5 ربيع الثاني - 1317هـ
12 أغسطس - 1899م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الجامعة الإسلامية
وآراء كتاب الجرائد فيها
أول من كتب وخطب في بيان أحوال المسلمين الاجتماعية ، وتمثيل أمراضهم
ودلالتهم على علاجها ، وإرشادهم إلى الاتحاد وجمع الكلمة ، حكيم الأمة الكبير
وفيلسوفها الشهير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني ( تغمده الله تعالى برحمته )
فإنه كان قد وقف نفسه على تكوين ما نسميه اليوم ( الجامعة الإسلامية ) وكان
أكثر سعيه لها من الطريق الأقرب ، طريق تنبيه الحكومات المسلمة المستقلة إلى
الاتحاد .
ولكن أباها الحاكمون فكاره ... لها جاهل أو مكره وهو عالم
ثم أشرب في قلبه مذهبه هذا الحكيم الثاني ، صاحب الفضيلة الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد ( كما ألمعنا إلى ذلك في عدد سابق ) ولم يدع
الرجلان بابًا للإصلاح الإسلامي إلا طرقاه ، وقد بدأا بباب السياسة ، فكتبا وخطبا ،
ما شاء الله أن يكتبا ويخطبا ، فلم تأت النتيجة كما طلبا ورغبا ، ثم استقر رأيهما
على أن هذه الأمة بالدين وجدت وتكونت ، وبالدين سادت وعزت ، ومن قبِل الدين
( أي الإعراض عنه ) أُخذت وابتُزَّت ، ومن قِبله ضعفت وذلت ، وبه يرجع إليها
مجدها . ومن أفