم إلى شيء كاطمئنان نفس إنكلترا في سياسة مستعمراتها الإسلامية
وغير الإسلامية . ولقد ظهرت نتيجة حسن سياسة إنكلترا في ارتباكها بحرب
الترانسفال فلقد كانت عاجزة عن تأديب مملكة واحدة من ممالكها الاستعمارية
الواسعة إذا هي تألبت عليها وثارت تريد الخروج من دائرة سلطتها . والله يعلم ما
يكون من أمر مستعمرات فرنسا معها إذا وقعت في مثل ذلك الارتباك وانتهت إلى
مثل ذلك الخطر الذي كانت فيه إنكلترا أيام كانت الحرب في شبابها .
سلكت فرنسا مع المسلمين مسلك العنف والضغط حتى حالت بين المسلمين
الذين تحت سيادتها وبين العلم والتعليم وزعمت أن فرقًا بينها وبين إنكلترا فإنها تحكم
شعوبًا لا تزال الشهامة الإسلامية والشجاعة العربية متمكنة في نفوسها ، وأن إنكلترا
تسوس قومًا فسد بأسهم وهجرتهم الشجاعة والشهامة بما توالى عليهم من ظلم
حكامهم كالهنديين والمصريين الذين لا تخشى بادرتهم ، ولا تحذر غائلتهم ، وجهلت
أقرب حوادث التاريخ في مصر وهو خروج المصريين على حكامهم الذين يدينون
بدينهم وينطقون بلغتهم عندما أمكنتهم الغرة من الخروج عليهم حتى كان العلماء
وهم أبعد الناس عن السياسة من خطباء الثورة العرابية ودعاتها بعدما كانوا يقولون
بوجوب طاعة هؤلاء الحاكمين والخضوع لهم .
لا أنسى كلمة سمعتها من كبير العلماء في بلد من سوريا قالها في محفل كبير
ذكرت فيه الثروة العرابية فقال ذلك الشيخ رحمه الله : ( كلنا عرابيون ) ودعا لعرابي
وحزبه بالنصر ، وإذا وجد في العلماء رجل واحد بصير بالسياسة كان يحذر العرابيين
وينذرهم سوء عاقبة الثورة كالشيخ محمد عبده فذلك لا ينافي أن الجماهير كانوا
راضين عنها وداعين إليها .
أتجهل فرنسا سياسة الظلم والقوة التي نفخت روح الثورة في المصريين
الجبناء في نظرها على حكامهم المسلمين تخشى عاقبتها من الجزائريين و التونسيين
وهم من أهل النجدة والبأس والشجاعة والشهامة ؟ أتجهل السر في سكون هؤلاء
الذين عهدهم بالثورة غير بعيد عند ظهور انكسار إنكلترا في الحرب المرة بعد المرة ؟
السر ظاهر غير مكتوم ، وهو أنهم في رخاء من العيش يرفلون في ظلال الحرية
التامة ونعيمها . نعم إنهم يتمنون الاستقلال التام ؛ لأنه هو كمال الحياة الاجتماعية
ومن نجا من الاستعباد والاستذلال ، يشتهي كمال الاستقلال ، ولكن الناس لا
ينبعثون إلى الثورة إلا بالظلم فإن الانفجار نتيجة الضغط .
إذا كانت إنكلترا لا تساعد استعداد الشعوب على الترقي كما هو شأنها في
زنجبار فإنها قلما تعارضه ؛ لأنها لا تحارب الطبيعة فقد كان مسلمو الهند في جهل
وخمول فتركتهم وشأنهم فظهر فيهم مرشدون اشتغلوا بتربيتهم وتعليمهم فصادفوا
من الحكومة الإنكليزية ارتياحًا بل تنشيطًا ومساعدة وأعطتهم الحرية التامة في
إنشاء المدارس والجرائد وعقد الجمعيات . والبريد عندهم حر فلم نسمع أن جريدة
منعت عن الهند وإن مكتوبًا ضاع أو رسالة اختزلت أو كتابًا أرسل فلم يصل ، فهل
تعامل فرنسا أهل الجزائر بمثل هذه المعاملة أو بما يقرب منها ؟ .
لقد كان لفرنسا في سيرة الإنكليز في الاستعمال ما يغنيها عن كثرة البحث
والتأليف والتصنيف في حال المسلمين ، وكيف ينبغي أن يعاملوا ويغنيها عن تأليف
اللجنة التي ألفتها من عهد قريب لتمحيص البحث في هذه المسألة .
يحكم كتاب فرنسا وساستهم على المسلمين من غير أن يستشيروهم أو يعرفوا
ما يكتبه الأحرار العارفون بالدين وأهله عنهم ، ولكن بعض حكامهم يستكتبون بعض
المصانعين لهم ما أرادوا ويغشون أنفسهم وقومهم بما يوهمونهم أن هذا هو رأي
علماء المسلمين وأهل الرأي فيهم . أكثر ما يكتبه الفرنسويون عن الإسلام
والمسلمين يُحفظ القلوب ويثير الأحقاد ويخرج الأضعان وكل هذا يُحْتَمَل ما دامت
القوة ، فإذا عرض عليها ما يضعفها فهناك يحصدون شر ما يزرعون . وليس من
العقل الاغترار بدوام القوة .
الفرنسيون أبعد الناس عن الدين وعن التعصب له ، ولكنهم إذا كتبوا عن
الإسلام فإنما ينفثون السموم ويُظلون المسلمين بظل من يحموم ، إلا ما كان من
فيلسوف حكيم يكتب للعلم لا للسياسة . حكومة الجمهورية ليست مسيحية فتتعصب
على الإسلام لأجل النصرانية ، وإنها لتقاوم النصرانية في بلادها كما تقاوم الإسلام
في مستعمراتها ، ولكنها تعتقد أن المسلمين قوم حرب وأن دينهم يطالبهم بأن يكونوا
سائدين غير مسودين ، وأنهم يتربصون بمن يسودهم الدوائر حتى إذا ما سنحت لهم
الفرصة وثبوا ، فسلبوا ونهبوا ، وأن السياسة الواقية أن يوضعوا في الأوهاق ،
وتغل الأيدي إلى الأعناق ، وأن تحجب شمس العلم عن الأنظار ، وتحول بين
السماع وما في الإسلام من الأخبار ، وأن تراقب الحكومة السائحين ، إذا كانوا
مسلمين أو عثمانيين ؛ ومن الاعتقاد ما هو ظن و { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } ( الحجرات : 12 ) ولا شيء يحرج الصدور ، ويُمِضُّ النفوس مثل هذه المعاملة
السوءى ؛ لأنها برهان على أن هذه الحكومة تبغض المسلمين ، والجاهل لا يعرف
سببًا للعداوة والبغضاء إلا الأمر العام وهو الدين ؛ لذلك يعتقد الأكثرون في
المستعمرات الفرنسية أن فرنسا تبغض المسلمين ؛ لأنهم مسلمون يعبدون الله من
دون المسيح ويؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم .
نحن والعقلاء نقول : إن الأمر ليس كذلك ، ومثلنا من يقدر على إقناع المسلمين
لأننا من خَدَمَةِ الدين والعلم فيهم ، ولكن هذا الإقناع يتوقف على وصول صوتنا إلى
تلك المسامع وفرنسا لا ترضى بذلك بل ولا ترضى بأن يتعلم المسلمون إلا اللغة
الفرنسية التي تزيد المسلمين بغضًا في فرنسا كما صرح بذلك بعض كتباها وذلك
أنهم يرون في الكتب والجرائد الفرنسية الطعن الموجع مصوبًا دائمًا إلى صدور
المسلمين . وفرنسا أقدر منا على إقناع المسلمين بحسن نيتها وسلامة عاقبتها إذا
برهنت عليه بالعمل ولكن يتعذر علهيا إقناع مسلم واحد بالقول وإن أوتيت من سحر
البيان ؛ وخلابة اللسان ما لم يؤته إنسان .
فرنسا في شك مريب من أمر مسلمي مستعمراتها لا تدري أيمكن أن تعيش
معهم في وئام وهدوء وسلام ، أم ذلك من الأماني والأوهام التي لا تدرك ولا تُرَام ،
ولا شك عندنا نحن في الإمكان ، والمرتاب لا يقنعه البرهان ، ولكن ربما تقنعه
حوادث الزمان ، والمريب يكون دائمًا في حذر ، والظالم لا يمكن أن يأمن الغير ولو
أخلصت فرنسا التنبيه ، لعرفت القضية ، وبلغت الأمنية .
لو أطلقت فرنسا لأهل الجزائر حرية العلم والدين وحافظت فيهم على أحكام
شريعتهم وآدابها وساعدتهم على ترقي بلادهم وعمرانها وأقامت فيهم العدل وأباحت
لكل أحد أن يمازجهم ويرى ما هم فيه حينئذ من غبطة ونعيم لكانت هذه المعاملة
الحسنى أقوى جاذب يجذب جيرانهم المراكشيين إلى الدخول في حكم الولاية
الجزائرية قبيلاً بعد قبيل لا سيما إذا جعلت للولاية حاكمًا مسلمًا يصدر الأحكام
الشرعية وينفذها .
قد نعلم أن من الفرنسيين من يسخر من هذا الكلام إذا سمعه متوهمًا أننا نقوله
خداعًا لهم لا عن اعتقاد منا بصحته . ولا يعلم الساخر المفروض أننا أقرب إلى
الشك في كون إحسانهم معاملة المسلمين خيرًا للمسلمين منا إلى الشك فيما قلناه ، فإن
الظلم والقسوة في المعاملة هي التي تربي الأمم وترجع إليها استعدادها المفقود ، أو
تبعث فها استعدادًا لم يكن بالموجود ، ولقد كانت الحرب الروسية العثمانية أكبر
منبه للمسلمين إلى الحياة الاجتماعية في مشارق الأرض ومغاربها ، وإن كانت أكبر
خسارة على المسلمين في الظاهر . وإن ساسة المسلمين وعقلائهم من يعتقد أن
نجاح الإسلام الأكبر يتوقف على سقوط كل هذه الحكومات الإسلامية التي بقيت لها
رسوم مماثلة فإن أعظم دواء المسلمين الاجتماعية اعتمادهم على حكوماتهم واستبداد
حكامهم بهم فلن تعود إليهم قوتهم الحقيقة واستقلالهم الذاتي إلا بسقوط هذه الرسوم
ليرجعوا إلى قوتهم الذاتية الاستقلالية .
بم يفسر مسلمو الجزائر وتونس وغيرهم عداوة فرنسا للسيد المهدي السنوسي
وهو من رجال الدين وشيوخ الطريق ، ولماذا يكتب الفرنسيون في جرائدهم وكتبهم
أنه لا بد من استئصال قوته ، واصطلام دعوته وإخماد جذوته ، كما كان بَيَّنَا في
العدد 23 من منار السنة الأولى ولماذا لا يحفل الإنكليز بذلك ولا يبحثون عن زواياه
وأتباعه في السودان ومصر ولماذا لم يكتب أحد من الإنكليز ناصحًا قومه ومبينًا لهم
الحيل والدسائس التي تفتت القوة السنوسية ؟ إن سياسة فرنسا في أفريقيا خرقاء
وربما تكشف هذه المناوشات الأخيرة بينها وبين المهدي السنوسي خرقها إلا إذا أراد
الله لها زيادة الاستدراج والإملاء إلى أجل مسمى وإلى الله المصير .
( يطلب خبر محاربة فرنسا والسيد المهدي السنوسي في باب الأخبار )
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الإسلام والمسلمون

نشر في جريدة ( ناسيونال زيتونغ ) الألمانية مقالة في الانتقاد على الإسلام
والمسلمين دلت على جهلٍ من كاتبها بالأديان والتاريخ أو تجاهل حمل عليه
التعصب الشديد ، وقد عرَّبت جريدة مصرية هذه المقالة وردَّتْ عليها ردًّا لم يفند
جميع المسائل والتهم الباطلة التي افتجرها الألماني ؛ فرأينا أن نخلص هذه المسائل
ونفندها واحدة واحدة لا سيّما بعد انتشارها باللغة العربية ، وإننا نشكر لهذه الجريدة
تعريبها على ضعف شبهات كاتبها ، والرد عليها على ما فيه من التقصير ؛ لأنها
قامت بما في وسعها ، وعملت بنصيحة كنا نصحنا لها بها في أول ظهورها وهاك
ملخص مطاعن الألماني مع الرد السديد :
( 1 ) افتتح الألماني كلامه بذكر الثورة المكدونية واهتمام أوربا بها واعترف
بأن الدولة العثمانية راغبة في إخمادها وتحسين حال المسيحيين بحسن نية ، واعترف
بأن الثوار المسيحيين هم الذين يَحُولون دون الإصلاح .
وهذا الاعتراف إثبات لسوء قصدهم ولبعد المسيحي عن الخضوع لحكمه
والامتزاج بغيره وبأن حكومة الترك الإسلامية التي تصفها أوربا بالجور والظلم
والتي هي في الواقع ونفس الأمر دون حكومة الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم ولا
سيّما في هذا العصر - تحب رعاياها الذين من غير دينها وترغب في إصلاح
حالهم وهذا يتضمن أن تأثير الإسلام في أهله أحسن تأثير ، فما كان ينبغي لصاحب
الجريدة المصرية أن يعجب من ألماني يكتب هذه الكتابة ويبني عجبه على ما اشتهر
من صداقة عاهل ألمانيا لسلطان تركيا فإن هذا الكلام لا ينافي الصداقة . ولا يطالب
الكاتب بأن لا يكتب إلا ما يوافق هوى أميره وسلطانه .
( 2 ) واصل الألماني اعترافه المذكور بقوله : إن المكدونيين والبلغاريين
يحولون دون إجراء أي إصلاح كما أن الإسلام ظهر في كل زمان بمظهر المعادي
للمدنية المسيحية الأوربية وسيبقى كذلك على الدوام .
ونقول : إن الإسلام ظهر في زمان كانت المسيحية فيه قد دمرت مدنية
المصريين واليونانيين ، فشيَّد الإسلام ما هدمته المسيحية وأحيا المدنية بعد موتها
كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة وبعد أن أدخل المدنية في أوربا عن طريق
الأندلس كافأته على فضله بمحاربتها إياه واجتهادها في إبادته .
إن الإسلام قاوم همجية المسيحيين في القرون المتوسطة التي يسمونها القرون
المظلمة ولكنه أوغل فيها برفق فإنه دخل بلاد الأندلس وقد تمزق شملها بالظلم واستعباد
الأحرار ، فجعلها بالعلم والعدل جنات تجري من تحتها الأنهار . ولما قوي ساعد
أهلها بما منحهم الإسلام من الحرية لم يرضوا من مكافأة المسلمين إلا بإبادتهم من تلك
البلاد . فأين المدنية المسيحية التي قامت هناك مقام مدنية الإسلام ؟ أليست حال تلك
البلاد إلى اليوم شرًّا مما كانت عليه مع أن الرقي طبيعي في الإنسان ؟
( 3 ) زعم الألماني أن دين محمد لا يقصد إدخال الناس في عقيدته كدين
بوذا وموسى وعيسى ولكنه يحاول إخضاع الشعوب وإبادتها .
وهذا غلو منه في الجهل أو التجاهل الذي هو أفضح من الجهل ؛ فإن البوذيين
لا يدعون إلى دينهم ولا يحاولون تعميمه وكذلك اليهود دينهم خاص بشعب إسرائيل
لا يتعداه ولذلك لم ينمُ عدد هذه الأمة القديمة . وأما النصارى فإن نبيهم عيسى لم يكن
إلا مصلحًا بالديانة الموسوية ، وقد أكد ذلك بصيغة الحصر إذ قال : ( لم أُرسل
إلا إلى خراف إسرائيل الضالة ) وأمّا ما ينقلونه عنه من أنه قال لتلامذته : ( اكرزوا
بالإنجيل في الخليقة كلها ) . فيجب تخصيص الخليقة فيه بشعب إسرائيل ليتفق
القولان . فلم يبق دين تدل نصوص كتابه على كونه عامًا للناس كلهم إلا دين محمد
عليه الصلاة والسلام فإن كتابه يقول : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ( سبأ : 28 ) وقد بعث وحده فقام دينه بالدعوة وانتشر بالدعوة ولم يكن ما كان من
الجهاد في آخر عهده إلا لحماية الدعوة من المعتدين . طالب الناس بالدخول في دينه
ليصلح فسادهم . والشعوب التي خضعت لأصحاب هذا الدين لم تَرَ أرفق من حكامه ،
ولا أعدل من أحكامه ، كما اعترف بهذا بعض علماء أوربا .
وإنه ليوجد في بلاد الإسلام من الملل والنحل ما لا يوجد في بلاد أخرى وكلهم
حافظون لعقائدهم وتقاليدهم ومعابدهم ومعاهدهم . ولم توجد في الأرض أمة عملت
ولا تزال تعمل لإبادة من يخالفها إلا الذين قالوا إنا نصارى من أهل أوربا فقد أبادوا
الوثنيين من أوربا كلها ثم أبادوا المسلمين واليهود من غربي أوربا ، وهم الآن
يحاولون إبادتهم من شرقيها ولذلك لا يقبلون من الترك إصلاحًا مهما حسنت النية فيه ؛
لأن الترك مسلمون تجب في رأيهم إبادتهم من أرض سبقهم إليها المسيحيون فهم
يتعاهدون على ما بينهم من الضغائن والأحقاد على نزع سلطة المسلمين من بلاد
أوربا كما اعتدوا عليهم في آسية وإفريقيَّة ، بل كان كل أهل مذهب من مذاهب
النصرانية يسعى في إبادة أهل المذهب الآخر وهذا لم يُعرف في غير نصارى تلك
البلاد .
( 4 ) قال الألماني : إن الإسلام سلاح بيد أمة حربية لفتح بلاد العالم .
ونقول : نعم إن الإسلام أقوى سلاح للفتح وهل يعد هذا الألماني وقومه القوة
الحربية ضَعَة ورذيلة ؟ أنَّى وتلك شهادة على أمته بأنها في الدرك الأسفل من
المهانة والضعة ؛ لأنها في الدرج الأعلى من القوى الحربية . نعم إن بين قوة
الإسلام وفتوحاته وقوة الألمان في فتوحاتهم فصلاً واسعًا وهو أن الإسلام كان يقصد
بالفتح هداية الأمم إلى الحق الذي تسعد به في الدنيا والآخرة وذلك بأن يريها عدله
في الأحكام وفضل متبعيه في الأخلاق وقوة يقينهم في الإيمان فيرغب فيه عقلاؤها
ويدخلون فيه بالإقناع والإذعان . لا كما دخل وثنيو أوربا في النصرانية بالسيوف
والنيران .
وأما قصد ألمانيا وسائر أمم أوربا من الفتح فهو التمتع الحيواني بخيرات البلاد
التي يفتحونها وتسخير أهلها في خدمة شهواتهم وجمع المال لهم ولم توجد بلاد
في آسية ولا إفريقية افتتحها الأوربيون ثم كانت في ظل سلطتهم متمتعة بالعدل
والحرية في الدين والدنيا كما كانت في عهد فاتحي العرب الأولين .
فهذه إنكلترا أقرب أوربا إلى العدل والحرية تفضل الصعلوك من الإنكليز في
الهند على الأمير المسلم أو الوثني الهندي وقد ساوى عمر بن الخطاب بين صعلوك
قبطي وبين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وحاكمها في عهده وأقاده منه … نعم إن
الإسلام قد تحولت سلطته الديمقراطية المعتدلة المقيدة بالشورى ورأي أهل الرأي من
الأمة إلى سلطة فردية مطلقة بما صار لأمرائه من العصبية التي مكنتهم من جعل
السلطة وراثة في عقبهم فأفسدوا فيه وجعلوا الفتح من متممات شهواتهم ولكن هذا
مرض عرض للمسلمين لا الإسلام وقد انتقم الله تعالى منهم بتسليط أوربا عليهم
تسومهم سوء العذاب ، ومتى بلغ الانتقام حده يرجع المسلمون إلى أصول دينهم
ويقيمون لأنفسهم سلطة إسلامية صحيحة تتكون بها المدنية الفاضلة الصحيحة التي
يسعد بها العالم الإنساني .
ولا يخفى على من استيقظ من المسلمين أن أوربا تجتهد في محو السلطة
المنسوبة للإسلام من الأرض وإنها تتوهم أن هذا المحو لا يعقبه إثبات ؛ ولكنهم
يعتقدون أن هذا المحو هو الذي يكون سبب الإثبات فإن السلطة الحقة المنتظرة لا
تكون إلا إذا استيقظ أكثر المسلمين من هذا النوم المستغرق ولإيقاظهم هذا صوتان :
أحدهما صوت العلم وهذا لا يمتد إلا بالتدريج الطويل وثانيهما صوت انقضاض آخر
ركن من أركان سلطتهم المبعثرة وما هو إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون .
فلتعلم أوربا أن محافظتها على السلطة العثمانية وإبقائها واهنة هو الذي يسهل لها
التمتع بخيرات بلاد المسلمين دون سواه ؛ لأن حكام المسلمين عودوا المسلمين منذ
قرون طويلة على الاعتماد عليهم وإلقاء المقاليد لهم فإذا رجعوا بعد اليأس من حكامهم
أو زوالهم إلى قوة الإسلام نفسه فإن بأس ثلاث مئة مليون من الأسود الباسلة يعتمدون
على الله وعلى ما وهبهم من القوة على دفع الضيم لا يكون أثره في الأرض قليلاً .
( 5 ) قال الألماني بعد ما ذكر من قوة الإسلام ما ذكر : إن القوة التي ساد
بها في آسية وإفريقية ستكون مصدر مصائبه فإنه ينقصه ما في الديانات الأخرى من
قبول الأصول والقواعد ( وفي الأصل المبادئ ) التي عند غير أهله وعدم الاعتداء
على الأمم التي لا تَدين به .
ونقول إن القوة التي ساد بها الإسلام أيام كان إسلامًا هي قوة الحق والعدل وما
جاءته المصائب وأحاطت به النوائب إلا بعد أن حولت سلطته التي تقيم هذين
الركنين إلى سلطة استبدادية تعبث بها كما قلنا آنفًا فالقوة الفاتحة قد زالت من زمن
طويل والسلطة السائدة إلى هذا العصر إنما بقيت سيادتها بقاعدة الاستمرار ؛ فإنها
لم يكن لها مقاوم يزيل استبدادها اللهم إلا ما كان من المبادلة بين المستبدين في
بعض الأحيان . ونحن على علم بأن هذا الاستبداد لا يدوم وإذا لم يزله المسلمون
لاستعباد الملوك والأمراء لهم فهذه أوربا تزيله بالتدريج .
أما زعمه بأن مصدر مصائب الإسلام ستكون من أصلين فيه : أحدهما أن
المسلمين لا يقبلون اقتباس ما عند الأمم الأخرى وثانيهما أنهم لا يكفون عن الاعتداء
عليها فهو زعم باطل مبني على الجهل الفاضح ، أو التعصب الواضح ، ذلك أن
الإسلام يرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها وينهاهم عن الاعتداء
على من لم يعتدِ عليهم قال الله تعالى : ] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ( البقرة : 190 ) [ وقال عز وجل : ] فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ( البقرة : 194 ) [ أي
لا تزيدوا على مقابلته بمثل اعتدائه . فإن أراد بعدم قبول الإسلام أصولاً زائدة عليه
الأصول الدينية لا المعاشية فهذا صحيح وهو مصدر قوته ولكن المسلمين لم
يقصروا في مخالفته في هذا الحكم فأخذوا عن النصارى والوثنيين كثيرًا من البدع
والتقاليد وصبغوها بصبغة إسلامية وهي التي كانت سبب ضعفهم في دينهم الذي هو
أمضى سلاح بأيديهم كما قال وحكّمت غيرهم فيهم فالأمر على ضد ما زعم .
( 6 ) قال الألماني : امتاز الإسلام بفتوحات سريعة قاسية تدل على شهامة
العرب والترك وتعصبهما وخضوعهما للأقدار وكان لهذه الفتوحات تأثير في أوربا
فقد استمر حكم العرب في الجنوب الغربي منها ( أسبانيا أو الأندلس ) سبعة قرون
وحكم الترك في الجنوب الشرقي ستة قرون ولم يستطع الترك ولا العرب إيجاد
رابطة بينهم وبين الأمم التي أخضعوها .
ونقول : إن التاريخ لم يعرف أرفق وألين من فاتحي المسلمين حتى قال أحد
فلاسفة الإفرنج فيهم وفي دينهم : ( إن شعوب الأرض لم تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحِلم
هذا المبلغ ولا دينًا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد ) ( راجع ص 105 من كتاب
الإسلام والنصرانية ) . أخطأ في نسبة القسوة إلى المسلمين في فتوحاتهم وأصاب
في وصفها بالسرعة ووصفهم بالشهامة والخضوع للأقدار ولكن مع العمل والأخذ
بالأسباب التي لا يجوز التوكل والاعتماد على القدر عندنا إلا بعد استيفائها . ومن
البلاء أن هذه المزية العظيمة قد ضعفت بعض الضعف في المسلمين ببدعة الجبر
التي فشت فيهم وروجها لابسو مرقعات الصوف من مدعي الصلاح ومن الذين
يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . ومع هذا كله لا يزال المسلمون
في مجموعهم أشجع الشعوب وأشدها شهامة وسَيَهْتَدُون إلى أن التوكل يشترط فيه
الاستعداد فإذا استعدوا كما يجب يعود إليهم بفضل الله تعالى ما فُقد منهم .
وأما زعمه : أنه لم يستطع العرب ولا الترك إيجاد رابطة بينهم وبين الأمم
التي أخضعوها فهو زعم باطل على إطلاقه فإن العرب قد حولوا لغات الأمم التي
فتحوا بلادها إلى لغتهم بدون إلزام ولا قهر ولا مدارس سياسية كما يفعل الإفرنج
وهذه قدرة على عمل عجزت عنه الدول الأوربية والرومانية قبلها ورابطة اللغة من
أقوى الروابط بين الأمم . هذا هو أثرهم فيمن بقي محافظًا على دينه في البلاد التي
فتحوها .
والكاتب يعلم أن أكثر الشعوب التي استولت عليها العرب قد دخلت في دينهم
فالمجوسية نسخت من بلاد الفرس والنصرانية قَلَّ أتباعُها في مصر وسوريا ولم
يكن ذلك بقهر ولا إكراه ؛ بل كان المسلمون يدخلون البلد ثم يتركونها لأهلها
ويقيمون فيها حامية قليلة تدافع عنها من يعتدي على أهلها إن كان هناك خوف وتقر
الناس على دينهم وعاداتهم ، وتجعل أكثر العمال منهم ؛ ولكنهم كانوا ينجذبون
للشرذمة التي تكون عندهم بجاذبية الحق والعدل والفضيلة فيها فيتبعونها في الدين
واللغة عن رغبة واختيار .
أما الترك فقد عجزوا عن مثل ذلك لأن سهمهم من الإسلام وأركانه الثلاثة كان
دون سهم العرب ، وما كان للأعجمي المقلد أن يفهم من الكتاب والسنة ما يفهمه
العربي المجتهد لا سيّما بعد ظهور البدع . ومع هذا كله كان الترك أكثر رفقًا
بالشعوب التي يفتحون بلادها من سائر الفاتحين وقول الفيلسوف السابق يشملهم .

نوفمبر - 1903م​

_​
(6/640
 
16 ربيع الأول - 1322هـ
1 يونيه - 1904م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

سوريا والإسلام

( 8 )
مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية
زعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون
السوريين الذل والهوان ، قال : ( ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين
اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون
للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا ، بل كانوا يكتفون بحفظ
سيطرتهم السياسية عليهم ؛ لو كانوا حكماء ، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه ؛ لما كانوا
لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة .
ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد , والتي
لا تدل أيضًا ؛ ليعظم الأمر ، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها , وإن
كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين ، وهو لا يدري لسكره بخمرة
حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال :
( ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة
العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم ؛ كلا ، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا .
تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها , ويقتل بعضها
ويسبي البعض الآخر . تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر
بيوتها ، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء ، تصور
حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن
بيوت المسلمين ، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها
وصغارها من تعلم القراءة ، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في
دواوين الحكومة المتسلطة عليها ، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر
صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا . تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في
أيام الدولة العربية . ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء
الأمويين والعباسيين , وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة
849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها.
وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف , وهي أن
هذا اختراع محض , فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين ، ولا منع
من تعليم ، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها , وكانت سيرتهم نقيض ما
قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين ، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ
في التعصب الديني في الأرض ، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان . ومن شاهد
ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه ؛ لشاهد ما تقشعر منه
الأبدان ، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة ، وألصقته بالعرب , وقد تقدم
في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا .
أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها
إلى آخره ، وكان فيها من الفظائع ما فيها ، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس
الثاني على اليهود ، ونهب هيكلهم , وإسرافه في قتلهم ، ونهب أموالهم في القرن
الثاني قبل المسيح ، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم ( الله ) زمام
حكومته لنسائه وندمائه ؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا،
ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا . ولما ولي أنطيخوس الثالث
المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات
فانتهز الفرصة أخيوس ، وخرج عليه ، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس
مؤسس المملكة , فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها
بطليموس الخامس وهو صغير السن ، وكان استولى على فلسطين و فينيقية وسوريا
السفلى . ثم زوج بطليموس ابنته , ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا
لها ، ولكنه لم يصدق . وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل
آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها ، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به
أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى , فأغار على مصر حتى إذا كاد
يظفر صده الرومانيون , فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم ؛ فهجم على بيت
المقدس ونهب الهيكل , وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة . ولم تكن حال من بعده
بأمثل من حاله ، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي
على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم . إن سوريا لم
يستقر لها في أيامها قرار ، ولم تكنها مع الأمان دار ، حتى إن السوريين سئموا
الحياة في آخر عهدهم ، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد ،
واطمأن العباد ، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب ؟ لقد استولى على
سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب ،
وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية . فاعتبر بتعصب هذا
الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة ، والسعادة شقاءً ، والخير شرًّا ،
والحق باطلاً ، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين , وفيهم مثل هذا يكتب
وينشر ويفرق ويمزق ، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة
النصارى ، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا ، حتى كأن الجميع معه في
آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه .
أما الرومانيون فتاريخهم معروف ، وعتوهم وجورهم غير مجهول , ومؤرخو
النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة ، وما قاسى اليهود منهم خاصة ،
لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية . ولقد تنصر معظم أهل سوريا ،
ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية ، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم
في الدين معاملة المساواة ؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام ، ومساواته فكانوا عونًا
للمسلمين على الروم في حربهم ، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة
القصيرة . قال البلاذري في فتوح البلدان :
حدثني أبو جعفر الدمشقي قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : ( قد شُغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ) فقال أهل حمص : ( لولايتكم وعدلكم أحب إلينا
مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم ، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض
اليهود فقالوا : والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد ؛
فأغلقوا الأبواب وحرسوها . وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى
واليهود وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا
فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد .
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين ، ومسير أبي
عبيدة من حمص : ( فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال : اردد على
القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا
نمنعهم ( أي نحميهم ) أن نأخذ منهم شيئًا ، وقل لهم : نحن على ما كنَّا عليه فيما
بيننا وبينكم من الصلح ، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه ، وإنما رددنا أموالكم
لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ، ولا نمنع بلادكم ( أي نحميها ) , فلما أصبح أمر الناس
بالمسير إلى دمشق ، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال ؛
فأخذ يرده عليهم ، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة , وأخذ أهل البلد يقولون : ردَّكم الله
إلينا ، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم , ولكن - والله - لو كانوا هنا ما
ردوا إلينا ، بل غصبونا ، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا ) اهـ ، وقد
أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام ، واستدل
بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع ( راجع ص 356 من السنة
الأولى ) .
التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من
له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر . وهؤلاء
بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة ، والقصة تدل على كونها من الظلم
على عدل العرب ، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء ، قال البلاذري في فتوح البلدان
ما نصه :
قالوا : ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد
بدمشق ؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه ، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه
للزيادة في المسجد , وبذل لهم مالاً فأبوا أن يسلموها إليه . ثم إن الوليد بن عبد
الملك جمعهم في أيامه ، وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا ، فقال :
لئن لم تفعلوا لأهدمنها ، فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين , إن من هدم كنيسة جُنَّ ،
أو أَصَابته عَاهة . فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول ، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده ،
وعليه قباء خز أصفر , ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد . فلما استخلف
عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم, فكتب إلى
عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم , فكره أهل دمشق ذلك , وقالوا : نهدم
مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا , ويُرَدُّ بِيعَةً ؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب
المحاربي وغيره من الفقهاء ، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع
كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة ، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا
عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم , فكتب به إلى
عمر فسره وأمضاه . اهـ
فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور ،
تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس ، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى
كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره ، وموضعًا لفخاره ، بعدما
عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة ، فجاء بنفسه يسترضي النصارى ، ويبذل لهم المال
الكثير ، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات ، ويخاطبونه بكلمة (الجنون),
فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين
القاهرين ، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة ، والحِلم والإناة ، ولم يتعودوا
أن يهضموا حقًّا ، ولا أن يسلبوا رزقًا .
قال البلاذري : حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن
الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى , فأمر
أن يعطوا من الصدقات ، وأن يُجْرَى عليهم القوت . وقال هاشم : سمعت الوليد بن
مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في
خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه , فأنفذه لهم أبو عبيدة . ولما
فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك , فطلب أهلها
الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم :
( بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك
رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة
وخارجها وعلى أرحائهم , وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً ،
ولا ينزلوا قرية عامرة ؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث
شاءوا ، ومن أسلم منهم ؛ فله ما لنا وعليه ما علينا . ولتجارهم أن يسافروا إلى
حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها ، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج ،
شهد الله وكفى بالله شهيدًا ) .
أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه : إنه قاس
يهدم الكنائس ويأخذ المنازل . وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم
أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق ! ! !
أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سوريا كانوا محرومين منها فقد
كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة , فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين ؛ كانت دواوين
بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب , مع عدم عناية
المسلمين باحتكار أعمال الدولة ، ومن المشهور أنها ظلت على ذلك إلى عهد
عبد الملك بن مروان ، وانظر ما قاله المؤرخون في سبب نقلها إلى العربية . ونختار
عبارة البلاذري لقدمه وتحريه في الرواية , قال :
( قالوا : ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان ،
فلما كانت سنة 18 أمر بنقله ، وذلك أن رجلاً من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا
فلم يجد ماءً فبال في الدواة ؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه , وأمر سليمان بن سعد بنقل
الديوان فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك ؛ فلم تنقض السنة حتى فرغ
من نقله . وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه , فعرض ذلك عليه فغمه ،
وخرج من عنده كئيبًا , فلقيه قوم من كُتَّاب الروم , فقال : اطلبوا المعيشة من غير
هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم .
فانظر هذا ؛ تجد أنه لم يكن التعصب الديني مانعًا للعرب من جعل جميع
رجال الدين من الروم يكتبون بلغتهم ما شاءوا حتى أساءوا , ووجد عبد الملك أنه
ينبغي للدولة العربية أن تكون دواوينها عربية ففعل . ولم يمنع ذلك غير المسلمين
أن يكونوا عمّالاً لهم بعد تعلم العربية , ولا سيما في دولة بني العباس ، بل كان مثل
إبراهيم الصابي يرتقي إلى أن يكون وزير القلم ، ولسان الخليفة العباسي ، وكم
ارتقى مثله من سائر الطوائف ( راجع مقالات الإسلام والنصرانية في المجلد
الخامس ) .
وإنك لتجد الكاتب مع تعصبه قد تفلت منه القلم ، فأومأ إلى الفرق بين أول
عهد العرب وآخره ، ولا شك أن أول عهدهم خير ؛ لأنهم كانوا أشدّ تمسكًا بالإسلام
وعملاً به ، وهذا يثبت أن الإسلام نفسه علّة للعدل ؛ لأنه يأمر به . قال تعالى :
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة :
8 ) أي لا تحملنَّكم عداوة بعض الناس لكم على عدم العدل فيهم ، بل اعدلوا مع العدو
وغيره .
( للرد بقية )
(7/222)
 
. غرة رجب - 1322هـ
11 سبتمبر - 1904م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

آثار علمية وأدبية( ثلاثون عامًا في الإسلام )
كتاب وضعه موسيو ليون روس السياسي الفرنسي الذي أقام في بلاد المسلمين
30 سنة ، وتعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها ، وقرأ العلوم الإسلامية ، وعاشر
المسلمين في الجزائر و تونس و الآستانة ومصر و الحجاز , وقد عربت جريدة
اللواء المصرية عنه الجملة الآتية ( فى عدد 1506 الصادر في 22 ج 2 )
فنشرناها نقلاً عنها لتكون حجة على متعصبي النصارى ، وعلى أمثال صاحب
جريدة اللواء الذي ينتصر للمشايخ الجامدين الذين وصفهم صاحب الكتاب ، كما
يتحامل على المصلحين الذين يبينون انطباق الإسلام على المدنية الفاضلة ،
ويدعون إلى أصوله الكاملة التي طمس التقليد معالمها , وعبرة لنابتة المسلمين أبناء
التربية الحديثة الذين كفروا بهذا الدين تقليدًا للإفرنج الجاهلين به ، أو المتعصبين
على أهله . قال المؤلف :
( اعتنقت دين الإسلام زمنًا طويلاً لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من
قِبَل فرنسا ، وقد نجحت في الحيلة فوثق بي الأمير وثوقا تامًّا , واتخذني له
سكرتيرًا . فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته ، فهو دين
إنساني طبيعي اقتصادي أدبي ، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته فيه
مشروعًا ، بل إني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية
فوجدتها كأنها أخذت أخذًا عن الشريعة الإسلامية . ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في
نفوس المسلمين ، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالاًَ وكرمًا ، بل
وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة
والمعروف في عالم لا يعرف الشر واللغو والكذب ، فالمسلم بسيط لا يظن بأحد
سوءًا ، ثم هو لا يستحل المحرم في طلب الرزق ، ولذلك كان أقل مالاً من
الإسرائيليين ، ومن بعض المسيحيين .
ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين يشغلان العالم طرًا . الأولى
في قول القرآن : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ( الحجرات : 10 ) فهذا أجمل مبادئ
الاشتراكية ، والثانية فرض الزكاة على كل ذي مال ، وتخويل الفقراء حق أخذها
غصبًا إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا ، وهذا دواء الفوضوية .
همت بحب فتاة جزائرية اسمها خديجة وشغفت هي بي حبًّا ، إني كلما تذكرت
هذا الحديث أذوب أسفًا . تبادلنا الغرام وتشاكينا الهيام وهي لا تعرف من أمري إلا
أني مسلم . وكان حبي لها حبًا جرى مجرى دمي في مفاصلي , فأردت أن أتخذها
زوجة ، وأن أرحل بها إلى فرنسا حين قضاء مهمتي فأطلعتها على شيء من سري .
واأسفاه ، إنها حين علمت بذلك نهضت من جنبي مصفرة الوجه مطرقة الرأس ،
وقالت : الوداع الوداع , إني أحبك فلا أستحل إفشاء سرك , ثم إني أحب قومي فلا
أستحل أن أبقى بينهم عارفة بأمر يسوءهم ، ولذلك لا ينبغي لي أن أعيش فالوداع .
ثم طعنت فؤادها بخنجر فسقطت ميتة وإني لا أنساها ما دمت حيًّا .
ذلك من تأثير هذا الدين الكريم ، إنه دين المحامد والفضائل ، ولو أنه وجد
رجالاً يعلمونه الناس حق العلم ، ويفسرونه تمام التفسير ؛ لكان المسلمون أرقى
العالمين وأسبقهم في كل الميادين ، ولكن وُجِدَ بينهم - ويا للأسف - شيوخ يحرفون
كلمه , ويمسخون جماله ويدخلون إليه ما ليس منه . وإني تمكنت من استغواء
بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان و الإسكندرية و مكة فكتبوا إلى المسلمين في
الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسويين , وبأن لا ينزعوا إلى ثورة ، وبأن
فرنسا خير دولة أخرجت للناس ، ومنهم من أفتى بأن فرنسا دولة إسلامية أكثر
من الدولة العثمانية ، وكل ذلك لم يكلفني غير بعض الآنية من الذهب .
مثل هؤلاء الشيوخ الذين يحسبون هذا الدين ملكًا لهم لا ينبغي لغيرهم شرحه
وتفسيره ، مثل هؤلاء الشيوخ الذين يقاومون المصلحين ، ويعدون كل تأويل غير
تأويلهم كفرًا وإلحادًا ، مثل هؤلاء الشيوخ هم علة تأخر الإسلام والمسلمين .
سمعت في الجزائر وتونس أن الشيخ محمد عبده المصري يفسر القرآن
تفسيرًا منطبقًا على العلم والمدنية والإنسانية ، فوجدت كثيرًا من الشيوخ الجامدين
يرون في ذلك بدعة ، ويقولون : ما أتى بمثل هذا أحد من الأولين . فكأنهم يرون
هذا الدين متاعًا لا يخص غير الرازي و الجمل و السيوطي وغيرهم من المفسرين
السابقين ولا يخص سواهم من العلماء المجتهدين . إنه إذا مَنَّ الله على الإسلام
بشيوخ عقلاء مثل الشيخ محمد عبده وغيره من المصلحين ، كان خير دين أخرج
للناس ، وكان المسلمون أرقى العالمين اهـ .
( المنار )
قد سررنا من نشر جريدة اللواء لهذه النبذة ، كما سررنا من كتابة ذلك
الفرنسي لها ، فعسى أن نراها بعد الآن معترفة على الدوام بمثل ما اعترف به هذا
السياسي الكبير ، والعالم المنصف ، وأن لا تنتصر بعد لأولئك الشيوخ الجامدين
على العقلاء المصلحين ، وإن كان الحق يعلو كل انتصار حيث يجد حرية ، وأن
تستفيد بما ينشر المنار من ذلك التفسير الذي هو حجة الله على العالمين في هذا
العصر ، ومن سائر محاسن الإسلام وحكمه ومزاياه ، فلا يليق بمن ينتحل لنفسه
خدمة الإسلام في مصر أن يجهل أو ينكر ما فيها من الإصلاح الذي يعرفه ،
ويعترف به الفرنسي في باريس .
 
غرة شوال - 1322هـ
8 ديسمبر - 1904م
الكاتب : محمد رشيد رضا

فرنسا و الأزهر

نشرت جريدة الإجيبت الفرنسية التي تصدر في القاهرة مقالة عنوانها ( فرنسا
والأزهر ) في العدد الصادر في 24 نوفمبر الماضي ، فأحببنا نشر ترجمتها في
المنار ليعرف أهل الأزهر ما يقول فيهم كتاب الإفرنج ويعتبر بما فيها سائر
المسلمين ، وهي :
حدث في الأزهر أخيرًا أن رجلاً معتوهًا أطلق الرصاص على شيخ رواق
المغاربة ، فتنبهت لهذا الحادث صحف فرنسا واهتمت بالبحث في شؤون ذلك
الفريق المخصوص الذي يعيش وراء الجدران الصامتة في تلك الكلية الإسلامية
الجامعة . ونحن نغار على كل ما يمس جاه فرنسا ونفوذها في تصديها لإدخال
الحضارة في ربوع المشرق ، ونهتم بكل ما له علاقة بالوظيفة التي أخذت على
عاتقها القيام بها في تلك الأقطار ، فلذلك لم يكن يسوغ لنا أن نترك هذا الحادث
المحزن من غير أن نخوض في موضوعه ونتكلم في عواقبه فإنه مرتبط بعلائق
فرنسا بالمشرق أشد الارتباط .
لا يصح لمن يعيشون بقرب هذه المدرسة أن لا يعبأوا بأي أمر يتعلق بها فإن
في وسعهم أن يعرفوا مقدار تأثيرها في العالم الإسلامي . هذه المدرسة في نظر
الباحث المدقق كسياج للأفكار الإسلامية ؛ لكونها في القاهرة أعظم عواصم الإسلام
مدنية وحضارة ، وبالقرب من ضريح الإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد أصحاب
المذاهب الأربعة . بل نقول تقريبًا للحقيقة من أفهام الغربيين أن للأزهر في بلاد
المشرق تلك المكانة التي أحرزتها في الزمن الغابر مدرسة بولونيا الكلية حينما
ورث عواهل ألمانيا صولجان قياصرة الرومان ، وسيف الإمبراطور شارلمان ، بل
هي كمدرسة السوربون في فرنسا أيام رفع أفاضل العلماء فيها نبراس الأفكار ،
فأضاء تلك الأقطار ، بما جددوا من معارف اللاتينيين ومحوا من تلك الظلمات
المتراكمة التي أحدثتها غارات البرابرة . إذا كان جميع المسلمين يولون وجوههم
شطر المسجد الحرام فكذلك الغيورون على مصلحة المسلمين في الاستقبال قد جعلوا
الأزهر قبلة للأماني وكعبة للآمال ، نعم إن الذي يمر بالأزهر اليوم ولم يكن قد
أوتي شيئًا من العلم والفطانة ، أو البصيرة والرزانة ، لا يرى في هذا البناء الذي
علته الشرفات العربية ، وازدان بالحجرات المغربية . إلا آثار مدنية قديمة غادرها
الزمان في سبات عميق ، فليست في الأموات ولا في الأحياء ، كما كانت بزنطية
عاصمة الدولة الرومانية الشرقية حين ضرب عليها التصوف رداءه وأحاط بها
التقشف من كل مكان . فإن ما يدور فيها من المجادلات العتيقة العقيمة في العلوم
التي يسمونها الوسائل ، والعلوم التي يسمونها المقاصد ، لا تسفر عن وجه يشعر
يتجدد الحياة . ولكن من يسبر الأشياء بمسبار الرويَّة ، وينظر إلى الأمور بعين
البصيرة ، يرى في هذا الجمع المتكاثف وبين أولئك الطلبة الذين يدرسون
ويشتغلون كأمثالهم في كليات أمريكا اهتزازات تدل على حياة جديدة ، ويجد في
نفسه انتعاشًا يشعر بنشأة أخرى ولكن هذه الاهتزازات الحيوية مستورة بالسكينة
والوقار ، مغشاة بما امتاز به الشرق من التجرد وعدم المبالاة . ذلك أن بعض سروات
المسلمين الذين لابسوا أهل أوربا وعلموا أن مدنيتهم قائمة على أساس العلم والتربية
تبرعوا بأموال طائلة ونصبوا لأولئك الطلاب المنقطعين للرياضات وأنوار التجلي
أساتذة من الذين نبغوا في مدارس أوربا ليبثوا بينهم علومنا العصرية ومعارفنا
الحديثة بحيث قد جنحت المدينة الإسلامية جنوحًا ظاهرًا للاستقاء من معارفنا ،
والامتزاج بنا بدلاً من أخذ الأهبة وحمل السلاح لمكافحة المدنية النصرانية ، فهي لنا
بمثابة الأخت الصغرى ، ونهضتها هذه تشابه نهضة تجدد المعارف اللاتينية في
أوربا مشابهة تامة تدعو إلى العجب والدهشة ، ولكنها متأخرة عنا بستة قرون هي
المدة بين نهضة المسلمين ( الأولى ) ونهضتنا وليس يخشى عليها غير خطر واحد :
هو أن تتبلور عقول أهلها تبلورًا صوفيًّا تجريديًّا ، والدافع لهذا الخطر والواقي منه
هو الأزهر ، فإن حركته الذاتية تسير ببطء في طريق كافل نيل المرام ولن
يتخلف الأزهر عن الوفاء بما نيط به ما دام المهيمن عليه من أولئك الذين انفتقت
أذهانهم بالأفكار العصرية .
أسهبنا في شرح مقدمة الموضوع الذي نتوخى الخوض فيه ، وما ذلك إلا لأنه
كان من الضروري بيان درجة الأزهر ومكانته العليا في عالم الإسلام وما له من
الشأن الكبير في مزج المدنيتين ، وهو أمر واقع بلا شك في يوم من الأيام على
سواحل البحر الأبيض المتوسط . ومن المعلوم أن فرنسا و إنكلترا هما الدولتان
العظيمتان اللتان لهما السيطرة على كثير من بلاد الإسلام ، ولذلك أوجبت هذه المكانة
على تينك الأمتين الكريمتين فرضًا لا يمكن سقوطه بكرور الزمان ألا وهو السعي
المتواصل في دوام تحسين العلاقات الفكرية والعلمية التي وصلت بنفسها عالم
الشرق بعالم الغرب ، وأخص فرنسا التي قد اكتسبت من عهد قريب مكانة راجحة في
مراكش فإنها لا يتسنى لها بإزاء الأمم الإسلامية ترك ما هو محتم عليها بمقتضى
الروح الساري في جثمانها ، وما هو مدون في تاريخها أعني وظيفتها التي هي
حماية الأمم المستضعفة ونشر ألوية الحرية والإخاء في ربوعها . فإذا نظرنا إلى
فرنسا وجدناها على رأس مملكة إسلامية فسيحة لها شأن عظيم وقيمة غالية ، وهذه
المملكة تمتد من تونس إلى سنغامبيا على سواحل البحر الأبيض والمحيط
الأطلنطي ، وقد ازدادت هذه المملكة بدخول مراكش في دائرتها ، فليس لفرنسا إذن
أن تحتقر أية وسيلة لرفع شأن الحضارة الإسلامية في مملكتها الشاسعة الأكتاف ،
البعيدة الأطراف ، بل عليها أن تبذل كل ما في وسعها لتجعل لها على العالم
الإسلامي نفوذًا عقليًّا يكون لها من ورائه فوائد يا لها من فوائد لا تذكر بجانبها مزايا
ما تراه من التودد لها في بطانة صاحبي تونس وفاس فيعود ذلك عليها بالنفع أمام
ذلك المجتمع العظيم الممتد على سواحل أفريقية المتألف من قبائل متغيرة وشعوب
متنافرة ، وليس الأزهر بأقل ضمانة أو أقل فعلاً من غيره من الوسائل التي يجب
على فرنسا استخدامها لزيادة نشر نفوذها الأدبي التمديني في العالم الإسلامي
المستقر في مملكتها الأفريقية .
فحينئذ نرى أن فرنسا قد نيطت بها بطبيعة الحال وظيفة يجب عليها أن لا
تتخلى عنها وذلك أنها بصفتها وارثة لملوك تونس فليس لحكومتها الجمهورية أن
تنسى أن الباي محمد صاحب تونس هو الذي أسس في حدود سنة 800 للهجرة
رواق المغاربة الذين يرحلون من بلادهم لطلب العلم بالأزهر مجذوبين إلى هذه
المدرسة التي هي كنبراس للعلوم الإسلامية قد أرسل أشعته وأنواره على الأقطار
والأصقاع كافة .
ثم جاء عبد الرحمن باي تونس ( يقول المترجم هذا خلط مع المرحوم عبد
الرحمن بك كتخدا إذ ليس في بايات تونس عبد الرحمن المذكور ) وجم غفير من
أبناء المغرب مثله زادوا على توالي الزمان في الأوقاف المخصصة لرواق المغاربة
بالأزهر فلما انحلت عرى الجامعة ، وتضعضعت أركان الدولة الإسلامية وانمحت
الآثار ، وضاعت الرسوم وانسدل على أمور الأزهر حجاب من النسيان فأغار أبناء
طرابلس على رواق المغاربة وجعلوا أنفسهم أصحاب الاستحقاق حتى ارتفع بعد أن
لم يكن شيئاً مذكورًا عدد الطلبة منهم في أيامنا هذه إلى 50 مجاورًا من 118 مغربيًّا ،
وربما كان السبب في زيادة نسبتهم كون بلادهم ملاصقة لديار مصر أو زيادة
لعناية من المشايخ الطرابلسيين فإذا كان هذا الأمر مضرًّا بمصالح الرعايا
المستظلين باللواء الفرنسي من المراكشيين والجزائريين والتونسيين الذين يجاورون
بالأزهر أو يترشحون لذلك ، فلا ريب في أنه مضر أيضًا ضررًا بليغًا بمصالح
فرنسا إذ يحرمها من وسيل فعالة في نشر نفوذها الأدبي والتهذيبي بين الأمم
الأسلامية العائشة في مملكتها الأفريقية ، ولا يصح لنا أن نغفل عن كون السلطان
عبد العزيز سلطان مراكش بصفته مالكي المذهب يعتبر في قسم عظيم من أفريقية
الشمالية أنه هو النائب الشرعي الأكبر للجماعة أي جماعة أهل السنة من المسلمين ،
وليس لنا أن ننسى أيضًا من جهة أخرى أننا إذا صرفنا النظر عن الشافعية وهم
السواد الأعظم من المجاورين ولكنهم كلهم من أهل هذه الديار نجد أن الحنفية
المتبعين للمذهب السائد في المشرق والمالكية - أي المنتميين لمذهب إمام دار
الهجرة - وهو الشائع في المغرب يبلغ عددهم 77.72 ( في المائة ) وفي ذلك
دليل على أن أواصر القرابة الروحية بين الأزهر والأمة الإسلامية بأفريقية
الفرنسية هي كثيرة الالتئام متينة الإحكام بحيث لا يجوز التغاضي عنها لمن أراد أن
يقوم بسياسة الدخول والامتزاج في أفريقية الشمالية الغربية ، وجعل المهارة قائده
والاحتراس رائده ليفوز من عمله بالقسط الأوفر ، ويتكلل مسعاه بالنجاح الأوفى .
ليس من نيتنا أن نتداخل بأي وجه كان في أمور الأزهر الداخلية ، فإننا نعلم
مقدار تعلقه بما له من الاستقلال ومحافظته على كيانه مع خراب سائر النظامات
الأهلية الأخرى ، ولذلك نعلم أنه ينظر شزرًا وغضبًا إلى كل تداخل أجنبي في
شؤونه الخصوصية ، نحن نظن أن الأستاذ الأكبر في الأزهر لا يخطئنا في زعمنا
الذي نراه ، وفي دعوانا التي ندعيها ، وذلك أنه طالما جاهر الناس ونادوا على
رؤوس الأشهاد أن فرنسا لها وظيفة مقدسة في المشرق وهى حماية طائفة الكاثوليك
وهم لا يتجاوزون بضعة الآلاف عدًّا ، فمن باب أولى يجوز لنا أن نقول : إن على
الجمهورية في البلاد الإسلامية واجبًا أقدس ، وفرضًا ألزم ، ألا وهو حماية
المسلمين أيضًا ، وعددهم يتجاوز الملايين .
إن حكومة الجمهورية الفرنسية تنفق الأموال الطائلة لاستمرار المدارس
النصرانية في بلاد المشرق ، فهل تكون مخطئة إذا طلبت من الأستاذ الأكبر ومفتي
الديار المصرية الإذن في الجري على سنة الملوك والأغنياء المغاربة الذين آلت
إليها ممالكهم وأملاكهم وذلك بأن تجعل في ميزانيتها إعانة سنوية لتكون بمثابة وقف
على رواق المغاربة في الأزهر ؟
لا ريب أن مشايخ الأزهر لا يرفضون الوسائل التي يكون من ورائها إقبال
الطلاب على دروسهم وزيادة من يتلقى العلم عنهم فتنتشر تعاليمهم بفضل عناية
الجمهورية الحرة الكريمة الشيم فتزيد نفوذ فرنسا الأدبي في شمال أفريقية الغربي
وبذلك ينتهي أيضا الخلاف القائم الآن بين طلبة الرواق وشيخهم الحالي الذي
يتهمونه بتوزيع النصيب الأعظم من الإيراد على أبناء وطنه ومن أخص المزايا
التي تنتج عن هذا العمل تسهيل الامتزاج بين مسلمي سواحل بحر الروم الجنوبية
وبين المدنية الغربية ، وبذلك الامتزاج يمكن تحقيق تلك الأماني الجسام وتجديد ما
رآه التاريخ في سالف الأيام من مآثر المفاخر وآثار الفخار التي تولدت في العالم
بأسره ، وأضاءت الكون كله حينما انقادت أزمة الأحكام بأيدي العرب الأمجاد في
أسبانيا وصقلية فأدهشوا الدنيا بما ابتكرته قرائحهم الصافية من عجائب الغرائب
وروائع البدائع ) . اهـ
( المنار )
لقد بالغ الكاتب في بعض ما كتب ، وكان دقيق النظر في بعضه ، والروح الذي
كان مستحوذًا عليه هو روح الغيرة على دولته ودلالتها على طريق لما تحاوله من
استقرار السلطان في الممالك الإسلامية المغربية . وقد تجاوز كتاب الفرنسيس في
هذا الصدد حدّ الكثرة في الآراء والأفكار ، ولا نكاد نرى فيهم من يحز في المفصل
ولو اهتدوا إلى استشارة أهل الرأي الصحيح من المسلمين المخلصين للإسلام دون
تحيز إلى أمرائه وسلاطينه واطمأنوا لهم - لكان لهم من رأيهم نبراس يهتدون به
إلى الجادة .
يتوهم هؤلاء الكتاب البلغاء والساسة الأذكياء أن خلابة القول وزخرف
الدعاوي يؤثران في نفوس المسلمين حتى يبلغ القائل منها ما يريد من التأثير العقلي
والأدبي . ولعلي لو نصحت لهم أستفيد الظنة ، وتكون مجلتي في مستعمراتهم تحت
المراقبة على الأقل ، ولكنني أستأذنهم في كلمة مبنية على الاختبار الصحيح بعيدة
من نزغات السياسة ومفاسدها وخداعها وخلابتها ، وهي أنه لا سبيل فرنسا إلى
الوفاق الصحيح مع المسلمين إلا بمساعدتهم في مستعمراتها على التعليم الإسلامي ثم
العصري وإطلاق الحرية لهم في الدين والفكر ، دون الفحش والنكر ، وليعتبروا
بسيرة إنكلترا في مستعمراتها ، ويعلموا أنه يتسنى لهم أن يزيدوا عليها نفوذًا معنويًّا
في العالم الإسلامي إذا هم زادوا عليها في حرية التربية والتعليم ، ومن لوازمها
حرية المطبوعات والجرائد .
نقول هذا حبًّا بأبناء ملتنا أولاً ، وحبًّا بالأحرار النافعين للبشر ثانيًا واعتقادًا
منا بأن وفاق الحكومة الفرنسية مع أهل الجزائر وتونس ظاهرًا وباطًا خير للفريقين
من الخضوع لجبروت القوة والسلطان الذي ينفع القوي الحاكم ابتداء والضعيف
المحكوم أخيرًا ؛ إذ الشدة هي أعظم مربٍّ للأمم والشعوب . وإنما كان خيرًا لهما
معًا لأنه يجمع بين منفعة الفريقين في الحال والاستقبال . وقد لاح لنا أن فرنسا
أنشأت تشعر بأن هذا هو الرأي الصواب ، وإنما نحن نذكرها بأن الإقناع به يجب
أن يكون بالعمل دون القول ، ومدح الحكومة الجمهورية بالانتصار للضعفاء
والتحرير للمستعبدين . ويجب أن يكون العمل في الجزائر ثم في تونس لا في
مصر ، فإنفاق ألف دينار على التعليم في الجزائر مع الحرية الدينية التامة هو أقوى
تأثيرًا من إعطاء مليون دينار للأزهر ، وأشد إقناعًا حتى لأهل الأزهر بحسن نية
فرنسا وانتفاء الخطر على الإسلام نفسه في تسلطها على المسلمين ، أما النظر في
المقالة من الجهة السياسية فقد كتبت مقالة في المؤيد الصادر في 30 رمضان جاء
فيها بعدد ذكر أمهات مسائل المقالة ملخصة ما نصه :
وفي هذه المقال وجوه من العبر أهمها المقابلة بين فرنسا وإنكلترا التي
اعترف الكاتب بأنها ضريبة فرنسا في نشر الحضارة في المشرق والنفوذ في العالم
الإسلامي ، أما إنكلترا فقد احتلت مصر من نحو ربع قرن ، وعظم نفوذها فيها مع
عدم اعتراف أوروبا لها بذلك حتى كان الوفاق الفرنسي الإنكليزي ، وأذعنت أوربا
للاحتلال تبعًا لفرنسا ووعدت بعدم التعرض له ، ومع ذلك لم نر من إنكلترا تعرضًا
للأزهر ، ولا ميلاً لنشر نفوذها فيه ، كما نشرته في جميع مصالح الحكومة
المصرية ، ولم يقم من ساسة الإنكليز وكتابهم من يطالب حكومته باستعمال الأزهر
للتأثير في العالم الإسلامي ، وأما فرنسا التي كانت تعارض الاحتلال خوفًا منه على
ضياع مصالحها ونفوذها في مصر فإنها ما أمنت على هذه المصالح بالوفاق الأخير
مع إنكلترا حتى قدح ساستها زناد الفكر في استنباط الوسائل لبث نفوذها في أعظم
معهد للتعليم الإسلامي وجعله آلة لنشر نفوذها العقلي والأدبي في المسلمين والشرق ،
ولعلها تريد أن تؤيد العلم والحضارة فيه كما أيدتهما في الجزائر ، ولو كانت هي
المحتلة في مصر فماذا كانت فاعلة بالأزهر ؟
إذا كان كاتب تلك المقالة لا يشك في قبول مساعدة مشايخ الأزهر لفرنسا فإننا
نحن نقطع ونجزم بعدم قبولها بالقصد الذي اقترحه . وأما إذا قدمت الإعانة المالية
للأزهر على أن تتصرف فيها إدارة الأزهر كما تشاء من غير أن يكون لفرنسا حق
في كيفية صرفها ولا في السؤال عن حالة مجاوري المغاربة وملاحظة أحوالهم أو
تعليمهم فيحتمل أن يقبلها فضيلة شيخ الجامع كما يقبل سائر الإعانات والمساعدات
من المتبرعين .
وإذا كانت فرنسا تحب أن يكون لها نفوذ عقلي أدبي في مسلمي مملكتها
الأفريقية المتحققة والمأمولة فلتطلق للمسلمين في الجزائر حرية العلم والتعلم من
غير مراقبة ، ولتساعدهم على ذلك بالفعل ليظهر له أثر في الوجود يوثق به لبعده
عن نزعات السياسة ، وإلا كانت هذه الأقوال والاقتراحات مثارًا لسوء ظن
المسلمين بفرنسا ، وجزمهم بأنه لا توجد دولة أوروبية ناصرة للحرية الدينية
والعلمية غير إنكلترا فالأقوال والدعاوى لا تقنع أحدًا ، وإنما العبرة بالأعمال .
... ... ... ... ... ... ... ... ... م . ر

 
غرة المحرم - 1323هـ
7 مارس - 1905م​
فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها
( س1 ) سليمان عبد الله في ( السويس ) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن
عنده شبهات في الدين يحب كشفها ، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو :
الحديث المشهور : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة
الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) أصحيح هو ؟ وما هي
الفطرة الإسلامية ؟ أمسلمًا يولد المولود ؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،
أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى ! فبالإجمال ما معنى هذا
الحديث الشريف ؟
( ج ) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي
هريرة ، وهو لم يدرك أبا هريرة ؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ : ( كل مولود يولد
على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء ) ورواه مسلم والترمذي وصححه ، وفيه : ( يشرِّكانه )
بدل ( يمجسانه ) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الروم : 30 ) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث ،
وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان ، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار ، ونقول هنا
ما لا بد منه ؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً :
إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة
مقتضى الخلقة ، وأن أصوله فوق قضايا العقول ، وأحكامه وراء مدى الأفهام ، وأن
الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة ، وأنه لا حق لصاحب الدين في
طلب الدليل على عقائده ، ولا في السؤال عن حكمة عباداته ، ولا في تطبيق أحكامه
على مصالح الأمة وخير البشر ، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم
تقليدًا أعمى .
ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل
ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها ؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله
اصطفى كل يهودي ، وميّزه على العالمين ؛ لأنه يهودي ، فهو إذا أذنب يعفو الله
عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين ؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!
وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه ، وإذا
أساء يتضاعف عذابه . كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة
ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها ؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير
بلد من بلادها ، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل ، ويستبيحون محاربة
قوم آمنين مهذبين ، وإذلال كبرائهم ، وإهانة عظمائهم ، واستعباد دهمائهم ، وإن
أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير ، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى
المسلمين ، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة .
أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية ؛ فنسفها نسفًا ، وبيَّن للناس
أن الدين مع الفطرة في قرنٍ ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة ، وضعفه هو ضعف
الفطرة ، وفساده هو فساد الفطرة ؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل ، وآدابه وعباداته
لترقية النفس ، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع ، والتعامل بين الناس ؛
ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه ، والبحث عن حكمه ، ونظامه ، وأسراره
وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله ، وذكر عند طلب كل
عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس ، وتحليتها بالأخلاق العالية ،
كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته . وبَيَّن أن العقوبة على
الكفر ، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس ، كما
أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة ، والأعمال الصالحة في النفس .
والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا ، وقد فسرنا في مجلدات المنار
الماضية العشرات منها في الأصول العامة ، والفروع الجزئية ، وإعادته هنا تطويل
لا محل له ، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب . وفي باب التفسير
من هذا الجزء شيء من ذلك .
ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف ، بل سمّى أهل الحق
مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين ؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم
وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم . لا على قبول التسمي والرضى
باللفظ والمعيشة مع أصحابه ؛ ولذلك قال في بعض المسلمين : { قَالَتِ الأَعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ( الحجرات : 14 ) ، وقال : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ } ( النساء : 123 ) الآيات ، وقال : ما رأيت تفسيره في
هذا الجزء .
فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه : موافق لسنن الله
تعالى في الخلقة الإنسانية ؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية
حقوقها ، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها . ومعنى ولادة
كل مولود على هذه الفطرة ؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به
على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر
عنه يكون له أثر في نفسه ، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو
شقائه في الدنيا والآخرة ، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس
الطبيعة ،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -
على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة ،
فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا
بمقتضى الفطرة ، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب
القول به ، والاعتماد عليه ، وإن لم يعقل ، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل
شيء ، وبيده ملكوت كل شيء ، قد اعتنى بأمرهم ، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما
أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة ، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه
بجنين ، فصار إلهًا وإنسانًا ، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما
يأكلون منه ، ويشرب مما يشربون ، ويألم مما يألمون له ، ويتعب مما يتعبون ، ثم
مكَّن شرارهم من صلبه ، فصلبوه ، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث ، ثم قُبِرَ ولُعِنَ
ودخل الجحيم ، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم ، ومع ذلك كله لم تكن
طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم ، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم ، وهم الذين
استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم ، ويسلموا بهذا القول تسليمًا .
فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة ، وهذا هو الفرق بينه
وبين أديان التقليد ، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة ؛ فإن هذا ليس من
الفطرة في شيء ، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق
والباطل ورواية مسلم هكذا : ( كل مولود تلده أمه على الفطرة ، فأبواه بعدُ يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم ) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا
( الحكمة الشرعية ) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة ، والله
أعلم .
***

 
16 ربيع الثاني - 1323هـ
19يونيه - 1905م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الاتصال بين الآيات والسور
وجمع القرآن

( س23 ) أ . ت بقزان ( روسيا ) أعرض عليكم أيها الأستاذ ما اعترض به
عليَّ أحد الروسيين -بعدما ترجمت له تفسير القرآن من مجلتكم المنار الأغر - على
قول الأستاذ بالاتصال بين الآيات والسور ، قال : إن المتفق عليه عند علماء
المسلمين أن القرآن نزل إلى الرسول عليه السلام مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة
وأول سورة نزلت { اقْرأْ بِاسْمِ } ( العلق : 1 ) على قول الأكثرين ، وهذا المصحف
الذي أوله سورة الفاتحة ليس على ترتيب النزول بل جمع ورتب بهذا الترتيب في
عهد أبي بكر -رضي الله عنه - فكيف تكون الآيات والسور متصلة مع ما يليها ،
على أن بعض الآيات من السورة الواحدة أنزلت بمكة وما يليها بالمدينة وبين
نزولهما عدة سنين ؟ وأيضًا كيف جمعوا السور والآيات على الترتيب هل كان
بتعيين من النبي عليه السلام أم لا ؟ وهل في هذا خبر متواتر أو مشهور ؟
وأنا الحقير أجبت الروسي بقدر وسعي والآن أرفع المسألة إلى حضرتكم راجيًا
منكم الجواب ولكم من الله الأجر والثواب .
( ج ) لا خلاف بين المسلمين في أن بعض السور نزل جملة واحدة وبعضها نزل متفرقًا على حسب الوقائع والأحوال ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجمع كل سورة عند اكتمالها ويمليها على كتبة الوحي ويقرِئها القارئين ، ولكن جمع السور كلها في مصحف واحد هو الذي كان على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكتبت النسخ ووزعت على الأمصار في خلافة عثمان فعملهم هذا
كان عملاً إجماعيًّا ونقلاً متواترًا ، لم يختلفوا في ترتيب السور فضلاً عن ترتيب
الآيات ، وإنما تردد عمر أولاً في جمع القرآن في مصحف واحد ؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ثم وافق منشرح الصدر وكأنه تذكر أن زمنه -
عليه السلام - كان كله ظرفًا للوحي ، وإنما يكون الجمع بعد التمام ، وقد روى ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : آخر ما نزل من القرآن كله { وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } ( البقرة : 281 ) الآية ، وعاش النبي- صلى الله عليه
وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات ، فأنت ترى أن تسع ليال في
المرض لا تتسع لجمع القرآن في مصحف واحد ، وأنه لم يكن ذلك ضروريًّا فإنه
عليه الصلاة والسلام كان يأمر عند نزول كل آية بأن تلحق بسورة كذا ويعين
موضعها ويقرِئهم السورة بعد تمامها ، وكان عالمًا بأن كل ذلك محفوظ في الصدور
وفي الطروس ونحوها مما يكتب عليه ، ولو لم يكن هذا الترتيب متفقًا عليه ؛ لأنه
مأخوذ عنه - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر لاختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا فلا حاجة
إلى الإطالة بذكر الروايات مع هذه الحجة .
وأما الاتصال بين السور وما فيه من التناسب والتناسق ونكت البلاغة ، فهو
تابع للترتيب ، وقد علمت أن الترتيب كان مقصودًا بتوقيف من الشارع ، وما كان
بالقصد يراعى فيه مثل ذلك ، ولو رتبت الآيات كلها على حسب النزول لكان
اتصال بعضها ببعض والتناسب بين المتقدم منها والمتأخر من مثارات العجب التي
يسأل فيها عن السبب ، أما وقد رتبت بالقصد وبالتوقيف من الوحي فهي كأنها نزلت
مرة واحدة بهذا الترتيب ، فاعتراض الروسي على ما نذكر من وجوه الاتصال
والتناسب بين الآيات مبني على الجهل بأن ترتيب الآيات كان توقيفيًّا ، على أنه لو
كان من عمل الصحابة لما كان ذلك فيه غريبًا إلا إذا ثبت أن هذا التناسب قد انتهى
في البلاغة إلى حد الإعجاز فكان بنفسه معجزًا ، وليس هذا ببعيد فوجوه الإعجاز في
القرآن كثيرة ومنها هذا الوجه الوجيه . هذا وإن التناسب في اتصال الآيات بعضها
ببعض بيِّن ظاهر لا تكلف فيه ولا تعسف ، وليس هو قبيل الدعاوى النظرية فيورد
عليه ما أورد بل هو من الأمور الوجودية الحقيقية ، فليفرض ما شاء في جمع
القرآن وترتيبه فهو شيء قد مضى وهذا شيء حاضر لا يمارينَّ فيه إلا مكابر ،
وإننا إن شاء الله تعالى سنجرد تفسير المنار ونطبعه على حدته ونضع له مقدمة
نشرح فيها هذه المسائل وأمثالها شرحًا كافيًا ، والله الموفق والمعين .
__________
(8/289
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمر
في آل سعود

قد علم القراء مما قصصنا عليهم من قبل أن ابن رشيد الذي كان متغلبا على
بلاد نجد جار وظلم معتمدًا على أن الدولة تؤيده وتنصره بما كان يوهمها من أن آل
سعود الوهابية يريدون محو سلطتها من بلاد العرب ، وهو الذي يؤيد نفوذها ، وكان
هو وأنصاره يستعينون على ذلك ببعض رجال الحكومة في البصرة والشام
والحجاز وبعض الجرائد المصرية التي توصف ( بإسلامية ) فقد حاول هؤلاء
الأنصار إقناع الآستانة أو يلدز بأن آل سعود متفقون مع الأجانب على تمليكهم بلاد
نجد وما كانوا ينطقون ولا يكتبون إلا بأجرة عظيمة يأخذونها من بعض كبار التجار
الأغنياء المشايعين لابن رشيد ، فكانوا يوقعون الفتنة بين المسلمين ويغشون دولتهم
وسلطانهم حبًّا في منفعة أنفسهم .
ولما تمكن أهل الغيرة والنجدة من أمراء العرب وغيرهم من إقناع الدولة العلية
بخضوع آل سعود لها وبعدهم عن الفتن والاستظهار بالأجانب لشدة تمسكهم بدينهم ،
عمدت الدولة إلى التحقيق ، فأرسلت المشير أحمد فيضي باشا إلى نجد ليدعو أهل
البلاد النجدية ورؤساء القبائل إلى الطاعة ، ويتبين هل هناك جنود أجنبية كما زعم
الواشون فأجيبت دعوته ، وعلم أن آل سعود هم المخلصون الصادقون ، وأن ابن
رشيد وأنصاره هم الغاشون المخادعون .
فحصر سلطة ابن رشيد في بلده وعشيرته وجعل عبد الرحمن الفيصل أمير
سائر بلاد نجد وقبائلها فاستراحت الدولة بذلك من الدسائس والمفاسد التي كانت
تسري إلى بلاد نجد من مصر وغيرها ، فالشيخ عبد الرحمن الفيصل وولده عبد
العزيز آل سعود لا يعرفان غير بلادهم وسلطانهم ولا علاقة لهم بمصر ولا بغيرها
ولا يبالون بعبث العابثين ولا بدسائس المفسدين . وإننا ننشر هنا ما جاءنا من بلاد
العرب من صور الرسائل التي أرسلها المشير أحمد فيضي باشا إلى أهل نجد
المتهمين وإلى الآستانة وولاية البصرة ؛ لأن هذه رسائل رسمية قاطعة لألسنة
الفسدة من أصحاب الجرائد الكاذبة في مصر وغيرهم .
كتاب المشير أحمد فيضي باشا
إلى عُنيزة

( بسم الله الرحمن الرحيم )
نحمد الله الواحد مستوجب الشكر والحمد ، مالك الأمر من قبل ومن بعد ،
والصلاة والسلام على نبينا الذي أرسله بالهدى ودين الحق ، وعلى آله وأصحابه
أولياء الخلق . وبعد ، فإن خليفة الله في الآفاق ، الثابت البيعة في الأعناق ، مصباح
مشكاة الخلافة ، مفتاح باب الرحمة والرأفة ، ولي الأمر ، المنصوص على طاعته
بلسان الذكر المحكم ، سلطان البرين والبحرين عنوان الشرف والإقدام ، أمير
المؤمنين ، حامي حوزة الدين ، إمام الإسلام والمسلمين ، مظهر العدل والإحسان ،
مصدر اللطف والامتنان ؛ حضرة السلطان ابن السلطان ، والخاقان ابن الخاقان ،
مولانا الغازي عبد الحميد خان ، قوّى الله شوكته ، وفسح كما تهوى الشريعة مملكته،
أمرنا بالسير إليكم مع جنوده الشاهانية المنصورة لإصلاح أحوالكم وبلادكم فامتثلنا
أمره ، وعملنا إرادته العالية ( كذا ) فارتحلنا وجئناكم كما أمر دامت ذاته المقدسة
سعيًا نسير فيكم بسيرته الحسنة صوناً لكم ورعيًا ونبث الإنصاف حسبما يريد فيكم ،
ونغضي عما تلف من وقائعكم ومغازيكم ، ونعفو كما من شأنه العفو عن الكثير
ونرفع أعلام الإصلاح بين شعوبكم وقبائلكم ، ونوصل وسائلكم لباب النجاح على
حسب منازلكم ، ولا تحسبوا عدتنا لإراقة دم ، ومؤاخذة بما مضى وتقدم ، فارقدوا
أمنا ، وأطيعوا أولي الأمر منا ، وتدبروا { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا } ( الإسراء : 7 ) وسابقوا لمرضاته ، وتقربوا من ألطافه ، أيها المسلمون
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ } ( الواقعة : 10-11 ) إنا لا نقضي فيكم
بسوى الكتاب والسنة ، ولا نولي أعمالكم من تشب به نار الفتنة ، بل نولي عليكم
من تحمدون ولايته ، وتقبلون بأحكام روايته ، فادخلوا تحت رواق صفح الملك ، فعفوه
ممدود السرادق ، وولوا ركنه الشديد واستظلوا بطود حلمه الشاهق ، واستقبلوا إنعامه
والمنى ، واعتصموا بعروته الوثقى { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ
الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } ( الأنعام : 120 ) ولا تتبعوا المجرمين ليمكروا
فيكم { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ( الأنعام : 123 ) عجلوا بالجواب
الصواب ، وأرسلوا من تعتمدون عليهم لأجل المواجهة والاستقبال ، ولهم منا الرأي
وأمان الله فلا يحصل عليهم سوء ولا مكروه ، فاعتمدوا وبالله الاعتماد ، والسلام
على من سبح في كفه الجماد ، والسلام .
وكتب المشير مثل هذا الكتاب لبريدة ، وذلك بعد أن فتش المعاهد التي زعم
ابن رشيد أن فيها عسكرًا من الأجانب وكان مقامه حينئذ في ( القوارة ) على مسافة
يوم ونصف من عنيزة ويوم بل بعض يوم من بريدة وكتب إمضاءه ( مأمور
إصلاحات القصيم مشير ) وقد جاءه الجواب ناطقًا بأنهم لم يكونوا عاصين للدولة
فيطيعوا الآن بل هم طائعون من قبل ومن بعد ، ولكن الدولة ألبستهم ثوب العصيان
بتزوير ابن رشيد . وأرسل كل أمير معتمدًا من قبله لمواجهة الوالي وكشف الحقائق
فأكرمهم وخلع عليهم ، ولما رأى ما يحملون من خطوط الأمراء شد رحله ونزل
بريدة فواجهه أمير البلد صالح بن حسن المهنا فكساه وعاهده وأَمَّرَه على بلاده وترك
عنده خمسين جنديا ولواء عثمانيًّا ثم رحل إلى عنيزة فواجهه الأمير عبد العزيز العبد
الله السليم فلقي منه ما لقي ابن مهنا من اللطف والإكرام وكان كتب إلى عنيزة
الكتاب الآتي جوابًا عن كتابهم إليه .
( الكتاب الثاني من المشير إلى أهل عنيزة )
إلى كافة أكابر وأصاغر أهل عنيزة : الحمد لله ولي الإحسان ، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للأكوان . السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته . أما بعد فقد وصل إلينا معتمدكم عبد الله بن محمد القاضي وصحبته
المضبطة المحررة من طرفكم ، وعرض طاعتكم وانقيادكم لأوامر حضرة أمير
المؤمنين فصرنا ممنونين لذلك ، وحمدنا الله على ما هنالك ، ثم نحن بينا له
مقصودنا ، وعرفناه كما كتبنا لكم سابقًا مطلوبنا ، وهو سيصل إليكم ، ويكشف الحال
لديكم ، وطلب منا معتمدكم المشار إليه لكم الأمان والعفو عما سلف وعدم تولية ابن
رشيد عليكم ، فلكم أمان الله وقد عفونا عما سلف ولا نولي ابن رشيد عليكم ولا نحكم
بغير أحكام الشريعة ليصير معلومكم والسلام ، 4 صفر سنة 1323 ( الإمضاء )
وقد أطلع المشير أمراء نجد على ترجمة ما أرسله إلى الأستانة وإلى ولاية
البصرة في ذلك وهو كما جاءنا من البلاد العربية .
( ترجمة الرسالة البرقية التي أرسلها المشير إلى باشكاتب المابين الهمايوني )
بمقتضى تعليمات حضرة خليفة رسول من خصوص أهالي القصيم ، قد عفا الله
عما سلف منهم وقد أطاعوا وانقادوا لأوامر الدولة العلية ، والجميع لازموا الدعوات
بزيادة ودوام عمر وشوكة سلطاننا المعظم ، فبناء على هذا فالذين كانوا بالبصرة
وعزموا إلى إستانبول محمد الشبيلي ومحمد وعبد الله الشعبي قد استرحم أقرباؤهم
الذين ساكنين في عنيزة المستظهرين للعفو العمومي أن يشملهم هذا العفو فاعفوا عن
الموصى إليهم وأعيدوهم إلى البصرة وبشَّروهم بالعفو كي يوجب المسرورية ، وهذا
المسترحم منكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( الإمضاء )
وقد كتب رسائل أخرى إلى والي البصرة وقومندان موقعها العسكري بالعفو
عن أهالي القصيم والأمر بإطلاق المحبوسين ومساعدة المتجرين وهذه ترجمتهم لها:
ترجمة الرسالة الأولى
إلى قومندان البصرة صاحب السعادة حضرة الأفندي
من جملة أهالي القصيم آل الشبيلي وسائرهم حيث استفادوا من العفو العمومي
فليداوموا على أمور تجارتهم وقضاء مصالحهم ، ومن سكنة ولاية البصرة سليمان
الشبيلي وأولاده وأعوانه فلا يتعرض لهم بسوء ومن طرفكم أيضًا ابذلوا لهم التأمين
ولا تخلون أحدا ( أي لا تدعوا أحدا ) من أتباع ووكلاء ابن رشيد يتعرضهم بسوء
من سبب المادة السابقة ولأجل البيان حرر هذا الأمر .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( التوقيع )
ترجمة الرسالة الثانية
الشبيلي محمد السليمان بحسب وصول العساكر الشاهانية إلى القصيم أبرز
من حسن الخدامة في طرفنا ، والده الذي في البصرة ووكلاؤه في دائرة الأصول أجروا
في حقهم رعاية مخصوصة وأشغالهم الذي تقع في الحكومة تأمرون بعنايتكم بعنايتكم بترويجها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( التوقيع )
( المنار )
هذا ما كتب إلينا من البلاد العربية بنصه وقد سرّنا أن الدولة وفّقها الله أرسلت
إلى نجد هذا الرجل الذي سلك مسلك الحكمة وحفظ كرامة الدولة وحقن دماء المسلمين
وأنام الفتنة التي كان أيقظها ابن رشيد ، وهذا ما كنا أشرنا به وتمنيناه وليتها وفقت
لمثل ذلك في اليمن قبل استفحال الفتنة واشتغال نيران الثورة ، ولكنها لم ترسل إلى
اليمن إلا أهل السلب والنهب المغرورين بقوة الدولة على رعيتها وإن الولد الذي يُربى
بالقسوة والعنف لا ينشأ إلا عاقًّا ينتظر الفرصة للانتقام من مربيه ، فليت عمال الدولة
القساة في سوريا وغيرهم يفهمون هذه القاعدة الطبيعية .
__________​
(8/303
 
16 جمادى الأولى - 1323هـ
19 يوليو - 1905م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

مات الأستاذ الإمام ، ولو كان كِبَر النفوس ، وطهارة الأرواح ، وعلو الهمم
مما يحول دون الموت ؛ لما مات أبدا ، ولكن كل حي يموت إلا الحي القيوم
{ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ( البقرة : 156 ) .
مات الأستاذ الإمام ؛ فمات ذلك العلم الواسع ، والحكمة البالغة ، والحجة
الناطقة ، والمعارف الكونية والإلهية ، والعلوم الكسبية واللدنية ، مع البيان الساحر
والأدب الباهر ، والبلاغة التي تمتلك العقول والقلوب ، والفصاحة التي تستهوي
الأسماع والنفوس .
مات الأستاذ الإمام ، فماتت تلك الأخلاق القدسية ، والشمائل المحمدية ،
والصدق في القول والفعل ، والإخلاص في السر والجهر ، والوفاء في القرب والبعد،
والسخاء في العسر واليسر ، والعفة في الشباب والكهولة ، والحلم عند الغيظ
والمغاضبة ، والعفو مع القدرة على المؤاخذة ، والتواضع وخفض الجناح للمخلصين،
والشهامة والترفع على المنافقين والمستكبرين ، واللين للحق وأهله ، والشدة على
الباطل ، وجند الشجاعة التي تهابها الأمراء والعظماء ، والقناعة التي رفعت رأسه
فوق الرؤساء .
مات الأستاذ الإمام ؛ فماتت تلك الأعمال النافعة ، والمشروعات الرافعة ،
والمساعي الجديدة ، والوسائل المفيدة ، والاجتهاد في ترقية الأمة ، والدفاع عن الملة،
والدعوة إلى التوحيد والتأليف ، والاشتغال بأفضل التعليم والتأديب ، والتربية
الصحيحة للمريدين ، والجمع بين علوم الدنيا والدين ، ومواساة البائسين والمعوزين،
وكفالة أولاد الفقراء والمساكين .
مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة ، والمقاصد الحميدة ، التي كانت
مطوية في ذلك الجرم الصغير ، الذي انطوى فيه العالم الكبير ، تلك الآمال التي
تتضاءل دونها همم الملوك والأمراء ، وتتصاغر أمامها نفوس الزعماء والأغنياء
الذين هم عن استعمال مواهبهم مصروفون ، وعن الثقة بربهم محجوبون ، وعن سنته
في خلقه غافلون .
مات الأستاذ الإمام فراع موته الناس ، من جميع الطوائف والأجناس ، فعلم
علماء الدين ، أنهم فقدوا ركنهم الركين ، الذي تحمل عنهم رد الشبهات ، وغير ذلك
من فروض الكفايات ، وعلماء الدنيا ، أنهم خسروا ركنهم الأقوى ، الذي يدفع عنهم
مطاعن المتعصبين ، وتكفير الجامدين ، ويثبت أن الإسلام جمع بين المصلحتين ،
ولا يتم ذلك إلا بالجمع بين العلمين ، وشعر طلاب الإصلاح بأنهم فقدوا إمامهم
العظيم ، الذي كملت فيه صفات الزعيم ، وأحسَّ الفقراء والمساكين بأنهم رزءوا
بكافل اليتامى وغوث العاجزين ، ولم يجهل القائمون بالشؤون العامة شدة وقع هذه
الطامة ، وأنهم نكبوا بصاحب الرأي الثاقب ، والعمل النافع ، مربي الرأي العام في
الشورى والجمعية العمومية ، صاحب اليد البيضاء في الأوقاف الإسلامية ،
المضطلع بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية ، الناهض بأعباء الجمعية الخيرية ،
الموفق بين الحكومة والرعية ، واعترف أهل الملل بأن مصابه مصاب الإنسانية ،
والخسارة الكبرى على العلم والمدنية .
مرض هذا البر الرحيم ؛ فكان على فراش الموت يسأل عن بعض الضعفاء ،
ويبحث عن مساكن القواعد من النساء ، ليواسيهم بالبر من وراء الستر ، وقال لي :
إن فلانًا الغريب قد انقطع عن السفر بدَيْن عليه ، وإنني مستغن الآن عن مائة جنيه
فإن كانت كافية أرسلتها إليه ، ولكنه غاب عن الوجود ، قبل أن يقضي لبانته من
البر والجود .
مرض هذا المصلح العظيم فاضطربت الأمة المصرية لمرضه فكانت الدار
التي يمرَّض فيها كعبة العائدين من العلماء والأمراء ، والوزراء ، والأدباء والفضلاء،
والفقراء ، والأغنياء وكان البرق يناجيها كل يوم مع البريد ، بالنيابة عن العاجز
والبعيد ، سائلين عن صحته ، أو مهنئين بما يقال عن راحته ، فكان يحمد الله أن
جعل الدهماء من أمته يعرفون لخادمها خدمته ، ويشكرون للعامل لها عمله ، ويقول
لئن شفيت لأجهدن النفس في خدمتهم أجمعين ؛ حتى أكون حرضًا أو أكون من
الهالكين .
مرض الأستاذ الإمام ، فلم يعقه المرض عن خدمة المسلمين والإسلام ،
واحتضر الأستاذ الإمام ، وهو يلتهب غيرة على المسلمين والإسلام .
نقول : مات الأستاذ الإمام ؛ فنبدئ القول ونعيده ننصر الحس ، ونكابر النفس
فقد كادت تحسب أن موته رؤيا منام ، وأضغاث أحلام ، وما هو إلا الحق اليقين
ومصير الأولين والآخرين ، { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} ( الأنبياء : 34 ) ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ } ( الأنبياء : 35 ) .
مات أستاذنا وإمامنا ، ولك اللهم البقاء فلا تفتنَّا بعده ، ولا تحرمنا أجره ،
واغفر اللهم لنا وله .
نعم ، إنه قد مات ولكن لم تمت علومه ومعارفه ، ومآثره وعوارفه ، فلقد ربى
أرواحًا ، وأصلح إصلاحًا ، وألف كتبًا ، وترك علماء وأدبًا ، وأمات سننًا سيئة له
أجْرُ إماتتها ، وأحيا سننًا حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها ، وعلمنا كيف نفهم
القرآن ، ونقيم شرائع الإسلام ، مع توخي نفع الناس أجمعين ، والإخلاص لله رب
العالمين .
مات أستاذنا وإمامنا فكبر علينا موته ، ولكنه ربانا على الصبر وعلمنا كيف
نتعزى عنه حتى في مرض موته ، فقد كان هجيراه في تلك الكربات والسكرات ،
كلمة الله التي أمرنا بتكرارها في الصلوات . ( الله أكبر ) فلئن كان بفضل الله كبيرًا
فينا فالله أكبر ، ولئن كان مرضه وموته كبيرًا علينا فالله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ، { وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( آل عمران : 101 ) .
لبى دعوة ربه برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة بعد الزوال من يوم
الثلاثاء ثامن جمادى الأولى ؛ فنعاه البرق بآلاته الناطقة والكاتبة إلى العاصمة
وغيرها من مدن القطر ؛ فاضطربت لنعيه القلوب ، وذرفت العيون ، واسترجعت
الألسنة وحوقلت ، وطفق الناس يعزي بعضهم بعضًا متفقين على أن المصاب به
عام ، وأشد وقعه على المسلمين والإسلام ، وما كنت تسمع من القريب والغريب ،
والبغيض والحبيب ، والوطني والأجنبي ، والرشيد والغوي ، والعالم والجاهل ،
والمفضول والفاضل إلا كلمة ( خسارة لا تعوض ) أو كلمة ( عوض الله الأمة
به خيرًا ) أو قول الشاعر :
وما كان قيسًا رزءه رزء واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
أو قول الآخر :
ولكن الرزية فَقْد حُرٍّ ... يموت لموته خَلق كثير
وقد اجتمع مجلس النظار فقرر أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في
الإسكندرية ومصر ، وأن تنقل جثته على قطار خاص إلى العاصمة ، ففعلت ،
وشاركتها الأمة ونزلاؤها والمحتلون بهذا التشييع الذي لم يسبق مثله لغيره حتى كان
يخيل للمشيع أنه لم يبق أحد من سكان الإسكندرية ولا من سكان القاهرة إلا وقد
حضر ليودع هذا الإمام الوداع الأخير ، وقد صُلي عليه في الجامع الأزهر ، ودفن
في قرافة المجاورين تغمده الله برحمته ورضوانه ، وأسكنه فسيح جناته .
ولما كان المنار هو الداعي إلى الانتفاع بهذا الإمام المصلح في حياته ، فجدير
به أن يرشد إلى الاستفادة بسيرته بعد مماته ، فلا نطيل في الرثاء والتأبين وإن كان
بالحق ، ولكننا نقص على القراء مخلص سيرته مع التزام الصدق ؛ ليظهر لهم كيف
تعلم وتربي حتى صار إمامًا حكيمًا ، وماذا عمل حتى صار مصلحًا عظيمًا ،
وسنضع له تاريخًا مطولاً نفصل فيه ما أجملنا ، ونشرح فيه ما لخصنا ، ونودعه
كثيرًا من رسائله ومكاتباته ، وخطبه ومقالاته ، وما كتب به إليه بعض العلماء
والعظماء ، وما قاله فيه نوابغ الكتاب والشعراء ، وما أبَّنَتْه به الجرائد ، وما رثي به
من غُرَر القصائد ، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاء الأمة فيه ، ويوفقنا
في مصابنا لما يحبه سبحانه ويرضيه .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
 
غرة جمادى الآخر - 1323هـ
2 أغسطس - 1905م
الكاتب : محمد رشيد رضا

تتمة
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
( 2 )
دخوله في الماسونية - من التمهيد
كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً
عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك ، إلا أنه
كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في
حياته ؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر
تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة
بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون ، فانتظم مع
مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته
على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها ، ونهوض الدول وسقوطها ، وقد دخل
في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء .
وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله ، ومكان صاحب الترجمة
من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه ، وصلة بينه
وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة
المصرية ، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز ،
وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل . وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول :
إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل ، وقد
أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب ،
وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله . وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد
التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا
يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا ، وإنما
يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة ، ويرونها جمعية أدبية تفيد
التعارف بين الناس .
وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي ، وأنه قد
تركها من سنين ولن يعود إليها ، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل .
وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد
للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته ،
ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل ، بل كان
مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق
الأعظم الإنكليزي ، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل
الماسونية حفاوة به ، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال
الدين ، وقال : إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا
سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت ، وليس لها فضل على
الجمعية ... إلخ ما قاله . ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء
المحافل ، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض
علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك
بمساعدة الجمعية له ، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه
من أهلها ، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال
الدين .

 
16 جمادى الآخر - 1323هـ
17 أغسطس - 1905م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

تتمة سيرة الأستاذ الإمام
( 3 )
حياته في المنفى
لا تكمل تربية الرجال ، إلا بمكافحة الأهوال ، فمعادن النفوس لا تصفو من
شوائب الضعف في الحق ، وتتمكن من مقعد الصدق إلا بعد أن تعرض على
نيران الفتن ، وتذاب في بوادق المحن { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } ( الرعد : 17 ) ولذلك يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده
المصلحين بفتن المفسدين ، ليعلم الصابرين والصادقين { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ( آل عمران : 141 ) فالفتن والكوارث تمحص نفوس
المؤمنين بالله السائرين على سننه فتزكيها وتعليها ، وتمحق الكافرين بنعمه ،
والمنحرفين عن سننه ؛ فتدسيها وتفنيها ، وقد اتهم فقيدنا في الثورة بما هو بريء
منه ، وتفنن المنافقون يومئذ بأخبار السوء عنه ، حتى أنذر بالإعدام ، ثم استبدل
ذلك بالنفي ثلاثة أعوام ، فما حقد على واش ولا محتال ، بل كتب من السجن
إلى صاحب له يعجب من كيدهم ثم قال :
( ولئن عشت لأفعلن المعروف ، ولأغيثن الملهوف ، ولأنقذن الهاوي في
حفرة الغدر ، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم ، ولأتجاوزن عن السيئات ،
ولأتناسين جميع المضرات ، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون ،
ولأظهرن الصديق في أجمل صوره ، ولأجلونه للناس في أبهج حلله ، ولأثبتن لهم
ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة ، وجسمك الآخر في حياتك
المتحدة ، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر ، ومصباحك إذا غسق دجى الهموم ،
تستضيء به في حل ما انعقد ، وتستعين بقوته في تيسير ما عسر ، وتذهب به إلى
أوج المعالي ، والناس من معجزات الصديق يتعجبون .
إلى أن قال :
لكني أقول لكم : إن هذه الحوادث المريعة سوف تنسى ، وإن هذا الشرف
سوف يرد ، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسَّتها أن يكون لها من عوده نصيب
فليعودن في بلاد خير منها ، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون ،
كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم ، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة
الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون ) .
والكتاب طويل وسننشره برمته في تاريخ الفقيد .
وله قصيدة في الثورة نظمها في ظلمة السجن أيضا تزيد على مئة بيت ، وقد
عرض في آخرها بما أبانه في آخر كتابه هذا من صدق العزيمة والثقة بنفسه
والاعتماد عليها في مغالبة الزمان بعد الاتكال على الله تعالى وكونه لا يخاف شيئًا
يقطع عليه طريقه في عمله لوطنه وأمته إلا الموت قال :
وأحفظ الدهر أني لا أشاكله ... فيما تبطن من غش وتمويه
أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني ... إلا الثبات وحسبي من أصافيه
تعلم الدهر مني كيف يطعنني ... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه
وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه ... إلا المنايا تفاجيني فتحميه
إن المنايا سهام الله سددها ... وليس يخطئ سهم الله مرميه
أريت من كانت له هذه النفس العالية ، والعزيمة الماضية ، أيحط من قدره أن
يتهم بالسياسة فيلقى في غيابة السجن ، أم يطفئ نور استعداده الإخراج والنفي ؟ كلا.
عمله في أوربا لمصر والإسلام
سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة ، ثم سافر إلى أوربا
على اتفاق بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين لأجل الاشتغال بما كان يسمى
( المسألة المصرية ) فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة
العروة الوثقى ، وكانا أسسا لها جمعية من مسلمي الهند ومصر والغرب وسوريا ؛
غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين ، وإيقاظهم من رقادهم وإعلامهم بالأخطار
المحدقة بهم ، وإرشادهم إلى طريق مقاومتها .
كان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول
لها ؛ على أنه لم يكن لها محرر سواه إلا من كان يترجم بعض الأخبار من الجرائد
الأوربية ، ويلقيها إلى الشيخ يصححها وينفخ فيها من روح العبرة ما ينفخ . كان
السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات
الإنكليز في الهند وغيرها ، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار،
وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء .
أما المقالات التي كان يكتبها في الاجتماع والوعظ ، والأخلاق السياسة
الإسلامية فقد كانت من الآيات البينات التي لا يكاد يوجد في كلام البشر ما
يساهمها في البلاغة والتأثير حتى كان علماء المسلمين وعقلاؤهم في كل قطر
يتوقعون أن تحدث تلك الجريدة انقلابًا عامًّا في المسلمين ، حدثني الثقة عن السيد
سلمان أفندي الكيلاني نقيب بغداد أنه كان يقول كلما قرأ عددًا من جريدة ( العروة
الوثقى ) يوشك أن يحدث انقلاب في بعض بلاد الإسلام قبل أن يصدر العدد الذي
بعد هذا . والسيد ( سلمان) هذا كان من بقايا زعماء المسلمين يخضع له مئات
الألوف من العرب والعجم . وسمعت شيخنا الشيخ حسين الجسر العالم الطرابلسي
الشهير يقول : لو طال الزمان على جريدة العروة الوثقى لأحدثت نهضة جديدة
للمسلمين ، وانقلابًا عظيمًا .
أقول : وهي هي التي نقلتني من طور إلى طور ، وحَبَّبت إليّ صاحبيها حتى
جذبني الحب إلى مصر ، ووصل حبل ودي بالأستاذ الإمام ، وحملني على نشر
حكمته ، وإعلان دعوته ، فقد كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة وأتصفح ما
فيها من الجرائد المطوية ، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى ، فطفقت أقرأها
المرة بعد المرة ، وهي تفعل في نفسي فعلها ، تهدم وتبني ، وتعد وتمني ، وما كان
وعدها إلا حقًّا ، ولا تمنيها إلا رجاء وأملاً ، أحدث إصلاحًا وعملاً ، فكانت هي
أستاذي الثاني الذي أثر في نفسي ، وأقيم عليه بناء عملي وأملي ، وأما الأستاذ الأول
فهو كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي الذي كان أول كتاب ملك عقلي وقلبي . أنشأت
بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس ، فكنت أجد عند الرجل
العدد ، وعند الآخر العددين فأنسخ ما أجد ، ثم علمت أن الشيخ ( حسينًا الجسر)
احتواها كلها ومن عنده أتممت استنساخها ، وأكبر أثرها عندي أنها هي التي وجهت
نفسي للسعي في الإصلاح الإسلامي العامّ بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي ،
وأرى كل الواجب عليَّ أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة
وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر عن المعاصي ، وأنا لا أعلم سبب الفساد
الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل ، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل ، حتى
هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل .
لم تكن خدمة الشيخين للإسلام في أوربا قاصرة على الوعظ والإرشاد ، بل
كان لهما سعي لدى فرنسا وإنكلترا نفسها في المسألة المصرية ومسألة السودان ،
وكان سعيًا - لو ظهر - غريبًا ، وكان منه إقناع ناظر خارجية إنكلترا بعد فصل
السودان عن مصر وحضر الأستاذ الإمام إلى بلاد كثيرة لتوثيق العروة والتهميد
للعمل أن يترك السودان لأهله ويعدلوا عن محاولة فتحه ، وكان لهما في ذلك آمال
ومقاصد ذات بال ، وقد كان تقرر هذا ، وما حال دون إمضائه رسميًا إلا موت محمد
أحمد مَهْدِيِّ السودان ، ولو شرحنا الوسائل التي اتخذها الشيخان لذلك لحار في
براعتهما الثقلان ، لا أنكر أن هذا الأعمال السياسية كان السيد جمال الدين هو
المفترع لها ، ولكن كان فقيدنا عضده ، وساعده ، ولسانه ، وقلمه ولولاه لما استطاع
المضي فيها ؛ على أن فقيدنا كان بما جرى له ولشيخه مع توفيق باشا في مصر قد
ضعف أمله في الإصلاح السياسي ، ووجه همه إلى الإصلاح القومي في التربية
والتعليم .
حدثني أنه قال للسيد في أوربا : إن هذه السياسة لا يأتي منها خير ؛ لأن
تأسيس حكومة إسلامية عادلة مُصْلِحة لا يتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط
فخير لنا أن نذهب معًا إلى مجهل من مجاهيل الأرض لا سلطان للسياسة فيه
ونحاول تربية أفراد على ما نحب ؛ فإذا تيسر لنا تربية عَشْرة رجال يبذلون أنفسهم
لخدمة الأمة لا يصدهم عن ذلك الجثوم في وطن ، ولا الإخلاد إلى الأهل والسكن ،
بل يكون همهم الأكبر الضرب في الأرض لتربية مثلهم على ما ربوا عليه ، فلا يبعد
أن يربي الواحد منهم عشرة فيكون لنا في زمن قريب مائة رجل يعملون للإسلام
والرجال هم الذين يعملون كل شيء ، فقال له السيد : إنما أنت مثبط قد شرعنا في
عمل فلا بد من المضي فيه حتى يتم أو نعجز .
كان لذلك السعي في إنقاذ مصر والسودان ، أو السودان فقط طريق في ذلك
الوقت لأن الاحتلال الإنكليزي كان في نظر أوربا كلها مؤقتًا ، ولم تكن قدم إنكلترا
راسخة في مصر . وبعد أن رسخت القدم وتمكنت السلطة من البلاد قام بعض
الأحداث يكتبون ، ويخطبون ، ويقولون ما يعد أمام ما قاله وكتبه الشيخ في وقته
لغوًا ، وكانوا يعدون أنفسهم بذلك خدمة مصر ومنقذيها ، ويرمون مثل الفقيد
بالتقصير في خدمة الأمة والوطن على أنه هو المصري الوحيد الذي قدر على
استخدام السلطة الإنكليزية في مصر لخدمة مصر والإسلام ، بعد أن صارت الخدمة
بمقاومتها من المحال ، ولو كانت الخدمة النافعة هي مقاومة القوة بالكلام والكتابة
لكانت العروة الوثقى أخرجت الإنكليز من مصر قبل أن يتمكنوا منها .
مناظرة الفقيد لوزراء الإنكليز في المسألة المصرية
ذهب الفقيد إلى لندن في تلك الأثناء وتكلم مع وزراء الإنكليز في المسألة
المصرية ومسألة السودان وفي المالية المصرية وغير ذلك ونشرت الجرائد الأوربية
بعض محادثاته معهم . نذكر هنا محادثة نشرت في العدد الرابع من العروة الوثقى
الذي صدر في 22 شوال سنة 1301-14 أغسطس سنة 1884 تحت عنوان
( هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم ) . والكلام بلسان السيد قال :
( تأخر صدور الجريدة أيامًا لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع
مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنساوية هذه الأيام ، والحمد لله على زوال المانع ،
إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن
حقوق المسلمين ، فقد خلقنا والشكر لله لهذا العمل ، وطبعنا عليه ونرجو ديان
السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل ، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها .
رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده ( المحرر الأول لهذه الجريدة ) إلى لوندرا
إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا ، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية
مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنكليزية ، وليستكشف مناصب الفخاخ
السياسية التي ما مرت عليها قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه ،
وليسبر أغوار المطامع الإنكليزية التي لا يدرك منتهاها ، تلك المطامع التي بعدما
التهمت ثلث المسكونة ، وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا
جزر معه ، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في قرم شديد لابتلاع ممالك العالم ،
وكلما أساغوا قطرًا طلبوا إليه آخر ، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار ،
وغضون الأقوال ، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين
ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل
ناظر إليها ، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسعد الناظرين حتى يمكن بعد ذلك
وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص كي لا يغتر الجاهل ، ولا يزل
العالم ) .
لاقى ( محرر الجريدة ) كثيرًا من رجال السياسة الإنكليزية وأنفذ الناس
رأيًا فيها ، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية ، ومن
محادثاته الابتدائية ما نشر في بعض الجرائد الإنكليزية كجريدة ( البال مال كازيت)
وجريدة ( التروت ) التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير وجريدة ( التيمس )
وسيذكر شيئًا مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة الإنكليزية مما
يستفيد منه الشرقيون عمومًا والمصريون خصوصًا ، وستأتي جريدتنا على بعض ما
استنبطه من فحوى أقوالهم ، وأدركه من مرامي أفكارهم ، أما الآن فنأتي على جملة
واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد ( هرتنكتون ) وزير الحربية
الإنكليزية ليأخذ كل مصري منها حظه ويصيب كل شرقي سهمه ويقف جميعهم
على مواقع الشرقيين من أنظار رجال الحكومة الإنكليزية .
سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية ألا يرضى المصريون أن
يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية ؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا
لهم من حكومة الأتراك ، وفلان باشا وفلان باشا ؟ فأجاب الشيخ ( محرر جريدتنا )
كلا ، إن المصريين قوم عرب ، وكلهم مسلمون إلا قليلاً ، وفيهم من محبي أوطانهم
مثل ما في الشعب الإنكليزي ، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة
من يخالفه في الدين والجنس ، ولا يصح لحضرة اللورد ، وهو على علم بطبائع الأمم
أن يتصور هذا الميل في المصريين . فقال الوزير هل تنكر أن الجهالة عامة في
أقطار مصر ، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني ، وأن ما
ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة ؟ فأخذت الشيخ حدة
- تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرض الدين ، وأوجبته حقوق الملة - وقال :
أولاً - إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة
البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة ، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد
الأمم توحشًا كالزولوس ؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.
وثانيًا - إن المسلمين مهما كانوا وعلى أي درجة وجدوا لا يصلون من الجهل
إلى الدرجة التي يتصورها الوزير ؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون لا
يفوتهم العلم بضروريات الدين ، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم
فيه ، وأن لهم في الخطب الجمعية ، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما
يقوم مقام العلوم الابتدائية ، وأن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من
الخضوع لمن لا يوافقهم ، ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا
ينحطون معه عن سائر الأمم خصوصًا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي ،
ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم .
وثالثًا - إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب
الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوربا وأخذ كل مصري نصيبًا منها على قدره
ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارءون كاتبون والأخبار
العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين ؛
فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي ، والتقليد الديني محبة وطنية منشأها التهذيب
العمومي قوي بها الميلان الأولان ، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم . اهـ
أين العلماء الأذكياء ؟ أين الجهلة الأغبياء ؟ أين الأباة الأعلياء ؟ أين السفلة
الأدنياء ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنكليزية ، كل ذي
شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون
العجيبة .
هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من
المسلمين عمومًا ، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني
وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب ، ولا بين العدو
والحبيب .
هذا دليل على أن الإنكليز- إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب -
يعتقدون أن الأمم الشرقية والأمة المصرية في درجة الحيوانات السائمة والدواب
الراعية لا تتألم إلا من الجوع ، وفواعل الطبيعة المادية ، وليس لها من الإحساس
إلا نوع من الانفعالات البدنية ، ولا تعرف من شؤونها إلا ما به تقوم حياتها
الحيوانية ؛ فتألف راكبها ، والعامل عليها ، ومستخدمها في أي عمل من الأعمال
الشاقة ما دام يقدم لها طعامًا وشرابًا ، وإنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غداءها
وعشاءها ، وإن كان من أشد البلاء عليها بما يسومها من مشاق الأعمال ؛ فإذا
عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها ... إلخ إلخ .
ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى ، فمنعتها من
الهند ومصر ، واشتدت الحكومة الإنكليزية في إعنات من تصل إليهم ، وفرضت
الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده ؛ فكان ذلك مانعًا من
الاستمرار في إصدارها ، وقد كان صدور آخر عدد منها وهو الثامن عشر في 26
ذي الحجة سنة 1301 - 16 أكتوبر سنة 1884 ثم سافر الفقيد إلى تونس فأقام
فيها أيامًا ، ثم سافر إلى بلاد أخرى متنكرًا ، فوثق عقود العروة السرية التي كان من
أغراضها ما أشرنا إليه ، ولو ذكرناه مرتبًا مفصلاً لكان مثارًا للعجب من ركوب هذا
الرجل مع أستاذه الصعاب ، واقتحامهما الأخطار في خدمة هذه الأمة التي كانت ولا
تزال كالمريض الأحمق يأبى العلاج ؛ لأنه علاج وإن كان سهلاً سائغًا ، ويمقت
حكيمه وطبيبه ، وإن كان برًّا رحيمًا ، فليحفظ القارئون هذا الإيجاز ليذكروه عندما
يصلون في تاريخه إلى سلوكه الأخير في مصر إعلان رأيه بتحتيم مسالمة المحتلين،
والاستفادة من حريتهم وحبهم للعمران ليعلموا أنه هو عين الحكمة التي اختيرت
بعد مساع جليلة ، وتجارب طويلة .
عمله في البلاد السورية
وبعد الإخفاق في ذلك العمل السري ، دون ذلك الهدي النبوي ، ألقى عصا
السير في بيروت أعظم ثغور سوريا ، وأقربها من العمران ، فأقبل عليه أهل العقل
والفضل ، وأرباب الذكاء والنبل ، ويستفيضون منه سماء الحكمة ، ويتلقون هدي
الحكماء والأئمة ، فكانت داره مدرسة عامة يؤمها الأذكياء وعشاق المعارف من
جميع الملل والطوائف ، ومما كان يقرأ عليه فيها السيرة النبوية ، على صاحبها
أفضل الصلاة والتحية ، وكان يقرأ التفسير في ( الجامع الكبير ) وفي جامع الباشورة
لا يلتزم فيه كتابًا ، وإنما يقرأ في المصحف ويلقي ما يفيض الله على قلبه ، وكان
الناس يقبلون على درسه إقبالاً لم يعرف في تلك البلاد لأحد من قبله حتى حسد
النصارى عليه المسلمين ؛ فكانوا ينسلون إليه زرافات ووحداناً ، ويقفون بباب
المسجد يمدون أعناقهم ، ويشخصون بأبصارهم ، ويصيخون بآذانهم لعلهم يلتقطون
شيئًا من تلك الدرر . ثم إنهم استأذنوه في دخول المسجد والجلوس في ناحية من
حلقة الدرس فأذن لهم { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه } ( التوبة : 6 ) .
وفي أول سنة 1303هـ دُعِي إلى التدريس في المدرسة السلطانية لإحياء
اللغة والدين فيها ؛ فلبى ولم يكن في المدرسة من العلوم العربية إلا مبادئ النحو
والصرف ، وما تسميه الترك ( علم حال) ، وهو ما يلقن للولدان من أحكام العبادات.
فلما دخل المدرسة أدخلها في طور جديد ، كما كان شأنه في عامة أعماله يدخل في
العمل مرءوسًا ؛ فيكون في الواقع رئيسًا ، ذلك أنه أصلح إدارتها بالاتفاق مع مديرها ،
ووضع قانونًا جديدًا ( بروجرام ) للدروس ، وزاد في العلوم التوحيد ،
ومعاملات الفقه ، والتاريخ الإسلامي ، والمنطق ، والمعاني ، والإنشاء زادها
لنفسه ، فكان هو الذي يدرسها حتى كانت دروسه تستغرق عامة النهار .
وكانت دروسه كلها للتلاميذ على نحو ما ذكر في رسالة التوحيد ( آمالي مختلفة
تتغابر طبقاتهم … في أسلوب لا يصعب تناوله ، وإن لم يعهد تداوله ) إلا معاملات
الفقه فكان يقرأ فيه مجلة الأحكام العدلية التي يحكم بها في المحاكم العثمانية . وكان
يكلف تلاميذ الإنشاء حفظ شيء من نهج البلاغة ، وديوان الحماسة والألفاظ الكتابية
ويشرحه لهم . وكان له هم عظيم ، وعناية تامة بملاحظة آداب التلاميذ في المدرسة ،
حتى إنه كان يزورها ليلاً لأجل ذلك . وقد تخرج على يديه نابتة هي الآن تخدم
البلاد بغيرتها واستقامتها وعرفانها ونباهتها .
ثم إنه في سيرته كان مربِّيًا للجماهير الذين يترددون عليه ؛ فقد كان يجلس
إليه السني والشيعي والدرزي ، والنصراني ، واليهودي ؛ فيوسع صدره للجميع
ويعامل كل واحد بالأدب الذي يليق به لا يؤذي جليسًا ، ولا يغمط فضل مذاكر ، ولا
مناظر على أنه لم يكن يقول غير ما يعتقد سواء كان القول في الدين أو في العلم
أو في العادات والأمور الاجتماعية ، فكان - رضي الله عنه - نسخة كاملة من
رجال سلفنا ، في التسامح ، والتساهل ، وجمع الكلمة واحترام العلم ، وأهله كما
وصف في كتاب - الإسلام والنصرانية - وقد أدهش أهل الفضل بعلمه وأدبه ،
وبلاغته لاسيما في الخطابة الارتجالية التي لم يكونوا يعهدونها .
وكان هنالك يشتغل بالتأليف ؛ فقد نقل إلى العربية رسالة الرد على الدهريين
أو المقابلة بين الإيمان والكفر في العمران التي كتبها السيد جمال الدين باللغة الفارسة.
وشرح كتاب نهج البلاغة ، ومقامات بديع الزمان الهمذاني . وقد أقبل الناس على
هذا الكتب ، وانتفعوا بها حتى أنها طبعت مرارًا . وكان يكتب المقالات النافعة في
الجرائد ، وسننشر ما عثرنا عليه منها في تاريخه . ولم يكتف بهذا الإصلاح
المعنوي ، بل كان يسعى لدى الحكومة في إصلاح البلاد الإداري فوضع في ذلك
لائحة قدمها للوالي ، وسننشرها في تاريخه أيضًا ، وكتب لائحة أخرى في الإصلاح
الديني وقع عليها بعض الوجهاء وقدمت بواسطة الوالي إلى السلطان . وكان قد جال
في أرجاء الولاية واختبرها أتم الاختبار .
عودته إلى هذه الديار وما استفاده من الأسفار
وفي سنة 1306 عاد إلى القطر المصري وقد كمل تهذيبه بالأسفار ، وركوب
الأخطار ؛ ولذلك كان يسافر بعد ذلك في أكثر السنين مختارًا ، كما كان يكرر
المطالعة والمدارسة عن رغبة ، بعد أن ألزم بالدرس أولاً بالقوة ، وقد كتب عن
تأثير الأسفار في نفسه ما نصه :
( أما الأسفار إلى البلاد العثمانية ومعاشرة كثير من المسلمين غير مسلمي
مصر ، فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ
من أمرين : الأول - الجهل بدينهم ، إبداع ما لم يكن منه وإلصاقه به واختلاط ما
هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي
الطاهر الرفيع . والأمر الثاني - استبداد الحكام الظالمين من المسلمين في
جميع أقطار الأرض .
وقد سافرت بعد ذلك مرات إلى أوربا وأفريقيا فكان أثر الأسفار في بلاد
المسلمين زيادة البصيرة في ذلك الذي عرفته لأول الأمر ، وأثر الأسفار في أوربا
قوة الأمل في إصلاح أحوال المسلمين ، فما من مرة أذهب إلى أوربا إلا ويتجدد
عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها ، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من
دينهم ، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شؤونهم ، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون أفراد
ظلمتهم . وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما
ألاقي من العنت وشدة ما أصادف من المصاعب وسوء ما أرى من انصراف
المسلمين عن النظر في منافعهم ، وشدة عداوتهم لأنفسهم وقوة رغبتم في تمكين
ظالميهم من رقابهم ، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول ، لكني متى عدت
إلى أوربا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليّ تلك الآمال ، ويسهل عليّ تناول ما
كنت أعده من المحال ، ولا تسألني عن السبب في ذلك فإني لا أستطيع تفصيله
ولكن هذا ما تحدثه الأسفار في نفسي ) اهـ .
أقول : والمتبادر إلى الذهن أن السبب في ذلك هو ما يسمى في العرف الآن
بتأثير الوسط أي البيئة من المكان والمكين ؛ لأن كل إنسان يحل في مكان ويشاهد
حال قوم لا بد أن يتأثر بشيء مما هم عليه بحسب استعداده ، وما وجهت إليه نفسه .
وبلاد أوربا قد ارتقت ارتقاء عظميًا في العلوم ، والصناعات ، والكسب ، والسياسة
وغير ذلك ؛ فمن سافر إليها وكان من همه التجارة يزداد معرفة بطرقها ، ونشاطًا في
عملها ، ومن كان همه غير ذلك يتأثر بارتقاء القوم فيه ، فتنهض همته إليه وناهيتك
بعلو كعب القوم في خدمة أمتهم ، وإعلاء شأن ملتهم ، وما يبذلون في هذه السبيل
من الأموال ، وما يركبون لها من الأهوال ، فمن ير ما هم عليه من العزة والسيادة ،
وهو يعلم ما كانوا فيه من الضعة والمهانة ، فهو جدير بأن يكبر أمله في قومه ، ولا
ييأس من غدة في يومه ، وكان - تغمده الله برحمته - يقول لي عندما يريد السفر
إلى أوربا : إنني أذهب لأجدد نفسي ، أي فقد أخلقتها معاشرة الكسالى واليائسين .
وقد توجهت همته في هذه السنين الأخيرة لزيارة الشعوب المسلمة فبدأ بزيارة تونس
والجزائر وكان عازمًا على زيارة الهند وإيران وقزان والقوقاس في هذه السنة
وما بعدها فصرفه المرض عن عزمه في هذا العام ، ثم قطع آماله كلها الحِمام .
***
سيرته في القضاء الأهلي
لما عاد من سوريا إلى مصر تسابق العظماء إلى توفيق باشا في طلب العفو
عنه فكان من الشافعين بعض الأسرة الخديوية ومختار باشا الغازي واللورد كرومر
ولم يكن أحد منهم يعرفه من قبل معرفة شخصية ، ولكنهم سمعوا بفضلِه فحفظ لكل
منهم جميله وعفا عنه الأمير وهو يعلم أنه كان خصمًا للثورة العسكرية ، وإن كان
روحًا مدبرة لتلك الحركة الفكرية ، وأن الحكم عليه لم يكن عادلاً ؛ ولذلك قال كما
روى الثقة للفقيد : ما عفوت عن أحد عفوًا كان أشبه بالاعتذار من هذا العفو . ولكنه
كان يخاف أفكاره السياسية وميله إلى تربية مَلَكَة الاستقلال في الأمة ، ولذلك أمر
بأن يعين قاضيًا في المحاكم الأهلية فلما نمي الخير إلى الفقيد امتعض ، وقال : إنني لم
أخلق لأكون قاضيًا أقول : حكمت على فلان بكذا ، وعلى فلان بكذا ، وإنما خلقت
لأكون معلمًا ، وقد جربت نفسي في التعليم فنجحت ، ثم طلب من ناظر الداخلية
أن يشفع له عند الأمير باستبدال التدريس في مدرسة دار العلوم بالقضاء ، وقال : إنني
أعلم أنه لا ارتقاء في التدريس وإنني أرتقي في القضاء ، ولكنني لا أحبه فلم يرض
توفيق باشا ، وقال : إنني لا أحب أن يربي لي التلاميذ على أفكاره السياسية فرضي
الفقيد بالقضاء ، وما زال يرقى فيه إلى أن بلغ أعلى درجة منه .
وقد كان قاضي العدل والإنصاف لا قاضي القانون والرسوم ، وإن شئت قلت
القاضي المجتهد لا المقلد ؛ ذلك أنه لم يكن يحكم بظاهر عبارة القانون وتطبيق
الوقائع عليها بادي الرأي ، بل كان يتحرى إظهار الحق وإصابة العدل في القضايا
فإن انطبقت على القانون وإلا عمد إلى الصلح ، وكأين من قضية خالف فيها القانون
عمدًا ، حتى وشيء به بعض حساده الواقفين على ذلك ، وذكر شيئًا من مخالفاته هذه
فسأله المستشار القضائي السباق مستر سكوت عن حقيقة ذلك ، فقال : هل العدل
وضع لأجل القانون أم القانون وضع لأجل العدل ؟ قال المستشار : بل القانون
وضع لأجل العدل ، والعدل هو المقصود بالذات ؛ فأنشأ حينئذ يشرح له القضايا ،
ويبَيّن أنه لم يحكم فيها إلا بالعدل فقنع المسترسكوت وسُرَّ منه سرورًا عظيمًا ؛ لأنه
كان منصفًا عارفًا بقيمة الرجال على أن هؤلاء الإنكليز أبعد الشعوب الأوربية عن
الرسوم في القضاء ، وأقربهم إلى اعتبار الإنصاف ووجدان القاضي ، ولو كانت هذه
البلاد محتلة من دولة أوربية أخرى لتعذر ارتقاء الفقيد فيها .
ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا ، فإنه كان إذا تعذر عليه
الصلح يحكم برأس المال دون الربا ؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف ؛ ليحكم له
بالربا . ومما كان يخالف القانون فيه حبس الشهود الذين يظهر له تزويرهم ؛ فإنه
كان يخرجهم من الجلسة إلى الحبس ، ثم إن الحكومة أقرت عمله هذا وأدخلته في
القانون بالتعديل الأخير . وقد أساء الأدب بعض الأجانب مرة في الجلسة فأمر
بحبسه فحبس ، ثم جاء قنصله الجنرال إلى نظارة الحقانية شاكيًا من ذلك . وكلم
المستشار القضائي الفقيد في ذلك ، قائلاً : إن هؤلاء القناصل ليس لهم عمل يشغلهم في مصر فهم يفترصون شيئًا يماحكون به الحكومة ، ونحن نحب أن لا نجعل لهم سبيلاً إلى القيل والقال . فذكر له الفقيد ما كان من ذلك الأجنبي في الجلسة مع رفع
الصوت وعدم التزام الأدب المعروف ، وقال : إنني ما دمت جالسًا على هذا الكرسي
لتقرير العدل ، فأنا لا أقصر في احترامه ؛ إذ لا يمكن احترام القضاء إلا بذلك ..
إلخ ما قال ، وكان مستحسنًا عند المستشار .
وقد كان يحكم على الأجانب وينفذ أحكامه ، من ذلك أن كثيرًا من الفلاحين
كانوا إذا حكم على أحدهم بنزع أرض من يده يلجأ إلى رجل أجنبي ، أو رجل داخل
في حمايتهم فيعطيه الأرض بعقد كاذب نكاية في خصمه ، فيمنع الأجنبي الحكومة
من تنفيذ الحكم ، أو ترفع الدعوى إلى المحكمة المختلطة ، فتحكم فيها وكان من
المحكوم لهم من يترك الأرض للأجنبي لاعتقاده بعجزه عن انتزاعها منه في المحاكم
المختلطة ، ومنهم من كان يلقي بنفسه في مهاوي الدعاوى ويخسر فيها ما شاء الجهل
أن يخسر . فعلى أمثال هؤلاء الأجانب كان ينفذ أحكامه بالقوة متحملاً تبعة التنفيذ
لعلمه بأن ذلك الأجنبي المحتال لا يتجرأ على مقاضاة الحكومة في دعوى هو فيها
مبطل يعجز عن إثبات دعواه .
ذلك شأنه في القضاء ، وقد كان فيه نسيجًا وحده، ولم يكن مشغولاً فيه عما
خلق لأجله من تربية الأمة ، فقد كان يعاقب المزورين ، وشهداء الزور حتى طهَّر
كثيرًا من البلاد من شرهم بعد أن استفحل وطغى سيله ، وكان يجتهد في الإصلاح
بين أهل البيوت وذوي القربي ، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى . وكان يطارد الفحش
والفجور حتى كادت الزقازيق تطهر من رجس البغايا أيام كان قاضيًا فيها كما
طهرت من التزوير . ذلك أنه كان يحكم بأشد العقوبة التي يسمح له القانون بها على
كل بغي تبرجت في الشوارع وعلى أعين الناس ، حتى كاد يجعلهن من ذوات
الحجاب ، وقد نقل إلينا من بعض الفساق هناك أنه قال مرة لبغي يعرفها : كيف
الحال ؟ قالت : ( زي الزفت ، وإذا بقي القاضي أبو عمة ( ذو العمامة ) هنا فإنه
يقطع رزقنا من هذه البلد ، عايز يرجَّع الدنيا لزمان سيدنا النبي ) أو قالت ما معناه :
إن النبي ظهر ثانية . وأما براعته في تحقيق القضايا ، وفراسته في تمييز البريء
من ذي الريبة فحدث عنهما ولا حرج ، وقد كان مؤيدًا بالوجدان الصحيح والإلهام
الصادق ؛ فإن كان كغيره من البشر عرضة للخطأ في رأية فقد كاد لا يخطئ في
وجدانه أو إلهامه . وسمعته يقول في بحث الكسب والاختيار : إنني كثيرًا ما أنظر في
قضية فأستخرج من التحقيق الطويل وجوهًا كثيرة للحكم بالإدانة مثلاً ، حتى إذا ما
تمت المحاكمة وأردت النطق بالحكم تقوض كل ذلك البناء الذي كنت بنيته من وجوه
الإدانة وظهر لي بغتة أن المتهم بريء حتمًا ؛ فأحكم بالبراءة فسبحان مقلب القلوب .
***
عمله في الأزهر
كان أول حديث دار بيني وبين الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - في مصر
الحديث في إصلاح الأزهر . زرته في اليوم الثاني من وصولي إلى القاهرة بداره
(في أواخر رجب سنة 1315 ) وبعد التحية والسلام ، وما يتصل بذلك من كلام
كاشفته باعتقادي واعتقاد من أعرف من العقلاء فيه ، وأنه بقية رجاء المسلمين في
السعي للإصلاح ، وأنه بلغني إنه يعمل لذلك في الأزهر ، فأفاض في كلام لخصته
بعد مغادرة المجلس في عشر مسائل ، قال :
( 1 ) إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام ، فإن إصلاحه إصلاح لجميع
المسلمين ، وفساده فساد لهم .
( 2 ) وإن أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ ، ورسوخ العادات القديمة
عندهم .
( 3 ) وإن هذا الإصلاح لا يتم إلا في زمن طويل ، وإنه إذا رأى حال الأزهر قد
صلحت قبل موته ؛ فإنه يموت قرير العين ويرى نفسه سعيدًا بل يرى نفسه ملكًا .
( 4 ) وإنه لا يرى لدخوله في الحكومة فائدة إلا الاستعانة على إصلاح الأزهر ؛
فإنه لولا مكانته عند الخديوي والحكومة لما كان يسمع له في الأزهر كلام ، ولا يقبل
له رأي .
( 5 ) وإنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر حتى الآن .
( 6 ) إنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتنامًا للفرصة ، فأشيرعليه
بوجوب التدريج ، ولكن لا بد له من المسايرة ، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة
بما يسمونه التدريج .
هذه ست مسائل في موضوع الأزهر أطال القول فيها ، وانتقل منها إلى
المسائل الأخرى ، وأهمها تخطئة أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من
طريق السياسة ، وإلى يأس من يعرفه من كبراء المسلمين من نهضهم وتخطئتهم في
ذلك . وقال لي في حديث آخر : إن نفسي توجهت لإصلاح الأزهر منذ كنت
مجاورًا فيه بعد التلقي عن السيد جمال الدين ، وقد شرعت في ذلك ؛ فحيل بيني
وبينه ، ثم كنت أترقب الفرص فما سنحت إلا واستشرفت إليها ، وأقبلت عليها ،
حتى إذا ما صدفت الموانع لويت وصبرت مترقبًا فرصة أخرى . وبعد أن عدت من
النفي حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابي بشيء ، فلم يصادف قبولاً . قلت له مرة :
هل لك أيها الأستاذ أن تأمر بتدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر ؟ ووصفت له من
فوائدها ما شاء الله أن أصف ، فقال : إن العادة لم تجرِ بذلك ، فانتقلت به في شجون
الحديث إلى ذكر الشيوخ ، وسألته : منذ كم مات الأشموني والصبان ؟ قال : منذ كذا ،
قلت : إنهما حديثا عهدٍ بوفاة ، وهذه كتبهما تقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك . فسكت،
ولم يدخل في الحديث .
وقال لي مرة أخرى : إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله في هذا العصر محال
فهو إما أن يعمر ، وإما أن يتم خرابه ، وإنني أبذل جهد المستطيع في عمرانه ؛ فإن
دفعتني الصوادف إلى اليأس من إصلاحه ، فإنني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي ،
بل أترك الحكومة وأختار أفرادًا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التي
ربيت عليها ؛ ليكونوا خلفًا لي في خدمة الإسلام ، ثم أؤلف كتابًا في بيان حقيقة
الأزهر أمثل فيه أخلاق أهله ، وعقولهم ، ومبلغ علومهم ، وتأثيرهم في الوجود
وأنشره باللغة العربية ، ولغة إفرنجية حتى يعرف المسلمون وغيرهم حقيقة هذا
المكان التي يجهلها الناس حتى من أهله .
لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال،
وتوجهت إلى أعمال كان الغرض منها إزالة الاحتلال ، ولو كان هذا الغرض
مما ترجى إصابته بسهام المصريين لكان الفقيد يكون في طليعة العاملين ؛ لأنه كما
نعلم أنفذهم رأيًا ، وأقواهم عزمًا ، وأخلصهم قلبًا ، ولكنه كان يعتقد بعد ذلك السعي
الذي أشرنا إليه أن المسألة لا يمكن أن تحل إلا بإتفاق الدول العظام ، وأن الرجال
في اتفاقهم بعيد كما تبين ، فأراد أن يكون حظه من حب الأمير الجديد للعمل السعي
في إصلاح الأزهر بنفسه ، وإقناع الأمير بالسعي في إصلاح المحاكم الشرعية
والأوقاف ؛ لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة لا مقاومة في إصلاحها للقوة
المحتلة ، ولا منها ، فاتصل بالأمير وحظي عنده وكاشفه برأيه كما كاشف الحكومة
بأمله في الأزهر ، وجاء بما جاء من آيات الإقناع به حتى توصل إلى إنشاء قانون
تمهيدي للإصلاح يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون
انتخابًا ، وقد جعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه على أنهما من
قبل الحكومة لا رأي لشيخ الأزهر ، ولا للمجلس في انتخابهما ، ولا في استبدالهما ،
وكان الشيخ محمد الأنبابي الذي هو شيخ الأزهر لذلك العهد مريضًا ، وقد كثرت
شكوى الشيخ من إدارته فعين الشيخ حسونة وكيلاً له بعد أن أخذ عليه العهد بإقامة
النظام ، والاتفاق مع الفقيد على الإصلاح .
عين الشيخ حسونة وكيلاً لمشيخة لأزهر مأذونًا بإدارة شؤونه لسبع خلون من
جمادى الثانية سنة 1312 وصدر الأمر العالي بتشكيل مجلس إدارة الأزهر لست
خلون من رجب من تلك السنة -أي في الشهر الثاني - ، ثم كان سعى في إقناع
الشيخ الأنبابي بالاستقالة يكاد يكون أمرًا حتمًا فاستقال ، وصدر الأمر العالي بتولية
الشيخ حسونة شيخًا للأزهر في 2 المحرم سنة 1313هـ .
كان الأستاذ الإمام - رَوَّحَ الله رُوحه في دار السلام - يحب أن يجري الإصلاح
في الأزهر بإقناع كبار مشايخه ورضا أهله ؛ فبدأ باستمالتهم بتكثير رواتبهم
فسعى لدى المستشار المالي الأسبق ، وطلب تعيين مبلغ من خزينته المالية لمساعدة
الأزهر الذي يخرج للحكومة كذا رجالاً من القضاة الشرعيين ، والمفتين والمأذونين؛
فأجيب الطلب ، وعين في ميزانية سنة 1895 م مبلغ ألفا جنيه للأزهر على أن
تصرف بنظام معلوم لا برأي شيخ الأزهر وميله على ما كان يعهد في الأزهر مع
الوعد بالزيادة على هذا المبلغ في فرصة أخرى ؛ إذا جاء بفائدة فكان هذا حجة للفقيد
على وجوب صنع قانون للمرتبات في الأزهر ؛ ليكون لكل عالم حق معلوم يتناوله
في وقته من غير تزلف إلى شيخ الجامع أو غيره . وتلا هذا القانون قانون كساوي
التشريف ، ومرتباتها ، وكان الرأي فيها من قبل الشيخ الجامع يعطي من يشاء
ويمنع من يشاء ، فصارت تعطى لمستحقها من غير سعي ولا تزلُّف فسر الشيوخ
بذلك سرورًا عظيمًا .
بعد هذا وجه الفقيد عنايته في المجلس إلى نظام التدريس والامتحان ، وبيان
وسائل العلوم ومقاصدها ، وجعل التدريس فيها على طريق توصل إلى الغاية منها
وبعد اجتماع ومذكرات طويلة وضع القانون لذلك ، واحتيج في تنفيذه إلى المال فلجأ
الفقيد إلى أريحية الأمير ؛ فصدر الأمر لديوان الأوقاف بصرف 3374 جنيهًا
للأزهر بينت مصارفها ومنها 464 جنيهًا لإنشاء دار الكتب الأزهرية ، ثم وضع
نظام آخر لتوزيع الجرايات بالعدل .
أما نظام التدريس واختيار كتب العلوم فهو الذي أحب الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - أن يجعله برأي كبار الشيوخ ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة ، ولا يثقل عليهم
إلزامهم به من جانب القوة ، وليتعود أهل هذا المكان على البحث في الأمور المهمة
والتعاون على ما ينفع الأمة ، فوضع مشروع نظام التدريس ، واختيار الكتب
واقترح أن تؤلف لجنة من كبار الشيوخ للبحث فيها ، وإقرار ما يرونه نافعًا فألفت
اللجنة من أكثر من ثلاثين عالمًا ، وجعل الشيخ سليم البشري أحد أعضاء مجلس
الإدارة رئيسًا لها . ثم انتخب منها لجنة للبحث في كل فرع من المشرع وإبداء رأيها
فيه للجنة الكبرى ، وكانت هذه اللجنة مؤلفة من بضعة نفرٍ هم أكابر شيوخ الأزهر ،
وضم إليهم الأستاذ الإمام من قبل مجلس الإدارة ، وبعد أن أتمت هذه اللجنة عملها
قدمته إلى اللجنة الكبرى فأفرته هذه بعد تحوير قليل لا يذكر . وكانت مشيخة الأزهر
قد أسندت يومئذ إلى الشيخ سليم البشري الذي أوقف كل ما كان المجلس شرع فيه
فأوقف أيضًا مشروع إصلاح التدريس ، بل كان المجلس يقرر الشيء
بالاتفاق مع رئيسه الشيخ سليم ، ثم إنه لا ينفذه ، ولم يكن القصد من ذلك إلا إحباط
سعي الأستاذ الإمام وإبقاء القديم على حاله ، ولقد كان قادرًا على الإلزام بالتنفيذ بطلبه
رسميًّا من الحكومة ولكنه لم يكن يجب أن يكون للحكومة تصرف في الأزهر ، بل أن
يبقى مستقلاًّ يصلح أهله برضا واقتناع ، وهل يبقى كذلك بعده ؟ الله أعلم والأيام
تظهر ما يعمل ، وكان من الإصلاح الذي تم في الأزهر بسعيه -رحمه الله-
تعيين طبيب للأزهر وصيدلية ( أجزاخانة ) خاصة به في نفس الجامع ، وإنارة
المسجد بالغاز البخاري ، وإنشاء الميضأة على الأصول الصحية ، وتجديد مبانٍ صحية في الأروقة وغير ذلك مما نفصله في التاريخ . ومن شاء أن يطلع على ذلك بالتفصيل التام ، فليرجع إلى كتاب ( أعمال مجلس إدارة الأزهر ) الذي طبع في
في هذا العام[1] .
وقد انتقل الأزهر بهذا الإصلاح من خلل عام إلى شيء من النظام ، ومن حالك
الدَّيْجُور ، إلى بصيص من النور ، ولم يتم عمل من الأعمال على ما كان يحب
رحمه الله تعالى . ولكن الإصلاح الحقيقي الذي كان روحًا محييًا ونورًا مبصرًا ؛
فهو ما كان يلقيه من دروس التوحيد والتفسير والبلاغة والمنطق ، فهذه الدروس
هي التي حولت نفوسًا كثيرة عن السبل المتفرقة إلى سبيل الله وصراطه وهي محل
الرجاء في هذا المكان .
( للسيرة بقية )
 
16 رمضان - 1323هـ
13 نوفمبر - 1905م​
الكاتب : محمد توفيق صدقي

الدين في نظر العقل الصحيح
( 4 )
المقالة الثالثة
( الإسلام هو الإصلاح الأكبر )
مقال آخر آتي به اليوم تتميمًا لمقالي السابق ( الدين في نظر العقل الصحيح )
وإيضاحًا لما أجملته هناك في مسألة الإصلاح الإسلامي في الأرض . ولا أريد أن
أذكر المسائل التي شارك الإسلام فيها غيره من الأديان الأخرى ، ولكني ذاكر ما
امتاز به عنها ليتضح للأهل الإنصاف ، أنه هو الإصلاح الأكبر بلا خلاف .
***
التوحيد والتنزيه :
أتى القرآن بالتوحيد الخالص والتنزيه المطلق فقال{قُلْ هُوَ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص : 1 ) { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} ( الأنعام : 103 )
{ َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ( الشورى : 11 ) وتحاشى ما يوهم التشبيه والتجسيم إلا ما
اقتضته ضرورة التعبير اللغوي حتى أنه أزال في مثل قوله{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } (الروم : 27 ) ما يتبادر منه من التمثيل بالمخلوقين بقوله بعده { وَلَهُ المَثَلُ لأَعْلَى } ( الروم : 27 ) ففاق بذلك جميع الكتب الأخرى الممتلئة بالتشبيهات والتمثيلات حتى
الساقطة الباردة منها . وأبان بمثل قوله { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (الإسراء : 44 ) وقوله { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } ( مريم : 93 ) أن لا شجر ، ولا حجر ، ولا بشر تجوز عبادته من دون الله تعالى
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ( الفاتحة : 5 ) فعرف الإنسان حقيقة حاله ، وأن لا
يليق به أن يخاف أحدًا سوى الخالق - تعالى - فخلص بذلك من الأوهام المحيطة به
من كل جانب . هدأ الله بعد ذلك روعه منه ، وأعلمه أنه به رؤوف رحيم ، بل أشفق
عليه من الأم على ولدها ، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد يجيب دعوة الداعي إذا
دعاه . فأحبه المسلم لإحسانه إليه وقربه منه مع جلاله وخاف من عقابه إذا هو
عصاه . فمن غمره الملك بنعمه كان له محبًّا ولكنه يخاف أن يقع منه ما يغضبه .
ومع ذلك إذا عصاه الإنسان ثم رجع إليه وجد بابه مفتوحًا وغفرانه واسعًا { قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم } ( الزمر : 53 ) اللهُ أكبر . أين هذا الاعتدال في العقيدة من
إفراط قوم يظنون أن الله لا يحب الإنسان إلا إذا قتل نفسه لتكفير ذنبه فأوقعهم ذلك
في الإشراك الحقيقي وإن أنكروه وفي التشبيه والتجسيم وما خالف المعقول والمنقول.
وأين ذاك الاعتدال من تفريط آخرين يعتقدون أن الله بعيد عنهم ولا يبالي بهم ولا
يريد بهم خيرا .
يزعم بعض من يدعي العلم من قسيسي المسيحيين أنه لم يرد في كتاب
المسلمين ما يدل على حب الله لهم وحبهم له بل كل ما فيه الخوف والانزعاج منه
فلذا أورد هنا ما ورد في القرآن الشريف في ذلك المعنى{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ( آل عمران : 31 ) { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ } ( البقرة :
165 ) { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ( المائدة : 54 ){ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ } ( البقرة : 222 ) { وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ } ( البقرة : 177 ) { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه } ( الإِنسان : 8 ) وفيه من ذكر
الرضى والرأفة والرحمة والغفران ما لا يوجد في كتب المسيحيين أنفسهم ويكفيك أن
كل سورة مبتدأه بالرحمن الرحيم . فهل إله المسلمين قاس كما يهذون ؟ إلا أن التعصب
يعمي ويصم .
والخلاصة : أنه بهذه العقيدة الصحيحة اجتثت جذور الوثنية من الأرض وكذا
كل عقيدة اتفقت معها في الحقيقة وإن اختلفت عنها في الشكل وتبع ذلك طهارة
العقول من الوساوس والخرافات التي أحاطت بالأمم الأخرى ، فأي إصلاح أكبر من
هذا ؟
***
المساواة :
قرر الإسلام أن أفراد البشر عند الله سواء وأنه لا ينظر إلى صورهم وأزيائهم
بل إلى قلوبهم . وأن رحمته تعالى لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا وعذابه لمن
عصاه ولو كان شريفًا قرشيًّا فلا فرق بين الغني والفقير ، والصعلوك والأمير ،
والحر والعبد إلا بالتقوى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ( الحجرات : 13 ) فرفع بذلك كل
امتياز موهوم بين الأفراد ، ولم يجعل لأحد على الآخر سلطانًا إلا ما اقتضته حدود
الشريعة ؛ لدفع الأذى وحفظ الأمن وفيما عدا ذلك لا مسيطر على الإنسان إلا الله
وحده ، وليس بيننا وبينه تعالى حجاب أو واسطة { إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } ( الغاشية : 21-22 ) فلا كاهن ولا رئيس في الدين ليقرب الناس
من رب العالمين . زال بذلك كل ما كان وضعه رؤساء الأديان الأخرى من الحجْر
على العقول وعلى ما منحه الله لنا من الحرية كدعوى التوسط بين الله والناس في
غفران الذنوب وإباحة ارتكاب بعض المحرمات في مقابلة دريهمات يأخذونها ومنع
الناس من قراءة كتبهم الدينية إلى غير ذلك من المفاسد التي وقع فيها الأمم الأخرى
بسبب عبارات وردت في كتبهم فهموها بهذا المعنى بحق أو بغير حق واستمروا
على العمل بها إلى ما بعد مجيء الإسلام بعدة قرون ثم أخذ بعض الطوائف في
الإصلاح بمثل ما أتى به ديننا القويم من قبل .
أمكن المسلم بسبب ذلك أن يقف بين يدي الله تعالى وحده ويقرأ كتابه بنفسه
ويفهم منه ما شاء أن يفهم فلا توسط ولا مراقبة ولا حجر . والناس غيره في عبودية
وذل وغباوة وجهل . ذم الإسلام بعد ذلك التقليد ونهى عن متابعة الأهل في شيء إلا
بدليل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ
آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } ( البقرة : 170 ) وأمر المسلم أن ينظر في
القول ليميز صدقه من باطله . بدون نظر إلى قائله { فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( الزمر :
17-18 ) فأي دين أتى بمثل هذا كله ؟ .
***
العقل والعلم بالحقائق رائد الإيمان الصادق :
امتاز القرآن الشريف عن غيره من الكتب الدينية بمخاطبة العقل في جميع
العقائد والتحاكم إليه عند التخالف والتعاند ، فلم يقرر عقيدة أو يرد أخرى إلا بالدليل
العقلي . أي كتاب غيره أقام الدليل على حدوث العالم بحركات الأجرام السماوية ؟
تذكر حجة إبراهيم على قومه في سورة الأنعام مثلا تأمل قوله في الرد على مَنْ عَبَدَ
مريم والمسيح{ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام } ( المائدة : 75 ) وقوله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران : 59 ) ردًّا على
من اتخذ ولادته بدون أب دليلاً على ألوهيته . وقوله في إثبات النبوة : { أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } ( الطور : 33-34 )
وقوله { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ( يونس : 16 ) وقوله{ وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ } ( العنكبوت :
48 ) وقوله في عدم استحالة البعث { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ } ( يس : 81 ) إلى غير ذلك من
الآيات التي هي أساس علم الكلام كما بينا ذلك في المقال السابق .
ولم يكتف بإقامة الحجة على العقائد فقط ، بل لا تجد في الغالب أمرًا أو نهيًا
إلا أتبعه بالدليل ولم يرض بالاستسلام والرضوخ بدون معرفة السبب فقال مثلاً :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة : 183 )
أي أن الصيام الذي يقوي الإرادة ، ويربي النفس على مراقبة الله تعالى ويعرفها
مقدار النعم عند فقدها أعظم معد للتقوى . وقال في الحدود { وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ
يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة : 179 ) وقال في الأخلاق : { وَلاَ تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ( فصلت : 34 ) وغير ذلك كثير مما لم يأت في كتاب سواه فلا تجد صحيفة منه
خالية من قوله : ( لعلكم تعقلون . تتفكرون . يا أولي الألباب . لأولى النهي . لذي
حجر ... إلخ إلخ ) ثم ما ورد فيه بشأن العلم والعلماء كثير{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} ( العنكبوت : 43 ) { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ } ( فاطر : 28 )
{ َمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ } ( آل عمران : 7 ) { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون } ( الزمر : 9 ) وبذلك كله صار المسلم لا
يبالي بعقيدة خالفت العلم الصحيح أو ناقضت حكم العقل فبينما تجد غيره يرضخ
لعقيدة لا يفهمها ولا يمكنه أن يعبر عنها بما يجعله يفقهها بل يذعن ويسلم ثم يقيم
الصلوات والأدعية لترسخ بالقوة في ذهنه ؛ بينما تجد ذلك في غيره تجده هو يشق
الحجب بفكره ويرقي إلى الملكوت الأعلى بعقله عملاً بقول كتابه { قُلِ انظُرُوا مَاذَا
فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } ( يونس : 101 )
لا يطالب القرآن أحدًا بالإيمان لمجرد سرد قصص عن المعجزات وخوارق
العادات بل أمر بالتدبر والنظر فيه { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد : 24 ) وخالف بذلك سائر الكتب الأخرى وفتح للعقل بابًا واسعًا للبحث فيما
أتى به حتى يجزم بأن صدوره من مثل محمد العربي الأمي صلى الله عليه وسلم
ضرب من المحال . ولم يرد أن يغلق دونه الباب بتعداد حكايات لم تخل أمة
من نسبة أمثالها إلى مؤسسي دينهم بل قد ورد في كلام بعضهم كالمسيح مثلاً ما يدل
على إنكاره لها إن صحت الرواية عنه . وذلك قوله : ( جيل شرير وفاسق يطلب آية
ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي ) يريد بذلك أنه كما آمنت أهل نينوى بيونس
لمجرد الوعظ فتؤمن الناس بي أيضًا ؛ لهذا السبب بعينه بدون معجزة ، وما ورد بعدها
من قوله : ( لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون
ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ) قال فيه المحققون من
المسيحيين أنفسهم : إنه تفسير من جانب كاتب الإنجيل ، وهو غلط لوجهين(الأول):
أن المسيح لم يمكث في بطن الأرض - على قولهم - إلا يومًا وليلتين كما هو صريح
جميع الأناجيل و ( الثاني ) : أنه بعد قيامته لم يظهر لأحد من هؤلاء الطالبين ، ولم
يشاهده سوى بعض النساء وبعض المعتقدين فيه . فكيف يكون ذلك آية مقنعة
للمخالفين ؟
وخلاصة القول : إن هذه العبارة تنفي جميع المعجزات ، ومع التساهل لا تبقي
واحدة ، وقد بينا لك حالها ، فهذا هو شأن جميع الأديان التي لا حجة لها إلا أمثال
هذه الأقاصيص والأعجوبات ؛ فهل تقارن هذه بالدين الذي لا عقيدة ولا أمر ولا
نهي ولا حكم فيه ،إلا ويتبعه الدليل العقلي من نفس كتابه ؟ فلله دره من دين أحيا
العقل بعد أن أماتوه ، ونهض به إلى حظيرة العلم بعد أن دفنوه ، فأي إصلاح أكبر
من هذا ؟
***
رفع وهْم عن الناس في مسألة تأثير الشياطين :
أتى الإسلام والناس جميعًا واهمون في مسألة تأثير الشياطين : رسخ في عقول
الأمم كافة أن الأرواح الخبيثة مسلطة على الإنسان بالأذى ؛ فإذا رأوا مفلوجًا أو
مشلولاً ، أو مجنونًا ، أو أبكم ، أو أصم ، أو مصابًا بأي مرض آخر نسبوا ذلك إليها
؛ فامتلأت قلوبهم رعبًا منها ، وخافوا من الأماكن القديمة ، أو الخالية ، أو المظلمة ،
أو من سقوط شيء على الأرض أو من دخول محال التغوط إلى غير ذلك من
الأوهام التي لا يزال أثرها في نساء أهل مصر إلى اليوم . ويا ليت الأمر كان قاصرًا
على ما ذكر ، بل ظهرت نتيجة ذلك في أعمالهم وكانت سببًا في ضررهم ضررًا
بليغًا ؛ فإذا أصيب أحدهم بمرضٍ ما ، تداووا بالعزائم والطلاسم وإيقاد البخور أو
زيارة بعض القبور أو تعليق أوراق أو الاستنجاد براقٍ ! حتى يتمكن الداء ،
وتستفحل العلة ؛ فلا يقوى الطبيب على استئصالها أو إيقاف سيرها ، ويموت
الشخص ضحية للجهل والوهم ؛ هذا كان شأن الأمم في هذه المسألة ، وهذه كانت
أفكارهم ، وكانت تأتيهم الأديان ، ولا تزيل عنهم هذه الخزعبلات المميتة للنفوس
والأجسام ، بل إن بعضها أيدها تأييدًا ونص على صحتها صريحًا ؛ فنجد أن كل
صحيفة من كتبها تدل على أن الشياطين هي علة هذه الأمراض كالصرع وأنواع
الشلل ، والبكم ، والصمم ، وأنواع الجنون ، والعتاهة ، وغير ذلك مما عرفت
أسباب أكثره العلوم الطبية الحديثة ، وما لا تعرفه قاسته على غيره لوجود التشابه
العظيم بينهما ، ولشفاء بعضه باستعمال العلاجات المادية المحضة كالمواد الكيميائية
ونحوها .
أتى الإسلام والناس على هذه الحالة فلم يشأ أن يتركهم وشأنهم يخبطون خبط
العشواء في الليلة الدهناء ، بل أصلح هذه كما أصلح غيرها مما يميت النفس والجسم
معًا صغيرًا كان أو كبيرًا ، وذلك بالإفصاح أن ليس للشيطان على الإنسان من سلطان إلا بالإغراء والوسوسة أن يؤذيه في جسمه أو عقله أو إحدى حواسه بشيء
مطلقًا ، قال تعالى حكاية عن الشيطان : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم } ( إبراهيم : 22 ) وقال تعالى
في خطابه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ } ( الحجر :
42 ) وما ورد فيه من قوله : { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
المَسِّ } ( البقرة : 275 ) هو على سبيل التمثيل والتشنيع الذي ورد مثله في كل لغة
مهما كان اعتقاد قائله فهو على حد قوله في مقام آخر : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ } ( الصافات : 65 )[1] وتلك عبارة واحدة لم يرد غيرها . فليطالع
القارئ العهد الجديد للنصارى مثلاً ليعلم الفرق بين هذا وذاك .
بمثل هذه الحقائق التي قررها القرآن صار المسلم الحق لا يعبأ بالشيطان ، ولا
يخشى منه أذى أو ضررًا ، إلا ما كان دعوة لشهوة ، أو نحوها مما يجب عليه أن
يحترس منه ؛ فإذا أصابه مرض ما لم يستشف بقديس أو قسيس كما يفعل غيره بل
يطلب الطب والدواء ، ويأتي البيوت من أبوابها ، فأعظم به من كتاب لم يهمل شيئًا
فاسدًا إلا أصلحه . فبأي كتاب يمكن أن نقارنه ؟ .
الله أكبر أن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
الاعتقاد الصحيح لا يكون إلا باقتناع العقل بدليل لا بإرهاب أو ترغيب . فمن
لم يطمئن قلبه بالبرهان لا يحصل له الإيمان ، وإن تظاهر بشيء منه فهو منافق
كذاب ، فلا معنى لإدخال عقيدة في القلب ، بواسطة التهديد بالقتل أو الضرب ،
وهذا ما لا جدال فيه ، وعليه فاستعمال القوة للحمل على اعتقاد هوس وجنون وسعي
فيما لا يمكن أن يكون ؛ لهذا نهى الله المؤمنين عن الإكراه نهيًا صريحًا في عدة
مواضع من كتابه العزيز { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ } ( البقرة :
256 ) { وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ( الكهف :
29 ) { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ( يونس : 99 ) ثم طيب قلوبهم بنحو قوله { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ( المائدة : 105 ) وقوله : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّك } ( هود : 118-119 ) ففقه المسلمون أن
ليس من وظيفتهم بالنسبة لغيرهم ما نهاهم الله عنه . أمروا بالقتال ، ولكن لا للعقيدة
بل لدفع الأذى وأمن الفتنة وحماية الدعوة { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ } ( الأنفال : 39 ) الفتنة هي ما يفتن به المرء في دينه من أنواع الأذى
والاضطهاد والمعنى : قاتلوهم حتى يأمن كل منكم على نفسه ، ويكون دينه كله خالصًا
لله لا يشوبه خوف أحد ، أو كتمان شيء لعدم إغضابه أو إظهار آخر لا يدين به
لأجل إرضائه ، بل يكون دينكم وخضوعكم كله لله بدون مبالاة بغيره . ولو كان
القتال لأجل الدين لما كان هناك معنى لقوله{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) وقوله { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم
مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ } ( التوبة : 4 ) وهذه الآيات مدنية . نزلت وقد أعلن
القتال وأنشبت الحرب أظفارها ، فكيف ينهى عن قتال من لم يقاتل أو يعقد عهد مع
المشركين ، إذا كانت الحرب لأجل الدين ؟ ولما أمر الله تعالى في سورة براءة بقتال
المشركين الذين خانوا العهود ، ونقضوا المواثيق وبدءوا بالعدوان ، وكانوا مهددين
للمسلمين في كل وقت وأوان ، وخيف أن يدخل أحد في الإسلام حذر القتل - أمَّن كل
من رغب فيه ليهتدي إليه بدون إكراه فقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون } ( التوبة : 6 )
والخلاصة : أن المسلمين إذا أمكنهم الدعوة إلى دينهم دعوا إليه بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، ولكن إذا هددت الدعوة ، وخيفت
الفتنه قاتلوا حتى يخضع المهدد لسلطانهم ويأمنوا شره ، وبعد ذلك يعطفون عليه
بالرفق واللين والإحسان وحمايته في مقابلة جزء يسير يدفعه من ماله وله أن يقيم
على أي دين شاء . هذا هو حكم الجهاد في الإسلام كما يستفاد من مجموعة آي
القرآن الواردة في هذا الشأن . أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء ويكون
الحامل عليه الملك والاستعمار لا الدين ، وهذا مبحث آخر فليس للمسلم أن يقاتل من
كان آمنًا منه ، لأجل أن يكرهه على دينه ، أو يسيء إلى من خالفه في الاعتقاد { لاَ
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } ( الممتحنة : 8 ) أو يقطع علائقه مع أهله
لأجل الدين { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ( لقمان : 15 ) أو يعاقب بأكثر مما عوقب به . أو
يقتل في حربه شيخًا أو طفلاً أو امرأة . إلى غير ذلك من شرائع العدل والرأفة
والرحمة ؛ فأي دين بلغ من القوة ما بلغ الإسلام وعمل بمثل هذه القوانين العادلة ؟
قارن ذلك بما فعله بنو إسرائيل مع غيرهم وما فعله النصارى مع مخالفيهم ومع
بعضهم .
يقولون : إن المسيح عليه السلام فاق محمدًا عليه الصلاة والسلام بالدعة
والمرحمة ، ونقول : هب أن ذلك صحيح فهل يقارن من عاش ثلاث سنين في
الضعف والمسكنة بمن عاش ثلاثًا وعشرين وهابته الملوك والجبابرة ؟ فما يدرينا أنه
لو عاش مثل ما عاش وبلغ مثل ما بلغ ماذا كان يفعل ؟ عاش محمد عليه السلام
ثلاث عشرة سنة أو أكثر ولم يبدُ منه عداوة لأحد وعاش المسيح عليه السلام
ثلاث سنوات فبدت منه البغضاء للناس إذا صح ما نقل عنه ، نعم إنه قال : ( أحبوا
أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ) ولكنه كان أول من خالف ذلك على روايتهم فقال :
( من لم يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون
لي تلميذًا ) وقد برهن على هذا القول بالعمل حينما قيل له أمك وإخوتك واقفون
خارجًا طالبين أن يكلموك فقال : ( من هي أمي ومن هم إخوتي ؟ ومد يده نحو تلاميذه
وقال ها أمي وإخوتي ، من يصنع مشيئة أبي هو أخي وأختي وأمي ) وقال في
مثل له : ( أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فائتوا بهم إلى هنا اذبحوهم
قدامي ) فما هذا التناقض وما هذه الحال ؟ والحق يقال : إن حب العدو فوق الطبيعة
البشرية فمن أراد أن يغيرها لا يلتفت إليه ، ولا يسمع له قول كما هو مشاهد في
العالم الآن بأجمعه ، ولكن الشريعة الإسلامية أتت لتقويم معوج الطبيعة لا
لتغييرها وتبديلها فأمرت بما يقدر عليه الإنسان بجهد قليل بأن حثت على
الإحسان إلي المسيء { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } ( الرعد : 22 ) ومدحت ذلك
ولكنها أقرت بأن الأخذ بالمثل لا ظلم فيه ولا عدوان ولكنها لم تندب إليه كما ندبت إلى الأول{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ( الشورى : 43 )
فانظر الفرق بين ما وافق الفطرة ، وبين ما حاول تبديلها . وهذا هو الشأن في كل
المسائل التي خالف فيها الإسلام الأديان الأخرى المعروفة { فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الروم : 30 ) .
***
إصلاح حال المرأة :
أتى الإسلام وحال المرأة في اختلال : بنات موءودة وحقوق مهضومة ، وذل
واحتقار ، حتى ظن بعض من كان يعتقد بنوع من البعث أن المرأة لا نصيب لها فيه.
طلاق لأوهى الأسباب أو إمساك مع البغضاء والشحناء ، تعدد لا حد له أو اقتصار
على واحدة أوقع غيرها فريسة للفقر والأهواء ، فماذا عمل الإسلام في هذه الحالة
المختلة ، وكيف أزال العلة ؟
حرم وأد البنات تحريمًا بتًّا . وأنذر الناس عذابًا أليمًا يوم القيامة إن لم يتركوه
{ وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } ( التكوير : 8-9 ) رفع شأن المرأة
وحفظ حقوقها وجعل لها مثل ما عليها فقال { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة } ( البقرة : 228 ) وهي درجة القوة والإنفاق كما ذكر
في آية أخرى . ساوى بينها وبين الرجل في جميع الأوامروالنواهي الدينية { إِنَّ
المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ( الأحزاب : 35 ) وقال أيضًا : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } ( آل عمران : 195 ) فعلم الرجل أنها قرينة له في
الآخرة كما هي في الدنيا ، ولا امتياز بينهما في ذلك .
أمر بالإحسان إليهن في عدة مواضع ومعاشرتهن بالمعروف ، ونهى عن
إمساكهن ضرارًا. وطيب قلب الرجل إذا حصل فيه شيء من الكره بقوله :
{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْراً كَثِيراً } ( النساء : 19 ) حتى لا يتسرع إلى الطلاق لأقل سبب وأوجب عليه
التروي وتحكيم حكمين من أهلها قبل أن يقدم على ذلك { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ } ( النساء : 35 ) الآية ؛ لأن الطلاق وأن كان مباحًا لكنه
أبغض الحلال إلى الله كما ورد في الحديث ، أما إذا لم يمكن التوفيق بينهما لسبب ما
من الأسباب فعدمه فيه حرج كبير مخل بالعائلة والنظام ويجر إلي ما لا تحمد عقباه
ولذلك نجد من حرم عليهم في شريعتهم أخذوا يتخلصون من ذلك بكل وسيلة .
قال المولعون بالأوهام أن إباحة الطلاق تقلل الحب بين المرأة وزوجها ؛ لأنها
مهددة به في كل وقت . ولكنا نقول : هل المرأة التي تعلم أن الجامعة بينهما قسرية
اضطرارية تضمن حب زوجها لها أكثر من التي تعلم أنه لو لم يكن هناك حب لسهل
افتراقهما ؟ فما هذا القلب قلب الحقائق إلى الضد ؟.
كان تعدد الزوجات غير محدود عند العرب وعند غيرهم فوضع الإسلام له
حدًّا كما هو معلوم ، ولم يندب إليه وقيده بشرط عدم الخوف من عدم العدل ، وفوائد
الإباحة كثيرة ، منها :
( 1 ) أن الإنسان إذا أصاب امرأته مرضٌ مزمن جعله ينفر منها فإما أن
يبقيها أو يطلقها ، أما طلاقها والحالة هذه فهو خلاف المروءة والإنسانية ؛ إذ لا
يمكنها أن تتزوج بغيره ، وربما لا يكون لها عائل سواه ، وإن أبقاها ولم يتزوج
عليها تعطل نسله هو أيضًا ، وتعرض للإصابة بأمراض كثيرة تنشأ من عدم القيام
بهذه الوظيفة أو اضطرته الشهوة إلى الزنا ، أما إذا كان هو المصاب بذلك المرض
المزمن فطلاقها إذًا يكون عين الحكمة والصواب فتسلم من العدوى إن كان مرضه
معديًا ؛ فيمكنها التزوج بغيره والقيام بوظيفتها التناسلية أو الاشتغال بشيء تكتسب
منه قوتها . وهذا أيضًا من فوائد الطلاق . فهل الطلاق والتعدد إصلاح للمرأة أم
إضرار بها ؟ ومثل المرض المزمن العقم في النساء فالتزوج عليهن خير حل لهذه
المسألة وخصوصًا فيمن كان يطلب وارثًا له في مال أو ملك .
( 2 ) عدد النساء أكثر من عدد الرجال فلو لم يبح التعدد لوُجد عدد كبير
منهن لا حيلة لهن سوى الاتجار في أعراضهن كما هو مشاهد في أكثر بلاد أوروبا
وذلك يجعلهن مبتذلات معرَّضات للأمراض وإذا افتقرن ومرِضن أو كبِرن في السن
أو فقدن عضوًا منهن فلا مخلِّص لهن من سوء الحال سوى الانتحار . فهل في التعدد
إصلاح أم إضرار بهن ؟ هذا وإذا علمنا أن شهوة الرجال أقوى من النساء بكثير
وأنهم يميلون إلى التعدد بخلاف الإناث كما هو مقرر في العلوم الباحثة في هذا الشأن
أيقنَّا أن إباحة التعدد موافقة للنوع الإنساني من كل وجه ، ولا ننكر أنها قد تجر إلى
بعض مضار . ولكن باستعمال العقل والحزم يغلب نفعها على ضررها
ولا يزول ما بين الرجل العاقل وبين امرأته من المودة والرحمة التي جعلها الله
بينهما بسبب التعدد كما يتوهم البعض ؛ لأن قلب الرجل يسع أكثر من واحدة كما أن
قلب الأم يسع جميع أولادها ، وقلب الأستاذ جميع تلاميذه النبهاء . فالتعدد لا يمنع
من حب الجميع ألبتة ولا ينافيه . ولكنه ينافي العشق والغرام الذي هو أحد أمراض
الحب . وأقصد بالعشق عبادة ذات مخصوصة والتفاني فيها بما يؤدي إلى الموت إن
فقدت ومثل هذا لا يليق بعاقل وهو لا يدوم بل سريع الزوال فالحب المقصود وجوده
هو المعبر عنه بقوله تعالى : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ( الروم : 21 ) أي حب
شفقة ، وحنان ، وحب أخلاق ، لا حب ذات ، وهذا لا ينافيه التعدد ، فقد توجد المودة
والرحمة ، والشفقة ، والحنان ، وحب الأخلاق من شخص لكثيرين ، ومتى علمت
المرأة ذلك من الرجل ، وعلمت أنه هو عائلها وكافلها أحبه قلبها رغم أنفها ، وإن
كرهت شريكاتها فيه . وهذا الكره ناشئ من شهوة الاستئثار بالنفع وهي شهوة لا
يجوز للرجل أن يطيعها فيها إذا اقتضت الضرورة خلافها .
ولو عقلت المرأة أن غيرها يود من يقوم بشؤونه مثلها ، وأن قلة الرجال
بالنسبة لهن تستلزم قيام رجل واحد بشؤون أكثر من واحدة لوجدت نفسها مخطئة في
إيثار النفع الخاص على النفع العام . الأمر الذي تحاشاه ديننا القويم ، والخلاصة أن
الشريعة الإسلامية حلت مسألة المرأة أحسن حل ، وأصلحت حالها إصلاحًا لم تأت
به شريعة أخرى ، وقد أخذت الأفكار في أوربا تتقرب إلى ما أتى به الإسلام بعد أن
عادته عداء شديدًا مدة مديدة .
الحديث شجون ، إيثار النفع العام على النفع الخاص هو مما يعبر عنه
المسيحيون ( بإنكار الذات ) . فهل الدين الذي يدعو المرأة لأن ترى غيرها شريكة
لها في زوجها كالذي يدعوها لأن تستأثر بشخص وحدها ، وترى غيرها من النساء
يرحن ويغدون في الطرقات كل يوم إلى ما بعد نصف الليل ليحصلن على ما به
يقتتن ويكتسبن ؟ هل الدين الذي كان أهله في الصدر الأول يطلقون نساءهم
ليزوجوهن إخوانهم من المسلمين ويطعموهن طعامًا هم أنفسهم محتاجون إليه يقال
عنه أنه لم يعلمهم إنكار ذاتهم ! ! ألم يرد في كتابهم قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة } ( الحشر : 9 ) هل الدين الذي كان صاحبه يدعو
ربه لينجيه من القتل والصلب بقوله على زعمهم : ( إن أمكن فلتعبر عني هذه
الكأس ) وزعمهم أنه لما حصل بالفعل ضجر وخارت قواه وصرخ قائلاً : ( إلهي
إلهي لماذا تركتني ) كالدين الذي كان صاحبه لا يبالي بالأذى والقتل في سبيل نصرة
الله ودينه وقد احتمل من الاضطهادات مدة ثلاث وعشرين سنة ما لم يحتمله سواه وهو يتلو قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاّ } ( التوبة : 111 ) الآية ،
أيهما برهن للعالم على إنكاره لذاته في سبيل هداية الناس وإرشادهم إلى الحق
مهما أصابه ، وكان يقابل سهام العدو بصدره وحده ، ويقول : ( أنا النبي لا
كذب ، أنا ابن عبد المطلب ) ؟ الله أكبر . أين هذا من ذاك . فما كان أغنانا عن
هذا الجدال كله لولا اعتداؤهم علينا . هل أوجب المسيح الزكاة ، والصوم ، والحج على متبعيه مثل ما أوجب القرآن . أليس في هذه الثلاث أكبر معنى لإنكار الذات
ونفع الناس والاستعلاء على الشهوات ووطئها بالأقدام ، وتحمل المصاعب والمشاق
للحصول على رضوان الله . أبعد ذلك يقولون إن المسلمين لا يعرفون معنى لإنكار
الذات الذي يطنطنون به ويدعونه بألسنتهم ، وهم أبعد الناس عنه وأكثرهم انغماسًا في
الملاذ والشهوات . ولكن ليقف القلم عند هذا الحد ولنرجع إلى ما كنا فيه .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : الصواب أن الشياطين هنا نوع من الحيات كما في التفاسير المعتمدة .​
(8/681)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

16 شوال - 1323هـ
13 ديسمبر - 1905م​
روابط الجنسية والحياة الملية
وفلسفة الاجتماع البشري
:"...الملة الإسلامية تساوي بين المختلفين في الأنساب والأوطان والأديان وتسمح
لمن يدخل في حكمها وهو على دينه أن ينشئ في بلادها محاكم لأهل ملته وأبناء
جلدته فلا تلزمه بأحكامها إلزامًا ، فإن هو اختار حكمها بنفسه ساوت بينه وبين أقرب
الناس من بنيها وأعلى أفرادها مكانة فيها . فهي تدعو جميع البشر إلى التعارف
والتآلف في ظل حمايتها وإنه لظل ظليل يباح للمستظل به كل شيء إلا محاولة
إزالته أو إزالة فائدته للناس وهي دفع الشر والأذى عنهم وتقريب الخير منهم مع
حفظ حريتهم في أديانهم وأعمالهم التي لا تضر سواهم . هذا ما تبذله لكل من قبل
حمايتها ، واستظل برايتها ، ثم إنها تختص من قبل هدايتها في الدين بأخوة روحية ،
أخص من هذه الأخوة الإنسانية ، لأنه يشارك أهلها فيما يؤهلهم لسعادة الحياة
الأخرى ، فهو أقرب إليهم بالروح ممن لا يشاركهم إلا في سعاة الحياة الدنيا.
هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم في هذه الحياة ولكن
الناس لمّا يستعدوا لها تمام الاستعداد ؛ لذلك لم يرعوها حق رعايتها ونعتقد أن
سيعودون إليها في يوم من الأيام . نقول : يعودون إليها عودًا ، دون يقصدون إليها
قصدًا ؛ لأنها قد وجدت في الجملة مدة قليلة على عهد الخلفاء الراشدين فرقص لها
العالم الإنساني وأقبلت عليها شعوبه أيما إقبال ثم طفق نورها يخبو بما أفسد فيها
الأمويون ومن بعدهم ولكنه كان على ضعفه أفضل عند جميع الأمم من كل ما عداه
لذلك كان يخرجهم باختيارهم من جنسياتهم إخراجًا ، فيدينون لها شعوبًا ويدخلون فيها
أفواجًا .
 
غرة ذو القعدة - 1323هـ
27 ديسمبر - 1905م​
( كشف الخبايا - والمسلمون والقبط )
ظهرت جريدة أسبوعية بهذا الاسم لعبد الحميد أفندي فريد الذي كان قبطيًّا
فأسلم تاركًا خدمة الكنيسة القبطية التي كان واعظًا فيها وخدمة مدرسة القبط في
ملوي وكان ناظرًا لها تاركًا هذا وهو مورد معاشه لأنه اعتقد بعد طول البحث بحقية
الدين الإسلامي فلقي من القبط مناهضة شديدة ومناصبة قوية كما هي عادتهم ، حتى
أنهم هددوه واتهموه بما يحكم فيه القضاء حكمه المهين لو ثبت فلم تثبت التهمة ،
ولكنه هو ثبت في الفتنة ، وأنشأ هذه الجريدة يبين فيها الآيات والدلائل التي أخرجته
من دين وهدته إلى آخر ، ويذكر فيها بعض ما لقي من القوم الذين فارقهم ، وما هم
عليه مما نفره منهم ، فينتقد جميع ما يراه منتقدًا من هذه الطائفة ، وقد صدر العدد
الأول من الجريدة في 14 شوال الماضي وفيه شيء كثير من ذلك .
لو أن القوم عذروا الرجل فيما ظهر له أنه الحق ولم يفتنوه ليكتم اعتقاده
وينافق بإظهار خلافه لما تصدى للاشتغال ( بكشف الخبايا ) وقد يقرأ قارئوهم هذه
الكلمات التي كتبتها فيفهم منها أنني أنتصر له وأحمد عمله ؛ لأنه صار مسلمًا ، فأنا
أتعصب له تعصبًا جنسيًّا كما يعهد منهم وممن اتخذ الدين جنسية من المسلمين وغير
المسلمين . ولكن من يقرأ المنار يعلم أنني أدعو دائمًا ؛ لأن يكون الدين كله لله لا
للعصبية الجنسية . وقد قال نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - " ليس منا من دعا
إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية "
رواه أبو داود عن جبير بن مطعم أدعو إلى هذا لاعتقادي أن الناس إذا تركوا
العصبية الجنسية فإنهم يعذرون كل معتقد في اعتقاده ولا يفتنونه فيه ، وإنما يدعو
الداعي إلى اعتقاده بالبرهان الذي يستند إليه فيه كما أمر الله تعالى بقوله { ادْعُ إِلَى
سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ( النحل : 125 ) ومن كان على بينة من
اعتقاده فهو يعتمد في نشره على بيانه للناس كما قال تعالى{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ } ( البقرة : 256 ) وسنة الله في الخلق تقضي باختيار
الأمثل ، وترجيح الأفضل ، متى وجدت الحرية ، وزال الاضطهاد والفتنة .
رأيت في جريدة ( كشف الخبايا ) كلمة لعلي لو لم أرها لم أكتب ما كتبت ،
رأيت فيها الرجل يقول القوم فيما حكاه أن أحدهم قال له - وهو أقرب الناس إليه
وأعز الأصدقاء له - : ( يا ليتك كفرت بالله وصرت وثنيًّا أو طبيعيًّا ، فكان ذلك
أولى وأحسن من دين محمد .. ) ويا ليته حذف ما حذفت من قوله فلم يكتبه كله .
ولا شك عندي بأن قائل هذه الكلمة لا حظ له من الدين إلا العصبية الجنسية السوءى ،
وبغض المسلمين ؛ لأن كل متدين ، بل كل إنسان يرى أن أقرب الناس إليه فيما هو
عليه من كان مشاركًا له فيه على نسبة ما به الاشتراك فأقرب الناس من الكتابي من
كان يؤمن بالله وبالرسل والكتب ، ثم من كان يؤمن بالله دون الرسل ، ثم من كان
له دين ما ولو وثنيًّا وأبعدهم عنه من لا يشاركه في شيء من ذلك فكيف يكون قائل
تلك الكلمة مسيحيًّا يدين بما أمر المسيح من محبة الأعداء ثم يقول ما قال في دين ونبي
جاء في كتابه { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } ( المائدة : 82 ) .
ليس الذنب في هذه العصبية الجنسية الجاهلية خاصًّا بالقبط ، بل هي عامة
بعموم الجهل في البلاد فغوغاء المسلمين وكثير ممن يعدون من نبهائهم يأتون
بالأعمال المتكررة في الحفاوة بمن يسلم من النصارى فيحفظون قلوبهم ويحركون
أضغانهم وذلك ضار بمصالحهم الدنيوية التي تتوقف على البر والمجاملة ، وحسن
المعاملة لا على ترك الإيذاء فقط وليست من الدين في شيء ، بل هم مخالفة له ؛
لأنه ينهى عن الإيذاء ويأمر بالعدل والإحسان { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} ( الممتحنة : 8 ) ومن الدلائل على أن عمل هؤلاء الذين يفرحون ويطربون بمن
يسلم من النصارى من عصبية الجاهلية لا من الغيرة الإسلامية أن أكثرهم يجهلون
عقائد الدين ، وآدابه وأحكامه ولا يكادون يعملون بما يعلمون منها .
المسلمون والنصارى في هذه العصبية الجاهلية سواء ، والعارفون بمضارها
من الفريقين قلما ينهون عنها ، وقد علمت مما قص علي من الوقائع في ذلك أن
الفرق بين المسلمين والقبط فيها من وجه واحد ، وهو أن علماء المسلمين وكبراءهم
من الحكام وغيرهم قلما يوجد فيهم من يميل إلى ما تفعله العامة ، أو يساعدهم عليه
وأن القبط يعملون ما يعملون بتواطئ بين كبرائهم من رجال الدين ، ورجال
الحكومة وغيرهم ، والسبب الطبيعي في ذلك أن ما يفعله المسلمون لا يحتاج إلى
رأي ، ولا تدبير ، ولا مساعد ، ولا نصير ؛ لأنه عبارة عما يسميه فاعلوه من العامة
( هيصة ) يجتمع فريق من الغوغاء يحتفلون بالمسلم الجديد بالصياح في الشوارع
بالدعاء للإسلام والتعريض بالكفار . وقلما يتنصر مسلم وإن وقع ذلك لا يبالون به
ولا يجتهدون في إرجاع المتنصر عما ذهب إليه . وأما القبط فإن جل فعلهم في منع
من يريد الإسلام من الدخول فيه بالترغيب والترهيب ثم الإيذاء ، ولا يخلو ذلك من
خطر على فاعله ، فالترهيب مع اتقاء الخطر لا يكون إلا من كبراء الأمة رأيًا
ونفوذًا . إن تواطؤ كبراء القبط على ما يتعلق بشرفهم آية بينة على حياتهم القومية ،
وقوة رابطتهم الجنسية ، وهم يفضلون المسلمين بهذا ، ولكن توجيه هذه القوة إلى
مقاومة من يدخل في الإسلام ، والكيد له ، والحيلولة بينه وبين زوجه وولده مما لا
تقل فائدته ، ولا تؤمن غائلته ، فلو تساهلوا فيه وتركوا من يسلم وشأنه لكان خيرًا لهم
وإن كان يعسر عليهم ما دام المسلمون مصرين على تلك المظاهرات الصبيانية . فأنا
أدعو الفريقين إلى ترك الدين لله وجعل الرابطة الملية حاديًا يحدو بالأمة إلى
الاعتزاز بالعلم والعمل ولا عزة بمن يتوجه إلى غير دينه مقتنعًا معتقدًا ثم يترك ذلك
خوفًا ويعيش منافقًا .
ثم إنني أنصح لعبد الحميد أفندي فريد المسلم الجديد بأن يجعل عنايته في طلب
فضائل الإسلام والاجتهاد في التحقق بها حتى لا يكتب ولا يأتي ما لا يبيحه له فقد
رأيت فيما كتبه تحت عنوان عن أبواب الكنيسة السرية وأمورها الخفية إسناد حب
الباطل واتباع الفساد إلى بلعام بعد جعله نبيًّا والمسلمون لا يعترفون بنبوة بلعام حتى
على ما ذكر في التفسير من كونه هو المراد بقوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
آيَاتِنَا } ( الأعراف : 175 ) كما يعلم من مراجعة كتب التفسير . وأنصح له أن لا
يكتب ما يكون سببًا للعداوة والبغضاء فإن كان للقبط سيئات خفية فالشرع الإسلامي
لا يأذن بفضيحة الناس وإظهار سيئاتهم لما في ذلك من إعلان القبيح وغير لك من
المضار وإن كان فيها ما يضر المسلمين جهلهم به ، فالتحذير منه مما لا تعسر مع
الأدب والاحتراس وما ذكره في الأبواب السرية ليس من النصيحة للمسلمين في
شيء . الجريدة تطلب من صاحبها في ملوي وقيمة الاشتراك فيها 40 قرشًا في
مصر ويقبل من طلاب العلم كافة ومن خدمة الجوامع نصف القيمة
 
غرة ذو الحجة - 1323هـ
26 يناير - 1906م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
أبونا آدم ومذهب دارون
من باب الانتقاد على المنار

كتب إلينا بعض القراء وكلمنا بعضهم في إنكار ما كتبه الدكتور محمد توفيق
أفندي صدقي في مقالات ( الدين في نظر العقل ) عن خلق آدم ومذهب دارون .
وأنكر بعضهم سكوتنا له على ما كتب فنجيبهم :
( أولاً ) بأنه ليس من شأن أصحاب الصحف أن يقرنوا رأيهم بكل ما
ينشرونه لغيرهم ، و ( ثانيًا ) إن الكاتب قد ذكر ما ذكره في المسألة على تقدير
ثبوت مذهب دارون ثبوتًا قطعيًّا ، وهو غير ثابت عنده الآن ؛ فهو يقول : إن مذهب
دارون في المسألة ظني لا يقيني ، وهو إن ثبت بالبرهان اليقيني فإنه لا ينقض
القرآن ، بل يمكن أن يؤخذ من القرآن ما يوافقه .
واعلم أن ما ورد في القرآن من خلق آدم من تراب ومن طين قد ورد نظيره
في خلق الناس كلهم ، قال تعالى في سورة الأنعام : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِين } (الأنعام : 2 ) وقال في سورة الصافات : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا
خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } ( الصافات : 11 ) فهل هذه الآيات نصوص قاطعة على
أن المخاطبين بها خلقوا من الطين مباشرة ؟ وإذا جاز تأويلها جاز تأويل ما ورد في
آدم وذلك بمثل قوله تعالى في سورة المؤمنين { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن
طِينٍ } ( المؤمنون : 12 ) ومعلوم أن مادة النسل من الطعام وأصله مواد الأرض
النباتية . وما ورد في خلق الناس من نفس واحدة ليس نصًّا قطعيًّا في أن المراد
بالناس جميع البشر ؛ إذ لو كان ذلك نصًّا لما قالوا في تفسير قوله تعالى في سورة
الأعراف : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } (الأعراف : 189 ) وهو أن الخطاب لقريش والمراد بالنفس الواحدة أبوهم قصيّ ،
وذلك أن الله تعالى أخبر عن هذه النفس الواحدة وعن زوجها أنهما جعلا له شركاء ،
وآدم لم يكن مشركًا . وقد سبق لنا بيان آخر لمعنى الآية ، والمراد هنا أن اختلاف
المفسرين في معنى الآية دليل على أنها ليست نصًّا قطعيًّا في أن النفس الواحدة آدم.
وليت شعري ماذا يضر المسلمين بيان المخرج من اعتراض الكفار على القرآن ،
فمن لم يعجبه هذا الجواب فليأت بأحسن منه وليعتقد غير هذا وذاك ، فإنما غرضنا
بيان أن كلام الله تعالى حق لا سبيل إلى نقضه بحال .


 
غرة المحرم - 1324هـ
24 فبراير - 1906م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الحق والباطل والقوة

{ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } ( سبأ : 49 ) ، { وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ( الإسراء : 81 ) { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء :18 ).
مضت السنة في المغلوبين على أمرهم ، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا
عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم ، وأنهم غير مذنبين ولا
مقصرين ، ولا مسرفين ولا مضيعين ، وجرت عادة الغالبين على أمرهم ،
والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى
وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى ، وقد يعتور الأمة
الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت
بالحق وغلبت ، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت ، وأنها حليفة
الحق في الطورين ، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين ، وتلك سنة الله تعالى في
الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر ، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب
وقهر ، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى
كلمة ( الحق ) ومدلولها الصحيح . وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة
على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك : ( القوة تغلب الحق ) وقد أرسلها
مثلاً ، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً ، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا . والحق أن
الحق قد يخفى ، وقد يُترك ويُنسى ، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه ، ولا قارعه
إلا وقرعه ، ( وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه ) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت
شعبة منه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع , والباطل هو ما
لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه , وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا
متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم ، وهذا مما لا مجال فيه
لاختلاف العقلاء . إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية ، والدينية
والشرعية ، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية ، وفي كل ذلك حق
وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب , وإننا نبين
ذلك , ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم ، فنقول : إن الحق والباطل
يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي :
( 1 ) الفلسفة والنظريات العقلية .
( 2 ) الوجود والسنن الكونية .
( 3 ) السنن الاجتماعية .
( 4 ) القوانين والمواضعات العرفية .
( 5 ) الدين والشريعة الإلهية .
الفلسفة والنظريات العقلية :
اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث ، ومنهم المحق
والمبطل , فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق : إن كثيرًا من الآراء الباطلة في
ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد ، وكثير منها كان موضوع النزاع , وكان أكثر
الباحثين فيه على الباطل ، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ
كثير من السابقين والمعاصرين ، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت
تقول : لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل ، فيكفي
في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً ، ودفع هذا
الظن سهل ، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من
أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام ؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا
ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى
اليقينيات التي لا نزاع فيها . وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين
فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين ، والحق في الدليل هو إفادة
اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله ، فإذا انتهى
أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء
أذعن له مناظره أو كابره . وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة
في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير
معروف لأهلها . بل نقول : إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما
وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من
المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى
المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم
بالنتيجة . وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون
الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن
يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات
الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من
المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة
وبغير بينة .
ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي
ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي
خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم .
الوجود وسنن الكون :
كلُّ وجودٍ حق ، والعدم باطل لا حقيقة له ، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو
حق ، والخلل فيها باطل لا تحقق له ، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون
بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها
ويرجونه { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت } ( الملك : 3 ) ، { الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ( السجدة : 7 ) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام
والخلل ، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به ، فمن كان أعلم بالوجود
والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق . وهذا ظاهر في
نفسه ، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها
مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم ، وإن كانوا يجهلون أن علم
من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم ، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا
مغلوبين على أمرهم ، ومقهورين في أرضهم وديارهم ، وأن منهم المسلمين الذين
يقول كتابهم : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ( يونس :
5 ) ويقول : { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ( الجاثية : 22 ) ، وفي معناهما آيات ، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا
يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم ، وإن جهلت
الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت ، وظَلمت نفسها وما ظُلمت .
السنن الاجتماعية :
للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو
النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها ، وهي ما
عنيناه بالأصل الثاني . وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون
وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم
وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار
إليهما بقوله تعالى في الإنسان : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } ( البلد : 10 ) فهذه السنن
حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل . وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم
هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من
حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر
والمغلوب محق في مخالفته له فيه .
لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها
سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال : { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ } ( الأنفال : 38 )
أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه . وقوله في سياق الكلام
على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } ( الحجر
: 13 ) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ( آل عمران : 137 ) ،
وفي الآية الثالثة بعدها : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ... } ( آل عمران : 140 ) الآيات .
فهذه الآيات البينات حق ، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق ، فالجهل
بسنن الاجتماع باطل ، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل ، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها
أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة
فيقال : إن الباطل قد يغلب الحق ؟ كلا ، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب
والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في
البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال
الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى
طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر !! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان
بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى
هذه السنن ؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها
وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال :
إن الباطل قد غلب الحق ؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي
الباطلة ؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ ، وكل غالب فهو بسنن الحق
قد غلب ، أينصرون ويسودون , وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ,
وحكامهم يظلمون ولا يعدلون ؟! , والله تعالى يقول في بيان سننه الحق : { فَلَوْلاَ
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ
أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود : 116-117 ) فسروا الظلم ههنا
بالشرك ، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في
الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه
أمراؤهم وملوكهم ، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه ؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا
تستحق الإهلاك ؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران .
القوانين والمواضعات العرفية :
لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها ، ولكل قبيلة من القبائل
البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية ، وللدول قوانين في
الحقوق العامة والمصالح الخاصة ، فهذه القوانين والمواضعات حقوق عرفية فالآخذ
بشيء من هذه الحقوق يكون هو الغالب لتاركها مادامت الأمة والدولة أو الدول التي
جعلت القانون حقًّا في عرفها حاقة له ، فإذا رجعت الأمة عن عرفها أو الدولة عن
قانون لها في بلادها أو الدول عن بعض القوانين العامة لم يعد ذلك حقًّا ؛ لأن حقيته لم
تكن لذاته وإنما كانت للعرف الذى يكفله أهله الواضعون له وقد زال ، مثال ذلك
اعتداء دول أوربا على الممالك المشرقية وافتياتها على حكومات هذه الممالك ، تركيا
فما دونها ، وقد علم من القوانين العامة أنه ليس لدولة أن تفتات على الأخرى في
إدارتها الداخلية ، ولكن أوربا تفتات وتغلب فهنا يظن الجاهل بالفصل بين الحق
والباطل أن الباطل قد غلب الحق بالقوة ، ووجه الخطأ في هذا الظن أن هذا الحق
الذى ندعي أن أوربا سلبته من تركيا في مصر أو كريت مثلاً إما أن يكون حقًّا
طبيعيًّا يملك ويحفظ بمقتضى سنن الله في الاجتماع البشري أو حقًّا عرفيًّا يملك
ويحفظ بمقتضى القوانين العامة التي تعترف بها الدول وتكفلها ؛ فإن ادعى المدعي
الشق الأول فإننا نمنع دعواه ونقول : إن سنن الاجتماع لا تتبدل ولا تتحول كما
نطق الكتاب العزيز ودلت التجربة والمشاهدة ؛ لأن واضعها وحافظها هو العزيز
الحكيم وهي تنيط الغلبة ودوام السيادة بالعدل والعلم بالسنن والإصلاح في الأرض
والمنعة والتقوى والاستعداد للحماية بالقوة وأعظم القوة فيها قوة الأمة المستقلة
العارفة بحقوقها ثم القوة الآلية وذلك غير متحقق في تركيا كأوربا فلا حق طبيعي
هناك .
وأما الحق العرفي فقد قلنا : إنه ليس حقًّا ذاتيًّا وإنما هو حق ما كفله واضعوه
المعترِفون به وقد اتفقت الدول الكافلة للقوانين العامة على أن لا تعامل دول الشرق
بما تتعامل هي به وأن تفتات عليها بحكمة حتى لا يفضي الافتيات إلى الحرب ،
التي يخسر فيها الغالب والمغلوب ، فتبين بهذا أن الباطل لم يغلب الحق في هذه
المسألة بل الحق هو الغالب كما أخبر الله تعالى ، وذلك أن دول أوربا الغالبة عارفة
بسنن الكون وسنن الاجتماع ومهتدية بها وهي الحق وبها الغلب والسلطان ، كما
تقدم البيان مؤيدًا بالقرآن ، فإن قيل : إن أوربا تظلم في البلاد التى تفتات فيها قلنا :
نعم ولكن ظلمها دون ظلم حكام البلاد المفتات عليهم فباطلها أقل وعدلها أكثر فحقها
أكبر وهكذا غلب الحق الباطل ولكن أكثر الناس لا يعلمون ! .
ومن هذا القبيل غلب ألمانيا وانتصارها على فرنسا فإن سببه العلم بسنن
الكون وسنن الاجتماع والعمل به ولذلك قال بسمرك : ( غلبنا بالمدرسة ) وقوله هذا
حق وأما قوله : ( القوة تغلب الحق ) فقد لبّس فيه الحق بالباطل فالقوة الباطلة لا
تغلب الحق لكن القوة الطبيعية الاجتماعية تغلب الحق العرفي وحينئذ يكون الحق قد
غلب حقًّا أضعف منه في الظاهر بل هو لم يغلب إلا الباطل .
يقول الظانون في الحق غير الحق : إن القضاة بظلمهم ووكلاء الدعاوي
بِحِيَلِهِمْ وخَتَلِهِمْ كثيرًا ما يؤيدون المبطل في دعواه حتى يكون له الفلج والظفر ،
ونقول : إن هذا القول صحيح ولكنه لا يفيد المطلوب فإن تأييد الباطل إذا كان من
الحكام فلا قانون ولا شريعة وإنما هو الهوى والظلم يتحكمان وهما من الباطل الذي
لا يغلبه إلا حق من جنسه وهو السلطة العادلة فإذا تنازعت سلطة عدل مع سلطة
ظلم وغلبت الثانية الأولى تكون المعارضة صحيحة وأما الدعوى فليست من جنس
السلطة فيقال : إنه يجب أن يغلب حق الأولى على باطل الثانية ، وإن كان الحاكم
عادلاً والخصم المبطل أو وكيله المحامي عنه ألحن بحجته وأقدر على البيان من
الخصم المحق أو وكيله فالتغالب إذًا بين الحجة والحجة ولم تنس ما قلناه فيها عند
الكلام في الفلسفة والنظريات والعقلية .
إن الإنسان يظلم والظلم من الباطل حتى قيل : إن الظلم طبيعي في البشر
ومنه قولهم : الظلم كمين في النفس ، القدرة تظهره والعجز يخفيه ، وقال المتنبي :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذا قول بأن الإنسان جبل على الباطل وهو على ظهور شبهته غير صحيح
وإنما الصحيح هو ما قاله الخالق الحكيم في السورة الخامسة والتسعين ، وهو :
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [(التين:1-8 ) .
أكد لنا القول عز وجل بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ؛ إذ أقسم على ذلك
بما ذكَّرنا بعهد الفطرة ومعاهد ظهور الشريعة ذلك أنه خلقه وجعل له من الحواس ما
يدرك به ما يحتاج إلى إدراكه في حفظ نفسه وتوفير منافعها ودفع المضار عنها
ومن العقل ما يميز به بين المدركات الحسية فيعرف صوابها وخطأها وما يحكم به
على هذه المشاعر المدركة فيوجهها إلى الاشتغال بالأنفع والأصلح فهو مجبول على
أن يختار ما هو أنفع وأصلح ، ولكنه لما خلق مدنيًّا مستعدًا للكمال الشخصي
والنوعي بالعمل التدريجي والتعاون . والعمل لا يكون إلا بعلم , والعلم لا يكون إلا
بالكسب ؛ كان هذا الإنسان عرضة للجهل بوجوه المصالح والمفاسد والمنافع
والمضار سواء كانت للأفراد وللأمم والشعوب ، والجهل من الباطل وبه رد الإنسان
بدخوله في طور الحياة الاجتماعية إلى أسفل سافلين فكان أفراده وجماعاته يجنون
على أنفسهم ويظلمونها من حيث يظنون أنهم ينفعونها ويؤيدون حقوقها ففطرتهم
تطلب الحق الذى فيه المصلحة والمنفعة وعقولهم تخطئ في تحديده فتقع في الباطل
فكانوا محتاجين إلى مساعدة للفطرة وللعقل يحدد لهما الحقوق النافعة ويميزها من
الأباطيل الضارة ، وذلك هو الدين الذى نفثه روح الحق في روع كل واحد من أولئك
الشارعين الذين ظهروا في معاهد منبت التين والزيتون وطور سِينِين وفي ذلك البلد
الأمين ( مكة المكرمة ) وغيرها فصلح بها أمر الناس وساد الحق على الباطل ما
كانوا يهتدون بتلك الشرائع إيمانًا وعملاً صالحًا كما قال عز وجل .
فالباطل ليس من منزع الإنسان بطبعه ولكنه من العوارض اللازمة له من حيث
هو مريد مختار في علمه وعمله كاسب لهما بالتدريج . ولذلك أجمع العلماء في هذا
العصر على سنة من سنن الاجتماع التي جاء بها القرآن في شأن الحق والباطل وهي
ما يعبرون عنه بالانتخاب الطبيعي وقد بيَّنها الله تعالى بقوله : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } ( البقرة : 251 ) ، وقوله : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ... } ( الحج : 40 )
... إلخ وقوله : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ } ( الرعد : 17 ) وبالآيات التي افتتحنا بها هذا المقال . وبمثل
قوله : { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ( هود : 49 ) وقوله - في السحر الذى هو
باطل لا حقيقة له - : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ( يونس : 81- 82 ) وقوله بعد إرشاد للأمم منه النهي عن الفساد في الأرض بعد
إصلاحها : { وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ( الأعراف : 86 ) وقوله بعد
بيان أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً :{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ( ص : 28 ) .
فاتفاق الحكماء على مضمون هذه الآيات وأمثالها في هذا العصر هو اعتراف
بأن للحق الغلبة والسلطان على الباطل إذا هما وجدا وتنازعا وعلى أن الإنسان
مفطورعلى تغليب الحق على الباطل لولا ما يعرض له من الخطأ في التمييز بينهما ،
وإنما يسود الباطل في غيبة الحق أو غفلته عنه .
ذكرت لصديق لي هذا المبحث قبل أن أتم هذا المقال فأخبرني أنه يحفظ عن
الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني تمثيلاً في مصارعة الحق للباطل معناه أن الحق
كان يصرع الباطل ويصفعه ، فرأى الباطل أن لا طاقة له به فاستشار أعوانه
فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون على أن يكيدوا للحق كيدًا فجاءوه يلقون إليه السَّلَم
ويدعونه إلى مأدبة أعدوها له فلما حضر أجلسوه على بساط جميل تحته حفرة
عميقة فوقع في الحفرة فطفقوا يهيلون عليه التراب حتى دفنوه ثم جلسوا فوق الحفرة
لئلا يخرج منها فيبطش بصديقهم الباطل فكان ينتفض بقوته العظيمة يحاول الخروج
وهم يتحاملون بأثقالهم عليها خوفًا منه والباطل يسرح ويمرح آمنًا من رؤية الحق له ؛
لأن أولياءه حالوا بينهما ولكن الحق ما عتّم أن انتفض انتفاضة نسف بها أولئك
المتثاقلين وخرج إلى الباطل فأوقع به ودفنه وأراح الناس من شره .
وحاصل التمثيل أن الباطل إنما يسود ويثبت حيث لا يوجد من يقوم بالحق
ويقاومه به , وأن ذلك لا يدوم . فكل دولة أو حكومة ظالمة تخالف قوانين العدالة
في الأرض وتهضم حقوق الرعية فهي إنما تسود بباطلها ما دامت الرعية دافنة
للحق دائسة له فيكون باطل الحكومة غالبًا لباطل الرعية حتى إذا ما انتشر الظلم
وتفشى وذاق آلامه الجماهير فاستصرخوا الحق واستغاثوا به لبَّاهم مسرعًا وصار
على باطل الحكومة الظالمة ( فجندله ) وربما ( جندلها ) معه فإذا استماتت الرعية
وأنِست بالظلم فإن سنة الكون تسلط على الحكومة الظالمة حكومة أجنبية عادلة أو
ظالمة تفتك بها وتقلص ظلها ثم يكون بقاء الحكومة الثانية على سنة الله في الحكومة
الأولى { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً } ( فاطر : 43 ) .
الدين والشريعة الإلهية :
ما قلناه آنفًا يثبت أن الدين في جملته حاجة طبيعية للبشر وإن كانت أحكامه
التفصيلية مما يجري فيه اختيارهم فهم يحكمون فيها عقولهم وأفكارهم ويتبعون فيها
قاعدة الأصلح والأنفع لهم . فالحق والباطل يجريان في الدين من وجهين :
( أحدهما ) كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها وأحكامه في العبادات
والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق وتوثيق الروابط وشد
الأواخي بين الناس وأحكامه في القضاء والسياسة والإدارة موافقة لسنن الاجتماع
وقواعد العدل ، أو كونها ليست كذلك .
( وثانيهما ) كون عقائده راسخة في عقول الأمة مؤثرة في قلوبها ، وآدابه
حاكمة في شعورها ووجدانها ، وأحكامه محترمة عند أمرائها وجمهورها ، أو كونها
ليست كذلك . فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل
مؤيد بحق إجماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل ولأهله الغلب والسلطان على
من ينازعهم فيه ويحاول إبطاله أو إرجاعهم عنه من المعطلين ؛ لأنه إما أن يجمع
نوعي القوة في سنن الاجتماع وفي القوانين والمواضعات العرفية التي تسنها الأمم
لأنفسها وتعتقد أن فيه خيرها وحفظ حقوقها كما تقدم وإما أن ينفرد بالثانية . وما
اجتمع فيه الحقان يسود على ما اتفق له أحدهما فقط كما ساد الإسلام في أول نشأته
على سائر الأديان لأنه حق من كل وجه والأمة متحدة فيه .
والتاريخ يؤيد ما نطق به الكتاب في ذلك بقوله : { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ( النساء : 141 ) وقوله : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 ) ولكن هذا النصر خاص بالمؤمنين حقيقةً لا ادعاءً أو جنسيةً كما
قال في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } ( محمد : 7-8 ) وقال عز وجل :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... } ( النور : 55 ) - إلى قوله : { ... وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الفَاسِقُون } ( النور : 55 ) وقد فسروا الكفر هنا بكفر النعمة كالظلم والبغي
والإفساد في الأرض .
ونقول : إن عمل الصالحات - الذي قيد الوعد بالنصر - يشتمل مثل قوله تعالى
في وصف المؤمنين من سورة الشورى : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ( الشورى : 38-43 ) ، ومثل قوله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ( النساء : 135 ) وقوله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ( المائدة :
8 ) فهو يأمرهم بالقيام بالقسط دائمًا وهو العدل وبالشهادة لله بلا محاباة قريب ولا
غني ولا رحمة فقير مبطل ويأمرهم أن لا يحملنَّهم شنآن قوم أي عداوتهم على ترك
العدل فيهم بل يحتم عليهم العدل حتى مع الذين يعادونهم .
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه إنما ينصر رسله وعباده المؤمنين الذين
يصلحون في الأرض ولا يفسدون على الظالمين كقوله : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } ( إبراهيم : 13-14 ) والآيات في هذا المعنى وهو نصر المصلحين في الأرض
وإهلاك الظالمين والمفسدين - كثيرة جدًّا .
لا يوجد في مقابل هذه الآيات آية واحدة تدل على أن الله ينصر الذين
ينتسبون إلى الإسلام وإن لم يقوموا بالقسط والإصلاح وينهوا عن الظلم والفساد فهل
يجيز هذا الكتاب الحكيم لمدعي الانتماء إليه بالقول دون العمل إذا رأى استيلاء
الأوربيين على بلاد المسلمين والافتيات على حكامهم في سائر بلادهم التى لم يتم
لهم الاستيلاء عليها - أن يقول : إن هؤلاء الأوربيين منهم الملحد ومنهم من يقول
بالتثليت فكيف سادوا بقوتهم على المسلمين ، وأهل التوحيد وهو حق اليقين ؟ ، كلا
إنه لا يجيز لهم هذا القول بعد ما بيَّن لهم أنه لا يهلك الأمم بالشرك إذا كانوا
مصلحين في الأرض بالعدل وسائرين على سنن الله في العمران ولكنه يهلك الأمم
الظالمة مهما كان اعتقادها كما علمت من الآيات التى أوردناها آنفًا ومثلها كثير .
وأعظم عبرة للمسلم انكسار الصحابة مع داعي الحق الأعظم صلى الله عليه
وسلم في وقعة أُحُد لما خالفوا سنن الاجتماع في الحرب فخالفوا القائد وتركوا حماية
ظهر الجيش وفيها نزل : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } ( آل عمران : 165 ) فكل من خالف سنن الله الحق يغلب
على أمره بحق حتى يرجع وما أسرع رجوع المؤمن إلى الحق إذا زلّ عنه .
لهذا أقول : إن الوصول إلى الحق اليقين في التوحيد ينافي الإصرار على
الظلم ، والتمادي في الفساد والبغي ، كما نطق القرآن وشهد العقل ، فلو لم يجعل
الإسلام الأعمال الصالحة بعد ترك المفاسد سياجًا للإيمان وعنوانًا له ودليلاً عليه
وشرطًا لاجتناء ثمراته في الدنيا والآخرة لكان العقل وحده كافيًا في الدلالة على أن
الموقن بعقله المذعن بقلبه لعقيدة التوحيد الخالص لا يؤثر هواه ولا هوى الرؤساء
والحكام على رضوان هذا الإله العظيم الحكيم القوي العزيز وإنما رضوانه بالتماس
فضله من سننه في خلقه ، والوقوف عند ما حدده من الشكر والعدل في شرعه ، فهو
يمضي في تعرّف السنن والأحكام والعمل بها لا يخاف في ذلك وَثْبَات الظالمين
لقوله عز وجل : { فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 175 )
وقوله بعد ذكر سنته في الأيام : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } ( آل عمران : 140 ) ،
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 139 ) فهل
تنطبق هذه الآيات على قوم يخافون الظالم أن ينهوه عن ظلمه ، ولا يخافون الله
تعالى أن يخرجوا عن حكمه ، وقد جعلوا دينه جنسية ، لا هداية حقيقية ، فهم
يرجون سعادة الدنيا والآخرة بالانتساب إليه ، أو بالتوسل والدعاء لأشخاص ماتوا
عليه ، وهم مختلفون متفرقون ، متنازعون متواكلون ، جاهلون متكاسلون ، لا
يبذلون ولا يتعاونون ، ولا ينظرون ولا يتفكرون ، { وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ } ( يوسف : 105-106 ) ، { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ( الحجرات : 15 ) .
هؤلاء الصادقون هم الموعودون بنصر الله وتأييده : { وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه } ( الحج : 47 ) فلو صدق المسلمون اليوم ما عاهدوا الله عليه باتخاذ الإسلام دينًا
من العمل بكتابه والاهتداء بسننه في خلقه لما غلبهم أحد على أمرهم فلقد صدقهم
وعده بصدقهم فيما سلف حتى إذا ما فشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوه من بعد ما
أرى سلفهم ما يحبون أخذهم بعدله وسلط عليهم من هم أقرب إلى الأخذ بسننه منهم
كما توعدهم بقوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( الأنفال : 46 ) ( راجع بحث الاختلاف
والتنازع في باب التفسير من هذا الجزء ) .
طال المقام ، والمبحث يطلب زيادة بيان لا يمكن الإتيان عليه إلا في مؤلَّف
خاص به ؛ لأن المسألة من أبكار المسائل التى لم يخترعها أحد من الكتاب فيما نعلم
والشبهات فيها كثيرة وإنما اهتدينا فيها بهداية القرآن وآياته .
وخلاصة ما أقول في شأن المسلمين مع غيرهم في هذه الأزمنة أن من
يستخرج من القرآن الآيات الناطقة بسنن الله تعالى في أهل السيادة والعزة من
صفاتهم وأعمالهم ، والآيات المبينة لسننه في الأمم المستحقة للإهلاك والإذلال ،
ويعرض كل ذلك على الأمم الغالبة السائدة والأمم المغلوبة المقهورة يتجلى له صدق
قوله تعالى في سيادة الحق وغلبته وإزهاقه للباطل في كل أمة . وهذا النوع من
أنواع علوم القرآن ينهض وحده حجة على أن ذلك النبي الأمي الذى بعث في تلك
الجاهلية العمياء كان ينطق بوحي من الله ولم يعلِّمه بشر بل خفيت هذه المعارف
العلية عن أفهام أكثر البشر حتى بعد مجيء القرآن بها وإنما صدقها آنًا بعد آن
برؤية آياته تعالى في الآفاق وفي ترقي البشر في أنفسهم كما قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ } ( فصلت : 53 ) .
فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم أُخذوا بذنوبهم ، لا بقوةٍ غلبتهم على حقهم ،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ( الشورى : 30 ) وأن معظم هذه
الذنوب على عواتق رؤسائهم وكبرائهم ، فلا يعذرون باستبدادهم واستعلائهم ، وعلى
العقلاء وأهل البصيرة منهم وهم محل الرجاء في كل أمة استعدت للحياة - أن
يعلموا أن ليس لهم إمام يدعون إليه ، ويجمعون الكلمة عليه ، إلا هذا القرآن الذى لا
يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، فعليهم أن يجتمعوا لهذه الدعوة وأن
يتناصروا في سبيلها وأن لا ينتظروا نصر الحق من المبطلين ، ولا يتوانوا فيها
خوفًا فإن هذا الأمر إذا خرج من أيديهم يوشك أن لا يعود إليهم .
إن الإسلام لا يُنصر في الدنيا بالأماني والأحلام ، ولا ينجي في الآخرة
بالخرافات والأوهام ، إن أهل الحق لا يُظلمون ، إن الظالمين لا يسودون ، { فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } ( غافر : 78 ) ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } (الأحقاف : 35 ) ، { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } ( الأنعام : 47 ) ، وهذه نُذُره تعالى لقوم لا يعدلون ، بل هم
بربهم يعدلون ، فبادروا أيها المؤمنون الصادقون { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا
وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ( الأنفال : 21 ) ، ولا تغتروا بدينكم الذي إليه تنتسبون ،
ولكنكم به لا تعملون ، فلقد أنزل الذكر على مَن قبلكم فسادوا وهم عاملون ، { فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } (الأنعام : 44-45 ) وقد أنذركم ما حل بهم لعلكم تعتبرون : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً
آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلىَ مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } ( الأنبياء : 10-13 ) ، { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ } ( الأنبياء : 14 ) ، { فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً
خَامِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً
لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ( الأنبياء : 15-18 ) .
__________
(9/52)
 
غرة ربيع الأول - 1324هـ
25 إبريل - 1906م
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
العقل و القلب و الدين

كانت العرب تطلق لفظ القلب على قوة الشعور ووجدان اللذة والألم وقوة الفكر
والعقل الذي يميز المرء به بين النافع والضار ؛ لأن قلب الشيء عندها لبه ومحضه
وخالصه , ومن الأول قوله تعالى : { وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ } ( آل عمران :
159 ) ومن الثاني : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ( ق : 37 ) وقوله :
{ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } ( الحج : 46 ) وقد جرى عرف بعض الأمم على
إطلاق لفظ القلب على المعنى الأول خاصة , وجعلوا سلطانه على الأمور الأدبية ,
واكتفوا بالتعبير عن الثاني بلفظ العقل وجعلوا سلطانه في الأمور العلمية , وهو
اصطلاح لا تأباه لغتنا التي تجيز تخصيص اللفظ بأحد معانيه وهو ما نجري عليه
في هذه المقالة .
ثم إن أهل هذا الاصطلاح جعلوا الدين من قبيل الأول حتى صاروا يقابلون
العلم بالدين كما يقابلون بين العقل والقلب , وذهب الكثيرون إلى أن هذه المقابلة
مقابلة تضاد فجعلوا العقل خصيمًا للقلب والعلم عدوًّا للدين ! ورأى آخرون منهم
أنها مقابلة تباين فجعلوا للقلب حكمه وللعقل حكمه ومنعوا أن يعدو أحدهما طوره
ويحكم غيره .
حجة القائلين بالتضاد أن القلب موضع الشعور الوهمي الذي لا حقيقة له فهو
يخاف مما لا يُخَاف أو لا يخيف , ويرجو ما لا يُرجَى , ويتقحم به الوجدان مواقع
الهلكة فيبذل النفس والنفيس فيما لا فائدة فيه فهو سلطان أخرق جائر لا يدين له إلا
النساء والأطفال ومن ضعف عقله من الرجال ، وأعوانه رجال الدين الذين عرفوا
في كل زمان ومكان بإقامة هياكل الوهم ، ومعاداة العقل والعلم ، وجعل وجدان الدين
آلة القهر في أيدي الرؤساء المستبدين ، فإذا كان الشعور بأن في الكون سلطة غيبية
يجب لها الخضوع والعبودية - هو أعلى وجدان للقلب وأنفذه حكمًا على الجوارح ،
وإذا كان سائر أنواع شعوره ووجدانه كالخوف والرجاء والبغض والحب والقسوة
والرحمة تخدم هذا الوجدان وتؤيده ، وإذا كانت تلك السلطة العليا قد تمثلت للوهم
الإنساني في الجماد وقوى الطبيعة وفي الحيوان فعبدها الإنسان , ثم تمثلت له في
أفراد منه فعبدهم وعدّ نفسه قد ارتقى بذلك ارتقاءً مبينًا ، وإذا كان العقل قد كشف
لقوم بطلان الوهم في أكثر تلك المظاهر للسلطة الغيبية ولآخرين بطلانه في جميعها
حتى صار المرتقون من البشر فريقين : فريقًا لا يزال ينقاد لذلك الوجدان ولكنه
ينزهه عن التقيد بأي مظهر من مظاهر الطبيعة ويفند أكثر ما وصفته الأديان به ,
وفريقًا يحكم بأن ذلك الوجدان وهم لا حقيقة له ، وإذا كان هؤلاء المرتقون أقرب
الناس من السعادة في معيشتهم ومن النفع للناس وأبعدهم عن الشقاء الذي تثيره
الأوهام التعبدية ، وتمده سائر الوجدانات الدينية ، وإذا كان الحس الظاهر الذي هو
أقوى من وجدان القلب وفكر العقل يخذل الأول بما ظهر من مخالفة كثير من
النصوص الدينية للأمور المحسوسة وينصر الثاني ويؤيده ؛ أفلا يكون القلب والعقل
ضدين في ذاتهما وفي أثرهما في الناس , ويكون من الصواب أن نجعل العقل هو
الحاكم والقلب هو المحكوم وأن نؤدب الوجدان بسوط الفكر والبرهان ، وندع لحكم
العقل والحس جميع أحكام الأديان ؟
وأما حجة الذاهبين إلى أن لكل من القلب والعقل سلطانًا مستقلاًّ يباين الآخر
ولا يناقضه , وأنه يجب أن لا يعدو واحد منهما طوره ويخرج عن حدوده فهي أنه
لا ينكر عاقل أن الوجدان أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه كما أن الفكر أمر
وجودي ثابت متحقق في نفسه وأن لكل واحد منهما أثرًا منه الضار والنافع ,
وأحكامًا منها الخطأ ومنها الصواب وأن الإنسان في حاجة إلى كل واحد منهما فلم
يخلق له أحدهما عبثًا , وأنه لا بد لكل منهما من قانون تعليمي تكون الغاية جعل
أحكامه وآثاره نافعة للإنسان , وأن قانون القلب هو الدين الذي يوجه جميع عوامل
شعوره ووجدانه إلى الخير والفضيلة , ويصرفها عن الشر والرذيلة . وقانون العقل
هو العلم بالأكوان الذي يجلي للإنسان حقائقها ويمكنه من الانتفاع بها فإذا كان خطأ
العقل في بعض المسائل لا يقضي ببطلان الثقة به ولا يقتضي إزالة سلطانه وعدم
الثقة بسائر أحكامه فكذلك نقول في خطأ القلب , وإذا بحثنا في تاريخ الإنسان نرى
أن علماء القلوب الذين جاءوا بقوانين الأديان كانوا أنفع للبشر من علماء الكون
الذين وضعوا قوانين العلوم المادية والنظرية , فلو فرضنا أن الإنسان يستغني
بأحد الفريقين عن الآخر لكان يجب أن يستغني عن الفلاسفة وعلماء المادة دون
النبيين والمرسلين لأنه قد يكتفي في حياته المادية بتجاربه التي يسوقه إليها
الإحساس الفطري عن توسيع دائرة البحث في الجماد والنبات والحيوان وتكثير
الصنائع التي يشقى بها الملايين من الناس ليسعد المئات والألوف بشقائهم , ولكنه
لا يكتفي قط بترك حبل شعوره ووجدانه على غاربه , فإن حكم وجدان اللذة والألم
أقوى على النفس من كل حكم وهو عرضة للبغي والعدوان إذا لم يكن له مؤدب من
جنسه يضع له حدودًا لا يتعداها . وهذا المؤدب هو وجدان الدين .
لا ينكر علينا علماء المادة أنه لا يوجد في الخليقة شيء من العبث وأن كل
شيء خلق كاملاً أو كمل بعمل الطبيعة فيه إلا الإنسان فإنه خلق أشد الكائنات
المعروفة نقصًا وأشدها استعدادًا للكمال , وأن كماله يكون بعلمه وكسبه وأن كل قوة
من قواه الحسية والمعنوية والنفسية والجسدية التي فطر عليها هي آلة من آلات
استعداده للكمال بكسبه التدريجي , فقوة العقل التي أودعت في الإنسان لأجل التمييز
بين المعقولات الصحيحة والباطلة ووجدان الدين العام وهو الشعور بالسلطة الغيبية
الذي أودع في الفطرة لأجل تأديب سائر الوجدانات بما يزعها عن الشر ويصرفها
إلى الخير ، كل منهما قد وجد لحكمة ظهر أثرها في ارتقاء البشر بالتدريج كما هي
السنة في جميع قواهم وآثارها . فقول الماديين بالنشوء والارتقاء ظاهر في شئونهم
الدينية والمدنية أو القلبية والعقلية ؛ فلماذا نعد خطأ البشر في استعمال الوجدان
الديني في أطوار الانحطاط موجبًا للقول ببطلان هذا الوجدان وضرره , والحكم
بإعفاء أثره , ولا نعد خطأ العقل في تلك الأطوار موجبًا للحكم ببطلان أحكامه
وإزالة سلطانه ؟ ! .
تقولون : إن رجال الدين قد عاثوا بسلطتهم الدينية فسادًا في الدين , وخادعوا
الناس بالأوهام حتى استعبدوهم , ونقول : إننا نرى في كل من رجال الدين ورجال
العلم المفسد والمصلح فكم من عالم ببعض خواص الأشياء الطبيعية قد غش الناس
بعلمه , وكم من مدعٍ للعلم بها قد أضرهم بجهله , وهذه العلوم المادية في هذا
العصر الذي هو أرقى عصورها قد اتخذت آلات لإهلاك العباد وتدمير البلاد , وما
السحر الذي تعترفون بأنه من أشد الأمور إفسادًا لعقول البشر وضررًا في مجتمعهم
إلا من خداع العلم فإن كان قد استفاد منه كهنة الوثنية فقد أبطله جميع الأنبياء ,
وكان أقوى الشُّبَه للضعفاء على نبوتهم فهو ضد الدين .
ويقول أهل هذا المذهب لخصمهم من الماديين : إننا نعلم أن أقوى شُبهكم على
الدين أمران :
( أحدهما ) ما جاء في كتب الوحي مما قام الدليل الحسي أو العقلي على
خلافه كإثبات التوراة أن الله حكم على الحية بأن تأكل التراب كل أيام حياتها وإثبات
العهد الجديد للتثليث .
( وثانيهما ) ما فيه من الأخبار الغيبية التي لا دليل عليها كوجود الملائكة
والشياطين .
والمخرج منهما سهل .
أما الأول فإذا لم تسلموا بتأويل علماء الدين لهذه المشكلات وجزمهم بأن الخطأ
واقع ؛ فلنا أن نقول : إن بعض ما في تلك الكتب مدرج من النساخ , وأن ما قاله
الأنبياء في أمور الدنيا لم يقصدوا به بيان حقائق الموجودات , وإنما قصدوا
استخراج العبرة والموعظة وتمثيلها للناس بحسب ما عرفوا من الكون , وإن كانت
معرفتهم ناقصة أو مخالفة للحقيقة , ولو أرادوا أن يبينوا حقائق الأكوان مع إصلاح
النفوس بقضايا الأديان لما تيسر لهم ذلك , ولكان تصديهم له خروجًا عن حدود
وظيفتهم المتعلقة بالقلوب والأرواح وإثارة للشبه والشكوك فيها , فإن المسائل
الحسية والوجودية تعرف بالنظر والتجربة والاختبار لا بالتبليغ عن الخالق . ذلك
أن الإنسان مستعد بفطرته للارتقاء الحسي والعقلي بدون تأييده بالوحي وأما الارتقاء
القلبي أو الوجداني فهو محتاج فيه إلى الوحي لأن منه ما يتعلق بالسلطة العليا
المدبرة لجميع الكائنات وما يتعلق بحياة بعد هذه الحياة , وهذان الشعوران لم يودعا
في نفس الإنسان سدى كما تقدم بل هما المبدأ لغاية كماله الروحاني والوسيلة لتهذيب
جميع أنواع وجدانه وشعوره , وبذلك تحسن أعماله وتصلح أحواله فيكون سعيدًا
بقدر تمسكه به .
وخلاصة هذا الجواب أن وظيفة الوحي إصلاح القلوب والأخلاق فما يذكر فيه
من أمور العالم يراعى فيه معارف المخاطَبين ولا يقصد لذاته فلا يضر الخطأ فيه
عندهم .
وأما الثاني وهو إخبار الوحي بما لا دليل عليه من الحس ولا من العقل
فالمخرج منه أن هذا لا يقال إلا إذا كان علم الأنبياء الخاص بهم مستمدًّا من الحس
والعقل ولكنه وحي من الله , فإذا كان لكم طريق إلى الحكم في كلامهم المتعلق
بالمادة المحسوسة فلا طريق لكم إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالإيمان بالله وبعالم
الغيب لأنه ليس من المادة ولا مما يجري على سننها ، ولا المتعلق بالعبادة والحث
على الفضائل وبالتنفير عن المعاصي والرذائل لأنه من باب الإنشاء الذي لا يتأتَّى
فيه الصدق والكذب , وإنما يعرف حسن مثله وقبيحه بأثره , وقد ثبت بالتجربة أن
البشر يكونون على خير وصلاح بقدر تمسكهم به وعلى شر وفساد بقدر إعراضهم
عنه . ومما يدل على أنهم يستمدون هذه الأنواع من العرفان من خالق الكون ومدبره
أن علماء الحس والعقل يعجزون على استمداد بعضهم من بعض عن إصلاح نفوس
البشر وصرف شعورهم ووجدانهم إلى الخير من غير استعانة بشيء مما جاء به
الأنبياء الذين لا يمكن إقامة برهان على أنهم استمدوا عرفانهم من الناس . وهب
أنهم استفادوا شيئًا من عرفانهم بالكسب والنظر , فما تقول في تلك الآيات وذلك
السلطان الذي أعطوه على الأرواح ؟ يقول كثير من علماء المادة وأدباء الملاحدة :
إننا نقدر على كتابة في الآداب والوعظ لا تعد هذه الأناجيل في جانبها شيئًا مذكورًا
وفاتهم أن في مواعظ الإنجيل من السلطان على الأرواح ما يعجز أكبر الفلاسفة عن
عشر معشار تأثيره في حكمه وفلسفته .
هذا ملخص ما يذهب إليه كثير من علماء الإفرنج وفلاسفتهم في وظائف العقل
والقلب , فهم يوجبون صرف العقل والحواس التي هي آلاته إلى العلوم الكونية
وصرف القلب وشعوره إلى الأمور الدينية , ولا يجيزون لأحدها أن يتحكم في
الآخر . فإذا ظهر لهما أن في العلم والتاريخ ما يخالف بعض مسائل ذكرت في كتب
الدين , أو في الدين مسائل تعارض شيئًا من العلم أو التاريخ فإنهم لا يرون ذلك
مجوزًا لإبطال أحدهما للآخر أو مسوغًا لتركه ؛ لأن صلاح البشر متوقف على
صرف كل من العقل والقلب إلى ما هو مستعد له لم يوجد واحد منهما عبثًا ولا
يترك سدى . وبهذا الرأي كان كثير من أساطينهم متدينًا كبسمارك أشهر زعماء
السياسة وعلماء الاجتماع وباستور من كبار علماء المادة والحياة وتولستوي من
عظماء الفلاسفة في العقليات والأدبيات . ويعترف هؤلاء العلماء أن في دينهم كثيرًا
من المسائل التي تخالف العقل والعلم والتاريخ , وأن في كتبها ما هو بشري غير
موحى به من الله , ويقولون : إن هذا نقص في بنية الدين وجسمه لا في جوهره
وروحه , فهو يغفر ويتسامح به لشدة الحاجة إلى روح الدين التي لا غنى للبشر
عنها .
وتجد في هؤلاء العظماء المتحمس في الدين الملتهب غيرة عليه كعظيم
الشعوب الجرمانية ( غليوم الثاني ) الذي قال : إنه لولا الوحي الديني الروحاني
لقضي على النوع البشري , وقال في المسيح : إنه يملؤنا حماسة وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا , وقال : إن الاعتقاد بأن التوارة ربما كانت مأخوذة من شرائع
حمورابي لا يمنع من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته
يعني أن استفادة موسى من معارف البشر , ووقوع بعض الخطأ العلمي والتاريخي
في كتابه لا ينافي الإيمان بأنه كان مؤيدًا بروح الله ومظهرًا لعنايته وعظمته , ولا
كون كتابه أعظم صلة بين البشر وبين الله كما نطق به العاهل العظيم في كلمة
أخرى , فهو يكتفي بأن يكون النبي الموحى إليه مؤيدًا من الله بما يتمكن به من
هداية الناس وتوجيههم إلى عبادة الله تعالى , ولا يشترط أن يكون كل ما يقوله
موحًى به من الله وكل ما يفعله مؤيدًا به من الله .
إن أصحاب هذا المذهب على اعتقادهم في الوحي والأنبياء بما لا يرضاه
المسلمون ، بل ولا عامة المعتقدين بالنصرانية - هم أسلم فطرة وأهدى قلبًا وأكمل
عقلاً من عبيد المادة وأسرى الحواس الذين زعموا أن الدين من شعور القلب
ووجدانه الوهمي , وأنه يجب على الإنسان أن ينسلخ من كل وجدان ، ويعيش حسيًا
كسائر أنواع الحيوان ، استحوذ عليهم حب الشهوات الحسية فانصرفوا إليها
وأسرفوا فيها ، وما أحبوا الانسلاخ من المزايا الإنسانية والهداية الدينية إلا لأنها
تنعى عليهم إسرافهم فيها ، وتطالبهم بما هو أرقى منها ، وقد كثر في متفرنجي
المسلمين من يقلدهم فيها . وإن لأولئك المتبوعين من علماء الإفرنج من العذر ما
ليس لهؤلاء الأتباع المقلدين لهم على غير هدى ؛ لأن في الدين الذي نشأ بين أهله
أولئك المتبوعون من عداوة العقل والحس وعلومهما ما ليس في دين هؤلاء , ولأن
أولئك قد أوغلوا في العلوم الكونية فشغلتهم عن غيرها كعلوم القلب والروح فلم
يعرفوا حقيقته ، على أنهم استعبدوا لأحقر وجدان القلب وهو اللذة الحسية , وهؤلاء
لم يتقنوا علمًا ولم يحسنوا عملاً بل نزلوا على حكم قول الشاعر :
عمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
هذا وإن للمسلمين في العقل والقلب والدين منزعًا آخر وهاك بيانه : يسعد
الإنسان بعمله ويشقى بعمله ,وعمله تابع لدعوة وجدانه وفكره: يتفقان فيمضي فيه
ويختلفان فيجيب دعوة أقواهما سلطانًا على النفس وتسخيرًا للحس ، والوجدان هو
السلطان القاهر والحاكم المطاع , وما الفكر إلا وزير يستشار فيدهن للوجدان تارة ,
وينصح له تارة فأكثر الناس يعملون بدعوة شعورهم ووجدانهم لا يعارضهم في ذلك
فكر ولا رأي لأن أفكارهم مسخرة مستعبدة لشعورهم , ومنهم من يعارض فكره
شعوره في بعض ما يدعو إليه فيطيعه تارة ويعصيه أخرى ؛ يطيعه إذا كانت داعية
الوجدان ضعيفة ويعصيه إذا كانت قوية .
إذا كان كل من الوجدان والفكر مدعاة للعمل الذي به يسعد الإنسان ويشقى
وكان قد يقع النزاع بينهما ؛ وكان لكل منهما شِرَّة وفترة يطغى في شرته فيسرف ،
ويتراخى في فترته فيغفل ، فلا جرم أنهما في حاجة إلى مرشد حكيم ، ذي سلطان
مكين ، مطاع ثم أَمين ، يرضيان بحكومته ، ويقفان عند نصيحته ، مهما ظهرت
لهما آيته ، ورفعت فوقهما رايته ، وما أراك إلا قد عرفت أن هذا المرشد هو الدين
وأن ظهور آياته للنفس يؤتيها الإذعان ، الذي يحيط بالفكر والوجدان ، فتخضع له
في عامة شؤونها طوعًا ، وتطيعه بالاختيار سرًّا وجهرًا ، وإن ارتفاع رايته يمثل
لها القوة والسلطان ، مؤدبًا لأهل البغي والعدوان الذين يشذون عن حكم الإذعان ،
وبذلك يكون الاعتدال ، واستعداد الإنسان للكمال ، فالدين هو الأستاذ المؤدب
للوجدان والفكر معًا .
الوجدان حق ، وقد يطغى فيعرض له الوهم ، والعقل حق وقد يمرض
فيعرض له الجهل ، والحواس الظاهرة حق وقد تَعْتَلُّ فتدرك الشيء على غير
حقيقته بل كثيرًا ما تخطئ ، وهي صحيحة سليمة . ولا غنى للنفس عن الوجدان
كما لا غنى لها عن العقل والحواس الظاهرة ، بل أقول : إنه لا خطأ ولا غلط في
الوجدان الصحيح أو في حكم القلب لذاته ، وإنما يعرض له الوهم من الفكر الذي
هو حكم العقل , أو من خطأ الحس الذي هو حكم المشاعر الظاهرة ، وكل من العقل
والمشاعر الظاهرة يخطئ فيجني بخطئه على القلب وينحرف بالوجدان عن القصد .
القلب يحب الجمال الحسي والجمال المعنوي وهو الجاه والشرف ويبغض
القبح الحسي والمعنوي - يتلذذ بنيل ما يحب وبرجاء نيله ويتألم بما يكره - يحزن
لوقوعه ويخاف ما يتوقع منه , فإذا رجا ما لا يرجى أو ما لا يخاف أو أحب ما لا
يحب أو يكره ما لا يكره إنما يكون في ذلك تابعًا لحكم غيره ؛ إذ ليس من شأنه هو
أن يحكم بأن هذا جميل أو قبيح أو ضار أو نافع ، وإنما الحس هو الذي يحكم في
الجمال والقبح الحسيين والعقل هو الذي يحكم في الجمال والقبح المعنويين . ومهما
جزم العقل بأن هذا الشيء يرجى خيره , وذلك الشيء مما يُخشى ضيره , قَبِلَ
القلب حكمه , وسخَّر الجوارح للعمل بنصحه , وقلما يطغى الوجدان في شيء إلا
ويكون الفكر هو المُمِدُّ له في طغيانه , فكلما أوغل العقل في التصوير والتفكير
يوغل القلب في الانفعال والتأثر , فالذنب للعقل والفكر في طغيان وجدان القلب
وتعسفه في مجاهيل الأوهام .
لو فقد الإنسان الوجدان فأمسى لا يحب ولا يكره ولا يخاف ولا يرجو ولا
يرحم ولا يقسو لهلك بترك العمل والسعي في جلب المحبوب ودفع المكروه وإبقاء
الخطر ، وانتظار الظفر ، ومواساة البائسين ، ومؤاخذة المجرمين ، ولم تكن
تصورات العقل وأقيسة الفكر لتغني عنه شيئًا . فإذا كان أدرك الوجدان في نفسه
حقًا وكان لا بد منه لبقاء الإنسان وكان العقل مرشدًا يخطئ ويصيب فينصح بعلم
أو يغش بجهل ، فهل يصح أن يقال : إنهما ضدان , أو نطلب على حقية الأول
منهما البرهان , كيف وهو أقوى الضروريات , التي هي مقدمات البرهان اليقينيات .
على هذه الطريقة أساء العقل التصرف في وجدان مبدأ الدين في الإنسان فقد
امتاز الإنسان على سائر الحيوان بوجدان كان هو الأصل في ارتقائه التدريجي
وحسب استعداده ، وهو الشعور بأن في الوجود سلطة غيبية متصرفة في العالم .
هذا هو مبدأ الدين في البشر ، وقد كان العقل في طفوليته يبحث عن علل
الأشياء وأسبابها فكلما عجز عن إدراك شيء منها حكم بأنه هو صاحب تلك السلطة
وتبعه الوجدان في الإذعان له والعبادة ، وكان إذا ما ارتقى العقل في شعب من
الشعوب أي استعد أفراد منه للارتقاء عن التعبد للأشياء المحدثة بعث الله تعالى فيهم
من يدعو العقل إلى أعلى مقام في العرفان ؛ ليتبعه القلب في العبادة والإذعان يدعوه
إلى التوحيد الذي هو عبارة عن الجزم بأن كل ما يدركه الحس ويتصرف فيه الفكر
فهو من المحدثات إلى تدبرها تلك السلطة الغيبية العليا المطلقة التي لا تتقيد بشيء
ولا تحل فيه ليعلم العقل أن تصديه لعلم حقيقة مصدر تلك السلطة التي يجدها القلب
كما تدرك الحواس المحسوسات ضرب من المحال ولذلك سميت إلهًا ؛ لأن العقل
يوله ويتحير في البحث عن حقيقتها , فلسان أولئك الدعاة الكرام عليهم الصلاة
والسلام يقول للعقل الصحيح : إنك تجد في القلب حبًا وكرهًا ورجاءً وخوفًا ؛ فلا
تبحث عن حقيقة هذه الوجدانات , ولا تحاول الاستدلال عليها لأنها قطعية في نفسها ,
وإنما وظيفتك إرشاد القلب إلى الإحسان في استخدام الجوارح لها فأولى لك ثم
أولى أن لا تبحث عن حقيقة وجدان الدين وكنهه فضلاً عن مصدره , وإنما عليك
أن تستعين به على تدبير مملكة القلب ، على أننا لا نمنعك الاستدلال على مصدر
تلك السلطة الراسخة في الواجدان لحكمة امتاز بها الإنسان ، وإنما ندعوك إلى
النظر في وحدة نظام الأكوان ، والتأمل فيما أودعته من الحكمة والإتقان ، لتوقن
أنها لم تكن كذلك إلا لوحدة مصدرها ، وعموم سلطان مدبرها ، فتجله عن الظهور
في حجر أو شجر أو حيوان ، وعن الحلول في كوكب أو إنسان ، وإلى هذا الارتقاء
الديني الإشارة بقوله تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ .. } ( البقرة : 213 ) إلخ وبه ارتقى العلم نفسه .
ألم تر أن العلم كان يسير مع الدين ، والتهذيب كان محصورًا في الكهنة
والأحبار والقسيسين ، نعم إن هؤلاء الزعماء للدين كانوا يقودون الشعوب بوجدانها ,
ويحظرون على عقولها حرية التصرف ولهم العذر في هذه السياسة لو لم يسرفوا
فيها فإنه لم يكن لضبط شئون العامة من سبيل إلا وجدان الدين مع أن فكر الأكثرين
لم يرتقِ إلى الاستعداد للاستقلال التام والاستغناء عن سيطرة الرؤساء , فلما استعد
لذلك آتاه الله الدين الأخير الذي هو منتهى النشوء والارتقاء , وهو الإسلام الذي
وفق بين الحس والوجدان والفكر , وآخى بين العقل والقلب فكان هو الهداية التي تم
بها الاستقلال ، واستعد بها البشر لنهاية الكمال .
كان زعماء الدين قد أساءوا التصرف في وجدانات القلب فساموها الإفراط
والتفريط , وشددوا الحجر على العقل فلم يجعلوا له رأيًا في آداب النفس ولا في فهم
العبادة بل ولا في مصالح المعاش ففصلوا بين القلب والعقل , وجعلوا العلم عدوًا
للدين , وأقاموا أنفسهم مسيطرين على كل شيء ومكنهم الدين من ذلك ببنائه على
أساس التقليد . فلما جاء الإسلام كان من أول عمله نسف هذا الأساس وإبطال تلك
الزعامة حتى أنه لم يجعل للنبي نفسه شيئًا منها : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء } (آل عمران : 128 ) ، { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } ( الغاشية
: 21-22 ) حتى كان يرجع عن رأيه إلى أصحابه , ثم إنه بيَّن العقائد بالبراهين
العقلية ، وقرن الآداب والأخلاق بذكر فوائدها الروحية والجسدية ، وعلل الأحكام
بالمصالح والمنافع الاجتماعية ، وأمر بالعلم الكوني وجعله أقوى دعائم اليقين ،
وأرشد إلى سنن الكون والاجتماع وجعلها معراج الرقي في الدنيا والدين ، فجعل
الحواس والقلب والعقل شركاء في هدايته وإرشاده لتكون جميع قوى الإنسان متحدة
في إبلاغه غاية كماله ، وكان كتابه حجة عقلية على حقيته بما فيه من أرقى العلوم
والعرفان ، وأعظم السلطان على العقل والوجدان ، مع عصمته من الاختلاف
والتناقض وحفظه من التغيير والضياع ، وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا .
أفيليق بمن عرف هذا الدين أن يقول فيه بنقيض ما جاء به اتباعًا لمن فرقوا بين
عقل المرء وقلبه ، وبين علمه بالكون وعلمه بنفسه وبربه ، أم يليق أن يترك هداية
هذا الدين ، ويتبع وسوسة الماديين ؟ ! .
كلا ، إن من عرف هذا الدين لا يمكن أن يتركه , ولكن الذين ضلوا وأضلوا
عن هَدي القرآن المجيد بما وضعوا في أعناق المسلمين من وهق التقليد قد حجبوهم
عن محاسن هذا الدين ، وأبرزوا لهم في مكانها جميع مساوي المتقدمين ، فصدق
عليهم حديث الصحيحين : ( لتركبنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) فهم العلة لكفر من كفر ، وفجور من فجر ، فعسى
أن يهيئ الله للمسلمين من أهل الإصلاح من يخرجهم من جحر الضب الذي دخلوه ،
ويعيد إليهم هدي القرآن الذي تركوه ، أو يهدي غيرهم إلى هذه الحقيقة ، ويقيمهم
على هذه الطريقة ، فيتآخى بهم العلم والدين ، ويكونون هم الأئمة الوارثين ، وإن
ذلك لواقع ولو بعد حين ، والعاقبة للمتقين .
__________
(9/186)
 
غرة جمادة الأول - 1324هـ
23 يونيو - 1906م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

حال المسلمين في العالمين
...وأساس الإسلام الدنيوي جعل أمر المسلمين في حكومتهم شورى بينهم لا
يستبد بها الآحاد منهم كما يستبد الملوك والأمراء في الحكم عادةً , ومن ثم أجمع
الصحابة على أن الإسلام لا ملك فيه ولا سلطان لغير الله تعالى على أهله , وأن
أحكامه شورى بين أولي الأمر وهم أهل العلم بالمصلحة العامة والرأي الذين
تحترمهم الأمة وتثق بهم , وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم
في زمنه في الشؤون الدنيوية تربيةً للمسلمين بالعمل على ما أرشد إليه الكتاب
العزيز , وكان خلفاؤه من بعده يعملون برأيهم أيضًا , فهذا الأساس في القسم
الدنيوي من الإسلام كالتوحيد في القسم الديني الروحاني منه , فكما شرعت العبادات
لتدعم التوحيد وتحفظه شرعت الأحكام المدنية والقضائية , وفوض غير المنصوص
منها إلى جماعة أولي الأمر لتدعم الشورى التي هي أساس الحكم الإسلامي , ولكن
المسلمين قد فعلوا بهذا الأساس شرًّا مما فعلوا بالأساس الأول ؛ لأن نزعات الوثنية
التي زلزلت التوحيد لم تكن عامةً لجميع المسلمين , ولكن الرضى بحكم الأفراد
الاستبدادي , وهدم ما بناه القرآن وأجمع عليه الصحابة من حكم الشورى قد رضي
به جميع المسلمين في بلاد لهم فيها سلطة إلا ما لا يخلو عنه الزمان من أفراد
ينكرون هذه السلطة بألسنتهم دون أن يؤلفوا جمعيات تقوضها . على أن الإنكار
باللسان ، لم يتيسر لهم في كل زمان ، ولذلك اكتفوا بإنكار القلب الذي سماه الرسول
أضعف الإيمان .
للإسلام أصول وفروع فمن حفظ الأصول وقصر في الفروع لا يقطع رجاؤه
من مغفرة الله تعالى , ومن ترك الأصول كان تاركًا للدين بالمرة غير معدود من
أهله ولا رجاء له مع تركها , وأهم أصول الإسلام ما ذكرنا من التوحيد في القسم
الروحاني , وحكم الشورى في القسم الجسماني , فمتى يرجو النجاة في دينه من
ترك الأصل الأول فجهل سنن الله تعالى , وعلق قلبه ببعض عبيده الذين لا يملكون
لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا كما قال القرآن في شأن خير الخلق من النبيين والمرسلين .
وكيف يرجو النجاة في دنياه من رضي بحكم الأفراد الاستبدادي , وجعل لنفسه
رئيسًا من البشر مقدسًا غير مسئول ، أي : إن له في ملكه ما أثبت الله تعالى لنفسه
خاصةً بقوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ( الأنبياء : 23 ) بل كيف
ينجو في آخرته من خالف نص القرآن وإجماع المسلمين في الصدر الأول , وهو
يسلم بقول الفقهاء عامةً أن من ترك أو رضي بترك نص القرآن ومخالفة الإجماع
المعلوم من الدين بالضرورة فهو كافر خالد في النار كعباد الأصنام .
طال الزمان على إهمال القرآن وترك الإجماع حتى صار أكثر المسلمين
يجهلون حقيقة السلطة في الإسلام
 
غرة جمادىالآخر - 1324هـ
23 يوليو - 1906م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
التعصب و أوربا و الإسلام

للكلام دول ، تحالف دول الحقائق تارة وتخالفها تارة ، ورُب خلاف يجر إلى
حِلاف وحلاف ينتهي بخلاف . قد يُتهم الخليّ بالعشق حتى تجعله التهمة عاشقًا ،
وقد ينكر الكَذوب الكذب حتى يكون صادقًا . مرت على الشرق الأحقاب والقرون ،
ودرجت فيه الأجيال والقرون ، وهو كما تعلم مشرق الأديان ، ومنبت جميع أصناف
الإنسان ، ولم يقع فيه بين المختلفين في الدين المتجاورين في البيئة من الغلو في
التعصب عُشْر مِعْشار ما وقع من أهل أوربا الذين اتحدوا باسم الصليب على إبادة
المسلمين أو ما وقع من تعصب نصارى هذه القارة على الوثنيين فيها بل ولا عشر
معشار ما وقع من أهل المذاهب النصرانية بعضهم مع بعض فأوربا مثار بركان
التعصب الديني في الأرض كما بيَّنا ذلك في مقالات نشرت في أعداد السنة
الأولى .
لما رجعت دول أوربا المتحدة من حرب الصليب في الشرق مغلوبة على
أمرها عاجزة عن بلوغ منتهى ما حدده لها تعصُّبها عالمة أنها دون المسلمين في
القوة الحربية والقوة العلمية والأدبية أخذت تستعد في العلم والعمل فكان خذلانها في
تلك الحرب مبدأ حياة جديدة لها على حين كانت حياة المسلمين السابقة أخذت
بالضعف والتحول فاستفادت من الانكسار ، ما لم نستفد من الانتصار ، وما زالوا
يرتقون فيما تركناه لهم من علم وصناعة واجتماع واعتصام ، ونحن نتدلَّى بالجهل
والكسل والتفرق والانفصام ، حتى دالت لهم الدولة ، وعادت لهم الكرَّة ، فسادوا
علينا واستولَوْا على أكثر بلادنا وقد عاملَنا أكثرُهم بالشدة والقسوة حتى ضبطت
بعض دولهم أوقافنا وهدمت أكثر مساجدنا ومنعتنا من التعليم الديني والدنيوي وسلطت
علينا قسوسها يحقرون ديننا في بلادنا .
وإن إنكلترا وهي أحسنهن استعمارًا وأقربهن إلى اللين والعدل لم تبلغ بعض
شَأْو الخلفاء الراشدين في العدل والمساواة بل ولا غير الراشدين من أكثر ملوك
الأمويين والعباسيين كما بينا ذلك غير مرة .
تحتجّ أوربا على هذه القسوة بأن الشرقيين أو المسلمين متعصبون لا يُؤمَن
شرّهم أن يقع على المخالف لهم إلا بغلّ أيديهم وتقييد أرجلهم ووضع الوقر في
أسماعهم والغشاوة على أبصارهم ، ولكن إنزالها الشر المحقق عليهم خوفًا من الشر
المتوهم منهم لا يعد تعصبًا ! ! لماذا ؟ لأنها تقول : إنهم متعصبون للدين وإننا غير
متعصبين له ، الشرقيون متعصبون ؛ لأن الشرق لا يعرف جامعة غير الدين ،
الغربيون غير متعصبين ؛ لأن الغرب لا يعرف غير الجامعة الجنسية أو الوطنية ،
المسلمون متعصبون ، النصارى غير متعصبين ، التعصب الإسلامي خطر على
المدنية المسيحية ، ما دام هذا القرآن معتقدًا أو محترمًا فالإنسانية على خطر ،
ما يأخذه الصليب من الهلال لا يعود إليه وما يأخذه الهلال من الصليب يجب أن
يسترد منه .
أمثال هذا الكلام الذي يرددونه قد فتق آذان المطلعين من المسلمين على كتب
أوربا وجرائدها وفتح أعينهم ونبه أفكارهم فاعتقدوا أن أوربا متعصبة عليهم تحاول
محو ملكهم ووجودهم الملّي من الأرض وأنها تحاربهم بهذا التعصب وربما كانت
نجاتهم بالتعصب فكادوا يحققون التهمة ويَدْعون إلى تحقيقها ولكن روح الإسلام لا
يزال غالبًا على مجموع الملة الإسلامية وهو ما سنبينه في هذا المقال .
يخفت صوت القوم في اتهام المسلمين بالتعصب حينًا من الدهر ، ثم لا تلبث
السياسة أن ترفع به عقيرتها ، وقد قال في هذه الأيام وزير خارجية إنكلترا في
مجلس العموم كلمة فيه سارت بها الركبان قال - والعهدة على ترجمة الجرائد - :
إن روح التعصب قد زادت في القطر المصري في هذه الأيام زيادة يُخشى معها
على مستقبل البلاد . قال كلمته في مقام الدفاع والاعتذار عن عمل أتته السياسة
الإنكليزية في مصر فأنكره عليها بعض النواب في المجلس وطلب من الوزير أن
يبين عذر الحكومة في ارتكاب ذلك المنكر وهو القسوة في معاقبة طائفة من
الفلاحين في حادثة دنشواي التي سارت بخبرها الركبان وترى مجمل خبرها في
باب الأخبار من هذا الجزء .
عهدي بصوت المعتذر في مقام الدفاع أن يكون خافتًا ليس له صدى ولكن
صوت هذا المُدافِع قد كان أشد من دويّ المَدافِع ، خشعت له في المجلس الأبصار ،
وخفتت له الأصوات ، ولم يلبث أن حمله البرق إلى الأرجاء ، فكان مع البرق رعدًا
قاصفًا في جميع الأجواء ، رددت صداه الأقطار ، وكان الشغل الشاغل لصحف
الأخبار ، فأما الجرائد الأوربية فقد صدقت الوزير في قوله ، ووافقته على ما يريد
به ، جارية في ذلك على نهجها المعبد ، وتقاليدها المتبعة ، وتبعها من الجرائد
الإفرنجية والمتفرنجة في مصر من يرى أصحابها لهم فائدة من تغيظ إنكلترا من
المسلمين .
وأما جرائد المسلمين في مصر ومن أنصف المسلمين في المسألة من أصحاب
الجرائد الإفرنجية والسورية فقد أنكروا القول على الوزير وما كل منكِر يعرف كيف
ينكر ! .
وَجِلَ مسلمو مصر وأصحاب الجرائد منهم خاصة من قول الوزير وحسبوا
لعاقبته ألف حساب وهبَّ الكُتاب منهم لدفع تهمة التعصب عن أنفسهم فجاءوا بمنتهى
ما يتولد بين الغيرة والوجل ، من فنون الحِجاج والجدل ، وربما كان في دفاعهم ما
يعده المتهِمون لهم مثبتًا للتهمة عليهم ، ولم أَرَ منهم من شرح ما يريده الوزير من
التعصب كما اعتقد ، ثم احتج على بُطلانه بما يرجى أن يكون مقنعًا للمنصف ، بل
رأيت كثيرًا من الناس يعتقدون أن الوزير قال ما لا يعتقد كما قال له اللورد كرومر
وهو أيضًا لا يعتقد ما قال . أما أنا فإنني أقول : إنهما يعنيان بالتعصب غير ما
فسره به هؤلاء المدافعون من الوجوه التي يقيمون الدلائل على ردها .
هل يعني الإفرنج بالتعصب الإسلامي تحابّ المسلمين وتعاونهم على مسابقة
غيرهم في طرق الكمال الصوري والمعنوي ، فنقول لهم : إنكم تشاهدون أننا
أصبحنا أضعف الأمم اتحادًا وتناصرًا ، وأشدها تفرقًا وتنافرًا ! هل يعنون به بغضنا
وكراهتنا للمخالف لنا في ديننا وعدم ثقتنا به بحيث يصعب عليه أن يعيش بيننا
فنقول لهم : إذًا كيف أصابت هذه الثروة الواسعة منا جالية اليهود والنصارى منكم
ومن السوريين والأرمن وسائر الملل ، وكيف صار منكم رئيس الخاصة الخديوية
وكثير من مستخدميها ورؤساء دوائر كثير من أمرائنا وأغنيائنا ؟ ! ، بل كيف عاش
بيننا المبشرون بالنصرانية آمنين ، وهم يطعنون بديننا وكتابنا ونبينا ؟ هل يعنون
به محافظتنا على شريعتنا من جهة الأحكام القضائية فنقول لهم هذه المحاكم الأهلية
والمختلطة ومدرسة الحقوق ونظارة الحقانية نفسها حُجّة عليكم فإننا تركنا معظم
شريعتنا الإلهية إلى قوانينكم الوضعية ولم يعارض حكامنا الذين فعلوا ذلك أحدٌ من
علمائنا ولا من وُجهائنا ؟ هل يريدون به اعتصامنا بعُرْوة الدين في أعمالنا
الشخصية فنقول لهم : ولماذا راجت خموركم حتى عمت المدن والقرى وربحت
تجارة بُورَصكم وبغاياكم حتى أهلكت الحرث والنسل ، ولماذا كان عدد أغنيائنا
الذين يزورون بيوت الفسق في بلادكم كل عام أضعاف الذين يزورون بيت الله
الحرام ؟ ! ! ، ولماذا ولماذا ولماذا ؟ ! ! ! هل يعنون به أن مصر تريد أن تتبع
سائر الأقطار الإسلامية بالاتحاد على الأُمنية التي يعبر عنها بالجامعة الدينية ،
فنقول : أخبرونا عن قطرين إسلاميين اتحدت حكومتاهما وتحالفتا على دولة غير
إسلامية كما تفعل دولكم في تعاطفها وتحالفها ؟ ! . ما كانت حكومتان لنا متحالفتين
لإعلاء كلمة الله لا سيما في هذه الأزمان ، إنْ هم إلا متحالفون لوجه الشيطان ،
بالأمس قامت دولكم على دولة مراكش الإسلامية فاتحدت على ما شاءت من
السيطرة عليها ولم تطلب دولة الترك ولا دولة الفرس أن يكون لهما معكم سهم ولا
قالت واحدة منهما كلمة تُشعر بالغيرة عليها أو المساعدة لها بل هما الآن متناوئتان
كل منهما تحشد الجيوش على الحدود كأنهما متحدتان على إفناء ما بقي للمسلمين من
قوة واستقلال بفتْك كل منهما بالأخرى .
على أن الحكومات هي التي تعقد المحالفات وزمام الحكومة المصرية في أيديكم
وليس للأمة في أعمالها رأي ، بل ليس للحكومة نفسها من دونكم أمر ولا نهي ، بل
نقول لهم : لو كان للمصريين الذين تشكون من تعصبهم رأي لَمَا اتفقوا على الاعتصام
بالجامعة الإسلامية وإنما يعملون بما أرشدتموهم إليه من العصبية الوطنية فإنه وُجِدَ
فيهم كثيرون يَعدّون المسلم غير المصري فيهم دخيلاً ويأبون الاشتراك معه في أي
عمل ويفتخرون بمعاملة الأجنبي غير المسلم .
إذًا ماذا يريدون بهذا التعصب المصمئلّ ، المتحفز لمواثبة الدول ، المُخْرَنْبِق
لينباع ، المجَرْمِز ليمُدّ الباع ، المتربص ليغتال الثروة الأوربية ، المتوثب ليمحو آية
المدنية .
ألا إنهم يعنون أن المسلمين حريصون على أن يكون حكامهم منهم وأشد ما
ينكرون من ذلك أن الإسلام قد جعل من حقوق الخليفة على المسلمين أن يستجيبوا
له إذا دعاهم إلى استئصال المخالفين لهم في الدين ، ويعتقدون أن السلطان عبد
الحميد ما أحيا لقب الخلافة لنفسه ، وعُني بإقناع الشعوب الإسلامية بالاعتراف به
باستخدام الجرائد وغير ذلك من الوسائل إلا ليمتع نفسه بهذه القوة المعنوية الهائلة
التي يستطيع أن يهدد بها أوربا في مستعمراتها متى شاء بل هو يهددها بالقوة
والفعل ، ولولا ما تحدث له من الشواغل والعراقيل في كل وقت وما تنطوي عليه
جوانحه من الخوف والحذر لما أمنت دهاءه ، وقد أُعطي هذه السلطة الدينية
المخيفة .
هذا ما يعتقد الأوربيون في التعصب الإسلامي وهذا ما يخافون منه .
ولمّا كانت مسألة العقبة ورأى اللورد كرومر أن السلطان قد ظهر فيها بمظهر الشدة
والحزم أولاً ورأى ثرثرة بعض جرائد المسلمين فيها بحقوق الخليفة والخضوع
للخليفة واستنادها في بعض ما تكتب على مختار باشا الذي أنيطت به هذه المسألة
خلافًا للعادة وقرأ ما كُتب إليه في ذلك اعتقد أن السلطان قد تجرأ بإيعاز إمبراطور
ألمانيا المتهور على استعمال تلك السلطة الدينية في هذه المسألة فكتب إلى دولته
بذلك فهو قد كتب عن التعصب في مصر ما يعتقد وتبعه وزير الخارجية في ذلك إذ
لا مصدر له في المسائل المصرية سواه .
فهل يفتأ الكثيرون يقولون : إن اللورد قال ما لا يعتقد وكذلك الوزير ؟ وهل تظن الجرائد بما أكثرت من الكتابة في التعصب أنها فتلت في الذروة والغارب ،
وأقامت الحجة على اللورد والوزير وسائر الأجانب ؟ ! .
الحجة الناهضة على تبرئة الإسلام نفسه من هذا التعصب المزعوم هي آي
القرآن الناطقة بتحريم العدوان ، وبأن القتال خاص بمن يقاتلوننا في الدين أي
يقاتلون لأجل منعنا من الدعوة إلى ديننا أو من إقامته وإحياء شعائره . وهذه الآيات
كثيرة جدًّا وقد تقدم تفسير أكثرها في المنار وحَسْب المنصف منها قوله تعالى :
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) وقوله عز وجل : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( الممتحنة : 8-9 ) .
لو فقه الأوربيون هذه الآيات الثلاث لأذعن المنصفون منهم بأنه لو لم يَفْضُل
الإسلام جميع الملل إلا بها لكانت كافية في تفضيله عليها ولودّوا لو أقام المسلمون
هذه القرآن واهتدوا به ؛ الآية الأولى تأذن للمسلمين بقتال من يقاتلهم خاصة ،
وتحرم عليهم أن يكونوا هم المعتدين ومن فروع هذا التحريم ما جرى عليه
المسلمون في حروبهم من عدم التعرض للرهبان والعُباد والنساء في بلاد الحرب ؛
لأنهم ليسوا ممن يحارب . وأما الذمي والمعاهد والمستأمن فيجب على المسلمين
حمايتهم ممن يحاول الاعتداء عليهم ، فهل يجوز الفتك بمن تجب حمايته من
عدوه ؟ ! . أما الآيتان الأُخْريان فقد نزلتا في التمييز بين المحاربين لنا في الدين
الذين نهانا عن موالاتهم في أول السورة وفي سور أخرى وبين غيرهم . فقال في
أول هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ } ( الممتحنة : 1 ) .. الآيات ، وفيها بعد وصف هؤلاء الأعداء بأنهم أخرجوا
الرسول والمؤمنين من وطنهم ( مكة ) لأنهم يؤمنون بالله أنهم إن ظفروا بهم بعد هذا
النفي والإخراج يكونوا لهم أعداءً ويودوا لو يكفرون مثلهم ويبسطوا إليهم أيديهم
وألسنتهم بالسوء أي أنهم لم يكفوا بعد الإخراج والنفي عن عداوتهم .
بعد هذا قال سبحانه : { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم
مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ .. } ( الممتحنة : 7-8 ) إلى
آخر الآيتين . فهو بعد إطماع المؤمنين في تحويل العداوة بينهم وبين أولئك الأعداء
إلى مودة قال إن النهي عن اتخاذهم أولياء لا يعمّ كل مشرك منهم حتى الذين لم
يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوهم من ديارهم فهؤلاء وإن كانوا كفارًا لا
ينهى عن برهم والإحسان إليهم وعن معاملتهم بالعدل وإنما النهي خاص بالذين
قاتلوهم في الدين لتحويلهم عنه ومنعهم من الدعوة إليه وأخرجوهم من ديارهم أو
ساعدوا المُخرِجين لهم على نفيهم وليس نهيًا عن معاملتهم بالعدل ، بل هو نهي عن
ولايتهم ومحالفتهم ومناصرتهم ؛ لأن هذا ظلم بيِّن للمسلمين .
هذا ملخص معنى الآيات فهل وُجد في العالم نبي أو حكيم أو أديب أمر
بمعاملة أعدائه وأعداء قومه بمثل هذه المعاملة التي جمعت بين العدل والرحمة على
أكمل وجه ؟ أليس من أقبح الظلم وأشنع الكذب والزور أو من أشد فضائح الجهل أن
يقال في دين جاء بهذا الكمال الأعلى : إنه خطر على البشر ؛ لأنه يأمر بإبادة
المخالفين له وإن كانوا مسالمين لأهله ونافعين لهم كما يقول بعض الإفرنج ؟ بلى
ولكن أكثر الإفرنج يحكمون على الإسلام بما يحكيه عنه أفراد من غُلاتهم في
التعصب أو من بعض جُهال المسلمين وغوغائهم أو الذين ينتحلون السياسة
ويجعلون الدين آلة لها وهم به جاهلون .
إذا كان الإسلام نفسه بريئًا من هذه التهمة التي يلصقها به الأوربيون ويسمونها
تعصبًا فإنني لا أبرّئ كثيرًا من عَوامّ المسلمين الجاهلين من اعتقاد وجوب طاعة
السلطان إذا أمر بقتل المختلفين في الدين ، وإن كانت الأمة الإسلامية قد أجمعت
على أنه ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ومن أكبر المعاصي الاعتداء على
غير المعتدي . وما جاء هذا الاعتقاد من الدين بل جاء من السياسة ولا نعرف تاريخ
حدوثه ، ولعله كان في أيام حرب الصليب ، وقد اشتهر أن السلطان سليمان استفتى
شيخ الإسلام أبا السعود في إلزام نصارى الرومللي بالإسلام أو إبادتهم ؛ لأن بقاءهم
متمتّعين بحريتهم في الدين واللغة وجميع الشؤون الاجتماعية خطر على الدولة ؛
لأنهم لتعصبهم لا بد أن ينتهزوا فرصة ضعف في الدولة أو تورط في حرب شاغلة
فيخرجوا عليها فلم يفتِهِ أبو السعود بذلك ، ولعله لو وجد دليلاً في الكتاب أو السُّنة
أو أقوال المجتهدين أو الفقهاء المرجحين يسمح له بإسعاف سياسة السلطان في ذلك
لأخذ به وأفتى وكانت القاضية .
إذا صدق ظننا في كون حرب الصليب هي مبدأ هذه الفكرة فكرة وجوب
طاعة السلطان إذا أمر بقتل المخالفين ، فهي غرس الأوربيين الذين أثاروا تلك
الحرب بتعصبهم ، وهم الذين يسقون هذا الغرس وينمونه بزعمهم أنه من أصول
الإسلام ، ثم بدعوة بعض دولهم بعضًا إلى الاتحاد على المسلمين ومعاملتهم بالقسوة
ليؤمن شر تعصبهم هذا .
لا أدري أي الرأيين أضلّ ، وأية السياستين شر ، أرأي مسلم يظن أن اعتقاد
الأوروبيين بأن السلطان العثماني قادر على تهييج المسلمين على النصارى متى شاء
من عوامل القوة التي ترهبهم ، فمن السياسة أن نمدهم في اعتقادهم هذا وإن كان
خطأ عسى أن يخف ضغطهم عمن تحت سلطتهم من المسلمين ويقل تحاملهم على
الدولة العثمانية ، أم رأي أوربي أو نصراني شرقي يتهم المسلمين بالتعصب
وانتهاز الفرص للإيقاع بالمخالفين عامة أو بالنصارى خاصة ، ويظن أن هذا من
السياسة المثلى التي تعود على أصحابها بالفائدة الكبرى وتمكِّن لهم في الأرض ،
فيبلغون ما أرادوا من سيادة وكسب ، ألا يجوز أن تأتي كل من السياستين بنقيض ما
يراد بها فيكون إيهام المسلمين للأوربيين بأنهم مستعدون للفتك بهم عندما تحركهم
إرادة السلطان جامعًا لكلمة أوربا على ابتسار الثمرة قبل إرطابها . أو اجتثاث
الشجرة قبل أن تستوي على ساقها ، أو يكون اتهام الأوربيين للمسلمين بالتعصب
هو الذي يجمع كلمة المغربي منهم بالمشرقي ، والعربي بالعجمي ، ويؤلف منهم
عصبية تجعل الظن يقينًا ، والأماني منونًا ، ولو بعد حين ؟ .
أليس مما يذعن له كل منصف محب لخير البشر أن إنامة الفتن خير من
إيقاظها ، وأن إزالة الإِحَن خير من إثارتها ، فمن أظلم ممن علم هذا فأعرض عنه
واستبدل التفريق بالتأليف ، وأغرى القوي بالضعيف ، أو شغل الضعيف عن قوته
الذاتية ، وحمله على معاداة حكومته الحقيقية ، أولئك المفرقون فريقان ، هذا يقول
لأوربا : إن المسلمين متعصبون ، فخذيهم بالعذاب لعلهم يرجعون ، وهذا يشغل مَن
تسوسهم أو تسودهم أوربا عن قوتهم الذاتية ، ويعلق أمانيهم بالدولة العثمانية ،
ونحمد الله أنه لم يوجد في جرائدنا من ينفّر المسلمين من النصارى كافة كما يوجد
في الجرائد الإفرنجية والمتفرنجة من ينفّر النصارى من المسلمين كافة بدعوى أن
المسلمين متعصبون عليهم ، إذًا لو وقعت الواقعة ، فكانت خافضة رافعة .
أما ميل المسلمين إلى الدولة العثمانية في مسألة العقبة وفي غيرها من المسائل
فليس من العدل أن يجعل بمجرده من التعصب الديني الذين يخشى منه على غير
المسلمين عامة وعلى الأوربيين خاصة ؛ لأن الدولة دولتهم باعتراف إنكلترا وسائر
دول أوربا على أنهم لا يرضَوْن ترك استقلالهم لها ولا هي تطمع بذلك ، ثم إن
موضع العقبة من جزيرة العرب وكونه سيكون بالحرمين الشريفين بجعله محطة
لسكة الحديد الحجازية واعتقادهم الديني في الحرمين معروف ، فإذا كانوا لا
يرضون بأن يكون الحَرمان وما هو حَرَم لهما من الجزيرة تحت سلطة أجنبية فهم
معذورون ؛ لأن هذه الأرض المقدسة بمنزلة المساجد عندهم وأي متدين في العالم
يرضى أن تكون معابده ومعاهده المقدسة تحت سلطة المخالف له في دينه ؟ !
أوَليس القائل بأن هذا من التعصب هو أشد الناس غلوًّا في التعصب وأجدرهم بمَثل
( رمتني بدائها وانسلت ) ؟ .
إن أكثر الذين يرمون المسلمين بالتعصب ينطقون بلسان السياسة وللسياسة
سريرة لا تعلم ، ولغة لا تكاد تفهم ، فهي ككتب الجفر لا يعلم ما تطبِّق أو تنطبق
عليه إلا بعد وقوعه ، فإذا كانت السياسة تريد عملاً يتوقف على رمي المسلمين
بالتعصب فهي ترميهم به تمهيدًا لذلك العمل فلا كلام لنا مع أهلها في ذلك ؛ لأننا
لسنا من أهل الشورى في سياستهم فنقول : هذا ضارّ بنا أو بكم ، وهذا نافع لنا أو
لكم ، أو نحن فيه سواء إذ ربما كانوا في هذه يشْكون من التعصب ظاهرًا ويبغون
في الباطن إيجاده إن لم يكن موجودًا وحينئذ نَدَع للمستقبل خطابهم فهو أقدر على
إقناعهم وإن كانوا يقولون ذلك معتقدين له ومتبرمين منه فإننا نقول لهم بلسان
الصدق كلمة ربما كانت مزيدًا في علمهم الواسع لا يستغنى عنه :
إننا لا ننكر أننا نحب أن يكون حكامنا منا فإن هذا من خصائص البشر مهما
انحطوا ولا نراكم تعيبوننا وتعاقبوننا على كوننا من البشر ، إن تريدون بتسمية هذا
تعصبًا إلا أننا نتربص الدوائر بمن يحكمنا من غيرنا لنثور عليه ، وهؤلاء مسلمو
روسيا حُجة عليكم تشاهدونها الآن فهم لم يفعلوا بحكومتهم المستبدة عند
الفرصة ما فعل غيرهم ، ولا تنسون ما فعل بعض نصارى البلقان من قبل وما
يفعلون الآن في مكدونية .
إن نحن إلا بشر مثلكم نحب مصلحتنا ونغار على حقيقتنا على أننا أَصْفى أهل
الملل قلوبًا وأَسْلم عاقبةً . إن كنتم تودون الوفاق والجمع بين مصلحتنا ومصلحتكم
فإن ذلك ممكن لا يحول دونه تعصب ديني ولا غيره ونحن مستعدون لبيان أقرب
الطرق إليه إن شئتم . وإن كنتم تبغون الأَثَرة فينا والافتيات علينا وتعدون عدم الرضا
بذلك سرًّا وجهرًا من التعصب فاعلموا أننا متعصبون ؛ لأن طبيعة البشر قد جبلت
على النُّفرة من المتسلط الذي يستأثر بالمصالح والمنافع فلا يسمح مختارًا بشيء منها
للمتسلط عليهم إلا إذا كان انتفاعه يتوقف على ذلك السماح وإن كان متفقًا معهم في
الجنس واللغة والدين والوطن فكيف إذا كان مخالفًا لهم في كل شيء ؟ إذًا لا علاج
لهذه النفرة إلا العدل والمساواة والتوفيق بين المصالح وبهذه المزايا ساد الإسلام أكثر
شعوب الأرض في أقل من قرن واحد ونراكم لا ترضون بمساواتنا في بلادنا التي
نحكمها بَلْهَ بلادنا التي وقعت في حكمكم ، ثم تقولون : إن ديننا جاء بالتعصب على
أنه كان يساوي أخسّ رجل من المخالفين بأعظم سيد في المسلمين كعلي بن أبي
طالب ، وإنا متعصبون ؛ لأننا لا نرقص طربًا لامتيازكم علينا وترفُّعكم عن
مساواتنا ! ! ! .
( ذلك شأن القوة تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء ولا تخشى معارضًا فجازى الله
رؤساءنا الذين أذلونا بظلمهم وجهلهم واستبدادهم وأضعفوا حجتنا كما أضعفوا سلطتنا
حتى صار بعض الأجانب أرحم لنا منهم ، فهو يُدِلُّ علينا بعدله الإضافي ولولا ذلك
الإذلال لما كان هذا الإدلال ) .
وجملة القول أن الإسلام أعدل الأديان وأرحمها بالمخالف فوصْف الإفرنج
ومقلديهم إياه بالتعصب المذموم ظلم ، منهم المعتقد له سياسة ومنهم المقلد للقسوس
وللسياسيين فيه ، وإن المسلمين إذا كانوا لا يسلمون من التعصب فهم أقل تعصبًا لا
سيما في هذه البلاد من جميع أهل الملل العائشين معهم وإن الإفرنج والمتفرنجين هم
الذين أيقظوا شعور التعصب فيهم بأقوالهم وأفعالهم ولذلك ترى العارفين بلغة من
لغات أوربا والمتعلمين في مدارسها أقرب إلى التعصب من المتعلمين في الأزهر
وأن هذا التعصب لا يخشى منه على أحد من غير المسلمين في مصر ولا في
غيرها إلا إذا اتحد النصارى كلهم على محاربة المسلمين وإزالة ملكهم وأن السلطان
نفسه لا يقدر على الأمر بالنفير العام من غير هذه الحالة ؛ إذ لا يفتيه شيخ الإسلام
ولا غيره من العلماء بجواز اعتداء المسلم على من لم يعتدِ عليه ؛ لأن هذا مخالف
لنص القرآن وأن وزير الإنكليز قد عنَى بالتعصب ما ذكرنا تبعًا للورد كرومر وهما
يعتقدان أنه قد تهيج في مصر أيام حادثة العقبة وأنه كان يخشى من الفتن لو اشتد
النزاع وطال أمده فاحتياط إنكلترا كان من العقل والسياسة وإنا نعتقد أنه لم يكن
هناك خطر على الأوربيين وأن حادثة دنشواي لا علاقة لها بتعصب الفلاحين ولا
بمسألة العقبة ، وإنما كانت جرائمهم على الضباط احتماءً مجردًا من كل شائبة ما
عدا خشونة القوم المعهودة في دفاعهم عن حقيقتهم ، وأن إنكلترا قست في عقوبتهم
لكيلا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم وأنها خسرت بهذه القسوة معظم ما ربحته في
السنين الطويلة من الميل إليها والأنس بحكمها إلا أنها خسارة تزول وقسوة تنسى إذا
حسنت الحال بعدها ، وإن المصريين أشد المسلمين تساهلاً وأقربهم للمخالف في الدين
مودة .
هذا وإن المسلمين ثلاثة أصناف : المشتغلون بعلوم الدين كأهل الأزهر
والمشتغلون بعلوم أوربا ، والعوامّ .
فأما الصنف الأول فيعتقدون أن الذمي والمعاهد وهو مَن بَيْنَنا وبين دولته عهد
سِلمي كأهل أوربا الآن والمستأمن وهو مَن دخل من الحربيين بلادنا بتأمين منا
وإن شئت قلت : يعتقدون أن جميع المخالفين لنا في الدين غير المحاربين - يحرم
الاعتداء عليهم وإيذاؤهم بل تجب علينا حمايتهم ممن يريد الاعتداء عليهم ولو
بمقاتلته والنفقة عليهم عند الاضطرار وتستحب النفقة عليهم إذا كانوا فقراء ،
ومنتهى ما عند هؤلاء مما ربما يؤخذ عليهم في هذا العصر هو عدم الائتلاف
والانبساط مع المخالف لعدم العادة . وأما العوامّ وهم الصنف الثالث ، فإنهم كما قلنا
يعتقدون أن السلطان إذا أمر بالاعتداء على كل مخالف وجبت طاعته لا سيما إذا
حمل راية الرسول صلى الله عليه وسلم وهم فيما عدا هذا الاعتقاد أقرب إلى سلامة
القلب وأبعد عن عداوة المخالف من عوام سائر الملل . وهذا الاعتقاد لا يخشى
ضرره وجعْله مسارًا للفتن إلا في الحالة التي أشرنا إليها وهى قيام النصارى كافة
على المسلمين ولن يكون ذلك ، فإن كان فالمتعصب هو المعتدي والعوامّ يتبعون
علماء الدين ، فإذا حدثت أمور يخشى معها اعتداء العوام على غيرهم فإن علماء
الدين يقدرون على دفع كل مَخْشيّ بالخطب في الجوامع وفى الجرائد مثل هذه البلاد
فإذا كتب كبار علماء الأزهر في الصحف المنشّرة أن العدوان حرام امتنع العدوان
وكان ذلك أَفْعَلَ من كثرة الشُّّّرط والجنود .
وأما الصنف الثاني في الذكر أعني المتعلمين للعلوم الأوربية ، فأكثرهم لا
يمتازون عن العوام في علمهم وشعورهم بالدين ومنهم المارق منه ولكنهم أشد
حرصًا على السلطة من غيرهم ولا شيء ينفخ فيهم روح التعصب لها مثل وقوفهم
على مطامع الأوربيين ، وسماعهم لأقوالهم في المسلمين ، فهم يميلون إلى التعصب
سياسةً لا تدينًا ، ولكن روح تساهل الإسلام غلب عليهم حتى لا يسلم منه المارق
منهم ، وإنني سمعت غير واحد من كبار رجال الحكومة ومتوسطيهم يقولون : إنهم
يتهموننا بالتعصب يا ليته كان صحيحًا . فليعلم الأوربيون أن أبعدنا عن التعصب
أقربنا من الدين ، وأدنانا منه أجهلنا بالدين وأعرفنا بأهل أوربا في علومهم ومدنيتهم
لا سيما من ذاق حفظها منا فمثار التعصب أوربا لا الإسلام نفسه وإذا ظلت أوربا
على اتهامها والافتيات علينا في شئوننا فيوشك أن يجيء يوم يكون فيه الشك يقينًا
وهو ما نسأل الله أن يقي البشر شرّه وإلا فإن في استطاعتها أن تجمع بين مصلحتها
ومصلحتنا ولكن بعد استشارة أهل الرأي منا وعَدّنا من البشر الذين يشعرون
ويعقلون ، ويسرّون ويألمون ، ولله في خلقه شئون ، وهو يعلم ما لا نعلم ولا
يعلمون .
__________​
(9/427)
 
غرة شعبان - 1324هـ
23 سبتمبر - 1906م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

خطأ العقلاء

من مقالات الأستاذ الإمام في جريدة الوقائع المصرية ، وفيها تعريض
بالعرابيين كتبها في العدد 1079 الصادر في خمسة جمادى الأولى سنة 1298 - 4
أبريل سنة1881 .
إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة
أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولد في عقولهم أفكار جليلة ، وتنبعث في نفوسهم
همم رفيعة تندفع إلى قول الحق وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها ،
ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار وحصَّلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار ومعاشرة أرباب
المعارف ونحو ذلك - تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه
وسير العالم بأسره أو الأمة التي هم فيها بتمامها على مقتضى ما علموه هو أمر
سهل مثل سهولة فهم العبارات عليهم وقريب الوقوع مثل قرب الكتب من أيديهم
والألفاظ من أسماعهم فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا أن يكونوا على مشاربهم ،
ويرغبون في أن يكون نظام الأمة وناموسها العام على طبق أفكارهم ، وإن كانت
الأمة عدة ملايين ، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين ، ويظنون أن أفكارهم
العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر ووضعت أصولاً وقواعد لسير
الأمة بتمامها ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في
السعادة ، وتتبدل العادات وتتحول الأخلاق ، وليس بين غاية النقص والكمال إلا أن
يُنادى على الناس باتباع آرائهم .
تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات ، وإنهم
وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضْل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته وارتفاع الهمة
وانبعاث الغيرة لكنهم أخطأوا خطأً عظيمًا من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه
وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها ، ولم يختبروا قابلية الأذهان ، واستعدادات
الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم ، ولو أنهم درسوا طبائع العالم كما
درسوا كتب العلم ، ودققوا النظر في سطور أخلاقه وعاداته الحقيقية الواقعية التي
اقتضتها حالة وجوده ، بل لو قارنوا بين الحوادث المسطرة في الكتب ، وتبينوا
كيفية انتقال الأمم من بداياتها إلى نهاياتها لعلموا أن الأمم في أحوالها العمومية
كالأشخاص في أحوالها الخصوصية ، بل إن الأحوال العمومية هي عبارة عن
مجموع الأحوال الخصوصية ، وليست الأمة مثلاً إلا مجموع أفرادها ، وليس حال
الهيئة المركبة من تلك الأفراد إلا مجموع أحوال هاته الأفراد .
فعلى من يريد كمال أمة بتمامها أن يقيس ذلك بكمال كل فرد منها ويسلك في
تكميل العموم عين الطريق التي يسلكها لتكميل الواحد ، هل يسهل على صاحب
الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع أو الصبي قبل رشده وقبل أن يتعلم
شيئًا من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية التي نالها بالجد والاجتهاد وكثرة المطالعات ؟
كلا بل لو أراد أن يجعل شخصًا من الأشخاص على مثل فكره احتاج إلى أن يبدأ
بتعليمه القراءة والكتابة ، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل ، ثم يتدرج به شيئًا
فشيئًا حتى ينتهي بعد سنين عديدة إلى بعض مطلوبه ، ثم هو في خلال ذلك محتاج
إلى أن يحصر أعماله ويقيدها بقيود من الترغيب والترهيب ، وأن يراقب حركاته
في أعماله خوفًا من اختلاطه بفاسدي الأخلاق والأفكار أو المائلين إلى الكسالة
والبطالة أو ورود موارد الشهوات ، ونحو ذلك من الملاحظات التي لا بد منها فإن
اختل شيء من الترتيب في التعليم بأن قدم الأصعب على الأسهل مثلاً أو أهمل
ملاحظة أعماله وأحواله اختلت التربية وذهبت الأتعاب سُدى ، واستحال صيرورة
حال ذلك الشخص مماثلة لحالة مرشده .
ولو أنه أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سن الرجولية هل يمكنه أن
يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه ؟ كلا ، إن الذي تمكن في العقل أزمانًا لا يفارقه
إلا في أزمان . فلا بد لصاحب الفكر أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها
ذلك الشخص في اعتقاداته ، وذلك لا يكون في آنٍ واحد ولا بعبارة واحدة ، ولكن
بعبارات مختلفة في التقريب بعضها سهل المأخذ قريب المنال ، والبعض أرقى منه ،
وبعضها خطابي ، والآخر برهاني ، وما شابه ذلك . فإن لم يتخذ تلك الوسائل في
إرشاده امتنع عليه مقصوده ، بل ربما جره نصحه إلى الضرر بنفسه ، تلك هي
الحالة المشهودة التي لا ينكرها أحد ، ثم إن نجاحه في تغيير فكر واحد مع كل هذا
الاجتهاد موقوف على أن صاحب ذلك الفكر الفاسد لا يعاشر ولا يخالط في خلال
تعلمه إلا مرشده صاحب الفكر السليم ، فإن كان يخالط غيره ممن يؤيد فكره الأول
طال الزمن وربما لم ينجح فيه الإرشاد ، وأظن ( أن ) هذا يعترف به كل من
مارس الأخلاق والعادات .
إن كان هذا حال شخص واحد إذا أردنا إصلاح شأنه في صغره أو كبره مع
أنه يسهل ضبط أعماله وأحواله والوقوف على كُنْه أوصافه ودرجات تقدمه في
المقصود وتأخره فيه ، فما ظنك بحال أمة من الأمم تختلف عناصرها وتتباين
شعوبها ؟ فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلف الأمة بالسير على ما لا تعرف له
حقيقة أو يطلب منها ما هو بعيد عن مداركها بالكلية ، كما أنه لا يليق أن يطلب من
الشخص الواحد ما لا يعقله أو ما لا يجد إليه سبيلاً .
وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها ، ثم
يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة ، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى
بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة
إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون ، أما إذا وضع لهم من الحدود ما لم
يصلوا إلى كنهه ، أو كلفوا من العمل ما لم يعهدوه ، أو خولوا من السلطة ما لم
يعودوه رأيتهم يتخبطون في السير ؛ لخفاء المقصود عنهم وضلال الرأي فيما لم
يكن يمر على خواطرهم ، فيمكن أن يخرجوا عن حالتهم الأولى لكن إلى ما هو
أتعس منها بحكم الاستعداد القاضي عليهم بذلك .
مثلاً : إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية في أمريكا واعتدال أحكامها
والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء نوابها
ومجالسها وما شاكل ذلك ، ونعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة ،
ونعلم أن هذه السعادة إنما أتت لهم من كون أفراد الأمة هم الحاكمين في مصالحهم
بأنفسهم ؛ لأنهم أرباب الانتخاب ، وإنما رؤساء الجمهوريات وأعضاء المجالس
نواب عنهم في حفظ تلك المصالح والحقوق التي رأوها لأنفسهم . وتتشوق النفوس
الحرة أن تكون على مثل هذه الحالة الجليلة ، لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة
بعينها لأفغانستان مثلاً حال كونها على ما نعهد من الخشونة ، فإنه لو فوض أمر
المصالح إلى رأي الأهالي لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها ،
فلا يمكن الاتفاق على نظام عام ، ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً
لرأيت كل شخص ينتخب صاحبًا له أو نسيبًا أو قريبًا ، فربما ينتخبون آلافًا
مؤلفة ، ثم لا ينتهي الانتخاب إلى المرغوب أصلاً لوقوف كل واحد عند انتخابه
الأول ، ولو وكل إليهم انتخاب رئيس للحكومة لانتخبت كل قبيلة رئيسًا منها ، ثم
يقع الهرج بين الرؤساء ، وهكذا حال الأمم التي تعودت على أن يكون زمامها بيد ملك
أو أمير أو وزير يدير أعمالها بدون أن يكون لها دخل في رؤية مصالحها - لا
يمكن أن يطلب منها الدخول في أعمالها العامة وإلا فسدت ، فإذا أردنا إبلاغ الأفغان
مثلاً إلى درجة أمريكا فلا بد من قرون تُبث فيها العلوم وتهذب العقول وتذلل
الشهوات الخصوصية وتوسع الأفكار الكلية حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي
العمومي ، فعند ذلك يحسن لها ما يحسن لأمريكا .
ويا عجبًا هل الشخص الذي توارث العوائد عن آبائه وأجداده ومرن عليها من
مهده إلى كهولته وتعود تفويض مصلحته إلى إرادة غيره يصح أن يطلب منه في
زمان واحد خلع جميع ذلك ، ويلقى إليه زمام مصلحته وهو في جميع عمره لم يفكر
فيها ، إن هذا لخطأ ظاهر .
ولكون أرباب الأفكار منا يرومون أن تكون بلادنا وهي هي كبلاد أوربا وهي
هي ، لا ينجعون في مقاصدهم ، ويضرون أنفسهم بذهاب أتعابهم أدراج الرياح ،
ويضرون البلاد بجعل المشروعات فيها على غير أساس صحيح ، فلا يمر زمن
قريب إلا وقد بطل المشروع ورجع الأمر إلى أسوأ مما كان ؛ فيفوت الزمان وهم
على حالهم القديم ، وكان لهم إمكان أن يكونوا على أحسن منه ، فمن يُرد خير
البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية ، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه - إن كان
طالبًا حقًّا - بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس ، وفي الكلام بقية أذكرها بعد هذا العدد .
وكتب في العدد 1082 :
كلام في خطأ العقلاء
تولى أمر هذه البلاد ( المصرية ) أناس في أزمنة مختلفة ، تظاهر كل منهم
بأنه يريد تقدمها ونقلها من حالة الهمجية ( على ما يزعم ) إلى حالة التمدن التي
عليها أبناء الأمم المتمدنة ، وجعلوا الوسيلة إلى ذلك أن تنقل عادات أولئك الأمم
المتمدنين وأفكارهم وأطوارهم إلى هذه البلاد وظنوا أن تقليدنا لعاداتهم وأخذنا الآن
بأفكارهم اليومية ، وتشبهنا بهم في الأطوار كافٍ في أن نكون مثلهم ، وأن
استلامنا لتلك العادات وتلقينا الأفكار أمر غير عسير .
لم ينظروا في الأسباب والوسائل التي توصل بها أولئك الأمم إلى هذه الحال
التي هم عليها حتى يعتدوا مثلها أو قريبًا منها لترقي هذه البلاد ، بل ظنوا أن هذه
الغاية من الممكن أن تكون بداية ، مع أن ما نرى عليه جيراننا من الممالك الغربية
لم يصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب ومقاساة مشاق وسفك دماء شريفة وثل عروش
ملك رفيعة ، وكانوا في كل ذلك يقربون من المقصود تارة ويبعدون عنه أخرى ،
كما يرشدنا إليه تاريخهم حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي وغيرت
أخلاقهم , ونبهت الضرورات أفكارهم , وهذبت المخالطات الجهادية والتجارية
عقولهم .
إن بداية التقدم الأوربي في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا .
علمتهم الحروب الصليبية سبر البر والبحر ، وخالطوا فيها الأمم الشرقية أجيالاً ،
وطمحت أنظارهم لمغالبتهم ، فدققوا في سبب قوة الشرقيين ( التي كانت لهم إذ ذاك)
وبحثوا في أحوالهم فرأوا لهم عادات جميلة وفيما بينهم أفكار سامية ، ورأوا في
دوائر أعمالهم اتساعًا وأيدي الصناعة والاكتساب مطلقة الحرية ؛ ولذلك كان الغنى
والعز مستوكرًا أقطارهم ؛ فأخذ أهالي أوربا عند ذلك في تقليدهم ، لكن لا في
البهارج والزخارف بل في أسبابها والموصلات إليها وهي توسيع نطاق الصناعة
والتجارة ونحوهما من وجوه الكسب ؛ فكان ذلك أساسًا للعمل وقر في النفوس وثبت
في العقول ، وبنوا عليه ما شاءوا ، ولو تأملنا تاريخ سير التقدم الأوربي لرأينا
أسباب التقدم يجمعها سبب واحد وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال
من ظلم الأشراف ( النبلاء ) وغدر الملوك ، وضيق وجوه الاكتساب ، ونفرة دينية
على المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس ، وهذا الإحساس هو الذي دعا
الأنفس الكثيرة العدد إلى الخروج من هذه الآلام فطلبوا لذلك أسبابًا متنوعة أقواها
التعاضد والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق ، فكانت تعقد
لذلك المحالفات والمعاهدات وتتألف له الجمعيات , فكان جرثومة تقدمهم أمرًا منبثًّا
في غالب الأفراد ومحرزًا في أغلب العقول ، وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثروة
وطلبهم لحرية العمل لينالوها , ورفضهم لتلك التقيدات التي كانت تمنعهم من طلب
حقوقهم الطبيعية ، ثم تدرجوا فيه ينتقلون من حال إلى حال ، والأصل ثابت لا
يتغير حتى عم التغير جميع العوائد والمشارب والقوانين ، ولم يكن ذلك كله إلا من
حرص الأهالي أنفسهم على الخروج من الآلام التي كانوا يشعرون بها في كل لحظة
من حياتهم , ويتوارث هذا الشعور وذلك الحرص أبناؤهم من بعدهم .
أما عقلاؤنا فقد وجهوا نظرهم إلى حالة التمدن الحاضرة والأهالي على غير
علم منها بأنفسهم ، فاستلفتهم العقلاء إليها لكن لا بتحريك غيرتهم إلى العمل اختيارًا ,
أو ألجأتهم إليه اضطرارًا وتسهيل الطرق لهم حتى يسير من جميع عناصر البلاد
وطبقاتها أشخاص مختلفون في الأفكار والأحوال إلى تلك البلاد المتمدنة ، ويشهدوا
عاداتها وأحوالها ويهتم العقلاء منهم بالبحث عن أسباب السعادة وموجبات الشقاء
اهتمام المضطر الذي يطلب خلاص نفسه من هلاك يتوقعه ، بل جلبوا إليهم كثيرًا
من أبناء تلك البلاد تظهر عليهم الرفاهية ، وترى عليهم آثار النعمة يتكلمون بما لا
يفهم ، ويتفكرون فيما لا يعقل , فشادوا بيننا أبنية وزينوها بما لم نكن نعهده من
أنواع الزينة ، وجلبوا إلينا من مصنوعاتهم ما راق منظره وطار مخبره ، لكننا لم
نشهد مصنعه ، ولم ندرِ منبعه ، ورأيناهم يتزينون بهذه اللطائف التي تذهب الحزن
وتشرح الخواطر ويتنافسون فيها ، فأعجبتنا حالهم هذه ، وقال لنا العقلاء : كونوا
مثلهم والحقوا بهم في هذه السعادة ، ثم صاروا أئمة لنا في العمل ، فأخذنا نتشبه بهم
لكن فيما رأيناه وهو الزينة والبهرجة غير باحثين عن كون ذلك هو الذي يلحقنا بهم
في الحقيقة أم لا ، ومن ذلك ترى أفكار الغالب منا دائمًا عند ما يجد فرصة الاقتدار
موجهة إلى تشييد الأبنية ، وتجويد وضعها ، وإتقان ترتيبها ، وتزيين بواطنها
وظواهرها , والتوسع في لوازم المآكل والمشارب وآلاتها وأوانيها والتفنن فيها ،
وجلب ما هو أغلى ثمنًا وأدخل في النظر وأجلب للأنس والتأنق في الملابس
ومحاذاة الأوربيين فيها ، ومحاولة أن تكون على النمط الأعلى عندهم ، وعلى هذا
النحو تفننا في أنواع المفروشات وتألقنا في اقتنائها من أنواع مختلفة مما غلا ثمنه
وارتفعت عن الطاقة قيمه ، وتنافسنا في ذلك كتنافس أسلافنا في افتتاح البلاد وتملك
الحصون . وبالجملة فقد سلكنا مسالك المتمدنين في ثمرات تمدنهم التي جعلوها من
زوائدهم ، فأسرفنا في الإنفاق ، وصار الناظر لملابسنا ومساكننا والذائق لمطاعمنا
ومشاربنا يشهد بأننا في ذلك بحمد الله متمدنون ، فقد اشتركنا معهم في ثمرات التمدن ،
أي ما ينتهي إليه حال المتمدن من طلبه للتمتع باللذائذ وركونه لترويح النفس
وتخفيف أتعابها .
لكن من تأمل حقيقة الأمر علم أن مثلنا في ذلك كمثل الدجاجة رأت أن
الأوزة تبيض بيضًا كبيرًا فطلبت أن تبيض مثلها ، فأجهدت نفسها في أن تكون كذلك
غير عارفة أن ذلك لا يكون إلا باستعداد ( أي بأن تكون أوزة ) فحبست نفسها
واستعملت قوتها الدافعة حتى انشق منها ما انشق وتمزق منها ما تمزق ، فإن
إفراطنا في تقليد الأوربيين ومجاراتهم في عاداتهم التي نظنها تفوق عاداتنا البسيطة
فعل في نفوس غالب الأغنياء منا فعلاً غريبًا ، صرف نظرهم إلى اللذائذ واستكمال
لوازم الترف والنعيم , وأحدث في نفوسهم غفلة عما يحفظ ذلك عليهم ، بل يوجب
ازدياده لديهم وهو الوقوف على الطريق المستقيم الموصل إلى اكتساب المجد
الحقيقي والشرف الذاتي الذي يتبعه الغنى والثروة والراحة المستتبعة للذة الحقيقة
والنعيم الباقي في الحياة وبعدها ، ومن هذه الجهة ( جهة الغفلة عن روح الثروة
وحياتها وهو التمدن الحقيقي ، أعني الإحساس بوجوه اللذائذ والآلام والتنشيط في
طلب وجوه الكسب المتنوعة ، وطلب المنة على تلك الوجوه ومراعاة الحقوق
والواجبات الطبيعية والشرعية ) فارقوا الأمم المتمدنة فصح أن يطلق عليهم أنهم
في غاية التمدن مع أنهم إما في بدايته وإما قبلها بكثير ، وحق لهم ذلك فإنهم رأوا
أبواب اللذات مفتحة قبل أن يجدوا عقلاً يقدر لهم ما يلزم منها وما لا يلزم .
كل ذلك نشأ من جلب تلك العوائد الترفيهية إلى بلادنا وطلب التحلي بها بدون
أن نحوز ما يوصلنا إليها من أنفسنا , وليتنا قبل أن نشيد بيوتنا بالارتفاع الشاهق
والترتيب المحكم ونزينها بأنواع النقوش والأثاثات أبقيناها على بساطتها , وشيدنا
في عقولنا الهمم الرفيعة والحمية التي لا تمتد إليها الأيدي ، وأحكمنا طرق سيرنا في
حفظ حقوقنا ، ورتبنا في مداركنا جميع الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا ،
وتجذب إلينا ما فقدنا , وزينا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية من رحمة
بالضعفاء ورفق بالملهوفين وغيرة على البلاد وأنفة عن الصغار .
لعمر الله لو قدمنا هذه الزينة الجوهرية على ذلك الرونق الصوري لكان العالم
بأسره ينظر إلينا نظر الراهب الخائف أو يرمقنا بلحظ المعظم المبجل ، وكانت
معيشتنا البسيطة أوقع في نفسه من معيشته الرفيعة , وكان ذلك سهلاً لو أن
الزاعمين فينا حب الترقي والتقدم ساروا بنا من البدايات وحجبونا عن النهايات حتى
لا نراها إلا من أنفسنا فنطلبها لا لأنها أعجبت النظر ولكن لأنها بنت الفكر ونتيجته ،
وكانوا يعلموننا محاذاة المتمدنين في أصول أعمالهم لا في زوائدها ، فكنا بذلك
نصل إلى ما وصلوا إليه في زمن أقل بكثير من الزمن الذي نالوا فيه ما نالوا ، لكن
فات الوقت ونحن الآن فيه فعلينا بالعمل غير مقتصرين على مجرد الأمل .
وكتب في العدد 1092الصادر في 19ابريل سنة1881
كلام في خطأ العقلاء
لسنا ننكر أن بلادنا كانت في الأزمان السابقة تحت تصرف أقوام خشنين لا
يعلمون للخلقة غاية إلا وجودهم الشريف ، وكانوا يعدون أفراد الأهالي أنعامًا خلقت
لهم يستعملونها كيفما يريدون ( كما كان ذلك شأن سائر الأمم غربية وشرقية )
فأرغموا أنف الطبيعة ومحوا أنوار الإلهام الفطري الذي وضعه الله في نفوس عباده
لفهم منافعهم ومضارهم حيث وقفوا سدًّا حصينًا بين كل شخص ومنافعه ، فاستأثروا
بجميع ثمرات الأعمال ، فلا يعمل العامل وله أمل بأن يجني ثمرة عمله ، فإنه عندما
تبدو الثمرة يسرع حاكمه إلى قطفها ، وكانت حياته معقودة بغضب ذاك الحاكم
ورضاه ، فإن رضي عنه فهو في أمن عليها , وإن غضب عليه فهو إن عاش
كمريض بلغ به المرض غايته ينتظر الموت في كل لحظة ، فيكون في حالة تسليم
مطلق ( خائف على حياته مستسلم لقضاء حاكمه ) وبالجملة لم يكن لأحد من الأهالي
حركة اختيارية ناشئة عن فكره الخاص به في تحصيل منفعة أو درء مضرة ، بل
كانت أعماله تابعة لإرادة سيده الحاكم ، وكان يعتقد أنه وما ملكت يداه حل للآمر
عليه ، وليس لتصرف ذلك الآمر حد يجب أن ينتهي إليه ، وهذه حالة يصعد بها
تاريخ هذه البلاد أجيالاً كثيرة ، إذا استرسلنا في طلب مبدئها قد نصل إليه وقد لا
نصل ، وبذلك الاسترقاق الظاهري والباطني فنيت الإرادة ومات الاختيار وطفئ
نور الفكر بالمرة .
وكان من جملة التقييدات العنيفة التي وضعها أولئك المتسلطون ، الحجر على
أهالي المدن وغيرها في الأعمال والأقوال الشخصية ، حتى كانوا من شدة التضييق
يستعملون طريقة يقال لها الكبسة ، وهو أن يهجم رجال الضابطة على بعض
الأماكن ليلاً ؛ ليقبضوا على من يظن بهم الاجتماع على فسق كفحش بالنساء أو
شرب للمسكرات وما شاكل هذا ، فإن وجدوا شيئًا من ذلك ساقوا من يجدونه إلى
حيث يستوفي عقابًا أليمًا ، وكذلك وضعوا في الأفواه لجامًا من الرهبة ، فلا يكاد
ينطق الناطق بكلمة في مطلب علمي أو تجادل في حال شخص إلا ويرمى بكفر
وزندقة أو طعن في حاكم ، وله عند ذلك الويل الذي لا مخلص منه . كل ذلك سمعنا
بعضه بالنقل ، ورأينا بعضه الآخر بالعيان .
فتلك كانت حالة تعيسة يجب على عقلائنا أن ينتحلوا كل وسيلة لتخليص
رقاب العباد منها . فرزق الله هذه البلاد بأناس خالطوا الأمم المتمدنة ، وطالعوا
أحوالها ، ورأوا ما عليه أهلوها من إطلاق الإرادة وحرية الاختيار ، فطلبوا لبلادنا
أن تكون في أحوال أهاليها الشخصية على مثال تلك البلاد المتمدنة ، لكنهم أول ما
بدءوا به أن أباحوا ( ما أقبحها من إباحة ) لكل شخص أن يعمل فيما يخص نفسه
بإرادته ويتكلم فيما هو مقصور على ذاته بمقتضى فكره ، وشرطوا في ذلك شرطًا
(ما أنفسه من شرط ) وهو أن تكون تلك الأعمال والأقوال متعلقة بارتباطاته مع
حاكمه ، فإن كانت كذلك فدونها ضرب الرقاب أو سكن الحبوس أو الجلاء عن
الأوطان ، وسموا تلك الإباحة حرية ونادوا بها على الألسنة الظالمة ، فكان حاصل
تلك الحرية أن لا جناح على من ارتكب أي جريمة ، وتطبع بأي خلق حسنًا كان أو
سيئًا ، وذهب إلى أي مذهب صحيحًا كان أو فاسدًا ، وإنما عليه أن يكون تحت أمر
الحاكم ليس له حق في أن يمنع عنه مطلوبًا أو يستقضي منه مسلوبًا أيًّا كان ، فلم
يجعلوا للسلطة حدًّا معينًا ، وهو الذي نسميه بالقانون الذي يعرفه كل أحد ، فيقف
عنده بل أبقوها على ما كانت عليه ، وجعلوا تلك الحرية غطاء على هذا الاستعباد ،
فهم في الحقيقة لم يقلدوا الأمم المتمدنة في إطلاق الإرادة من جهة الارتباطات
العمومية الثابتة فهذا خطأ من وجه - إن كان لهم مقصد إصلاح - وظلم إن
كانوا معتمدين هذا التقييد ، ثم إنهم قلدوها في الأحوال الجزئية الشخصية مع علمهم
أن البلاد غير معتادة على مثل هذه الحرية فيها ، فلذلك اندفعت الناس إلى انتهاب
الشهوات وهتكوا حرمة الوقار ، وتهالكوا على شرب المسكرات في بلادنا الحارة إلى
الحد الذي لا يبلغه الأوربيون في بلادهم الباردة ، وكثرت لذلك الحانات ومخازن
الشراب المهلك للعقول والأبدان ، ثم تولعوا بما يتبع السكر من اللهو واللعب
وتنافسوا في الحظوة عند النساء الباغيات ، واتسع الأمر في ذلك حتى صارت
المداعبة والملاعبة بين النساء والرجال في الطرق والشوارع وتعدى ذلك المرض
المعدي إلى الحرائر ، فذهب الكثير منهن إلى حيث يبتغين ، وافتضحت بذلك بيوت
شريفة ، وكلما طلبت لذلك منعًا أو رُمت له دفعًا قال المولع : هذا حرية .
فضاع شأن الآداب وانحطت قيمة الشرف والوقار ، حيث أصبح أبناء الأغنياء
وذوي المقامات يتسابقون إلى التهور في هذه الأحوال الرديئة ، ويدعون إليها من
دونهم ومن فوقهم ( إلا قليلاً ) ويصرفون فيها ما لا يقدر من النقود ( وسأجعل لذلك
موضوعًا خاصًّا ) ، وكاد فساد الأخلاق يسري إلى كثير من طبقات الأهالي - هذه
نتائج حرية ذلك العمل .
وأما نتائج حرية الفكر ( التي يزعمونها ) فكانت خاصة بالاعتقادات
والمشارب الدينية ، فأخذ كثير من الناس يجهر بين العامة بألفاظ تناقض دينه الذي
ولد فيه ، فإن قيل له : خفض من صوتك وأجمل في قولك فما كل الناس يرضاه ،
قال : إننا في زمان الحرية . على أن أفكاره التي يذهب إليها في مخالفة دينه ليست
بأفكار مرتبة مبنية على مبادئ ربما يقال : إنه اتخذها مشربًا . بل ألفاظ حفظها من
معاشريه لو سئل عن معناها أو طلب منه أي وهم ساقه إليها لعجز عن التعبير ،
والتجأ إلى التهوس ورمى من يخاطبه بالجهل والخشونة حيث لم يوافقه على مشربه
الفاسد ، ثم يتخذ هذه الخزعبلات الاعتقادية التي يظنها تنورًا وتبصرًا ذريعة
لاستباحة القبائح واستحلال المحظورات ، ولقد رأيت شخصًا ينكر ألوهية الخالق
والعياذ بالله ، ثم يسأل عن حكمة المعراج ومنهم من ينكر النبوات ، ويعتقد
بالشياطين وما أشبه ذلك ، فهؤلاء من الجهل بمكان لا يعلوهم فيه حيوان فضلاً عن
إنسان .
فهذه الحرية البتراء التي رمانا بها عقلاؤنا لم تدع لها أثرًا يحمد وإن كان
الأورباويون يحرصون عليها ، فإن استعداد بلادنا لم يكن ملائمًا لمثل هذا الإطلاق
الذي هو في الحقيقة عين الرق والاستعباد ، فإن الجاهل الذي لم يتعود على
تصريف إرادته وإعمال اختياره ، إذا أطلق له العمل وقع في أشد من الرق وأضر
من العبودية ، نعم إنه عتق من أسر الضابطة وغل الجزاء , ولكن شهواته الخبيثة
تبيعه بأبخس الأثمان إلى الإسراف والبطالة والكسل وجميع أنواع الشرور ، وتودعه
سجن الفقر وتغله بطوق الذل والعار ، وياليته بقي تحت سيادة القانون يسوسه حتى
في أعماله الشخصية ، فالكبسة على ما كان فيها من الخطر على النفس والأموال
وشناعة الصورة ، لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه
التربية ، فيكون لكل شخص زاجر من نفسه فترتفع الكبسة بذاتها ، ويذهب الناس
أحرارًا بطبعهم ، وما كان ذلك بعسير ولا محتاج إلى زمن طويل ، وما ضرنا إلا
التقليد على غير تبصر بحال البلاد واستعدادها .
فتلك الحرية التي سموها إطلاق الفكر قد عتقت صاحبها من قيد العقل ،
وأسلمته إلى الجهل الأعمى ، فهو يتصرف به كيف ما يقتضي من المضرات ، ولو
أنه بقي تحت سيادة العقل يسوسه المهذبون ويقوده المتبصرون حتى يعلم من أين
تؤتى الأفكار ، وبأي الوسائل يوفى العقل حظوظه الحقيقية ، لكان ذلك خيرًا وأبقى ،
ولم يحتج إلا لتخفيف يسير في شناعات المتعصبين وتعيين دائرة منتظمة يردد
الكلام بين محيطها إلى زمن معين حتى تستقيم العقول ، فتضرب لنفسها حدًّا تقف
عنده ، ولكننا طلبنا أن نكون على مثال الأوربيين في عوائدهم حتى المُضرة
بأخلاقنا وأعمالنا وأفكارنا .
وياليت العقلاء منا في الزمن السابق اقتدوا بالبلاد المتمدنة في الأزمان السابقة
عند إرادتهم تأييد الاستقلال حقيقة حيث بدأوا بالمجالس البلدية ، فكان يمكنهم أن
يضعوا لأهل البلاد قانونًا بسيطًا ينطبق على عوائدهم وأحوالهم ، ويقرب فهمه من
إدراكاتهم ، ثم يفوض إلى أهل كل بلد أن تنتخب منها عددًا معينًا ؛ ليقوم بالفصل
بينهم على مقتضى هذا القانون ، ثم يصنعوا مثل ذلك في المدن على حسبها ،
ويذهب أشخاص من العارفين إلى القرى والمدن ؛ ليفهموا أولئك مواد القانون السهل
البسيط ، ويدربوهم على كيفية العمل به ثم لا يزلوا على المراقبة أزمانًا ، فلا
تمضي مدة حتى يكون جميع الأهالي عالمين بما يجب عليهم ولهم ، فتنمو فيهم القوة
وتحيا فيهم روح الاختيار كما كانت عليه الجمعيات ببلاد إيطاليا و فرنسا وغيرها
في مبدأ تمدنها ، ثم يتدرجوا في القوانين إلى أرقى مما وضعوا أولاً مع تفهيمه
وتعليمه لجمهور الأهالي ليعلموه فيقفوا عند حده .
وكان في ذلك غنية عن القوانين الضخمة التي لا يفهمها إلا الراسخون في
العلم ، وهي محفوظة بين دفات الكتب وصدور بعض النبهاء ، لكن الأهالي
أنفسهم الذين قد وضعت هذه القوانين لهم غير عالمين بها ، فكيف يطلب منهم أن
يعملوا بمقتضاها ؟ إن هذا لشيء عجاب ، غير أن العقلاء منا يقولون : لا بد أن نكون
مماثلين لأوربا في القوانين والعادات رغمًا عن الحق الذي يقضي علينا بأن نكون
خاضعين لأحكام بقعتنا ، وما تقتضيه طبيعة موقعنا الذي نشأنا فيه ، ولن يكون ذلك
أبدًا .
وإننا نخشى لو تمادينا في هذا التقليد الأعمى واستمر بنا الأخذ بالنهايات
الزائدة قبل البدايات الضرورية الواجبة أن تموت فينا أخلاقنا وعاداتنا ، وأن يكون
انتقالنا عنها ( لو انتقلنا ) على وجه تقليدي أيضًا فلا يفيد . لكن الوقت لم يفت بعد ،
فعلى من يريد بنا خيرًا أن يذهب بنا طريقًا قويمًا ولا أراه إلا نشر القوانين ( وإن
كانت طويلة صعبة المنال في وقتنا هذا ، وما لا يدرك كله لا يترك كله ) إنما لا
يكتفي بنشرها على لسان الجرائد ، فإن قارئيها قليل ، ولا بإرسال المنشورات إلى
عمد البلاد فإن كثيرًا منهم قلما يفهم إذا قرأ , ولكن لا بد من تشكيل جمعيات في
القرى والمدن لتفاهم القوانين واللوائح والمنشورات ، وإلا ضاعت الحقوق وكثرت
المشاكل ، وصعب كبح صغار المأمورين عن الإجراءات المضرة بالحكومة
والأهالي معًا ، ثم وضع حدود قويمة للأعمال الشخصية والأخلاق والتصرفات ،
فإن إصلاح الأخلاق والأفكار والأعمال من أهم واجبات البلاد ، وبدونه لا يمكن
إصلاح شيء من أمورها وليس بجائز أن يجعل في درجة أقل من درجة قوانين
حفظ الضبط والربط .
ومركز النظر في جميع ذلك نبهاء البلاد وذوو الشأن فيها ، فعليهم إن كانوا
صادقين في الوطنية أن يبذلوا الجهد في طلب ذلك والقيام بما يلزم وإلا فإنهم مقلدون
فقط ، والله أعلم .
وكتب في العدد 1400 الصادر في16جمادى الثانية سنة 1299 - 4مايو
سنة 1882
التمرن والاعتياد
حصول صورة الشيء في النفس علم ، وميلها إلى طلبه أو تركه إرادة ،
والتصميم على أحد الأمرين عزم وليس بعده إلا الطلب بالفعل أو الترك ، والترك لا
يحمل النفس كبير مشقة سوى الوقوف على كون المتروك من الأمور التي تكلف بها
النفس تكليفًا ضروريًّا أو كماليًّا أو كان من الأمور المباحة أو المحظورة ، فإذا وقفت
على حقيقته انصرفت عنه انصرافًا .
أما الطلب فهو أحد الأمرين الذي يحمل النفس عنائين أحدهما يتعلق بها من
جهة قوتها الفكرية ، والثاني من جهة القوة العملية المودعة في أعضاء البدن ,
والأول مقدمة الثاني وسابق عليه ، ونسبته إليه لدى أرباب الحل والعقد ورجال النقد
نسبة الأمرين المتضايفين لا يوجد أحدهما بدون الآخر .
أما الأول فهو البحث في أصل الطلب واستقصاء ما يعود منه على الطالب أو
غيره من المنافع والتنقيب عن الوسائل ، التي توصل إلى الغاية بلا مشقة ولا فوات
منفعة وتقدير الأعمال إزاء الفائدة ؛ لتكون المنفعة مساوية على حكم التبادل في
الأعمال البشرية أو زائدة عنها على أصل التفاضل ، وذلك كله إنما يكون بعد أن
تعرف نسبة الطلب إلى غيره من المطالب ليترجح عما سواه بخاصية من الخواص
حتى لا يلزم على الشروع فيه الترجيح بلا مرجح , هذا شرح حال العناء الأول
وليس بعده إلا الشروع في العناء الثاني عناء الأعمال البدنية .
أما فوائد الأعمال فهي وإن كانت جزئياتها غير قابلة للدوام والاستمرار ، إذ
هي نتيجة أعمال متجددة ، وكل متجدد فنتائجه كذلك ، ولكنها تقبل الدوام بكليات
أنواعها دوامًا غير مطلق , والطالب لا يستغني عن هذه الفوائد وقتًا من الأوقات ،
وكيف يستغني مع أن الحامل له على العمل حاجته إلى فوائده ، سواء كانت من
الضروريات أو الكماليات فهو محتاج إلى دوام الفوائد ، ودوامها يتوقف على دوام
الأعمال ، وهو أمر موقوف على العامل ، وليس إدمانه العمل المطلوب في
موضوعنا هذا أمرًا من لوازم وجود ذاته ، فيحتاج إلى صفة زائدة تقضي عليه أن
يكون دائم العمل بقدر الحاجة ، وليس احتياجه كافيًا لهذا الاقتضاء ، إذ ربما تحققت
الحاجة بدون أن يتحقق دوام العمل ، وإلا لم نسمع بذكر التهاون والكسل والإهمال
وما شاكلها ، على أن الحاجة متفاوتة فما كان منها في الدرجة الأولى درجة
الاضطرار البحت ، فهو بنفسه كافٍ لإدمان العمل بخلاف ما كان منها في الدرجات
الثانوية فما فوق والصفة القاضية بالإدمان ؛ أي : المتممة لعلته هي التمرن
والاعتياد .
وبعبارة أوفق بالغرض : إن ما لا تدعو إليه الحاجة أصلاً في زمن من
الأزمان قد تدعو إليه في زمن آخر لا لسد الاضطرار البحت ، بل لما زاد عنه من
الحاجات الثانوية كالكماليات والمحسنات ، وقد تدعو إليه بعد زمن طويل أو قصير
لسد الاضطرار البحت ، فلا يجد الإنسان عنه فرارًا فيتكلفه مقهورًا مقسورًا يتصور
المنفعة على بعد ولكنه غائب في دهشة آلام الأعمال التي لم يتكلفها يومًا من الأيام
لولا حكم الصروف والحادثات التي تقلبه على بساط القهر تقلب العصفور في يدي
الطفل ، فلا يزال يحس بالألم ويدمن العمل حتى يهون عليه شيئًا فشيئًا إلى أن
يزول الألم بالكلية ، ولا يجد إلا عملاً بدون ألم ، فإذا مضت برهة بعد الابتداء
يحس من نفسه بعض الميل إلى العمل ، فكأن الألم الأول استحال إلى ضده ( على
حكم تلاقي الطرفين ) ، ويجد منه باعثًا طبيعيًّا إليه ، وهكذا يزداد الميل ويشتد
العشق حتى لا يميل به الكسل يومًا ما إلى إهمال العمل ، وهذا هو المقصود من
التمرن والاعتياد .
أما كون الشيء ربما يكون ضروريًّا في وقت دون وقت فالأمر فيه وإن كان
على ما أظن لا يحتاج إلى البيان ، غير أني بحكم الحاجة لتوضيحه لبعض
الناظرين أقول :
إن الإنسان من حيث هو مفكر لا يقف عند حد محدود فيما يتعلق بلوازم حياته ،
وهو في ذاته غير مكلف بكل فرض مطلوب يعده من قبيل التمدن أو الحضارة أو
الترف في المعيشة أو غير ذلك ، بل يكفيه ما يسد الرمق من القوت ويقيه الحر أو
البرد من اللباس ، ويكنه وقت الإيواء من البيوت غير أنه لما تأنق في هذه
الضروريات بعض التأنق ورأى أنها تقبل التحسين شيئًا فشيئًا أخذ على نفسه أن لا
يقر له قرار ولا يهدأ له جأش حتى يستخرج من دائرة الإمكان كل ما تتأدى إليه
فكرته ، فجد واجتهد ، واستطلع بقوته النظرية خواص العناصر فحسبها عندما
اكتشف منها معدات تساعده على غرضه أنها لم تخلق إلا له ، فتسلط عليها بصفتي
التحليل والتركيب حتى فتح أبوابًا للتجارة والزراعة والصناعة ووصل إلى ما وصل
إليه الآن ، وهو في هذا السير الطويل يتحمل أثقالاً على أثقال كلما وصل منه إلى
درجة ظنها آخر الدرجات ، وحسب نفسه فيها غريبًا ؛ فيتخذ نتائج تقاليدها الغريبة
زينة شأن كل أمر غريب نادر الوجود إذ كل نادر عزيز . قال الشاعر :
سبحانه من خص القليل بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس لمحتاج إلى أنفاسه
فإذا توطنت نفسه إلى هذه الغرائب زمنًا استزاد منها حتى يبلغ بها حد الكثرة
فيستعملها في لوازمه الضرورية في كافة أحواله ، ولا يخص بها وقتًا دون وقت ،
إلى أن تصير من قبيل الأمور المعتادة التي لا يستغني عنها بحيث يعتبر كل ما كان
أقدم منها وفي درجة قبلها من التقاليد ساقطًا عن درجة الاعتبار وغير جائز
الاستعمال ، ويتوهم أن استعماله في الحالة التي وصل إليها يزري بمقامه المنيف
ويحط بمقداره الشريف ، ولا يتذكر أنه هو الإنسان أيام كان يقتات بسائط النبات ،
ويستتر بأوراق الأشجار ، ويأوي إلى الكهوف والأغوار ، فبان بما ذُكر أن الشيء قد
يكون ضروريًّا في وقت دون آخر .
ومن وجه آخر نقول : إِنَّا إِذَا سبرنا أخبار الأمم نعلم يقينًا أن الهيئة
الاجتماعية البشرية ما وصلت إلى درجة من درجات التمدن والحضارة في وقت من
الأوقات دفعة ، بل لا بد كما يشهد العيان أن تسبق أمة من الأمم إلى غاية في المدنية ،
فإذا نظرت إلى جارتها ، وقد بقيت في مركزها متأخرة عنها . والإنسان { قُتِلَ
الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } ( عبس : 17 ) بحكم الحيوانية مطبوع على التعدي والشره ،
فتفاخرها بما يدهش العقول ويبهر النواظر من صناعاتها الغريبة وأوضاعها الجميلة ،
فترمقها تلك بعين الذاهل المندهش ، وتتوهم أن ضعفها واقعي فتنقبض نوعًا من
الانقباض ، فإذا توسمت فيها هذه الانكماش والذعر ( الخوف ) أخذت تهددها بما
تقلب عليها من ضروب الحيل والدهاء ، وبما تتظاهر به من قوة الجند وكثرة العتاد ؛
فتقف تلك وقفة الحائر المتفكر إلى أن يرشدها التأمل إلى أن هذه ما وصلت إلى ما
وصلت إلا بالعلم والعمل المتوقفين على الكد والاجتهاد ؛ فتندفع وراء الجد بحكم
الاضطرار حتى تصل إلى ما وصلت إليه أو تكاد ، غير أن تلك أيضًا بعد أن تذوق
لذة التقدم ، وتنسيها سكرة التيه طعم الذل الذي كانت تقاسيه تحت رهبة جارتها
الأولى ، وتعامل الأمة المجاورة لها أيضًا بمثل ما كانت تعامل به في مبدأ الأمر
حتى تضطرها كذلك إلى أن تركب متن الاجتهاد في السير وراء من تقدمها ، وهكذا
كلما دخلت أمة من باب كلفت به من يجاورها من الأمم حتى تنتظم الأمم جميعًا في
سلك واحد في هذا الباب ، ولكن حيث إن حب التسابق طبيعة في الناس فلا تراهم
يقفون لدى نقطة ، بل متى وصلوا إلى حد ما من حدود التقدم فلا يمضي زمن
طويل حتى يقال : إن أمة كذا انتهزت فرصة عظيمة وفتحت بابًا من أبواب التقدم
عاد عليها بالنماء في الأموال والأنفس والثمرات ، وبأن مجاوريها يخشون بأسها
ويراقبون حركاتها ؛ فتضطرب الهيئة الاجتماعية البشرية من هذا النازل الذي لم
يكن في الحسبان ، ولا تسكن خواطر بقية الأمم والممالك حتى ينساقوا إلى هذه
الخطوة التي خطاها غيرهم على غفلة منهم وهم كارهون ، فبان أن الأمم قد
يحتاجون في زمن ما لا يحتاجونه في آخر , فصدق القول : إن الشيء قد يكون
ضروريًّا وقد لا يكون .
وما ذكرناه من التقلبات والتنقلات يحكي حال الجمعية الإنسانية من يوم أن
تفرقت شعوبًا وقبائل يتخالفون في العوائد والأخلاق فيتنافسون ويتحاسدون على
النقير والقطمير ، ويغلب عليهم حب الذات والميل إلى الخصوصيات ، فيدعون أنهم
أجناس شتى ، ولا يزال حالهم كذلك يتقلبون على جمر الشحناء ويعذبون بعوامل
البغضاء ، فتارة ترمي بهم الأطماع في مخاليب التكلف ومشاق التنقل من حال إلى
حال فيضطربون لهذا الأمر اضطرابًا وينقبضون منه انقباضًا , وآونة يلقي بهم
الجهد الجهيد بعد أن يروا من الصعوبات ألوانًا في بوادي الراحة عندما يصلون إلى
نقطة التمرن والاعتياد ، ولكنها نقطة غير ثابتة ، كما أن درجات تقدمهم غير
متناهية ، فلا يزالون يترددون من التعب إلى الراحة حتى يرجعوا إلى المجرى
الطبيعي فيلتئمون بعد التفرق ، ويرفعون عن أعينهم حجاب هذا التشتت .
ويا ليت شعري ما هو النازل الذي حل بالإنسان فغير معالمه الطبيعية ، وبدل
أخلاقه السلمية ، وحل رابطته النوعية ، وإلا فعهدنا به إن لم نقل : إنه من أم وأب
تسليمًا جدليًّا فهو من نوع واحد يشف مرآه عن الوحدة التامة الناطقة بأن الإنسان من
جرثومة واحدة نشأ عنها عائلة واحدة حواها بسيط واحد ، ربطتها عادات وأخلاق
متحدة الصفة ، ولقد رمزت تعاليمه الحاضرة - التي منها وهو أكبرها تعميم
المواصلات ، وتأكيد الروابط بين الممالك وحركة الاجتماع والتآلف - إلى هذا السر
المكنون ، وبشرتنا المحافظة العامة على دعائم السلام والراحة العموميين حفظًا
لحقوق الإنسان وصونًا لذمة الشرف بأن الحركة العمومية موجهة إلى النقطة الأولى ،
وكلما قربت إلى المركز زادت سرعتها شأن كل حركة طبيعية ، ولقد أثرت هذه
الحال تأثيرًا خفيًّا في الجم الغفير من عقلاء الناس ؛ فمالوا إلى خدمة الإنسانية من
غير أن يتعصبوا لجنس ولا دين ولا مذهب ، فإذا رجع الإنسان إلى مركزه الطبيعي
لا ترى الجمعية البشرية بعد إلا كساكني منزل واحد يرتفقون بمنافعه على السواء ،
ويجدون من بركات الأرض ما يكفيهم مؤنة التعب ، ويكفهم عن الشقاق والعناد . إذا
أصاب قبيل منهم منفعة عادت على الجميع بدون اختصاص على حكم تبادل
الأعمال ، وإذا نزل بقبيل نازل توجه الكل إلى إنقاذه مما ألم به ، وساروا جميعًا
على وفق القانون الطبيعي المودع في فطرة الإنسان يهديه إليه مَن علم الطير
النياحة ومرنه على السباحة ، ثم لا ترى فيهم إذ ذاك ما يحتاج معه الإنسان إلى
كلفة وعناء ، بل لا ترى إلا أعمالاً جارية على منهج السهولة منهج التمرن والاعتياد ،
اهـ من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام .
(9/593)
 
ربيع أول - 1325هـ
مايو - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

منافع الأوربيين و مضارهم في الشرق
[*]

( 1 )
سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة
بهم ؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار ، وبركان الأخطار ، لولاها لما
جاس الأوروبيون خلال هذه الديار ، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار ،
وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة ؛ إذ لولاها لكان
أهل الهند و الأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم ، وجفوتهم للمدنية وفنونها
التي وصلت إليها في هذا العصر ، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا
يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها ؛ على الطريقة التي كانت
متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا . ناهيك باليابان وما صارت إليه،
وبالصين وما تشرف عليه .
يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع ، العارف حقيقة حال الهند
والأفغان ومراكش ومصر ، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر ، وأن
يستفتي أمثاله : أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة
التيمورية ، بالمعارف والصنائع الوطنية ، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم ،
وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة ، بجهالتها ، وغباوتها ،
وعصيانها لكل نظام ؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن
المدنية الأوروبية ، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين ؟
ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند . ألم تأخذ مصر بأسباب
المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها ؟ ألم تدخل في أول
ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح ، خابت به آمال طلاب الزواج
من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب ؟ كل هذا يقال في الاستفتاء ،
ويقال أكثر منه ، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال : بلى . وهي كلمة يكتفي بمثلها
مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة ( أولور ) في مقام الإيجاب ، وبكلمة
( أولماز ) في مقام السلب ، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما
جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة ، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله ،
وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال ، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين
ومضارهم في الشرق ؟
هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير ، والجماهير في
الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها ، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين
عنها من يحيط بأطراف مسائلها ، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها ، ولولا أن
هؤلاء العارفين قليلون فينا ، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ
التأخر والانحطاط . وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم ، وإنهم لأعلم
من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون ، وبأنه لا يوزن به شيء .
ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء ، لا يمنعهم من ذلك أن يكون
في إحدى كفتي الميزان ؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى . على هذه الطريقة
القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق ، بعد تمهيد مقدمات
تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي :
(1) إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في
سعادتها ، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة ، وأمور المعاش
والكسب ولا سيما ترقية الزراعة ، وتأسيس الشركات المالية ، ويدخل فيها العلم
والتربية ، والآداب ، وأمور الاجتماع ، وتدبير المنزل ، والعلم بالإدارة ، والسياسية ،
وأصول النظام ، وغير ذلك ، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى .
(2) إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا ،
وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه ، في أفرادها ، وبيوتها
وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة ، أو من جهة النفس
كالعلوم والأخلاق والآداب ، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية
والجهة الأدبية ، ويدخل في الجهة الأدبية الدين .
( 3 ) إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ ، لا الحاكمون منهم خاصة .
( 4 ) إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية ، أي إننا
ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله ، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه
من الكمال ، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها ، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو
خاصتنا أن نكون عليه .
( 5 ) إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا ، وإنما هو
خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد ، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على
ضده .
( 6 ) إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها ، والتنبيه إلى الاستزادة منها
ومن بيان المضار ، تقبيحها والتنفير عنها ، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد
هذه الحقيقة في ألواح الصحف ، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية ، محفوظة من
نزغات الأهواء السياسية ؛ لأن مدونها يحبها لذاتها ، ولا يخاف في تقريرها لومة
لائم ، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون،
وفيما يتركون .
( 7 ) إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه ، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق
حق المعرفة ، خبيرًا بأخلاق الناس فيه ، وعاداتهم ، وطبائع الأمم ، وأحوال
الاجتماع ، وشئون السياسة ، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم
الاجتماعي النحرير ، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه ، وحال
من يعيش معهم ، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها ، وإن
كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما ، وقتله فقهًا وفهما .
من مسائل علم الاجتماع ، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها
ويجاورها ما يناسب استعدادها . فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب ، وأولي قوة وبأس،
اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري ؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح.
والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة ، كان أول شيء استفادوه من
الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك ، فقد كان معظم تجارة
سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب ، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من
الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها . والمصريون وهم أهل حرث وزرع ، قد
استفادوا منهم في ترقية زراعتهم ؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق . وكذلك
يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد ، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية
فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية .

( 2 )
نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم
وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم ، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه
الأهم ، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول :
الفائدة الأولى
استقلال الفكر
رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً ، وكنت تلميذًا في فرقته ، ورأيته
يغمطها ، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها . فقلت له : إنني لا أدعي
مثل هذه الدعوى ، فإن كنت واثقًا ، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو
سياسي ، مما تبحث في مثله الجرائد . قال : اقترح . قلت : اكتب لي مقالة في
الاستقلال ، فسكت ولم يرجع إلي قولا ، ولا كتب شيئا .
عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر ، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني
ساعات ، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة . ولكن كانت أول ما سبق من الذهن
إلى القلم عند الكتابة ، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة ؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى
جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم ؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما
يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته .
يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب ، وقلما تذكر شيئًا في استقلال
الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة ؛ التي تسمى أممًا وشعوبا .
استقلال الآحاد نوعان : استقلال الفكر ، واستقلال الإرادة . وهذان النوعان
هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل ، ويكون حظه من
النجاح على قدر حظه من قوتهما ، وحسن استعمالهما .
استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده ، فإن العقل
القاصر ؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه ، كما نرى من الأطفال ،
ومن هم في حكم الأطفال من الرجال . فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في
البحث عن الحق والصواب في معارفه ، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو
مصالح أمته عندما يبحث فيها ، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله ، إلا إذا
ظهر له أنه الحق والصواب .
إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال ، لا يعد عالمًا ولا
سياسيا ، بل لا يعد عاقلا ؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد ، أو
في البيوت والمحافل ، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل
العقلي ، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء ، إلا إذا
أريد بالعاقل من ليس مجنونا ؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب
فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له ،
وإنما يتابع كل واحد على رأيه ؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له ، لسبب
من أسباب التهم .
استقلال الفكر طبيعي في البشر ، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم . فأما
التقليد فهو طبيعي في الراشدين ، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل ، ولسار
جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم ، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم
وعملهم { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون } ( الزمر : 9 ) لو ترك
الناس وفطرتهم ، لأعطوا طور القصور حقه ، وطور الرشد حقه . ولكن معظم
الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم ، مستدلين على آرائهم ، ولكانت
أعمالهم على حسب أفكارهم ؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في
عرف هذا العصر . ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا
ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد . ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى
الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية .
الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد ، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة
من كمال الأفراد ، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم .
التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع
الحكومة ؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم
واحد منهم ، إرادته حكم ، وهواه شريعة وقانون . فاستقلال الأفكار حرب لحكم
الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً ، والعاقبة للمستقلين .
الشرق أعرق في التقليد من الغرب ، فهو أعرق في الاستبداد أيضا . وقد ظهر
الإسلام في الشرق ؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد ، ويئط من وزر الاستبداد
الثقيل ، فكسر القيود ، ووضع الأوزار . ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل
من نصف قرن . فكان كلما قوي يقوى التقليد ، ويضعف الاستقلال حتى زال من
مجموع الأمة ، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء ، لا وليّ لهم ، ولا نصير .
قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق . وحلكت
ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها . ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من
علوم عرب الأندلس وغيرهم ، فوجد فيها من عرف قيمته ، وأنضى في استعماله
عزيمته ، حتى صار ضياء ساطعا ، ونورًا في تلك الآفاق لامعا ، وجاءت ساعة
المشرق بطلوع الشمس من المغرب .
جاهدت أوربا أفضل الجهاد في سبيل استقلال الفكر والإرادة ، حتى ظفرت
بأعدائها من رجال الدين ، والملوك المستبدين ، وجعلت كلمة الدليل هي العليا ،
وكلمة التقليد هي السفلى ، فجمعت بين عزة البداوة ، ومحاسن الحضارة ، فارتقت
فيها العلوم والأعمال ، إلى درجة لم تعهد في جيل من الأجيال ، من حيث رجع
الشرق القهقرى ( وغدًا يقدمه الزمان إلى ورا ) .
ما كان العلم ليدع الجهل على ما هو عليه ؛ حتى يحكم فيه حكمه ، ويوقع على
أهله عدله أو ظلمه ، اندفعت أوروبا إلى الشرق مستعمرة للأرض ، أو داعية إلى
الدين ، أو طالبة للكسب ، فامتزج أهلها بأهله ، ووصلوا حبلها بحبله ، بما أنشأوا
من المدارس ، وما تقلدوا من الأعمال والوظائف ، فطفق أهل الشرق يتعلمون على
الطريقة الأوروبية طريقة البحث والاستدلال ، والاستنباط والاستنتاج وأنشأوا
يستنشقون نسيم الاستقلال ، ويتوجهون إلى طلب الكمال .
فهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوروبيين ، ينبغي أن نشكرها لهم ، ونحمد
لأجلها معرفتهم . وليس للمسلم أن ينكر ذلك ؛ محتجًا بأن القرآن الحكيم قد أرشد إلى
هدم التقليد ، وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال ، فإن هذا وإن كان حقًّا
يعترف به المنصف من علماء أوروبا ، لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق
عامة ، وللمسلمين خاصة ، ودليلنا على هذا ، أن رجال الدين منا لا يزالون في
الأكثرأسرى التقليد ، وأعداء الاستقلال ، فيجب أن ننصف أنفسنا ، ونشكر لمن نبهنا
إلى مصلحتنا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) كتبنا هذه المقالة (للجريدة) ونشرت فيها .
 
ربيع أول - 1325هـ
مايو - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الجامعة الإسلامية

تكلم اللورد كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلامًا يؤيد الذين
أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها ، فرأينا أن ننشر ما كتبه الأستاذ الإمام عن
ذلك في رده الثاني على موسيو هانوتو ، وهو لم ينشر في الرسائل المتداولة ، ناقلين
ذلك عن الجزء الثاني من تاريخه قال رحمه الله :
شأن المسلمين اليوم ، وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين ، وجمع
السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية .
أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد
المسلمين ، ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه ، ما خطر بباله أن
يشير إلى هذه الدعوى ، فضلاً عن أن يبني عليها حكما ، وإن ما علق بالأوهام منها
فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي
المغرب ، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها .
وإني أعرض الحقيقة كما هي ، لا يغشاها ستار من تمويه ، ولا غطاء من
تلبيس ، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين
اليوم في كلامهم عن الدين ، وما يَرُد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه[1]
إلى رشدهم ؛ حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم ، ولا يتخذ بعضهم من السلم
حربا ، ولا من السكون شغبا .
لا أنكر أن طائفًا من الدين ؛ طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض
المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض ، وإن نسمة من نفس الرحمن مرت بأنفس
قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم ، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان
عليه أهل هذا الدين ، وفيما صاروا إليه ، وإن منهم من يتكلم بما يرى ؛ إذا وجد
سبيلاً إلى الكلام ، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة ؛ إذا تهيأت له الوسائل
لذلك . ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون ، ويهرفون بما لا يعرفون ، ولا
كلام لنا في هذر المقلدين ، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين .
ظهر الإسلام لا روحيًّا مجردًا ، ولا جسدانيًّا جامدًا ، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك
أخذ من كل القبيلين بنصيب ، فتوفر له من ملائمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره.
ولذلك سمى نفسه دين الفطرة ، وعرف له ذلك خصومه اليوم ، وعدُّوه المدرسة
الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية . ثم لم يكن من أصوله أن يدع ما
لقيصر لقيصر ، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ، ويأخذ على يده في
عمله . جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا ، وألان قاسيًا ، وهذب
خشنًا ، وعلم جاهلاً ، ونبه خاملاً ، وأثار إلى العمل كسلاً ، وأقدر عليه وكلا ،
وأصلح من الخلق فاسدا وروج من الفضيلة كاسدا ثم جمع متفرقا ورأب منصدعًا
وأصلح مختلاًّ ، ومحا ظلمًا ، وأقام عدلاً ، وجدد شرعًا ، ومكن للأمم التي دخلت
فيه نظامًا امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه ، فكان الدين بذلك عند أهله
كمالا للشخص وألفة في البيت ، ونظاما للملك . وظهرت به آثار النعمة عليهم في
جميع شؤونهم ، ولم يفت العلم حظ من عنايته ، بل كان قائده في جميع وجوه سيره.
فإن شاء قائل أن يقول : إن الدين لم يعلمهم التجارة ، ولا الصناعة ، ولا
تفصيل سياسية الملك ، ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم
السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية ، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه
وأباح لهم الملك ، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة ، وما ظنك بدين يقول خليفته
الثاني - وهو في المدينة من بلاد العرب - ( لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب
لسئل عنها عمر ) ويقول خليفته الرابع : ( أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا
أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ) أي خشونته ، يريد
بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان ، وأسوة الفقراء
في حسن الصبر .
هكذا كان الإسلام مهمازًا للمسلمين ؛ يحثهم إلى جلائل الأعمال ، ومصباحًا
لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال ، وتقويم الأفكار ، وعاطفًا يعطف
قلوبهم على الأمم بالعفو ، والمرحمة ، وحسن المعاملة ، حتى رضيتهم الأرض
سادة لها ، وقادة لسكانها ، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم .
أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم ،
ويمقت ما مقته ؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغًا في دينه ، وإن
كان ملك الأرض أو ملكوت السموات ، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في
هذا الدين ما شهد ؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية ينساق إليها الأمر بنفسه
بحكم سنة الله في خلقه .
واأسفا ، لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه ، أما الدين نفسه فقد انقلب
في عقل المسلم وضعه ، وتغير في مداركه طبعه ، وتبدلت في فهمه حقيقته ،
وانطمست في نظره وحق فيه قول علي -كرم الله وجهه - ( إن هؤلاء القوم قد
لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا ) .
لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت .
ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول : قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه ،
وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها ، بل ما يهدم قواعدها
ويأتي على أساسها ، عرضت البدع في العقائد والأعمال ، وحلت محل الاعتقاد
الصحيح ، وأخذت مكان الشرع القويم وظهرت آثارها في أعماله ، وعم شؤمها
جميع أحوالها .
إن صح لفظ الحديث ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) أو لم يصح
فالقرآن يؤيد معناه ، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه ، فالرجل
والمرأة سواء في الخطاب التكليفي ، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض
الإسلام ، وخصال الإيمان ، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما
وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في
كتاب الله ، وسنة رسوله ، وعمل الصالحين من بعده ، حتى لم يبق باب من أبواب
العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان . ضل المسلم بعد ذلك في معنى
العلم ، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة : فرائض الوضوء ،
والصلاة ، والصوم ، في صورة أدائها ، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها ، ووسيلة
قبولها عند الله ، فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر .
أما آداب الدين ، وتهذيب الروح ، واستكمال الخصال الجليلة ، مما جعله
الإسلام غاية العبادات ، وثمرة الأعمال الصالحات ، فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا
تتوجه إليه عزيمة ، ولا تنصرف نحوه ، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في
أطراف الأرض ، لا ترقى بهم أمة ، ولا تسمو بهم كلمة . أما من ينقطعون لطلب
العلوم ؛ ليحصلوا جملة منها ، فقد انقسموا إلى فريقين :
الأول - من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها ، وقد قل أفراده في
معظم البلاد الإسلامية ، ولم يبق منه إلا رسوم ، لا يكاد يدركها نظر الناظر ،
والمشتغلون منهم في بعض البلاد ، كمصر و الآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل
ما هو ، أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان ، ويفهمها
بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى ، ومتى تم له ذلك فقد استكمل
العلم ، سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم ، فكان مثلهم مثل من ورث
سلاحا ، فكان همه أن ينظر إليه ، ويملأ عينه منه ، ولا يمد يده إليه يستعمله أو
يزيل الصدأ عنه ، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث ، ويزعمون أن الدين
يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة ، ومن رأي هؤلاء أن لا شأن لهم مع
العامة ، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، وقد ارتكبوا
بذلك خطأ في فهم دينهم ، لا يساويه في سوء عاقبته خطأ ، وللكثير منهم بل الأغلب
من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في
العلم ، لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود .
والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو
سافل ، وأفراد هذا الفريق إن كثروا أو قلُّوا ، يحصِّلون مبادي العلوم المعروفة
بالعلوم العصرية . ثم يحصِّل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده ،
على أن ما يحصل إما لفظ يحفظ ، أو خيال يخزن . والمدار على الوصول إلى
ورقة الشهادة . ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا ؛ لاستعمال التربية فيها ، ولا غاية
لهم سوى هذه الغاية . فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها ، وحصر همه على
العمل فيها ، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها ، فإذا مل الانتظار أو تقضى
زمن العمل ، وجدته في قهوة أو ملهى يسرف في أوقاته ، ويفسد في أدواته .
والصالحون منهم - وقليل ما هم - لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت ، هلكت أو
قامت ، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة ؟ وأستثني منهم شواذ في كل بلد
على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم ، وتجني الأمم ثمار أعمالهم . هذا شأن الرجال
مع العلم .
أما النساء فقد ضُرِب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن
بستار ، لا يدرى متى يرفع ، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة ، أو يؤدين فريضة
سوى الصوم ، وما يحافظن عليه من الفقه ؛ فإنما هو بحكم العادة ، وحارس الحياء
وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام ، وحشو أذهانهن الخرافات ،
وملاك أحاديثهن الترهات ، اللهم إلا قليلاً منهن ، لا يستغرق الدقيقة عدهن ، وكل
من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما ، يعدها الجنة ، ويمنيها السعادة .
أخطأ المسلم في فَهْم معنى التوكل والقدر ، فمال إلى الكسل ، وقعد عن العمل
ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها ، ويظن أنه بذلك يرضي ربه
ويوافي رغائب دينه .
أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم ، وأن العزة
والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر ، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم ، وأن رفعة
الشأن تابعة للفظه ، وإن لم يتحقق شيء من معناه ، فإن أصابته مصيبة أو حلت به
رزية تسلى بالقضاء ، وانتظر ما يأتي به الغيب ؛ بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ،
أو ينهض إلى عمل ؛ لتلافي ما عرض من خلل ، أو مدافعة الحادث الجلل ،
ومخالفًا في ذلك كتاب الله ، وسنة نبيه .
أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر ، والانقياد لأوامرهم ، فألقى
مقاليده إلى الحاكم ، ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه ، حتى ظن أن
الحكومة ؛ يمكنها القيام بشئونه جميعها من إدارة وسياسة ؛ بدون أن يكون لها منه
عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه ، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم
لأداء الخدمة العسكرية ، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها ، حكم بأن مما
يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة ، لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات
العقل ، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه ؛ من حيث ظنوه قادرًا على
كل شيء بدون عون من أحد ، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه ، من
حيث أنهم تركوه وشأنه ، لا يساعدونه في حادث ، ولا يعينونه فى أمر مهم ، اللهم
إلا إذا أرغموا على ذلك ، ومن ذا الذى يحسن عملاً إذا ألجئ إليه بالرغم ؟ ومن
هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة ، وضعف شعوره بحسنها
وقبيحها ، اللهم إلا ما يمس شخصه منها .
أما الحكام وقد كانوا قدر الناس على انتياش الأمة مما سقطت فيه ، فأصابهم
من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ؛ ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة،
ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم ، وإذلال النفوس لخشونة
سلطانهم ، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم ، لا يرعون في ذلك عدلا ،
لا يستشيرون كتابًا ، ولا يتبعون سنة ، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على
النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم ، وما يتبع ذلك من الخصال التي
ما فشت في أمة ، إلا حل بها العذاب .
هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد ، وطرق
متخالفة في السلوك ، وآراء متناقضة في الشرائع ، وتقليد أعمى في جميع ذلك ،
فتفرقت المشارب ، وتوزعت المنازع ، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات
المختلفة ، كل يجذب إلى نفسه ، لا ينظر إلى حق ، ولا يفزع من باطل ، وإنما همه
أن يظفر بخصمه ، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق
بالكلام .
وزد على ذلك ؛ وهذا أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم ،
وهي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم ، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له ، وأن ما
نزل بهم من الضر لا كاشف له ، وأنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه .
مرض سرى في نفوسهم ، وعلة تمكنت من قلوبهم ؛ لتركهم المقطوع به من كتاب
ربهم وسنة نبيهم ، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار ، أو خطأهم في فهم ما صح منها،
وتلك علة من أشد العلل فتكًا بالأرواح والعقول ، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه
{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ } (يوسف : 87) .
تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها ، هزال في الهمم ، وضعضعة في
العزائم ، وفساد في الأعمال ، ويبتدئ من البيت ، وينتهي إلى الأمة ، يمر في كل
طبقة ، ويجول في كل دائرة خصوصًا من دوائر الحكومات ، وما يُرمى به
المسلمون من التعصب الديني الأعمى ، فإنما عرض على أقوام في البلاد الإسلامية
تبعًا لهذه البدعة الضالة ، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم
المسيحية شرقية كانت أو غربية ، والتاريخ شاهد لا يكذب .
هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في
دينهم ، وخطأهم في فهم أصوله ، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله ، لهذا سلط الله عليهم
من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها ، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم
بدفعه ، إلا إذا تداركهم الله بلطفه ، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب ويقرنه
إذا ذكره بما يتبرأ منه ، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية ، بل يعده منبع شقائهم
وسبب فنائهم .
تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني
الهجرة ، في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند و بلاد العرب ثم في مصر ، وكل
منهم بحث في الداء ، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم ، ولعلهم يلتقون
يومًا من الأيام عند الغاية إن شاء الله .
مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه ، ويمكن
أن يقال : إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد ، وإزالة ما
طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين ، حتى إذا سلمت العقائد من البدع ،
تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب ، واستقامت أحوال الأفراد ،
واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية ، وتهذبت أخلاقهم بالملكات
السليمة ، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة . فإذا سمعت داعيًا يدعو إلى العلم بالدين
فهذا مقصده ، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه ، أو صائحا ينكر ما
عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته ، وهذه سبل لمريد الإصلاح في المسلمين لا
مندوحة عنها ، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين ،
يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء ، ولا يسهل عليه أن يجد من
عماله أحدا ، وإذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق ، وصلاح الأعمال ، وحمل
النفوس على طلب السعادة من أبوابها ، ولأهله من الثقة به ما بيناه ، وهو حاضر
لديهم ، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من أحداث ما لا إلمام لهم به لا - فلم
العدول عنه إلى غيره ؟
لم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين ؛ سواء في مصر أو
غيرها ، أن يثير فتنة على الأوربيين أوغيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين ، غير
أن بعض المسيحيين إذا سمع قولاً في الدين أعرض عن فهمه ، وأنشأ لنفسه غولاً
من خياله ، يخاف منه ويخشى غائلته ، يسميه باسم الدين . وبعضهم يظن أنه لو
انتبه المسلمون إلى شؤونهم ، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم ، لاعتصموا
بجامعتهم ، واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم ، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم
من غيرهم ، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم ، وهو
سوء ظن من الزاعم بنفسه ، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر ، وسالب متلصص،
وسوء ظن بالمسلمين أيضا ، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض
مهما ارتقت معارفهم ، وعظم اقتدراهم على الأعمال . وغاية الأمر أن ما كان ينال
اليوم بدون حق يصبح وهو لا ينال إلا بحق ، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد
ويربح المائة ، يرجع إلى الاعتدال في الكسب ، ويحتاج إلى شيء من التعب في
استيراد الربح ، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية ؛ وهي في عنفوان
قوتها ، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها ؛ وهي في أرفع مقام من عزتها .
نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه ، أن يلتمس مسلم
بمصر معونة من مسلم آخر بسوريا أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير
هذه الأقطار ؛ لأن مرض الجميع واحد وهو البدعة في الدين ، فإذا نجح الدواء في
موضع كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر ، أما السعي في توحيد كلمة
المسلمين ، وهم كما هم ، فلم يمر بعقل أحد منهم ، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به
أن يرسل إلى مستشفى المجانين .
يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج ، ويقول : إنه صلة
بين المسلمين في جميع أقطار الأرض ، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم ، فعليهم
أن يستفيدوا منه . وهو كلام حق ، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه ، فإن
الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين ، حتى يستعين بعضهم
ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم ، أو أضل من أعمالهم ، وفي مدافعة ما
ينزل بهم من قحط ، أو ظلم ، أو بلاء ، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين
بدين واحد ؛ خصوصًا عند الأوربيين .
يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد ، ويعلقون
آمالهم بهمته ، وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له ، وهذا أمر لا ينبغي أن يدهش
أحدا ؛ فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم ، وسلطانها أفخم سلاطينهم ، ومنه
يرتجى إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم ، وهو أقدر الناس على إصلاح
شؤونهم ، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد ، وتهذيب الأخلاق ؛ بالرجوع
إلى أصول الدين الطاهرة النقية . فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على
هضم حقوق المسلمين ؟ إذا حدثت حوادث مثل الحوادث الماضية ، كما يقول موسيو
هانوتو .
بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد ، يقول فيه
موسيو هانوتو : إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة
المدنية ، وهو كلام صحيح . ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند
المسلمين . لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت
للبابا على الأمم المسيحية ؛ عند ما كان يعزل الملوك ، ويحرم الأمراء ، ويقرر
الضرائب على الممالك ، ويضع لها القوانين الإلهية . وقد قررت الشريعة الإسلامية
حقوقًا للحاكم الأعلى ؛ وهو الخليفة أو السلطان ، ليست للقاضي صاحب السلطة
الدينية . وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية ، والمدافع عنها بالحرب أو
السياسة الخارجية ، وأهل الدين قائمون بوظائفهم ، وليس له عليهم إلا التولية
والعزل ، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم ، ورفع المظالم إن أمكن ، وهذه
الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية ، وشرعت نظامًا لطريقة الحكم ،
وعدد الحاكمين ، ومللهم ، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين
وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها . وكذلك حكومة مصر أُنشئت فيها محاكم
مختلطة ومحاكم أهلية ، بأمر الحاكم السياسي ، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ،
ولا دخل لشيء من ذلك في الدين ، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى ، كما
يطلب مسيو هانوتو . ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين ، بل
كان الأمر معكوسًا ، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين ، لما
استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم ، والمغالاة في وضع المغارم ،
والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين ، وأعدمها أعز شيء كان
لديها وهو الاستقلال .
إن فرنسا تسمي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق ، وملكة إنكلترا تلقب بملكة
البروتستانت ، وإمبراطور الروسيا ملك ورئيس كنيسة معا ، فلم لا يسمح للسلطان
عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين ، أو أمير المؤمنين .
لا أظن أن مسيو هانوتو ، يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه ،
وأظنه يكون عونًا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنساوية ، إذا وجد
فيها من يقوم بها ، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح
الفرنساويين ، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوربيين في
اكتساب العلوم ، وتحصيل المعارف ، ولحقوا بهم في التمدن ، وعند ذلك يسهل
الاتفاق معهم إن شاء الله .
سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها ، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول ،
واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ،
وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدول المسيحية ، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين ،
إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة ، وصدق معهم ، سمع
بذلك كله موسيو هانوتو من صاحب الجريدة المعروفة ؛ ومن بعض العثمانيين في
الآستانة و باريس ؛ ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية ، لا دينية
لاهوتية .
لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم موسيو هانوتو ، ومن أبلغه أخبارهم ،
أهم الهنود ؟ وهم في حكم دولة أجنبية ، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل
على طاعتهم لحكامهم ، وتعليقهم الآمال بعدلهم ، والتماسهم الحق من طرقه .
هل هم مسلمو روسيا ؟ وثقتهم بحكومتهم وثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد
حتى إن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي .
هل هم الأفغانيون ؟ وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر ،
ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده ومحافظته على مصلحتها .
هل هم الفرس ؟ واستنامتهم إلى السياسية الروسية لا يجهلها أحد ؟
هل هم المراكشيون ، وهم بمعزل عن كل ما يسمى سياسة ، بل هم في غفلة
عن الدين والدنيا جميعا ، شغل بعضهم ببعض ، فلا ينفكون يتقاتلون ويتسالبون ،
حتى يقضي الله فيهم بقضائه .
هل هم التونسيون ؟ وقد أثنى عليهم موسيو هانوتو بما هم أهله ، وثبت له
ارتياحهم إلى السلطة الفرنساوية ؛ لمجرد ما أطلقت لهم الحرية في دينهم .
لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه ، وكما يفيده قوله : أن لا
يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم . فأما
المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين
فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة ، ما عدا
المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين ، وهم معهم على غاية الوفاق ، خصوصًا أهل
الإخلاص وسلامة النية منهم ، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة في الفريق الآخر ،
ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية ، إلا من ظهر منهم بالتعصب
البارد للدين ، وآذاهم في دينهم أو فى منافعهم الخاصة بهم ؛ لا لشي سوى التعصب
الأعمى ، ولا نطلب على ذلك شاهدًا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه موسيو
هانوتو ؛ إنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية ، وبعد أن
أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية ، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في
خيرهم ، كما افتخر بذلك مرارًا فى جريدتة ، وإن كانت له إليهم هنات لا تزال
تبدو من فيه إلى وقت ذلك الحديث . فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في
مصر ؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة ؛ لأنه مسيحي عثماني ؟ هل حرم أحد حق
المحاماة ، أو إنشاء الجرائد ، أو المطابع ، أو إقامة المصانع ، أو تأسيس البيوت
التجارية ؛ لأنه مسيحي عثماني ؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد .
أما حالهم مع الأوربيين ، فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه ، أو
وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه ، بل أزيدك على هذا أن المستغيث
منهم بالحكومة ، يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي ، كما شوهد ذلك كثيرًا
في شكاياتهم ، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر ، وهو ليس
بحاكم رسمي . فأي دليل على الثقة أكبر من هذا .
ليس بقليل فى مصر من يثق بالفرنساويين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم
ويعتد بولائهم ، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك .
كثيرًا ما أغرى الأوربيون من فرنساويين وأمريكيين من أرباب المدارس في
مصر شبانًا من المسلمين بالمروق من دينهم ؛ والدخول في الديانة المسيحية ، وفروا
ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية ؛ وأحرقوا كبد والديه ، ومع ذلك لا
نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارسهم ، وناظر المعارف عندنا وزير
مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت ، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس
الفرير ، فأي ائتمان يفوق هذا الائتمان .
زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين ؛ خصوصًا في المعاملات ،
حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها ، وانتهزوا فرصتها ، وسلبوا كثيرًا من أهل
الثروة ما كان بأيديهم ، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم ، ويغالون في الاستنامة
إليهم ، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم ، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا ؟ !
هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثل ما يشكون من الثقة
العمياء بالأجنبي من غير تمييز فيما هو عليه ، من إخلاص أو غش ، من صدق أو
كذب ، من أمانة أو خيانة ، من قناعة أو طمع ، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا
إليه من خسارة المال وسوء الحال ، فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين
المسيحيين ؛ الذي يعنيه حضرة صاحب الجريدة وجناب موسيو هانوتو ؟
وأما العثمانيون من غير المصريين ، فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها - أيده
الله - وجدنا أن نظام الدولة قاض باستعمال المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في
كل بلد فيه مسيحيون ، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما
يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك ، وكثير من المسيحيين نالوا من
الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم ، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا
تخلو من المسيحيين .
إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية ، وإنعامه عليهم بوسامات
الشرف ، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته ، والإحسان إليه برقيق
المخاطبة ، لا ينقطع ذكره من الجرائد ، صاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل
شاهد على مثل ذلك ، فقد جاهر زمنًا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا
بأقل منه من مسلم ، ثم سهل عليه وهو مسيحي ؛ أن يكون موضع ثقة للجانب
السلطانى ، حتى أدناه منه وقبله فى مجلسه ، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة
المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين ، إثر هبوبه لنصرة مسيو هانوتو ،
ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها ، فما هي الثقة إن كان هذا فقدها .
أما سياسة الدولة الخارجية : فالفرنساويون يشكون من مصافاة السلطان ؛
وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية ، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى لدولة
إسلامية ، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية ، ثم حدثت حوادث
أهمها نشأ من ضعف سياسة موسيو غلادستون ، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة ، ثم إنا نراها اليوم تتراجع ، وفي رجال
الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا ، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم
مسلمون .
والذي أحب أن يعرفه موسيو هانوتو ؛ أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول
الأوربية ليست بسياسة دينية ، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم . وإنما
كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة ، وفي أخرياتها دولة سياسة ومدافعة ، ولا
دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية .
إمبراطور ألمانيا جاء إلى سوريا ؛ للاحتفال بفتح كنيسة ، فبالغ السلطان في
الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر . يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين
إلى الآستانة ، فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية ، وينفق في تعظيم
شأنهم من المال ، ما المسلمون في حاجة إليه ، أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم؟
وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة ؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي
بالرسميات ولا يزيد عليها . ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات ، فإن
سلمنا أن سياسة أوربا ليست بدينية من جميع وجوهها . فسياسة الدولة العثمانية مع
أوربا هي كذلك ، ومسلموها تبع لها .
فإن قال قائل : إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت ، وينسبون
وقائعها إلى التعصب الديني ، بل يقولون : إن أسبابها مظالم جَرَّ إليها ذلك التعصب
أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي
منها ومن غيرها ، ومع ذلك فإن كثيرًا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم ، وهم
بذلك موضع ثقتها ، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك
الوقائع التعصب الديني . فإن المسيحيين سواهم في الممالك العثمانية أنعم حالاً من
المسلمين ، كما شاهدناه بأنفسنا ، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا
الاضطراب الذي يظهر زمنًا بعد زمن في تلك الأقطار ، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن
منبعه في أوربا لا في آسيا .
لا يغث عليَّ أن أقول : إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع
من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير ، يتمنى المسلمون أن يساووهم
فيه . فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم ؟ لا يليق بكاتب مثل
صاحب الجريدة ؛ أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه ؛ فإن ذلك مما يحزن
المسلمين والمسيحيين جميعا ، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين ، لم يكن في
ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه ، فاستحضر في صورهم جميع
المسلمين وسياسييهم .
ليعلم موسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين ، لا حقيقة
له إلا في ذهن القائل أو الكاتب ، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه ، وعليه
أن يحقق الأمر بنفسه ؛ إن كان يهمه أن يتكلم فيه .
وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام ؛ مع أنه خدمهم . وقوله :
فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم - فنبين له الوجه فيه ؛ ليزول عنه ما سبق إلى فهمه
لو اقتصر على الكلام في السياسة ، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته ، ولم
يسط على الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله ، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد
رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح . ولكنه لم يكتف بذلك ، وطعن في عقيدة
التوحيد ، وبَيَّن رداءة أثرها في المسلمين ، واستل سلاحه على عقيدة القدر ، وبَيَّن
سوء ما جَرَّت إليه فيهم ، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين ، ما
داموا مسلمين ، وهو ما لا يرضاه أحد منهم .
لو لام على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم ،
واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشؤونهم ، وغفلتهم عن مصلحتهم ، كما جاء في حديثه
الذي نحن بصدده ، لما وجد من المسلمين إلا معتبرًا بقوله ، متعظًا بنصيحته والسلام.
***
قول اللورد كرومر
في
الجامعة الإسلامية والشريعة
( مأخوذ من ترجمة إدارة المقطم لتقريره الأخير عن سنة 1906 )
إذا قلنا : إن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة إلى الجامعة
الإسلامية ، لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه . ولكن لا ريب في كون هذه الحركة
مصبوغة صبغاً شديدًا بصبغة الجامعة الإسلامية . وهذا الأمر كان معلومًا عندي منذ
زمان طويل ، وقد علمه كثيرون من الأوربيين الآن ، كما يظهر مما يرد في
الجرائد المحلية ؛ ولكن علمهم به أبطأ كثيرا . ويسهل عليَّ إيراد كثير من الشواهد
والأدلة على صحة هذا القول ، إذا اقتضى الأمر إيرادها[2] . ولكن أقول الآن :
إن الحوادث التي حدثت في الصيف الماضي ، إنما كشفت عنصرًا جديداً من
عناصر الحالة المصرية ؛ لأنه ولو سلَّم الإنسان بما لا ريب في صحته ؛ وهو أن
الدين أعظم قوة محركة في الشرق[3] وأن الشرقيين لا تحلو لهم حكومة كالحكومة
الثيوقراطية [4] فقد كان يجوز له مع ذلك أن ينتظر .
إن تذكر المصريين لما أصابهم في الماضي واعتبارهم ؛ لتقدم بلادهم في
الثروة واليسر في الحال تقدمًا عظيمًا جدًّا بالنسبة إلى ما جاوروها من الولايات
العثمانية ، يحولان دون نمو الجامعة الإسلامية في بلادهم أكثر مما حالا في الظاهر ،
وإنما قلت في ( في الظاهر ) لأني رغمًا عن كل الظواهر ، لا أزال غير مقتنع بأن
الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيرًا في الهيئة الاجتماعية المصرية ، بل إني
واثق أنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من
القوة إلى الفعل ، لانقلب الرأي العام عليها انقلابًا عظيمًا سريعًا .
ومهما يكن من ذلك ، فقد اتضح أن الجامعة الإسلامية عنصر من عناصر
الحالة المصرية ؛ التي يجب حفظها في البال ، فلذلك يحسن بنا فهم المقصود منها .
المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال ؛ اجتماع المسلمين في العالم كله
على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها ، فإذا نظر إليها من هذا الوجه ، وجب
على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق ، أن تراقب هذه الحركة
مراقبة دقيقة ؛ لأنها يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة ، فتضرم فيها نيران
التعصب الديني في جهات مختلفة من العالم . وقد أوشكت هذه النيران أن تضطرم
بمصر في الربيع الماضي . على أني أرى قومًا يقولون : إن القلق الذي جرت
الإشارة إليه في مجلس النواب في الصيف الماضي كان وهميا ، فأنا لا أوافقهم على
هذا القول مطلقا ؛ لأن طبع الطبقات الدنيا من أهل مصر ولا سيما سكان المدن
متقلب كثيرا . فهاجوا من قراءة المقالات التي كانت تصدر في الجرائد الإسلامية
طافحة بالإغراء والكذب هيجانا شديدا دفعة واحدة ، وسكنوا دفعة واحدة ، كذلك
عندما زيدت عساكر جيش الاحتلال ، ولطَّفت الجرائد الإسلامية لهجتها بتشديد
العقلاء من أهل بلادها النكير عليها . ولكن لا ريب عندي أن البلاد كانت عرضةً
لخطر حقيقي برهة من الزمن ، فقد جاءتني أخبار وتقارير عديدة عن تهديد
المسيحيين والأوربيين . ثم إن الأخبار الغامضة المبهمة التي تشيع قبل حدوث
الفتن والقلاقل في الشرق عادة ؛ شاعت شيوعًا يستحق الاعتبار ، حتى تولى الرعب
الأوربيين الساكنين في القطر ، فجعلوا يتقاطرون من القرى إلى المدن ، ولم
يعترِهم هذا الرعب لغير سبب معقول ، فقد شرحت في تقريري عن سنة 1905
( وجه 17-19 ) ما جرى في الإسكندرية أواخر سنة 1905 ، حين أفضى وقوع
الخصام بين رجلين يونانيين إلى شغب عظيم ، لم يلبث أن انقلب هيجانًا على
المسيحيين . فلو اتفق حدوث حادثة من هذا القبيل في إبان الهيجان الذي حصل ؛
بسبب حادثة الحدود بين تركيا ومصر- وحدوثها لم يكن أمرا بعيدا - لأمكن ، بل
لترجح أنها كانت تفضي إلى عواقب وخيمة .
أما ما يقوله قوم آخرون من أن ذلك القلق أتي عن سياسة الحكومتين البريطانية
والمصرية في أمور مصر الداخلية ، فخالٍ من كل أثر للصحة ؛ لأن
القلق كله وليس بعضه فقط نتج عن تصديق خلق كثير من الأهالي الذين كانوا
تحت تأثير الجامعة الإسلامية ، لما كان يقال لهم من أن ما كان يجري حينئذ ، إنما
كان يقصد به التعدي على رأس الديانة الإسلامية .
ولنعد إلى ما كنا عليه فأقول : إني إن كنت لا أصدق أن الجامعة الإسلامية
تنتج غير اضطرام نيران التعصب في أمكنة متفرقة ؛ كما سبقت إليه الإشارة ،
فذلك :
أولاً - لأني لا أصدق أن المسلمين يتَّحدون معا ويتعاونون ، متى خرجت
المسألة عن القول إلى الفعل .
وثانيًا - لأني واثق بقوة أوربا واقتدارها عند الاقتضاء على تلافي هذه
الحركة من الجهة المادية ، وإن كانت غير قادرة على ذلك من الجهة الروحية .
والجامعة الإسلامية أيضًا عبارة عن معانٍ أخرى غير معناها الأصلي . ولكنها
لا تخلو من علاقة به . وهذه المعاني أهم بالنظر إلى ما نحن فيه من المعنى الأعم
الذي سبقت الإشارة إليه .
فمنها أولاً في مصر ، الخضوع للسلطان وترويج مقاصده ، وهذا المعنى يدل
على دخول عنصر جديد في حالة مصر السياسية . فقد كانت الحركة الوطنية
المصرية دائرة على مضادة التُّرك إلى عهد قريب ؛ إذ الثورة العرابية كانت في
الأصل على تركيا والتُّرك ، أما الآن فيبلغني أن زعماء الحركة الوطنية يقولون
إنهم لا يقصدون توثيق عرى الاتحاد بين تركيا ومصر ، وإنما يقصدون حفظ سيادة
السلطان على مصر . ولكن قولهم هذا يختلف عما كانوا يقولونه منذ عهد قريب
جدًّا اختلافًا جليًا ، بحيث لا يتمالك الإنسان عن الظن بأن قولهم الآخر إنما خطر
على بالهم بعدما علموا أنهم إذا وسعوا نطاق العلائق التركية ، أبعدوا عنهم أميالا
يتمنون قربها منهم ودوامها معهم . ولكن ليس من الإنصاف تقييد الحزب الوطني
جملة بأقوال يلقيها أفراد قليلون غير مسؤولين على عواهنها . فإذا سلمنا بأن القول
الأخير هو رأي الحزب الوطني الصحيح ، فعندي عليه أن سيادة السلطان على
مصر لم ينازع فيها قط على ما أعلم ، ولا يحتمل أن يصيبها شيء ، ما دام كل ذوي
الشأن في الفرمان - الذي هو اتفاق بين فريقين كما لا يخفى - لا يفعلون شيئًا
خارجا عن دائرة حقوقهم . فحادثة سيناء ، إنما بلغت ما بلغت من الأهمية وعظم
الشأن ؛ لما خيف من خرق حرمة الفرمان ، وما يتصل به من المستندات الرسمية
المحسوبة جزأ منه على وجه يعود بالضررعلى القطر المصري .
وثانيًا إن الجامعة الإسلامية ؛ تستلزم بالضرورة تهييج الأحقاد الجنسية
والدينية إلا في ما ندر . فلا شك أن كثيرين من أنصارها ينصرونها عن حرارة
دينية حقيقية ، وآخرين يودون لو أمكنهم أن يفرقوا بين القضايا السياسية والدينية ،
وبينها وبين الجنسية أيضا ؛ إما لأن مبالاتهم بالدين قد قلَّت ، حتى أوشكوا أن يحكوا
( اللاأدريين ) أو لكون أغراضهم سياسية ، أو لكونهم يقصدون تحين الفرص للانتفاع
بها ، أو لكونهم اتبعوا الآراء الحديثة عن وجوب التسامح في الدين كما هو مأمولي .
ولكن متى كانت هذه رغبتهم ومقاصدهم ، فلا شك عندي أنهم يعجزون عن تنفيذها ؛
لأنهم إن لم يقنعوا عامة المسلمين بأفعالهم أنهم من المسلمين المجاهدين ، لم
يستطيعوا أن يحولوا انتباههم إليهم ، ولا أن يكتسبوا ميلهم أيضا . فالضرورة تقضي
عليهم بتهييج الأحقاد الجنسية أو الدينية : إما ظاهراً أو خفية ؛ ليرقوا بيانهم السياسي.
وثالثًا : إن الجامعة الإسلامية تستلزم تقريبًا السعي في إصلاح أمر الإسلام
على النهج الإسلامي ، وبعبارة أخرى السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ
وضعت منذ ألف سنة[5] هدًى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة ، وهذه
المبادئ منها ما يجيز الرق ، ومنها ما يتضمن سننًا وشرائع عن علاقات الرجال
والنساء ؛ مناقضة لآراء أهل هذا العصر ، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله ؛
وهو إفراغ القوانين المدنية ، والجنائية ، والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا
تحويرًا ، وهذا ما وقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام .
فلهذه الأسباب ؛ وبقطع النظر عن كل الاعتبارات السياسية ، لا يجد المهتمون
بإصلاح مصر بدًّا من استنكار الدعوة إلى الجامعة الإسلامية . ويجب أيضًا بذل
أقصى العناية في السهر على كل ميل طبيعي جائز إلى الجامعة الوطنية ؛ لكيلا
تجتذبه على غير انتباه من صاحبه هذه الحركة -حركة الجامعة الإسلامية - التي
هي من أعظم الحركات المتقهقرة ، فلا تستحق أن يميل أحد إليها ؛ لأنه قد يعسر
على الإنسان أن يميز شبح الجامعة الإسلامية ؛ إذا تجلبب بجلباب الجامعة الوطنية
اهـ . كلام اللورد .
( المنار )
إن البحث في هذا الفصل الذي أقام المسلمين هنا وأقعدهم بحق ينحصر في
ثلاث مسائل : ( 1 ) الجامعة الإسلامية نفسها وما عده من أسباب استنكارها
وهو ( 2 ) إجازة الرق ، و ( 3 ) مناقضة علاقات الرجال بالنساء لآراء أهل العصر
( 4 ) الجمود على قوانين وضعت لأهل السذاجة .
(1)
الجامعة الإسلامية
يعرف اللورد كما يعرف جماهير القراء أن السيد جمال الدين الأفغاني كان
أشهر دعاة ما يسمونه الجامعة الإسلامية ذكرا ، وأقواهم صوتا ، وأكثرهم سعيا ،
وأشدهم اضطلاعا ، وقد اشتهر عنه أنه كان يحاول جمع كلمة المسلمين على خليفة
واحد أو سلطان منهم ، والصحيح أنه لم يكن يدعو إلى ذلك ، ولم يخطر له على بال
أن هذا مما تتناوله يد الإمكان ، بل قال في معرض تنبيه المسلمين وحثهم على
الوحدة ( ولست أعني أن يكون لهم إمامًا واحدًا ، فإن هذا ربما كان متعذرًا ، وإنما
أعني أن يكون إمامهم القرآن ) .
وكان الأستاذ الإمام أعظم أنصاره في عمله بمصر وأوربا ، وقد استقر رأيه
بعد السعي معه ، والعمل من طريق السياسية والدين معًا على قاعدة ( ما دخلت
السياسة في عمل إلا وأفسدته ) وكثيرًا ما قال لنا : إن السيد جمال الدين كان أقدر
من عرفنا على الإصلاح ، وأنه لولا افتتانه بالسياسة لعمل عملاً عظيما ، وأن
الأساس الذي يجب أن يبنى عليه إصلاح حال المسلمين هو تحرير الفكر من قيد
التقليد ، وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف والبدع ، واعتباره من
موازين العقل البشري التي وضعها الله - تعالى - لترد من شططه وتقلل من
خبطه ، وأنه بهذا الاعتبار يعد صديق العلم ، وباعثًا على البحث في أسرار
الكون , ويتوقف هذا على إصلاح أساليب اللغة العربية وإحيائها في الألسنة
والأقلام .
وقد عرف اللورد الأستاذ المرحوم ، وحمد طريقته هذه ، وشبهها في بعض
تقاريره بطريقة السيد أحمد خان في الهند ، وقال : إن حزبه جدير بالمساعدة
والتنشيط من الأوربيين . والذي نعرفه نحن بعد السيرعلى هذه الطريقة تسع
سنين وأشهرا ، أن طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وسوريا وتونس كلهم على
طريقة الشيخ محمد عبده ، كما أن معظم المصلحين في الهند على طريقة السيد أحمد
خان ، ولا يوجد في غير هذه الأقطار حركة إسلامية إلى الإصلاح إلا في روسيا
و إيران .
فأما مسلمو روسيا فقد ثبت لدولتهم في الحرب الأخيرة وما أعقبته من
الثورة ، أنهم خير رعاياها وأسلمهم قلوبا ، وهم الآن لا يطلبون من حكومتهم
إلا العدل والمساواة ، ومن أنفسهم إلا العلم والثروة .
وأما الفرس فحركتهم محصورة في إصلاح حال حكومتهم ، وليس بين هؤلاء
ولا أولئك وبين سائر المسلمين صلات سياسية ، ولا أحد منهم يقاوم
الأوربيين ؛ وهم يسكنون الأحقاد لا يهيجونها .
فالجامعة الإسلامية بالمعنى الذي يفهم من كلامه لا وجود لها في الأرض ،
وإنما يوجد في المسلمين دعوتان : دعوة إسلامية وتنحصر فيما بيَّناه آنفًا وهو ترك
البدع والجمع بين الدين وبين العلم والمدنية ، ودعوة وطنية أو سياسية ؛ وهي
تنحصر في مطالبة أصحاب السلطة فيهم بما يرقي بلادهم ، ويحفظ حقوقهم فيها ،
ولا علاقة لهذه الدعوة بالدين ، بل كثيرًا ما تخالفه .
نعم إنه يوجد في كل بلاد من القوَّالين أفراد ؛ يتخذون اسم الإسلام ، والجامعة
الإسلامية ، والخلافة الدينية ، والخليفة الأعظم ، والعالم الإسلامي ، وغير ذلك من
الكلمات أناشيد تستمال بها النفوس ؛ لتعظيم القائل أو لبذل المال له ، وقد يوهم
كلامهم شيئًا مما أشار إليه اللورد ، وإننا جازمون بأن هؤلاء لا عمل لهم في الإسلام
يخشى أو يرجى ، ولا دعوة لهم تطاع أو تعصي ، وإنما مثلهم كمثل أصحاب تلك
الأناشيد في مدح الأولياء ، وفي الزهد في الدنيا التي يستعطفون بها الناس ويستندون
بها أكفهم ، ومن خشي منهم لغطه . وقد أغنانا عن التطويل في هذه المسألة ما نقلناه
عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- وهو القول الفصل فيها .
(2)
مسألة الرق
يقول اللورد : إن الشريعة الإسلامية تجيز الرق ، ونقول : نعم إنها أجازته
ولكنها ما فرضته فرضا ، ولا أوجبته إيجابا ، ولا ندبت إليه ندبا ، ولا استحبته
استحبابا ، بل نقول بعبارة أوجز : إنها لم تجعله كما يخشى اللورد دينا يتقرب به
إلى الله . فيقال : إن المسلمين لا يتركونه ، بل أقرت البشر- وكلهم كانوا
يسترقون - على ما في أيديهم من الأرقاء ، وشرَّعت لهم العتق وتحرير الرقيق ،
وجعلت ذلك دينًا ويُتقرب به إلى الله عز وجل . فتارة على سبيل الوجوب والحتم
الذي لا بد منه ، وتارة على سبيل الندب .
ما أجازت الشريعة الإسلامية الرق إلا لأنه قد يكون موافقًا لمصلحة من
يُسترقون : كأن يقتل الرجال في حرب شرعية ، ويبقى النساء والأطفال بدون عائل
ولا كافل ، فقد يكون من الخير والمصلحة في مثل هذه الحالة أن يسترقوا للعجز
عن الاستقلال في الحياة ، فإذا تسرى الرجال بالنساء وولدن لهم كما هو الغالب ،
زال رقهن إذ يمتنع انتقالهن إلى ملك آخر ، ويعتقن بموتهم ، ولا يكون حالهن معهم
في الحياة دون حال الزوجات بالعقد .
وأما الأطفال فإنهم يكونون بمثابة الأولاد ؛ إذ المشروع في هذا الدين أن
يكون الرقيق مساويًا لمولاه وأهل مولاه في أكله ولبسه وعمله ، وورد في الحديث
النهي عن تسميتهم بالعبيد والإماء ، ثم حثت الشريعة على العتق حثًّا شديدا ؛ وجعلته
كفارة لكثير من الخطايا ، ومن أفضل النذور ، ومحللا للحنث باليمين ، وهي مع
تضييقها في الاسترقاق ، جعلت الرق خلاف الأصل ، حتى أن أي رقيق ادعى أنه
حر عدته حرًّا بمجرد دعواه ، إلا أن يثبت مدعي ملكه أصل رقيته ( ومن أراد زيادة
البيان في هذا فليرجع إلى المجلد الثامن من المنار ) .
وجملة القول : إن الإسلام لم يأمر بالاسترقاق . ولكنه أمر بتحرير الأرقاء
وعتقهم ، ولم يوجب ذلك على الناس دفعة واحدة ؛ لما فيه من الحرج الشديد على
المالكين والأرقاء جميعا ، فإن السادة الذين تعودوا أن يقوم عبيدهم بجميع شؤونهم ،
لا يمكنهم أن يتركوا هؤلاء العبيد دفعة واحدة ؛ لأن نظام معيشتهم يختل ، وشمل
مصالحهم يتفرق ، كما أن العبيد الذين تعودوا على كفالة غيرهم لهم وكفايتهم أمر
المعاش ، يصعب عليهم أن يعيشوا بالاستقلال إذا هم أعتقوا مرة واحدة ، كما حصل
في أمريكا ، فإن الحكومة لما أبطلت الرق ، تحير كثير من الأرقاء في أمر معيشتهم
ورضي كثير منهم بأن يظلوا عند مواليهم كما كانوا ، ما كانوا يعاملون بما يأمر به
الإسلام ، في مثل حديث الصحيحين وغيرهما ، عن أبي ذر - رضي الله عنه -
قال : ( إني ساببت رجلاً ( يعني بلالاً ) فعيرته بأمه - وفي رواية فقلت له :
يا ابن السوداء - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بعد أن شكا إليه بلال
ذلك : يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ، إخوانكم خولكم ، جعلهم
الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما
يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) وقد أورد البخاري
هذا الحديث في كتاب الإيمان ؛ للإشارة إلى أن معاملة الرقيق بهذه المعاملة
من شُعب الإيمان ، وأورده أيضا في العتق والأدب .
أما والله لو وجد الرق الذي يجيزه الإسلام ، وعومل الرقيق بما يأمر به
الإسلام ؛ لتمنى ألوف من الناس الذين يموتون جوعا في مثل شوارع لوندره فما
دونها من المدن والقرى في كل مملكة - أن يكونوا أرقاء يشاركون أهل النعمة
والثراء في أكلهم ولبسهم وعملهم ، كما أمر الإسلام في مثل هذا الحديث .
أين هذا من أمر التوراة بالرق ، ومن سكوت السيد المسيح عليه السلام عن
الوصية به بمثل ما أوصى بعده أخوه محمد عليه السلام ؟ بل بعشر معشاره ، على
ما كان عليه الأرقاء في عصر المسيح من الظلم والاضطهاد . يقول ( بطرس ) :
في رسالته الأولى ( 2 : 18 ) أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ، ليس
للصالحين المترفقين فقط ، بل للعنفاء أيضا ؛ لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل
ضمير نحو الله ؛ يحتمل أحزانًا متألمًا بالظلم ؛ لأنه أي مجد إن كنتم تلطمون
مخطئين فتصبرون ، بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون ، فهذا فضل عند
الله ، لأنكم لهذا دعيتم ) وقال ( بولس ) في رسالته إلى أهل أفسس ( 6 : 5 أيها
العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح ) إلخ
وفي رسالته إلى أهل كولوسي ( 3 : 22 أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب
الجسد لا بخدمة العين ؛ كمن يرضي الناس ، بل ببساطة القلب خائفين الرب )
وغاية ما أُمر به السادة أن يقدموا للعبيد العدل والمساواة ، فلا يفضلوا بعضهم على
بعض . فأين هذا من أمر الإسلام بالمساواة بينهم وبين السادة أنفسهم ؟ وبجعل
الطاعة في المعروف لا في كل شيء ؟ وقد نص الإسلام على كون الطاعة لا
تكون إلا بالمعروف ، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم . ففي آية المبايعة { وَلاَ
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف } ( الممتحنة : 12 ) ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا
بالمعروف ؛ كما وصفه تعالى في قوله { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَر } (الأعراف : 157 ) .
وجملة القول : إن الإسلام أجاز الرق ولم يأمر به . ولكنه أمر بالعتق
والتحرير . وأن الديانتين اليهودية والنصرانية أجازتا الرق أيضا ، ولم يرد فيهما من
الأمر بالعتق ، وتحرير الرقيق ، ولا بحسن معاملته ما دام موجودا ، بمثل ما أمر به
الإسلام . فإذا سهل على الدول النصرانية إبطال الرق ، ولم يمنعها الدين فهو على
المسلمين أسهل ؛ لأن الدين لا يكتفي بعدم منعهم منه ، بل يحثهم عليه . فدينهم أقرب
إلى هذه الفضيلة المدنية من جميع الأديان ؛ فلا خوف عليها منه ، وإنما الخوف على
كل فضيلة من الحكام الظالمين الذين يسيئون التصرف بالشرائع والقوانين .

(3)
علاقة النساء بالرجال
جاء الإسلام وجميع الأمم تهضم حقوق النساء على تفاوت بينها في ذلك ، فكان
أكثر الرجال يعدون المرأة كالأمة أو المتاع . ومذهب علماء الاجتماع أن الناس
كانوا في أمر الزواج كالبهائم في أطوارها المختلفة ، فكانوا أولاً يبيحون كل أنثى
لكل رجل ، وكان أول الاختصاص بزوجة أو زوجات ، بالسبي واحتكار القوي
من تعجبه من النساء ، واستئثاره بها وعدم السماح لغيره بملامستها ، إلا أن يكون
ذلك بإذنه ، ولا يزال في البشر من لا يرى بمثل هذا الإذن بأسا . ولما صار للزواج
روابط وأحكام دينية أو عرفية ، قُيِّدت المرأة فيها بقيود لا ترفعها عن مرتبة الأمة عند
الأكثرين ، وبقي في تقاليد كثير من الشعوب والقبائل ما يدل على أصل السبي
وخطف المرأة ، وكان كثير من الرجال يتزوجون بنساء كثيرات ، لا يتقيدون بعدد ،
ويُطلِّقون من شاءوا متى شاءوا ، بلا تأثم ولا حرج ، وما جاء في اليهودية
والنصرانية من الأحكام والوصايا ، لم يرفع قدر المرأة ، ولم يقربها من مساواة
الرجل في الحقوق والاستقلال بشؤونها ، وقصارى ما تفاخرنا فيه النصرانية منع
تعدد الزوجات ، وتحريم الطلاق إلا بعلة الزنا .
أما الإسلام فقد جاء بإصلاح لم يُسبق إليه ، ولم تبلغ كنهه أوربا في مدنيتها
حتى اليوم . إذ لا تزال تحجر على المرأة أن تتصرف حتى بمالها بدون إذن
الزوج ، ويرجع هذا الإصلاح إلى آيات من الكتاب العزيز :
( إحداها ) قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( الروم : 21 )
وعلى هذه الآيات بنينا مقالات الحياة الزوجية التي نشرناها في المجلد الثامن ،
وتكلمنا فيها عن الطلاق وتعدد الزوجات .
( الآية الثانية ) قوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى
أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } ( النساء : 19 ) .
( الآية الثالثة ) قوله عز وجل : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة } ( البقرة : 228 ) وليراجع تفسيرها في ص 368 م 8 .
( الآية الرابعة ) قوله جل شأنه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ
أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ( النساء : 35 ) .
( الآية الخامسة ) قوله وسعت رحمته : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ } ( البقرة : 229 ) .
( الآية السادسة ) قوله تبارك اسمه : { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } ( النساء : 3 ) الآية ويلاحظ مع هذه
الآية { وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ( النساء : 129 ) .
( الآية السابعة ) قوله جل ثناؤه : { لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَّفْرُوضاً } ( النساء : 7 ) فجعل المرأة تملك وتتصرف كالرجل وفي الحديث أن
المرأة تملك ، ولا يحل للرجل أكل شيء مما تملك إلا بإذنها وطيب نفسها .
فهذه الآيات يشبه أن تكون هي أصول الإصلاح ؛ وفي معناها آيات مفصلة ،
وإن أوربا المدنية على مبالغتها في تكريم النساء ، لم تقم هذه القواعد ، ولم تأت بكل
ما أمر به الإسلام في ذلك ، بل لم تصل إلى درجة جماهير فقهائنا الذين يفرضون
على الرجل للمرأة كل شيء تحتاجه بحسب الاستطاعة ، ولا يفرضون عليها له إلا
مواتاته بالاستمتاع بها ، وعدم خروجها من داره بدون رضاه ، وهما واجبان سلبيان
فكأنما لا يوجبون على المرأة عملاً ما لزوجها ، بل يعدون كل عمل تعمله في
إدارة بيته فضلا منها وإحسانا ، فهل وصل الأوربيون إلى هذه المبالغة في تكريم
المرأة ؟
كلا إنه ليس في شريعة المسلمين من أحكام الزوجية وآدابها ؛ إلا ما لابد منه
لسعادة البيت ، وإن بيان هذه الأحكام التي وَضَعَت أساسها تلك الآيات منذ ثلاثة
عشر قرن وربع قرن آية على كون الإسلام شرعًا إلهيا ، لا وضعًا بشريًّا .
بيان ذلك أنها قد خوطب بها الناس في عصر كانوا أقرب فيه إلى البداوة ،
فأفادهم رقيًّا وتهذيبًا بحسب استعدادهم ، ثم إننا نرى أن أعلى ما وصل إليه البشر
من الرقي في الحضارة ؛ هو دون ما تهدي إليه تلك القواعد والأحكام من الكمال
الاجتماعي ، ولعلهم يصلون إليه في يوم من الأيام . وما منع الإفرنج الذين استعدوا
لهذا الكمال من رؤيته في القرآن إلا ذانك الحجابان الكثيفان دونه وهما : المسلمون
الذين صاروا بأعمالهم وأفكارهم حجة عليه ، وغلبة الأفكار المادية على أكثر
الباحثين .
يظهر أن الشعور الذي كان مستوليًا على اللورد عندما أفلتت تلك العبارة من
قلمه ، كان مزيجًا متولدًا من الفكر في اعتقاد جمهور العالم الأوربي في الإسلام
والمسلمين ، والفكر في كثرة الشكاوي التي ترد عليه في خلل المحاكم الشرعية ، وما
يقاسيه فيها النساء المطلقات ، والضرائر المهجورات ، وطوالب النفقات ، وما
يلاقين في باب القاضي من الإهانات ، وما يقاسين من جمود القضاة على التقاليد
والعادات ، وإنها لحالة تحرك عصب الرحمة في الفؤاد ، وعضل اللسان بالانتقاد .
ولكن تسعة أعشار الذنب في ذلك على المسلمين ؛ وعشره على بعض آرائهم الفقهية
والإسلام نفسه بريء من كل لائمة يشكو منهم بلسان كتابه المنزل أضعاف ما
يشكو جميع المنتقدين ، وأنى يسمعون شكواه ، وقد ضربوا دونه سوراً من التقليد ؛
له باب يسمى باب الاجتهاد ؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ؟ قد أقفلوه
بأيديهم ، فمنعوا بذلك رحمة الله أن تصل إليهم .
طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطلاق وتعدد الزوجات ،
وهما لم يُطلبا ، ولم يحمدا فيه ، وإنما أجيزا ؛ لأنهما من ضرورات الاجتماع كما
بينا ذلك غير مرة ، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق فشرعوه ، وإن لم يشرعه
لهم كتابهم إلا لعلة الزنا ، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له ، فيكون من
مصلحة النساء أنفسهن ؛ كأن تغتال الحرب كثيرًا من الرجال ، فيكثر من لا كافل له
من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر ، ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن ،
ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها ، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه
الحاجة ، بل الضرورة إلى هذا ، كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق ، وقام من
نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد الزوجات ؛ رحمة
بالعاملات الفقيرات ، وبالبغايا المضطرات . وقد سبق لنا في المنار ترجمة بعض ما
كتبت إحداهن في جريدة ( لندن ثروت ) مستحسنة رأي العالم تومس في أنه لا
علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات ، وما كتبت الفاضلة مس إني رود
في جريدة ( الإسترن ميل ) والكاتبة اللادي كوك في جريدة ( الايكو ) في ذلك
( راجع ص 481 م 4 ) .
إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } ( البقرة : 185 ) و { مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّيْنِ مِّنْ حَرَجٍ } ( المائدة : 6 ) ولا يصح أن يبنى على هذه
القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة
( كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية وغيرها ) وهو مما يشق امتثاله دفعة
واحدة لاسيما على من اعتاد المبالغة فيه كتعدد الزوجات ، كذلك لا يصح السكوت
عنه ، وترك الناس وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد ، فلم يبق إلا أن يقلل العدد
ويقيد بقيد ثقيل ؛ وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات ؛ وهو
شرط يعز تحققه ، ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة ، يتجلى
له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط ، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي .
وجملة القول في هذه المسألة : إن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لابد أن
يعترف به جماهير الأوربيين ، ولو بعد حين كما يعترف به بعض فضلائهم
وفضلياتهم الآن . أما المسلمون فلم يلتزموا هدايته ؛ فصاروا حجة على دينهم .
ونحن أحوج إلى الرد عليهم والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين
بفضل الإسلام ، مع بقاء أهله على هذه المخازي والآثام ؛ إذ لو رجعوا إليه لما كان
لأحد أن يعترض عليه .
(4)
الأحكام المدنية والجنائية
في الشريعة الإسلامية
يُفَرِّق كُتَّاب العصر بين الدين والشريعة ، فيعنون بالدين الاعتقاد والعبادات
والفضائل ؛ أي ما يراد به إصلاح الأرواح وإعدادها لسعادة الآخرة أولا وبالذات ،
وإن كان يفيد في سعادة الدنيا أيضا ، ويعنون بالشريعة ما يسوس به الحكام الناس ،
ويُفْصِلون به بينهم في الخصومات ؛ أي ما يراد به إصلاح أحوال الاجتماع السياسية
والمدنية والجنائية ، ومن المعروف أن موسى جاء بدين وشريعة ، ومعظم ما جاء به
أحكام دنيوية . وأن عيسى جاء بدين فقط ، وأقر اليهود على شريعة موسى ، وأن ما
جاء به محمد ( عليه وعليهم الصلاة السلام ) جمع بين الأمرين ، ويعتقد الإفرنج أن
المسلمين لا يفرقون بين الدين والشريعة ؛ لأن كلا منهما إلهي عندهم ، ولما كانت
الأمور الدنيوية تختلف باختلاف الزمان والمكان حتما ، كان من المحال أن توضع
لها شريعة تامة توافق مصلحة الناس في كل زمان ومكان ، وهذه مسألة لا يختلف
فيها عاقلان ، ومن ثم يعتقد الإفرنج أنه يستحيل على المسلمين أن يجاروهم في
مدنيتهم ، ماداموا يعدون شريعتهم التي عليها مدار أمور دنياهم إلهية ، لا يجوز فيها
التغيير والتبديل ، ولا يفرق فيها بين حال البدو في الصحراء ، وحال من بلغوا من
الحضارة ذروة الارتقاء ، ويعدون حكامهم رؤساء يتقرب إلى الله بطاعتهم ، فلا
يعارضونهم في استبدادهم بهم ، ولا يأنفون من استعبادهم إياهم .
لو اعتقد القوم فينا أننا لا نرتقي ما دمنا على شريعتنا وتركونا وشأننا لما
بالينا . ولكنهم يعرضون لنا في شؤوننا ويفتاتون علينا في خاصة أنفسنا ، زاعمين
أن المدنية التي سفكوا في وسائلها دماءهم ، ووقفوا على مقاصدها حياتهم ، وبذروا
بذورها في الشرق بعد أن جنوا ثمرتها في الغرب - لا يرجى أن تنمو لها نبتة ولا أن
تحفظ لها بذرة في مكان للشريعة الإسلامية فيه سلطة ، ينشرون هذه الآراء بالكتابة ،
ويبثونها في النفوس بالتعليم والخطابة ، وقد يضيفون إليها الطعن في قسم العقائد
حتى التوحيد والقدر كما فعل موسيو هانوتو وغيره ، منهم من ينطقه الاعتقاد
ومنهم من تملي عليه السياسة ، والسياسة تبيح المحرم ، وتحل الكذب ، وتقلب
الأوضاع ، وتأتي المنكرات .
ويقول العارفون بحقيقة ما عليه الشعوب الأوربية من التربية العالية : إن
السواد الأعظم منهم لا يكابر الحق ، ولا يرضى بالظلم والهضم ، وإن رجال
السياسة في كل شعب منهم قد يحتالون في إقناعه بما تقضي به السياسة من مخالفة
الحق والعدل أحيانا ؛ ليجيز عملهم . وإن من أمكنه أن يقنع هذه الشعوب بحق من
الحقوق العامة ، فإنه يجد له منهم خير نصير ، وأقوى ظهير .
على هذه الطريقة ، جرى شيخنا الأستاذ الإمام ( رحمه الله تعالى ) في مناظراته
القولية والكتابية لعلماء الإفرنج وساستهم كرنان وهانوتو وغيرهما ، فقد
حجَّ وأقنع منهم جِبِلاًّ كثيرا بأن الإسلام جاء بإصلاح يوافق مصلحة البشر في كل
زمان . وكذلك فعل في ردوده على الشاذين من أهل الشرق الذين يقولون في الإسلام
بغير علم . ويعلم قراء المنار أننا لا نألو جهدًا في بيان التوفيق ، بين عقائد الإسلام
وآدابه وأحكامه ، وبين العقل والفطرة والمصلحة ، وإننا نبني هذا التوفيق على
ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي مضت بالدوران مع
المصلحة في كل حال ، بحسبها لا على ما جاء في كتب الفقهاء من الآراء التي أداهم
إليها اجتهادهم ، ومنهم المخطئ فيها والمصيب ، ونحن عاجزون عن الانتصار لكل ما
في كتب الفقه ؛ كما ننتصر لكل ما جاء في الكتاب ، ومضت به السنة السنية . على
أن ما ينتقد على الآراء الاجتهادية في فقهنا ، ينتقد مثله على القوانين الوضعية . ولكن
المنتقدين يقولون لنا إن ما يظهر خطأه في القوانين يسهل الرجوع عنه ، وما يظهر
خطأه في الفقه يتعذر الرجوع عنه ؛ لأنه في عرفكم من الدين ، وهو قول لا يمكن
دفعه مع الجمود على التقليد ، فهدم التقليد شرط يتوقف عليه كل إصلاح ويطلبه
عقلاء المسلمين مع المحافظة على الإسلام ، ونشره في عالم المدنية العصرية ،
والجمع بينه وبين العلوم والمعارف التي عليها مدار العمران والعزة . وإن طريقتنا
هذه يؤيدها خيار المسلمين من أهل الدين والدنيا ؛ كالسلفيين ، والقائلين بوجوب
الاجتهاد في الدين ، وأكثر المتعلمين على الطريقة العصرية سواء منهم المتدين
حقيقة ، والمتدين جنسية وقد صار الذين يصرحون بذلك كثيرين . وأذكر من
الشواهد عن العصريين ، قول أحمد شوقي بك شاعر الأمير عباس حلمي باشا في
منظومته التي رفعها إليه ؛ يهنئه فيها بميلاد ولي عهد الإمارة ( الأمير محمد عبد
المنعم ) .
ويا جيل الأمير إذا نشأنا ... وشاء الجد أن تعطي و شئنا
فخذ سبلاً إلى العلياء شتى ... وخل دليلك الدين القويما
وضن به فإن الخير فيه ... وخذه من الكتاب وما يليه
ولا تأخذه من شفتي فقيه ... ولا تهجر مع الدين العلوما
فهذه وصية من شاعر الأمير إلى ولي عهده ، يأمره فيها باتباع الكتاب والسنة
وعدم اتباع الفقهاء ، وقد رضيها الأمير أعزه الله ، ولم ينكرها .
ليست طريقتنا هذه بخفية على الإفرنج ، فقد كتبت الجرائد الفرنسية عن رحلة
الأستاذ الإمام إلى تونس و الجزائر ، ما يدل على أنها عارفة بخطته راضية بها ،
وذكرت أن آراءه في الإصلاح الديني تنشر في بعض المجلات المصرية ؛ تعني بها
المنار ، وقد كتب في الجرائد الفرنسية في تونس وأوربا وفي غيرها من الجرائد
الأوربية شيء عن مذهب المنار ، ومنه ما كتب في المجلة الفرنسية في أوائل سنة
1905 وهذا نصه :
( المنار )
أُسِس في القاهرة سنة 1897 ، أسسه الشيخ محمد رشيد رضا أحد كتاب
المسلمين المشهورين ؛ تلميذ الفيلسوف المصري الكبير الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية ، وهو لا يبحث في الجملة إلا في المسائل الدينية والفلسفية ، وغايته التي
يرمي إليها هي تعليم المسلمين دينهم على أنقى صورة له ، نافيًا عنه الأوهام
والخزعبلات والبدع القديمة وقد قال الشيخ محمد عبده : إن دين الإسلام في شكله
الحقيقي هو غاية ما يطلبه الإنسان من الكمال - هذه هي خطة المنار ؛ وهو مجلة
تصدر في الشهر مرتين .
وجاء في عدد آخر منها :
( المنار )
الصادر بالقاهرة في شهر فبراير ( أي من سنة 1905) أهم مقالة في
هذا العدد تبحث عن مثال للحكومة الإسلامية ، وكاتب هذه المقالة صالح بن علي
اليافعي وهو كاتب هندي[6] قد بين فظائع الحكومة المطلقة التي مقتها القرآن والنبي ،
وقد بين هذا الكاتب أن الحكومة الإسلامية كانت في زمن الخلفاء الأولين ديمقراطية
محضة وأن الخليفة نفسه كان ينتقده نواب الأمة الذين كانت مهمتهم مراقبة سيره
مراقبة شديدة .
الإسلام لا يقبل من شكل الحكومة إلا الملكية المقيدة والجمهورية ، والجملة أن
كل ضرب من ضروب الحكومة المطلقة يديره أي حاكم مسلم كائنًا من كان ، ليس
من الإسلام في شيء . جاءت هذه المقالة عقب جزء من تفسير القرآن للشيخ محمد
عبده اهـ .
والمراد مما تقدم أن الباحثين في أمور الشرق من الأوربيين عارفون بمرامي
طلاب الإصلاح من المسلمين ، وأنهم يريدون الرجوع بالدين إلى ما كان عليه في
أول نشأته ، غير متقيدين بما وضعه العلماء من التقاليد التي قد تحول دون مجاراة
أهل هذا العصر ، بل مسابقتهم في علومهم ومدنيتهم ؛ لأنهم يرون أن الكتاب
والسنة يحثان على ذلك ، لا يحولان دونه ، والمقلدون للفقهاء يرون غير ذلك .
ولا يُعقَل أن يكون اللورد كرومر غير عارف ما عرفه كثير من الأوربيين الذين
لم يقيموا في الشرق كما أقام ، ولم يكتنهوا أمر المسلمين كما اكتنهه ، فإن كان بعد
هذا الاختبار كله يقول للأوربيين : إن رجوع المسلمين إلى أصول شريعتهم
المدنية وعملهم بها ، يرجع بهم إلى طور السذاجة المضادة للحضارة ، فإن قوله
هذا أعظم صدمة للإصلاح الذي ندعو إليه ؛ لأن كلامه في ذلك يؤخذ بالقبول
عند الأمم الأوربية كلها ، ويخشى أن يناهضوا الدعوة إلى الإصلاح في بلادهم ؛
ولا شيء يدفع ذلك إلا كلام من اللورد نفسه .
لهذا وقعت علينا عبارة التقرير في القوانين الإسلامية كالصاخة ، وأخذنا نجيل
قداح الفكر فيها ، فرأينا بعد طول التأمل أن العبارة وإن كان المتبادر منها أنها في
الإسلام نفسه ، كتابه وسنته وفقهه ، وكل شيء فيه يتعلق بالمعاملات - يجوز أن
تُحمل على الفقه وحده ؛ لأن حكام المسلمين لا يحكمون إلا به ، إذا هم أرادوا
الرجوع إلى الإسلام ، وإنما قلنا : يجوز أن يكون هذا هو مراد اللورد ، وإن كانت
عبارته مطلقة تفيد ما هو أعم من هذا ، وتشمل الأحوال الشخصية ؛ لأن التمسك
بالفقه هو الذي رآه المانع من إصلاح المحاكم الشرعية . كما بينا ذلك بالتفصيل في
مقالة نشرت في المجلد السابع من المنار ( ص212 ) استشهدنا فيها بما قاله في
تقريره عن سنة 1902 وسنة 1903 وبشيء من محاضر مجلس شورى القوانين .
من ذلك أن أحمد بك يحيى ( أحمد باشا الآن ) اقترح تأليف لجنة لوضع
تقرير في إصلاح المحاكم الشرعية . فقال الشيخ حسونة النواوي " إني لا أعلم أن
المحاكم الشرعية تحتاج إلى الإصلاح في أمر من أمورها " قال في محضر الجلسة :
( تقرر بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي ) وقد ذكر اللورد هذا في
كلامه عن المحاكم الشرعية في تقريره سنة 1903 ؛ وهو مع ذلك أعلم الناس بكثرة
شكوى المسلمين من هذه المحاكم .
ومن ذلك أن قاضي مصر قال لما طرحت مسألة إصلاح المحاكم الشرعية
في الجمعية العمومة سنة 1904 ما نصه : ( قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم
الشرعية ، ونقول : إن أعمال تلك المحاكم ترجع أولا إلى الشرع الشريف ، وهذا
لا يمكن لمسلم أن يقول إنه يحتاج إلى إصلاح ) ... إلخ .
فأمثال هذه الأقوال من كبار الفقهاء ؛ هي التي جعلت اللورد كرومر يعتقد أن
هذا الفقه الذي يحكمون به ، قد صبغ كله بصبغة الدين ، فلا يمكن تنقيحه ، وهو
يعتقد قطعًا أنه لا يوافق مدنية هذا العصر ، ولا ينطبق على مصالح أهله . أما أصل
الدين وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية ، فقد يعتقد فيه ذلك ، وقد يكون مصدقًا
لطلاب الإصلاح في قولهم لا ينافي المدنية ، ويدل على الأخير حثه الأوربيين على
مساعدة حزب الشيخ محمد عبده الذين يطلبون الإصلاح من غير مس لأصول الدين .
وقد حدثني الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أنه كان يكلمه مرة في هذا الموضوع
بمناسبة مقاومة الجامدين لإصلاح المحاكم الشرعية ، فأقام المرحوم له الدلائل على
أن الإسلام يدعو إلى كل صلاح ، ويناسب كل زمان ، فقال له اللورد : أتصدق يا
أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة ، وقامت به دول عظيمة لا يكون أساسه
العدل ؟ هذا محال . ولكنني أعلم أن هذه المقاومات أمور ( إكليركية ) أي : تقاليد
كتقاليد الكنيسة .
تذكرنا هذا ، فقلنا في نفسنا : لعل اللورد لا يقصد بعبارة التقرير ما يتبادر منها
لئلا يتناقض ذلك مع ما ذكرنا آنفا . ولكن هذا لا يمكن أن يعرف إلا من - قبله
فكتبنا إليه كتابًا نسأله ، أي الأمرين يعني بعبارته : هذا نصه :
القاهرة في 20 ربيع الأول سنة 1325
جناب اللورد العظيم :
أحييك بما يليق بمكانتك ؛ وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك ، وأرجو
أن تمن علي ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي
يهمني ، من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية ، تدافع عن الدين ، وتبحث في فلسفته
وهو :
هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي
وضعت منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه ؛ الذي هو عبارة عن القرآن
الحكيم والسنة النبوية ؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء ؟ فإن كنت
تعني الثاني فهو من وضع البشر ؛ وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن الأول ،
وخَطَّأ فيه بعضهم بعضا ، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه ، ولطلاب
الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب .
وإن كنت تعني الأول ، فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما
جاء في الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة ؛ وهي
مصلحة البشر في كل زمان ومكان ؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح
وبحكم الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية ( وهو مقابل المعظم ) راجع إلى
ذلك ، وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار بمصر
... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

كتبنا إليه هذا ونحن نتمنى لو يجيبنا ؛ بأنه يبرئ أصل الدين من معارضة
المدنية ونخشى أن لا يفعل ، ذلك بأننا نعتقد أن كلامه في الإسلام يؤثر في جميع
الشعوب الأوروبية ، ما لا يؤثر كلام غيره ، فإذا هم اعتقدوا بشهادته أن الإسلام
نفسه يتفق مع المدنية ، ويسير مع العدل ، وأن السبب فيما يرى من سوء حال أهله
هو ما ألصقوا به من التقاليد والآراء ؛ وجعلوه بهذا الإلصاق دينا ، فإن هذا الاعتقاد
يكون أكبر عون لنا على خدمة الإسلام ؛ والدفاع عن أهله الذين أصبح معظمهم
تحت سلطة الأوربيين . وإذا هم اعتقدوا بالعكس كان ذلك أشد منفر لهم عن الإسلام
وحامل لهم على إلزام حكوماتهم بالضغط على رعاياهم . وكنا عازمين على أن
نكتب إليه رسالة في بيان أن ما جاء في الإسلام من الأصول الأساسية للأحكام
الدنيوية ، يوافق مصالح البشر في كل زمان ، ونقدمها إليه مترجمة بالإنكليزية ،
ونسأله باسم العدل والإنصاف أن يبدي رأيه فيها ، كنا عازمين على هذا لو أجابنا
بأنه يعني بما كتب الإسلام نفسه ؛ أو مجموع ما عليه المسلمون من كتاب وسنة وفقه
لأنه يعتقد ذلك ، ولا يخاف في إظهاراعتقاده أحد . ولكنه تفضل بالجواب الآتي
بنصه العربي موقعاً ومؤرخًا بخطه الإفرنجي وهو :
حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار ؛
جوابا على خطابكم أقول : إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي
تسمونها الفقه ؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام ، ولم أعن الدين الإسلامي نفسه
ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي
الذي يطلب الإصلاح ، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين . ولعل
العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة ، فلم تؤد المراد تماما ، واقبلوا يا حضرة
الأستاذ احترامي الفائق .
... ... ... ... ... ... ... ... في 4 مايو سنة 1907
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كرومر

والقارئ المنصف يرى أن ما استدل به على كونه لا يريد بما كتب الدين
الإسلامي نفسه معقول لا يمكن دفعه بعد تصريحه بأن عبارة التقرير لم تؤد
مراده تمام الأداء ، والإنسان أعلم بمراده نفسه . غاية ما كان يقال : إن مراد القائل
يعرف من قوله ، وقول اللورد في التقرير يشمل الفقه وينابيعه من الكتاب ، ويقال
الآن : إنه استثنى تلك الينابيع بقول آخر مبين لمراده من القول الأول ، فليعتبر هذا
القول تصحيحًا ، أو تخصيصًا لسابقه ، أو استداركًا عليه . ولعل أهل الغيرة
الصحيحة على الإسلام ينشرونه في الجرائد الأوربية ؛ ليطلع عليه الأوربيون
الذين قرءوا التقرير ، فإنه خير لنا من شهادة بعض المستشرقين بفضل الإسلام ؛
لأن المستشرقين يُتهَمون في أوربا بالتعصب للشرق وأهله .
ولا يعذر من يعدون اللورد كرومر عدوًا إذا هم قصروا في نشره ؛ إذ يقال لهم
إن شهادة العدو لك أقوى من شهادة الصديق ، على أنه بلغنا من مصدر يوثق به ،
أن شيخ الأزهر قال للورد عند ما زاره مودعًا له : إننا قرأنا العبارة التي ترجمت
عن تقرير جنابكم في الإسلام ، فلم نجد طعنًا فيه ولا مسًّا لكرامته ، أو ما هذا معناه .
ولعل مراد الشيخ أن ما ذكر من إجازة الرق ، ومناقضة أحكام الزوجية لآراء أهل
العصر ، وكون الأحكام المدنية الجنائية لا تتغير ، كل ذلك صحيح وحسن عند
المسلمين ، فإن لم يستحسنه المخالفون فذلك لا يعيبه ، فإذا كان مناقضا لآرائهم فهو
موافق لآراء أهله . ونحن معاشر طلاب الإصلاح لا نقول بهذا ، ونعده طعنًا نبرئ
منه الإسلام دون الفقه ، ووافقنا اللورد على ذلك .
أما ما يجب أن يعتبر به المسلم العاقل في هذا المقام ؛ فهو أننا نعلم علم اليقين
أنه لو تيسر للمسلمين إنشاء حكومة إسلامية ، لما رضي جمهور علمائهم ومن
ورائهم العامة ، أن يحكم بغير هذه الكتب الفقهية بما فيها من أحكام الرق والزوجية
وغير ذلك على علاته ، ومن أكبر علاته الخلاف الكثير في المسألة الواحدة ،
واختلاف التصحيح والترجيح فيها ، حتى ورد في بعضها بعد ذكر تصحيح قولين
متناقضين في مسألة من مسائل الطلاق ( نحن مع الدراهم قلة وكثرة ) أي إن
المرجح لأحد القولين المصححين في المذهب هو الدراهم التي يأخذها المفتي من أحد
المستفتين .
بلغ من جمود فقهائنا على هذه الكتب التي يوجد فيها مثل هذه الفضيحة ،
أنهم يعدون العدول عنها إلى كتاب يوضع خاليًا من مسائل الخلاف ، موافقًا لحال
الزمان جناية على الدين نفسه . ومن عجائب هذا الجمود أن شيخ الإسلام العثماني
لا يفتي بمجلة الأحكام العدلية ، ولا يأذن لأحد من المفتين الذين يعينهم بالفتوى منها
وإذا ذكر شيء منها في فتوى ، فإنما يذكر بعد النص الفقهي من الكتب المعتمدة
عندهم . على أن الدولة لم تعمل عملاً شرعيًّا أفضل من وضع هذه المجلة ، فمن لنا
بجمعية من العلماء العقلاء ، تدرس بعد التمكن من علم الكتاب والسنة والفقه وقوانين
الأمم ، ثم تستخرج من هذه الشريعة كتابًا يفوقها عدلاً وسهولة ، وموافقة لمصالح
البشر في هذا العصر ، يكون حجة ناطقة على كل من ينسب القصور إلى الشريعة
أو الدين . وينبغي أن تعزل فيه الأمور الدينية عن القضائية ، أو يذكر في أول كل
باب من أبواب المعاملات أو كتبها ، ما هو ديني منها ، كأن يقال في كتاب
المعاملات المالية : إن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والخيانة ، وأكل
الربا أضعافا مضاعفة ، وأوجب الوفاء بالعقود ، وأداء الأمانات إلى أربابها .
ويذكر في أول بابا القضاء تحريم الظلم والرشوة ، وكون حكم القاضي بالشيء
لا يحله للمحكوم له ؛ إذا كان يعلم أنه ليس له . أما هذا الفقه فهو على ما فيه من
محاسن حجة علينا لا لنا ، بما فيه من المساوي ، وإلى الله المشتكى .
إنا نحن المسلمين قد أمسينا ؛ ولا مثل أصدق علينا من قول ابن دريد :
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأه ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
فنحن نرتع في غفلات الزمان ما وجدنا مرعى ، فإذا صاح بنا نذير تقلبات
الزمان ، نراع ونجفل ، وقد نصرخ من الذعر ، أو ننتفج انتفاج الهر ، فإذا سكنت
نبأة النذير ، عدنا إلى سابق التقصير ، نرتع ولا نعمل ، وإذا وُجِد العامل لإحياء
الدين وإقامة حجته على المخالفين ، فإننا نخذله مع المخذولين ، أفنرضى أن نكون
في حكم القرآن من الممقوتين الذين يقولون ما لا يفعلون ، أو المنافقين الذين يفتنون
في كل عام مرة أو مرتين ؛ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ! !
__________
(1) يعني بالجريدة الأهرام ، وقد نشر فيها حديثاً دار بينه وبين هانوتو بعد الرد الأول عليه ، وما ننشره هنا هو من الرد على هذا الحديث .
(2) أشير هنا إلى كتاب ورد عليّ في الربيع خاليا من الإمضاء ، ونشر في ورقة من الأوراق التي عرضت على البرلمان ، فقد ارتاب بعضهم في صحته ، ولكن لا ريب عندي في ذلك على الإطلاق ، وقد استغربت شدة اهتمام الناس بأمره ، وخصوصا في بلاد الإنكليز فإني ما أرسلته إلى لندن إلا على سبيل المثال لأفكار ومعان ألفتها منذ زمان طويل ، ولم يبق عندي ريب في وجودها ، ولكنه مفرغ في عبارات أبلغ من المعتاد .
(3) أقصد بالشرق : البلاد الشرقية التي لي معرفة بها لا الصين واليابان .
(4) يراد بالحكومة الثيوقراطية : الحكومة التي يعتقد أتباعها أن الله هو الحاكم الأصلي فيها وأن سننها وشرائعها ، هي أوامره ومناهيه ، لا سنن البشر وشرائعهم ، وأن العلماء ورجال الدين هم خدمة الله ومأموروه فيها (المترجم) .
(5) المنار : اشتهر أن العبارة بالإنكليزية (منذ أكثر من ألف سنة) .
(6) هو هندي الموطن عربي الأصل يقيم في حيدر آبار .​
(10/200)
 
ربيع الآخر - 1325هـ
يونيه - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
منافع الأوربيين و مضارهم في الشرق
الاستبداد

( 3 )
الفائدة الثانية
الخروج من الاستبداد
أتى على الشرق حين من الدهر كان يعبد فيه الملوك عبادةً حقيقيةً ، ويسميهم
آلهةً ، ويدعوهم أربابًا ، وهو لم يسلم من هذا الاعتقاد سلامةً تامةً عامةً إلى اليوم ، ثم
ارتقى بعض شعوبه إلى الاعتقاد بأن الملوك ليسوا آلهة خالقين ، ولكنهم أصحاب
سلطة إلهية وسيادة ربانية تجب طاعتهم عدلوا أو ظلموا ، وتقديسهم أساءوا أو
أحسنوا ، ثم جاء الإسلام بإصلاح جديد ، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم ، وأمر
أصحاب الرأي السديد والمعرفة بالمصالح العامة واجب الامتثال في سياسة الأمة
وإدارتها ، حتى لا يطمع فرد من الأفراد بالاستئثار بالسلطة والاستبداد بالأمر .
وجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياستهم على هذه القاعدة ، فكان يقدم
رأي أصحاب الرأي المعبرعنهم بأولي الأمر على رأيه كما فعل يوم أحد ؛ إذ كان
صرح بأنه لا يرى الخروج إلى حرب قريش ، حتى تصل إلى المدينة . ورأى
أصحابه الخروج فعمل برأيهم ، وكما فعل يوم بدر ، والأحاديث في ذلك كثيرة
شهيرة . ولكن الشرق لم يكن تم استعداده لهذا الإصلاح الأعلى ؛ لما بيناه في مقال
(طبيعة الاجتماع في الحاكمين والمحكومين ) ؛ لذلك تسنى لبني أمية أن يعبثوا به ،
ويزيلوه في زمن قريب .
ولي أبو بكر - رضي الله عنه - أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فخطب الناس ، وقال : وُلِّيت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت
فأعينوني ، وإذا زغت فقومني .
وولي عمر رضي الله عنه فقال نحو ذلك في خطبته . ومن المشهور المستفيض
على الألسنة ؛ أنه لما قال على المنبر : من رأى منكم فيِّ عوجًا فليقومه .
قام رجل فقال : لو رأينا فيك عوجا لَقَوَّمْنَاه بسيوفنا ، فقال : الحمد لله الذي جعل في
المسلمين من يُقوِّم عوج عمر بسيفه .
ومما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال على المنبر : أمري لأمركم
تبع ، وقال في أول خطبة خطبها بعد أن ولي الخلافة : ألا وإن لكم علي بعد
كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه ثلاثًا : ( اتباعُ مَن كان قبلي فيما اجتمعتم عليه
وسننتم ، وَسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ ، والكَفُّ عنكم إلا فيما
استوجبتم ) .
فانظر كيف قيد اتباع من كان قبله بكونه فيما اجتمعوا عليه وسنوه ، فهو دليل
وراء الأدلة العملية على أن أبا بكر وعمر كانا يأخذان برأي الأمة فيما لم يرد به
الكتاب ولم تمض به السنة ، وتأمل قوله : ( فيما لم تسنوا عن ملأ ) ، والملأ :
الجماعة من أهل الرأي والمكانة في الأمة ، وهم بمعنى النواب .
أما سيرة علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - فهي على تلك السنة ، ما غَيِّر
ولا بدَّل ، ولا رغب في الدنيا ، ولا جنح إلى زخرفها . ولكن نزا عليه بنو أمية
أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وكان من أمرهم ما كان ، ولا محل لشرحه
في هذا التمهيد .
وإنما غرضنا أن نقول : إنهم استبدوا عملا ، وما عتموا أن جهروا بالخروج عن
سنن الإسلام في حكمه قولا ؛ إذ قال خطيبهم عبد الملك بن مروان على المنبر : من
قال لي اتق الله ضربت عنقه . فتحولت الحكومة إلى استبدادية ، كانت على حسب
سيرة الحاكم ، إلا على الملقب بالخليفة أو الملك : فتارة يكون عادلاً كعمر بن عبد
العزيز ، وتارة يكون جائرًا ، وتارة متوسطًا . وكان معظم ظلمهم وظلم من بعدهم
لمن يأنسون منه سخطًا من سلطتهم أو مقاومة لها ، وسائر الناس في راحة وأمان ،
يتقدم به العلم ويزهو العمران ، حتى استدار الزمان ، ورجع الشرق إلى نحو ما
عليه كان .
أخبار المماليك يقل في القارئين من لا يعرفها ، وسيرة إسماعيل باشا لم يمت
جميع من ذاقوا مرارتها ، ومفاسد بايات تونس مأثورة ، ومنكرات دايات الجزائر
غير منكورة ، كان من هؤلاء من يعاقب الناس الذين يحل عليهم غضبه ، ولو لحفظ
عرضهم من فسقه بإحدى ثلاث : الخازوق ، أو ترديته من أعلى جبل قسنطينة ، أو
إغراء كلاب عاقرة به تنهشه وتمزق لحمه حتى يموت شر ميته . كان هذا قبيل
إغارة فرنسا على الجزائر . ولا يجهل أحد من قراء الصحف حال بقية الممالك التي
لما تؤثر فيها حالة الأوربيين ، ولم تحملها على تغيير سلطتها الاستبدادية ، إما
لجهلها بها لعدم الاختلاط بهم ، واقتباس علومهم ، والوقوف على حال حكوماتهم
كمراكش ، وإما لأن السلطة الاستبدادية فيها لا تزال أقوى وأقدر على منع العلم عن
الجاهلين ، مع مطاردة طلاب الإصلاح من العارفين ، كما هو شأن الحكومة
العثمانية .
إن محاربة الآستانة للعلم والدين ، ومطاردتها للعقلاء والعارفين ، لفوق ما
يتخيل المتخيلون ؛ لأنها أضعاف ما يروي الراوون ، إن أكثر المطبوعات العربية
الجديدة التي تعد في مصر من آيات الارتقاء التي استعدت أو تستعد بها الأمة لأن
تحكم نفسها بنفسها هي في الولايات العثمانية من أشد الجنايات ، وأعظم الجرائم
تضطرب لذكرها القلوب ، وترتعد الفرائص ، حتى من أولئك الذين يسفكون
الدماء بالأسواق في وقت الضحى ؛ لأن سافك الدم كثيرًا ما يسلم بالرشوة أو المحاباة ،
وإذا حوكم لا تتبرأ منه المحاماة ، وإذا حكم عليه يدركه العفو في أحد الأعياد بعد عشر
سنين أو أقل ، أما من يتهم باقتناء كتاب مما يعد منبهًا للأفكار أو بطلبه من مصر ، فلا يتجرأ أحد على الدفاع عنه ، ولا على الارتشاء منه ، ولا يؤخذ منه عدل ، ولا تنفعه شفاعة .
كم من عالم عامل ، ومن غيور فاضل ، يئن في ظلمات السجن لا يتجرأ أحد
على ذكره ولا السؤال عنه ، وكم من عالم وغيور أُخرِج من داره ، ونفي إلى حيث
لا يسمع أهله وولده بذكره ، وما كنت عازمًا على الإشارة إلى مثل هذا ؛ لولا أن
أُلْقِيَ إليِّ قبل هذه الكتابة رقيم من الحجاز فيه أن أمير مكة جلد بعض أهل العلم
مائة جلدة على مشهد من الناس ، ثم كبله في السلاسل والأغلال ؛ لأنه كتب كتابًا في
التوحيد ، قال فيه : إن الأمر كله لله ، لا ينبغي أن يطلب الخير ، ودفع الضر من
غيره - عز وجل - بعد العجز عن الأسباب التي سنها ، واستعمال القوى التي وهبها
فصار إظهار التوحيد الخالص ممنوعًا بهذه الحكومة في حرم الله ، وقد كان أعظم
مظهر له في أرض الله .
هذا واليابان تفاخر أوربا بالحرية والعدل وحكم الشورى ، وإيران تحاول
مجاراتها في ذلك ، ومصر لا حديث لها إلا المجلس النيابي ، فمن أبنائها من يلح
بطلبه الآن ، ومنهم من يقول : يجب أن نعد له أولا عدته ، ونكتفي الآن بتوسيع
اختصاص مجلس الشورى ومجلس المديرات .
وقد سبقهم العثمانيون إلى المطالبة بإعادة القانون الأساسي ومجلس ( المبعوثان )
( أي : النواب ) ، وترى أهم حديث للجرائد التونسية في هذه الأيام حديث مجلس
الشورى عندهم ، والمطالبة بإنصاف التونسيين من الأوربيين .
لكن الفرق بين المصري وأخيه العثماني ؛ أن الأول يجهر بطلبه في بلده ،
ويناقش حكومته جهرًا ، في المجالس الرسمية ، وفي الجرائد ، وفي المحافل العامة
والخاصة ، وقد يطعن عليها وعلى القوة المشرفة عليها ، وهي تبيح له ذلك .
والعثماني لا يتجرأ على الحديث بذلك في بلاده ؛ وإن كان في كسر بيته قد أغلقت
دونه الأبواب ، وأرخيت عليها السجوف والأستار ؛ لأنه أعلم الناس بالمثل القائل :
للحيطان آذان ، وهو لا يأمن على نفسه الأهل والجيران ؛ لأن الاستبداد قد أفسد
الناس أي إفساد ، حتى صار الرجل الحر يفر من أخيه ، وأمه وأبيه ، وفصيلته التي
تؤويه ، وإنما يجهر بذلك في أوربا ومصر ، وكل بلاد ليس فيها لأبناء جنسه
سلطان ولا حكم .
فأعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما يجب أن تكون عليه
الحكومة واصطباغ نفوسهم بها ، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد بالشورى
والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد ، فمنهم من نال أمله على وجه
الكمال كاليابان ، ومنهم من بدأ بذلك كإيران ، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم
واللسان ، كمصر وتركيا .
ليست هذه الفائدة بالشيء التافه ، ولا بالأمر اليسير ، ولا هي بالمنفعة التي
تقرن بالنظائر ، بل هذه مرتبة البشرية العليا ، في هذه الحياة الدنيا ، فإن القوم الذين
يرضون أن يستبد بهم حاكم ؛ يقبل فيهم ما يشاء ، ويحكم بما يريد ، ينبغي أن يعدوا
من الدواب الراعية ، والأنعام السائمة إذن هذه الفائدة هي عبارة عن الارتقاء من
حضيض البهيمية إلى أفق الإنسانية ، فحسب الشرق إن استفاد هذه الفائدة وعرف
قيمتها .
لا تقل أيها المسلم : إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا ، فنحن قد استفدناه من
الكتاب المبين ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا معاشرة الأوربيين ، والوقوف على
حال الغربيين ، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس ؛ لما فكرت أنت وأمثالك
بأن هذا من الإسلام ، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء
الدين ، في الآستانة ، وفي مصر ، ومراكش ، وهم هم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد
حكومة الأفراد الاستبدادية ، ويعد من أكبر أعوانها ، ولما كان أكثر طلاب حكم
الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوربا والأوربيين ، وقد سبقهم الوثنيون إلى ذلك .
ألم تر إلى بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوربيين كيف يتخبط في ظلمات
استبدادها ؟ ولا تسمع من أحد كلمة شورى ؛ مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة
لسورة الشورى ، ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة ، وفوض
حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي .
فإن قلت : إن أول من نبه المصريين إلى حقوق الأمة على الحاكم ، وإلى
فضل حكومة الجمهورية ، والملكية المقيدة على الحكومة الاستبدادية ، شيخان من
شيوخ الدين وإمامان من أئمة الإسلام ، وهما : السيد جمال الدين والشيخ محمد
عبده ، وإنك أنت قد نشرت في (المنار) مقالات للسيد مقالات في (الحكومة
الاستبدادية ) ، كانت مما نشره هو في بعض الجرائد على عهد إسماعيل باشا ، وهي
تحرك الجماد ، وصرحت في ترجمة الشيخ بأنه كان يدعو إلى ذلك ، وأنه قال ، بل
كتب عن نفسه هذه الكلمة الجليلة : دعونا إلى هذا والاستبداد في عنفوانه ، والظلم
قابض على صولجانه ، ويد الظالم من حديد ، والناس كلهم عبيد له أي عبيد ، وقد
كان مضى على المصرين أكثر من نصف قرن ، وهم يتدارسون علوم أوربا ،
ويشتركون مع الأوربيين في كثير من الأعمال ، ويتزاحمون معهم بالمناكب ،
ويتبادلون بالأموال ولم يخطر في بالهم أن يقلدوهم بإصلاح الحكومة والسيطرة
عليها .
إن قلت هذا ؛ محتجًا على أننا نحن المسلمين ، قد اقتبسنا فائدة مقاومة
الاستبداد من الدين ، فإن لي أن أجيبك عن ذلك ؛ بأنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك
كما رأيت في مقدمة هذا المقال . كيف ؟ وإنني لم أطلع على كتابة لأحد في ذلك
أوسع مما كتبته في ( المنار ) ، وإنني مطلع على سيرة هذين الإمامين الحكيمين
وعالم بأنهما كانا قد عاهدا توفيق باشا ؛ قبل أن يصير الأمر إليه على نصره
وعاهدهما هو على إنشاء مجلس نيابي ، وعلى تعميم التعليم في القطر المصري
ومع هذا كله أقول : إننا لولا اختلاطنا بالأوربيين ؛ لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو
أمم إلى هذا الأمر العظيم ، وإن كان صريحًا جليًّا في القرآن الحكيم ، نعم إن
أستاذينا الحكيمين - رحمهما الله تعالى - أهل لأن يفهما ذلك من القرآن ؛ لأنهما أول
من دعا في هذا العصر إلى جعله أساسًا للإصلاح ، وبينا من حكمه وفضله ، ما
عجزت الأوائل عن الإتيان بمثله . ولكن كلامنا في تنبه الشعوب الشرقية على
اختلاف مللها ونحلها ، لا تنبه فيلسوفين من أهل ملة منها ، على أن هذين الحكيمين
قد استفادا من الاعتبار بحال أوربا ، وعرفا حال أهلها قبل دعوتهما إلى هذا
الإصلاح .
لا ينبه الأمة إلى مثل هذا التغيير العظيم إلا الإحساس بالخطر ، والخوف من
سوء العاقبة ، ورؤية العبر بأعينها ، وسماع أخبار الذين صرعوا الاستبداد من قبلها
ولذلك نقول : إننا ما عرفنا قيمة هذه الفائدة إلا بعد أن أحسسنا بالغائلة التي تقابلها
وهي مواثبة استقلالنا ، والاعتداء عليه ، وهي ما سنبينه في قسم المضار ، إن شاء
الله تعالى .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(10/279)
 
جمادى أول - 1325هـ
يوليو - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق
( 4 )
الجمعيات
يرى كثير من العقلاء أن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي القوة ، وبها سعد
الإفرنج في بلادهم ، وبها سادوا على معظم أمم المشرق ، فالقوة أساس مدنيتهم ،
والسلاح مصدر عزتهم وعظمتهم ، وإلا فهم لا يمتازون على غيرهم بالقوى العقلية
ولا بشيء من المواهب الغريزية . وهذه اليابان قد اقتفت آثارهم في العناية بالجندية
وتشييد الأساطيل الحربية ، فقهرت أكبر دولة من دولهم ، حتى صارت الدول
العزيزة منهم تعتز بمحالفتها ، وتخطب مودتها ؛ لمكان قوتها بعد أن كانوا يرونها
أنقص منهم في الخلقة ، وأقل في استعداد الفطرة ، فعلى سائر الممالك الشرقية
أن تتلو في ذلك تلوها ، وتقفو في أمر القوة أثرها ، ويعارض أصحاب هذا الرأي
العالم الاجتماعي ؛ مبينًا أن القوة في هذا الزمان تتوقف على أسباب كثيرة ، مرتب
بعضها على بعض فلابد من الأخذ بمبادئها ؛ لأجل الوصول إلى غاياتها . فما هو
السبب الأول الذي يجب الابتداء به لترقية الأمة ورفعة شأنها ؟
يقول المشتغلون بالسياسة : إن سبب ارتقاء أوربا وعزتها ، وسيادتها هو
انتظام حكوماتها ، وتقيدها بالشورى التي هي ناموس العدل ، وينبوع السعادة ، فكل
أمة تحب الارتقاء يجب أن توجه عنايتها قبل كل شيء إلى إصلاح حال حكومتها ،
بجعلها مقيدة بالشورى والقوانين العادلة . ويقول لهم العالم الاجتماعي : وما هو
السبب المؤدي إلى إصلاح الأمة لحكومتها ؟ وهل يتسنى لأمة غير مرتقية أن تفعل
ذلك ؟ فكيف يجعل إصلاح الحكومة علة لكل ارتقاء ، وهو معلول لنوع من ارتقاء
الأمة لابد أن يتقدمه ، فما هو هذا النوع الذي هو السبب الأول للارتقاء أو علة
العلل له ؟
يقول علماء التربية : إن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي التربية والتعليم ،
فكلما انتشرت المدارس ، ينتشر فيها وبها ومنها شعاع الارتقاء ، وكلما كان التعليم
أعم وأكمل ، كان الارتقاء أتم وأشمل ، ألم يهدِ إليك أن بسمرك قال عن قومه
الألمانيين : إنهم انتصروا في فرنسا بالمدرسة ؟ والأقوال في إثبات هذا الرأي لا
تحصى ، وكم كتبنا ، وكتب الكاتبون في بيانه وإظهار برهانه ، ولنا في ذلك مقال
مطول بأسلوب المحاورة نشرناه في العدد الثاني من سنة المنار الأولى ، بيَّنا فيه أن
سبب جميع أنواع الترقي الصورية والمعنوية ، إنما هو التربية والتعليم ، وفي هذا
المقال قال أحد أصحاب الصحف : ماذا أبقى صاحب المنار لسائر الأعداد التي
تصدر في المستقبل بعدما جمع في هذا العدد كل شيء ، بل قد أعجب الأستاذ
الإمام بذلك المقال ، وأجاز كل ما ورد فيه . ولكن العالم الاجتماعي يقول لنا مع ذلك :
إن الأمة لا تتوجه إلى العناية بالتربية النافعة ، والتعليم الرافع لها من أفق إلى أفق
أعلى منه ، إلا بعد نوع من الارتقاء يتقدم ذلك ، فيهدي الأمة إليه ، ويقدرها عليه ،
فما هو هذا النوع الذي نسميه السبب الأول وعلة العلل ؟
ويقول علماء الاقتصاد وأرباب الأموال : إن الثروة مبدأ كل ارتقاء ومصدر
كل إصلاح ، فلا مدارس ، ولا تعليم ، ولا تربية ، ولا تنظيم إلا والمال أساسه الذي
عليه يبنى ، وقواعده التي عليه يرفع ، فعلى الأمة الشرقية التي تطلب رفعة الشان
والعزة والسلطان ، أن تبدأ بجمع الثروة التي تمكنها من نشر التربية والتعليم في
الأمة ، ومن تنظيم الحكومة وتعزيز الدولة . ويرد عليهم العالم الاجتماعي : إننا لا
ننكر أن المال هو الوسيلة لجميع الأعمال . ولكن جمع المال يتوقف على العدل
والعلم ، لا سيما في البلاد التي دخلها الإفرنج العالمون من طرق الكسب ما لا يعلم
الشرقيون . وقد أخذ بهذا السبب اليهود فكانوا فيه أبرع البشر ، وهم يحاولون منذ
قرون أن يؤسسوا به ملكًا ، ولما يساعدهم القدر . فعلينا أن نبحث عن السبب الأول
للارتقاء فنطلب الأمر في إبانه ، ونأخذه بربانه فإنه :
من طلب الغاية في المبدأ لا ... يؤوب إلا بالقنوط والشقا
ومن يسر سيرًا طبيعيًّا لها ... يدرك بالتوفيق منها المنتهى
يرى العالم الاجتماعي : أنَّ العلة الأولى لارتقاء الأمم هي الجمعيات ، فلا
ترتقي أمة إلا بعد أن تنبه حوادث الزمان أفرادًا من أولي الألباب فيها إلى وجوب
السعي لترقيتها ورفعة شأنها ، وأول ما يجب عليهم هو تأليف ( الجمعيات ) ؛
للتعاون على ما يجب القيام به من الأعمال . فالجمعيات هي السبب الأول والعلة
الأولى لكل ارتقاء ، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوربا وبها صلحت الحكومات
وبها ارتقت علومها وفنونها ، وبها عزت وعظمت قوتها ، وبها فاضت ينابيع
ثروتها ، وبها انتشر دينها في الخافقين ، وبها سادت على المشرقين والمغربين .
أليست الجمعيات السياسية السرية هي التي طهرت أوربا من استبداد الملوك
والبابوات ، وأزالت منها حكومات الأشراف ، واستبدلت بها حكومات الجمهورية ،
والملكية المقيدة بالقوانين ، وسيطرة أهل الشورى من الأمة ؟
أليست الجمعيات الدينية والخيرية هي التي أنشأت المدارس ؛ لتعميم التربية
والتعليم ، وأنشأت الملاجئ والمستشفيات ؛ للمرضى والبائسين ؟
أليست الجمعيات العلمية والفنية هي التي هذبت اللغات ، ووسعت دائرة
العلوم والفنون ، بما خصصت لكل فرع من فروعها رجالاً يصبرون نفوسهم على
التحرير والتمحيص لمسائله وتأييدها بالتجارب وترقيتها بالاكتشافات والاختراعات؟
أليست الجمعيات المالية المعبر عنها بالشركات هي التي أنشأت المعامل
لجميع الصناعات ، ومدت سكك الحديد في جميع الجهات ، وسيرت في البحار تلك
الجواري المنشآت ، وابتدعت البيوت المالية ( البنوك ) ؛ لتيسير المعاملات ؟
بلى ، إنه ما من عمل ارتقى إلا وكانت الجمعيات هي رقَّته ، إن لم تكن هي
التي أوجدته واخترعته ، فالجمعيات هي تظهر منتهى استعداد الإنسان للارتقاء ، بل
هي التي تحقق معنى الإنسانية في هذا النوع ، إذ لا معنى للإنسانية إلا حياة
الاجتماع والتعاون ، فمهما قل الاجتماع في أمة ضعف معنى الإنسانية فيها ، ومهما
كثر الاجتماع واعتز كانت الإنسانية أقوى وأكمل .
سبق الشرق الغرب إلى كل نوع من أنواع الارتقاء المدني . ولكن المدنية لم
تكمل في الشرق ، ولم تبن على قواعد يؤمن سقوطها ، ولذلك سقطت ، وما ذاك إلا
أن قيامها كان بعمل الأفراد لا الجمعيات ، فلولا هذه الجمعيات ، لما كانت مدنية
الغرب الحديثة أرقى وأكمل وأجدر بأن تكون أثبت وأدوم .
وجدت الجمعيات السرية والجهرية في الشرق . ولكن انقصمت عراها ، قبل
أن بلغت مداها ، وجاء الإسلام بالتعاليم الاجتماعية ، فجعل أمر المؤمنين شورى
بينهم أي : تقوم به الجماعة ، لا يستقل به الأفراد ، وأمر بتأليف الجمعيات للأعمال
النافعة بمثل قول الله عز وجل : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } ( آل عمران : 104 ) ، وبمثل قول الرسول صلى
الله عليه وسلم : ( يد الله على الجماعة ) ومع هذا لم يكن حظ المسلمين من الجمعيات
أحسن من حظ سائر أهل المشرق ، بل كان من سوء حظهم أن استحالت الجمعيات
السياسية ، كجمعية الشيعة التي ألفت ؛ لجعل الحكم في أهل البيت عليهم السلام ،
وجمعية الخوارج المعروفة إلى مذاهب دينية ، زادت المسلمين تفريقًا وخذلانًا .
وفسدت جمعية الصوفية الإصلاحية بعد أن ربت كثيرًا من المصلحين ، وصارت
جمعية الباطنية التي أسست لإفساد الدين الإسلامي جمعيات ومذاهب متعددة ، لم يأت
منها إلا الشر والوبال على الشرق فترى أن جمعيات المسلمين السياسية ما أفسدها إلا
اصطباغها بصبغة الدين ، بجعل تعليمها مذهبًا يدعى إليه باسم التقرب إلى الله ، وستر
موضوعها ، وإخفاء مقصدها في ذلك وقد قصَّروا في تأليف الجمعيات الخيرية ،
والعلمية الفنية ، والشركات المالية ، ولولا ذلك لما ماتت مدنيتهم قبل بلوغها سن
الرشد .
والآن نرى الشرق ، قد أنشأ يتعلم من الغرب كيفية تأليف الجمعيات
والشركات ، فنجح أهل يابان في ذلك ورشدوا ، ولا يزال العثمانيون والمصريون
في سن الطفولية من هذه الحياة الاشتراكية الاجتماعية ، التي لا وسيلة لبلوغ هذا
النوع رشده بدونهما .
أسسنا غير مرة جمعيات علمية وأدبية وخيرية وسياسية ، فكانت تسقط
الجمعية منها بعد الخطوة والخطوتين والخطوات القليلة ، وقد نجحت في مصر
الجمعية الخيرية الإسلامية نجاحًا يوثق بدوامه واستمراره ، وهي أفضل ما عمل
المسلمون بمصر في هذا الطور الجديد من الحياة ، وتليها جمعية العروة الوثقى ،
وجمعية المساعي المشكورة الخاصتين بالتعليم . وأسسنا شركات مالية كثيرة للعمل
في الزراعة والتجارة ، حبط عملنا في بعضها ، وثبت بعضها ، والرجاء في
المستقبل عظيم .
ارجع البصر إلى البلاد التي لم تأخذ عن الأوربيين شيئًا من العلم ، ولم
تشترك معهم في شيء من الأعمال ، كبلاد مراكش ، هل ترى فيها جمعية خيرية أو
دينية أو علمية أو سياسية ، أو تشاهد فيها شركة تجارية أو زراعية أو صناعية ؟
تأمل واعرف الخير وينابيعه ، وكيف تستزيد منه . واعلم أن الجمعيات والشركات
هي المعيار الذي يعرف به تقدم الأمم وتأخرها ، وحياتها وموتها ، فلا يغرنك القيل
والقال ، ولا نبوغ بعض الأفراد في بعض العلوم أو الأعمال ، فإن هؤلاء النابغين
إذا لم يجدوا في أمتهم جمعيات تعرف قيمتهم ، وتسعدهم على إبراز ثمرات نبوغهم
يذهب استعدادهم سدى ، ويجزر مدّه قبل أن يبلغ المدى ، وإذا وجدوا ذلك زكا
استعدادهم ، وامتد إمدادهم ، وكانوا كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ،
كما أنهم يؤتون أجرهم مرتين .
__________​
(10/340
 
جمادى أول - 1325هـ
يوليو - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
كلام فريد أفندي وجدي
في الدين و فلسفة التشريع

كتب محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة منذ أشهر مقالة في بعض
الجرائد اليومية ، قال فيها : إنه سينشئ مدرسة يدرس فيها العلوم العليا ؛ من كونية
واجتماعية وعمرانية ، ومن ذلك جميع العلوم الطبيعية والفلسفية بأنواعها ... إلخ ،
أي : إنه سيقوم وحده بما تريد لجنة ( الجامعة المصرية ) أن تبدأ به ، وترى ما لديها
من مال الاكتتاب وهو عشرات الألوف من الجنيهات ، وما وُقِفَ على الجامعة من
الأطيان لا يزال غير كاف للشروع في هذا القسم العالي . ولكن فريد أفندي وجدي
سخي بالوعود ، وقد تبرع له سيد أفندي محمد صاحب المدرسة التحضيرية بحجرة
من مدرسته وفَّى بها وعده ، فهذه الحجرة هي مدرسة العلوم العليا .
وقد شرع فريد أفندي في إلقاء الدروس فيها ، ونشر الدرس الأول من علم فلسفة
التشريع في جريدة المؤيد ثم في مجلته ، فتذكرنا بقراءته تلك المقالات التي كان
ينشرها في المؤيد عن الإسلام ؛ إذ جاء فيه بمثل ما جاء فيها من أمور تعزى إلى
الإسلام وهو لا يعرفها ، وفلسفة فيه لا يرضاها . وكان خطر لنا أن ننتقد تلك
المقالات ؛ قيامًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولكن عرض لنا أمور ثنت عزمنا عن ذلك منها الرغبة عن انتقاد فريد أفندي
لذاته ، ولأنه صاحب مجلة ، ولا نحب أن يكون بين أصحاب المجلات مثل ما بين
أصحاب الجرائد من المناقشات التي لا يؤمن أن تصير من قبيل المراء والمشاغبة ،
تركنا الرد على ما جاء في تلك المقالات من مخالفة أصول الدين ، والنفس تحاسبنا
على ما فرطنا ، وتعتذر عن تفريطها بأن تَتَبُّعَ خطأ الناس والرد عليه غايةٌ لا تُدْرَك ،
ولا يستطيع القيام بها واحد وهو من فروض الكفايات . ولكنها ليست مطمئنة بأن هذا
العذر يرضي الله - تعالى- مع ما ترى من سكوت العلماء في هذا العصر عن إنكار
المنكر ، ثم عرض لنا مثل هذا عندما قرأنا درس فلسفة التشريع ، وإن كان الخطأ فيه
دون الخطأ في تلك ، ثم جزمنا بأن الانتقاد واجب علينا ، فبادرنا إلى كتابة هذا النقد
فعسى أن ينظر فيه رصيفنا فريد أفندي بعين الإنصاف .
في هذا الدرس أو المقالة كثير من الأمور المنتقدة ، وأهمها عندنا ما قاله في
التشريع ، وكون الوحي هو أصل الشريعة عند المسلمين. وقبل البحث فيها نقول كلمة
لا بد منها في انتقاد عبارة فريد أفندي وهي : إن القارئ لها لا يكاد يفهم منها معنى
محررًا يجزم بأنه هو مذهب الكاتب ومراده ، بل يجد فيها من التعارض
والإبهام والعسلطة ما لا يجزم معه بالمعنى المراد . ومثل هذا مما يتعسر
نقده . ويسهل الجدل والمراء فيه . ولم أذكر هذا إلا لأن الضرورة قضت بذكره كما
ستعلم .
بدأ المدرس المقال بقوله : ( لم يعتن المسلمون في الصدر الأول بشيء بعد
تقرير الأصول الدينية بقدر ما اعتنوا بالأمور التشريعية ) وفيه أن المسلمين لم يكن
عندهم شيء يعبر عنه بالأمور التشريعية غير ما شرعه الله لهم من الدين على لسان
رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الجاثية : 18 ) .
وفريد أفندي جعل المسلمين شارعين ، ولذلك قال بعد ما تقدم : ( ثم لما اتسع
نطاق العمران ، واستدعت الأحوال تدوين شريعة شاملة لجميع الأصول والفروع
اقتضت الحاجة أن ينبغ المشرعون الأولون من المسلمين كالأوزاعي والشعبي وسعيد
ابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ) ... إلخ ، ثم قال : ( فاختلف
المشرعون الأولون ) . وقال : فظلوا يشتغلون بأمر التشريع والتقنين . وقال :
فاستحال أمر المتشرعين ، والصواب أن هؤلاء لم يكونوا إلا رواة للحديث
ومستنبطين منه ومن الكتاب ، أي : مبينين ما يفهمونه منهما للناس ، وناقل الشريعة
ومفسرها لا يسمى شارعًا ، ( ولا مشرعًا كما تقول الجرائد الآن ) ، وإنما الشارع
والمشترع ( أو المشرع ) هو واضع الشريعة .
ويطلق الشارع في كتب المسلمين على الله - تعالى - لأنه واضع الشرع ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مبينه عن الله - تعالى - ولم يعرف إلا
منه . نعم يصح استعمال هذه الألفاظ في غير هذه المعاني لغة لا سيما لفظ
التشريع فإنه يستعمل عند علماء الفنون العربية اسمًا لنوع من محسنات البديع .
ولكن الموضوع ليس لغويًّا ، وإنما الكلام في الشرع الإسلامي ، فينبغي فيه اتباع
اصطلاح أهله المأخوذ من القرآن إلا أن يخرج المتكلم عن صراطهم ، ويجعل
الشرع من وضع البشر .
قال فريد أفندي في الأئمة الذين تقدم ذكرهم : فظلوا يشتغلون بأمر التشريع
والتقنين ، ويعقدون لذلك الدروس الحافلة حتى جاء القرن الثالث ، وكان قد طرأ
ضعف في أمر الحكومة انتقلت به إلى شكل حكومة مطلقة مستبدة بعد أن كانت
شورية دستورية . فاستحال أمر المتشرعين الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين ، وبطل الاجتهاد ؛ لعدم نبوغ العلماء الضليعين ، وأصبح رجال العلم تبعًا لرجال السياسة في الأهواء والميول ، فتوالى الضعف على هيئتهم شيئًا فشيئًا ، حتى تولاهم العجز بأخص معانيه ، فاصطلحوا على عدد من الكتب يقرؤونها ، ويتفهمون
عباراتها بدون نقد ولا محاكمة ، وصار هذا معنى الدين والتمسك بالسنة في نظرهم.
أقول : يفهم من قوله السابق ( ثم لما اتسع نطاق العمران ) ... إلخ ، وقوله هذا
أن تدوين الشريعة - أو التشريع على رأيه - قد كمل في وقت اتساع العمران قبل
تحول الحكومة من الشورى إلى الاستبداد . ونحن نعلم أنه لم يدرك حكومة الشورى
من أولئك الفقهاء أوالمشرعين على رأيه إلا سعيد بن المسيب ؛ لأنه تابعي ولد في
خلافة عمر وهو لم يدون شيئًا ، والباقون كانوا في زمن بني أمية وبني العباس
وحكوماتهما استبدادية بلا نزاع على أن العمران كان في زمنهما أكثر نموًّا .
ثم إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر ، بل ولا القرن الرابع ولا القرن
الخامس ، فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون ، وإن كان الفضل للمتقدم ، ولعلنا
نبين ذلك إن مارانا فيه ممارٍ .
ثم قال فريد أفندي : ( نحن في هذا الدرس سنعمل على فهم ما هي الشريعة
في الاصطلاح الاجتماعي ، وكيف تكونت الشرائع في مدى التاريخ ؟ وكيف ترقت
أصولها حتى وصلت إلى أرقى ما وصلت إليه اليوم ؟ وكيف تكونت الشريعة
الإسلامية القرآنية ؟ وما مكانها من بين سائر الشرائع ؟ وما معنى كونها خاتمة
الشرائع ؟ وماذا هو الاجتهاد ؟ وكيف حصل الاستنباط ؟ إلخ ، ولنا في كل مبحث
من هذه المباحث كلام في فلسفة الموضوع الذي نتكلم عليه ، وآخر ما انتهى الرأي
إليه ، وتطبيق ذلك على روح القرآن ، وإظهار إعجاز الشريعة الإسلامية من هذه
الوجهات بأصرح بيان ) اهـ .
ونقول : هذه بضعة وعود منصوصة ، وأشار برمز ( إلخ ) إلى وعود
أخرى وبنى على الوعود وعودًا ولم يفِ بما وعد ؛ إذ لم يكن باقي الدرس إلا كلامًا في العدل يتلوه كلام في معنى كون أصل الشرائع من الوحي ، وإيراد
اعتراضين على ذلك غير واردين ، والجواب عنهما بما لا يدفعهما . وكلام في
بناء القوانين على الأخلاق ، وقد ذكرتنا هذه الوعود بقول الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - في كتابة فريد أفندي : إنها ( مقدمات ووعود ) .
عرف العدل بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام وهذا غير صحيح ؛ لأن
الأحكام التي وصل إليها الناس بعقولهم : منها ما هو عادل ، ومنها ما هو جائر .
والحاكمون بها منهم العادل ومنهم الظالم ، فالعدل أمر آخر لا محل للكلام فيه هنا
ولم نذكره ؛ لأنه مقصود بالذات . وإنما ذكرنا لأنه جاء عقبه بما يأتي :
( هنا يلزمنا أن ننبه إلى موضوع خطير ، وهو أن متشرعي أوربا عامة
يعيبون علماءنا في اعتقادهم بأن أصل الشرائع الوحي ، ولهم في ذلك علينا مطاعن
في غاية الصرامة . ونحن هنا لا مناص لنا من حل هذه الشبهة ، فنقول : القرآن
الكريم توسع في معنى الوحي فلم يقصره على النبيين ، بل أطلقه على أدنى درجات
الانسياق الطبيعي الحيواني ، فقال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ( النحل : 68 ) وإذا صح إطلاق
الوحي على هذا الانسياق الفطري الحيواني صح من باب أولى إطلاقه على نتائج
العقل الإنساني ؛ لأن الله خالق كل شيء والباعث على كل شيء ، فيكون لا
تنافي بين قول متشرعي أوربا : إنّ الشرائع أصلها العقل . وبين قول علماء الإسلام :
إنّ أصلها الوحي . إذا لم يقبل العلماء هذا الحل الموافق للكتاب والعلم ، فقد
تعرضوا لِشُبَهٍ لا مخلص لهم منها وهي :
( أولاً ) لو كان أصل الشرائع الوحي بمعناه السامي ؛ لنزلت الشرائع الأولى
حاصلة على العدالة بمعناها الخاص ، والمشاهد بين حوادث التاريخ أن الشرائع
بدأت مناسبة لعقل الإنسان وسذاجته ونقص أخلاقه . والله يتنزه عن ذلك .
( ثانيًا ) في الأرض أمم كثيرة في أدنى درجات التوحش ، ولديها شرائع
على حسب مداركها مطابقة في أصولها الأولية لشرائع الجمعيات البشرية الأولى ،
فلماذا نحكم بأن شرائع المتوحشين العصريين هي من تلقاء أنفسهم ، وتلك الشرائع
هي من الوحي ، مع تشابهها في النقص والسذاجة ؟ ) اهـ .
افتجر فريد أفندي لعلمائنا قولاً لم يقولوه ولا قاله أهل مذهب منهم ، وأورد
عليه مطاعن عزاها إلى الأوربيين ؛ ليدافع بكشف شبهتها عن الإسلام والمسلمين ،
فكان دفاعه - لو صح ما يسبق إلى الأذهان منه - من قبيل تلك المطاعن أو أشد منها.
الظاهر من عبارة فريد أفندي الذي يفهمه منها القارئ ؛ هو أن الوحي أصل
كل شريعة وجدت في البشر ، فكانت قانونًا يحكم بها الناس فيما يختلفون فيه ، فعلى
هذا يكون مما يعتقد المسلمون أن الأحكام التي كانت عليها العرب في الجاهلية
وكذا غير العرب من الوثنيين - كلها مبنية على أصل الوحي الإلهي ، وإنه لقول
ينقضه الإسلام بكتابه وسنته ومذاهب أئمته نقضًا ، وإنما يقول المسلمون كافة : إن
الشرائع التي جاء بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - هي من وحي الله -
تعالى- لا من مخترعات عقولهم ، كما قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ } ( البقرة : 213 ) .
فإذا كان فريد أفندي يريد من عبارته ما يدل عليه ظاهرها وهو أن المسلمين
يقولون : إن أصول جميع الشرائع كان بوحي من الله ، حتى شرائع الوثنيين
المنحطين في الوثنية ، أو الذين ارتقوا فيها كقدماء المصريين والكلدانيين
والرومانيين ، ثم يقول : إن علماء أوروبا يوجِّهون إلينا تلك المطاعن ؛ لأجل ذلك .
فقد أعلمناه أن هذا باطل ، ونزيد على ذلك أن الأوربيين لا ينسبون إلينا هذا الاعتقاد ،
ولا يطعنون علينا به . ولو طعنوا لما دفع قوله طعنهم ؛ لأن الوحي لا يصح إطلاقه
على نتائج العقول وما تولده الأفكار ، وإن صح إطلاقه على الإلهام الفطري .
وإن أراد بأصل الشرائع ما يعتقد المسلمون أن النبيين المرسلين جاءوا به عن
الله - تعالى - ودعوا الناس إليه على أنه وحي من الله ، لا من عند أنفسهم ، فقد
صدق في حكاية اعتقادنا ، وأن علماء أوربا يطعنون علينا بهذا الاعتقاد ، بل لا
يطعنون علينا إلا باعتقادنا أن أصل شريعتنا نفسها وحي من الله دون شريعة اليهود
مثلاً ، وحينئذ يكون دفعه لهذه المطاعن بما فسر به الوحي هو عين الهدم لأصل
الإسلام ، والتكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأن ما نطق به القرآن ، وانعقد
عليه الإجماع ، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء بهذه الشريعة من عنده ،
وليست من نتائج عقله وفكره ، وإنما يقول بهذا من ينكرون الأديان ، ويدعون أن
الأنبياء فلاسفة أخلاق وآداب واجتماع ، أسندوا فلسفتهم إلى الوحي الإلهي ؛ ليقبلها
الناس ، ولهذا رجحنا أن الاحتمال الأول هو مراد فريد أفندي ، وعليه يكون مخطئًا
في عزوه إلى المسلمين ما لا يعتقدون ، وإلى الإفرنج ما لا يقولون ( لأن ما بني على
الفاسد فاسد ) ، وقصَّر في سكوته عن بيان شبهتهم على شريعتنا ، وعن دفع هذه
الشبهة ، ومما يؤيد الترجيح تصريحه : بأن للوحي معنى خاصًّا غير ما فسر به أصل
الشرائع ، وقد عبر عن هذه الشرائع بالناقصة . وإنما ذكرنا الاحتمال الثاني لما
علمت . ولكن انظر ما يأتي :
قال فريد أفندي : ( فإن قال قائل : قد ثبت شرعًا أن أول البشر آدم - عليه
السلام - وهو نبي بالإجماع ، وقد ذكر الله أنه أوحى إليه وعلمه ، فيكون أصل الشرائع الوحي بالمعنى الخاص . نقول : إن صح إيحاء الله لآدم كان بالمعنى
الخاص ، ولم يكن بمعنى الإلهام والنفث في الروع من طريق مقتضيات الفطرة
الإنسانية ، فإن الله لم يذكر أنه أوحي إليه شريعة ، بل لم يكن الحال يقتضي ذلك في
ذلك العهد ؛ لقلة الناس وقربهم من حالة الفطرة ) ... إلخ .
ونقول : إنه بعد أن ذكر أن آدم كان نبيًّا بالإجماع ، ما كان له أن يرتاب في
كون وحي الله له - وقد اعترف بأنه ثابت من الوحي الخاص ، لا من قبيل الوحي
إلى النحل ، فهذه سقطة كبيرة . وقوله : إن الحال في عهده لم تكن تقتضي شرعًا لما
ذكره ظاهر البطلان ؛ فإن القليلين يتنازعون ويتخاصمون كالكثيرين ،
فيحتاجون إلى من يحكم بينهم بالحق والعدل ، وقد ثبت أن أحد أبناء آدم قتل أخاه ،
ولم يمنعه القرب من الفطرة عن ذلك ، فماذا نقول فيما دون القتل من أنواع الخصام ؟
ثم ما يدرينا أن آدم عاش عمرًا طويلاً كثر الناس فيه ، فإن طبيعة الأرض كانت في
عهده غير طبيعتها الآن فيما يظهر ، بل ثبت بالوحي أن نوحًا عاش نحو ألف سنة ؛
لأن طبيعة الأرض قبل الطوفان كانت غيرها بعده وأمزجة الناس كانت قابلة لذلك
على ما هو المرجح عندنا ، والله أعلم بالصواب .
ثم ختم فريد أفندي درسه بأربع مسائل ، قال : إنه يمكن جعلها نتائج له وهي:
( 1 ) أن العدالة في الأمة تكون مناسبة لعادتها وأخلاقها .
و( 2 ) أن الأمم تتكون على النظام الذي تدرك به نفسها .
و( 3 ) أن كل ترق أخلاقي يتبعه ترق تشريعي .
و( 4 ) أن الشريعة لا تصل إلى أوج كمالها في أمة إلا إذا كانت المساواة بين
الأفراد بالغة حدها الأقصى ؛ أي : إذا ترقت فيها الأخلاق لدرجة أن الرجل منها
يعتبر غيره نظيره ، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يتخلص فيها العقل من أوهامه
الاجتماعية ، فيواجه الطبيعة الحقة للحوادث ، ويترك لها زمامه لتقوده إلى العدالة
المحضة .
( قال ) : ( من هنا يرى الرائي كيف أن كل انقلاب حدث في أخلاق أمة
يتأدى بطبعه إلى انقلاب في شريعتها ، ويدرك تبعًا لهذا فساد الأحكام ، وبُعدها عن
العدالة في بعض الأمم المتدينة التي تُقرر مبدأ التمايز في أفراد الجمعية ، فَتَهَب
لبعضهم حقوقًا تسلبها عن الآخرين باعتبارات دينية ) .
( هنا نستلفت نظر القارئ إلى أمر خطير يدل في إجماله على أن الشريعة
الإسلامية هي أعدل الشرائع ، وأرقاها بحكم أكبر أصل من أصول فلسفة التشريع ،
وذلك أن هذه الفلسفة تقرر بأن الشريعة لا تصل إلى أوج الكمال إلا إذا كانت
المساواة تامة بين الأفراد . وهذه الشريعة الإسلامية مبناها { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ( الحجرات : 10 ) ، فلم تقرر في أصولها أدنى امتياز لأي طائفة ، فتكون بهذا
الدليل الإجمالي أعدل الشرائع . وسنرى في التفصيل العجب العُجَاب ) اهـ كلام
فريد أفندي .
أقول : لو أحفى المنتقد لهذه الجملة ، لأمكنه أن يكتب في انتقادها عدة أوراق ،
ونكتفي بذكر المهم عندنا من ذلك ، وهو ما يتعلق بالشريعة الإسلامية .
إنه جعل كمال الشريعة تابعًا لكمال الناس في أنفسهم ، ولما نزلت الشريعة
الإسلامية لم يكن الناس الذين أنزلت لأجل الحكم بها بينهم أولا في ذلك الأوج من
الارتقاء ، فكيف بنى تفضيلها على هذا الأصل ؟
ثم من هي الأمة المتدينة التي وصفها بفساد الأحكام وبُعدها عن العدالة ؛
لتقريرها مبدأ التمايز بين الأفراد بالدين ؟ اليهود ليس لهم حكومة . والنصارى
جعلوا أحكامهم مبنية على العقل ، وشهد هو للأوربيين منهم بالارتقاء العظيم . فهل
يعني بعض الوثنيين ؟ ولم لم يشر إلى ذلك ؟ وماذا يقول في مثل جعل الخلافة في
قريش ، وفي أحكام شهادة غير المسلم على المسلم في الشريعة الإسلامية ؟
وهل الشريعة الإسلامية خاصة عنده بالمؤمنين بها ، أم يحكم بها بين غير
المؤمنين بها ؟ وإذا قال بالثاني ، فهل أخوة المؤمنين لبعضهم البعض تقتضي
مساواتهم لغيرهم ممن يحكم بها أم لا ؟ فإن اعترف بأنها لا تقتضي ذلك فيكف يتم
قوله ؟
إن رأيه في ارتقاء الشريعة ووصولها إلى أوج الكمال إنما يصح في
القوانين الوضعية التي ترتقي بارتقاء الواضعين لها في أممهم وفي أنفسهم . وأما
الشريعة الإسلامية فإنها قواعد وأحكام أنزلها الله كاملة ؛ لأجل أن يكون ارتقاء
الناس تابعًا لها ، فكان كمال المؤمنين باتباعهم لها ، ولم يكن كمالها هي تابعًا لكمالهم.
هذا ما رأينا أن ننبه عليه ، ونختم الكلام ببيان أن سبب هذا الخطأ وأمثاله
فيما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي من المباحث الإسلامية ؛ هو عدم تلقيه علوم
الدين عن أحد من العارفين به ، فعسى أن يحمله ما يرى من انتقاد كلامه في الدين
على مدارسة المهم من علومه ، والله الموفق .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(10/375
 
ربيع أول - 1325هـ
مايو - 1907م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

منافع الأوربيين و مضارهم في الشرق
[*]

( 1 )
سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة
بهم ؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار ، وبركان الأخطار ، لولاها لما
جاس الأوروبيون خلال هذه الديار ، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار ،
وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة ؛ إذ لولاها لكان
أهل الهند و الأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم ، وجفوتهم للمدنية وفنونها
التي وصلت إليها في هذا العصر ، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا
يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها ؛ على الطريقة التي كانت
متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا . ناهيك باليابان وما صارت إليه،
وبالصين وما تشرف عليه .
يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع ، العارف حقيقة حال الهند
والأفغان ومراكش ومصر ، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر ، وأن
يستفتي أمثاله : أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة
التيمورية ، بالمعارف والصنائع الوطنية ، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم ،
وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة ، بجهالتها ، وغباوتها ،
وعصيانها لكل نظام ؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن
المدنية الأوروبية ، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين ؟
ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند . ألم تأخذ مصر بأسباب
المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها ؟ ألم تدخل في أول
ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح ، خابت به آمال طلاب الزواج
من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب ؟ كل هذا يقال في الاستفتاء ،
ويقال أكثر منه ، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال : بلى . وهي كلمة يكتفي بمثلها
مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة ( أولور ) في مقام الإيجاب ، وبكلمة
( أولماز ) في مقام السلب ، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما
جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة ، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله ،
وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال ، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين
ومضارهم في الشرق ؟
هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير ، والجماهير في
الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها ، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين
عنها من يحيط بأطراف مسائلها ، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها ، ولولا أن
هؤلاء العارفين قليلون فينا ، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ
التأخر والانحطاط . وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم ، وإنهم لأعلم
من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون ، وبأنه لا يوزن به شيء .
ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء ، لا يمنعهم من ذلك أن يكون
في إحدى كفتي الميزان ؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى . على هذه الطريقة
القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق ، بعد تمهيد مقدمات
تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي :
(1) إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في
سعادتها ، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة ، وأمور المعاش
والكسب ولا سيما ترقية الزراعة ، وتأسيس الشركات المالية ، ويدخل فيها العلم
والتربية ، والآداب ، وأمور الاجتماع ، وتدبير المنزل ، والعلم بالإدارة ، والسياسية ،
وأصول النظام ، وغير ذلك ، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى .
(2) إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا ،
وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه ، في أفرادها ، وبيوتها
وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة ، أو من جهة النفس
كالعلوم والأخلاق والآداب ، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية
والجهة الأدبية ، ويدخل في الجهة الأدبية الدين .
( 3 ) إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ ، لا الحاكمون منهم خاصة .
( 4 ) إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية ، أي إننا
ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله ، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه
من الكمال ، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها ، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو
خاصتنا أن نكون عليه .
( 5 ) إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا ، وإنما هو
خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد ، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على
ضده .
( 6 ) إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها ، والتنبيه إلى الاستزادة منها
ومن بيان المضار ، تقبيحها والتنفير عنها ، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد
هذه الحقيقة في ألواح الصحف ، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية ، محفوظة من
نزغات الأهواء السياسية ؛ لأن مدونها يحبها لذاتها ، ولا يخاف في تقريرها لومة
لائم ، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون،
وفيما يتركون .
( 7 ) إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه ، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق
حق المعرفة ، خبيرًا بأخلاق الناس فيه ، وعاداتهم ، وطبائع الأمم ، وأحوال
الاجتماع ، وشئون السياسة ، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم
الاجتماعي النحرير ، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه ، وحال
من يعيش معهم ، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها ، وإن
كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما ، وقتله فقهًا وفهما .
من مسائل علم الاجتماع ، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها
ويجاورها ما يناسب استعدادها . فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب ، وأولي قوة وبأس،
اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري ؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح.
والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة ، كان أول شيء استفادوه من
الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك ، فقد كان معظم تجارة
سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب ، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من
الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها . والمصريون وهم أهل حرث وزرع ، قد
استفادوا منهم في ترقية زراعتهم ؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق . وكذلك
يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد ، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية
فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية .

( 2 )
نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم
وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم ، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه
الأهم ، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول :
الفائدة الأولى
استقلال الفكر
رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً ، وكنت تلميذًا في فرقته ، ورأيته
يغمطها ، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها . فقلت له : إنني لا أدعي
مثل هذه الدعوى ، فإن كنت واثقًا ، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو
سياسي ، مما تبحث في مثله الجرائد . قال : اقترح . قلت : اكتب لي مقالة في
الاستقلال ، فسكت ولم يرجع إلي قولا ، ولا كتب شيئا .
عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر ، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني
ساعات ، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة . ولكن كانت أول ما سبق من الذهن
إلى القلم عند الكتابة ، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة ؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى
جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم ؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما
يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته .
يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب ، وقلما تذكر شيئًا في استقلال
الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة ؛ التي تسمى أممًا وشعوبا .
استقلال الآحاد نوعان : استقلال الفكر ، واستقلال الإرادة . وهذان النوعان
هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل ، ويكون حظه من
النجاح على قدر حظه من قوتهما ، وحسن استعمالهما .
استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده ، فإن العقل
القاصر ؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه ، كما نرى من الأطفال ،
ومن هم في حكم الأطفال من الرجال . فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في
البحث عن الحق والصواب في معارفه ، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو
مصالح أمته عندما يبحث فيها ، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله ، إلا إذا
ظهر له أنه الحق والصواب .
إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال ، لا يعد عالمًا ولا
سياسيا ، بل لا يعد عاقلا ؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد ، أو
في البيوت والمحافل ، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل
العقلي ، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء ، إلا إذا
أريد بالعاقل من ليس مجنونا ؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب
فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له ،
وإنما يتابع كل واحد على رأيه ؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له ، لسبب
من أسباب التهم .
استقلال الفكر طبيعي في البشر ، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم . فأما
التقليد فهو طبيعي في الراشدين ، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل ، ولسار
جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم ، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم
وعملهم { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون } ( الزمر : 9 ) لو ترك
الناس وفطرتهم ، لأعطوا طور القصور حقه ، وطور الرشد حقه . ولكن معظم
الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم ، مستدلين على آرائهم ، ولكانت
أعمالهم على حسب أفكارهم ؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في
عرف هذا العصر . ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا
ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد . ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى
الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية .
الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد ، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة
من كمال الأفراد ، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم .
التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع
الحكومة ؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم
واحد منهم ، إرادته حكم ، وهواه شريعة وقانون . فاستقلال الأفكار حرب لحكم
الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً ، والعاقبة للمستقلين .
الشرق أعرق في التقليد من الغرب ، فهو أعرق في الاستبداد أيضا . وقد ظهر
الإسلام في الشرق ؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد ، ويئط من وزر الاستبداد
الثقيل ، فكسر القيود ، ووضع الأوزار . ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل
من نصف قرن . فكان كلما قوي يقوى التقليد ، ويضعف الاستقلال حتى زال من
مجموع الأمة ، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء ، لا وليّ لهم ، ولا نصير .
قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق . وحلكت
ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها . ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من
علوم عرب الأندلس وغيرهم ، فوجد فيها من عرف قيمته ، وأنضى في استعماله
عزيمته ، حتى صار ضياء ساطعا ، ونورًا في تلك الآفاق لامعا ، وجاءت ساعة
المشرق بطلوع الشمس من المغرب .
جاهدت أوربا أفضل الجهاد في سبيل استقلال الفكر والإرادة ، حتى ظفرت
بأعدائها من رجال الدين ، والملوك المستبدين ، وجعلت كلمة الدليل هي العليا ،
وكلمة التقليد هي السفلى ، فجمعت بين عزة البداوة ، ومحاسن الحضارة ، فارتقت
فيها العلوم والأعمال ، إلى درجة لم تعهد في جيل من الأجيال ، من حيث رجع
الشرق القهقرى ( وغدًا يقدمه الزمان إلى ورا ) .
ما كان العلم ليدع الجهل على ما هو عليه ؛ حتى يحكم فيه حكمه ، ويوقع على
أهله عدله أو ظلمه ، اندفعت أوروبا إلى الشرق مستعمرة للأرض ، أو داعية إلى
الدين ، أو طالبة للكسب ، فامتزج أهلها بأهله ، ووصلوا حبلها بحبله ، بما أنشأوا
من المدارس ، وما تقلدوا من الأعمال والوظائف ، فطفق أهل الشرق يتعلمون على
الطريقة الأوروبية طريقة البحث والاستدلال ، والاستنباط والاستنتاج وأنشأوا
يستنشقون نسيم الاستقلال ، ويتوجهون إلى طلب الكمال .
فهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوروبيين ، ينبغي أن نشكرها لهم ، ونحمد
لأجلها معرفتهم . وليس للمسلم أن ينكر ذلك ؛ محتجًا بأن القرآن الحكيم قد أرشد إلى
هدم التقليد ، وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال ، فإن هذا وإن كان حقًّا
يعترف به المنصف من علماء أوروبا ، لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق
عامة ، وللمسلمين خاصة ، ودليلنا على هذا ، أن رجال الدين منا لا يزالون في
الأكثرأسرى التقليد ، وأعداء الاستقلال ، فيجب أن ننصف أنفسنا ، ونشكر لمن نبهنا
إلى مصلحتنا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) كتبنا هذه المقالة (للجريدة) ونشرت فيها .
 
المحرم - 1326هـ
مارس - 1908م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
القرآن و نجاح دعوة النبي عليه الصلاة و السلام
آراء علماء أوربا في ذلك

ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة
يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في
الكذب والبهتان ، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على
المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف ,
فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين ، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت
مجهولة , وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة . ومن هؤلاء المؤلفين :
البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية
وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه .
وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا , وأكرم مثواه ,
وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا . وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ
جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة :
( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه . ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن , وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية ) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس .
وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام ، وسيرة النبي عليه
الصلاة والسلام ؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بما قام به
بحنكته وسياسته ، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته ، ولولا هذا لما كان لهم
مندوحة عن الدخول في الإسلام ، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين
بالإسلام من علماء المشرق . فدعوى أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم كان
بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام .
ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات
الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين . حمله
عليها قراءة المنار , وهي :
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار :
أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا , وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم ، ونحن وإن كنا في الاعتقاد ( الدين أو المبدأ الديني ) على طرفي نقيض ,
فالجامع بيننا : العقل الواسع , والإخلاص في القول , وذلك أوثق بيننا لعرى المودة .
... ... ... ... ... ... ... من صديقك الدكتور شميل
الحق أولى أن يقال
دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات [1]
إني وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات
نعم المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدَّها ... بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت
( المنار )
كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره ، ثم
بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس , ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور
بنشر ما كتبه فأذن , وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي
صلى الله عليه وسلم , وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره ؛ لأنه
لا يفهمه كالدكتور شميل .
ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا ، ونسأل الله
أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول : إنه اعترف بنبوته ولا بحقية
كون كتابه إلهيًّا . وننكر عليه أشد الإنكار قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم من
حيث كونه رجلاً أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير
الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته . بل يعنون أنه
نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها , ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله
كايتاني حق ، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب
والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق , واستلزم ذلك كون المسلمين
على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم ؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول ! !
نبهت ( الجريدة ) المؤيد إلى هذه الهفوة , وقالت : إن ما ترجمه عن التيمس
من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره .
فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلاً عن عدده الذي صدر في 3 المحرم ,
والعنوان منا فقط :
رأي المؤيد في القرآن
أمّا نحن , فنقول للجريدة : إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس ,
ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها , وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي
تعتقدها كفرًا , ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة .
إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر , وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم , واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له .
والله تعالى يقول في كتابه الكريم : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) ,
فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا
للقرآن الكريم , وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق
العالية التي اشتهرت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل القرآن نفسه يقول : { وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) فجعل مناط قوة
ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة
أخلاقه من العيوب المنفرة .
فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن , ولا حمية دينية . وهذا كلام يقوله كل
مسلم يعقل ، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني .
( وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه , وأيهما أفضل ؛
لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا , بل
هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل ( الجريدة ) لا يذوق محررها طعمًا لكلام
مؤلف , ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ ) .
أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم حتى الآن ؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول : إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها
الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم , وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند
الله , وهي معجزة من معجزاته ؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال : إن قوة هذه
المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من كل معجزة دينية أخرى .
إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة
إلهية , جمعت بين مصالح الدين والدنيا , ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية
الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان , فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن
يقال : إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة
سلطانه .
هذا ما أردنا بيانه , ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى
غلط ) . اهـ كلام المؤيد .
( المنار )
إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء
المعتاد في المناقشات السياسية , فحرف كلام كايتاني عن موضعه , وجعله من باب
الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن , وإنما كلام
كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ كله بسياسته
وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله ، كما قال فيه الدكتور شميل :
إِنه رب السياسة والدهاء .
وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها ، بأن يقول للجريدة : إنه
سكت عليها ؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك , مع العلم
بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني . ولكنه لم يوفق لذلك ؛
فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة :
رد شبهة المؤيد على القرآن[2]
يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا
من الأوربيين أو غيرهم : إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما
ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون
عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك و نابليون الأول . وإن ما ادعاه من النبوة ,
وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما , وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما ؛
لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } ( الكهف : 5 ) .
ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر لا يمتاز
على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ } ( الكهف : 110 ) الآية . وقوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم } ( يوسف : 109 ) .
ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم
يعمل عملاً اجتماعيًّا ولا سياسيًّا , وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي
اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه , فكان روحًا أحياه به حياة جديدة ، وأحيا به
من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ( الشورى : 52 ) , فالله تعالى هو الذي
هدى المؤمنين بكتابه , ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هداهم بصفاته
البشرية وكفاءته الشخصية ؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ( القصص : 56 ) , وقوله : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ( الأنفال : 63 ) .
بل يعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتقي في أفكاره
وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالاً به ؛ ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه : ( كان خلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم القرآن ) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما .
ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر , فكان يستشيرهم ,
ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد , وكانوا يسألونه إذا
أشار بأمر : هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي ؛ ليذكروا ما
عندهم , فإذا قال : هو الرأي . ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر . وقد ترك صلى
الله عليه وسلم رأيه إلى رأيهم .
فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول صلى الله عليه
وسلم وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما
أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا ، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد
على ذلك من الآيات والأحاديث ، ووقائع السيرة النبوية ، وتاريخ الراشدين , ولكن ما
جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم .
هذا هو اعتقادنا نحن السلمين , وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من
ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم , ويزعمون أن الإسلام وما فيه من
المزايا ، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وحنكته
كما يعهد من الرجال العظام عادة .
وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس
كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام ,
وهي : ( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية
النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه . ويؤيد قوله
بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر
من إفادة القرآن وأي حمية دينية ) .
نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على
فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر . فبماذا أجاب المؤيد على هذا
الإنكار ؟
أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة ( التي تنيط نجاح عمل النبي صلى الله عليه
وسلم بالحنكة والسياسة لا بالنبوة ) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب . قال
في العدد الذي صدر أمس ( يوم الأربعاء ثالث المحرم ) ما نصه :
( إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر , وهو الإعجاب بأخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم , واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول
في كتابه الكريم : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) فلم يرد البرنس
كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم ، وماذا
يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت
عن النبي صلى الله عليه وسلم , بل القرآن نفسه يقول : { وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) , فجعل مناط قوة ارتباط
المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه
من العيوب المنفرة , فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية , وهذا
كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني ) .
ونحن نقول له : إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم
صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله . وإنما يقول كل مسلم : إن روح الإسلام هو
القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية - كما قالت عائشة -
وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي : { وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } ( الشورى : 52 ) , ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله
صلى الله عليه وسلم أحد , وَلَمَا فعل شيئًا , ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال , فقد
صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن , فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه
الذين يقولون : إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية ؟
كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت ؛
فنزل قوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } ( آل عمران :
103 ) الآيات , فرجعوا وتابوا وأنابوا ، وحبل الله هو القرآن , ولم يقل : إن
سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم . على أن أخلاقه هي القرآن
فهو أصل كل شيء .
قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة
المسلمين : ( أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم حتى الآن ؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول : إن قوة الإسلام كانت في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله
عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ ) .
ونقول في دفع هذه الشبهة : إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا
عاملين بالقرآن , ففي عهده صلى الله عليه وسلم كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين
وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية ، بل لنبوته وما لها من المزايا ,
وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله :
{ طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى } ( طه : 1-2 ) , ثم كانوا في زمن أبي بكر
وعمر مقربة من ذلك , ثم صاروا يتدلون بترك القرآن . ويعتقد كل مسلم عاقل
عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم
فهم ليسوا حجة على الإسلام ( يا صاحب السعادة ) بل القرآن حجة عليك وعليهم .
فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام
والقرآن والنبوة , وأن تعلن توبتك في جريدتك , وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو
روح الإسلام وبوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم واهتدائه به عمل بعناية الله ما
عمل ، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية
دينية . حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار
وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلاً عن عدد المؤيد الذي
صدر في سادس المحرم وهو :
ماعدا مما بدا
قال اللورد كرومر أمس : ( إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن
العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة
والسذاجة , وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق , ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن
علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر , ومنها ما يتضمن أمرًا أهم
من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل
تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام ) .
وقال البرنس كايتاني اليوم : ( إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي
محنك أكثر منه كنبي موحى إليه ! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته
أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية ) .
فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد , ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها -
مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي - ولم يتسع صدرنا
لما قاله البرنس ، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه
نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد ؟
إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين , وتشنيع
إحدى العبارتين , فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا
توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير ! !
بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره ؛
لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا .
أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم للمزايا
التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولاً ، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته , فهذا لا
يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر . نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي
صلى الله عليه وسلم كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد
في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه , بل نراه قد
صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال : إنه ( نبي موحى إليه ) فهل لا تكون تلك
العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته صلى الله عليه
وسلم ؟ .
وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية { وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ
لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما
قاله البرنس كايتاني . فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي
علم بها القرآن الكريم .
( قال الطبري في تفسير هذه الآية : احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه ,
وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه , وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت
عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك . ولا ( أي ولم يتبع ) ما بعثت به من الرحمة )
فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب
ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به . وقال الألوسي : ( لانفضوا مِن حولك ) أي :
لتفرقوا عنك , ونفروا منك , ولم يسكنوا إليك , وتردوا في مهاوي الرَّدَى , ولم
ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط ) فعدم فظاظته وغلظته
اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر
بعثته .
وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال : ( وكل واحد من
الأمرين ( أي : الفظاظة والغلظة ) لا يليق بمنصب النبوة ؛ لأن المقصود من البعثة
أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق ، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه , وسكون
نفوسهم لديه , وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم
بالبر والشفقة ) , فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه
وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة , فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ صلى الله عليه وسلم , ولم
يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه ؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو
تأييد سلطته الذي أراده البرنس .
فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه
صدورنا كما وسعت كلام اللورد , ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له
وإعلان الثناء عليه , أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء
صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره . اهـ كلام المؤيد .
وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي
صدر في اليوم السابع من المحرم وهي :
جواب المؤيد عن شبهته
(على القرآن )
لا يترك المؤيد شنشنته في الجدال , فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين
وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية , فقد أنكرنا عليه ما كتبه في
قيام الإسلام وثبات سلطته ، وعزوه إياه إلى المسلمين , وقوله : إنه اعتقادهم . وهو
أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو - كما يقول البرنس كايتاني - سياسة النبي صلى الله
عليه وسلم وحنكته ، أي ما أفادته إياه التجارب . أنكرنا عليه هذه الدعوى , وَبَيَّنَا له
بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة , وأنزل عليه من القرآن .
فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام , فلماذا ننكر على
البرنس كايتاني , ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال , فحاصل
جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلاً كان يجب
علينا أن نعيده الآن , وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة
المصريين الذين احتفلوا به .
ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني , وأكثر ما يفهم من
ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في
القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام , وليس هذا بتشنيع عليه ؛ لأنه ليس بمسلم ,
فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين .
وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا ,
وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم ؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير
تحامل ولا تعصب . وقد صرح لورد كرومر بانتقاده , فرأيت كما رأى المؤيد أن
كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ
القرآن والسنة من الطعن . وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو
رجوع عما كتب في تقريره . فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من
اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه ؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع
إلى الحق بعدما تبين له .
وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد
الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه
به , فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا , وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن
ينخدعوا بمثل ما كتب . ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم
يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي .
تلك شنشنته , وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل قوة دينيه كانت له ؛ أي : فوق اصطفاء الله
له بالنبوة وتأييده بالقرآن , وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة ، واحتج بقوله
تعالى : { وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 )
لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في
المؤيد .
أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا : إنه اعتقاد المسلمين . وأيدناه
بالآيات والأحاديث , ومنه أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم العليا وسياسته
المثلى مستمدة من القرآن , فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك ، وعاد ينقل لنا ما قاله
بعض المفسرين في قوله تعالى : { وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) , ولم يذكر الآية بتمامها ؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ
مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاَةَ } ( النساء : 43 ) وسكت عن قوله : { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ( النساء :
43 ) إلخ . هذا نص الآية : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران : 159 ) , فهل تدل هذه
الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له
بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته ؛ أي : تجاربه صلى الله
عليه وسلم كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني ؟ .
ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ } ( آل عمران :
159 ) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه , وأن تأكيد السببية هنا بلفظ ( ما )
يدل على الحصر كما في الكشاف , ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا
سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه . وذلك من آثار النبوة التي هي غير
مكتسبة بالتجارب والسياسة ؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان
رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا . ويدعم ذلك قوله في آخرها : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ } ( آل عمران : 159 ) ولم يقل : توكل على سياستك وتجاربك .
ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى } ( عبس : 1-2 ) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى
- وهو من السابقين الأولين - يسأله أن يعلمه ، فعبس صلى الله عليه وسلم ،
وأعرض عنه ؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء , وكان من اجتهاده صلى الله
عليه وسلم يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولاً لا يلبث أن يتبعهم الناس , فعاتبه
الله على ذلك عتابًا شديدًا , ونهاه عن مثل ما فعل فقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ
الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ } ( عبس : 1-11 ) فعمل صلى الله عليه وسلم بهذا التأديب
والتعليم الإلهي من أول الإسلام , فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان
روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي
يوسف .
أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة ,
وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه , وهو الذي أعز الله به
الإسلام كما ورد . كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا , ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه
( زوجها ) عظم عليه الأمر , فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا , وكانت تقرأ هي
وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم , فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته
إلى الإسلام جذبًا , وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين ؛
وقصته في حمل الدقيق ليلاً إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة .
وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش
يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ
تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } ( فصلت : 26 ) .
فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ
والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية ، وكل سياسة
وحنكة عادية ، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة
والسلام , وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على
من اتبع الهدى .
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين
مسرورين مما كتبناه , وقالوا : إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج
عن كل عالم قادر عليه . وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية
في المدرسة التوفيقية ما يأتي :
حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد
رضا :
السلام عليكم ورحمة الله . أما بعد , فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما
نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد صلى الله عليه وسلم , ومجادلتها عنه ,
وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك , وردكم هو الحق الصراح ، والنور الوضاح ،
والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين ، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام
وأهليه ، والشرع وحامليه ، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي ،
وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد ،
ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية - كما لا
يخفى - لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل ، وتسديدًا لقولكم النبيل ، فأرجو
نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع , والسلام عليكم أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا .
من أخيكم عبد الله الأنصاري .
وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها :
لا هَوَادَةَ في الدِّين
لقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس
كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية , وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي
الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام ، والتساهل الذي قد اتخذه
كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين
عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان ، ولا يروق
في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية ، وعلم من آداب الأديان السماوية ،
إلا إلى مجرد فطنة ودهاء , واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلاً وأنبياء .
ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية , وما
القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن ,
وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية
الغربية ، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع
إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا
التبليغ والتبيين { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } ( طه : 113 ) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن
ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى
على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن ، هادمة لمبنى الإيمان ، إذ يجعل نجاح
الدعوة المحمدية بما كان له صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق البشرية
والحنكة - التي ربما يقولون بَعْدُ : ( إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله
وبعده من العقلاء المجربين ، والساسة المحنكين ) أكثر من كونه نبيًّا مرسلاً ،
وصاحب كتاب منزل .
هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه , وقد خصهم الله وألزمهم
الحجة , وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند
من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم . أمّا الآن وقد مضى على
التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على
لسان المسيو كايتاني ؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون ، أو متنورون متمدنون .
لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر
هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين , وإنما أقول أولاً : لا نصدق أن سعادته لا يصل
ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه ، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له ؛
فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل
ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف ، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف ،
وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في
أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية ،
أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء .
ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية
إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي , والتسامح الماحق لدرك كلمة
تقال فينا , أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب
إليه الأعناق , وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين .
نشأ محمد صلى الله عليه وسلم أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى
بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه ،
والانقطاع عما فيه الناس حينئذ , فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة ،
وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها , وسار بها من أول أمرها
وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من
أوله إلى آخره بين جدال وجلاد ، وبلاء واجتهاد ، والقرآن لا غير مصدره ومورده ،
ومرشده ومعتمده في كل شيء .
ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون
أطوار الرسالة المحمدية , ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ , ويمضون في فهم
كتاب الله ويقدرونه قدره , وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي
بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز , فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر
من كونه صلى الله عليه وسلم على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة .
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } ( الشورى : 52-53 ) .
لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون - فضلاً عن المسيو
كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف - ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن .
وهم في حجور الوثنية ، وأحضان الهمجية ، فانتشلهم ، وطَهَّرَهم ، فكان موقع القرآن
منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ ، والدواء من ذي العِلَّةِ ، وإلا فما كان يفعل محمد
صلى الله عليه وسلم بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى , وآيته
العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ : وإلا
فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ( العنكبوت : 51 ) .
لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان , وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً
قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون : الحمد لله وحده
صدق وعده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده . فقال أبو سفيان لعثمان : صار
لابن أخيك مُلْكٌ عظيم . فقال : مَهْ يا أبا سفيان , إنما ذلك الوحي والرسالة . فكيف
نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى
الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته ؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة
الحق من الباطل . فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض
طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح ، ومدح آلم من تجريح ، وليحفظ
مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم ، فإنه
لا هوادة في الدين .
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله الأنصاري

( المنار )
هذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات
الكريمة والسيرة النبوية ، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة ؛ لأننا
نقصد به تذكير المسلمين ، لا إقامة الحجة على المخالفين ، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد
بعد نشرنا المقالة الثانية , ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه , ولكن كان
يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا
كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة ( وبالعكس ) ولو فعل لَمَا
نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار .
__________
(1) يريد بالغايات معناها اللغوي , وهي المقاصد , يَعْنِي الدينية , ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها ؛ أي : إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة .
(2) كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ , ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن , ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا ، بل نقلت عن الجريدة بحروفها .
(11/9)
 
المحرم - 1326هـ
مارس - 1908م​
الكاتب : علي سيد يوسف

الدين الإسلامي والمدنية

رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام
والعرب . نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في
المنار .
( فهرس )
حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق
محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين
الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم
- قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين
الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من
الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل .

إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء
العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله ، أو استشفاف مساتيره ، بل هي مما
يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة
غير متعصب لفريق دون آخر ؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها , ويعرف
كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها , فيحكم بأنها ليست بالديانة
التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية ،
يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية .
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ
الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري , يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ
على قيد الحياة , وعبادة الأوثان , وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي
بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين , وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في
تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب ، وبلاد العجم في الشرق ,
فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة , وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن
والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من
الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها
من على ظهر الوجود ، وليؤيد السلام العام ، والوئام التام ، وليكون واسطة بين
التمدن الحديث وبين التمدن القديم , فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين , أحدهما : لمحاربة
القياصرة , والثاني : لمحاربة الأكاسرة , ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا
ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف
ثمانية قرون , واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف ,
وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية ، وهي طبقة الامتحان والتجربة ,
وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة .
قال : ( يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب ؛ فإن
فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع ؛ لأن العرب تقدموا في
العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي
طبقة الامتحان والتجربة , وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا
بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن ) .
وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب
بالعلوم الرياضية : ( لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية ، فأتوا
بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا ، وترجموا
من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس و و …
وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها , واشتغلوا قرونًا بدقائق
الهندسة , وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات
الرياضية ، وطبقوا الجبر على الهندسة ، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات
الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه ,
وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار , وألف
الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء , وفي المحل الظاهر
للصورة من المرايا المنحنية , ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر
إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب ) .
وقال أيضًا دروي في تاريخه : بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا
يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من
علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة
المعارف , ومنها انتشرت في الأمم , واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة
مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة .
وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية
على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية . هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين
تمسكوا به , وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية
ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء : ( نحن مَعَاشِرَ
المحققين من الفلاسفة نقول : إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام
الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي
حقيقة أسباب نصرة الإسلام ) .
وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة ( الكوارترلي رفيو ) في
مقالة عنوانها : ( الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية ) : لما كان
الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه ,
فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس , له ما لهم وعليه ما
عليهم , وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية , ثم
استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى ( محمد والديانة
المحمدية ) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام .
يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية -
مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة
الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج , ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن
المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية -
كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد ، وأبرق وأرعد : ( إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة
المقام , وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام , وتأسفت على عدم
كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري ، وحجبه عن التأمل في حقائق
الأشياء ) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة , وقد
علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان .
وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع ؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية .
... ... ... ... ... ... ... ... ... علي سيد يوسف
( المنار )
إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على
رينان ، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر
إلى الإذعان ، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان .

 
29 صفر - 1326هـ
إبريل - 1908م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر

( نظرة إجمالية في الكتاب )
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ,
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه , ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات , طُبع اثنان منها , وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته ؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني , والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته ، بل لا
تطاق كلمته ، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها , ولكنه حكم
على المصريين لا لهم , ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه .
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي , بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه , وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به ؛ إذ حكم على مطويات العقائد ,
ومكنونات الضمائر , وخطرات القلوب .
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين , ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي , فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ,
ومن الحيثية الثانية عليه لا له , وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم , فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع , وقارعة تصدع
القلوب , بل هو عِبْرة للمعتبرين , وموعظة للمصريين وسائر المسلمين .
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين :
( أحدهما ) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ,
وعلى الإسلام والمسلمين , فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ,
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم ، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم ، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد ، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير ، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل .
هذا , وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه , وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ : إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال ، والخروج من مصر في
يوم من الأيام ، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر , بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر ؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية , وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي , ولو غير أوربي .
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا , وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه , وذرّ الرماد في العيون , وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام , وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة , ومنها حكم البلاد باسم أهلها , والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية , وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار , وفي غيرها
أيضًا .
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ,
وفكره المستولي عليه عند الكتابة , وفي غايته منه , وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب .
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية ، ولم يسلم اللورد من ذلك , فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك ( لاعتقاده
بالقضاء والقدر , ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره ) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته :
قال اللورد : ( حدث أكثر من مرة أن( المفتحجي ) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه ، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر ؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار , وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار , وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي , وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي ) .
ونقول : إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب ، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال , فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد ، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها , والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم . فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه . وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل , والصبر عليه ,
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم ، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل ! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر .
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر , ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه :
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل . ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها :
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً , فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ , ويطلب منه شراء حذاءٍ له , فاشتراه له , وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه , فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ,
فقال : هذا أيسر طريق ! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني . فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله : ( أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني ) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف . ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء , فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس , ففرح ,
وقال : ( إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد ) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق .
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر , فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر .
ثم قال بيرم : ( واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال ، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة , ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات ، ويتشاءم بالأوقات ، فقد رأيت في كثير من بلدانهم , وبلدان
الطليان , وكذا الإنكليز طاقات في حيطان , فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن , معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة ،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع ؛ لأن القسوس يقولون لهم : إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها .
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها . وقد ذكر من هذا النوع في ( كشف المخبا عن فنون أوربا ) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين ، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها , ويجعلونها سخرية , وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها ؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك , بل إنها هي المهذبة , والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر ) . ا . هـ بحروفه .
هذا ما قاله عن أهل فرنسا , وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية , وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال : إن الإنكليز كذلك . بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه :
( وأما أطوار الطبقة السفلى , فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى , وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس ) إلخ .
أقول : أما خرافات القبور والأولياء التي قال : إنهم يعيبون الإسلام بمثلها , وهو
منها بريء , فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين , فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم :
( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ) ، قالوا : يا رسول الله , اليهود
والنصارى ؟ قال : فمن ؟ . رواه الشيخان وغيرهما .
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد :
( وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية , فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم . فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا : ( إن عمر الرجل مائة سنة ) ويقول في نفسه : ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر , أو أي أمر آخر علمي ) .
قلت : إن هذا من مواطن العجب ؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي , ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين ؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية , وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة ؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع , فامتحنوا الفريقين , فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم , وسكت الفريقان على ذلك الامتحان , فلم يُعلموا به الجرائد .
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر , وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم , وينتقموا منهم .
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام, وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً , وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن , وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين , ورسوخه في فهم القرآن , وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر . ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه ، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك , وإنما كان يقصد إليه ؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية , لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية .
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم , ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ , ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين , وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم , ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل , قال له اللورد : هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة ؟ كلا , إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
( إكليركية ) أي : من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال ( الإكليروس ) عند
النصارى .
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام , وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه , ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين , ومن حيث هو
شريعة ، وأبين خطأه وخطله فيه , وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين , ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ,
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام ، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام .
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا , وما عليهم من التقصير , وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا , ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا , ويراه جميع
المسلمين ذمًّا ؛ إذ قال فيه : ( علمه ذكاؤه الفطري , إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه ( يعني : الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون ) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي ! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير ) وقال بعد ذلك : إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه : ( يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه , وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه ) , ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي ! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام , ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية , أو يرى أنه
نظام مؤذٍ ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام ؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه , ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك , وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه , ولا أكثره من الدين . وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 , ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة ،
ونبين سبب الاختلاف بينهما .
* * *
( قوله فيه بتقريرسنة1905 )
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر , أريد به الشيخ محمد عبده , فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني , وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة .
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم ؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية . غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق , فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية , حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة , وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن , فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة ؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل , واستنارة الذهن , وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير , فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر , ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا . والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي , أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني . فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير ؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ,
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد , ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم , وحكّ حزازات في صدورهم , فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين .
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ,
ولكنهم قليلون , وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية , فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم , فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم .
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة . فهم وسَط بين طرفين ، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين ، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين ، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ , وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين ؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت .
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها , فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا . وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه ،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين . ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا , والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة , وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار .
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته :
( هذا , وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده , فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير , وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده , بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته ) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث , وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته :
( قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده )
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت , وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده ؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ,
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه , والاستعانة بمساعدته الثمينة ,
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها .
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية , وغيرها من الإصلاحات
القضائية ؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها , ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك .
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ,
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف , وسياحاته إلى مدن أوربا , ومعاهد العلم . وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية . أمّا الآن , فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته , فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده . ا هـ كلام المستشار .
* * *
( قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة )
أما الشيخ محمد عبده , فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم ( كالسادات والبكري ) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية , فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه , ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك , وعينه قاضيًا , فأحسن العمل ,
وأدى الأمانة حقّها . وكان متوسعًا في آرائه , وعلى علم ونباهة , فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية , وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين , وكان يقول : إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية , وكان عدوًا للخديويين والباشاوات ؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم , ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل .
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال , ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا , ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف , وقد قال
المستر ستانلي لاين بول : إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين :
( إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها , وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره ( لا أدريا ) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه .
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون : إنه ( فيلسوف ) وكل من يدرس الفلسفة ؛ أي : كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة . هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة , وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم , ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم , واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً , ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية , فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه ؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا , ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما ؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا .
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله : إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة , ولكنه عمل شاق , ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ,
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة .
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا , وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده ؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري : إنه فيلسوف كبير , ووطني عظيم . وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده :
( عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل , فاستحسنت رأيه , ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا , ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل ) , فكفاني أن أقول بعد
هذا : ( إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين , ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل ) . اهـ
من ترجمة المؤيد .
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه ( مصر الحديثة )
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين , فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها ، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح ، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع ؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء , ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين . وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي :
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر , وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها . ويقول الآن بصريح العبارة : إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً .
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه , وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره , ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر , لولا ما سيق له من المدح فيه . فَلِمَ هذا ؟.
* * *
( رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ )
( إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير ) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية , وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك ،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي , ثم بين صاحب المؤيد رأيه , وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره , ونوّه بها حتى لفظها اليوم , فأراحنا ، وأراح الناس ؛
قال ما نصه :
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي , وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له ؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية ؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة , لدود
الخصام , عدوًّا لتوفيق باشا أولاً , ولخلفه ثانيًا , ولإسماعيل باشا قبل ذلك .
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة , وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى . فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى , ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية ؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه . أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده , وفارق اللورد كرومر مصر ,
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة , وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا, فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ,
وثوب الرياء يشف عما تحته .
* * *
( قول المؤيد في الشيخ نفسه )
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة , ولا نقول كما قال اللورد عنه :
إنه كان ملحدًا , أو لا أدريا , أو ضعيف الإيمان ؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها , وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ,
ولأعدائه من جهة أخرى , ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ,
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله ؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا , وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك .
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه , فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد ؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة , وعلى الجناب
الخديوي من جهة , فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه ، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه .
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده , قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة ؛
لنقول : إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته ؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد , وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو , فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك ،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته , والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به .
( ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين . حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم , وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية , قال
عنه : إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة ) .
* * *
( قولنا فيما كتب المؤيد )
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له ؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد , فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه ؛ فنقول .
( 1 ) إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح , وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته ؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو ، ثم ذمه بعد موته , وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة . فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته , وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه , ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع .
( 2 ) إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ,
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه , وإلا لساعد سائر زعمائها .
( 3 ) إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا , وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه , ولا يعارضه لصدق وطنيته ,
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات , وعلى كونه كان صادق
الوطنية . ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه , ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر . أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه , ومعارفه السياسية في ذلك العهد , وسنبين ذلك .
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه , وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد , ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد . ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين , ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه , وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ,
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ,
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو ؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم , وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه .
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم , وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف , وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية , ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة , والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا .
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا ، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم , فقال ما معناه : إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة , وكان يراه مولاه فيها متعنتا . وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده .
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد ، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره , فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته , وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته .
حقًّا أقول : إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد ،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار , وإنني سمعته غير مرة يقول : إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه ، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه , فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل . ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة , ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه , فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته , وخروجه هو من مصر ؟ .
( 4 ) توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه ؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة , فيفشل في الأمرين . وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد , إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا .
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج , فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر ، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها , وكثيرًا ما كان يعرض ذلك ؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ , ويعجبه رأيه , ويثق به . وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه , وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه . ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم , وذلك من الحقيقة لا من الخيال .
( 5 ) ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ,
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته , ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك , وإنما قال : ( أخشى ) كما في ترجمة
المؤيد نفسه ، أو ( أظن ) كما في ترجمة بعض الجرائد , فوجب علينا أن نبين
ذلك .
( 6 ) قال المؤيد : إنه لا يطعن في إيمان الشيخ ؛ لأن الإيمان محله القلب ,
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه ! ! فنقول : إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله : إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها , ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح ( هل شققت عن قلبه ) لمن قال : يا رسول الله , أعط فلانًا ؛
فإنه مؤمن . ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد ؛ إذ قال :
( قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر ) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب , ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى , فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى ؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء , فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته , ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله . والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل , فقال : إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه :
( ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله , فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا , وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك ) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا ؛ أي : شاكًّا في وجود الله يقول : لا أدري
أهو موجود أم لا ؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ ( رسول إصلاح ) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا . فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات , وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه ، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة , وأن هذا العمل فرض محتّم عليه .
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه , وملك جنانه ووجدانه , فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه . وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها , فيعدهم
بالتخفيف , ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس . وصدق
المؤيد في قوله : إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه , إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم ؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك .
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد : إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه , وقد
صدق في هذه , ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به ؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص . أما
هذا النص فهو في موضعين , ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد , وأغفل أحدهما في الموضعين . أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد[1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده , وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه .
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف : لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه ( أو قوة اسمه ) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع , ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها . وكنت أرجو منه أفضل من هذا . ا هـ علق هذا على
هامش معناه : هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط , فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين ؟
ونحن نقول : إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد , وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده , ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه , وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة . وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته . وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو :
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
( التعليم العام ) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه ؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات , وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين , وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس , وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط .
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم , فهم يجاهرون به كل المجاهرة , ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم .
نعم , إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء , وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات , ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا , فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة , ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا , ومعظمهم من الفقراء ،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان , ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر , وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم .
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها , سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم ، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ,
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة , ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا ؟ يقولون لنا : ( إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء ) .
آهٍ واأسفاه ! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ,
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية , وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين ، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ,
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ , ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء ،
ومن أجل كل شيء .
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته , فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته , ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا , فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا .
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة . أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية , ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية , بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية , وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ,
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية , وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية .
فكان فينا القضاة والمحامون ، والأطباء والمهندسون ، ممن تختلف درجاتهم
في العلم , ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث , ولا ذلك المفكر , ولا ذلك
الفيلسوف , ولا ذلك العالِم , ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ,
وبشهامة الفؤاد , وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال .
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها , ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة :
( أولها ) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ,
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع .
( ثانيها ) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن .
( ثالثها ) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر .
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً , وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه , فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً , وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس ؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان , ويكون قاعدة للاتحاد ,
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد .
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة , وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ,
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني , وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد .
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين , وأرخصوا من
قيمتهم , وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا , فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء .
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف , ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء , ولا يناقشهم في عمل ما , ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة ، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا , فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه ؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض ، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي ، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله , على أنّ فيه من الضعف ما فيه ؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون .
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له ؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ,
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق , وعلوّ المكانة عند الأوربيين ؛ ولذلك قال : إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل , إلخ .
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي , وقال في تقرير سنة 1905 : إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة . فهل له أن يقول مع ذلك :
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل : لا أساسَ له في اعتقاده ؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه , وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه , فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر , وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين , ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم .
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف , فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم , وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ , وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية , فكيف يقول اللورد : إنه لا أساس له ؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي . إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ : إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه , ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور .
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم , وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة ؛ فإنه قال ( كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905 ) :
( يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب , وزيادة الأجور فيها ) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا ؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون , ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ,
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف , وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت , وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات , وأظهر استحسان ذلك من قبلُ , والاستغناء عنه الآن , ثم قال : ( ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه . والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة ) , ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط , وهذا ما لا يسلم به مصري قط .
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
( إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة , أكثرها من أغنى أغنياء السكان , ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال , وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة , ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا ؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب ) , ثم استدل بذلك على ( أن إبطال التعليم المجاني ,
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر , ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية , بل هما بمثابة إبطال امتياز ) إلخ .
فكيف يقول اللورد مع هذا : إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له ؟
سبحان الله ! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله ! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا : إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء .
وأن اللورد كتب في تقريره ( ص135 و 136 ) : ( وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة , ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة ) .
( للمقال بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))

(1) راجع الأسطر الأخيرة من ص 95 من المنار .​
(11/81)
 
ربيع الأول - 1326هـ
مايو - 1908م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام
مقتبس من الدروس التي كان يلقيها في الأزهر الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده رضي الله عنه .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ
تَعْقِلُونَ } ( آل عمران : 118 ) { هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( آل عمران : 119 ) { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ( آل عمران : 120 ) .
قال الأستاذ الإمام : إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع
أهل الكتاب , وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة , وإن هذه الآيات وما بعدها إلى
آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين , ومعاملة بعضهم لبعض , وإرشادهم في
أمرهم ؛ يعني أن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك .
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآيات بما قبلها ثلاث مقدمات :
( 1 ) أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صِلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم ,
والإفضاء لهم بالسر , وإطلاعهم على كل أمر , منها المحالفة والعهد , ومنها النسب
والمصاهرة , ومنها الرضاعة .
( 2 ) أن العزة من طباع المؤمن , فإنه يبني أمره على اليُسْر والأمانة
والصدق, ولا يبحث عن العيوب ؛ ولذلك يظهر لغيره من العيوب , وإن كان بليدًا ما
لا يظهر له هو وإن كان ذكيًّا .
( 3 ) أن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة ، وإبطال ما جاء به الإسلام ، وكان هم المؤمنين الأكبر نَشْرَ
الدعوة ، وتأييد الحق . فكان الهَمّان متباينين ، والقصدان متناقضين . ثم قال : فإذا
كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شَكَّ مقتضية لأنْ يفضي النسيب من
المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين , وكذا المحالف منهم لمحالفه من
غيرهم بشيء مما في نفسه , وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين
والخلاف بينهم , وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال ؛ لذلك جعل الله تعالى
للصِّلاتِ بين المؤمنين وغيرهم حَدًّا لا يتعدونه ؛ فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } ( آل عمران : 118 ) إلى آخر الآيات .
( بطانة ) الرجل : وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمْره , ويتولون سِره .
مأخوذ من بطانة الثوب , وهو الوجه الباطن منه كما يسمى الوجه الظاهر ظهارة .
و ( من دونكم ) معناه : من غيركم . و ( يألونكم ) من الإِلْو , وهو : التقصير
والضعف . و ( الخبال ) في الأصل : الفساد الذي يلحق الحيوان , فيُورِثه
اضطرابًا ؛ كالأمراض التي تؤثر في المخ , فيختل إدراك المصاب بها ؛ أي : لا
يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم . والأصل في استعمال فعل ( لا ) أن يقال فيه
نحو : ( لا آلو في نصحك ) , وسمع مثل ( لا آلوك نصحًا ) على معنى : لا أمنعك
نصحًا وهو ما يسمونه : التضمين . و( عنتم ) من العنت , وهو : المشقة الشديدة ,
و( البغضاء ) شدة البُغض .
أما سبب النزول ؛ فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال : ( كان
رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهودَ , لما كان بينهم من الجوار والحلف في
الجاهلية ؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآيةَ )
وأخرج عَبْد بن حُمَيْد أنها نزلت في المنافقين .
وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس . وذكر الرازي وجهًا ثالثًا أنها في
الكافرين والمنافقين عامَّةً ؛ قال : ( وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص
بالمنافقين , فهذا لا يمنع عموم أول الآية , فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا
كان عامًّا وآخرها إذا كان خاصًّا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها )
وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول .
وأما المعنى فهو : نَهْي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين
الموصوفين بتلك الأوصاف , على القول بأن قوله : ( لا يَأْلُونَكُمْ ) ( آل عمران :
118 ) إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي كذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق
للتعليل فالمراد واحد وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر ,
وهو أنهم لا يألون خبالاً وإفسادًا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً , فهذا هو القَيْد
الأول .
والثاني قوله عز وجل : ] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [ أي : تمنواعنتكم , أي : وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة .
والثالث والرابع قوله : ] قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ [ أي : قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم ، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها , ويعز عليهم إخفاؤها ، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على
ألسنتهم من الدلائل عليها .
وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في
الإصلاح ممن يدعونهم إليه , وما كان المسلمون الأولون يعرفون سُنّة البشر في
ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل , وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى
أَعْلَمَهُم الله بذلك ؛ ولذلك قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ( آل
عمران : 118 ) يعني بالآيات هنا : العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ,
ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته ؛ أي : إن كنتم تدركون حقائق
هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها ، ولا تتخذوا أولئك
بطانة .
وأنت تَرَى أنَّ هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة لو
فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن
تتخذه بطانةً لك إن كنت تعقل ؛ فما أعدلَ هذا القرآنَ الحكيمَ ! وما أعلى هديَهُ !
وأسمى إرشادَهُ !
لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود , فظنوا أن النهي عن
المخالف في الدين مطلقًا , ولو جاء هذا النهي مطلقًا لَمَا كان أمْرًا غريبًا , ونحن
نعلم أن الكافرين كانوا إلبًا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام ؛ إذ نزلت هذه الآيات
لا سِيَّمَا اليهود الذين نزلتْ فيهم على رأي المحققين .
ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود ؛ لأن الله تعالى - وهو منزلها - يعلم ما
يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة , كما وقع من هؤلاء اليهود ,
فإنهم بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا
فصاروا عونًا للمسلمين في بعض فتوحاتهم ( كفتح الأندلس ) وكذلك كان القبط
عونًا للمسلمين على الروم في مصر ، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على
هؤلاء واحدًا في كل زمان ومكان أبد الأبيد ؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية ، ولا تروي
غلته الرواية ، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلنا .
قال ابن جرير يردّ على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين , ويؤيد رأيه
الموافق لِمَا اخترناه ما نصه : ( إن الله - تعالى ذِكْرُهُ - إنما نهى المؤمنين أن
يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء , إما بأدلة ظاهرة دالة
على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة
لهم , فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته
فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم , إما بأعيانهم
وأسمائهم , وإما بصفات قد عرفوهم بها ) .
وإذا كان ذلك كذلك , وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء
المؤمنين إلى إخوانهم الكفار ( أي : كما قال قتادة ) غير مدرك به المؤمنون معرفة ما
هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم , كان بينا أن الذين نهى
الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم
على ما وصفهم الله عز وجل به , فعَرَفَهم المؤمنون بالصِّفة التي نعتهم الله بها ,
وأنهم هم الذين وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون
ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب ؛
لأنهم لو كانوا المنافقين لَكَان الأمْر منهم على ما بيَّنا , ولو كانوا الكفار ممن
ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين
مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من
أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل . ا هـ
فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين
حاولوا قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة ,
ويمنع أن يكون مرادًا به جميع الكافرين أو المنافقين .
فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربًا للمسلمين ,
فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى
التساهل والتسامح مع المخالفين ؟ إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم
وبغضاؤهم للمسلمين ، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق
ذلك .
لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء , ومشاركتهم في
كل عمل لكان وجه العدل فيها أزهر ، وطريق العذر فيها أظهر ؛ فكيف وهي
قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع
عن الملة , وصون حقوقها , ومقاومة أعدائها ؟
ما أَشْبَهَ هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارًا وأولياءً ؛ إذ قيد
بقوله عز وجل : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } ( الممتحنة : 8 ) ,
{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( الممتحنة : 9 ) , وقد
شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى : { لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ المُؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 28 ) [1] .
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل
رجال دواوينه من الروم , وجرى الخليفتان الآخران , وملوك بني أمية مِن بعدِهِ
على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية . وبهذه
السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في إناطة أعمال
الدولة باليهود والنصارى والصابئين , ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها
ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى . ومع هذا كله يقول متعصبو أروبا : إن
الإسلام لا تساهل فيه ! ! ( رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ ) ألا إن التساهل قد خرج عند
المسلمين عن حده حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقالةً في العروة الوثقى صَدَّرَهَا
بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها ؛ لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار
بها على أكمل وجه ، وهذا نصها ( نقلاً من الجزء الثاني من تاريخه ) :
قالوا : تصان البلاد , ويحرس الملك بالبروج المشيدة , والقلاع المَنِيعة ,
والجيوش العاملة , والأهُب الوافرة , والأسلحة الجيدة . قلنا : نعم , هي أحراز
وآلات لا بُدَّ منها ؛ للعمل فيما يقي البلاد , ولكنها لا تعمل بنفسها , ولا تحرس
بذاتها فلا صيانةَ بها ، ولا حراسةَ إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي
وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم , ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب ,
وليس بِكَافٍ حتى يكونَ رجال من ذوي التدبير والحزم , وأصحاب الحذق والدراية
يقومون على سائر شئون المملكة , يوطئون طرق الأمن , ويبسطون بساط الراحة ,
ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل , ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة , ثم
يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية ؛ ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها
بينها بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها . ولن
يكونوا أهلاً للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد ,
طافحة بالمرحمة والشفقة على سُكّانها , وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم ,
آخذة بطباعهم , يجدون في أنفسهم مُنَبِّهًا على ما يجب عليهم , وزاجرًا عما لا يليق
بهم , وغضاضة وأَلَمًا مُوجِعًا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر , ويوجس عليها
من خطر ؛ لِيتيسر لهم بهذا الإحساس , وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما
ينبغي , ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليلُهُ إلى فساد كبير في الملك ،
فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية , والقوة الغالبة .
يسهل على أي حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب , ويجمع الجنود , ويوفر
العدد من كل نوع بنقد النقود , وبذل النفقات , ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك
الذين أشرنا إليهم : عقلاء , رحماء , أباة , أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم
ضرورات حياتهم .
لا بُدَّ أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة , ويراعى ناموس الطبيعة ؛
فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ , وتكشف له خفيات الدقائق , , وَقَلَّمَا
يخطئ في رأية أو يتأوَّد في عمله مَنْ أَخَذَ به دليلاً , وجعلَ له من هديه مرشدًا , وإذا
نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية , وطلب
أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في
خلقه .
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنُّعرَة على
الملك والرعية , إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها .
هذه فطرة فطر اللهُ الناسَ عليها .
إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس والمشرب يراعي نسبته إليها , ونسبتها
إليه , ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به , فيدافع الضيم عن الداخلين معه
في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه ( راجع رأيك فيما تشهده كثيرًا حتى بين
العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر , أو دينه بسوء على وجه عام ؛ كسوري
ينتقد المصريين , أو مصري ينتقد السوريين ) هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن
ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظّ منها , وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه
خصوصًا إن كان بيده هامات أمورها , وفي قبضته زمام التصرف فيها فإن حظه
( حينئذ ) من المنفعة أوفر , ومصيبته بالمضرة أعظم , وسهمه من العار الذي يلحق
الأمة أكبر ؛ فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها , وحرصه على سلامتها
بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة .
فعلى ولي الأمر في مملكة أن لا يَكِلَ شَيْئًا مِن عملِهِ إلا إلى أحد رجلين إما
رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق , موقرة في نفوس
المنتظمين فيها , محترمة في قلوبهم , يحملهم توقيرها واحترامها على التغالي في
وقايتها من كل شَيْن يدنو منها , ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان .
وإما رجل يجتمع معه في دِين قامت جامعته مقام الجنسية , بل فاقت منزلته من
القلوب منزلتها , كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين وإن اختلفت شعوبهم مَحَلّ
كل رابطة نسبية , فإن كلاً من الجامعتين ( الجنسية على النحو السابق , والدينية )
مبدآن للحمية على الملك , ومنشآن للغيرة عليه .
أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس , ولا في دين تقوم
رابطته مقام الجنس , فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء
أجرته , ثم لا يبالي أَسَلِمَ البيت ، أو جرَفَه السيل ، أو دكَّته الزلازل . هذا إذا صدقوا
في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر واقفين فيها عند الرسم الظاهر ,
فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها , ولا يمسه شيء مما يمسها
من الضّعَة ؛ لأنه منفصل عنها إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب
إليه , بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه , لاصق بمنبته في جميع شئونه ما
عدا الأجر الذي يأخذه , وهذا معلوم ببداهة العقل , فلا يجد في طبيعته , ولا في
خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك , أو الحرص الزائد على ما
يعلي شأنه , بل لا يجد باعثًا على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه .
هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض
أُخَرَ , فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارًا من الفقر والفاقة ,
وضربوا في أرض غيرهم طلبًا للعيش من أي طريق , وسواء عليهم في تحصيله
صدقوا أو كذبوا , وسواء وفوا أو قصروا , وسواء راعوا الذمة أو خانوا أو لو كانوا
مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على
الأقطار التي يتولون الوظائف فيها ( كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية ؛ لا
يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة , ولكن يجدون منها الباعث على
الغش والخيانة ) ومن تتبع التواريخ التي تمثل لنا أحوال الأمم الماضية , وتحكي لنا
عن سُنَّة الله في خليقته , وتصريفه لشئون عباده رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما
كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها , كما تعرف لهم حقهم ، وما كان شيء
من أعمالها بيد أجنبي عنها , وإن تلك الدول ما انخفض مكانها , ولا سقطت في هُوَّة
الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها ، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف
السامية في أعمالها ، فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار خصوصًا إذا
كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها
دماؤهم , وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة .
نَعَم , كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية بسبب العوارض
الخارجية , كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين أو الأمة , ويطرأ
النقص على شفقتهم ومرحمتهم ؛ فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا
كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حقَّ قدرها , وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة
على فرائضهم العامة , فيقع الخلل في نظام الأمة , ويضرب فيها الفساد , ولكن ما
يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام
الأجانب لهامات الأمور في البلاد ؛ لأن صاحب اللُّحْمَة في الأُمّة وإن مرضت
أخلاقُه , واعتلت صفاتُه إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجُِبْلَة لا يمكن محوه
بالكلية , فإذا أساء في عمله مَرَّةً أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية ,
فيرجع إلى الإحسان مَرَّةً أخرى , وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا
يزال يجذبه آونةً بعد آونةٍ ؛ لمراعاتها والالتفات إليها , ويميله إلى المتصلين معه
بتلك العلائق وإن بعدوا .
لهذا ؛ يحق لنا أن نأسف غايةَ الأسف على أُمَراء الشرق , وأخص مِن بينهم
أمْر المسلمين حيث سلموا أمورهم , ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية
للأجانب عنهم , بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهم خدمتهم الخاصة
بهم في بطون بيوتهم , بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكتهم في ممالكهم بعدما رَأَوْا
كثرة المطامع فيها لهذا الزمان , وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال
بعيدة بعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا ، وإذا عززوا أهانوا يقابلون
الإحسان بالإساءة ، والتوقير بالتحقير ، والنعمة بالغفران ، ويجازون على اللقمة
باللطمة ، والركون إليهم بالجفوة ، والصلة بالقطيعة ، والثقة فيهم بالخدعة .
( أَمَا آنَ لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض ؟ ألم يأن لهم أن
يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم ؟ ألم يأْتِ وقْتٌ يعملون فيه بما أرشدتهم الحوادث ,
ودلتهم عليه الرزايا والمصائب ؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم
وأيدي أعدائهم ، ألا أيها الأُمَرَاءُ العظامُ , ما لكم وللأجانب عنكم ؟ { هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ( آل عمران : 119 ) قد علمتم شأنهم ، ولم تَبْقَ رِيبَة في
أمْرهم ، { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } ( آل عمران :
120 ) سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم , وأقبلوا عليهم ببعض ما
تقبلون على غيرهم تجدوا فيهم خيرَ عون وأفضلَ نَصِير ، اتبعوا سُنَّة الله فيما
ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين ، وراعوا حكمته البالغة فيما أَمَرَكم ,
وما نهاكم كَيْلاَ تضلوا ويهوي بكم الخَطَل إلى أسفل سافلين . ألم تروا , ألم تعلموا , ألم
تحسبوا , ألم تجربوا ؟ ؟ إلى متى إلى متى , إنا لله وإنا إليه راجعون ) . ا هـ
هذا بيان يريك بالحجج الاجتماعية الناهضة أن الغريب عن المِلّة لا يُتخذ
بطانة للقائمين بأمْر الملة ، والغريب عن الدولة لا يتخذ بطانة لرجال الدولة ، وإن لم
يكن هؤلاء الغرباء مُتَّصِفِينَ بما ذكر في الآية من العدوان والبغضاء ؛ فكيف إذا
كانوا كذلك .
بَيَّنَتْ لنا الآيةُ التي فَسَّرْناها بعض حال أولئك الذين نُهِيَ المؤمنون عن اتخاذ
البطانة منهم مع المؤمنين , فدونك هذه الآية التي تبين حال المؤمنين معهم : { هَا
أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ( آل عمران : 119 ) فالقرآن ينطق بأفصح
عبارة وأصرحها , واصفًا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام , وهو
أنهم يحبون أشد الناس عداوةً لهم , الذين لا يقصرون في إفساد أمْرهم , وتمني
عنتهم على أن بغضاءهم لهم ظاهرة , وما خفي منها أكبر مما ظهر .
أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ } ( المائدة : 82 ) إلخ , يعني : أولئك اليهود
المجاورين لهم في الحجاز . أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين ,
وإقرار القرآن إياهم على ذلك - لأنه من آثار الإسلام في نفوسهم - هو أقوى
الْبَرَاهِينِ على أن هذا الدِّين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح , لا يمكن أن يصوب
العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك ؟ بلى , ولكن وجد في الناس من ينكر عليه
ذلك , ويصفه بضده زورًا وبهتانًا ، بل تعصّبًا خرّوا عليه صمًّا وعميانًا .
من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان ؟ لا أقول إنهم النصارى
الذين كانوا أجدرَ بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها
آنفًا : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } ( المائدة : 82 )
بل هم قُسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام مِن حيث هو دِين ، وساستها
المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك .
فأوربا التي تتهم الإسلام - والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام - بالتعصب
والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك , فإنها لم
تقو على إبادتهم حتى الآن , ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم .
فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر تعصب أوروبا ,
ولكنهم لا قوةَ لهم على الدفاع عن أنفسهم أمامَ أولئك المعتدين .
أما قوله تعالى : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } ( آل عمران : 119 ) , فمعناه
أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب سواء منه ما أنزل عليكم , وما نزل عليهم ,
فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية , أو النبيين الذين جاءوا بها ما
يحملكم على بُغض أهل الكتاب , فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا . وذكر بعضهم
أن جملة { وَتُؤْمِنُونَ } ( آل عمران : 119 ) حالية من قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ( آل عمران : 119 ) والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ,
فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم ؟ فأنتم أحق ببغضهم ,
أي : ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم .
قال ابن جرير : في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني
المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب
أولئك ، وغلطتهم على أهل الإيمان ، كما حدثنا بِشْر قال : حدثنا يزيد قال :
حدثنا سعيد . عن قتادة : قوله : { هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } ( آل عمران : 119 ) , فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه
ويرحمه , ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المنافق منه لأباد خضراءه .
( حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج . عن ابن جرير قال :
( المؤمن خير للمنافق من المنافق ؛ يرحمه , ولو يقدر المنافق من المؤمن على مِثْلِ ما
يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه ) . ا . هـ
فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون : إن المسلم خير للكافر وللمنافق
منهما له حُبًّا ورحمةً ومعاملةً . وكذلك قالوا في السني مع المبتدع , كما بين ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ قالوا : إن من علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم
ولا يقطعوا أُخُوَّتَهُ في الدِّين ؛ ولذلك يذكرون في كتب العقائد : ( لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِن
أهل القِبْلَة ) بل كان رُوَاة الحديث مِن أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم
وأصحاب السنن يروون عن الشيعة والمعتزلة , لا يلتفتون إلى مذهب الراوي ,
بل إلى عدالته في نفسه .
ونتيجة هذا كله أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البَشَر
على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح , وقربه من الحق والصواب فيه . وكيف لا
يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين : { هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ( آل عمران : 119 ) ؛ فبهذا نحتجُّ على من يزعم أن ديننا يغرينا ببعض المخالف
لنا , كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم
وفضلائهم ، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم ، أو في ظنونهم وأهوائهم ،
والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين ، فاستحلوا هَضْمَ حقوق المخالفين لهم في
الدِّين .
ثم قال تعالى شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لشأن طائفةٍ منهم , أسندها إليهم في الجملة على قاعدة
تكافل الأمة , وكونها كشخص واحد { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ } ( آل عمران : 119 ) كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نفاقًا وخداعًا , ومنهم من كان يظهره ، ثم يرجع عنه
ليشكك المسلمين كما تقدم في آية ( 72 ) من هذه السورة [2] وإذا خلا بعضهم إلى
بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التشفي
سبيلاً . وعَضّ الأنامل كِنايَة عن شدة الغيظ , ويكنى به أيضًا عن الندم { قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ } ( آل عمران : 119 ) فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد
باعتصام أهله به إلا عزةً وقوةً وانتشارًا , وقال ابن جرير : ( موتوا بغيظكم الذي
على المؤمنين ؛ لاجتماع كلمتهم , وائتلاف جماعتهم ) , فَلْيَعْتَبِرِ المسلمون اليومَ بهذا
لَعَلَّهم يتذكرون أنه ما حَلَّ بهم ما حَلّ من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع
والائتلاف , وبالتفرق بعد الاعتصام { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( آل عمران :
119 ) , فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء , وموجدة الحقد
والحسد ، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك ،
ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشرَ المؤمنين من حب الخير والنصح لكم .
ثم قال مُبَيِّنًا حسدهم وسوء طويتهم { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } ( آل عمران : 120 ) , المس في الأصل كاللمس , والمراد
بتمسسكم هنا : تصبكم , ولعل اختيار لفظ لمس في جانب الحسنة والإصابة في جانب
السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسؤوهم ما يصيب المسلمين من خير , وإن قَلّ
بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد , وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين
إصابةً يشق احتمالها .
هذا ما كان يتبادر إلى فهمي , ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى
واحد , ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر , ويقول : إن المس
مستعار للإصابة . ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود , فإذا هو يقول : ( وذكر
المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة
الحسنة , ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة . وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة )
والأول هو الأوجه , وهو من دقائق البلاغة العليا .
والحسنة المنفعة ، سواء كانت حسيةً أو معنويةً , وأعظمها انتشار الإسلام ,
ودخول الناس فيه , وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم . قال
قتادة في بيان ذلك - كما رواه عنه ابن جرير - : ( فإذا رأوا من أهل الإسلام أُلْفَةً
وحمايةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم , وإذا رأوا من أهل إسلام فُرْقَةً
واختلافًا ، وأصيب طرف من أطراف المسلمين سَرَّهم ذلك ، وأعجبوا به ، وابتهجوا
به ؛ فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته ، وأبطل حجته
وأظهر عورته ، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم , وفيمن بقى إلى يوم القيامة ) .
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إِنْ تَمَسَّكُوا به سَلِمُوا من كَيْدِهِم الذي يدفعهم إليه
الحسد والبغضاء ؛ فقال : { وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } ( آل
عمران : 120 ) ذهب بعضهم إلى أن المراد : وإنْ تصبروا على عدوانهم وتتقوا
اتخاذهم بطانة ، وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كَيْدُهُمْ لكم وهم بمعزل عنكم .
وذهب آخرون إلى أنّ المراد : وإنْ تصبروا على مشاق التكاليف , وامتثال الأوامر
عامَّة , وتتقوا ما نُهِيتُم عنه وحظر عليكم - ومنه اتخاذ البطانة منهم - لا يضركم
كيدُهم .
و { يَضُرُّكُمْ } ( آل عمران : 120 ) بتشديد الراء من الضَّرَرِ , وقرأ ابن
كثير و نافع وأبو عمرو ويعقوب ] يَضِرْكُمْ [ بكسر الضاد وسكون الراء المخففة , مِن ضَارَه يَضِيرُهُ , والضَّيْرُ بمعنى المَضَرَّة .
وقال الأستاذ الإمام : إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس ،
وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه ؛ فإن من لذات
النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تَسْكُن إليه , وتأنس به , فلما نُهُوا عن اتخاذ
بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشائرهم وحلفائهم ، وعلل بما علل به من بيان
بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على التكليف الشاقّ عليهم , وباتقاء ما
يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم . ويصح أن يُراد بالتقوى الأخذ
بوصاياه وامتثال أمْره تعالى في البطانة وغيرها .
أقول : ومن الاعتبار في الآية أنه تعالى أَمَرَ المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك
المبغضين الكائدين , وباتقاء شرهم , ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله ,
وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة بالحسنة إنْ
أَمْكَنَ كما قال : { وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ( فصلت : 34 ) , فإن لم يكن تحويل العدو إلى
محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها , فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا
اعتداء , كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة بني النضير الذين نزلت
الآية فيهم أوّلاً بالذات , فإنه حالفهم ووادهم , فنكثوا وخانوا غير مَرَّة ؛ أعانوا قريشًا
يومَ بدر , وادعوا أنهم نسوا العهد , ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزّبوا لإبادة
المسلمين , ثم حاولوا قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم , فتعذرت موادتهم واستمالتهم
بالمحبة وحسن المعاملة , فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضَرْبةَ لاَزِبٍ .
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ( آل عمران : 120 ) قال الأستاذ
الإمام ما مثاله : المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه , فهو إذا دلّ على طريق
النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم قائمًا يدل على الطريق
الموصل للنجاة حتمًا ، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعًا ، فالكلام كالتعليل لكون
الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح .
وهناك وجه آخرُ وهو أن الخطاب بـ ( تعلمون ) عام للمؤمنين والكافرين
جميعاً - يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم ( تعملون ) بالمثناة الفوقية أو على
الالتفات - ومن كان عالمًا بعمل فريقين متحادين , محيطًا بأسباب ما يصدر عن كل
منهما ومقدماته ، ونتائجه وغاياته ، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما
للآخر , ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك
المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه , فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما
يبلغون به المآرب ، وينتهون به إلى أحسن العواقب .
وأقول : إن الإحاطة إحاطتان إحاطة علم , وإحاطة قدرة ومنع . وهذا التفسير
مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم ؛ لتعلقها بالعمل , وذلك من المجاز الذي
ورد في التنزيل كقوله تعالى : { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } ( الطلاق : 12 ) , وقوله :
{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } ( يونس : 39 ) , وأما الإحاطةُ بالشخص أو
بالشيء قدرة , فهي تأتي بمعنى منعه مما يُرَادُ به , وهذا ليس بمراد هنا , وبمعنى
منعه مما يريده , وبمعنى التمكن منه , ومنه الإحاطة بالعدو ؛ أي : أخذه من جميع
جوانبه بالفعل , أو التمكن من ذلك ؛ ومنه قوله تعالى : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } ( البقرة : 81 ) وقوله : { إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ( هود : 92 ) وقوله :
{ وَظَنُّوُا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } ( يونس : 22 ) كل هذا من بابٍ واحدٍ وإنْ فسر كل قول
بما يليق به . فيصح أن يكون منه ما نحن فيه, والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشرَ
المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم ؛ فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه
محيط بأعمالهم إحاطةَ قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله :
{ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } ( الفتح : 21 ) فعليكم بعد القيام بما
يجب عليكم أن تثقوا به , وتتوكلوا عليه .
ومن مباحث اللفظ في الآيات قولُهُ : { هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ } ( آل عمران : 119 )
أصله : أنتم هؤلاء ؛ فَقُدِّمَتْ أداةُ التنبيهِ التي تَلْحَق اسم الإشارة ( أولاء ) على
الضمير . ويُقال في المفرد ( ها أنا ذَا ) وعلى ذلك فَقِسْ . وإعرابه : ها : للتنبيه ,
وأنتم : مبتدأ , وأولاء : خبره , وتحبونهم : في موضع النصب على الحال , أو
خبر بعد خبر . وَجَوَّزَ بَعْضُهم أن تكون أولاء اسمَ موصول , وتحبونهم : صِلَتَهُ .
__________
(1) راجع ص276 وما بعدها من الجزء الثالث من التفسير .
(2) راجع ص333 من الجزء الثالث من التفسير .​
(11/161)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الرد على اللورد كرومر
( 2 )

تتمة الكلام في مسألة المعارف
إن اللورد يعلم أنه استعمل المغالطة في هذا الفصل ، فعمل محمد علي وعباس
وإسماعيل ليس حجة على ما يجب اتباعه الآن من حَصْر تعليم الحكومة في
فرنجة عدد معين للوظائف . والإنفاق في وقت كانت الحكومة فيه على شفا الإفلاس
لا يجعل مقياسًا لوقت يزيد فيه دخلها على خرجها زيادةً عظيمةً . ولو كان عمل
محمد علي وعباس وإسماعيل مما يصح أن يتبع في هذا العصر لَكَان الواجب على
الناس أن يرجعوا القَهْقَرَى دائمًا , ولما ساغ لإنكلترا أن تدعي أن هذه البلاد محتاجة
إليها في تقدمها وارتقائها , فإنها تقدر بنفسها أن تكون على أحسن من زمن إسماعيل ,
فما بال اللورد يمثل ظلمات الماضي الحالكة شَرَّ تمثيل , ثم هو يجعلها أساسًا يبني
عليه سياسته في التعليم ؟ !
اللورد قد ذم المتفرنجين في كتابه ذمًّا بليغًا , وبين أنهم لا قيمةَ لهم في نظر
الشيخ محمد عبده , فكيف لا يعذره إذا طلب لبلاده تعليمًا أنفع من هذا التعليم الذي لا
يقصد منه إلاَّ تكوين المتفرنجين ؟ !
ومن المغالطة في تقرير اللورد قولُهُ : إن إبطال التعليم المجَّاني كان إلغاءً
لامتياز جائر ؛ لأن الذين كانوا يعلَّمون مجانًا هم في الغالب أولاد الأغنياء ، فإن
العدل في إزالة هذا الامتياز بما يوافق المصلحة إنما يكون بتحويل الامتياز عن
الأغنياء وتخصيصه بالفقراء , وما أسهل ذلك على الحكومة لو أراده القابضون على
أزمتها .
لو كانت الطريقة التي أزيل بها امتياز أولاد الأغنياء على أولاد الفقراء في
التعليم المجاني عادلة , لكان من العدل أن يمنع الماء عن الأراضي التي كان
الأغنياء يميزون فيها على الفقراء في الرّيّ حتى لا تزرعَ منها أرض فقير ولا غني ,
فإن العلم حياة النفوس كما أن الماء حياة الأرض .
لم يكن الشيخ محمد عبده راضيًا عن سياسة التعليم بمصر في وقت من
الأوقات . ففي زمن توفيق باشا حمل على نظارة المعارف حملةً قَلَمِيّةً منكرةً في
جريدة الحكومة الرسمية ، ومقالاته في ذلك مثبتة في الجزء الثاني من التاريخ الذي
وضعناه له . وقد حمل ذلك الحكومة على الشروع في إصلاح التعليم والتربية ,
ولكن جاءت من الثورة العرابية, فأوقفت كل عمل , وتلاها الاحتلال ونفى الشيخ من
البلاد . وبعد عودته رأى سياسة التعليم غير سديدة ؛ فقدم لعميد الدولة المحتلة -
وإياك أعني أيها اللورد - لائحة [1] فيما يجب اتباعه في التربية والتعليم , فوضعت
في زوايا الإهمال .
لعل اللورد لم يَنْسَ أن الشيخ كتب في هذه اللائحة ما نصُّهُ :
( المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة ) [2] ... ... ...
ثم ذكر غرض محمد علي باشا من إنشائه لها , وما كان حظها من خلفه إلى عهد إسماعيل باشا , ولكن الشيخ ذكر ذلك حُجة على فَقْدِ التربية والمعارف الحقيقية منها , فجاء اللورد يذكره مِن بعدِهِ في تقرير 1905 , ويجعله حُجة على بقاء ما كان على ما كان إلاَّ المجانية , فإنه يرى إبطالها بعد انتظام مالية الحكومة وامتلاء خزائنها ! .
مَرَّتِ الأيام على موت هذه اللائحة والشيخ محمد عبده قاضٍ في المحاكم ليس له
طريق رسمي إلى دعوة الحكومة إلى إصلاح التربية والتعليم , وقد جرب طريق
النصيحة , فلم يجده موصلاً إلى المطلوب , فلما صار مُفْتيًا وعضوًا في مجلس
الشورى حاول أن يجعل مجلس الشورى وسيلةً إلى غرضِهِ , وبرأيه طلب بعض
أعضاء الجمعية العمومية سنةَ 1902 أن تعرض قوانين ولوائح التعليم في نظارة
المعارف ( بروجراماتها ومنشوراتها ) على المجلس , ولم ينس اللورد تلك المناقشة
التي دارت في ذلك بين الشيخ محمد عبده وفخري باشا ناظر المعارف في الجمعية
العمومية ( وقد بيَّنَّا ضعفَ أقوال الناظر يومئذٍ في المنار ص110و149م5 ) .
ثم إن الشيخ محمد عبده اقترح باسم المجلس في سنة 1904 أن يعلم تاريخ
الإسلام باللغة العربية في المدارس التجهيزية . وقد ذكر في آخر تقرير له بشأن
امتحان مدرسة دار المعلمين الناصرية ( دار العلوم ) ضعف تعليم التوحيد والتفسير
والحديث فيها , فإذا كان تعلم المعلمين للدين ضعيفًا , فكيف يكون تعليم هؤلاء
المعلمين له ؟ .
نكتفي بهذه المذكرات في بيان غَلَطِ اللورد في قوله : إن ما كتبه الشيخ محمد
عبده لمسيو جرفيل كان يعلم أنه لا أصلَ له فهي تذكره - إن كان ناسيا - أن لها أصلاً
أصيلاً مؤيدًا بالبرهان والدليل ، ومن العجائب أن يكابر اللورد في هذا مع ما يعلمه من
مؤيداته الرسمية وغير الرسمية . فمن ذا كتب ما يعلم لأنه لا أصل له ؟
الشيخ أم اللورد ؟ اللورد يعرف ذلك إذا لم يكن السَّخَط قد أنساه تلك اللائحة التي قدمت
إليه , وتلك الحجج المدونة في المحاضر والدواوين الرسمية , وكلها ناطقة بأن الشيخ
محمد عبده لم يكن راضيًا من التعليم والتربية في مدارس الحكومة . فهذا
ما نقول في السبب الأول لسخط اللورد على الأستاذ الإمام وتغيير كلامه فيه .
* * *
( إفضاء الأستاذ الإمام لمستر بلنت بعيوب الاحتلال )
أما السبب الثاني لسخط اللورد على الشيخ , وهو ما ظهر له من أنه هو الذي
لقن مستر بلنت جُلَّ ما في كتابه ( التاريخ السري للاحتلال ) من عيوب إدارة
المحتلين بمصر [3] , فهو مما يعذر فيه فإن هذا مما يغيظ السياسي والحاكم المطلق
حقيقة . وأي شيء يؤلم الإنسان أكثر من بيان عيوبه وإظهار سيئاته ؟ ولكن يجب
على المؤرخ أن يعذر حافظي الوقائع التاريخية ورواتها ومدونيها . واللورد في
كتابه ( مصر الحديثة ) مؤرخ لا حاكم , فكان يجب أن يتذكر ذلك . ثم إذا كان هو في
تدوينه لتاريخ مصر لم يتحام القدح في أمرائها وعلمائها وجميع أهلها بِنَاءً على
أنه مؤرخ يجب عليه إظهار الحقائق - إذا فرضنا أن كل ما كتبه حقائق - فكيف
يسخط على من سلك طريقته ، ومن أعانه على ذلك ؟ أليس من العدل العام أن يدين
المرء كما يُدان ؟
هذا ما يُقال من الجهة العامة . ويقال من الجهة الخاصة : إن مستر بلنت كان
صديقًا للشيخ محمد عبده , وكان كل منهما يثق بأمانة الآخر وإخلاصه ؛ فبأي حقٍّ
يحجر اللورد على صديقين متجاورين أن يفضي كل منهما إلى الآخر بما في نفسه من
المسائل العامة أو الخاصة , ويكاشفه بشعوره لا سِيَّمَا إذا كان مؤلمًا له , والشاعر
الحكيم يقول :
ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ألا إن منتهى الاستبداد ، واحتقار حرية الأفراد أن يؤاخذ الناس بما يتناجون
به في زوايا بيوتهم ، وما يسرونه لأصدقائهم ومحبيهم .
ثم إن اللورد يعلم - كما يعلم كل عاقل - أنه لا يخطر في بال الإنسان عندما
يحدث صديقة أن كل ما يقوله سيحفظ ويدَّون وينشر بين الناس ؛ ولذلك ينتقد بعض
أهل الرأي على مستر بلنت ذكر مسائل وخواطر حدثه بها الشيخ محمد عبده ,
فنشرها وهي مما لا ينبغي نشره كتمني جمال الدين لو يقتل إسماعيل باشا , واستحسان
محمد عبده لرأيه ، على أن هذه المسألة أصغر من القالب الذي وضعها لورد كرومر
فيه كما سَنُبَيِّنُهُ .
بقي علينا , وقد بَيَّنَا اختلاف قولي اللورد في الأستاذ الإمام , وسبب هذا
الاختلاف أن نبين الحق فيما لَمَزَهُ به , فنقول : إنه ينحصر بِحَسَب ما اطلعنا عليه من ترجمة الجرائد في ثلاث مسائلَ :
( الأولى وصفه بأنه خيالي )
قول اللورد في الشيخ : إنه كان مفطورًا على الخيال [4] . لا يتفق مع قوله فيه
من الجهة العملية في الحكومة وغيرها أنه كان مصلحًا - ومن الجهة
السياسية والاجتماعية أنه أنشأ في مصر مدرسةً فكريةً , وأن أتباعه إذا نجحوا
وسوعدوا على ما اختطه لهم من المبادئ المعتدلة فيهم تصل البلاد إلى الاستقلال ,
وأنهم كالجيرونديين في أحزاب الثورة الفرنسية ؛ أي : في الاعتدال والعقل , كما
لا يتفق مع قول المستشار القضائي الذي وافقه هو عليه - ومن الجهة العلمية
والشرعية أنه كان متضلعًا من علوم الشرع , مع ما به مِنْ سَعَةِ العقل واستنارة
الذهن .
ما هي الآراء الخيالية التي كان يبديها اللورد , فيتعذر عليها تنفيذها له ؛ لأنها
خيالية لا عملية ؟ لعله يَعْنِي بها تلك اللائحة [5] التي اقترح بها عليه جعل التربية
الدينية أساس التعليم في المدارس والكتاتيب , وبيَّنَ له فيها أنه لا يصلح حال البلاد
المصرية وتكون بمأمن حتى من التعصب وفتنه إلاَّ بالتربية الدينية الصحيحة ؛ لأن
الدين الإسلامي رائد الألفة ورسول المحبة .
إن كان يعني اللورد باتباع الأستاذ الإمام للخيال هذا الرأي الذي أوضحه أتم
الإيضاح في تلك اللائحة , وكان يظهر على لسانه شيء منه في كل فرصة
( كاقتراحه في مجلس شورى القوانين تعليم تاريخ الإسلام في المدارس التجهيزية )
فلماذا يسيء الظن بدينه , وهل تكون هذه الغيرة على الدين لضعاف الإيمان أو
للاأدريين ؟
للورد أن يعد طلب التربية الدينية والتعليم الإسلامي أمرًا خياليًّا ؛ لأن سياسته
في ذلك مناقضة لاعتقاد الأستاذ الإمام , فإن أحدهما يرى أن الإسلام الحقيقيَّ هو
منتهى الكمال البشري كما عرف ذلك عنه القريب والبعيد , وصرحت به المجلة
الفرنسية [6] ، والآخر يمثل الإسلام بأنه آفة المدنية , ومقيد البشر بالقيود التي لا
يرتقون ما لم يتركوها ويتركوه معها . ويمكن أن يقال : إن تقديمه تلك اللائحة لعميد
إنكلترا وأمله بأن يقنعه بما فيها هو الأمر الخيالي , فإنه قد بالغ في تحسين الظَّنّ
بهذا العميد وبدولته حتى أراد أن يستعين بهم على إصلاح شأن الإسلام ، وتخيل أنه
رُبَّما يصل إلى ذلك بالبرهان ، على أننا نحن نعرف السبب في محاولته ذلك , وهو
أنه لَمَّا كان منتهى غرضه من حياته الإصلاح الديني بالتربية والتعليم , كان يتوسل
إلى ذلك بكل ما يخطر في البال أنه ممكن قائلاً : ( إذا لم ينفع لا يَضُرّ ) .
إذا كانت تلك اللائحة هي دليل اللورد على أن الرجل كان خياليًّا , فلا يبعد أن
يكون تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية خياليًّا أيضًا في نظر اللورد ؛ فإنْ لم يكن
التقرير نفسه خياليًّا فإلحاح كاتبه على اللورد بالسماح بالمال من خزينة الحكومة
لتنفيذه هو الخيالي , فإنه إنما سكت عن هذه المطالبة حين قال له اللورد : ( إنني لا
أعطي قرشًا واحدًا للمحاكم الآن ) , كما أخبرني بذلك الأستاذ الإمام في وقته , وقال :
إنه هكذا قال : لا أُعْطي , بضمير المتكلم , وهكذا يقول : فليقل لنا اللورد أي شيء
في ذلك التقرير يُعَدُّ من الخياليات , أو من الأماني والأحلام التي هي غير ممكنة في
ذاتها ؟ ولكن يمكن لمن أساء الظن باللورد وحكومته أنْ يقول : إنهم لا ينفذون
تقريرًا فيه إصلاحٌ لِمحاكمَ شرعيةٍ وراء إصلاحها إصلاح كبير للبيوت الإسلامية ؛
لأن من سياسة إنكلترا موتَ الشرع في مصر وإبطالَ ثقة المسلمين به , حتى إن لورد
كرومر الذي يُعَدّ من خيارهم يرى مطالبته بإصلاح المحاكم الشرعية من الخيالات
والأوهام ، أو من الأماني والأحلام ، إذا قال من يسيئون الظن باللورد وحكومته مثل
هذا القول ؛ أفلا يكون رمي الشيخ محمد عبده بأنه خيالي رميًا للورد وحكومته بما
هو شر من ذلك ؟
نَعَمْ , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في حسن مستقبل الإسلام قد يعدها حتى
بعض المسلمين من الأماني والأحلام ، فإن منها أنه سينتشر في أوربا نفسها في يوم
من الأيام ، ولكن هذه الآمال مما لا أظن أن لورد كرومر قد علم بها ؛ إذ لو علم بها
ظن أو خشي أن يكون الشيخ ( لا أدريًّا ) , فإنها آمال مبنية على الإيمان بصدق
وُعُود القرآن أولاً ، وعلى فلسفة دقيقة في طبيعة الأديان وطبائع البشر ثانيًا ، فهو قد
كان يقول على رءوس الأشهاد في قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } ( النور : 55 ) الآية .
إن هذه الآية لم يأت تأويلها بعد ، ولا بُدَّ أن يأتيَ ولو بعد حين , وإن كان بعيدًا
فهل تكون هذه الثقة بوعد في القرآن كهذا ( قيل : إنه قد حصل ) من رجل ( لا
أدريّ ) ؟
نحن أعرف بالأستاذ الإمام من لورد كرومر فإننا نعرف عنه كل شيء واللورد
لا يعرف عنه إلا أشياء محدودة منها بعض الآراء في مصلحة مصر , وكان صاحب
هذه المجلة من بطانته ومواضع سره , ولا أعرف عنه شيئًا يمكن اللورد أن يستدل
به على كونه كان مفطورًا على الخيال غير ما ذكرت من مطالبة اللورد بالمساعدة
على التربية الإسلامية وإصلاح المحاكم الشرعية إلاَّ أن يكون ذلك توجه همته إلى
إصلاح الأزهر , ولكن كل ما تشبث به من الإصلاح كان عمليًّا وقد نفذ شيء كثير
منه كما هو مدون بالتفصيل في كتاب ( أعمال مجلس إدارة الأزهر في عَشْرِ سنين ) ,
وما لم يتم منه لم يكن المانع من تمامه كونه خياليًا , وإنما كان له مانع آخر يعرفه
اللورد , وكثير من الناس وليس هذا المقام بمحل لذكره .
نعم , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في الأزهر هي أعلى وأسمى مما تشبث به
من مبادئ الإصلاح التدريجيه - آمال لها ارتباط قوي بآماله في الإسلام , وهي
تربية رجال يعرفون حقيقةَ الإسلام ويقدرون على بيانها والدفاع عنها بالكتابة
والخطابة ليكون منهم دعاة يدعون جميع الأمم إليه ، وهداة يهدون جميع
طبقات أهله إلى ما جهلوا منه ، ولكن العوائق التي اعترضته في طريق الإصلاح
حالت دون الدعوة إلى هذا المقصد أو إلى مقدماته الأولية ، وما أظن أن اللورد كان
مطلعًا على هذا وإلا لَمَا خطر في باله أن يكون الرجل ( لا أدريًّا ) .
أما المسائل المتعلقة بالقضاء أو الإدارة فعهدي أن آراء الأستاذ الإمام فيها
كانت تعجب اللورد سواءٌ عمل بها كعدوله عن إلغاء النيابة العمومية عَمَلاً برأيه , أو
لم يعمل بها كمشروع الجنايات الأخير الذي طالت فيه المناقشة بينهما , ولكن بعد أن
كان اللورد قد أشرب المشروع في قلبه , وإن أكثر النابغين من رجال القضاء كانوا
على رأي الأستاذ الإمام في معارضة المشروع .
وما ذهب إليه المؤيد في تأويل كلمة اللورد من أن الشيخ كان يحاول القبض
على السُّلْطَتَيْنِ , فيجعل الأمير وعميد الاحتلال معًا في يديه , فهذا من آراء صاحب
المؤيد التي لم تخطر للورد على بالٍ فيما يغلب على ظني .
( الثانية ظن اللورد أنه لا أدريٌّ )
نبز اللورد الأستاذ الإمام بلقب ( اللاأدري ) [7] وهو قد أخذه من ستانلي على
أنه لم يجزم به , فقد ترجم المؤيد عبارته فيه بكلمة ( وأخشى ) أن يكون كذا ,
وترجمها بعض الجرائد ( وأظن ) أن يكون كذا . وهذا من الظن الذي قال الله فيه
{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } ( الحجرات : 12 ) , وقد قال بعض العلماء النابغين من
مريدي الأستاذ الإمام : إن اللورد قال هذه الكلمة لينفرنا من طريقة المرحوم الدينية ,
ولكننا لا نترك ما عندنا من اليقين فيه لأجل ظن لورد كرومر .
أما أنا فأقول : إن قاعدة ستانلي التي استنبط منها اللورد كلمتَه هي من
المسلمات عندهم فينا , وهي : ( إن المسلم من الطبقة العليا لا بُدَّ أن يكون أحد اثنين :
متعصبًا أو ملحدًا في سِرِّهِ ) وعندنا قاعدةٌ مثلها كنتُ أسمعها وأنا تلميذ مبتدئ ,
وهي : ( إن النصراني المتعلم ملحد لا دينَ له , فإنْ تعصَّبَ لقومه وأهل دينه فإنما
يتعصب لهم تعصبًا جنسيًّا ) ومما كنا نسمعه من آبائنا وبعض مشايخنا : ( أن مما
يمتاز به الإسلام على النصرانية المعروفة أن المسلم يزداد قوةً في الإسلام كُلَّمَا ازداد
سَعَةً في العِلْم , وأن النصراني إذا تعلم العلوم مَرَقَ مِن الدِّين ؛ ولذلك كانت مدنية
المسلمين وعلومهم في حياةٍ ونموٍّ أيامَ كان الإسلام حَيًّا في نفوسهم في أول نشأتهم ,
ولم يصر للنصارى عِلْم ولا مدنية إلاَّ بعد ضعف الدين وزعزعته عندهم ) فالأمم
والمِلَل تتشابه في حُكْم بعضها على بعض .
قد ذكرنا دليل المسلمين على قاعدتهم من الجهة النظرية , ويؤيدونه من الجهة
الحِسّيّة بحال من يعرفون من النصارى المجاهرين بالإلحاد , وكثير ما هم . ولما
كان النصراني يعتقد بطلان الإسلام اعتقادًا تقليديًّا إن كان متدينًا واعتقادًا نظريًّا إنْ
كان مُلْحِدًا - كان للملحد منهم أن يظن بهذا الدليل النظري أن المسلم العاقل المطلع
على العلوم والفلسفة لا بُدَّ أن يكون ملحدًا , ولا يعدمون من المسلمين المتفرنجين من
يجاهرون أمامهم بالكفر , ويسكرون معهم في نهار رمضانَ , فيؤيدون دليلهم بالحس
ولا يعلمون أن هؤلاء الذين يظنون أنهم قد ألحدوا بعد إسلام لم يعرفوا يومًا ما من
الإسلام شيئًا .
قد عرفت رجلاً من فضلاء الإنكليز , ذوي التربية العالية فيهم , وجرى بيني
وبينه مناظرات كثيرة في المسائل الدينية , فكان كلما سمع مني جوابًا عن شبهةٍ مِنَ
الشبه التي يوردها على الدين مطلقًا , أو على الإسلام خاصّة يقول : إن ما تقوله
معقول , ولكنه فلسفة لا دين , وما أظن أن علماء الأزهر يقولون به لو سئلوا هذا
السؤال . وقال لي مَرَّةً : ( إنْ كان الإسلام ما تقرره فأنا مسلم ) . وقال لي مَرَّةً بعد
كلام قُلْته في الإسلام : ( إنني أنا أعتقد هذا , فإما أن أكون مسلمًا , وإما أن تكون
كافرًا ) وقال لي مرة : ( ما أظن أحدًا يوافقك على هذا الاعتقاد في الدين إلاَّ الشيخ
محمد عبده ) ولا يبعد أن يكون ظنه فينا كظن اللورد في الأستاذ الإمام . وقد
ذكرت في المنار سؤاله إيَّايَ في رمضان : هل تصوم ؟ وعن جوابي له , وما
ذكرته له من حكمة الصيام وإعجابه به .
وقد دعاني غير واحد من فضلاء النصارى للغداء في رمضان , وعرضوا
عَلَيَّ القهوةَ مِرارًا كثيرة , فكُنتُ أقولُ متعجبًا : أَوَنَسِيتُمْ أَنَّنَا في رمضانَ ؟ فيقولون :
أَوَأَنْتَ تَصُومُ أيضًا ؟ فأقول : أي شيء يبيح لي الفِطْرَ ولستُ مريضًا , ولا على
سفَرٍ ؟
ولكن إذا كان الملحدُ من النصارى هو الذي يظن أن المسلم العاقل لا بُدَّ أن
يكون إسلامُه ظاهريًّا وهو يسرّ الإلحاد في قلبه ؛ فهل اللورد ملحد أم هو مقلد لستانلي
في قاعدته من غير دليل ولا فكر ؟ وكيف يتفق هذا مع شهادته للشيخ محمد بيرم
بالإيمان والعقل جميعًا ؟
قال اللوررد بعدما ذكر أنه يخشى أن يكون الشيخ محمد عبده لا أدريًّا ( وإن
كان يستاء من هذه النسبة ) فقوله هذا يشعر بأنه ذكر أمامه ما يدل على أنه يظن
فيه هذا الظن تصريحًا أو تلويحًا , فاستاء وامتعض ، وتبرأ من ذلك , وأنكره ؛ وكيف
لا ينكره على اللورد مستاءً , وقد كان أعز شيء عليه وهو الذي جعله لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , وهو الذي جعل السياسة مأيوسًا منها عنده , فكان جُلُّ قَصده من
معرفة رجالها ومداراتهم الاستعانة بهم على خدمة العلم والدِّين من جهة , وخدمة
مصر من جهة أخرى , فكان يتردد على الأمير ليستعين به على إصلاح الأزهر ,
ويختلف إلى اللورد ليستعين به على إصلاح المحاكم والمعارف وغير ذلك من
المصالح التي شهد له اللورد بالوطنية الصادقة لسعيه لديه فيها ، كان يستجديها معًا
لمصر وللإسلام , وقد أعطى كل منهما قليلاً وأكدى . فلا عجب إذا جاءت كلمة
اللورد في دين الأستاذ الإمام غَثَّةً باردةً , تتضاءل في طِمْرِ بَالٍ , فإنها عبارة عن
ظَنٍّ لم يستيقنه ، في موضوع لم يعرفه .
( الثالثة استحسان قتل إسماعيل باشا )
نقل اللورد عن كتاب التاريخ السري للاحتلال أن السيد جمال الدين كاشف
الشيخ محمد عبده بفكرةٍ خطرت له وهي قتل إسماعيل باشا عند مرروه على
( الكبري ) إذ كان يمر كلَّ يوم عليه , وأن الشيخ محمدًا استحسن ذلك , ولكن الأمر
لم يتجاوز الكلام بينهما [8] أي : لم يكاشفا به أحدًا لاعتقادهما أنهما لا يجدان من يتجرأ
على ذلك .
كبر اللورد هذه المسألة وعظمها , ووجه قوة عقله المنطقي الأوربي الإنكليزي
للاستنتاج منها , فكانت نتيجته ( أن العالَم المتمدن كله ينظر بعد هذا إلى الوطنيين
شزرًا ! ! ويحتقر بالأكثر أولئك الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل ) .
ربما يسهل على أضعف الشرقيين الذين يقول اللورد عنهم : إن عقولهم غير
منطقية . فهي ضعيفة الاستنتاج والاستنباط , بل على أضعف المصريين الذين يعدهم
من أضعف الشرقيين عقولاً واستنتاجًا أن يفنّدوا أمثال هذه النتائج التي استخرجها
ذلك العقل الغربي المنطقي الكبير . فلو سألنا أحد لابسي الجلابيب الزرقاء من
فلاحي مصر والفيلسوف سبنسر والفيلسوف أرسطو : هل تقولون : إن تفكر رجل
غريب كالسيد جمال الدين الأفغاني في قتل أمير ظالم كإسماعيل باشا , واستحسان
تلميذ له كمحمد عبده المصري لفكرته وهو شابّ في سِن الطلب والتحصيل ينتج
وجوب احتقار العالم المتمدن لهما , وللوطنيين المصريين دائمًا ؛ لأن تلميذًا منهم
استحسن من زُهَاء ثلاثين سنة قتل أمير خرّب بلاده ومهد للأجانب احتلالها ؟ ؟
لو سئل الثلاثة هذا السؤال لأجاب الفلاح المصري وأشهر الفلاسفة المتقدمين
وهو أرسطو مؤسس علم المنطق , وأشهر الفلاسفة المتأخرين وهو سبنسر بجواب
واحد وهو أن الوطنيين لا يلحقها ذنب ولا لوم من تلك الفكرة إن فرضنا أنها فكرة
تنافي المدنية ، وأن المنطق يتبرأ ممن يقول بمثل هذه النتيجة .
وفد السيد جمال الدين على مصر في سنة 1286 وكان الشيخ محمد عبده في
سن العشرين ( لأنه ولد سنة1266 ) وكان همه من حياته إيجاد حكومة إسلامية
عزيزة قوية ؛ فاستمال الناس إليه بالعلم والفلسفة حتى إذا ما اجتمعوا حوله بثّ فيهم
أفكاره السياسية بطريق تعليم الكتابة والخطابة حتى كون لنفسه حِزْبًا له ارتباط بولي
عهد الخديوية ( توفيق باشا ) وكان إسماعيل باشا هو العَقَبة الْكَئُود في طريق
الإصلاح المطلوب له , فهل يعدّ من الغريب عند الأمم الممدنة أن يتمنى إزالتها أو
يفكر فيها , فينظر العالم الممدن إلى جميع الوطنيين المصريين الآن النظر الشزر ؛
لأن من علمهم السياسة وطلب الإصلاح فكر في ذلك منذ ثلاثين سنةً ؟ .
يالله مَن هذا العالم المدني الذي لم يفكر في مثل هذا قط : ما هو وأين هو ؟
أليس هو العالم الأوربي الذي قتل من الملوك والرؤساء في بلاده واحدًا وعشرين
ملكًا ورئيسًا في مدة لا تتجاوز قرنًا من الزمان [9] , وَنَعْنِي بالرؤساء رؤساءَ
الجمهوريات الذين تبعتهم أقلّ من تبعة الملوك .
إن خطور الذنب بالبال ومكاشفة بعض البطانة به قد يكون تمنيًا لا يصل إلى
درجة العزم ، وقد يعزم الإنسان على الشيء حتى إذا ما هَمَّ بمباشرته راجعَ نفسه
وثنى عزمه , فرجع عنه نادمًا ، فَلَيْتَ شِعْرِي ماذا كان يكون حكم لورد كرومر على
جمال الدين ومحمد عبده وجميع الوطنيين المصريين الذين يودون استقلال بلادهم
لو وفق السيد جمال الدين يومئذ إلى تنفيذ ذلك الخاطر ؟ ؟
أما كون السيد جمال الدين كان يعمل في مصر عملاً سياسيًّا , فهذا مما لا
يجهله لورد كرومر , ولا أحد من سَاسَةِ إنكلترا وفرنسا الواقفين على أحوال مصر
الأخيرة ، وهم يعلمون أنه إذا ترك السعي لقتل إسماعيل باشا فإنه قد سعى لعَزْلِهِ .
قال الأستاذ الإمام في كتاب تاريخ الثورة العرابية الذي عهد إليه بتأليفه الأمير
عباس حلمي الثاني في سياق الكلام على السعي في عزل إسماعيل باشا , وذكر
إرسال فرنسا موسيو تريكو مأمورًا فوق العادة ؛ ليتحد مع وكيل إنكلترا بمصر على
ذلك ما نصه :
ولكن كان الناس كافَّةً في شوق إلى رؤيته ( أي : إسماعيل ) بعيدًا عن كرسي
الخديوية ، وطلاب الحرية من الأهالي كانوا يترددون على رئيس الوزارة
المصرية يظهرون له الميل إلى جَناب الخديو السابق توفيق باشا رحمه الله ,
وكانت بينه وبين السيد جمال الدين مكالمات ومخابرات في هذا الأمْر , فسعى هو
والكثير من الأعيان عند شريف باشا حتى يقنع الخديو الأسبق بوجوب التنازل ( عن
الخديوية ) , وقد فعل , فأشار عليه بأن رفض الطلب لا يفيد , وأن الدولتين لا بُدَّ
أن تنالاَ ما تطلبان عاجلاً أو آجلاً , والفكر في الحرب رأي طائش , فإن الناس
عمومًا في انحراف عنه , فإذا حصل حرب خذله الجيش في أول واقعة , وكانت
عاقبة ذلك أشنعَ ، وإن أمسَّ شيء بالصواب أن يحوَّل الأمر على السلطان .
ثم ذهب وفْد من المصريين ومعهم السيد جمال الدين إلى وكيل دولة فرنسا ,
وأبانوا له أن في مصر حزبًا وطنيًّا يطلب الإصلاح , ويسعى إليه , وأن الإصلاح
المطلوب لمصر لا يتمُّ إلاَّ على يد وليّ العهد توفيق باشا , وانتشر ذلك في القاهرة
وغيرها ، وتناقلته الجرائد وهي أول مرة عرف فيها اسم ( الحزب الوطني الحر )
ا هـ المراد منه .
إن لورد كرومر يعلم هذا , ويعلم أن إسماعيل باشا لم يكن أمثلَ من أولئك
الملوك الذين قتلهم العالم المتمدن وآخرهم ملك البرتغال بل ولا من أولئك الذين
ثاروا عليهم وقتلوهم بمحاكمة , أو بغير محاكمة , ومنهم شارل الأول ملك الإنكليز ,
الذي قامت في وجهه الثورة الأهلية المشهورة وانتهت بقتْلِه . وإن اغتيال ملك أو أمير
مخرب للبلاد ، ظالم للعباد ، مضيع للملك ، مهلك للحرث والنسْل أهون في نظر
الفيلسوف من القيام بثورة عليه تسفك فيها دماء الألوف الكثيرة من الشعب ، ثم يقتل
الملك بعد ذلك بمحاكمة صورية أو حقيقية إن لم يقتل اغتيالاً .
إن ما شرحه لورد كرومر في تاريخ ( مصر الحديثة ) من فظائع إسماعيل
باشا كافٍ في بيان كونِهِ أسوأَ حالاً من الملوك الأوربيين الذين ثارت عليهم رعيتهم
بتدبير فلاسفتهم وعقلائهم ؛ فأين من إسماعيل باشا لويس السادس عشر وشارل
الأول .
قد مثل الأستاذ الإمام في تاريخ الثورة العرابية حالة مصر التي تركها عليها
إسماعيل باشا تمثيلاً تلطف فيه واستعمل الرأفة التامة في الحكم ؛ لأنه كتب ذلك
لحفيده الأمير الحالّ كتابة حاول فيها الإعلام مع توقي الإيلام , فقال :
شئون البلاد المصرية في شهر رجب سنة 1296 هـ
تولى الجناب الخديو السابق توفيق باشا بعد أن تداخل دولتا فرنسا وإنكلترا في
شئون البلاد المالية , وارتبطت الحكومة معها بعقود ووعود عدت قوانين وأصولاً
يجب احترامها .
- وبعد أن كان قد أفضى الأمر إلى تعيين وزيرين , أحدهما إنكليزي للمالية ,
والآخر فرنساوي للأشغال العمومية في أواخر عهد إسماعيل باشا .
- وبعد أن كادت أحكام المحاكم المختلطة تئوي بتنفيذها إلى إشهار إفلاس
الحكومة ، وأدت بالفعل إلى انتزاع أملاك كثير من ذوي الثروة من الأهلين .
- وبعد أن كان موظفو الحكومة من أية طبقة كانوا في اضطراب من حالتهم
المعاشية ؛ لتعود الحكومة على تأخير دفع المرتبات لأربابها أشهرًا .
- وبعد أن صار رجال الحكومة في درجة من الغفلة عن مصالح البلاد إلى
حدِّ أنهم كانوا لا يفهمون للوظائف مَعْنًى إلاَّ أنها وسيلة لِتحصيل النقود من الأهالي
بأيَّة طريقة , لِيُدَسّ منها شيء في جيوب المباشرين للتحصيل , ويرسل الباقي إلى
خزائن الخديو أو إلى صناديق بعض المحتفين به ، والمقربين إليه .
- وبعد أن صارت الجندية في البلاد صورةً لا يعقد بها دفاعٌ ولا حمايةٌ وإنما
يُراد بها الظهور بعظمة الملك , فلم يكن فيها تربية عسكرية ولا تدريب حربي ,
وكثيرًا ما كانت في حفر التُّرَع , وإقامة الجسور للمنافع العامة أو الخاصة , وكان
المرجع في بعض الحروب إلى ضباط من الأجانب كانوا أركان حربها ، وعليهم
المعوَّل في أغلب شئونها .
- وبعد أن فتح على الأهالي أنفسهم باب الإسراف والرَّفَهِ في المعيشة تقليدًا
للمقربين من مسند الخديوية ومن يليهم , وذلك قبل أن يعرفوا لنفقاتهم ميزانًا صحيحًا
يعادلون به بين ما بأيديهم من الأموال وما ينفقون في اللذات .
- وبعد أن نشأ عن هذا وعن شَرَهِ الحُكَّامِ في التحصيل وعدم رعايتهم لِمَا عليه
الأهالي مِن غِنًى وفقر , واستعمالهم أشد العقوبات في سلْب ما بأيديهم أن اضطر
الأهالي إلى التداين بالربا الفاحش , حتى كان صاحب الأرض يأخذ مِن المرابي
المائة بمائة في ثلاث أشهر , ولم يكن يرى في ذلك عيبًا , ولا يخشى عاقبةً , فإن
أمامه القدوة العظمى , وهي الحكومة تستلف النقود بمبالغ من الفائدة لا يمكن لِعَقْل
عاقلٍ تصديقها لو نُسِبَت إلى حكومة ما لو لم يَرَهَا بِعَيْنِهِ .
- وبعد أن صار للربويين بذلك سُلْطَةً على الأهلين وطمع في أموالهم ،
يفوقان سلطة الحكام وطمعهم .
- وبعد أن تعود كثير من الذين يسمونهم أكابر البلاد وأعيانها ، أو ذوات
الحكومة وأمراءها ، على أن ينالوا من الحكومة ما يشتهون في الوقت الذي يريدون
متى صادفوا مكانًا مِن رِضَى الخديو , أو بعض المقربين إليه , فكانوا يُسَخّرون
الأهالي في أعمالهم الخاصة , ويتصرفون فيهم كما يتصرف الراعي في ماشيته
بدون أن يراعي أحد منهم في ذلك نظامًا ولا عدلاً , ولا استبقاء منفعة من يوم إلى
آخر , وتعود الأهالي على الشكوى إلى الله وَحْدَهُ مِن ضِيق الحال , وخمود العزائم
وانطفاء مصابيح الرُّشْد في جميع الطبقات .
- وبعد أن صار كل واحد من الناس في خوف دائم , واضطراب لا يهدأ على
نفسه وما بيده ، إذا تكلم تَتَعْتَعَ في كلامِه ، وإذا قصد أمْرًا خَطَا إليه على هدى
يتلفت وراءَه خوفَ مفاجأته بما يكره .
- وبعد أن كانت الفاقةُ قد شملت جميع الطبقات الدنيا والوُسطى حتى خِيفَ
القحط العامّ لو استمرت الحكومة على سيرها الماضي سنة أخرى من الزمان .
- وبعد أن صارتْ عيون الناس بأسرهم شاخصةً إلى ما عساه ينزل من
السماء لِيَمُدهم بالمعونة على الخروج مما هم فيه .
هذه كانت حالة البلاد عندما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية فيها ،
هذه كانت شدائد مهلكة ، وظلمات حالكة ، يضلّ فيها الرشيد ، ويتعثر فيها العزم
الشديد . ا هـ المراد مما كتبه هناك .
وقد استطرد منه إلى بيان اعتقاد أهل مصر في حكامهم إلى ذلك العهد , ثم إلى
بيان ما أحدثه السيد جمال الدين من الانقلاب في الأفكار , وقد سبقت الإشارة إليه ،
وكان كل ذلك من مبادي الحوادث العرابية ومقدماتها ، وإن شئت قلتَ من عللها
وأسبابها ، فكل ما كتبه عن سوء حال البلاد في حكم إسماعيل لم يكتب على سبيل
القصد , ولم يرد منه الاستقصاء في بيان الحال ، فَضْلاً عن المبالغة في التقبيح
والتنفير ، فهل يُلاَمُ من له عقل يفكر ، وقلب يشعر ، إذا مقت ذلك الأمير ، وتمنى
لو يغتاله أحد من أولئك المظلومين المقهورين , أو استحسن تمني من تمنى ذلك ؟
* * *
( الشيخ محمد عبده وموقف حزبه بمصر )
وهناك مسألة أخرى عدها بعض الناس قدحًا من اللورد في الشيخ محمد عبده
وحزبه , وهي قوله فيهم : إنهم ( أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم , وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه ) [10] . والحق أن هذه العبارة لا ينتقد منها لفظها , فهي
مدح كتب في حال استياءٍ وامتعاضٍ , فجاء شبيهًا بالذم ؛ إذ توهم أنهم دون الفريقين
في علم أو فضل , ومعناها الحقيقي أن هؤلاء القوم وَسَطٌ بين طرفين مذمومين ؛
طَرَف المتشددين في المحافظة على الرسوم والتقاليد القديمة باسم الدين , وطرف
المتغالين في تقليد الإفرنج الذين أضاعوا دينهم وثروتهم في ذلك , وقد بالغ اللورد في
ذمهم . ولم يرد اللورد بهذه العبارة إلاَّ ما أوضحه في تقرير سنة 1905 من أن حزب
الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر , الذي يناط بنجاحه استقلال
هذه البلاد الاستقلال الحقيقي , فلا فَرْقَ بين عبارته في التقرير وعبارته في التاريخ
في بيان المراد إلاَّ أن إحداهما كتبت في حال رضى , فمثلت المعنى مضيئًا واضحًا ,
والثانية كُتِبَتْ في حال السَّخَطِ , فغشي المعنى غاشية من ظلمة الإيهام .
وقد زلَّ قَلَمُ اللورد بسوء تأثير وجدان السخط زلةً أشنعَ مِن هذه , لعله إذا
ذكرها يعرق من الخجل , وهي أنه ذكر في التقرير أن توفيق باشا صفح عن الشيخ
محمد عبده ( طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق ) [11] , وقال في كتاب
مصر الحديثة : إنه عفا عنه ( بما فطر من مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز
عليه في ذلك ) [12] , فزيادة انقياده لتشديد الإنكليز نقضت ما قبلها الموافق لِمَا ذكر
في التقرير , فإن العفو إذا كان عن انقياد لتشديد الإنكليز لا يكون عن حلم وكرم
خلق , وإلا فلا أثرَ لتشديد الإنكليز بل لم يكن هناك حاجةٌ إليه .
فاللورد جدير بأن يخجل من هذه العبارة إذا قابلها بعبارة تقريره في المسألة ؛
لأنها جعلت كلامه متناقضًا أو متعارضًا , وأبانت أن يحابي في المدح عند الرضى ,
فإنه جعلَ عَفْوَ توفيق باشا عن الشيخ محمد عبده عند رضاه عنهما معًا كَرَمًا وحلمًا
وكرم خلق , فلما سخط من الثاني جعل ذلك العفو ناشئًا عن تشديد من الإنكليز في
طلبه لا عن مجرد الطلب , فيُقال : إنه طلبٌ وافقَ حلمَ توفيق وكرم خلقه , وإنما
أراد اللورد بذلك أن يظهر فضله عليه ؛ ليثبت أنه أساء إلى مَنْ أحسنَ إليه ، بما
أظهر عن عيوب سياسة الاحتلال وإدارته لمستر بلنت . والمؤرخ المحابي متهم لا
يوثق بمدحه لمن يرضى عنه ، ولا بذمه لمن يسخط عليه ، على هذه القاعدة نقول :
إن ثناء اللورد على الشيخ محمد عبده في كتاب مصر الحديثة يعد بما فيه من الشوائب
منتهى الفضل , وشهادة اللورد به شهادة جديرة بالاعتبار والإيثار , وهو يلخص في
هذه الكلمات :
(1) أنه أحسن العمل في القضاء , وأدى الأمانة حقها .
(2) كان واسعَ الرأي .
(3) كان على علم ونباهة .
(4) كان عدوًّا للخديويين والباشوات غير الصالحين .
(5) كان وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكثر أمثاله .
(6) أنه أسس في مصر مدرسةً فكريةً .
(7) أن له في مصر حزبًا معتدلاً يجمع بين أصول الإسلام والمدنية .
(8) أن أتباعه هم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون الجديرون بمساعدته .
(9) أن له برجرامًا لجَعْل مصر مستقلةً استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا .
(10) أن تقدم أتباعه خير رجاء له في تنفيذ برجرامه هذا .
فَحَسْبُنَا من اللورد الشهادةُ بهذه العَشْرِ , ولا يضرنا معها ظنه أنه كان لا أدريًّا ،
ولا جزمه بأنه كان خياليًّا ، ولا إيهام عبارته أن حزبه الوسط دون كل من الطرفين
الذي هو وسط بينهما .
نعم كان حزب الشيخ محمد عبده معه , ولا يزال من بَعْدِه وسطًا بين
المحافظين الجامدين ، والمتفرنجين المقلدين ، ومنهم من هو أقرب إلى هؤلاء ومَن
هو أقرب إلى أولئك ، أمّا الشيخ نفسه فقد كان من آياته أن أذكياء كل فريق من
المتفرنجين والجامدين يجلّونه مع احتقار كل منهما للآخر . وقد عرَفَ أصحاب
المقطم والمقتطف من كنه هذه المزية ما لم يعرفه اللورد , أو صرحوا بما لم يصرح
هو به ؛ إذ قالوا في تأبينه بالمقطم ( ع4952 ) ما نصه [13] :
فأول مزية امتاز بها الفقيد أنه كان في مقدمة كل فريق من الفريقين اللذين
انقسم إليهما المصريون في هذا العصر ؛ فقد كان علمًا يهتدي بنور علمه فريق
المحافظين , الذين لا يروقهم غير ما جرى عليه المتقدمون كالعلماء والأئمة وطلبة
العلوم الدينية واللغوية ومن جرى مجراهم . وكان قائدًا للآراء ومدبّرًا للأفكار عند
الفريق الذي جعل شعاره التقدم والارتقاء من أبناء هذا العصر , الذين يرون أن
القديم لا يغني عن الحديث , وأن من لا يتقدم يتأخر , والسكون المطلق محال .
ونقول - ولا نخشى في الحق لومةَ لائم - : إن الفقيد فاق الأقران كلهم في هذه
المزية حتى انفرد فيها أو كاد , إلخ .
وكتبوا في الجزء الثامن من المجلد الثلاثين لمجلة المقتطف ما نصه [14] :
( وكان ذكي الفؤاد بالطبع , قوي الحُجة , حَسَنَ المحاضرة , لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , ولا يتهيب الكبراء والعظماء لمجرد ما هم أو ما أدركوه من رفعة
المقام ؛ فاستطاع أن يكون عَلَمًا يهتدي بنور علمه المحافظون الذين لا يروقهم إلاَّ ما
جرى عليه المتقدمون كأكثر العلماء وطلبة العلوم الدينية واللغوية ومن جرى
مجراهم ؛ لأنه كان على ثقة فيهم - وعضدًا قويًّا لأبناء هذا العصر الذين استناروا
بالعلوم الحديثة والآراء الجديدة ، ومرشدًا صادقًا للذين يطلبون الاستنارة بها
والسير في سبيلها ) , إلخ .
هذا رأي أصحاب المقطم والمقتطف سقناه إلى اللورد ؛ لأن مثبتيه غير
متهمين عند اللورد بقلة المعرفة , ولا بالتشيع للشيخ محمد عبده .
وإذا أراد اللورد أن يعرف مكان الأستاذ الإمام من نفوس أرقى الطائفتين
( المحافظين والمتفرنجين ) فَلْيَقْرَأْ ما أَبَّنَهُ به الشيخ أحمد أبو خطوة أرقى الأزهريين
علمًا وفهمًا , و قاسم بك أمين أرقى المتعلمين في أوربا , واللورد يشهد بنبوغه وقد
أثنى عليه في خطبته التي ودّع بها مصر ذلك الوداع المشهور .
قال القاضي الشرعي الشيخ أبو خطوة في ابتداء كلامه : ( اجتمعنا اليوم هنا
حوالي هذا القبر المجلل الموقر الذي انتهى إليه أمر الإمام الكبير الأستاذ الشيخ محمد
عبده ) إلخ , ثم فصل إصلاحه للأزهر وللمحاكم الشرعية تفصيلاً .
وقال القاضي الأهلي قاسم بك في ابتداء كلامه : ( مهما قَلَّبْنَا النظرَ , ودققنا
في البحث والتفتيش فلا نجد في أمتنا من يعوض علينا ما خسرناه بفقد أستاذنا الشيخ
محمد عبده ) وقال : إنه ( وصل إلى أسمى مقام يمكن أن يناله إنسان في هذه الحياة
...... مقام الإمامة بأوسع معناها تركه الشيخ محمد عبده , ولا يوجد في مصر واحد
يجرأ على أن يدعي فيه استحقاقًا بعده ) ثم قال :
( سادتي : إن كل نفس بشرية لها نصيب من الجمال والقبح ، والجمال
المطلق لا يوجد في هذا العالَم , ولكن بعض النفوس الممتازة تقرب من الكمال أكثر
من غيرها , فتنمو زهرة الجمال فيها نموًّا عجيبًا , وتتكاثر فروعها ، وتمتدّ طولاً
وعرضًا , ولا تترك محلاً لسواها فيضعف ويذبل كل نبات خبيث بجانبها . ومن هذا
القسم الممتاز كانت نفس إمامنا العزيز . نفس خلقت على أحسن شكل زينها
صاحبها بالفضائل حتى صارت مثالاً في الجمال , يجب أن نضعه دائمًا أمامنا لِنعلمَ
منه ) كذا وكذا , وذكر بعض مزايا الإمام , ثم قال :
( ونتعلم منها أيضًا مبلغَ ارتقاء الخلق في إنسان أجهد نفسَه ورباها حتى
أرسلها إلى أقصى ما تصل إليه نفس بشرية من الجمال والكمال ) .
وبهذا نكتفي في هذه المسألة التي يعرف منها طريق اللورد في الكلام عن
رجالنا , وننتقل منها إلى المقصد الأهم وهو كلامه في الإسلام والمسلمين , فنقول .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ص364 من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام .
(2) ص329 منه .
(3) راجع ص95 من الجزء الماضي .
(4) راجع ص94 من الجزء الماضي .
(5) تقدمت الإشارة إلى هذه اللائحة .
(6) جاء ذلك في بعض أعداد سنة1905 منها - راجع ص228 من مجلد المنار العاشر .
(7) راجع صفحة 94 من الجزء الماضي .
(8) راجع ص96 من الجزء الماضي .
(9) ذكر ذلك في ص355 من جزء المقتطف الرابع الصادر في إبريل الماضي .
(10) راجع ص95 من الجزء الماضي .
(11) راجع ص90 من الجزء الماضي .
(12) ص95 .
(13) ص45 من الجزء الثالث من تاريخ الأستاذ الإمام .
(14) ص103 من ج3 من التاريخ المذكور .​
(11/185)
 
جمادى الأولى - 1326هـ
يونيه - 1908م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

المسلمون والقبط

سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم
أفراد أرقى من القبط في كل علم , وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي
أرقى من المسلمين , فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في
مصالحهم العامة من حيث هم قبط ، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح . وهذا ما
حمدتهم وأحمدهم عليه , وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله , وإن كنت أعلم أنه لو
أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية لَمَا وجدوا في
القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا , ويجعل عنان خطابته ( مصريون قبل
كل شيء ) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوروبا , ويقول الجميع : إن المسلمين في
مصر يُحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية , ويدعون إلى ارتباط بعضهم
ببعض لمقاومة النصارى في مصر , بل في جميع الأرض .
لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة
المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط , ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية
أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط - حتى قام بعض الكتاب
من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين
المسلمين , وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم ,
فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم , فلم يقنعهم ذلك , بل تَمَادَوْا في الكتابة
حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد , وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ ,
وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني , فكتب الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس
تحرير جريدة اللواء قولاً ثقيلاً في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم , وهزى
بهم ، وافتخر عليهم , فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة . [1]
قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان
الكثيرة في مقابلة صاعه , بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم : إن المسلمين يريدون
بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر , وإنه يجب عليهم أن
يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون
المتعصبون , أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم , والهجرة إلى بلاد أخرى
يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين , ثم هم يطلبون أيضًا معاقبة الشيخ عبد
العزيز شاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم , وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء
المسلمين ، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة , ويكتتبون بالأموال لها .
من علم أن القبط في القطر نحو نصف مليون في نحو أَحَدَ عَشَرَ مليونًا مِن
المسلمين - وأنّ العمال والمستخدمين منهم في الحكومة أكثر من المسلمين - وأنّ
المسلمين قاموا منذ سنين يدعون إلى الرابطة الوطنية , فكان لهذه الدعوة من التأثير
في نفوس القارئين والسامعين ، والأساتذة والمتعلمين أن صار يفضل كثير منهم
القبطي على المسلم الشامي والحجازي ... ، بل سمعت غير واحد من المعلمين
والمتعلمين يقول : لا فَرْقَ عندي بين أن يكون أمير البلاد مسلمًا أو قبطيًّا - وأن
المسلمين جعلوا أحزابهم وأنديتهم شُرعًا بينهم وبين القبط - وأن القبط يتعصب
بعضهم لبعض في كل مصلحة وكل عمل حتى في القضاء - وأن المسلمين على
شدتهم في انتقاد حكامهم قَلَّمَا ينتقدون القبط ؛ فهم ينتقدون وزير المعارف المسلم على
إحسانه في عمله بحُجّة أنه لم يكن فيه مرغمًا للإنكليز ولا معاندًا لهم , أو أنه يجب
عليه أن يعمل أكثر مما عمل , ولا ينتقدون وزير الخارجية القبطي الذي هو ألصق
بالمحتلين وبالاتفاق معه سلخ لورد كرومر السودان من ملك الدولة العَلِيّة وملكه
للإنكليز , وكان رئيس محكمة دنشواي التي ظلت الجرائد الإسلامية تعير وتسب
العضو المسلم فيها , ولم تذكر رئيسها بسوء - من علم هذا وأمثاله يتعجب أشد
التعجب لهذه الثورة المعنوية التي أثارتها القبط في الوقت الذي يبالغ فيه المسلمون
في موادتهم وتوثيق عُرَى الإخاء بينهم وبينهم . حقًّا , إن في الأمْر مثارًا للعَجَب ،
قَلَّمَا رَأَيْنَا من بحث في حقيقة السبب .
يقول بعض الناس تبعًا لبعض الجرائد : إن قطبي الرَّحَى لهذه الحركة أُخْنُوخ
أفندي فانوس رئيس جمعية الرابطة المسيحية ، ومجمع الإصلاح القبطي ،
وصاحب جريدة مصر اللذان يسعى كل منهما لجعل ولده مديرًا , فهما اللذان أَيْقَظَا
هذه الفتنةَ لحظ شخصي , فكانت فتنة جنسية أو طائفية باتباع الجمهور لهما .
ومن رأيي أنهما بريئان من هذه التهمة , ولو كان ذلك هفوة لهما لَمَا خفي على
جمهور طائفتهما الحازمة اليقظة ، بل يغلب على ظنّي أن هذه الطائفة تجل عن أن
تتوسل إلى تقرير جعل المديرين منها بهذه الوسيلة ؛ لأن ربح مدير لا يوازي خسارة
مودة المسلمين لهم ، ودعوتهم إلى مساواتهم ومؤاخاتهم - هذه الخسارة التي
تعرضوا لها الآن بمنتهى ما عندهم من الجرأة والإقدام .
والراجح عندي أن القوم شعروا بالتغير الجديد في السياسة , وعلم بعض
كبرائهم بالنبأ الذي نشرناه في الجزء الماضي قبل أن نعلم به - وهو عزم الإنكليز
على السماح لأمير البلاد بإنشاء مجلس نيابي - ومن البديهي أن جمهور القبط لا
يرغبون في أن يكون في مصر مجلس نيابي , ولا أن يقلل المحتلون من سيطرتهم
على البلاد . فلما علموا بذلك رَأَوْا أنه لا سبيلَ إلى تحويل الإنكليز عن هذه السياسة
الجديدة إلا بإقناع أُمّتهم بانفجار بركان تعصب المسلمين على القبط ، وسائر
المسيحيين ؛ ليقولوا : إن هؤلاء إذا جُعِلَ لهم رأي نافذ في سلطة بلادهم
يهضمون وهم الاكثرون حقوق الأقلين . وإنني لمعظم لقدرهم بهذا الظن ,
ومعتقد فيهم الحزم والتكاتف , وإن ترجح عندي أنهم ربما أخطئوا في اجتهادهم ،
وجاء الأمر على خلاف مرادهم ، وحينئذ يكون شرّ هذه الحركة أكثر من خيرها ،
وإثمها أكبر من نفعها .
سمعنا غير واحد من أهل الفهم والرأي يقولون : إن تعصب القبط بعضهم
لبعض , وتعاونهم على مصالحهم المِلِّيَّةِ يُعَدُّ مِن الأمور الطبيعية في الاجتماع , فإن
الفئة القليلة إذا لم تعتصم بعروة التعصب فإنها تذوب وتفنى في الأُمّة الكبيرة التي
تعيش معها ، فالقبط معذورون في سيرتهم التي هم عليها ؛ لأنها طبيعية لا بُدَّ منها .
ونقول : نعم , إن ذلك طبيعيّ وبديهيّ , ولكن ما كان كذلك يجب الاعتراف به ،
ويستنكر جحوده فما بالك بادعاء ضده . ثم إنه ليس من الطبيعي البديهي أن تكون
الفئة القليلة في الأمة الكبيرة مهاجمة في جهادها الاجتماعي , فتطلب ما تبغي
بالطريقة التي جرت عليها القبط في هذه الأيام إلا إذا كان لها حدث جديد ، أو أوت
إلى ركن شديد .
يعبرون عن أنفسهم في مقام مطالبة المسلمين بما يطلبون بالأمة القبطية ,
وُيدلون بأنهم أصحاب البلاد ؛ لأنهم سلالة فرعون ذي الأوتاد ، ويجهرون بأن
المسلم فيها أجنبي محتلّ ، وأتاويّ معتدٍ ، وينكرون على المسلمين أن يكون لهم فيها
حق مِنْ حيثُ هم مسلمون فاتحون ، ولا ينكرون على أنفسهم أن يَدّعوا الحقوق فيها
من حيث هم قبط مسيحيون ، وهم في الحقيقة رعايا ذِمِّيُّونَ ، فما هو الحدث الجديد
الذي أنطقهم بهذا اللسان ؟ وما هو الركن الشديد الذي يأوون إليه الآن ؟
لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد ,
وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه
مسئولية إدارتها . ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية
عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني - فهذا ما رأوه من
موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم ؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز شاويش
- وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ - برهانًا على أن في مصر تعصبًا
إسلاميًّا , لا يلبث أن ينفجر بركانُه , فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت
مقذوفاته النارية .
وقد طلبوا من الحزب الوطني أن يتبرأ من هذا القول , ففعل , ومن العجب
أنهم لم يرضوا ، ويقال : إنه قد تجددتْ لهم صلةٌ وديةٌ برئيس أساقفة الكنيسة
الإنكليزية ، وإنه رغب إليهم في الرجوع إليه ، والتعويل في رغائبهم عليه .
ولكن فاتهم على حذقهم أن السياسة ( لا سِيَّمَا الإنكليزية منها ) إذا قررت أمرًا
أنفذته لا محالة لا يصدها عنه مراعاة فئة صغيرة ولا كبيرة ، ولا مسألة اختراعية
كمسألة التعصب الإسلامي ، أو حقيقية كإزالة السلطة الشخصية وحماية الحرية
القومية ، فنبشرهم بأن السياسة الجديدة التي بينها المنار في الجزء الماضي واقعة ما
لها من دافع . وأمر مجلس النواب في هذه البلاد صار موكولاً إلى إرادة أميرها
باختيار المحتلين ورضاهم أو كاد .
فإنْ نجحت الحركة القبطية فقصارى نجاحها أن تكون سببًا في تأخيره عامًا أو
أكثر وما ذلك بالربح الكثير في جنب ما يخسرون من مودة المسلمين بما اشتملت عليه
مقالاتهم من التّهكم بمجد الإسلام الأول , والشماتة بزواله كالتعبير عنه ( بالعظمة
البالية ) ورمي المسلمين السابقين بظلمهم وظلم غيرهم ، واللاحقين بالتعصب
عليهم وعلى أهل دينهم ، وبمطالبة جميع كُبَراء المسلمين وكتابهم بأن يعتذروا لهم
عن مقال الشيخ عبد العزيز , وإنْ كانوا هم البادئين بالعدوان , وقد أصروا
عليه بجعل ذنب الشيخ عبد العزيز ذنبًا لجمهور المسلمين ، وبالسعي في جمع
كلمة نصارى السوريين والروم والأرمن إليهم ؛ لمقاومة المسلمين كما روي لنا ،
ويؤيده ما يكتبون في الجرائد ، وبترجمة الأقوال السيئة التي يكتبونها ، ويكتبها
الآخرون باللغات الأوربية ، لإيهام أوربا أن في البلاد تعصبًا ربما يفضي إلى ثورة
دينية .
أول خسارة خسروها بهذه المغاضبة هي اعتقاد المسلمين أن دعوة الوطنية
التي قاموا بها في هذه السنين قد كانت خسارًا عليهم ، وربحًا للقبط وحدهم . فإن دعاة
هذه الوطنية من المسلمين كانوا يبغون بها أن يتحدوا بالقبط , ويتعاونوا معهم على
مقاومة السلطة الأجنبية ؛ ولذلك رضوا بأن يساووهم ويؤاخوهم مع العلم بأن
الحكومة في صفتها الرسمية إسلامية تابعة لخليفة المسلمين باتفاق الدول ، بل غضوا
النظر في الغالب عن رجحانهم عليهم لهذا الغرض . فتبين لهم أن القبط لا يرضون
بهذا الاتحاد من كل وجه , بل يستفيدون منه ويحولون دون استفادة المسلمين شيئًا
منهم ، حتى نفي التعصب عنهم ، ثم يبنون أعمالهم كلها على أنهم أُمّة ممتازة لا
عضو في جسم الأمة المصرية أو الشعب المصري - وأنهم لا يرضون بمقاومة
الأجنبي ولا يودون استقلال البلاد دونه - وأنهم إذا وجدوا فرصة لمواثبة المسلمين
واثبوهم من أضعف جانب فيهم , كنبزهم بلقب التعصب ومعاداة النصارى في هذه
الأيام . فإذا كانت نتيجة دعوة المسلمين إلى الوطنية المصرية بلسان جرائدهم
وخطبائهم وأحزابهم وعد القبطي أخًا له ، والمسلم غير المصري ( دخيلاً ) فيهم ، أن
تقوم عليهم جرائد القبط وجمعياتها الدينية ، وأنديتها القومية ، ترميهم بالغلو في
التعصب والتواطؤ على إبادة النصارى , فأي فائدة لهم في هذه الوطنية ؟ بل أي
غائلة شر عليهم منها ؟ .
أقول : إن في هذا خسارًا للقبط ؛ لأنه ربما يغري المسلمين بمناظرتهم ,
والتشبه بهم في جمعياتهم الدينية , وترجيحهم لأبناء مِلَّتِهِمْ في جميع الأعمال
والمصالح . وإذا دبّ في المسلمين الشعور بوجوب ترجيح المسلم على القبطي كما
تفعل القبط فإن ذلك يثمر حرمان ألوف من القبط من موارد الرزق السائغة في دوائر
المسلمين الخاصة ، بل ربما يعوزهم معه - إذا تمادى وعظم - القيام باستغلال أرضهم
كما يستغلونها الآن بمساعدة المسلمين . دَعْ عَنْكَ مصالح الحكومة التي أكثر عمالها
من القبط , ولولا تساهل المسلمين ، وعدم عنايتهم بالمسابقة والمناظرة , لَكَان الأمر
على غير ما هو عليه الآن .
وناهيك بالخسارة المعنوية التي هي عند أهل الآداب العالية شرّ من خسارة
المال , وهي ما يخشى أن يكون من التقاطع والتدابر بين العُشَرَاء والخُلَطَاء
والجِيرَان والأصدقاء .
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم
في الشكوى من المسلمين , والقول بتعصبهم ولا من سرور بعض الإنكليز به - إنْ
كان ما قِيلَ من ذلك حقًّا - فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين فهو لا
يكون خلفًا صالحًا لمودّتهم فيما أرى . فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا , ويعتذروا
عنه ، ويعودوا إلى سابق شأنهم , أو إلى خير منه إِنِ اسْتَطَاعوا ، والمسلمون تغلب
عليهم سلامةُ القلب فلا يلبثون أن يغفروا لهم ، وينسوا ما كان منهم ، ففي حديث
أبي هريرة عند أبي داود والترمذي : ( المؤمن غِرٌّ كَرِيمٌ ) أي : ليس بِذِي نكر ولا
مكر ولا خداع . ولولا أنني أحب الوفاق لَمَا نصحت لهم بهذا , فإنني أعلمُ أنّ هذه
المشاقة لا تَزِيد المسلمين إلا قوةً في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها ، وحفظًا
لحقوقهم التي أَغَار عليها ، ولكنني أفضل أن يكونَ تنبيههم لذلك بغير هذا ،
أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ، ولا يتفرقوا , وأن يكونوا مع ذلك على وفاق
ووئام مع من يعيش معهم .
وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرَّدِّ على القبط - ولو لم يكتبوا في
الماضي ما كتبوا لَكَان خيرًا لهم وأحسن إطفاءً لِتِلْكَ الفتنة وخذلانًا لموقظيها - ولكن
لا بأْسَ ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية , وذكر الوقائع في تعصب بعضهم
لبعض ، وتعاونهم المِلِّيّ المَحْض مِن باب بيان الحقيقة والاعتبار بها بشرط أن
يتحرى الصحيح ، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب والتجريح فضلاً عن
الهجر والتقبيح .
ومما يحسن البحث فيه أيضًا بيان أن القبط لا يمتازون بحق رسمي على
غيرهم من النصارى المتجنسين بالجنسية المصرية من السوريين والأرمن والروم ,
ومن اليهود أيضًا ، وإنما ميزهم المسلمون في مقالاتهم وخطبهم التي يجعلون فيها
المصريين عنصرين فقط , ويعدون القبط إخوانهم دون غيرهم من الذين جعلوا
مصر وطنًا لهم , ويعدهم القانون المصري مصريين ؛ لولادتهم بمصر ، أو لإقامتهم
فيها 15 سنةً أو أكثر ، فالنسب القديم ليس شرطًا للوطنية ولا للجنسية عند أحد من
الأمم ولا في شيء من قوانينها . فإذا كان من الحق مطالبة القبطي بأن يكون مديرًا
كان من الحق أن يكون السوري الذي تجنس بالجنسية المصرية مديرًا ووزيرًا ،
فالحق أنه لا فرق بين ابن أخنوخ أفندي فانوس ، وابن يعقوب أفندي صروف ،
فالوطنية الحقيقية هي المساواة بين جميع العناصر التي تقيم في البلاد وتحكم
بقوانينها . إلا أن يكون للطائفة الحاكمة بعض المزايا في القوانين العامة وطبيعة
الحكومة .
فمما يبحث فيه هنا طبيعة الحكومة المصرية ودينها الرسمي , فإذا كانت لا
تزال حكومة إسلامية خلافًا لما يقول بعض القبط علم أن طلب هذه الطائفة مساواة
المسلمين في كل شيء في غير محله . وإذا كانت قد خرجت عن كونها إسلامية
وعن كون أميرها وكيلاً لخليفة المسلمين فيجب البحث في تعيينه للقضاة الشرعيين ،
ولإدارته لأوقاف المسلمين ، ولتعيينه للخطباء وأئمة المساجد ونحو ذلك من
المسائل الشرعية , هل هي مع ذلك حقوق شرعية له أم هو لا يملكها الآن إلا
بالتغلب والقوة المستمدة من القبط وغيرهم دون ولاية الشرع ؛ لأن البلاد خرجت
عن كونها دار إسلام ؟ ؟ يهم المسلمين جدًّا أن يعرفوا ذلك ؛ لأنه يترتب عليه أحكام
شرعية كثيرة منها ما هو ديني محض , وما هو مدني شرعي .
تسمي القبط ما تطلبه الآن مساواة بالمسلمين وهو مساواة من وجه , وامتياز
عليهم من وجه آخر . فإذا كانت حكومة مصر غير إسلامية , وكان المسلمون فيها لا
يمتازون بشيء قط فلماذا تكون أمورهم المِلِّيَّة الخاصّة كالمحاكم الشرعية ,
والأوقاف والمدارس الدينية تحت سلطة الحكومة المشتركة , وتكون أمور القبط
المِلِّيَّة وأوقافها في أيديها ؟ أليس يكون هذا من امتياز القبط على المسلمين ؟
يغلب على ظني أن زعماء الحركة القبطية إذا فكروا في الأمر من جميع
وجوهه فإنهم يفضلون السكون والسكوت على التمادي في هذا العدو والصياح إلا
أن يكون الركن الشديد الذي يأوون إليه قد ضمن لهم أن يكونوا هم الرابحين
بمشاقتهم للمسلمين , وإثارتهم لسخطهم ، وتعرضهم لمقاومتهم .
لولا أنني أظن صدق الخبر الذي أوردته في الجزء الذي قبل هذا عن السياسة
الإنكليزية الجديدة بمصر لَغَلب على ظني أن الركن الذي تأوي إليه القبط في هجتهم
هذه هي السر ألدن غورست نفسه والوزارة الإنكليزية من ورائه , أما وأنا مصدق
لذلك الخبر فلا يبعد عندي أن يكون ركنهم بعض المحافظين من الإنكليز ورئيس
أساقفة كنيستهم ( كنتربري ) , وإلا كانت القبط طائفةً حمقاء , وما عهدتها إلا طائفة
كياسة وروية ، وحزم وتدبر ، وستزيل لنا الأيام بين الحقائق والأوهام .
فإذا فازت القبط في سعيها فامتنع الإنكليز عن السماح للأمير بإنشاء المجلس
النيابي , وتقرر بالفعل أنه لا فرْقَ بينهم وبين المسلمين في الحكومة - وما ذلك
بمحال - فإنني أشهد للقبط بأنها أرقى طوائف الشرق الأدنى في السياسة والاجتماع ,
وجميع مقومات الحياة المِلِّيَّة لا أقرن بها تركيًّا ولا عربيًّا سوريًّا , ولا غير سوري
ولا أرمنيًّا بل ولا يهوديًّا . ويتبع هذه الشهادة أنها تكون أحقّ في الواقع ونفس الأمر
بالحكم في البلاد ، وتُعذر في التشوّف إلى الاستقلال ، وتكون مصيبة في تسمية
نفسها ( أمة ) ، وحقيقة بأن تكون في المستقبل ذات دولة ، ويقال : إنها تطمع في
ذلك , فإن صحّ ما قيل كان برهانًا على عُلُوّ همّتها ، وثقتها بنفسها في وحدتها .
وخلاصة القول أن طائفة القبط قامت تطلب مطالبَ لنفسها مِن حيثُ هي أمة
ومن حيث هي صاحبة الحق في حكم البلاد , وظهر أنها فيه متكافلة متضامنة
متحدة , فناقشها أفراد من المسلمين بصفتهم الشخصية لا باسم حزب من الأحزاب ,
ولا جمعية من الجمعيات , ووافقها بعض آخر كما وافقتها الأحزاب , وهي مع ذلك
تنسب مناقشة الفرد إلى الحزب أو إلى الأمة .
وقد استعمل بعض الكاتبين من الفريقين الهُجر والسباب ، والتنابز بالألقاب ،
فكانوا فيه سواءً ، إلا ما هو من صناعة البلغاء ، ولكن القبط تطلب أن يعتذر لها
الجميع عن الأفراد ، وهي لا تعتذر للجميع عما تقول بلسان الجميع ، فإذا قلنا : إن
الفريقين قد تعادلا في الإهانة فتساقطا ، فليس لأحد حق في ذلك على آخر
بقي معنا أنه ليس في البلاد وطنية حقيقية ، وأنه لا يزال يغلب على الفريقين نزعة
الرابطة الدينية ( وإن تنصل من ذلك كل منهما ) وأن هذه الحركة أضعفت ما قام
بعض الأحزاب والأفراد من الدعوة إلى المساواة والاتحاد ، وأن القبط أعرق في
النزعة المِلِّيَّة ، وأبعد عن حقيقة الوطنية ؛ إذ من مقتضى الوطنية أن لا يطلبوا
لأنفسهم شيئًا مِن حيثُ هم قبط, وأن لا يسموا أنفسهم أُمّة ، وأن لا يتعصبَ بعضُهم
لبعض في المصالح والأعمال ، كما يعرف كل أحد منهم الآن ، وأن يرضوا بما
تختاره الحكومة من التدريج في نقل البلاد من حال إلى حال ، أو يكتفوا ببث
رغائبهم إلى وزيرهم الناصح لهم ، الغَيُور عليهم ، المتفاني في ترقيتهم ، وهو لا يدع
فرصة يتمكن فيها من إعطائهم حقًّا جديدًا إلا وينتهزها انتهازًا ، ويجعلها سيفًا في يده
لا عكّازًا .
وإذا كان الأمر كذلك في الوطنية ، وفي هذه الحركة القبطية ، فما هو تأثيره
في رَغِيبة المسلمين , وهي المجلس النيابي ، وفي رغيبة القبط , وهي نيل ما بقي من
أعمال الحكومة بين الوزارة والقضاء ، كالمديرية ومأمورية المركز ؟ .
أمّا الأول , فمِن الجَلِيّ الواضح أن ضعف الوطنية لا يقتضي أن تبقى
حكومة البلاد استبدادية ؛ لأن حكومة الشورى أبعد من الحكومة الشخصية المطلقة
عن الظلم غالبًا ؛ ولذلك فرح مسلمو روسيا بإنشاء مجلس النواب ( الدوما ) في
حكومتهم على قِلّتهم في جانب الروس المشهورين بالتعصب . على أنه إذا فرض أن
الحكومة الشخصية المطلقة خير للقبط من جهة التمتع بالوظائف فإن ذلك الحظّ
الذي يصيب أفرادًا مِن فِئَةٍ قليلة في الأمة الكبيرة لا يصلح مرجحًا لعدم ترقية
حكومتها ؛ لأن ذلك ترجيح للأفراد القلائل على الجمهور الكبير ، فهو من قبيل
ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة .
وأما الثاني , فإذا فرضنا أن حكومة مصر خرجت عن كونها إسلاميةً , والبلاد
عن كونها دارَ إسلامٍ فمن السياسة والحكمة في الإدارة أن لا يكونَ القبطي الآن
مديرًا في مديرية فيها مِئات الألوف من المسلمين , وليس فيها إلا آحاد الألوف أو
الْمِئِين من القبط , وأن ينتظر في ذلك تكوُّن الوطنية الحقيقية التي تمتزج فيها
جميع العناصر المصرية ، فلا ينزع أحد منها إلى الامتياز بجنسه ونسبه ، ولا بدينه
ومذهبه ، فإن استعجلنا فجعلنا القبط مديرين لأمور المسلمين ، والحال على ما نعلم
منهما أو ما يدعي كل منهما - فإننا نكون قد أثرنا العدوان ، وأرَّثنا الأضغان ،
ووضعنا في طريق الوطنية سدًّا لا يدك ولا يظْهَر ، وعقبة لا تزول ولا تقتحم ، أو
قدمنا النتيجة على المقدمات ، وطلبنا الثمرةَ قبل خروج الشجرة .
فالمعقول إذًا أن تكون حركة القبط الجديدة مبعدةً لهم عن مطلبهم الظاهر ،
ولكن ربما لا تكون مبعدةً عن غرضهم الباطن ، والله أعلمُ بالسرائر ، وإنما نحن
نحكم بالظواهر ، وهذا ما رآه الكاتب فيه من الصواب ، فإنْ تبيَّنَ له أنه مُخطئ فيه
بادَرَ إلى المَتَاب ، واسْتَغْفَرَ ربَّه , وخَرَّ راكعًا وأَنَابَ .
__________
(1) مما كتبوه من التحرش باللواء والحزب الوطني قبل مقالة الشيخ عبد العزيز التي جعلوها تُكَأَتَهم في إثبات ذلك الخطر المزعوم من تعصب المسلمين على النصارى ما جاء في العدد 3698 من جريدة مصر الصادر في 9 يونيو الماضي , وهذا نصه :
اللواء والأقباط
( إننا بالنيابة عن جميع الأقباط في كافة أنحاء القطر نقابل ما جاء بصحيفة اللواء أمس من الوقاحة والسفاهة بالازدراء والاحتقار ؛ فإنه إذا بلغ المرْء مبلغ اللواء من قلة الأدب والحياء نحو شعور أمة برمتها لم يجد من الناس من يصغى إلى قوله ، أو يلتفت إلى وقاحته , بل ينبذ نبذ النواة , ويترك ينبح نبح الكلاب , وليس من يسمع له قولاً ) ، ثم استشهدت جريدة مصر على أن القبط كلهم على هذا الرأي بالتلغرافات الكثيرة لما تكتبه وعبرت عنه بقولها : ( في خدمة الوطنية والحق اللذين خلق ( أي: اللواء ) لهما عدوًّا ليخزى هو وأتباعه ( أي : الحزب الوطني وسائر محبي اللواء) إذا كان من القوم المدركين ) ولم يكن اللواء كتب شيئًا بلسان الحزب الوطني ولا بلسانه .
(11/338
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

جمادى الأولى - 1326هـ
يونيه - 1908م​

الرد على كتاب لورد كرومر
( 3 )

صاحب الحق لا يسكت عنه وإن طال عليه الأمد ، وإننا سننشر في المنار
بعض ما نكتبه في دفع هجمات اللورد فيما كتبه عن الإسلام ونودع جميع ما نكتبه
في مصنف خاص ونعتمد في أقواله على ترجمة المؤيد ( مع تنقيح ما في العبارة )
فنبدأ بعبارته ، ثم نقسم القول ، ونرد على كل قسم منه بالتفصيل .
القسم الثاني
( كلامه في الإسلام والمسلمين )
قال اللورد في سياق الكلام في المقابلة بين الإنكليزي والمصري ما ترجمته :
قلت فيما تقدم : إن التقاليد الدينية هي من جملة الموانع الكائنة بين الإنكليزي
والمصري ، فإن الإنكليزي على كونه أحد أفراد العائلة الأوربية من جهة التمدّن
العمومي . يحاول أكثر من كل أوربي آخر أن يصل إلى أسمى درجات الرقي من
التمدن المسيحي , أي : إنه يحاول أن يدخل نظام آداب مسيحي صريح ( في المعاملة)
ويجعله قاعدة للعلاقات بين الرجل والآخر . يحمله على ذلك تلك المبادئ القديمة
التي جاءته من أسلافه ، والدم البيوريتاني الذي لا يزال يجري في عروقه .
ومن الجهة الأخرى نرى المصري متمسكًا كثيرًا بدين الإسلام , وهو التوحيد
الشريف الذي ينوب فيه الإيمان إلى درجة قصوى عن الوطنية في البلدان الشرقية ،
وهو وسيلة للاتحاد العام بين جميع المسلمين من دلهي إلى فارس , ومن الآستانة
إلى زنجبار ؛ إذ يتحولون للصلاة نحو منبع دينهم وهو قبلتهم .
فما هي القواعد الأساسية لهذا الدين الذي أثر تأثيرًا عظيمًا في الجنس البشري ؟
إنها مبينة في القرآن الشريف , وقد شرحها العلماء من جميع الأمم بلغات كثيرة ,
ولكن عظمتها الأصلية وسهولتها لم يبينا بأكثر بلاغة مما بينها به أتباع النبي الأولين
الذين انطرحوا عند قدمي ملك الحبشة المسيحي يطلبون حمايته له من اعتداء
عرب قريش ؛ إذ قالوا : أيها الملك , كنا قومًا أهلَ جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل
الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار , ويأكل القويُّ منا
الضعيفَ , فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى مَن قَبْلَنا ,
وذلك الرسول منا نعرف نسبَه , وصِدْقَه , وأمانته , وعفافه , فدعانا إلى الله تعالى
لِنعبدَه ونوحدَه ونخلعَ ( أي : نترك ) ما كان يعبدُ آباؤنا مِن دونِه مِن الأحجار
والأوثان , وأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه ، أمَرَنَا بالصلاة والزكاة والصيام ، وأمرنا بصدق
الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الأرحام , وحسن الجوار , والكَفّ عن المحارم
والدماء , ونهانا عن الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقَذْف المحصنة ،
فصدَّقْناه , وآمنا به , واتبعناه على ما جاء به .
هذه هي قواعد الدين الإسلامي ، إن العمل بهذه القواعد قد أفاد مِئات الملايين
من الذين اعتنقوا الإسلام - وخصوصًا الفقراء بينهم - عزاء روحيًّا فضلاً عن النعم
المادية من خيرات هذا العالم وأمل الخلود في العالم الآتي ، ولا ريْبَ أن الهيئة
الاجتماعية الأصلية تستفيد كثيرًا من اعتناق الدين الإسلامي ، وقد قال السير جون
سيلي عما عرفه بقوله : ( قوة الدين التي تنشئ الممالك ) ما يأتي :
( أينما وجدت قبيلة بربرية قد رفعت نفسها يومًا ما حتى ارتقت عن حالها
الهمجية , ونالت بعض التقدم تجد أنها فعلت ذلك عادة بواسطة اعتناقها الدين
الإسلامي ) . ا هـ
ولسوء الحظ نرى أن المصلح العربي العظيم الذي قام في القرن السابع ( يريد
به محمدًا صلى الله عليه وسلم ) قد اضطرته دواعي مركزه يومئذ إلى القيام بأكثر
من تأسيس دين ، إنه حاول أن يوجد نظامًا اجتماعيًّا ، فكانت النتائج لهذا النظام هي
التي وصفها المستر ستانلي لاين بول - وهو الرجل الذي راقب مراقبةً دقيقةً ما في
الإسلام من وجوه القوة والضعف - إذ قال : ( إن الإسلام عظيم من حيث كونه دينًا ،
وقد علم الناس أن يعبدوا إلهًا واحدًا عبادة طاهرة ، وقد كانوا مِن قبلُ يعبدون آلهةً
كثيرةً عبادةً غيرَ طاهرة ، ولكن الإسلام أخفق إخفاقًا كاملاً بصفته نظامًا اجتماعيًّا ) .
قال لورد كرومر : إنّ الأسباب التي أوجبتْ فشلَ الإسلام من حيثُ هو نظامٌ
اجتماعي متعددة .
( أولها ) وأعظمها مكانةً أن الإسلام يجعل المرأةَ في مركز منحطّ جِدًّا .
( ثانيها ) أن الإسلام بمراعاته التقاليد المحيطة بالقرآن أكثر من القرآن نفسه
جمع بين الدين والشرع ، فجعلهما جزءًا واحدًا غيرَ قابِل للتفريق أو التغيير , فنتج
عن ذلك أن تلاشى من النظام الاجتماعي ما فيه من المرونة . فإن المصري حتّى
الآن إذا لجأ إلى الشرع في أمور الوصاية فإن قضيته يحكم بها بمقتضى المبادئ
الضيقة , التي وضعت لما يوافق أحوال الهيئة الاجتماعية الأولى في شبه جزيرة
العرب في القرن السابع .
ومنذ سنوات قليلة أي : سنة 1890 أوضح مُفتي الديار المصرية الأكبر كيف
تعاقب عصابات اللصوص التي يثبت ارتكابها لجريمة الاعتداء بالسلاح ليلاً على
إحدى القرى , فقال : إنه يمكن أن يعاقب المجرم على سِتّة وُجُوهٍ مختلفة : فإما أن
تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى , ثم يقطع رأسه , أو يشوه جسمه كما تقدم , ثم
يصلب بعد ذلك , أو أن يقطع رأسه فقط , أو أن يصلب فقط , أو أن يقطع رأسه
أولاً ثم يصلب بَعْدئذ . وأفاض المفتي في تقريره عن كيفية صَلْب المجرم , وهو أن
يربط الرجل إلى صليب في شكل معين , ثم يوخز بِحَرْبَة في الجانب الأيسر ,
وتبقى الحَرْبَة وهي تحز في محل الجرح إلى أن يموت .
ثم إن بعض المسلمين قد عمدوا بنية حسنة إلى تشويه الشرع المقدس ؛ إذ
أقلقوا خواطرهم في اختراع وسائل يريدون فيها أن يبينوا أن مبادئ القرن السابع
الشرعية , ونظامه الاجتماعي يمكن تطبيقها على مجرّبات القرن العشرين المدنية ,
ولكن العادة المبنية على القانون الديني مؤيدة بالمغالاة في إكرام الشارع الأصلي قد
قيدت جميع المتعلقين بالإسلام بقيد من حديد لا سبيلَ إلى النجاة منه . ولقد قيل :
( إن الإنسان عاش في القرون الوسطى ملفوفًا بِقَلَنْسُوَةِ الكاهن ) فالمسلم الصحيح في
الأيام الحاضرة ملتف بالشرع أكثر من الْتِفَاف الناس بِالقَلَنْسُوَةِ في القرون الوسطى .
( ثالثها ) أن الإسلام لا يشجّع على الرِّقِّ , ولكنه يتساهل في الاسترقاق ، فقد
قال السيد ( أمير علي ) : ( إن محمدًا وجد تلك العادة سارية بين الوثنيين من العرب ,
فخفض من هذا الشر ) ولكنه عجز عن إلغائِهِ تمامًا , أما أتباعه فقد تناسَوْا عدم
تشجيعه , وأجمعوا على إباحة الرق , وجعله عنوانًا لسلوكهم .
ويليق بنا أن نقول في هذا المقام : إن من الأمور التي تُوجب الخجل على
المسيحي أنه لم يَكْتَفِ قَبْل الآن بأن يستعبد العبيد بَلِ ارتكب أقبح من ذلك ,
فكان يتخطفهم ، على أن الديانة المسيحية لم توافق مطلقًا على الرق .
وقد اشتهر أخيرًا أن الإسلام دين خالٍ من التسامح , وهي شهرة صحيحة من
بعض الوُجُوه , ولكن لا بُدَّ من تحديد وإيضاح لهذه التُّهْمَة العامّة . نعم , إن أتباع
النبي شهروا الحرب على الذين اعتبروهم مِن الكافرين , وقد علمهم دينهم أنه يجوز
استرقاق غير المؤمن مَتَى أخذوه أسيرًا في الحرب , وزِدْ على ذلك أنّ الخصام
الطائفي كان كثيرًا , فقام السُّنِّيُّونَ في وَجْه الشيعيين , واضطهد السنيون الوهابيين
بدون شفقة - على أن الخروج عن الإسلام يعاقب عليه بالموت , وقد كان هذا
العقاب ينفذ فعلاً منذ سنوات غير كثيرة . ونَرَى مِن الجِهَة الأُخْرى أن تواريخ
الإسلام لم يشوهها شيء من مثل تاريخ ديوان التفتيش , وزِدْ على ذلك أيضًا أن
المسلم إذا لم تؤثر في نفسه طوارئ خاصة مثيرة لعواطفه فهو لا يتأخر عن أن
يعامل اليهودي والمسيحي بتساهل يَشُوبُهُ شيء من الاحتقار . ففي قُرَى الصعيد لبث
الهلال والصليب والجامع والكنيسة جَنْبًا إلى جَنْب سنوات كثيرة .
ومع ذلك نرى الإسلامَ يميل إلى بَثّ رُوح عدم التساهل , وإنماء الحقد
والاحتقار لا للمشركين فقط , بل يشرك معهم جميع المؤمنين الذين لا يقولون : إن
محمدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم أخذ يصنف الإسلام ؛ فقال : إن المسلم منذ قرونٍ كثيرة ما برح يؤمر أن
ينتقم لنفسه مِن أعدائه , وأن يضرب من يضربه عينًا بعين , وسِنًّا بِسِنّ , وعليه
تجد أن الإسلام يختلف عن النصرانية في أنه يغرس في العقول أن الانتقام والكره
يجب أن يكونا أساسًا للعلاقات بين الرجل والآخر بدلاً من المحبة والإحسان .
ثم إن الإسلام يحدث بغضًا خاصًّا للذين لا يقبلون الدين الإسلامي . يقول
القرآن : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ
فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } ( محمد
: 4 ) { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } ( محمد
: 12 ) .
وقد علق اللورد على الآيات في ذيل الصحيفة قوله : ومن الجهة الأخرى تجد
في سورة البقرة قوله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) , فالأقوال
المتناقضة الكثيرة وغير المتلائمة الموجودة في القرآن لا يمكن التوفيق بينها , ولعلّ
السببَ في ذلك هو أن تعاليم محمد كانت مبنيةً في الأكثر على الحوادث الجارية ,
وعلى أحوال شخصية في حياته .
نعم , إن محمدًا إنما أشار في طعنه على الكافرين بوجه خاصٍّ إلى الوثنيين
الذين أقاموا في زمنه في شبه جزيرة العرب , ولكن الذين فسروا القرآن بعد ذلك
جعلوا تلك المطاعن موجهة إلى المسيحيين واليهود , وهذا الذي يفهمه الآن جمٌّ غَفِير
من المسلمين . أليست كلمة الغازي - وهي أسمى لقب يطمع بإحرازه أي ضابط في
جيش السلطان - معناها : مَن يحارب في سبيل الإسلام , والبطل الشجاع الذي يذبح
كافراً ؟ ألا نجد أن كل عالم ألقى الخُطْبَة في الجامع يستنزل غضب الله على رءوس
غير المؤمنين بصراحة واضحة في كل زمان , وبصراحة تزداد كثيرًا عند وجود
ظروف تضرم شعلة التعصب ؟ ألا يجب أن تعتبر كل بلاد غير إسلامية ( دار
حرب ) ؟ فَمَتَى علمنا أن مثل هذه المبادئ ما برحت تغرس في أذهان المسلمين كل
القرون الماضية لا نجد باعثًا على الدهشة من نمو رُوح عدم التساهل فيهم .
ثم قال بعد الامتنان على المصريين بإعطاء الإنكليزي لهم ما لا طيانهم وترقيته
لعقولهم وآدابهم :
ومع ذلك فإن المسلم المصري - مع أنه يكره الباشا التركيَّ , ويخافه إلى حد
أنه يدرك الفوائد التي أجزلها له الإنكليزي ويعترف بسموّ مداركه وكفاءته - فهو
على كل ذلك لا يقدر أن ينسى أن الإنكليزي يلبس على رأسه برنيطة وهو يلبس
طربوشًا أو عمامة . ومع أنه يقبل المنافع بمزيد الارتياح , فهو يذكر دائمًا أن اليد
التي منحتها ليست يد مسلم , وهذا الأمْر يؤثر في نفسه أكثر من كون الإنكليزي
أجنبيًّا عنه . مهما بذل الإنكليزي مِن وسائط التودد والعقل فهو عاجز عن هدم هذا
الحاجز الحصين - وهنا نقل اللورد قول المستر بانري : الإسلام هو كل شيء
للفلاح , وهو يعتبر غير المؤمنين فئة قليلة حقيرة ، ولا يمنعه عن الفتك بهم وإعلان
ميزة الإسلام إلا حقيقة مكدرة له هي أنه ليس في الإمكان الفتك بهم الآن .
وليس هذا وحده الحائل بين الفريقين ، فانظر إلى البدع الرئيسية , وحوادث
العبادة الإلهية المقارنة للإسلام وما يعارضها في النصرانية . وابحث في النتائج التي
تلي تحقير المرأة ، وقابل بين الشرقي الأسمر والغربي الأبيض في القُوَى العقلية
والأدبية والعادات والفنون , وعلم البِنَاء واللغة , والملبس والأذواق ، تجد أن الفرق
بين الفريقين أبعد مما بين الخافقين . حتى إنك لَتَجِد في أقلّ الأمور شأنًا في أعمال
الحياة باعثًا غير محسوس , ولا يعرف سببه من شأنه أن يدفع الشرقي إلى جهة
مشاقته للغربي مع اتفاق أحوال الفريقين . فالمسيحي يتعلق بأهداب أمل أن يلقى في
السماء أولئك الذين رافقهم في الأرض , وهذا الأمل من جمل مظاهر دينه وأكثرها
عزاءً له , وأما اعتقاد المسلم بالخلود فيختلف اختلافًا تامًّا عن اعتقاد المسيحي ؛ لأن
الحُوريات اللواتي يرجو المسلم نيلهن في الجنة لم يسبق لهن وجود في هذا العالم .
والمسيحي يصلي طالبًا الحصول على بعض أمور ، أو أن يتمكن من إتمام أغراض
معينة , وأما المسلم فهو على العموم يلفظ صلاة مرتبة معينة , ويندر أن يطلب في
صلواته طلبًا معينًا .
المسيحي يصلي صلاته اليومية في الخَفَاء , وأما المسلم فإنه يصلي جهارًا بين
الناس , وليس لديه شيء من الخَجَل الكاذب دون اعترافه جهارًا أنه معتمد على الله
في جميع أعماله وأموره . قال المطْرَان ستانلي بعد أن دَرَسَ الأديان الشرقية : إن
الله موجود عند المسلمين وُجُودًا يندر مثله عندنا في وسط العجلة الغربية وما يَشُوبُها
من الارتباك .
ومتى صام المسيحي فهو يعمل باعتدال نهارًا وينام ليلاً , وأما المسلم فهو في
صيامه ينقطع عن الأكل والشرب والتدخين , ولكنه إذا جاء الليل تمتع بكل ذلك
بدون ضابط .
ثم إن الديانة المسيحية تنشط الفنون وتستفيد منها , وأما الديانة الإسلامية فإنها
تكسر الصور والتماثيل , وهي تحرم الصور وصناعة النقش والنحت إذا كانت تمثل
شخصًا حيًّا , وأما الموسيقى فلا يُسْمَعُ لها صوتٌ في جامع .
قد يكون المسيحي نظيفًا بعض الأحيان اعتقادًا منه أن النظافة نافعة لصحته
وراحته , وعنده أن النظافة تلي التقوى , ولكنه لا يوجد جامعة بين الأمرين , وأما
المسلم فهو نظيف على شكل معين ؛ لأن دينه يأمره بذلك .
ثم انظر الآن إلى صفات الفريقين العقلية والأدبية تجد الفَرْق بينهما ظاهرًا .
ثم بَيَّنَ فروقًا أخرى بين المصري والأوربي , والغربي والشرقي تحتمل
المناقشة , ولكنه لم يستنبطها من الدين فنتركها له إلا قوله في إنصاف الإسلام :
وعلى ذكر الشرقي وصفاته ورِقَّة قلبه أقول : إن ما يزعج السائح في مصر
من معاملة الحيوانات بقساوة لا يزيد على ما يرونه في جنوبي أوربا ، ولعلها كما قال
( لاين ) في سنة 1835 : ليست غرسًا منتظم النمو , ولكنها ناشئة عن معاشرة
الطبقات السافلة من الأوربيين , فإن الدين الإسلامي يوصي بالحيوان خيرًا ؛ فقد قال
بوسرت سميت : لا يوجد دين اهتم بحياة الحيوان أعظم من اهتمام الدين الإسلامي
به ؛ فقد وَرَدَ في القرآن : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } ( الأنعام : 38 ) .
وكما أنصف في هذه جار وظلم في أخرى بعدها لكن عن سوء فهم لا سوء قصد
فقد ذكر قدرة الأوربي على التنظيم وإخضاع الحوادث ومناقشة الرؤساء , ثم قال :
فقابل هذه المزايا بما في الشرق من الضعف في التنظيم واعتقاده بالقضاء والقدر
الذي يجعله قابلاً لما لا بُدَّ منه ، وكذلك خضوعه لكل سلطة تتولى أموره .
ثم استشهد على ذلك بمثل حادثة ( مفتحجي ) سكة الحديد التي ذكرناها في أول
القسم الأول من الرّدّ عليه . وذكر أيضًا أنه سأل شيخ الأزهر : هل يُعلمون الطلبة
فيه أن الشمس تدور حول الأرض , أم العكس ؟ فأجاب بأنه لا يدري . قال اللورد :
وقد منعه أدبه الطبيعي عن التصريح لي برأيه في الكافرين كيلر و كوبرنكوس
وتعاليمهما , إلخ .
( للكلام بقية )
(11/354)
 
جمادى الآخر - 1326هـ
يوليو - 1908م​
الكاتب : محمد توفيق صدقي

القرآن والعلم
( 4 )

تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ


....
...المسألة السادسةَ عَشْرَةَ
( الوضع اللغوي )

( استعمال لفظ القلب في القرآن )
توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة ,
ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول
معانيها , فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ
للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح . مثال ذلك قولهم : ( فلان مجنون )
أي غير سليم العقل فلفظ ( مجنون ) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ , ولما كان هذا
الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون , وما كان من مادته فيمن
اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون ,
ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ
في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه ( بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله )
في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى . ومثل ذلك لفظ
( عبقر ) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن , ثم نسبوا إليه كل شيء
تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى : { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } ( الرحمن : 76 )
مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة . وكذلك لفظ ( القلب ) فإنه
في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه , ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون
أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء
بمحله على سبيل المجاز المرسل , ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت
الكلمتان ( العقل والقلب ) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك
الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة
أو غير صحيحة . ومن ذلك أيضًا قولهم : ( غربت الشمس ، أو طلعت ) فإنه تعبير
يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو
عن حركة الأرض , فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع
اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم
وتعبيراتهم , ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير
صحيحة , ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري
عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه .
وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس
ومعرفتهم لها , ولذلك يقولون : ( لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح ) .
فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ
لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة , ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل
القرآن , فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم , وإن كانوا في وضعها
مخطئين , فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى
تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب .
وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران :
( 1 ) أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة .
( 2 ) أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة , ويكون هذا الأمر
في الواقع ونفس الأمر غير صحيح . فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب ،
وعبقري ، ومجنون ، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل . وإن كانت العرب
في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة . فإن ذلك معهود في
جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة ؛ إِذْ لا داعي
يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة ،
وإن كانت في أصل وضعها خطأً , فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات , ولَكانت
تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس ، فمن أمثلة
ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West
أي
جزائر الهند الغربية ، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا ( كريستوفر كولومبس )
لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند , فسماها بذلك وجرى الناس على هذه
التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ . ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض
الديدان الشريطية المعوية باسم
Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة ؛
لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة , ومع أنهم
الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة ، ترى جميع العلماء يصرون على
هذا الاسم , وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً ؛ لشيوعه بين الناس . وكذلك تسميتهم بعض
الأمراض العصبية ( بالهستيريا ) من لفظ
Hystera اليوناني ، ومعناه ( الرحم )
لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم , ومع عِلْمِ الأطباء
بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به .
إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) , فمعنى القلوب في أول
الآية ، العقول . وإنما لم يقل : ( فتكون لهم عقول يعقلون بها ) لِرَكَاكَةِ ذلك ، ولم
يَقُلْ : ( فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها ) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا
التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية ؛ فلذا لم يهتم بها
ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة ؛
لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [2] وخلاصته , ولا جوهر للإنسان سوى روحه
فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها . وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه
العضو المعروف في صدر الإنسان , ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر ؛
لعمى أبصارهم , بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم ؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها
حتى كأنها قلوب أموات ، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل
فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى , أو تضعف وتنتظم , أو تختل إلى غير ذلك من
التغيرات التي تحصل لحركات القلب , وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى
درجة الإحساس عنده ، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً ؛ لأن القلوب هي دلائل
النفوس , ولذلك قيدها الله هنا بقوله : { فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) لمنع التجوز
في معنى القلوب ، فكأنه تعالى يقول : إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم
وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها
تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون ,
أو رَأَوْا ما به يعتبرون ، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في
أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا , ولولا القيد المذكور وهو قوله :
{ الَتِي فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما
حملت عليه في أولها , وكان المراد منها العقول في الموضعين ، وبذلك تخفى الفائدة
من باقي الآية , ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها .
هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية
له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب ؛ كقوله تعالى : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ } ( النور : 43 ) - أي الأعين - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ } ( النور : 44 ) أي العقول , وكقول الشاعر :
لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا
* * *
المسألة السابعة عشرة
( التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة )
ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في
سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها , ولما
كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا
يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف , وهي :
( 1 ) عدم القول بالنسخ في القرآن .
( 2 ) عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد .
( 3 ) كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً .
فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول :
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا في أول الإسلام يصلّون في
الليل إلى ثُلُثِهِ أو نصفه أو ثُلُثَيْهِ ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك اتباعًا لأمر مِن الله لهم به
في غير القرآن كما كانوا يصلون إلى بيت المقدس في أول الإسلام مع أن الأمر
بذلك لم يرد في القرآن , وأمثال هذه الأوامر هي مما نسميه الأوامر الوقتية أو
القولية ( غير الكتابية أو غير الرسمية ) . وكانت هذه الصلاة الليلية من أكبر ما
يقوي الرابطةَ بين جماعة المؤمنين الأولى حينما كانوا قليلي العدد ، فقراء ، ضعفاء ،
فكانت هذه الصلاة أعظم وسيلة لتثبيتهم واتحادهم وتضامنهم , وليزدادوا قوةً في
إيمانهم على قوتهم فيه ، فلما جهر بالدعوة إلى الإسلام وبدأ الدين أنْ يكونَ أعمّ مما
كان وأخذ يدخل فيه أصناف مختلفة من الناس منهم ضعفاء الأجسام , ومنهم ذَوُو
الأعمال الدنيوية التجارية وغيرها ، ومنهم مَن لم يكن عنده من الإيمان ما يحمله
على سهر الليل كما حمل أولئك المؤمنين الأولين - لما صار الأمر كذلك أنزل الله
سورة المزمل ( 73 ) , وفيها يأمر الله نبيه بالاستمرار على قيام الليل ويوجبه عليه
دون غيره من المؤمنين ، فناداه بقوله : { يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ( المزمل : 1-2 ) الآيات ، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وحده كما يدل
باقي السورة . والمراد بقوله : { قُمِ اللَّيْلَ } ( المزمل : 2 ) الأمر بالدوام
والاستمرار .
والذي يدل على ذلك قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } ( المزمل : 20 ) الآية ، فكأنه تعالى يقول : أنا أعلم ما تفعل ومطلع عليه , وإنما
أمري لك به هو لطلب الاستمرار عليه ، وكذلك أعلم أنه يقومه { وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ } ( المزمل : 20 ) يعملون ما تعمل ولا يعلمون لك أمرًا في ذلك .
ثم قال تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ( المزمل : 20 ) أيها المؤمنون
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ( المزمل : 20 ) بالترخيص لكم في ترك ما أمرتم به . وفي هذه
العبارة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، فإن المخاطبين هنا هم الطائفة الذين سبق
ذكرهم , ونكتة هذا الالتفات البلاغية هي إظهار عنايته بهم ورعايته تعالى لهم ,
وإقباله عليهم إكرامًا لهم على ما قاموا به من التهجد بالليل .
ولما بدأ أنْ يكونَ من المسلمين المرضى والمشتغلون بالتجارة وغيرها خفف
الله عنهم , وبين أن قيام الليل لم يَبْقَ فرضًا عليهم ، فلهم فيه الخيار ، لأن تكليفهم به
على سبيل الوجوب أصبح شاقًّا عليهم وخصوصًا لأنهم سيضطرون يومًا ما إلى
القتال دفاعًا عن أنفسهم في سبيل الله ، فقال تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ( المزمل : 20 ) الآيات .
والخلاصة أن قيام الليل كان فَرَضَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على نفسه
وعلى أتباعه , ولم ينزل قرآن في ذلك , ولعله فعله بالاجتهاد أو بالوحي في غير
القرآن , ثم رفع الله تعالى ذلك عن المؤمنين بسورة المزمل ، وألزم به النبي صلى
الله عليه وسلم دون سواه ، فالنسخ ليس للقرآن وإنما هو لِمَا كان يفعله المؤمنون
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذي يدلك على أن قيام الليل صار خاصًّا
برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في موضع آخر : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَّكَ } ( الإسراء : 79 ) أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة
بك دون الأمة .
فمما تقدم تعلم :
( 1 ) أن سورة المزمل لا نسخ فيها للقرآن .
( 2 ) ولا تناقض فيها بين آياتها .
( 3 ) وأن الأمر في أولها هو للدوام والاستمرار ، وهو معهود في اللغة ,
كقولك لمن يأكل ( كُلْ ) . والذي دلنا على ذلك قوله فيها : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ( المزمل : 20 ) , إلخ .
( 4 ) وأن هذه السورة تفهم بدون احتياج لروايات الآحاد ومن كان خالي
الذهن لا يفهم منها سوى ما قلناه .
( 5 ) وأنه لا حاجةَ للقول بأن جُزْءَها الأول نزل أولاً ، وأن جزءها الأخير
نزل بعد مُدَّةٍ . بل على تفسيرنا تكون آياتها ملتئمة مع بعضها كأنها نزلت دفعةً
واحدةً . فكل من يدعي أن في عبارات القرآن تناقضًا فإنما هو جاهل غبي بليد
الذهن .
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
* * *
المسألة الثامنة عشرة
( البعث الجسماني ) [3]
إذا مات الإنسان فدفن تفرقت أجزاء جسمه في الثرى ، فإذا زرع الزارعون
في هذه الأرض تغذت الأشجار والنبات منها ومن أجزاء الإنسان التي دفنت فيها
وانحلت . فإذا أكل إنسان آخر من هذه الأشجار والنباتات أو من الحيوانات التي
تأكلها استحالت إلى جسمه ودخل في تركيبه بعض موادّ مما كانت في جسم الإنسان
الأول ، ومن ذلك تعلم أن مادة الإنسان تشترك معه ومع غيره فلا يمكن إعادته بها
وإلا لَمَا أمكن إعادة من اشترك معه فيها .
ومِن جهة أخرى قد ثبت أن جسم الإنسان دائمًا في تبدل وتغير ، فإذا أعيد
بجميع مادته التي كان بها في الدنيا كان جسمًا عظيمًا كبيرًا جدًّا وهو خلاف المنتظر
والمألوف .
هذان الاعتراضان هما أكبر ما يقال للتشكيك في البعث الجسماني , ونجيب
عنهما بأن المسلم لا يجب أن يعتقد أن جميع ما دخل في جسمه من المواد في الدنيا
لا بُدَّ من إعادتها ، ولا أنه لا بُدَّ من إعادته بجسمه الدنيوي لا بغيره ، بل الواجب
عليه أن يعتقد بأن البعث رُوحَاني جسماني ، وأن جسمه قد يكون فيه شيء من المادة
التي كانت له في الدنيا ، وقد لا يكون فيه شيء من ذلك ، فإن مادته الدنيوية إذا
دخلت في غيره فأعيد بها فلا يمكن إعادته هو أيضًا بها وهو أمر بديهي لا يحتاج
لِقِيلَ وقَالَ ، فإن الإنسان لا يتوقف تحقق وجوده على هذه المادة التي هي لجوهره
وروحه كالثوب للبدن ؛ ولذلك ترى أنه في الدنيا يتبدل ويتغير مع أن حقيقته هي
هي ، فالمعول على روحه لا على مادته ، ولذلك قال الله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ } ( النساء : 56 ) وهو صريح في أن
المعول عليه هو نفوسهم وأرواحهم لا أجسامهم المتبدلة المتغيرة , ولا ينافي ذلك قوله
تعالى : { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ( القيامة : 3 ) فإن الألف واللام
في الإنسان هي للجنس ، والمعنى : أيظن الإنسانُ أنْ لَنْ يجمعَ اللهُ عظامَ الجنس
البشري يومَ القيامة , ويخلق منها الأشخاص ؟ فهو ليس نصًّا في أن كل مادة لأي
فرد إذا كانت مما دخل في غيره , وأُعِيد بها فلا بُدَّ من إعادته هو أيضًا بها ، بل إن
الله سيعيد أجسام البشر من المواد التي كانوا بها في الدنيا ولا يمنع ذلك من إضافة
جزء من مادة جديدة عليها ، وكذلك لا يستلزم أن كل مادة دخلت في جسم في هذه
الدنيا لا بُدَّ أن ترجع إليه في الآخرة , وإلاَّ لَلَزم أنْ يكونَ للمادة الواحدة عدة محال
تقوم بها , وهو محال وليس في عبارات القرآن ما يؤدي إليه , بل غاية ما يفهم منه
أن الله سيركب أجسام البشر من المواد التي ركبت منها في الدنيا ، فإن لم تكف فلا
مانع من إضافة مادة جديدة عليها ثم إنه سيعيد المواد إلى أصحابها الذين كانوا بها في
الدنيا بقدر الإمكان , فإذا كانت مما تداخل في عدة أشخاص اكتفى بإعادتها إلى
شخص واحد منهم . فإن الغرض إعادة الأرواح إلى أي جسم لا إلى جسم معين كما
يدل عليه قوله : { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ( النساء : 56 ) كما تقدم ولا ينافي ذلك
أيضًا قوله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ( يس : 78-79 ) , فإننا
لا ننكر أن الله سيُحيي عظام البشر الرميمة , ولا ننكر أنه عالم بجميع أنواع الخلق
وطرقه ، وأنه عالم بجميع الأشخاص الذين دخلت في أجسامهم أي مادة معينة ، فهو
تعالى سيحيي الميت ويرد كل مادة إلى صاحبها الذي يعلمه . ولا يخرج في ذلك عن
الممكنات , فإنه لا يأتي المستحيلات ولم يقل القرآن : إنه سيأتي شيئًا مستحيلاً .
أمّا شهادةُ أعضاء الإنسان التي كانت له في الدنيا عليه في الآخرة كما جاء به
القرآن الشريف فهي ليست مستحيلةً ، فإن مادة هذه الأعضاء التي اقترف بها الآثام
في الدنيا يجوز عقلاً أن تنطق بذلك , وتشهد به عليه سواء كانت معادة في جسمه أو
في جسم غيره . فكأن مادة هذه الأعضاء ستقوم بالشهادة على جميع الأشخاص الذين
اقترفوا بها الآثام في الدنيا ، وإن كانت هذه المادة قائمة بشخص واحد منهم يوم
القيامة [4] . ومن لا يضع عقله في دائرة الأمور الضيقة أمكنه التسليم بذلك ، فإنه
من المعقول أن تشهد المادة بجميع ما عملته في الأشخاص المختلفة ؛ فيعذب الله
نفوسهم على ما عملته , وهي قائمة في أي مادّة كانت .
وهناك طريق آخر في الرَّدِّ على هذه الشبهة . وهذا الطريق هو ما جرى عليه
قدماء علماء الكلام . وتقريره أننا نشاهد أن جسم الإنسان هو دائمًا في تبدّل وتغيّر ؛
فتراه أولاً صغيرًا , ثم يكبر شيئًا فشيئًا , وينتقل من سمن إلى نحافة , ومن نحافة
إلى سمن , وفي جميع هذه الأطوار والأحوال ذات الشخص وحقيقته واحدة لا تتبدل
ولا تتغير , فالشخص الصغير هو هو بعينه الكبير ، والنحيف هو السمين وبالعكس ؛
إِذْ لا بُدَّ أنْ يكونَ في جسم الإنسان شيئان : مادة أصلية ؛ ومادة فرعية . فالمادة
الأصلية هي التي تبقى فيه مِن أول نشأته إلى آخر حياته , لا تتبدل ولا تتغير ،
وهي التي بها تتحقق شخصيته وفيها تنتقل الأمراض الوراثية والاستعدادات
والأخلاق والصفات من الآباء إلى الأبناء . ولا ينافي ذلك ما ثبت في علم
الفسيولوجيا الآن من التغيرات الكيماوية الحيوية التي تحصل في خلايا الأجسام
الحية , فإننا لا يمكننا أن نثبت باليقين أن جميع الذرات التي تتركب منها الخلايا
الحية تتبدل وتتغير إِذْ يجوز أنْ يكونَ التبدل والتغير حاصلاً لبعض الذّرّات دون
البعض , ولِمَا انْضَمّ إليها من المواد الغذائية أي أن كل خلية فيها جزء ثابت
وجزء متغير . وعليه فالغالب أن بعض مادة الإنسان تكونَ ثابتةً مِن أول حياته
إلى آخرها , ولا يمنع ذلك مِن انضمام أجزاء أخرى إليها تصير ثابتة مثلها , ولها
من الخواص ما لها وهذه الأجزاء تأتي إليها من طريق الغذاء ومجموع هذه المادة
الثابتة هي ما نسميه ( المادة الأصلية ) , وأما المادة الفرعية فهي التي تتبدل وتتغير
ولا عِبْرَةَ بها في تحقق شخص الإنسان .
فإذا مات شخص وانحل جسمه فتغذت به النباتات فالحيوانات حفظ الإله القدير
العليم المادةَ الأصلية له من أنْ تكونَ مادة أصلية لشخص آخر , وإنْ كانَ يجوز أن
تدخل في جسم الآخر وتصير مادة فرعية له لا يتوقف عليها تحقق شخصه ، وأما
المادة الفرعية فقد تصير للثاني مادة أصلية بانضمامها إلى أجزائه الثابتة , واكتسابها
خواص منها إنْ كانَ الشخص في طَوْر النمو . وعليه فالمادة الأصلية لكل شخص
تبقى له وحده إلى يوم القيامة ، وإن كانت تدخل في غيره على أنها فرعية له .
وبذلك يكون البعث الجسماني ممكنًا ؛ لأن هذا الغرض جائز ولا يوجد في العلم
الطبيعي ولا العقل ما يثبت استحالته .
والفرق بين هذا الطريق والطريق الأول أننا في الأول نسلم تغير وتبدل جميع
مادة الإنسان ، وأما في الثاني فنقول : إن التغير والتبدل حاصل لبعض مادة الإنسان
دون البعض . والطريق الأول أقرب إلى ظاهر نواميس الوجود , والثاني أقرب إلى
ظاهر الآيات القرآنية الشريفة . وكِلاَ الطريقين معقول ولا يوجد في العلوم الطبيعية
شيء مقطوع به ينافيهما . ولا في آيات الكتاب ما لا يلتئم معهما والله أعلم .
إلى هنا أمسك بالقلم عن الجولان في ميدان الطُّرُوس ، فقد زالت الشبهات ،
وتجلت آيات الكتاب بجمالها كالعروس ، وحصحص الحق ، وظهر الصدق ، فقطع
ألسنة الكاذبين ، وبهر عقول الناظرين ، وإن في هذا الكتاب لآيات للمؤمنين ، وإنه
لَتَنْزِيل رَبّ العالمين ، وليعلمنّ نبأه بعد حين .
* * *
الخاتمة
( في ذكر آيات علمية من القرآن )
قلنا : إن القرآن الشريف لم يَأْتِ لتعليم الناس شيئًا من العلوم الطبيعية ، ولكن
مع ذلك لم تخلُ آياتُه مِن التعبيرات الدقيقة العلمية , ولا مِن الإشارة إلى حقائق
كثيرة من المسائل الطبيعية , مما يدل على أنه تنزيل العليم الحكيم ، فإن هذه
المسائل ما كانت معروفة لأحد في زمنه ، ولا يمكن لعربي أُمِّيٍّ في ذلك الوقت أن
يقف عليها لولا وَحْيُ الله . ولنذكر هنا شيئًا من هذه الآيات المشتملة على التعبيرات
الدقيقة والمسائل العلمية الطبيعية .
( 1 ) قال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( الأعراف : 57 ) , وقال أيضًا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ } ( النور : 43-44 ) وفيه إشارة إلى أن البرق يتولد من السحاب
وقوله : { مِن جِبَالٍ فِيهَا } ( النور : 43 ) هو تشبيه لِقِطَعِ السحاب العظيمة بالجبال
لما بينهما من التشابه في الشكل وعدم الانتظام وعِظَم الحَجْم كما شبه أمواج الماء
بالجبال في قوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } ( هود : 42 ) .
( 2 ) [5] قال تعالى : { وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } ( النمل : 88 ) , وهو صريح
في حركة الأرض . وليس ذلك في شأن القيامة ، فإن قوله : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } ( النمل : 88 ) لا يناسب مقام التهويل والتخويف ، وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ } ( النمل : 88 ) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة . وقال أيضًا :
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } ( الشمس : 1-4 ) وهو أيضًا يشير إلى حركة الأرض .
( 3 ) [6] قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ( الأنبياء : 30 ) وهو
صريح في أن الأرض والكواكب كانت شيئًا واحدًا ثم انفصل بعضها عن بعض ،
وهو كقول العلماء الطبيعيين إنها كلها أجزاء انفصلت عن الشمس وكانت ملتهبة
فصارت تبرد شيئًا فشيئًا وإلى ذلك يشير القرآن بقوله أيضًا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) أي وهي ذات دخان لالتهاب أجزائها ولكون أكثرها في الحالة
الغازيّة .
( 4 ) قال الله تعالى : { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } ( الرعد : 3 ) وهو صريح في أن الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى ، وهو أمر لم
يعرف إلا مِن عهد قريب . والقرآن نفسه هو الذي فسر الزوجين بذلك في آية أخرى
بقوله : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } ( النجم : 45 ) .
( 5 ) قال الله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } ( الحجر : 22 ) أي
ملقحات للأشجار .
( 6 ) قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا
آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ( الإسراء : 12 ) وهو يشير إلى أن القمر وهو { آيَةَ النَّهَارِ } ( الإسراء : 12 )
مظلم لذاته .
( 7 ) قال الله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس : 37-40 ) .
( 8 ) [7] قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ } ( الزمر : 21 ) الآية .
فقل لي بأبيك ؛ أيُّ عربيٍّ أُمِّيٍّ يعْرِف هذه المسائل أو تخطر له على بال ,
وخصوصًا في تلك الأزمان التي كان فيها أعلم العلماء في أرقى البلاد يجهل بعض
هذه الحقائق المذكورة في القرآن كدوران الأرض ، وكون جميع السيارات منفصلة
عن أصل واحد ، وأنها كانت دُخَانًا . وأنّ الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى ، وأن
الرياح هي التي تلقحها إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبيعية . وكلها
دلائل على أن هذا الكتاب ليس مِن صُنْع البشر بل هو تنزيل مِن الله العليم الحكيم .
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي
__________
(1) المنار : وراجع الكلام عن قارون وهامان في ص 294 من المجلد السادس .
(2) ولذلك سموا العقول أيضًا بالألباب لأنها أهم شيء في الإنسان منه اهـ .
(3) المنار : راجع المسألة في ص 54 و412 من المجلد السابع .
(4) المنار : لا نص في القرآن على أن هذه المواد التي تتركب منها أعضاء الإنسان في الدنيا هي التي تبعث وتشهد عليه , بل أسند الشهادة إلى أعضائه سواء تركبت منها أو من غيرها ، فهي أعضاؤه على كل حال ، وهل الشهادة قولية أو حالية على حدّ : لي في محبتكم شهود أربع ، إلخ البيتين ؟ الله أعلم .
(5) راجع ص 260 م 6 وص 104 وما بعدها م 8 وص 920 م 9 .
(6) راجع ص 333 م 6 و289 م 7 .
(7) راجع ص 290 م 7 .

(11/441)
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

المحرم - 1327هـ
فبراير - 1909م​

شيخ الإسلام ابن تيمية
وما قيل فيه

غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر .
سلام الله عليكم ورحمته ، ولا زلتم في نعيم مقيم .
سيدي : من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه
الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم ،
ومحاكمة ابن حجر فيما قاله ، حتى يتبين الرشد من الغي . وهنا تجد أكثر الجامدين
من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار ؛ لكونه ينقل عن
ابن تيمية ، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه ، حيث
يقول : ( عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله ) .
وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه
وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت . نعم ، ربما أنه سبق لحضرتكم
كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة ( لأن مثل هذا مما لا
يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة ) .
ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام ، وكثير منهم لم يطلعوا على
ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع ، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا
وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر . فهل لسيدي نقل
بعض أقوالهم ؟ ولكم من الله جزيل الفضل ، ومنا الشكر .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع . س
... ... ... ... ... ... ... ... ... ( دلي - سمطرا )
( المنار )
لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا
عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي . ويغلب على ظننا
أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية ،
وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره ، فأنكر
ذلك عليه ، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك
السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله ، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني
في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره ، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره
ودست فيه ضلالات كثيرة ، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس
المفسدين ؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه . ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما
قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية ، بما لم يثنوا بمثله
على أحد ، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق ،
ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل . ويعز على
الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم ، بل مَن دون أئمتهم ممن
يجلون من الميتين ، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا ! . ولذلك ترى أن سبب
قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية ؛ هو
إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي ، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره
على سيبويه وتخطئته له , فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم
العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار
عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه , ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه
ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم ، كما سيأتي .
وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له ،
منها ( القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي ) للعلامة المحدث
السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس . ومنها ( جلاء العينين في محاكمة
الأحمدين ) أي : أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر ، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من
النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية ، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما
نصه :
( ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست
مائة ، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ ، وبرع في التفسير
وأفتى ودرَّس ، وله نحو العشرين ، وصنف التصانيف ، وصار من أكابر العلماء
في حياة شيوخه ، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان ، ولعل تصانيفه في
هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر ، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين .
وكان يتوقد ذكاء ، وسمع من الحديث أكثره ، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ
ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى ، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق
فيه . وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس
له فيه نظير . وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا ، ويدري جملة
صالحة من اللغة ، وعربيته قوية جدًّا ، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب .
انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير
ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي .
قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر : هو من أهل
الاستقراء التام في نقده الرجال ، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ
ابن ناصر الدين : ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته ، فلو حلفت بين
الركن والمقام ، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله ، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه
في العلم .
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث ( كنت نبيًّا
وآدم بين الماء والطين ) ، وفي حديث ( كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين ) ،
حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين ، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا ،
أقرَّ له بذلك المخالف والموافق ، قال : وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا ؟
وقد قال فيه الحافظ الذهبي : ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه ، وكانت
السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة ، وعين مفتوحة .
وقال حافظ الإسلام ، الحبر النبيل ، أستاذ أئمة الجرح والتعديل ، شيخ
المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي
فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين : ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى
هو مثل نفسه ، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا أتبع لهما منه .ا.هـ .
وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه ، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين
المستوعبين : أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي .
وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما
اجتمع به وسمع كلامه : كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك , وقال أيضًا :
رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد . ذكره الحافظ
المذكور .
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي : وبالجملة كان - رحمه الله تعالى-
من كبار العلماء ، وممن يخطئ ويصيب . ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة
في بحر لُجِّيٍّ ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري ( إذا اجتهد
الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) .
وقال الإمام مالك بن أنس : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا
القبر صلى الله عليه وآله وسلم . وما قاله في غاية الحسن ، والحافظ المذكور ثقة
حجة باتفاق ، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله
عنه الشيخ تقي الدين الحصني . نعم ، كان يقول : يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة
الطلاق ، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك ، فلم يتفرد به كما هو
مبين في موضعه ، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم .
( فإن قلت ) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ
رتبة الاجتهاد ، وأنى له بهذه المرتبة ، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل ! !
( قلت ) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد
الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر ، كما سيأتي ، والحافظ
السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط ، وإن كان قد
خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين ، ومن
أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور ، وقد قال به قبله أبو عبد الله
ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب ، إن شاء الله تعالى .
وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام
ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه : ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا ؛
بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع ، وعقدت له بسبب ذلك عدة
مجالس بالقاهرة وبدمشق ، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ، ولا أفتى
بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه - رحمه الله - من أهل الدولة ، حتى حبس
بالقاهرة ، ثم بالإسكندرية ، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده
ووصفه بالسخاء والشجاعة ، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله
في السر والعلانية ، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر ، بل من أطلق
على من سماه بشيخ الإسلام الكفر ، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك ، فإنه
شيخ الإسلام بلا ريب ، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ، ولا
يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا ، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على
من يقول بالتجسيم والتبرئ منه ، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي أصاب
فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه ؛ أي
كمسألة الزيارة والطلاق ، بل هو معذور ؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات
الاجتهاد اجتمعت فيه ، حتى كان أشد المتعصبين عليه ، والقائمين في إيصال الشر
إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك ، وكذا الشيخ صدر الدين ابن
الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره . ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم
الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية ، وتصانيفه في ذلك
كثيرة شهيرة ، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر ، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره
وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره . فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان
له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من
أهل النقل ، فيفرد من ذلك ما ينكر ، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح ، ويثني
عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء ، ولو لم يكن للشيخ تقي
الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية ، صاحب التصانيف
النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة
منزلته ، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة
عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة ، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء
الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام ، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه ،
بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ، ويذعن للصواب ، والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى -
فيما كتبه على الكتاب المذكور : ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في
ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه ، وللشيخ
تقي الدين بن تيمية ، وللشيخ شمس الدين أبى عمر ، فلولا أن ابن تيمية في غاية
العلو في العلم والعمل ، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها ، ولو
كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا ، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له . نعم ، وقد
ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه ، وانتصب للرد عليه الشيخ
تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق ، وأفرد كلا منهما بتصنيف ، وليس
في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً ( وكل أحد يؤخذ من قوله أو يترك إلا
صاحب هذا القبر ) [1] والسعيد من عدت غلطاته ، وانحصرت سقطاته ، ثم إن
الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر ذلك تهورًا وعدوانًا - حاش لله - بل لعله
لرأي رآه وأقام عليه برهانًا ، ولم نقف إلى الآن بعد التروي والفحص على شيء
يقتضي كفره ولا زندقته . وإنما وقفت على ما رده على أهل البدع والأهواء أو غير
ذلك مما يظن به براءة الرجل ، وعلى مرتبته في العلم والدين . وتوقير العلماء
والكبار وأهل الفضل متعين ، قال الله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ } ( الزمر : 9 ) وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس
منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا - وفي رواية - حق كبيرنا )
وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر ، ولم يكن ذلك فيه . انتهى
قلت : وسنذكر- إن شاء الله تعالى - قريبًا ما يكون صريحًا في تنزيهه عما
نسب إليه من التشبيه والتجسيم .
وقال قاضي القضاة عبد الله التهفتي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي ، فيما كتبه
على الكتاب المذكور : إن الشيخ تقي الدين كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه
وما اطلعنا عليه من كلام تلميذه ابن قيم الجوزية الذي صارت تصانيفه في الآفاق
عالمًا متعنيًا ، مقللاً من الدنيا ، معرضًا عنها ، متمكنًا من إقامة الأدلة على الخصوم
وحافظًا للسنة ، عارفًا بطرقها ، عارفًا بالأصلَيْن : أصول الدين وأصول الفقه ،
قادرًا على الاستنباط في تخريج المعاني ، لا يلومه ( لعله لا تأخذه ) في الله لومة
لائم ، على أهل البدع : المجسمة والحلولية والمعتزلة والروافض وغيرهم . ( قال )
فمن كان متصفًا بهذه الأوصاف كيف لا يلقب بشيخ الإسلام ، بأي معنًى أريد
منه ! ! ؟ ( قال ) : وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق
وقضية من قام عليه شهوده ، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان ،
وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطئ فيها مجتهد يثاب ،
لا يكفر ولا يفسق ... إلخ ما قال .
وقال شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتب على الكتاب المذكور : وما هم أي
المنكرون على ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلا صلقع بلقع سلقع ، والمكفر منهم
صلعمة بن قلمعة ، وهيان بن بيان ، وهيّ بن بيّ ، وضل بن ضل ، وضلال بن
التلال . ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية
من شمّ عرانين الأفاضل ، ومن جمّ براهين الأماثل ، ( قال ) : وهو الذابّ عن
الدين ، طعن الزنادقة والملحدين ، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين ،
وللمأثورات عن الصحابة والتابعين ، فمن قال : إنه كافر فهو كافر حقيق ، ومن
نسبه إلى الزندقة فهو زنديق ، وكيف ذلك ؟ وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق ، وليس
فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق . ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي
الزيارة والطلاق ، عن اجتهاد سائغ بالاتفاق ، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب ،
وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب . ( قال ) : ولا ريب أنه كان شيخًا لجماعة من
علماء الإسلام ، ولتلامذة من فقهاء الأنام ، فإذا كان كذلك ، كيف لا يطلق عليه شيخ
الإسلام ؛ لأن من كان شيخًا للمسلمين يكون شيخًا للإسلام .
وقال شيخ الإسلام البساطي المالكي : وأما قول من قال إنه - يعني ابن تيمية -
كافر ، وإن من قال في حقه إنه شيخ الإسلام كافر - فهذه مقالة تقشعر لسماعها
الجلود ، وتذوب لسماعها القلوب ، ويضحك إبليس اللعين بها ويشمت ، وينشرح
بها أفئدة المخالفين وتسمت ، ثم يقال : كيف لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي
هذا في حقه ، فما مستندك في الكلام الثاني ، وكيف تصح لك هذه الكلمة المتناولة
لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة ؟ وهل يمكنك أن تدعي أن الكل
اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه ؟ وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببني
الأيام ، والواجب أن يطلب هذا القائل ، ويقال له : لم قلت ؟ وما وجه ذلك ؟ فإن
أتى بوجه لا يخرج به شرعًا عن العهدة بأن كان واهيًا ، برح به تبريحًا يردع
أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين .اهـ
( قلت ) : فتأمل - رعاك الله - كلام هؤلاء الأعلام في مدح هذا الإمام ،
فكيف ينسب إلى بدعة التجسيم ، أو يعاب بشيء غير ذلك أو يلام ! .

( المنار )
هذا ما أورده الشيخ صفي الدين الحنفي البخاري في ترجمة شيخ
الإسلام ابن تيمية في أول كتابه : ( القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية
الحنبلي ) ويليه فصل في عقيدته التي هي عقيدة سلف الأمة : أهل السنة
والجماعة ، رضي الله عنهم . وأما السيد نعمان خير الدين الآلوسي فقد جاء في
كتابة : ( جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ) بترجمة أوسع ، وأكثر نقلاً عن
كبار العلماء والحفاظ في الثناء عليه ، والاعتراف له بمشيخة الإسلام .
قال بعد ترجمة بليغة ملخصة من كلام طائفة من الحفاظ والمؤرخين ما
نصه :
قال الذهبي : وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد . وترجمه
في معجم شيوخه بترجمة طويلة منها قوله : شيخنا وشيخ الإسلام ، وفريد العصر
علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا للأمة ، وأمرًا
بالمعروف ، ونهيًا عن المنكر . سمع الحديث ، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته ،
وخرج ونظر في الرجال والطبقات ، وحصل ما لم يحصل غيره وبرع في تفسير
القرآن ، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال ، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال
ميال ، واستنبط منها أشياء لم يسبق إليها ، وبرع في الحديث وحفظه ، فقل من
يحفظ ما يحفظه من الحديث ، مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في
معرفة الفقه ، واختلاف المذاهب ، وفتاوى الصحابة والتابعين ، أتقن العربية أصولاً
وفروعًا . ونظر في العقليات ، وعرف أفعال المتكلمين ورد عليهم ، ونبه على
خطئهم وحذر منهم ، ونصر السنة بأوضح حجج ، وأبهر براهين وأُوذي في ذات
الله من المخالفين ، أخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره ،
وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له ، وكبت أعداءه ، وهدى به رجالاً
كثيرة من أهل الملل والنحل ، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا ،
وعلى طاعته ، وأحيا به الشام بل الإسلام ، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة
التتار ، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام ؛ أني
ما رأيت بعيني مثله ، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير : وفي رجب سنة سبع مئة وأربع ، راح الشيخ تقي
الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ ، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت
هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها ، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها ،
فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا ، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة ،
وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه . فحُسد وعودي ، ومع هذا لا تأخذه في الله
لومة لائم ، ولم يبال بمن عاداه ، ولم يصلوا إليه بمكروه ، وأكثر ما نالوا منه
الحبس ، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ، ولم يتوجه لهم عليه ما
يشين ، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه اهـ .
قيل : من جملة أسباب حبسه ؛ خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة ، فلقي
عليه أعداؤه طريقًا من ذلك ، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك . وكتب الشيخ
كمال الدين الزملكاني : كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في
مذاهبهم منه أشياء ، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ، ولا تكلم في علم من
العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله ، واجتمعت فيه شروط
الاجتهاد على وجهها .
( قلت ) : ورأيت في نثر الدر الذائب في الأفراد والغرائب ، من كتاب
الأشباه والنظائر النحوية للإمام السيوطي- عليه الرحمة - ما نصه : جواب سؤال
سائل عن ( لو ) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد ، الحافظ المجتهد ، الزاهد العابد
القدوة ، إمام الأئمة ، علامة العلماء ، وارث الأنبياء ، آخر المجتهدين ، أوحد علماء
الدين ، بركة الإسلام ، حجة الأعلام ، برهان المتكلمين ، قامع المبدعين ، ذي
العلوم الرفيعة ، والفنون البديعة ، محي السنة ، ومن عظمت به لله علينا المنة ،
ودامت به على أعدائه الحجة ، واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي
العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن
تيمية الحراني أعلى اللهُ تعالى مناره ، وشيّد من الدين أركانه :
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة ... أنواره أربت على الفجر
نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ : كمال
الدين ابن الزملكاني :
بسم الله الرحمن الرحيم
نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلي قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم
العلامة القدوة ، الحافظ الزاهد ، العابد الورع ، إمام الأئمة ، خير الأمة ، مفتي
الفِرق ، علامة الهدى ، ترجمان القرآن ، حسنة الزمان ، عمدة الحفاظ ، فارس
المعاني والألفاظ ، ركن الشريعة ، ذو الفنون البديعة ، ناصر السنة قامع البدعة :
تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم
بن محمد ابن تيمية الحراني ، أدام الله تعالى بركته ، ورفع درجته : الحمد لله
الذي علم القرآن ، خلق الإنسان علمه البيان ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا
شريك له ، الباهر البرهان ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، المبعوث إلى الإنس
والجان ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن ، سألت -
وفقك الله تعالى - عن معنى حرف ( لو ) ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله
عنه : ( نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ) على معناها المعروف ،
وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك ، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب
في ذلك ما حضرني الساعة ، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك ،
وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك ، فأقول . اهـ بحروفه .
ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته ، وأقر المترجم على ترجمته ،
فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر ، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر[2] .
وكتب الحافظ ابن سيد الناس : ألفيته ممن أدرك العلوم حظًّا ، وكاد
يستوعب السنن والآثار حفظًا ، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته ، وإن أفتى في
الفقه فهو مدرك غايته ، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته ، أو حاضر بالملل
والنحل لم ير أوسع من نحلته ، ولا أرفع من درايته ، برز في كل علم على
أبناء جنسه ، ولا رأت عيني مثل نفسه .
وقال ابن الوردي في تاريخه ، وقد عاصره ورآه : وكانت له خبرة تامة
بالرجال ، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه
الذي انفرد به ، وهو عجيب في استحضاره ، واستخراج الحجج منه ، وإليه
المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند ، بحيث يصدق عليه أن يقال : كل
حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث . ولكن الإحاطة لله ، تعالى . غير أنه
يغترف فيه من بحر ، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي . وأما التفسير فسلم
إليه . وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير ، أو من الفقه ، أو من الأصلين ، أو
من الرد على الفلاسفة ، نحوًا من أربعة كراريس . وله التآليف العظيمة في كثير
من العلوم ، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلد . وله الباع الطويل في
معرفة مذاهب الصحابة والتابعين ، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب
الأربعة . وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة ، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب
والسنة . وبقي سنين يفتي بما قام ( عليه ) الدليل عنده . ولقد نصر السنة المحضة
والطريقة السلفية ، وكان دائم الابتهال ، كثير الاستعانة ، قوي التوكل ، ثابت
الجأش ، له أوراد وأذكار يديمها ، لا يداهن ولا يحابي ، محبوبًا عند العلماء
والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء , وصار بينه وبين معاصريه واقعات مصرية
وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية واجتمع بالسلطان
محمود غازان السفاك المغتال ، وتكلم معه بكلام خشن ، ولم يهبه ، وطلب منه
الدعاء فرفع يديه ، ودعا دعاء منصف ، أكثره عليه ، وغازان يؤمن على دعائه
اهـ ملخصًا وأطال في ترجمته .
وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي في حقه ، بعد ثناء طويل جميل ما
لفظه :
فوالله ثم والله ، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية : علمًا
وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا وقيامًا ، في حق الله تعالى عند انتهاك
حرماته . أصدق الناس عقدًا ، وأصحهم علمًا وعزمًا ، أنفذهم وأعلاهم في انتصار
الحق وقيامه همة ، وأسخاهم كفًّا ، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم ، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله
وأفعاله إلا هذا الرجل ، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ .
ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، وقد سئل عن الشيخ
ابن تيمية بعد اجتماعه به ، كيف رأيته ؟ قال : ( رأيت رجلاً سائر العلوم بين
عينيه ، يأخذ ما شاء منها ، ويترك ما شاء ) فقيل له لم تتناظران ؟ قال : ( لأنه
يحب الكلام وأحب السكوت ) .
وقال ابن مفلح في طبقاته : كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي
في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه : فالمملوك يتحقق قدره ، وزخارة بحره ،
وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية ، وفرط ذكائه واجتهاده ، وأنه بلغ في ذلك
كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف . والمملوك يقول ذلك دائمًا ، وقدره في نفسي أكبر
من ذلك وأجل ، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع ، والديانة
ونصرة الحق ، والقيام فيه لا لغرض سواه ، وجريه على سنن السلف ، وأخذه من
ذلك بالمأخذ الأوفى ، وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة : إن الفتنة لما ثارت
على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته ، تعصب له القاضي الحنفي ونصره ،
وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه . وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ
نصر بن المنجي ؛ لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي ، فكتب يعاتبه
على ذلك ، فما أعجبه ؛ لكونه بالغ في الحط على ابن عربي وتكفيره ، فصار هو
يحط على ابن تيمية ، ويغري ( به ) بيبرس الجاشنكير ، وكان بيبرس يفرط في
محبته ويعظمه . واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الحريري
انتصر للشيخ ابن تيمية ، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم ، وكتب
به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها ( إنه منذ ثلاثمائة ما رأى الناس
مثله ) اهـ .
ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال : حضر عند شيخنا
أبو حيان المفسر ، فقال : ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ، ثم مدحه بأبيات ذكر
أنه نظمها بديهة ، وأنشده إياها وهي :
لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الأُلى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تَقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيمٍ إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد , وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي , ثم دار
بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه ، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه ، فناظره
أبو حيان بسببه ، ثم عاد ذامًّا له ، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر ( ويقال ) : إن ابن
تيمية قال له : ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا ، بل أخطأ في الكتاب في
ثمانين موضعًا ، ما تفهمها أنت , فكان ذلك سبب مقاطعته إياه ، وذكره في تفسيره
البحر بكل سوء ، وكذا في مختصره النهر اهـ .
وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة ، وأثنوا
علية بالثناء الحسن ، وذكروا له كرامات عديدة ، ومواظبة على الطاعات والعبادات
وتجنبًا عن البدع ، وشدة اتباع للسنن وطريق السلف الصالح ، وأنه لم يتزوج حتى
مات ، وكان أبيض اللون ، أسود الرأس واللحية ، قليل الشيب ، شعره إلى شحمة
أذنيه ، عيناه لسانان ناطقان ، ربعة من الرجال ، بعيد ما بين المنكبين ، جهوري
الصوت . وقد ذكر نبذة من اختباراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مائة
وخمس وتسعين في طبقاته ، وفصل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه .
وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين سَحَر ليلة الاثنين ، عاشر ذي القعدة
الحرام في السجن ، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه ، فكان يومًا مشهودًا لم
يعهد بدمشق مثله ، وبكى الناس بكاء شديدًا ، وتبركوا بماء غسله ، واشتد الزحام
على نعشه ، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا . وحزر من حضر
جنازته بمئتي ألف ، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا ، وختمت له ختمات كثيرة ،
ورثي بقصائد بليغة .
( المنار )
بعد أن أورد المؤلف هنا مرثية الشيخ عمر بن الوردي ، إحدى تلك المراثي
التي يشنع فيها على من آذوه وحبسوه ، قال :
( قلت ) : ومازال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله- تعالى-
ويصبرون ، وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون ، وأهل الخير في الأمم السابقة
يقتلون ويحرقون ، ويُنْشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه ، ولولا كراهة
التطويل لذكرت من ذلك ما يطول ، وقد سُمَّ أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي
وسُمَّ الحسن وقتل الحسين وابن الزبير وصلب خبيب بن عدي . وقتل الحجاج عبد
الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وغيرهما . وقتل زيد بن علي . وأما من
ضرب من كبار العلماء فكثيرون منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج
أربعمائة سوط ثم قتله ، وسعيد بن المسيب ضربه عبد الملك بن مروان مائة
سوط ، وصب عليه جرة ماء في يوم شات ، وألبس جبة صوف ، وخبيب بن عبد
الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط ؛ وذلك أنه حدث
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً ،
اتخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله دولاً ) فكان عمر إذا قيل ( أبشر ) قال :
( كيف بخبيب على الطريق ) وأبو عمرو بن العلاء ضربه بنو أمية خمسمائة
سوط ، والإمام موسى الكاظم سجنه هارون حتى مات ، والإمام أبو حنيفة توفي في
السجن بعد أن ضرب وقيل أوُجِرَ سمًّا ، والإمام مالك بن أنس ضربه المنصور
أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره ، وكان مالك يقول لا يلزمه اليمين . والإمام
أحمد امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس ، وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء
الأئمة أسوة . ولو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه ، وبيان سيرته
ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول ، والقلم - لا مللت - ملول ، ويكفي من القلادة ما
أحاط بالجيد .
( المنار )
وعقد بعد هذا فصلاً في تبرئة الشيخ مما نسب إليه ، وثناء المحققين
المتأخرين عليه . فنقل عن صوفي الفقهاء وفقيه الصوفية الشيخ إبراهيم الكوراني
المدني الشافعي وعن علامة العراق الشيخ علي السويدي البغدادي الشافعي ، وعن
والده السيد محمد الآلوسي المفتي ، وعن عالم بلد الله الحرام المنلا علي الهروي ،
وعن أمير العلماء وعالم الأمراء أبي الطيب حسن صديق خان الحسيني البخاري .
ثم عقد فصولاً أخرى ذكر فيها كل ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي ، وبيَّن الحق
فيه ، فليراجعه من شاء . فمن اشتبه في مسألة معينة من المسائل التي انتقدت على
ابن تيمية ، ولم يتمكن من مراجعتها في كتاب جلاء العينين ، أو راجعها وبقي في
نفسه شبهة منها ، فله أن يسألنا عنها إن أحب . وإننا كنا نعتقد أن ابن تيمية وصل
إلى درجة الاجتهاد المطلق ، قبل أن نطلع على قول العلماء في ذلك ، بل نعتقد أنه
لا نظير له في علماء الإسلام قط إلا تلميذه ووارث علومه ابن قيم الجوزية ،
رحمهما الله تعالى ونفع المسلمين بعلومهما .
__________
(1) حكاية لكلمة الإمام مالك التي كان يقولها في الحرم المدني ، ويشير إلى القبر الشريف .
(2) وفي هامش الكتاب عند هذه العلامة ما نصه : وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور ... نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة وكذا غيرهما ممن سلمت له الإمامة .​
(12/41)
 
صفر - 1327هـ
مارس - 1909م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
دين المستقبل
وهل يكفر من له رأي فيه

( س2 ) من بغداد لصاحب التوقيع الذي عهد إلينا بكتمان اسمه .
حضرة سيدي المحترم محمد رشيد رضا أفندي ، أدام الله مجده :
أما بعد فقد جئت طالبًا من فضلكم نشر سؤالي هذا على صفحات ( المنار )
الأغر ، وسرد جوابه بما يتراءى لكم ؛ لأن الأمر أشكل في بغداد ، والأقوال
تضاربت ، فجئت طالبًا فتواكم ولكم الأجر .
إن أحد الكتاب نشر مقالة في جريدة بغداد في عددها الأول ، ونقل فيها : أن
حضرة السيد البكري نقيب أشراف مصر قال : سألت الشيخ جمال الدين الأفغاني
عن دين البشر في المستقبل فأجابني بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ( البقرة : 62 ) [1] فقام بعض المدعين
للعلم وقال : إن هذا الناقل الذي نشر المقالة قد كفر ، وخرج من دين الإسلام ،
وطلب من الحكومة مجازاته ، وهو القتل كفرًا لا حدًّا والعياذ بالله ، ثم وكل الأمر
إلى أربعة من المدرسين وهذا المكفر معهم خامس ، فأما أحدهم فقال : إن الرجل
ناقل وليس عليه شيء ، من دون أن يعمق البحث في أصل الموضوع ، فرفضوا
قوله ، واجتمع الأربعة على أنه يجب تعزير هذا الناقل تعزيرًا شديدًا ، وقدموا
قرارهم هذا للعدلية ، ولا ندري ما سيكون منه ، فنرجوكم تدقيق هذا البحث بأطرافه
بحق قائله وناقله ، والحاكمين فيه ؛ ليتضح الحال خدمة للوطن والدين والأمة دامت
أفضالكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور اغتار للدين
( ج ) لا وجه للقول بكفر هذا الناقل ، ولا ذلك القائل ، ولا بتعزير من يرى
ذلك الرأي ، سواء كان خطأ أم صوابًا ، والظاهر أن أولئك العلماء لم يفهموا معنى
سؤال البكري ولا جواب الأفغاني ؛ لأنهم لم يفكروا في مثل هذا البحث ، ولا في
سببه ، لا لبلادة في أذهانهم ، ولا لجهلهم باللغة التي عبر بها القائل والناقل . نعم ،
إن المشتغلين منا بالفقهيات ، الجامدين على التقليد والعادات ، كثيرًا ما يتجرأون
على التكفير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وأظن أن من ذكرتم من علماء
بغداد ، لو فهموا معنى السؤال والجواب ، لما خطر في بالهم أن يعدوا القول به ذنبًا
فضلا عن أن يعدوه كفرًا .
يقول كثير من علماء الاجتماع : إن البشر في مجموعهم يسيرون إلى الكفر
والإلحاد عامًا بعد عام ، وإن هذا السير ينتهي بترك الأمم كلها للتدين بعد قرون
كثيرة أو قليلة ، ومن هؤلاء القائلين بهذا الرأي من هو متدين بالإسلام ، ومنهم من
هو متدين بغيره ، ومنهم من هو ملحد لا يدين بدين .
ويقول آخرون : إن البشر لا يمكن أن يستغنوا عن الدين ، ولا عبرة بما نراه
في هذا الوقت من كثرة الكافرين ، فلا بد أن يبقى الناس متدينين ، وأن يبقوا
مختلفين في الدين ، ويذهب آخرون إلى أنه لا بد أن يسود في المستقبل دين يكون
عليه أكثر البشر ، وهل يكون ذلك دينًا جديدًا أم أحد الأديان الحاضرة بعد تنقيحه
وتطبيقه على حال الناس في المدنية المستقبلة ؟ إنهم مختلفون في هذا ، وسمعت
الأستاذ الإمام يقول أكثر من مرة : إنني أعتقد منذ عشرين سنة أن دين المستقبل هو
الإسلام ، ولي على ذلك أدلة اجتماعية ، وأدلة نقلية : كالوعود الإلهية بإظهاره على
الدين كله ، وهو عندي في مرتبة اليقين . ولا يخفى أن أصول الدين الإلهي الحق
التي دعا إليها جميع رسل الله هي : الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ،
والكتاب والسنة تفصيل لهذه الأصول . وعبارة السيد جمال الدين مجملة ، فلا يدرى
أرأيه كرأي تلميذه الأستاذ الإمام ، ويريد بالأصول المجملة في الآية ما هو مفصل
في غيرها من الآيات ، أم يريد أن البشر لا يتفقون على تفصيل الإسلام ولا غيره ،
وإنما يستقر رأيهم على تلك الأصول المتفق عليها ، ويتركون لكل فرد رأيه واجتهاده
في تفصيلها ؟ الله أعلم بتفصيل رأيه . ولكن الذي يجب الجزم به أنه لا يجوز أن
نكفره ، ولا أن نفسقه برأيه ؛ لأنه لا علاقة بين مثل هذا الرأي ، وبين قوة الإيمان
وصحة الإسلام ، بل لا يجوز أن نقول بكفر من يرى أن البشر يتركون كل دين ،
ولا بتعزيره أو لومه على ذلك . فليتق الله علماؤنا في المسلمين ، وليعلموا أن عاقبة
هذا التشديد والجراءة منفرة عن الإسلام ، وأنها يوشك أن تفضي إلى ما لا يحبون
لأنفسهم ولا لدينهم .
أما العدلية فلا أدري ما هي علاقتها بآراء الناس وأفكارهم ، فإذا كان رجال
العدلية في بغداد كمن ذكرتم من العلماء فهمًا لهذه المسألة ، وكان رأيهم في العقوبات
القانونية كرأي أولئك الفقهاء في العقوبات الشرعية ، فياحسرة على بغداد ، فإنها لا
تزال ترسف في قيود الجهل والاستبداد .
__________
(1) المنار : سمعنا هذه المسألة من البكري ، وقال أمامنا : إن السيد قال له انقشوا هذه الآية على هرم الجيزة إلى أن يجيء المستقبل فيفسرها 0 وليراجع في المنار ما قاله الأستاذ الإمام في تفسيره .
(12/93)
 
ربيع الآخر - 1327هـ
مايو - 1909م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
إحدى الكبر وكبرى العبر

خلع عبد الحميد خان . نفيه من دار السعادة . وضعه تحت المراقبة العسكرية
ضبط أمواله وذخائره وعقاره . إباحة يلدز للأمة . تولية مولانا السلطان محمد
الخامس .
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( آل عمران : 26 ) .
جلت قدرة الله ونفذت مشيئته ، وغلب قدره وعلت كلمته ، جعل الأيام دولاً ،
وجعل للدول نواميس وسننًا ، فلا مبدل لسننه ولا محول لنواميس خلقه ، فلا يغرنك
إملاءه للظالمين ، واستدراجه للمفسدين { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ *
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ العَذَابُ } ( إبراهيم : 42-44 ) .
لا ينفع من قدره حذر ، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر ، فلا يهولنك ما
ترى من رسوخ الاستبداد ، ولا يويئسنك ما تشاهد من غلبة الاستعباد ، ولا يفزعنك
ما ترى من الحصون والأجناد ، فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده جاور
ضده ، وأن شدة الضغط توجب شدة الانفجار ، وأن الأعمال بالخواتيم
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } ( الأعراف : 128 ) ، { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ( الرعد : 25 ) .
ألا وإن مشيئته في إيتاء الملك ونزعه ، وخفض الملك ورفعه ، واعتزاز
السلطان وإذلاله ، ليست مشيئة استبدادية مغيرة لسننه الاجتماعية ، وإنما جعل لكل
شيء سببًا ، ولكل أمر مقادير وسننًا ، فما من أمة تفرقت كلمتها ، وغلب عليها
الجهل بحقوقها ، واعتقاد وجوب التقديس لأمرائها وملوكها ، وكثر فيها المنافقون ،
وقل فيها الصادقون ، إلا وابتليت بالمستبدين ومنيت بالظالمين ، يسومونها سوء
العذاب ، ويقطعون بها الأسباب ، فيأكلون الأموال ، ويستذلون الرجال ، ويجعلون
الحرائر إماء ، ليتمتعوا بالمئات من النساء ، ويعبثون بالشريعة والقانون ، ويجنون
على الأخلاق والآداب ، فيذلون أمتهم ويضعفون دولتهم ، فإذا استيقظت الأمة من
سباتها ، واجتمعت بعد شتاتها ، وعرفت حقوقها ، وغيرت ما بأنفسها من تقديس
السلاطين ، وأرادت أن تجعل الحكم فيها للشريعة والقوانين , فإن الله يغير ما بها
من الذل والعبودية ، فتستبدل بهما العز والحرية ، من حيث يذل ظالميها ، ويهلك
مذليها { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ
مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ( الرعد : 11 ) .
لقد صدقنا وعده ووعيده ، وأرانا بأعيننا مصداق كتابه ، فهذا عبد الحميد خان
وأعوانه وقرناؤه وخصيانه وجواريه وغلمانه قد بغوا في الأرض ، وتركوا السنة
والفرض ، وعطلوا الشريعة والقوانين ، واستبدوا بجميع العثمانيين ، وجمعوا
القناطير المقنطرة من الأموال ، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال ،
وأقاموا حولهم المعاقل والحصون ؛ ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليها المظلومون ،
{ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
نعم .. إن في ذلك لكبرى العبر ، لمن يعقل ويتدبر { كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } ( المدثر : 32-37 ) فقد أدبر ليل الظلم والاستبداد ، وأسفر صبح
الدستور ، فميز بين الإصلاح والإفساد ، وذهب الغي وجاء ( الرشاد ) ، وكانت هذه
الحركة العثمانية إحدى الكبر ، نذيرًا للمستبدين من البشر ، تعلمهم أنه لا ينفع حذر
من قدر ، كما تعلم من شاء أن يتقدم أو يتأخر من الأمم ؛ كيف يكون السير في
الطريق الأمم ، وإنما مدار التقدم والتأخرعلى العدل والاستبداد ، ورسوخ جذور
إحدى الكلمتين في البلاد ، { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن
قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } ( إبراهيم : 24-27 ) .
لقد ذهبت هذه العبرة بأعذار اليائسين من روح الله ، وتعلات القانطين من
رحمة الله الذين يتركون العمل ، ويتفيئون ظلال الكسل ، إذا غلقت في وجوههم
الأبواب ، وتقطعت بهم الأسباب ؛ جهلاً بعناية الله بالإنسان وسننه في نظام الأكوان
فها نحن أولاء قد رأينا عبد الحميد خان قد غلق جميع الأبواب التي يتصورالتوصل
منها إلى خلعه ، وقطع جميع الأسباب التي يتخيل أنها تفضي إلى أخذه ، حتى إنه
منع الاجتماع والجمعيات ، وحجرعلى كثير من الألفاظ والاصطلاحات ، فأبطل من
المحاكم الشرعية لفظ الحجر والجنون ، وأن يحكم بالحجرعلى مجنون ، ومنع لفظ
المخالعة والخلع[1] منها ، ومما يطبع من كتب الشرع ؛ لأنه يذكر بلفظ الخلع
( بالفتح ) ، كما أبطل من جميع المطبوعات أمثال هذه الكلمات ؛ عبد الحميد ،
سلطان . ( إلا عند ذكره ) مراد . رشاد . ثورة . حرية . جمعية . مبعوثان ... إلخ
إلخ ، وكان لمراقبي الجرائد في ذلك من الأمر والنهي والإثبات والمحو ، ما يضحك
الثكلى ، ويبكي اليائس الذي جاءته البشرى ، وأمر بحذف دعاء القنوت من كتب
التعليم ، وكلمة خلع النعلين مما يطبع من كتب الفقه والحديث ؛ لئلا يخطر خلعه في
البال ، عند ذكر خلع النعال ، أو يسبق فهم المتعلمين أو المصلين ، أن كلمة
( ونخلع من يفجرك ) في القنوت ، توجب خلع الفجارمن السلاطين ، هكذا رأيناه قد
اتقى كل شيء إلا الله { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ } ( القصص :
81 ) ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ( البقرة : 270 ) .
عز عليه أن يسلب بالدستور والحرية ما كان ينتحله من صفات الربوبية ؛
ككونه يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، ولا حدود
لأمره ونهيه ، يحمد على السراء والضراء : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ( الأنبياء : 23 ) يعطي ويمنع ، ويضر وينفع ، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع ،
ويخفض ويرفع ، يسلب من يشاء ما يشاء ، ويقتل من أراد متى أراد ، ويبعد من
يكره ، ويقرب من يحب ، فرأى بعد الدستور أن أمر الشريعة والدستور فوق أمره ،
وأن نفوذ جمعية الاتحاد والترقي فوق نفوذه ، وأن الألسنة والأقلام التي كانت
مكرهة على ترتيل آيات إطرائه ترتيلاً ، والتسبيح بحمده بكرة وأصيلاً ، صارت
تسمي أعماله ووقائع عصره بأسمائها ، بعد أن كانت تطلق عليها أسماء أضدادها ،
إذ كانت تسمي الظلم عدلاً ، والنقص فضلاً ، والجهل علمًا ، والسفاهة حلمًا ،
والباطل حقًّا ، والكذب صدقًا ، والإفساد إصلاحًا ، والخسر فلاحًا والتخريب عمرانًا ،
والإساءة إحسانًا ، إلى غير ذلك .
راعه أن يكون بشرًا يوصف بصفات البشر ، وأن تكون رعيته من جنسه لا
من الغنم والبقر ، فضاق بهذا الدستور صدرًا ، وعجز عن مبارزته جهرًا ، فلجأ إلى
الكيد والاحتيال ، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال ، فألف بها
الجمعية المحمدية ، وبث دعاتها في العاصمة وجميع الولايات العثمانية ، فطفقوا
يوسوسون لعامة المسلمين : أن الدستور مناف للدين ، وأن جمعية الاتحاد تريد بث
التعطيل والإلحاد ، وتحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة أوربية ، بل بثوا فتنهم
في الجيش فشقوه نصفين ، ودبروا مكيدةً لإيقاع المذابح بين العنصرين : ( المسلمين
والنصارى ) ، { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ } ( إبراهيم : 46 ) أما لو وقعت الواقعة ، وقرعت الدولة هذه القارعة ؛
لرجت الأرض رجًّا ، وبست البلاد بسًّا[1] فكانت هباء منبثًّا[2] ولكن لطف الله بهذه
الأمة ، وأراد إنقاذ هذه الدولة فانهتك الستر ، وانكشف السر ، وظهرت بوادر الثورة
على الدستور في القسطنطينية ، قبل أن تصل دعاتها إلى جميع الولايات العثمانية ،
فقتل الثائرون بعض أعضاء مجلس النواب ، ودمروا على نادي جمعية الاتحاد ،
فتبروا ما علوا تتبيرًا ، وكادوا يدمرون المعاهد تدميرًا ، فأرز[3] أهل التدبير إلى
سلانيك وهي مصدر الدستور ، ومطلع هذا النور ، واستصرخوا ذلك الجيش
المنصور ، فلباهم سليل الفاروق ، مبادرًا إلى فتح فروق ، والقضاء الأخيرعلى
الاستبداد ، واصطلام آخر جرثومة له في البلاد ، والتنكيل بما له من الأحزاب
والأنصار { سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } ( الرعد : 10 ) [4] .
عبأ ( محمود ) الأمة ، و ( شوكة ) الملة ، تلك الكتائب الشعواء ، وهي
كالقضاء المنزل من السماء ، فكان هو منها كما قال شوقي من قبل في مدح جيش
عبد الحميد تبعًا لمدحه :
يقود سراياها ويحمي لواءها ... سديد المرائي في الحروب مجرب
يجيء بها حينًا ويرجع مرةً ... كما تدفع اللج البحار وتجذب
ويرمي بها كالبحر من كل جانب ... فكل خميس لجة تتضرب
وينفذها من كل شعب فتلتقي ... كما يتلاقى العارض المتشعب
ويجعل ميقاتًا لها تنبري له ... كما دار يلقى عقرب السير عقرب
فظلت عيون الحر حيرى لما ترى ... نواظر ما تأتي الليوث وتغرب
تبالغ بالرامي وتزهو ما رمى ... وتعجب بالقواد والجند أعجب

أو كما قال اليوم يخاطب هذا الجيش ، مفتخرًا بعمله في أخذ عبد الحميد
وخلعه :
يا أيها الجيش الذي ... لا بالدعيّ ولا الفخور
يخفى فإن ريع الحمى ... لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا ... ل وليس يسرف في الزئير
الخاطب العلياء بالـ ... أرواح غالية المهور
عند المهيمن ما جرى ... في الحق من دمك الطهور
يتلو الزمان صحيفة ... غراء مذهبة السطور
في مدح ( أنورك ) الجري ... وفي ( نيازيك ) الجسور
( ياشوكت ) الإسلام بل ... يا فاتح البلد العسير
وابن الأكارم من بني ... ( عمر ) الكريم على ( البشير )
القابضين على الصليـ ... ـل كجدهم وعلى الصرير
هل كان جدك في ردا ... ئك يوم زحفك والكرور
فقنصت صياد الأسو ... د وصدت قناص النسور
وأخذت ( يلدز ) عنوة ... وملكت عنقاء الثغور
نعم .. كرَّ الفاروقي بجيشه وعيون الأمم الأجنبية شاخصة إليه ، وقلوب
الشعوب العثمانية محومة عليه ، وزحف على الآستانة مصوبًا مدفعه ممتشقًا حسامه
، فلقيته جنود عبد الحميد ، وكانت الحرب كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود ، فطل الأخ
دم أخيه ، وخرق القريب صدر قريبه ، فكانت جنودنا كما قال البحتري :
إذا اشتجرت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
ولكن شتان ما بين الباعثين ، وما أبعد ما بين الداعيتين ، ففريق ينصر الملة
بنصر الشورى والدستور ، ويحمي الأمة بحماية مجلس المبعوثين . وفريق ينصر
الاستبداد بنصر ذلك الشبح البال ، والمسرف العال ، والخؤن الغال { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } ( آل عمران : 13 ).
أيد الله الحق على الباطل ، ومكن جند الدستور من تلك الحصون والمعاقل ،
حتى كأن قائده يحمل سيف جده عمر ، الذي كتب الله له النصر والظفر ، فكان هو
الفاروق الفاصل ، بين العدل والظلم ، والحق والباطل ، وقد أعجب أهل الحرب في
أوربا بسرعة حركته ، وحسن تعبئته ، كما أعجب أهل السياسة بإحكامه للنظام ،
وحفظه للأمن ، وفرح العثمانيون بنصر الله الدستورعلى الاستبداد ، وحكم الشورى
على حكم الأفراد { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ
* يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ( غافر : 51-52 ).
سقطت ( يلدز ) ذات الحصون المشيدة ، والملاجئ المتعددة بعد أن حاصرها
جيش الدستور ، وقطع عنها الزاد والماء والنور ، وفيها أربعة آلاف من النساء
والغلمان والخصيان والأعوان ، والحرس الداخلي والحجاب ، والخدم والكتاب ،
والسواس والحوذية ، والأريسيين والبستانية ، كانوا يأكلون كل يوم ما تشتهيه
الأنفس من أصناف الألوان ، ويتمتعون بما أحبوا من بنات ألحان ومعتقات الدنان ،
وقد استعد عبد الحميد فيها لكل شيء إلا الحصار ، فإنه لم يكن في الحسبان -
وسبحان من لا يشغله شأن عن شأن - أراد أن يجعلها كجنة الخلد ، فإذا هي يوم
الحصار دون جنة آدم في الأرض ، فقد قال الله لآدم : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ
تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } ( طه : 118-119 ) وقد جاع وظمئ
في جنة عبد الحميد حتى الغادات ، وصار من فيها كالسوائم يقتاتون بورق النبات ،
نعم .. ذاقت يلدز طعم الجوع بعد أن كانت مئات الموائد توزع من فضلاتها على
الجموع ، وتجيع الألوف من الجنود وغير الجنود ، وذاقت لباس الخوف والرعب ،
بعد أن كانت تخيف جميع الشعب ، فصارت عبرة للمعتبرين ، ومثلاً للآخرين
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } ( النحل : 112 )
ولما ضيق عليها الحصار ، ارتفع الصراخ والعويل ، ممن قال فيهن شاعر
النيل :
أين الأوانس في ذراها ... من ملائكة وحور
المترعات من النعيم ... الراويات من السرور
العائرات من الدلال ... الناهضات من الغرور
الآمرات على الولاة ... الناهيات على ( الصدور )
الناعمات الطيبات ... العرف أمثال الزهور
الذاهلات عن الزمان ... بنشوة العيش النضير
المشرفات وما انتقلن ... على الممالك والبحور
أمضى نفوذا من ( زبيدة ) ... في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشارف ... والزخارف والحرير
في مسكن فوق السماك ... وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا ... والخيل والجم الغفير
سموه ( يلدز ) والأفو ... ل نهاية ( النجم ) المنير
دارت عليهن الدوائر ... في المخادع والخدور
أمسين في رق القبيل ... وبتن في أسر العشير
ما ينتهين من الصلا ... ة ضراعة ومن النذور
يطلبن نصرة ربـ ... ـهن وربهن بلا نصير
ولماذا صار ربهن عبد الحميد بلا نصير ، ولا ولي ولا ظهير . الجواب من
سورة الشورى التي كان يمقتها : { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ( الشورى : 8 ) ، ومنها { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
* وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ( الشورى : 30-31 ) .
بعد أن ضيق جيش الدستور على يلدز الحصار ، خيرها بين التسليم وبين
السيف والنار ، فعلم ذلك العاهل ، أنه جاء الحق وزهق الباطل ، فأمر بالتسليم
مدعيًا إيثار السلام على الحرب والصدام ، وأن العسكر المهاجم كالحرس من أولاده
لا فرق بين الداعم والهادم لاستبداده ، فسلم من كان فيها من الجيش سلاحه وذخائره
مأسورًا ، ثم خرج منها مذمومًا مدحورًا ، وخرج وراءه رؤساء الموظفين والكتاب
والقرناء ، فالخصيان والخدم فالنساء ، كان عسكر الدستور يخرج كل فريق ،
فيعرف غير النساء منهم فردًا فردًا ، ويحصيهم بالمقابلة على الجداول التي بيده عدًّا
ثم يرسلهم محفوظين إلى المواضع التي أعدها لهم ، إلى أن يصدر الحكم العمري
الفاروقي فيهم ، بل ذلك حكم الله وسننه في نظام الاجتماع { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ( غافر : 18 ) وصدق عليهم بعد إباحة يلدز للأمة ، ما نزل في
فرعون وقومه { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنظَرِينَ } ( الدخان : 25-29 ) .
وقد وضع الفاروقي فروق تحت الأحكام العرفية ، وشكل فيها المحاكم العسكرية
لمحاكمة منفذي الفتنة الحميدية ؛ لإبطال حكومة الشورى الشرعية ، وإعادة الأحكام
الشخصية الوثنية ، وهذا أمر لا بد منه ، ولا تقوم المصلحة العامة إلا به ، والقتل
بهذه الأحكام العسكرية ، هو من قبيل ما يطلق عليه الفقهاء اسم الأحكام السياسية ،
وقد صرحوا بأنه يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين ، فإن قيل : إنها أحكام ربما
تصيب بعض البرآء ، قلنا : وقد يقع مثل ذلك في أحكام القضاء { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } ( الأنفال : 25 ) .
وقد كان من أمر الولايات العثمانية عندما علمت بكيد عبد الحميد خان للحكومة
الدستورية : أن كتبت إلى مجلس الأمة بوجوب خلعه ، ونفض اليد من بيعته ،
وإعلامه بأن الجنود مستعدة لمحاربته ، والأهالي يتطوعون مع الجيش لمساعدته ،
فلما أمن المجلس بأس ذلك السلطان ، اجتمع المبعوثون والأعيان ، واستفتوا شيخ
الإسلام ، في خلع عبد الحميد وتولية رشاد ، وهذه ترجمة الاستفتاء والفتوى بالعربية :
( إذا حذف زيد أمير المؤمنين بعض المسائل الشرعية المهمة من كتب
الشرع المقدسة ، ومنع ومزق وأحرق الكتب المذكورة ، وبذَّر وأسرف في بيت
المال بدون مسوغ شرعي ، وقتل وسجن ونفى رعاياه بدون سبب شرعي وتعود
ارتكاب غير ذلك من المظالم الأخرى ، ثم بعد أن أقسم بأن يرجع إلى الصلاح حنث
بيمينه ، وأصرعلى إحداث فتن عظيمة تخل تمام الإخلال بانتظام أمور المسلمين
وأحوالهم ، وحرض على المذابح ، وإذا كانت الأخبار تتوالى من جميع أنحاء البلاد
الإسلامية طالبة خلعه ؛ تخلصًا من ذلك الجور ، وكان في بقائه ضرر محقق ، وفي
زواله صلاح ملحوظ ، فهل يجب تنفيذ ما يرجحه أرباب الحل والعقد وأولو الأمر ؛
من إلزامه التنازل عن السلطنة والخلافة أو خلعه ؟
( الجواب ) : نعم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير السيد
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ضياء الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
بعدما تناول هذه الفتوى شيخ الإسلام التي هي أصح فتوى صدرت في هذه
الأزمان ؛ لرد الشأن فيها إلى أولي الأمر ، كما أمر القرآن ، اختار أولو الأمر من
المبعوثين والأعيان ، أن يخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني ؛ لأنه ثبت لديهم أنه
يصدق عليه ما ذكر في الاستفتاء من المظالم والمخازي ، وأن يبايعوا بالخلافة
والسلطنة محمد رشاد أفندي ولي عهد المملكة . وهذه ترجمة قرار المجلس بالعربية .
في الساعة السادسة والنصف من يوم الثلاثاء ، وهو السابع من شهر ربيع
الآخر سنة 1327 الموافق 14 نيسان سنة 1325 ( مالية ) ؛ تقرر في جلسة
المجلس الوطني العثماني المؤلف من مجلسي الأعيان والمبعوثين خلع السلطان عبد
الحميد الثاني ، وإسناد السلطنة والخلافة إلى ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم
( محمد الخامس ) ، وذلك بناء على اختيار الخلع على التنازل الاختياري بالاقتراع
وهما الحلان المبينان في الفتوى المذيلة بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين
أفندي المتلوة في الجلسة .
ثم إن المجلس أرسل وفدين ؛ لتبليغ قراره للسلطانين ؛ ليعلما أن الأمر لأولي
الأمر ، لا لرجل واحد يسمى ولي الأمر ؛ لأن الله تعالى أسند في كتابه إلى الجمع ،
ولم يسنده قط إلى الفرد ؛ وليكون لأول عبرة للمستبدين الظالمين ، والآخر سلفًا
ومثلاً للدستوريين الآخرين ، فبلغ الوفدان القرارين ولسان الحال ، يرتل قول الملك
المتعال { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( آل عمران : 26 ) .
دخلوا على عبد الحميد الجبار ، الحقود المنتقم القهار ، وهو في مأمنه الذي
ملأه بالمسدسات ، وجعل فيه الملاجئ والمغارات والمُدَّخَلات ، وله في كل حجرة
منه تمثال يمثله في حال من الأحوال ، فمنها النائم على السرر المرفوعة ، ومنها
المتكئ على الأرائك الموضوعة ، ومنها المكب على كتابته ، ومنها الممثل لقراءته
يحتاط بذلك لخيانة الجنود والأحراس ، وغفلة الرقباء والأرصاد ، حتى إذا ما دمر
عليه محتال ، يحاول الفتك والاغتيال واتفق أن اهتدى إلى بعض حجراته التي يأرز
إليها في خلواته ، يغره التمثال فيهجم عليه ، فينفذ رصاص المسدسات الحميدية من
بين كتفيه ، وإن عبد الحميد لا يخطئ المرمى ، فقد تمرن على الرمي حتى صار
كبني ثعل أو أرمى دخلوا عليه فما وارته مخابئه ولا حمته مسدساته ، ولا دافعت عنه
رجاله ، ولا أغنت عنه أمواله ، بل غلب على هذا المخلوع الجبن الخالع ، فإذا هو
خاضع خانع ، قد خرس لسان مقاله وقرأ لسان حاله { يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا
أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } ( الحاقة : 27-29 ) يتمنى لو كانت مكيدته
قضت على الدستور ، وجعلت زعماءه وأنصاره من سكان القبور ، ثم طلب أن يبقوا
عليه كما أبقى على أخيه مراد ، ويحسنوا إليه لأنه بريء مما وقع من الفساد ! ! ،
وطفق يلوك أباطيل الأعذار ، ولو كان صادقًا لما انتهى إلى هذا ( القرار ) { أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ( ص : 28 ) .
لماذا خضع وذل عبد الحميد وهو الجبار العنيد لذلك الوفد الذي لم يكن معه
غير ثلاثة من ضباط الجند ؟ أتواضعًا كتواضع الخلفاء ، أم هي شنشة الجبناء ، إن
قدروا بغوا وعتوا ، وإن عجزوا ذلوا وعنوا ؟ أهذا هو السلطان المستبد ، القاسي
المتكبر ، الحريص على حياته ، المحافظ بقوة الدولة ومالها على شخصه ، هو
بعينه عبد الحميد ، الذي دخل عليه وفد مجلس الأمة من غير معارضة ولا تفتيش ،
فوقف أمامهم خاضعًا ضارعًا متوسلاً ، يسألهم الإبقاء عليه ، وترك روحه العزيزة
بين جنبيه ؟ !
سبحانك اللهم ما أجل حكمتك ، وما أعدل سنتك ، ما أصدق وعدك ووعيدك ،
فقد بينت لنا أن العاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وقلت { أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } ( غافر : 21 ) .
أين تلك القوة القاهرة ، أين تلك الإرادة النافذة ، أين تلك العظمة والكبرياء ،
أين ذلك الشم والإباء ، أين ذلك المسرف الغال ؟ ، أين ذلك المعجب المختال ، أين
السلطان عبد الحميد ، الذي ظن أنه يبقى فعالاً لما يريد ، فلم يكن يقبل أن يوجد في
المملكة من يقول : هذا نافع في السياسة وهذا ضار ، وهذا حلال في تصرف الإدارة
وهذا حرام . أين السلطان عبد الحميد ، الذي جعل نفسه هو الملك وهو الأمة ، هو
القانون وهو الشريعة ، الذي كان يرى أن الملك ملكه ، والزمان غلامه ، والناس عبيده
أو عباده ، وأن له الحق أن يحرف كتب دينهم ، وأن يغير أسفار تاريخهم وتاريخ
غيرهم . وإن عليهم أن يقابلوا إساءته بالشكر ، وظلمه بالرضا والحمد ، أين
السلطان عبد الحميد ، الذي كان لا ينزل إلى موكب صلاة الجمعة في الأسبوع ، إلا
بين صفوف من الجيوش كالبنيان المرصوص ، فيحرم الصلاة على الألوف
من المسلين لأجل صلاته ، التي يجعلها عنوانًا على خلافته ، فيتزلف إليه فيها
بآيات معينة من القرآن ، لا يتجرأ أن يتلو غيرها قارئ ولا خطيب ولا إمام ،
ولو قرأ قارئ على مسمعه آية من الآيات التي تنذر الظالمين بالهلاك والدمار ،
وتؤذنهم بالزوال والبوار ، لأخذ منه باليمين ، ولقطع منه الوتين ، أو زجه في
ظلمات السجن ، أو نفاه من الأرض . أين عبد الحميد الذي كان يزور الخرقة
النبوية الشريفة تذكيرًا للمسلمين بأنه هو الخليفة ، فتحرس له الجنود طريقه إليها
طول السنة ، فإذا قرب الموعد ، أخليت من جانبيها الفنادق والدكاكين والأمكنة ،
وغلقت الأبواب والنوافذ والكوى ، وحشرت الجنود تملأ ما بين الرجا إلى الرجا ؛
لئلا يطمع أحد بالدنو إليه ، أو يكون في مكان أعلى منه { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ
وَمَا كَسَبَ } ( المسد : 2 ) ، ولا وقاه ما أكدى وما وهب ، ولا نفعه رأي ثقاته ،
ولا سلاح حماته ، بل سلمت فئته الباغية المغرورة ، لفئة الدستور المنصورة ،
وذم هو عمل منفذي فتنته ، وتبرأ منهم ، وزعم أنه كره عملهم . ولكن عجز
عنهم { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ
لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا
لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ } ( الأنفال : 48 ) .
بعد أسبوعين من خلع عبد الحميد ، أنفذ الفاروقي حكم أولي الأمر بنفيه إلى
سلانيك ، وأُخْرِجَ معه من دار السعادة اثنان من صغار أولاده ، وإحدى عشرة امرأة
من جواريه ونسائه ، وجيء به إلى محطة سكة الحديد تخفر مركبته مركبات الجنود
وأرسل كذلك مخفورًا في قطار مخصوص ، ولما وصل إلى محطة سلانيك ، اختار
ركوب إحدى مركبات الأجرة ، إلى أن وصل إلى الدار التي أعدت له ، وهي دار
ألاتيني باشا قائد الشرطة ، وقد أحضر له ولمن معه طعام ذلك المساء من أحد
مطاعم السوق ، وطلب قميصًا فاشتريت له أيضًا من السوق ، وكان في عامة أوقاته
كاسف البال ، كثير الهواجس والأفكار ، وقد تضرع إلى القائد الذي استقبله بأن
يضمن له حياته ، فهدأ القائد اضطرابه وسكن روعه ، ولو كان عبد الحميد صاحب
عزة وإباء ، لما حرص في مثل هذه الحال على البقاء , ولا أقول لفعل ما فعلت
الزباء ، على أن البخع والانتحار ؛ إذا كان محرمًا في الإسلام ، فشدة الحرص على
الحياة ليست من شأن أهل الإيمان ، فقد قال تعالى في الذين لا يؤمنون :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ( البقرة : 96 ).
أما مولانا السلطان محمد الخامس ، فقد بويع في ذلك اليوم بنظارة الحربية
باختيار أولي الأمر ونواب جميع الأمة العثمانية ، فإن كان قد قال في حفلة المبايعة:
إنني أول ملك في عهد الدستور والحرية ، فإننا نقول : إن مبايعته أول مبايعة
جرت على الصورة الشرعية ، فقد كان سلفه يأخذون الملك بمجرد الإرث ، وهو قد
ناله باختيار أهل الحل والعقد ، وقد بويع بالمصافحة كما بويع الخلفاء الراشدون ، لا
بلثم الراحة ، وتقبيل الأذيال ، كما جرى عليه أسلافه المستبدون ، وأول من بايعه
الشريف حيدر بك من أعضاء مجلس الأعيان ، ثم الصدر الأعظم وشيخ الإسلام ،
ثم نقيب الأشراف ، فرئيسا مجلسي الأعيان والنواب ، فأعضاء المجلسين ، فالأمراء
والضباط ، ثم من حضر من خيار الناس ، وقد صرح مولانا عقب مبايعته ، بأن
كل رغبته ورجائه في سعادة أمته ، وبعد عدة أيام حلف في نظارة الحربية يمين
التزام الشريعة والدستور ، والمحافظة على حقوق جميع الأمة العثمانية ، ثم حلف
أيضًا في مجلس نواب الأمة ، كما استحلفهم على الإخلاص لها وله ، فأقسموا
طائعين ، وأطاعوا مختارين ، ودعوا له مخلصين ، والأمة من ورائهم تقول آمين ،
والعاقبة للمتقين { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ } ( الرعد : 29 ) .
ونسأله تعالى : أن يجعل لسان حال سلطاننا الأواب ، هذه الآية الكريمة من
الكتاب { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } ( غافر : 38 ) .
__________
(1) الخلع بالضم الطلاق بعوض ، وقد رفع إلى محكمة التمييز إعلام بحكم شرعي في مخالعة فردته إلى المحكمة الابتدائية لأجل تصحيحه بحذف كلمة خلع منه ، وقد نبهت إلى ذلك بالأرقام كقولها (مثلاً) يجب تغيير الكملة الرابعة من السطر الثاني والعاشرة من السطر الثالث وهلم جرًّا .
(2) أي خربت فكانت أجزاء متفتتة ، أو سيق أهلها كما تساق الغنم .
(3) الهباء : الغبار والمنبث المنتشر المتفرق .
(4) أي اجتمعوا وانضم بعضها إلى بعض كذا فسر الأصمعي الكلمة في الحديث وفي اللسان أرز .
(كجلس) تقبض وتجمع وثبت ، ويقال أرز إلى المكان إذا كان مأمنه ومنعته .
(5) أي ويقال لهم سواء منكم أيها الخارجون على الدستور من أسرّ القول للجنود وغيرهم بالحث على الفتنة ومن جهر به إلخ ، والسارب الظاهر البارز كأولئك الجنود العصاة .
(12/276)
الأخبار والآراء

( الانقلاب العثماني الميمون بخلع عبد الحميد )
( رأي جرائد مسلمي الهند فيه )
أرسل إلينا صديقنا مولوي محمد إنشاء الله ، صاحب جريدة ( وطن )
الغراء التي تصدر باللغة الأردية في ( لاهور ) مقالتين في الانقلاب : أحدهما من
قلمه نشرها في فاتحة أول عدد صدر من جريدته بعد العلم بالانقلاب الأخير وخلع
عبد الحميد ، ثم ترجمها بالعربية والثانية نشرت في جريدة ( أبزرور ) باللغة
الإنكليزية ، وسألنا رأينا فيهما ، فنحن ننشرهما ثم نبدي رأينا فيهما ، وهذه هي
الأولى ؛ ننشرها مع إصلاح قليل لبعض الألفاظ يحدد المعنى ، ولا يضيع منه شيئًا
( وعنوانها الانقلاب المشؤوم في الدولة العلية ) .
لقد طير البرق إلينا اليوم النبأ المشئوم الذي فتت الأكباد ، وألبس القلوب
ثوب الحداد ، وقد ساد الأسف بمجرد سماعه على العالم الإسلامي في الهند وسائر
أقطار المعمورة ، ومن التألم الناشئ منه تنفثت الصدور ، وذلك النبأ العظيم الذي آلم
العالم الإسلامي بأسره ؛ هو نبأ عزل جلالة السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش
الخلافة والسلطنة العثمانية بقرار مجلس الأمة إجماعًا على عزله ، ولا أدري هل
انعزل جلالته من عند نفسه ، أو اعتزلته جمعية الاتحاد والترقي التي كانت عند
أول ظهوره في بدء إحياء الدستور العثماني أخيرًا ، مظهرة عزمها على ارتكاب
هذه الجريمة الشنعاء ؛ لكون أعضائها من الناقمين من جلالته ، أو الخائفين من ذاته
على الدستور , ولكن علمنا بعد صدور الإرادة الشاهانية بإعلان الدستور ،
وانقلاب الوزارة ، وتفويض مسند الصدارة إلى سماحتلو ( ؟ ) كامل باشا الصدر
الأسبق أن المعتدلين والعقلاء من حزب تركيا الفتاة ، لا يرون لزوم عزل جلالة
عبد الحميد ، بعد أن صار محبًّا للدستور ، وحلف على حفظه ، وصرح بعزمه على
تقوية الحزب المذكور ، ولا سيما الجمعية الاتحاد والترقي التي لعبت دورًا مهمًّا في
ملعب إحياء الدستور وترقية البلاد ، حتى صار جلالته لا يبرم أمرًا ولا يصدر
إرادة من غير استشارة الجمعية ، ويطيع لها في كل الأمور ، وقبل صدارة شرف
الجمعية ، وفاه بها علنًا .
وقد مال بكليته إلى الجمعية حتى عاداه حزب الأحرار من تركيا الفتاة ،
وعيره بالتخلف عن فرائض الملك الدستوري ؛ بوضعه نفسه تحت يد جماعة غير
مسئولة عن صلاح البلاد والعباد ، وبعدما ترك استبداده بالحكومة ، قد وقع نفسه
تحت نير الاستبداد الأشأم والأشر من الاستبداد الأول , ولكن كل هذه الملاينة
والانقياد لم يجد لجلالته نفعًا ، وصارت الجمعية تلهو تلعب به كما تلعب الهرة
بالفارة التي تريد افتراسها وقد أخذت الجمعية تمهد السبيل لعزله ، فأبعدت
عساكر الآستانة وأرسلتها إلى الولايات ، ووضعت دار الخلافة تحت حماية
العساكر الموالية للدستور ، والتي جاءت بها من سلانيك وغيرها ، وطلبت من
جلالة السلطان عبد الحميد أن يرضى بوضع فيلق الحرس الهمايوني أيضًا تحت
أمرة نظارة الحربية ، وقد رد جلالته هذا الطلب غير مرة . لكن لما رأى الجمعية
مصرة على ذلك أجاب طلبها ( وإن كانت الإجابة خطأ ) كما ظهر الآن ؛ لأن
جلالته أراد أن يبرهن للعالم ( أصالة ) وللجمعية تبعًا ، حسن نيته وميله إلى جهة الدستور .
إن جمعية الاتحاد والترقي ؛ كانت لا تزال تعتمد على الجيش في حفظ
الدستور ؛ ولذلك لم تكن تسمح بإبعاد العساكر الموالية للدستور إلى الولايات ، وإن
كانت نار الفتن الداخلية متأججة في جميع الجهات ، والضرورة داعية لإرسال
العساكر إلى الخارج ؛ كي يمكن إخمادها وإعادة النظام إلى البلاد ؛ ولما أراد الصدر
الأسبق والرجل المحنك كامل باشا استعادة النظام العسكري والطاعة في الجيش ،
امتنعت الجمعية عن ذلك ، وأخذت تعرقل مساعي الصدر الممدوح وحكومته في
إصلاح المملكة الداخلي ؛ ظنًّا منها أن خروج الجيش من يد الجمعية يضعف
قوتها ، ويحرج مركزها ، ويكون خطرًا على الدستور - لا قدر الله - ، وصارت
الجمعية تأخذ على مجاري أمور الحكومة بالقوة القاهرة ، كأنها حكومة في حكومة بل
وفوقها ، معتمدة على الجيش ، وقد شوهت الدستور بسيطرتها على الحكومة ومجلس
الأمة ، حتى انقسم حزب تركيا الفتاة إلى حزبين : حزب الجمعية وحزب الأحرار ،
ولما غلب حزب الجمعية بفضل الجيش وكثرة أعضائها في مجلس الأمة ، وانهزم
حزب الأحرار شر هزيمة في عدة مواضع ، اندفع في انتقاد أعمال الجمعية بصدق
اللهجة ، وكشف الغطاء عن نيتها المشوهة للدستور ، وانتشر بغض
الجمعية بين الأنام ، بعد أن كانوا محبين لها ، لهجين بشكرها في إعادة الدستور ،
وهاج أهالي الآستانة وعساكر دار الخلافة مشهرين سيف عدائهم في وجه الجمعية ،
وقلبوا لها ظهر المجن ، وفر جميع أنصار الجمعية من أعضاء مجلس الأمة تاركين
مراكزهم في الآستانة إلى مقر مركز الجمعية في سلانيك ، وأخذت الجمعية تجند
الجنود لكبح جماح الخارجين عليها والباغين ؛ بدعوى المحافظة على الدستور ،
وأخيرًا قد فازت الجمعية على مخالفيها ، وأجرت الأحكام العسكرية في دار الخلافة ،
وأخذت تبحث عن الذين سعوا في محو الدستور وإعادة الحكم المطلق ( بزعمها ) .
وكلما ننظر في خلال هذه الحادثة المؤلمة من أولها إلى آخرها ، نجد جلالة
السلطان عبد الحميد محافظًا على الدستور ومواليًا للعامة والوطن ، لم يتعرض
لمجلس الأمة قط ، بل صرح في مثل هذه الحالة الحرجة أيضًا عند تعيينه لعلي
كمال بك ( كذا ) صدرًا لمجلس الأمة ، إن مستقبل البلاد لا يقوم إلا بالمحافظة
على الدستور ، وهذا دليل بيِّن وبرهان عظيم ، على كون جلالته محبًّا للدستور ،
ومحافظًا عليه ، بارًّا بيمينه ، مجتنبًا إراقة دماء الأبرياء ، ونرى المبعوثين أو
حزب تركيا الفتاة تائهين في تيه الضلالة ، وناسين واجبات صلاح الدولة والمملكة ؛
بإسراعهم في عزل عبد الحميد عن عرش الخلافة ، وعدم تبصرهم في غوائل
الأمور خاصة عاقبة مثل ذلك الفعل القبيح ؛ لأنهم لو تأملوا بحوادث انقلاب
السلطنة الأخيرة ، لوجدوا أنه لم يكن لجلالة عبد الحميد يد فيها ؛ لأنه كان قادرًا
على أن لا يسمح بإبعاد حرسه الخاص قبل أسبوعين من تلك الكارثة أو جمع عدد
عظيم من العساكر لحفظ مركزه -وعلى الأقل - حض العساكر الموجودة في
الآستانة الذين بغوا وطغوا على الجمعية ( وأغرائهم ) بالثبات والاستقلال في
الحرب ، وجنود قصره على عدم قبول طاعة المهاجمين من غير مدافعة - بل
وإسلامهم للأعداء - كما صرح ضباطهم عند التسلم : ( إن نسلم أسلحتنا بأمر
من جلالة السلطان ؛ لأنه أبى إراقة الدماء ، وقال لنا : إن المهاجمين أيضًا من
أولاده ، وهو لا يرضى أن يصيبهم مكروه ) وغير هذا ، كان من الممكن لجلالته
أن يأخذ لنفسه حماية أقوى دولة من الدول الأجنبية . لكنه لم يفعل ذلك ، بل سلم
نفسه للملة ، وأثبت للملأ أنه محب مخلص للأمة والوطن ، لا يريد محو الدستور
أبدًا وإراقة قطرة دم في سبيل حفظ مركزه على طريق الواجب أيضًا فكان من
واجبات الجمعية وحزب تركيا الفتاة ؛ أن يحترم عواطف ذلك السلطان الشفيق ،
والسياسي المحنك ، الذي عند قبضه على صولجان الملك كانت السلطنة في أسوأ
الحال من الإفلاس ، وعدم قوة الحربية ، وخلل نظام الداخلي ، وهجمات الأعداء
الخارجي ، وكانت الأمة جاهلة عارية من العلوم الحديثة ، منقسمة على نفسها أي
انقسام ، أدى ذلك الانقسام إلى ضعفها واضمحلالها إلى حد حكم العالم بموتها ، فشمر
على ساق الجد ، وقوى مركزها بين الدول ، وأصلح الخزانة وعمرها ، حتى جعل لها
اعتبارًا ماليًّا في أسواق أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم ، ودرب الجيش
على قواعد الحرب الحديثة ، وأكمل تسليحه بأحدث الآلات ، حتى صار الجيش
نفسه اليوم عليه بعد أن كان له ، وكل فضل الجيش في التربية والعدة والعدد من
بركات عبد الحميد لا غير ، فانظر يا أيها القارئ ، كيف انقلب الحال ! ! سعى في
انتشار التعليم والعلوم الحديثة في البلاد وأقلع صدأ الجهل عن مرآة قلوب العباد ،
إلى أن صاروا يفهمون معنى الوطنية والاتفاق والاتحاد ، فالذين علمهم الوطنية
والاتحاد صاروا اليوم يرمونه بعدم محبة الوطن ومخالفة الدستور ، إن هذا لشيء
يراد .
قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد وراء سعادة الأمة والملة ، وعمل أعمالاً
أثمرت رفاه البلاد والسلطنة : وعمَّر الطرق ، وبنى السكك الحديدية ، وأجرى
الترع والقنوات ، وأخصب المفاوز والقفار ، وأوصل الأقطار بالأقطار ، وحفظ
السلطنة من الضياع أمام أعداء أشداء ، حتى أقر العدو والصديق أنه من أمهر
السياسيين في السياسة ، وداهية العصر في الدهاء ، وفاز في كل المواقع السياسية
المشهورة بهمته الشماء ، غير مضيع نفسه ومضعف مركزه ، وكان في كل زمان
عاملاً نشيطًا ، وسلطانًا حازمًا ، لا يعرف الملل ، ولا يعتريه الكلل ، كان من عادته
أن يعمل ثماني عشرة ساعة في كل يوم ، ويشتغل في مهام السلطنة كأدنى خادم
للملك والملة ، ولم يكن له شغف بالراحة ، ولا كان يعرف الاستراحة ، فبعد ما
عانى من المشاق ما عانى ، وعمل لصلاح البلاد ما عمل ، لما رأى أن غراسه أينعت
وأثمرت ، والملة لحكم الدستوري اشتاقت ، أعطاها هذه النعمة مرتاح البال وصار
يغذيهم بلبان الأفضال ، يقوم بإقامتهم ، ويقعد بإقعادهم ، كأنه ترك حمل القوم على
غاربهم ؛ ليظهروا استعدادهم ومعارفهم ، عادت الأمة عليه ورمته بالسعي في إعادة
الحكم المطلق من غير بينة ولا برهان ، حتى إذا لم تجد مسوغًا لتجريحه ،
استعانت بفتوى الشرع من شيخ الإسلام ، وصوبت إليه سهام الملام ، وأنزلته من
عرش آبائه الكرام ، وهو في هذا الحال أيضًا راضٍ عن الأمة غير منكسر البال
بما فعلت به ؛ لأنه يعرف أن القوم مخطئون ، وهم لا محالة يومًا على صنيعهم
سيندمون .
فارحم الله بلطفك هذه الأمة الخاطئة التي كفرت بنعمتك الجزيلة ، ولم تعرف
قدر ذلك السلطان الجليل ، الذي كان خير سلطان لها في مثل هذه الحالة الحرجة ،
والموقع الصعب ، واهدها اللهم بجاه نبيك ؛ أن تكافئ سيئتها بحسنة إعادة السلطان
عبد الحميد على سرير الملك ، وإن لم تفعل ذلك ، فتحفظ حياته ، وتحترمه
احترامًا يليق به ، وتنتفع من آرائه وتجاربه وحنكته ، من حيث هو مشير مخلص ،
خبير في نظم المملكة ، وترقية السلطنة . إن لم تنتفع به من حيث سلطان قابض
على زمام الملك ، وكن يا مولانا له ولخلفه وأمته خير نصير ، إنك على كل
شيء قدير ، وبالإجابة جدير .
حضرة الرصيف الفاضل
بعد السلام والاحترام ؛ نرسل إليكم اليوم مقالتنا الافتتاحية التي سطرناها في
جريدتنا ، في أمر عزل السلطان عبد الحميد . ومعهما مقالة أخرى المنشورة في
جريدة أوبزرور ؛ وغرضنا أن تنشروهما في جريدتكم الغراء ؛ لتعلم الأمة
العثمانية بأفكار المسلمين الهنديين في ذلك الباب ، وإن كان ما كتبناه عن عدم العلم
بالأحوال الموجودة أو خلافا للوقائع ، فلكم أن تفندوا أقوالنا ؛ لنكون على بصيرة
في المستقبل فيما نكتب بأمور الدولة العلية ، ولكم الفضل هذا ، واقبلوا فائق
احتراماتي أفندم - ودمتم .
... ... ... ... ... ... ... ... 6 مايو سنة 1909
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله
... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة ( وطن )
... ... ... ... ... ... ... ... ( لاهور بنجاب ) الهند
( المنار )
وهذه ترجمة جريدة أبزرور ، وهي مفتتحة ببيتين لشكسبير شاعر الإنكليز
في مصرع يوليوس قيصر الروماني قال :
خلع السلطان عبد الحميد
لقد خلع السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني سلطان تركيا ، وخليفة
الإسلام ، وأمير المؤمنين ، ونودي بمن يخلفه . إن هذا الحادث المحفوف بأعظم
الأخطار الممكنة ، سيؤثر تأثيرًا مزعجًا في العواطف الإسلامية في العالم بأسره ،
ومن شأنه أن يؤدي إلى قلق عظيم في جميع الممالك الإسلامية من النيجر في أقصى
الغرب ، إلى الصين في أقصى الشرق .
إن الزمن القصير الذي مضى على هذا الحادث ، لا يبيح لنا الحكم بمقدار
تأثير خلع عبد الحميد في السياسة العثمانية ومستقبل الإسلام ، فقد يكون فيه خير
لتركيا ، وقد يكون بداية القضاء عليها . ولكننا نعلم علم اليقين أن خلعه قد ذهب من
مرسح العالم السياسي بشخص مفرد ، كان له نفوذ عظيم في تكييف التاريخ
الأوربي مدة ثلاثين سنةً ، وقبض في راحتيه على مفاتيح الأسرار الدولية في
الغرب ، وكان إحسانه نقل حجارة الشطرنج على رقعة السياسة الأوربية ، موضع
إعجاب ساسة المسيحيين وحسدهم وبأسهم . وكان حسن تبصره في مشاكل الشرق
الأدنى ؛ هو الباعث الوحيد على إنقاذ تركيا من الوقوع في أيدي جاراتها القوية
الطماعة . إذ لا يخفى أن الدولة العثمانية إنما فقدت بلغاريا والبوسنة والهرسك على
عهد الحكومة الدستورية ( ؟ ) ، وسيفتح التاريخ فصلاً كبيرًا خطيرًا لوصف
حكم عبد الحميد العظيم الشأن ، ويعترف بأن الفضل في سلامة المملكة من
الفوضى ، وتحول الاتحاد الأوربي عليها عائد إلى حنكته وحكمته ، فإنه لم يسبق
لملك آخر سواه من المتقدمين أو المتأخرين ؛ أن لاقى ما لاقاه عبد الحميد من العقبات
الشديدة داخلاً وخارجًا ، وهو معرض كل يوم للفتن المرتبة ، والبلاغات الأخيرة
الواردة عليه من كل جانب ، ومع ذلك فإنه كان ينجلي عنه غبار تلك الحوادث
ظافرًا فائزًا بفضل حكمته وحنكته ، وهو الآن قد ترك العرش في ظروف محزنة
مفجعة ، بعد أن قضى حياته في التعب والعناء ، تارةً في صفاء ، وطورًا في
شقاء ، وهو في الحالتين قد امتاز بحسن تقديره للواجب الشريف ، والدأب على
العمل لسعادة مملكته .
إن التاريخ لم يرو لنا أنكى من هذه الحادثة ، وأكثر مفاجأة من هذه الفاجعة ،
التي رأينا فيها سلطان الأمة الجليل ، والخليفة الشيخ الذي طالما تولى الأمور بيد
قادرة ، وكانت إرادته نافذة في أمته ، وكان عاملاً نشيطًا لرقي وتقدم شعب متأخر .
تلك الحالة التي رأيناه فيها يهبط من علياء مجده ومكانته على أثر ثورة قام
بها ( أبناؤه ) ، وهو يتوسل إليهم : أن يبقوا على حياته وحياة أولاده .
ويندر أن يأتينا التاريخ برجل حامت حوله الآراء المختلفة كما حامت حول
سلطان تركيا المخلوع ، فقد نادوا به منقذًا لبلاده . كما قالوا : إنه أفسد قومه .
وأطروه ، فقالوا : إنه موجد الدستور العثماني ومانحه . وأهانوه فقالوا : إنه أشد
خصوم الدستور . وفرحوا به فقالوا : إنه الذي رفع الأمة المتأخرة وأحياها من العدم
ثم أساؤا إليه فقالوا : إنه منبع الانحطاط ، ومصدر تعاسة الأمة العثمانية . جعلوه
عنوان المفاخرة برجل تمكن بدهائه وحكمته من رد مساعي أعداء وطنه ، وزعموا
أنه ظالم مستبد ضعيف العقل ، لا هم له إلا ترويج مصلحته الخاصة . على أن
خصومه وأعوانه ، قد اتفقوا على الاعتراف بمقدرته السياسية ، وفوزه في إفساد
مساعي الأعداء الذين أحاطوا به من كل جانب ، وحبه الذي لا ينكر للإسلام
وجميع ما له علاقة به ، وإنما المستقبل وحده يستطيع أن يحكم الحكم البات في
شخصيته وأعماله ؛ يثني عليه ، أو يقضي بعدل على الذين دسوا الدسائس لخلعه .
على أن الدور الأخير من حياته ، جاء موافقًا لما علمناه من حياته الشريفة ،
فإنه منع سفك الدماء ، ووعد أن لا يهجر يلديز ، ورضي بالخلع المقدر له من أمته
ولم يطلب من القوم إلا أن يسمحوا له أن يقضي بقية حياته مع أولاده في القصر
الذي ولد فيه ، على أنهم لم يجيبوا طلبه ، بل نقلوه إلى مدينة بعيدة سجينًا في
بلاده ، محرومًا من جميع مظاهر الأبهة ، معرضًا لمعاملة مكدرة لرجل حساس
نظيره ، وهو مع كل ذلك قد تصرف بأنفته المعهودة وصبره المعروف ، الذي يليق
أن يفاخر به الهيكل العثماني ، والملك الكبير ، والرجل الذي صح إسلامه .
لقد قال بورك : ( يا لها من ثورة ) ، ونحن نقول : أي قلب لا يتأثر ؛ إذ
يتأمل في ارتفاع عبد الحميد إلى مستوى تزيغ فيه الأبصار ، ثم سقوطه الفجائي .
من كان يظن ، وهو ذاهب يوم الجمعة الفائت إلى حفلة السلاملك محاطًا بالهتاف
والدعاء ، أن مثل هذه النكبة تحل به بعد يومين من أمة حوت كثيرًا من الشجعان
والأشراف والأبطال ، لقد كنا نظن أن عشرة آلاف حسام ، بل عشرة ملايين حسام
تجرد من إغمادها ؛ لتنتقم له من نظرة احتقار أو أقل إهانة .
ولكن قضت الأقدار غير ذلك ، ونقل عبد الحميد ليقضي بقية أيام حياته في
قصر الأتيني ، الذي كان مسكنًا لأحد قواده .
( جواب المنار )
كنا نعلم أن الجرائد الهندية تطري السلطان عبد الحميد وتنوه به . ولكن لم يكن
يخطر ببالنا أنها تجهل أحوال الدولة العثمانية في عهده جهلاً مطلقًا ، بحيث لا
تدري حقيقة شيء منها ألبتة ، كما ظهر لنا من هاتين المقالتين .
كنا نظن أن أصحاب هذه الجرائد يعلمون بعض الحقائق عن الدولة وسلطانها
من الجرائد الأوربية التي لم يتمكن عبد الحميد من استئجارها لمدحه ، وأنهم
يكتمون هذه السيئات ، ويذيعون بعض أماديح الجرائد العثمانية التي كانت مكرهة
على المدح الباطل ، وبعض الجرائد الأوربية والمصرية المستأجرة ، أو المخطئة
في اجتهادها ، أو المتزلفة الطامعة بنوال ذلك السلطان الذي يعطي العطاء الجم
لمن يواتيه ، ويسعى إلى هلاك من يناويه .
وكنا نلتمس العذر لمن نحسن الظن فيهم ونعتقد حسن نيتهم كصديقنا صاحب
جريدة ( وطن ) ؛ بأنهم لا يحبون أن يبينوا الحقيقة كما هي ؛ لئلا يضعف تعلق
مسلمي الهند بالدولة العلية ، التي يودون كأهلها وجميع المسلمين الذين سلط عليهم
الأجانب لو تكون أقوى الدول وأعزها ، وأن تبقى صلتهم بها قوية شديدة كما هي
سياسة جرائد مسلمي مصر ، سواء منهم من كان يستفيد من عبد الحميد ويطمع في
المزيد ، ومن ليس كذلك . كنا نعتقد مع التماس هذا العذر أن مدح الجرائد
الإسلامية في مصر والهند لعبد الحميد والدفاع عنه ضر بالدولة ، سواء منه ما
كان بحسن نية ، وما كان عن طمع في ماله أو رتبه وأوسمته ؛ لأن ذلك يجعل
قلوب الملايين من المسلمين متعلقة بشخصه ، وهذا شيء يضر ( لو كان سلطانًا
مصلحًا ، فما بالك وهو سلطان مفسد مخرب ) ؛ لأنه يجب أن يكون التعلق بالدولة
لا بالشخص ؛ ولأن في كل قوة لعبد الحميد إضعافًا للأمة العثمانية وللدولة العلية ؛
إذ اتخذ الأمة عدوة له ، وجعل الدولة صورًا متحركة في يده ، إذا حاول أحد
الوزراء أو المشيرين أو الولاة أو القضاة فمن دونهم ؛ أن يعمل عملاً ما مستقلاًّ
فيها بحسب الشرع والقانون ، بتره من جسم الحكومة بترًا ، وكان عاقبة أمره خسرًا
فأي سلب للاستقلال وإضعاف للحكومة يكون شرًّا من هذا ، ومن الشواهد على
ذلك ما حدثني به أحمد مختار باشا الغازي غير مرة : من أنه حاول جهده أن
يقنع عبد الحميد بجعل القضاء مستقلاًّ دون السياسة والإدارة ؛ ليأمن الناس على
حقوقهم وأنفسهم ، واستعان على ذلك ببعض كبراء الدولة ، فكان السلطان يغضب
لهذا الاقتراح ، ويرفضه أشد الرفض ، وهل تقوم للدول قائمة أو ترقى الأمم بغير
قضاء مستقل ؟ !
وكنا نعتقد أن ذلك المدح الذي غر المسلمين بالسلطان ضارٌّ بأولئك المسلمين
أنفسهم أيضًا ؛ لانصرافهم به عن استعداداتهم واتكالهم على من لا ينفعهم ، وقد كتبت
في مقالة نشرت في جزء المنار الذي صدر في 17 المحرم سنة 1317 ما نصه:
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم ، يحول بينهم وبين
السير في طريق الترقي ، فإذا استطاعوا أن يظهروه أو ينقبوه - ولا أقول أن
يدكوه - يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح ، والمهيع
الواسع ، وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في
أعناقهم ، وسلاسل في أيديهم ، وقيودًا في أرجلهم ، وغشاوة على أبصارهم ، ووقرًا
في أسماعهم ، ورينا على قلوبهم ، وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء ، فإنما نزل
من سماء عظمتهم واستبدادهم ، وإن تعجب فعجب قول من ليس للدولة العثمانية في
بلادهم : أمر ولا نهي ولا نفوذ ولا سلطان [1] ، ( إن حياتنا بين يدي المابين ،
وأن السعادة ستهبط علينا من أفق الباب العالي ) ، وهم يعلمون أن البلاد التي
تحت جناح المابين ونفوذ الباب العالي تنقص من أطرافها ، ويتمزق أهلها كل
ممزق ، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من المابين والباب العالي ؛ إلا الاعتراض على
من مزق الأشلاء وشرب الدماء .
ماذا جنى ويجني أهل جاوه والهند ومصر من الظهور القولي في حب
الدولة العثمانية ؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم ، فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً ، أو سمعنا منهم فيها قولاً ، تزيدان عليهم
الضغط والاضطهاد ، والقهر والاستبداد ، أولا يرون أن الدولة لا ترجع إليهم
قولاً ولا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا .
ولا أقول لهؤلاء المسلمين : أبغِضوا الدولة , ولكني أقول : إذا أحببتموها
فاكتموا حبها ، ولا ترجوا منها ما لا ينال ، واعتمدوا في رقيكم على المعونة الإلهية
ثم على جدكم وكدكم ، وعلمكم وعملكم ، فإن رأيتم من الدولة نهضة عملية ،
فانهضوا معها إن كنتم صادقين ، كل عاشق يحذر العذال والرقباء ، فكيف لا
تحذرون ؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها ؛ إلا مثلما
ينالكم من الضغط الأوربي والاضطهاد .
( نعم .. إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له ، ولهجكم بتمداحه . ولكن
تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح الدولة ، أقول هذا وأنا أعتقد
أنه لُباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا ، وإخلاصنا لأمتنا ودولتنا ، ومن بين لنا
بالبرهان أننا مخطئون ، فإننا نرجع إلى رأيه ، وإذا كان القول صوابًا ، فعلى إخواننا
المسلمين أن يتدبروه ، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه ، والمنتظر من الجرائد
الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار ؛ أن تنقله إلى لغتها ؛ ليحيط به
قراؤها علمًا ) ما كتبناه منذ عشر سنين ، ولم تكن سيئات عبد الحميد قد ظهرت
لنا جلية ، بل كنا نحسن الظن فيه وندافع عنه .
ظهر في هذه الأيام من صدق رأينا أن التغني بمدح عبد الحميد كان مضرًّا
بالدولة ، فإنا نرى أصحاب بعض جرائد المسلمين ومن تلقح برأيها منهم ، يسيئون
الظن اليوم بالأمة العثمانية وبحكومة الدولة كلها ، ويزعمون أن العثمانيين أحرارهم
وجماهيرهم وعسكرهم ونوابهم كلهم مخطئون كافرون للنعمة ، جانون على الدولة ،
وأن عبد الحميد وحده هو المصيب ، وأن استواءه على عرش السلطنة هو الذي
يحفظ الدولة والإسلام ، وأن سقوطه عنه خطر على الدولة والإسلام ، فيا لله
وللعقول ، كيف كان هذا السلطان مصلحًا مرقيًّا للأمة والدولة ، وهي بعد ثلث قرن
من إصلاحه لا تصلح أن تسوس البلاد وتحفظ كيان الدولة ، ولا تعرف قيمة من
يقدر على ذلك ؟ وكيف تبقى دولة يتوقف بقاؤها على وجود شيخ هرم ، بلغ
من الكبر عتيًّا ، لم يزدد فيه إلا كبرًا وعتوًّا .
كان من سوء إطراء الجرائد المصرية لعبد الحمد قريب مما كان في الهند ،
ولما أعلن الدستور اجتمع جمهور عظيم من المصريين للاحتفال بهذا الطور الجديد
للدولة العلية ، ومما كان في الاحتفال من العجائب ؛ أنه كان يصيح جمهور عظيم
ليحي السلطان عبد الحميد ، ولتسقط تركيا الفتاة ! ! وما تركيا الفتاة إلا الأمة
العثمانية الناهضة بالإصلاح ، والقائمة بأمر حكم الشورى الذي يعبر عنه بحكم
الأمة نفسها بنفسها . ما أضعف البشر الذين يوجد فيهم من يتخيل عبد الحميد في
هذا العصر ، كما كان يتخيل قدماء المصريين فرعون الذين قال لهم :
{ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى } ( النازعات : 24 ) ثم قال : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ( القصص : 38 ) فأطاعوه وعبدوه ، كما عبد كثيرون غيره من الملوك .
بعد هذا التمهيد أبين للرصيفين الفاضلين غلطهما فيما كتبا بالتفصيل ، إلا ما
كان من المدائح الشعرية لعبد الحميد ، وإدعاء أن العالم الإسلامي بأسره يبكيه ويحزن
لخلعه ، وحسبنا أن عالمنا الإسلامي العثماني سُرَّ بذلك سرورًا لم يسر بمثله في
حياته وأبدأ بدعاوى صديقي صاحب جريدة وطن ، ثم أذكر ما انفرد به الآخر فأقول :
يقول صديقنا الغيور : إن عبد الحميد أثبت للعالم حبه للدستور وإخلاصه له
واستدل على ذلك بأمور :
( 1 ) إعلانه للدستور عند طلبه من غير سفك دم .
( 2 ) تصريحه بذلك عدة مرات .
( 3 ) عدم تعرضه لمجلس الأمة بسوء .
( 4 ) وضع حرسه تحت أمر نظارة الحربية ، وإخراج حرسه وعساكر
الآستانة منها ، ووضعها تحت حماية عسكر الدستور الذي جيء به من سلانيك
وغيرها .
( 5 ) أمره أخيرًا لحرسه بالتسليم لعسكر الدستور الذي دخل الآستانة عندما أراد
الاستيلاء على ( يلدز ) قال : وكان قادرًا على أن لا يسمح بإبعاد حرسه ،
وعلى جمع جيش عظيم لحفظ مركزه ، وعلى حض العسكر الذي طغى وبغى على
الجمعية على الحرب .
( 6 ) تركه طلب حماية أقوى دول أوربا ، وإنما ترك ذلك حبًّا في الدستور ،
وإخلاصًا للمملكة والوطن !!
ونقول : إنه لا يصح من هذه الأدلة شيء :
( 1 ) فإعلانه الدستور لم يكن عن رضى واختيار ، بل فاجأه هذا الطلب
المقرون بإنذاره الزحف على الآستانة بالجيوش والكتائب إذا لم يجب إليه ، فجمع
مستشاريه وأعوانه الذين أفقر الدولة لإغنائهم ، وأذلها لإعزازهم ، ومن يرجع إليه
عند المشكلات من غيرهم وهو سعيد باشا ، وطفقوا يأتمرون الليل بطوله ،
فأجمعوا أمرهم في الصباح على أن المقاومة بالقوة غير مستطاعة ؛ فإن عساكر
حصون الآستانة متفقة مع عسكر سلانيك ، فهي تساعد ولا تقاوم ، بل قيل له : إن
دسائسهم متصلة بحرسه ، فصدق ذلك ، وناهيك باحتياطه وحذره وجبنه ،
واستفتى شيخ الإسلام في عصيان عسكر سلانيك ؛ ليحاربهم باسم الدين ، ويوقع
الفشل فيهم ، فقال له شيخ الإسلام : لا يمكن الإفتاء بعصيانهم وخروجهم على
الخليفة ؛ لأنهم يطلبون منه أمرًا مشروعًا ؛ وهو جعل الحكم بالشورى كما أمر الله -
عز وجل- . فلما لم يجد في قوس المقاومة منزعًا ، أمر بالإجابة على كره ، وعزم
على استعمال سلاح المكر والحيلة والكيد الذي فتك به الدستور ورجاله أول مره ،
كما ظهر في الفتنة الأخيرة واضحًا جليًّا كالشمس ليس دونها سحاب . ولعل هذا قد
علم الآن عند إخواننا الرصفاء في الهند ، فإنهم قد كتبوا ما كتبوا عندما علموا
بنبأ الانقلاب ، وقبل العلم بالأسباب .
( 2 ) وأما أقواله وتصريحاته بحب الدستور : فهي دعوى لا دليل عليها ،
ومثله إظهاره الرضا عن جمعية الاتحاد والترقي وكونه منها أو رئيسها ، وقد كان
يستعمل هذه المصانعة والمراوغة والدهان في أيام جبروته وعنفوان استبداده ، وإننا
نعرف عنه من ذلك ما لا نود ذكره الآن .
( 3 ) وأما عدم تعرضه لمجلس الأمة ، فلم نفهم ماذا يعني به الكاتب . أيعني
أنه لم يرسل حرسه لقتل نواب الأمة ، أم ماذا يعني ؟ هل كان يمكن التعرض
لهؤلاء النواب مباشرة وأقوى جند الدولة يحرسهم ، والأسطول معه ظهير ؟ كلا
إن هذا لم يكن ليأتيه من له مسكة من عقل أو إدراك ؛ لأنه على فحش قبحه في
أعين الأمم والدول غير معيد للاستبداد ، ما لم تسقط القوة الذي أوجدته ؛ فلذلك
وجه عبد الحميد كيده وفكره لإسقاط جمعية الاتحاد والترقي بتنفير الأمة منها باسم
الدين ، وإلى التفريق والشقاق بين الجيش ؛ ليضرب بما يستميله إليه منه ما يبقى
في جانبها وجانب الدستور ، وإن هلكت بهذه الملكية الأمة وسقطت الدولة .
( 4 ) وأما مسألة تغيير حرسه ، واستبدال بعض عسكر الدستور بعسكر
الآستانة ، فقد راوغ فيه مرارًا ثم أنفذه بالقوة ، ولم يكن من سبيل إلى المقاومة
فيه ، بعد أن شرعت الحربية في إعدام الذين يخالفون الأوامر العسكرية بحسب
القانون ، مع علم الحرس وعبد الحميد أن الأسطول تابع للحكومة ولعسكر الدستور
لا للمابين ، وأنه يمكن أن يدمر يلدز عليه وعلى حرسه تدميرًا .
( 5 ) وأما أمره لحرس يلدز بالتسليم عندما وصل إليهم جيش الدستور بعد
استيلائه على حصون الآستانة بالقوة القاهرة ؛ فسببه يقينه بأن المقاومة في هذا
الوقت تفضي إلى تدمير يلدز بالمدافع ، بعدما كان من حصرها وقطع الماء والزاد
والنورعنها ، وفي ذلك ذهاب حياته العزيزة ، الذي جعل الدولة والأمة حفاظًا لها مدة
ثلث قرن .
( 6 ) وأما دعواه أنه كان يمكن أن ينال عبد الحميد حماية أقوى الدول
الأجنبية ؛ ولكنه لم يفعل حبًّا في الدستور ، فنقول فيها : إن هذا لم يكن في
استطاعته ، لاسيما بعد أن يئس من الفوز والظفر بمكيدته الأخيرة .
ويا ليت شعري ، كيف يتصور رصفاؤنا في الهند أن يحارب الألوف من
عسكر الآستانة إخوانهم الذين جاءوا من سلانيك ؛ لتأييد الدستور ، إذا لم يكن
السلطان هو المحرك لهم ؟ خرجوا عن طاعة قائدهم ، وصاحوا في مواقع كثيرة :
ليسقط الدستور وليعش السلطان ، وحاولوا قتل جميع أعضاء لجنة الاتحاد والترقي
فعلى أي دعامة كانوا يستندون ؟ وأية قوة كانوا يعززون ؟ أما أنه لو لم تظهر
الدلائل الحسية القاطعة بعد ذلك على أن عبد الحميد كان هو المدبر لهذه الفتنة
والمنفق عليها ، لكان العقل وحده حاكمًا بذلك .
وإذا كان عبد الحميد قادرًا على إفساد الجيش الذي جاءت به الجمعية عليها ،
ودفعه للتنكيل بها وبالدستور ، فكيف كان يكون دفاعًا في مكيدته ، لو كان الحرس
الذي رباه في حجر الرفاهة والدلال بقي عنده ؟ أفلا يدل هذا على أن الصواب ؛
هو ما فعلته الجمعية من إخراج ذلك الحرس الفاسد ( الذي لم يطع نظارة الحربية
إلا بالقوة ) من قصر هذا السلطان الذي مرد على الاستبداد ، حتى امتزج بلحمه
ودمه وعصبه ؟ أليس هذا الدليل أصح من دليل صديقنا على كون الرضا بإخراج
ذلك الحرس كان خطأ .
هذا هو القسم الأول من الكلام ؛ وهو ما يتعلق بالدفاع عن سيرة عبد الحميد
في عصر الدستور وأما القسم الآخر منه وهو في سيرته قبل الدستور ، فيشتمل
على عدة دعاوى ، لم يقترن شيء منها بدليل .
1- قال : ( إنه أصلح الخزانة وعمرها ، حتى جعل لها اعتبارًا ماليًّا في أسواق
أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم ) ونقول : إن هذه الدعوى
أغرب ما كتبه الرصيف الصديق ، وإنني لا أذكر أن أحدًا من الذين كانوا يطرون
عبد الحميد بالإكراه أو بالأجرة قال ذلك ، أو ما يقرب منه ، بل كانوا يطرونه
بأمور أخرى لا تظهر مخالفتها للحس كهذه ، فقد أفسد عبد الحميد مالية الدولة ،
حتى لم يعد لأحد من أوربا ولا من غيرها ذرة من الثقة بها ، ولم يعد أحد يقرض
الدولة قرضًا ما إلا بضمان يستولي به على مورد من مواردها بالفعل ، حتى
صارت موارد الدولة الأساسية في يد إدارة الديون العمومية وغيرها ، وبهذا صار
لبعض الأمور المالية شيء من النظام . وحسبك أنه لم يكن للدولة في هذه السنين
ميزانية تجري عليها الحكومة ، بل كان عبد الحميد يغتال الملايين من الدخل ،
ويسلط عمال الحكومة على الاستعاضة عن مرتباتهم التي لا يصل إليهم منها إلا
القليل بسلب الأمة ونهبها بشرط أن يجعل له كبارهم كالولاة والمتصرفين نصيبًا مما
ينبهون .
وحسبك أن الحكومة قد عجزت إلى الآن عن تقديم الميزانية إلى مجلس
الأمة ، وفر موسيو لوران المالي العظيم الذي جاءت به الحكومة من فرنسا ؛ لينظم
ماليتها متعجبًا من الخلل الذي وجده ، معترفًا بأن إصلاحه من أشق الأمور ، حتى
أنه كاد يكون متعذرًا .
نعم .. إنه عمر بخراب مالية الدولة ماليته الشخصية ، فكنز الملايين في
صناديق يلدز ، وفي مصارف أوربا وأمريكا ، وأنفق الملايين على الشهوات
والجواسيس ، وهو يعلم أن عسكر الدولة كان يموت جوعًا وعريًا ، حتى إنهم
كانوا يقتاتون في نجد ببذر الحنظل ، فقطع أمعاءهم والعياذ بالله .
2- قال : إنه درب الجيش على قواعد الحرب الحديثة . ونقول : إن الدولة
العثمانية هي دولة حربية بالطبع ، وكان السلطان محمود رحمه الله تعالى ؛ هو
الذي بدأ بجعل نظام عسكريتها على الطراز الأوربي ، وقد سارت الجندية فيها على
ناموس الارتقاء . ولكن اعترضها من سوء سياسة عبد الحميد ما جعل سيرها
بطيئًا ، وعرضةً لضروب من الخلل والفساد ؛ منه ما حل بدور الصناعة
البحرية والعسكرية ( الترسانة والطوبخانة والبارود خانه ) ، حتى رجعت
القهقرى ، ولو سارت على سنة الترقي لاستغنينا عن شراء السلاح من أوربا بأثمان
غالية ، كانت من وسائل سلب المابين للأموال المخصصة للعسكرية ، وكم ظهر في
ذلك من الخيانات ، وهذا الضرب من الفساد يجعلنا عالة على أوربا في قوتنا
الحربية ( ومنها ) مقاومته للتعليم العسكري في الآستانة ، حتى إنه حاول غير
مرة إبطال المدرسة الحربية التي زعبها بالجواسيس ، ( ومنها ) ترقية الضباط
بالإرادة السنية من غير استحقاق ، ( ومنها ) نفيه وإذلاله للضباط المتعلمين
البارعين ... إلخ ما لا محل لتفصيله هنا ، ولو كان المقربون منه جاروه على كل
وساوسه في العسكرية ؛ لجعلها أثرًا بعد عين . ولكن نحمد الله تعالى أن مكنها من
القضاء عليه قبل أن يقضي هو عليها .
( 3 ) قال : إنه سعى في انتشار التعليم وبث العلوم الحديثة ، ونقول : إن
التعليم من ضروريات كل دولة وكل أمة في هذا العصر ، وكان من مقتضى سنة
الارتقاء أن نكون فيه مثل اليابان ، إن لم نكن مثل الفرنسيين أو الألمان . ولكن عبد
الحميد حارب العلم في أمته ودولته أشد المحاربة ، حتى جعل أكثر مدارسها ملاعب
أطفال ( راجع ص 110 و11 من منار هذه السنة ) ، وأبطل امتحان طلاب
العلوم الدينية ، فتركوا الطلب والاشتغال ، واعترفوا في جميع البلاد بعد إعلان
الدستور وصدور الأمر بامتحانهم : أنهم عاجزون عن الامتحان ، فأعفاهم مجلس
الأمة منه في هذا العام ؛ ليستعدوا له .
وقد علم العامة كالخاصة في جميع بلاد الدولة ؛ أن العلم الديني والدنيوي
هو أكبر الجرائم في نظر السلطان عبد الحميد ، فصاروا يتحامونه ، وحدثت في
السنين الأخيرة من حكمه المشئوم بدعة تفتيش الحكومة لبيوت الناس ، وأخذ
الكتب منها ومعاقبة أصحابها ، فصار الناس يحرقون كتبهم بأيديهم ، ومنهم من
دفنها في الأرض ، حتى أحرق في سوريا عشرات الألوف من الأسفار القديمة
والحديثة في سنة واحدة .
فانظر ما أشد حرص عبد الحميد على العلم وعنايته بنشره ، وما أكثر المجتهدين
والمخترعين المكتشفين في أيامه .
وقد ألقيت خطبة في رحبة القشلة العسكرية ببيروت في أواخر رمضان
الماضي ، بينت فيها كيف كان ظلام الجهل ممدودًا على البلاد العثمانية ، وكيف
كان الهدم واقعًا في ذلك الظلام ببناء الدولة : معارفها وقضائها وإدارتها وماليتها
وعسكريتها ، وبناء الأمة : ثروتها وآدابها ، ولعلنا نراجع الذاكرة فنكتب ما تملينا
علينا منه .
( 4 ) قال : إنه ( قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد ، وراء سعادة المملكة
والملة ) والصواب : أنه أشقى المملكة شقاء لا نظير له ، وإخواننا مسلمو الهند
الذين يقولون هذا القول ، لم يروا ، ولم يختبروا . ونحن نسمع بآذاننا ، ونرى
بأعيننا بل الشقاء وقع على رؤوسنا ، أحاط بنا من كل جانب بسوء سياسته .
( 5 ) قال : إنه عمر الطرق ، وبنى السكك الحديدية ، وحفر الترع والجداول
والصواب : أنه لم يفعل من ذلك شيئًا للأمة إلا سكة حديد الحجاز ، التي حمله على
الرضا بها ، وسواسه الذي يخيفه من إقامة خلافة عربية بالحجاز . وما سمح به من
امتيازات السكك الحديدية للأجانب ؛ فسببه أنه كان من موارد ثروته ؛ لأنه كان لا
يسمح بامتياز إلا إذا أخذ لنفسه مبلغًا عظيمًا من المال ، وكثيرًا من سهام الشركة ،
فقد كان يبيع مصالح المملكة بذلك بيعًا ؛ ولذلك كان يعطي هذه الشركات من
الضمانة الكيلو مترية ، ما لا يعهد له نظير في مملكة أخرى .
ونسأل صديقنا الكاتب أن يدلنا على مكان الترع والجداول التي أحيا بها
الزراعة ، أين هي ؟ وما هي الثروة التي تجددت للفلاحين منها ؟
( 6 ) قال : إنه حفظ المملكة من الضياع ، ونقول : إنه أضاع بسوء
سياسته ثلثها ، ولو بقي على عرش استبداده سنة أخرى لأضاع الولايات المكدونية
الثلاثة ، فإن جمعية الاتحاد والترقي ما عجلت بهذا الانقلاب قبل أن تتم عدته ؛ إلا
لعلمها علم اليقين أن الدول اتفقت على ذلك ، وأنه لا عاصم منه إلا الدستور .
وكان كثير من السياسيين يقدرون أن الدولة لا تكاد تعيش مع ذلك الحكم أكثر
من خمس سنين ، وأن سبب تأخر سقوطها هو تنازع الدول فيما بينهم . وقد سمعت
كلمة من أحمد مختار باشا الغازي أكبر مشيري الدولة وقواد جندها ، وأعلمهم
بحالها ، سمعتها منه مرات كثيرة في السنين الأخيرة من حكم عبد الحميد ؛ وهي
أكبر شهادة نطق بها لسان وأيدتها وقائع الأحوال ، وقد صار نقلها عنه الآن جائزًا
فلعل إخواننا مسلمي الهند يعتبرون بها ، قال : ( لو اجتمعت أوربا واتفقت على
أن تضر بالدولة الإسلامية ؛ كما أضر بها عبد الحميد لعجزت ) .
هذا ما نبين به خطأ الجريدتين بالإيجاز ، ونزيد كلمة في الرد على ما انفرد
به صاحب جريدة الأبزرور ، إذ قال : إن الدولة فقدت البلغار والبوسنة والهرسك
على عهد الحكومة الدستورية , ونقول : إن هذا غلط عظيم ، فإن هذه الولايات قد
ضاعت منا بحربنا الأخيرة لروسية ، وإنما كانت تلك الحرب برأي عبد الحميد
ودسائسه ؛ ليشغل الأمة عن الدستور ، ويتمكن من إبطاله ، وقد بذل مدحت باشا
( رحمه الله تعالى ) جهده في سبيل تلافيها فعجز ، ولا يقال : إنها كانت برأي
مجلس الأمة الأول ، لما هو معلوم .
وقال : إن أعداءه شهدوا له بالدهاء والسياسة ، ونقول : إننا لا ننكر أن له دهاء
ومراوغة في السياسة الخارجية ، كان يستعين عليها برشوة نساء السفراء أو
إهدائهن الجواهر الثمينة . ولكن نطلب من الكاتب أن يأتينا بشهادة لها قيمة من
الأعداء أو غير الأعداء بأن عبد الحميد رقى ثروة أمته ومالية دولته ، أو أجرى
فيها العدل أو نشر العلم ، أو أجرى على طريقة ميكادو اليابان .
وقال : لا ينكر حبه للإسلام ، ونقول : أما دين الإسلام نفسه ، فلم ير من
ملوكه عبث مثله بكتب الحديث والعقائد والفقه من : منع بعضها وتحريف البعض
الآخر ، ولو كان في غير عصر المطبوعات ، وكان جميع المسلمين تحت سلطته لما
بعد عليه أن يطمع في تحريف القرآن ، وتغيير آيات الشورى ونحوها فيه . وأما
أهله فقد كان الاضطهاد عليهم في دينهم شديدًا ، من حيث لا يضطهد غيرهم ، كما
كان الظلم أشد وطأة عليهم من غيرهم . نعم .. إنه كان ولوعًا بإحياء لقب الخلافة
والحرص على تعظيم المسلمين الذين تحت سلطة الأجانب له ؛ لأجل أن تحترمه
دولهم ، فلا تنغص عليه التمتع باستبداده .
وأما ما ذكروا من كثرة عمله فهو على المبالغة فيه عمل ضار في الغالب ؛
لأنه نظر في رسائل الجواسيس الذين يمشون ويمحلون برجال الأمة ، وقد قيل :
إن هذه الرسائل محفوظة كلها في ( يلدز ) ، وربما عجز واحد عن قراءتها في مثل
المدة التي جلسها عبد الحميد على كرسي السلطنة , وأما زعمهم أنه كان لا يحفل
باللذات فهو باطل ، فإنه كان يشرب أجود أنواع الخمور ، وجمع مئات من الغواني
الحسان ؛ للتمتع والغناء والعزف والرقص والتمثيل وغير ذلك .
وليعلم إخواننا مسلمو الهند أننا لم نقل ما قلنا إلا عن علم وخبرة وتأييد
للمصلحة العامة بالحق والصدق ؛ إذ لسنا من الذين يتوسلون بالشر إلى الخير ،
وبالباطل إلى الحق ، وأننا لسنا من المتشيعين لجمعية الاتحاد والترقي التي كان لها
الأثر العظيم في هذا الانقلاب الميمون ، فقد رأوا أننا جمعنا في الجزء الماضي من
اتنقاد المنتقدين عليها ، ما لم يجمعه كاتب .
ونختم الرد بكلمة في الخطرعلى الدولة ؛ فإن الكاتبَيْنِ يخافان أن ينزل بالدولة
الهلاك بعد عبد الحميد . ونحن نقول : لا شك أن عبد الحميد كان يسير بالدولة إلى
الدمار والهلاك كما مرت الإشارة إلى ذلك ، فإن سقطت ( لا قدر الله لها إلا العلاء
والارتقاء ) . فإنما يكون هو الذي أسقطها ، وإن نجت فإنما تنجو بالدستور الذي
هو آخر سهم في الكنانة .
***
( استغاثة أهل البيت الحرام جميع بلاد الإسلام )
جاءتنا الرسالة الآتية من صديقنا الغيور الأستاذ السيد عبد الله بن صالح
الزواوي رئيس اللجنة العليا بمكة لجمع الإعانات ؛ لتعمير عين زبيدة ونشر المعارف
في الحرمين .
الحمد لله وحده
جناب ذي القدر العلي ، والمفخر السني ، كريم الشيم ، عليّ الهمم ، حضرة
الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم ، محرر المنار الأغر ، زاده الله
مجدًا وعلوًّا وقربًا من ملك الملوك ودنوًّا ، بعد إبلاغ جزيل السلام وأداء مراسم
التعظيم والاحترام ، نعرض أنه لا يخفى على أنظاركم السليمة ما هو معلوم لدى
جميع أهل هذ الدين القويم ؛ أعني ما لهذه البلدة السعيدة من خطارة القدر وسمو
المرتبة ؛ بكونها موضع بيت الله الملك الرحيم ، ومسقط رأس النبي عليه أفضل
الصلاة والتسليم . منها ظهر الدين ونما ، حتى برز التمدن منه بأبدع الأشكال ،
وانتشرت التعاليم ، وكثر العلماء حتى علوا إلى أعلى ذروة الفضل والكمال . كيف
لا ، وهي تخت ملك الملوك ، ومقر بيته السعيد الذي يخضع تجاهه الملك
والصعلوك ، وقد اغتصبت في الأزمان الغابرة حقوقها ، ولم يلتفت أحد من القائمين
بإدارة مصالحها من المتولين عليها إلى ملاحظة دوام علوها ورقيها ؛ بنشر العلم
والتعليم ، ومساعدة المعلمين والمتعلمين ؛ فلذلك قل فيها العلم وأهله ، وقلت
الصنائع وعارفوها . والآن بحمد الله - تعالى - تغير الحال ، وأملنا أن تعود إلى
أحسن مآل ، حيث إن القائمين بإدارة مصالحها الآن أهل همة علية ونجدة وأريحية
عرفوا الحق لأهله ، فقاموا باسترداد ذلك المجد ، وحرضوا العلماء ووعدوهم
بالمساعدة ، وأذنوا لهم بالكتابة إلى إخوانهم المسلمين في استحصال كل وسيلة ؛
لترقية العلم والصنائع بإنشاء المدارس ، والسعي في طلب المساعدة من أولي
الغيرة والحمية في جميع أنحاء العالم ، ممن اتصف بصفة الإسلام ؛ لأن هذه البلدة
واجب لها الحق على جميع المسلمين الخاص منهم والعام ، وهذه العلوم والمعارف
هي غذاء الأرواح ، والسبب في جلب الطاعة والخيرات ، والانقياد والفوز بجميع
المكارم والأرباح ، كما أن الماء للسكان والحجاج وكل ذي روح ؛ هو قوام
الأشباح وقد قل وجوده في هذه السنين بسبب الخراب الواقع في العين المنسوبة إلى
السيدة زبيدة ، حتى صار الناس لا يشكون سوى قلته ، وضاعت مصالح أكثر الفقراء
بسببه ، بحيث لا يحملون إلا همه ، ونسيت بقية أتعاب المعيشة في جنب هذا
التعب العظيم خصوصًا ، والخراب في قنوات العين جسيم ، والحاصل أن جلب
الماء وتصليح قنواته يحتاج إلى المال الخطير ، وأيدي أهل هذه البلاد خالية من
القليل منه والكثير ، ولكنه بحمد الله - تعالى - بيد أهل الخير من المسلمين في
بقية الأقطار كثير ، وقطعًا لا يبخلون بشيء منه على هذه البلاد وإصلاحها ؛ بتكثير
المياه فيه ، وبناء مدارس لتعلم العلوم والحرف والصنائع لساكنيها ، حتى يحوزوا
عظيم الأجر حيث إن ذلك أهم المهمات ، وأعظم القربات ، وزيادة الخيرات
والمبرات ، وفضل ذلك عظيم ، وأجره جسيم ، والدرهم الواحد الذي يصرف في
هذه البلدة ، يقوم بمئة ألف درهم في غيرها ، وأفضل من تجب إعانتهم جيران
بيت الله العظيم ؛ القاطنون بواد غير ذي زرع عند بيت الله الكريم ، وحجاج
بيته القادمون إليه من كل فج عميق ؛ لأداء الفرض المعظم ، فساعدوا ساعدوا على
إجراء الخيرات ، وتقربوا إلى الله زلفى بفعل المبرات ، لمثل هذا فليعمل العاملون ،
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وقد تشكل مجلس مخصوص لهذا المهم الجليل من
أهل العلم ، والأمانة ، والديانة ، والغيرة ، والحمية ، أهالي ومجاورين في رقعة
بطي هذا الكتاب مع تعليمات مجلسهم ؛ ليعلم منه تيقن حصول الأمن التام - إن شاء
الله تعالى- في صرف ما يتحصل لهم في موضعه ، لا تتطرق إليه يد غاصبة
أصلاً ، فنسأل الله - سبحانه - لنا ولكم حسن التوفيق إلى إحراز الفضيلة والمنزلة
عنده من أقرب طريق ، إنه على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير ، وصلى الله على
سيدنا محمد سيد الأنام وبدر التمام ، ودمتم .
( المنار )
هذا هو المنشور الذي طبع ، وأرسل إلى أصحاب الجرائد في الأقطار
الإسلامية ، وقد زاد صديقنا رئيس اللجنة في النسخة التي أرسلها إلينا بخطه الذي
نعرفه ما يأتي :
( ثم المرجو من عالي همتكم وعنايتكم بالأمور العامة ؛ القيام ببذل الجهد
لدى العموم بالتشويقات في هذا العمل الخيري ، وجمع الإعانة وإرسالها إلينا ، أو إلى
يد وكيل هذا المجلس في أقرب محل لكم ، حيث إن للمجلس وكلاء في عدة من
البلدان منها جدة ، الوكيل بها حضرة الحاج زنيل عبد الله علي رضا ، وعدن
الوكيل بها محمد أفندي بن حسن علي ، وسنبين أسماء الوكلاء أيضًا وننشرها في
الجرائد حتى في مصر والشام ، وقد كتبنا إلى مصر عدة كتب ولخصوص الخديوي
المعظم ، وصار إرسال كتاب الخديوي من طرف الولاية الجليلة وتصدق
عليه من مقامها ، وكذلك كتبنا عدة كتب إلى الجهات خصوصًا : الهند وجاوه
وبخارى وقازان وبلدان العرب ، وأرسلت المقالة الطويلة المعنونة بعنوان ( أهل
الحجاز يستصرخون ) ، وساعدنا في التحارير جملة من المعربين وغيرهم المقيمين
هنا ، وحيث إن مجلتكم الغراء لها الشيوع في جهات كثيرة ؛ فعسى أن تتفضلوا
دوامًا بتحريض المسلمين على المساعدة في هذه الأعمال ، وتذكروا أمر الحجاز
واحتياجه للماء والتعليم ، وتحسنوا لمن فيه الهمة والقدرة على المساعدة ماديًّا
ومعنويًّا بذل ذلك ، وتفيدونا بالإرشاد إلى ما ينفع ، فإننا مقرون بالعجز ، وعندنا
القابلية للتعلم ، وبذلك تنالون عظيم الأجر والثواب ودمتم .
... ... ... ... ... ... ... 15 ربيع الآخر سنة 1327
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس القومسيون
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ( الختم )
( المنار )
قد شاع وذاع على الألسنة وفي الجرائد : أن الماء قد قل في حرم الله - عز
وجل - حتى بلغ ثمن القربة الصغيرة من الماء عدة قروش ، وكاد الفقراء يموتون
عطشًا . ومن المسائل المعروفة في الشريعة أنه يجب عند الضرورة بذل الماء
وكذا الطعام لكل إنسان محترم ؛ ولكل حيوان محترم ( غير مهدور الدم ) وجوبًا
شرعيًّا ، سواء كان الإنسان مؤمنًا أو كافرًا ، وسواء كان الحيوان طاهرًا أم نجسًا ،
فماذا نقول في جيران بيت الله ، وعُمار حرمه ، وحجاجه المقيمين لشعائره ،
وحقوقهم آكد ، وبرهم أفضل ، ومساعدتهم أكبر أجرًا ، وإعانتهم أحسن ذخرًا .
إن المنار يذكر اللجنة ودولة الشريف أمير مكة ؛ بالمال الكثير المتجمع من
أوقاف الحرمين بمصر ، ولا أدري ، هل كتب إلى الخديوي يطلب المساعدة أم
يطلب هذا المال . ثم ندعو كل من علم بما ذكر لبذل ما تجود به نفسه مما أنعم الله
عليه ؛ لإغاثة حرم الله ، ومن يعمره ويحجه . وإن إدارة المنار تقبل ما يرسل إليها
من المساعدات ، وتعطي به وصلاً مطبوعًا ، وتنشر اسم المرسل إلا أن ينهاها عن
التصريح به فنكني عنه ، وتكفل إرسال ذلك إلى اللجنة في مكة المكرمة زادها الله
تكريمًا ورخاء وهي لجنة مؤلفة من خيار علماء مسلمي الأقطار المجاورين لبيت
الله ؛ فهي موثوق بها ، وبهذا نكتفي عن ذكر أسمائهم . وقد علمتم أيها المسلمون ،
أن سلفكم قد وقفوا على الحرمين عقارًا كثيرًا ، فلا تكونوا أقل منهم غيرة وعملاً
للخير { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } ( التغابن : 16-17 ) .
***
( خلع السلطان عبد الحميد وتولية مولانا السلطان محمد الخامس )
قد ابتهج جميع العثمانيون بخلع عبد الحميد وتولية هذا السلطان الدستوري
المهذب الأخلاق ، ماعدا أعوان الأول على نهب البلاد . ولما بشرنا البرق بذلك ،
اجتمع جمهور من العثمانيين في بعض السمار ، ودعوا صاحب هذه المجلة
للخطابة ، فخطب فيهم مصدرًا خطيته بقوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ } ( آل عمران : 26 ) الآية , وبين أن مشيئة الله في نزع الملك وإيتائه منفذة لسننه
الاجتماعية في ذلك ، ومنها أن إرادة الأمة إذا اجتمعت لا يعارضها شيء ؛ لأن يد
الله على الجماعة كما ورد في الحديث . وبينا أن جمهور الأمة كان يظن أو يعتقد
أن عبد الحميد أعطى الدستور مختارًا ، وأنه كما كان يدعي مخلص له محافظ
عليه، فلما ظهرت الفتنة الأخيرة ، وعلم أنه المدبر لها لإسقاط الدستور ، اجتمع
رأي السواد الأعظم من الأمة على خلعه ، ولا رادَّ لرأي السواد الأعظم إذا
اجتمع .
ثم احتفل العثمانيون في حديقة الأزبكية بذلك ، فخطبنا أيضًا في الموضوع ،
فذكرنا الحاضرين بخطبتنا هنالك يوم أعلن الدستور ، وكيف كان جمهور من
المصريين يصيحون في وجهنا بالدعاء لعبد الحميد ... إلخ ( راجع 466م11 )
وكيف حصحص الحق ، وظهر صدق قولنا , وأطلنا في بيان سلطة الأمة وسيئات
الحكم الحميدي ، وانطباق الدستورعلى الشرع ، فرأينا من استحسان الناس لهذا
الخطاب ، وإطرائنا به ، ما لم نر له نظيرًا .
هذا وإن كل ما بلغنا من أقوال مولانا محمد الخامس وتصرفه وتواضعه
واقتصاده ، يبشرنا بأنه سيكون خير سلطان جلس على سرير آل عثمان ، حقق
الله ذلك .
***
( الدولة العلية الدستورية والدين ورأي غير العثمانيين من المسلمين )
يرى القارئ في باب المناظرة من هذا الجزء ، رأي جريدتين من جرائد
مسلمي الهند في الحكومة الدستورية وحكم عبد الحميد الاستبدادي مع الرد
عليهما .
وقد اجتمعنا في هذا الشهر بالأمير الأفغاني ( نواب بهادر صاحب خان عبد
القيوم ) من كبار رجال الحكومة الخارجية في ( بيشاور ) على حدود الهند من
جهة الأفغان ، وقد سألنا عن حال الدولة الحاضرة ، فبينا له الحقائق ، فأخبرنا أن
أهل الهند والأفغان يجهلونها ، وأن الشائع في تلك البلاد بين المسلمين أن حزب
تركيا الفتاة يريد إبطال الحكومة الإسلامية من الدولة ، وأن يجعلها حكومة
أوربية ليس لها صيغة دينية ، وأنهم يحسنون الظن بعبد الحميد ويسيئونه في
جمعية الاتحاد والترقي ، وقال بعد أن بينا له الحقائق : إنه يحسن أو يجب أن
يذهب وفد من الآستانة إلى الهند ، يطوف فيها ويظهر الحقيقة لأهلها ، وقد سافر
إلى الآستانة ليختبر الحال بنفسة . فلتعتبر الجمعية ولتفكر كثيرًا .
ولا شك أن جهل جرائد مسلمي الهند للحقائق ، وتشيع أصحابها لعبد الحميد
هو الذي أحدث هذا الضرر الفادح أو قوَّاه ، إذا صح ما يرتأيه بعضهم من كون
الإنكليز هم الذين يشيعون هذه الإشاعات ؛ ليوهموا المسلمين أنه لم يبق في
الأرض حكومة إسلامية . إن أصحاب الجرائد المصرية الذين يشيعون على
الحكومة الدستورية الجديدة ، يمدون المسلمين في هذا الغي ، ويخدمون الأجانب
الحاكمين على الملايين من المسلمين خدمة عظيمة . وهكذا يجد الأجانب من المسلمين
الجاهلين أو المستأجرين من يخدم سياستهم ويخذل المسلمين .
***
( الأحكام العرفية في الآستانة )
أعلن القائد محمود شوكت باشا الأحكام العرفية في الآستانة ؛ لتطهيرها من
أعوان عبد الحميد على إعادة الاستبداد ، فأوجس الناس خيفة من ذلك . وعندي
أن فائدة هذه الأحكام لا تقل عن فائدة خلع عبد الحميد وأسره ونفيه ، فإن الطفور
من أسفل درك الاستبداد إلى أية درجة من درجات الدستور من المُحالات الاجتماعية،
وإن كان من الممكنات النظرية والقولية ولذلك عجزت الحكومة في العاصمة وفي
الولايات عن أن تخطو خطوة واحدة في طريق الحكم الدستوري ، حتى صارالناس
يلهجون في كل مكان بقولهم : إن سير الحكومة لم يتغير ، وإننا لم نستفد من
الدستور شيئًا وإن لكاتب هذه السطور في ذلك كلمات ، صارت تؤثر عنه في
الديار السورية منها: ( إن الحكومة الاستبدادية سقطت والحكومة الدستورية ما
تكونت ) ومنها ( إننا أحوج الآن إلى حكومة عرفية منا إلى حكومة دستورية ) وقد
قلت لناظم باشا إذ لقيته في بيروت أول مقدمي إليها في آخر شعبان من السنة
الماضية : إن الحكومة والأمة في حاجة شديدة إلى رؤساء محنكين قادرين ،
ينفذون فيها الدستور بشيء من الاستبداد الباطن ، المطبق على القانون في الظاهر
يكونون كمن يربي الطفل لكن على الاستقلال ، لا على التقليد والاتكال ، ( قلت):
وأرجو أن تكون أنت منهم لما لك من التجربة والاختيار .
كان من سبب عجز الحكومة عن تنفيذ الدستور الخوف من سخط الأهالي
عليها ، إذا عاملتهم بما لم يتعودوه ، وكان خوفها من الموظفين أشد ، فقد كان من
سياسة عبد الحميد أن يحشر في كل دائرة من دوائر الحكومة أضعاف من يحتاج
إليهم العمل فيها ، ورأت الحكومة الدستورية أنها مستغنية عن كثير من هؤلاء .
ولكنها لم تتجرأ على إخراجهم ؛ لئلا يكثر سواد الناقمين منها والساخطين عليها
حتى قيل : إن موسيو لوران الفرنسي الذي جيء به لإصلاح خلل نظارة المالية
قال : إن أهم مبادئ الإصلاح إخراج الجم الغفير من هؤلاء الموظفين الذين
لا عمل لهم . فلم يجبه كامل باشا إلى ذلك ، وفي هذه الفرصة فرصة الأحكام
العرفية يمكن تنفيذ ذلك وغيره ، وتكوين حكومة دستورية محترمة ، فتكون حلقة
الاتصال بين الماضي والحاضر .
***
( الشريف أمير مكة المكرمة والإصلاح )
جاءنا من أنباء الحجاز أن أميره الشريف ، يبذل قصارى جهده في الإصلاح
وعمران الولاية وحفظ الأمن العام فيها ، وقد وُفق إلى تأمين البلاد بدرجة لم يعدلها
نظير في السنين المظلمة الماضية ، وقد وجه همته إلى نشر العلم ، وتأليف أعراب
البادية ، وتأمين سكة الحديد الحجازية . وآخر ما جاءنا من أخباره في ذلك أنه
أخذ العهد والميثاق على مشايخ حرب أن يقوموا بحراسة الخط الحديدي بدلاً من
تخريبه ، وهو قد كفل لهم أن تعرض الدولة عليهم ما فاتهم من الانتفاع بنقل
الحجاج وتوفيهم أجورهم ، وكتب إلى الآستانة بذلك فعسى أن تمضي الآستانة له
عهده ، فإن هذه الطريقة التي سلكها هي الطريقة المثلى لحفظ وامتداد ظل الأمن ،
وأما توهم مقاومة الأعراب بالقوة ، واستقلال الجند بحفظ الخط فهو من وسوسة
الغرور ونزعات الشياطين التي تجعل حرم الله تعالى في خوف دائم ، وخلل
ملازم ، فنسأل الله أن يوفق هذا الأمير الدستوري إلى سائر ما تحتاج إليه البلاد
المقدسة من الإصلاح ، ويوفق الدولة تأييده في ذلك .
***
( الأمير محمد أرسلان نجل الأمير مصطفى الشهير )
قتلت الفئة الباغية على الدستور هذا الأمير ، وكان مبعوث اللاذقية ، فاهتزت
لموته سوريا ولبنان ، ورثاه فيهما كل ذي قلم ولسان ، ونحن نشاركهم في ذلك ونعزي
الوطن بتعزية والده عنه .
__________
(1) كلمة قالتها في تلك الأيام جريدة يومية من جرائد المسلمين بمصر .
(12/297)
 
جمادى الآخر - 1327هـ
يوليو - 1909م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
التعصب الديني في أوربا

تتهم أوربا أهل الشرق عامةً والمسلمين خاصةً بالغلو في التعصب الديني ،
الذي يفضي إلى إيذاء المخالف في الدين أو المذهب ، وغمط حقوقه . وقد كتبنا
في المجلد الأول من المنار مقالات بينا فيها أن مهد التعصب هو أوربا ، وأن
الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لا يبلغون مُدّ أوربا ولا صاعها ، ولا يردها ولا
مترها في التعصب . وحسبك أنها أكرهت جميع من كان فيها من الوثنيين ثم من
المسلمين على النصرانية ، إلا من هاجر وترك أرضه وماله . من حيث بقيت جميع
الأديان في الشرق لا سيما الممالك الإسلامية منه . ثم إنها سفكت من الدماء الغزيرة ؛
لأجل الخلاف في المذاهب النصرانية نفسها ، ما لم يعرف له نظير في الشرق .
وقد انقلبت فيها طبيعة الاجتماع بالعلوم والأعمال الدنيوية وكثر الملحدون ، وأعطت
أكثر الحكومات الأوربية الحرية حقها في كل شيء ، ولم يقو ذلك كله على التعصب
الديني ، لا من مثل روسية التي لا تزال حكومتها نفسها متعصبة فقط ، بل من مثل
إنكلترا العريقة في الحرية . وقد نقل إلينا البرق والبريد في هذا العام أن الحكومة
الإنكليزية لم تمكن الكاثوليك من القيام بتقاليدهم الدينية في عيد الفصح . وجاء البرق
في هذه الأيام بأن تلاميذ المدارس البروتستانت والكاثوليك في ليفربول ، قد
تشاجروا فيها تشاجرًا أدى إلى إقفال الحكومة خمسين مدرسة منها ، وأن أمهاتهم
شاركنهم في هذا الجهاد الديني ، وقد نشر في جريدة الأخبارأحد الكتاب مقالة في
ذلك فكهة ، هذا نصها :
التعصب الديني الإنكليزي
هل الصغار غير الكبار
جاء في نبأ برقي من لندن أنه أقفلت خمسون مدرسة في ليفربول ؛ لوقوع
مشاجرات بين أولاد البروتستانت والكاثوليك ، اشتركت أمهاتهم فيها .
فإذا فرضنا أن في كل مدرسة من هذه المدارس 100 تلميذ نصفهم متساهلون
والنصف متعصبون ، فيكون عدد الذين اشتركوا في هذه المعركة على أقل تقدير :
ألفي تلميذ من صميم الناشئة الأنكلوساكسونية . أما أسلحتهم ، فأولها : ( البوكس )
الإنكليزي . وثانيهما : ( الرفس ) بالجزم الإنكليزية . وثالثها : ( المضاربة ) بأدوات
المدارس ، من ألواح الإردواز والبراجل والمقاشط والمساطر ، وغيرها مما لا تخلو
منها جعبة تلميذ .
ولا بد أن حضرات الأمهات المتدينات المتعبدات المتقيات من طائفة
البروتستانت حملن معهن إلى هذه المعركة ما وجدنه أمامهن من أحذية قديمة ،
وأرجل كراسي ، ومقشات ، وزجاجات فارغة ، كما حملت بعض الكاثوليكيات
الأيقونات والصلبان تبركًا وذخيرة لهذه الحرب الدينية المقدسة .
ومع أن النبأ البرقي لم يأتنا بتفصيل واف عن أسباب هذه الحركة الصبيانية
الملّية التعصبية ، فإنه لا شبهة في أنها نشأت إما عن نفار مذهبي ، أو عن جدال
ديني احتدم بين هؤلاء الصغار ، فازدرى به المدرسون ؛ لما هو مشهور عن
أكثرهم من التباعد عن التداخل في كل أمر غير الفرض المدرسي .
أما الأمهات المصونات ؛ فالراجح أنهن أتين لمساعدة أولادهن وإنقاذهن من
خطر الملاكمة ، ثم رأين الحاجة داعية إلى المداخلة الفعلية فتضاربن .
ولو لم يكن الخطب جللاً لما أقفلت 50 مدرسة دفعة واحدة ، حتى لا يعود
التلاميذ إلى المخاصمة فالمقاتلة ، وربما كانت العودة داعية إلى اشتعال نيران الحقد
الديني بين غيرهم من تلاميذ المدارس التجهيزية ، فالجامعة الذي يبلغ عدد طلبتها
790 طالبًا ؛ لأن الكل منقسمون إلى : بروتستانت وكاثوليك ، وما أثر في التلاميذ
الصغار يؤثر فيهم ، وبذلك يعيد الإنكليز أيام الحروب الدينية ، ويبرهنون لنا على
أن ذاك الرقي المدني الهائل ، وحفظ أشعار شكسبير ، وامتلاك المستعمرات التي لا
تغيب عنها شمس ، لم ينفع في تربية الأخلاق . وأن دعوى اللورد كرومر بأن بلاد
الشرق عامة ومصر خاصة مهبط التعصب الديني دعوى يكذبها اليوم فعل أبناء
ليفربول الذين تجمعهم الجامعة الوطنية ، وتضمهم مدرسة واحدة ، ولم يحضر منهم
أحد إلى مصر ؛ ليتلقى دروس التعصب من المسلمين والأقباط .
وإذا كان صغار الأمة عنوان كبارها وصورة لأخلاقهم ، فلا مراء في أن
هؤلاء الإنكليز يحملون لبعضهم من الأحقاد الدينية أثقالاً مثقلة ؛ لأن تربيتهم البيتية
والمدرسية متشابهة ، وما يتعلمونه مع شاي ليبتون ووسكي بوكانان هنا وهناك مساو
تمامًا لما يتلقنه صغار ليفربول الذين لم يكادوا يشبون عن الطوق ، حتى عرفوا
كيف يتعصب فريق منهم للوثير ، وفريق للقديس بطرس ، والفضل في ذلك راجع
إلى السيدات المهذبات اللائي لا يكتفين بحقوقهن ، بل يطالبن بأن يكن مساويات
للرجال في حق الانتخابات السياسية .
ولا يقتصر التعصب على هؤلاء الإنكليز من الأمم التي نظنها أرقى منا طبائع ،
وأفضل أخلاقًا ، بل يشترك فيها الفرنسوي والإيطالي والألماني والروسي - بنوع
أخص - فإذا درست أخلاق أحدهم ، تجده يقطر تعصبًا دينيًّا جنسيًّا ، وإن لم يكن
متدينًا ؛ وذلك بحكم المعاشرة والروابط الاجتماعية والبيتية .
فالتعصب صفة من صفات الإنسانية ، لم يقو العلم ولا التربية على استئصال
شأفتها من النفوس . وربما متنا ومات أبناؤنا وأحفادنا قبل أن نصل إلى درجة ننسى
فيها التعصب .
... ... أحد المتعصبين
(12/438)
 
عودة
أعلى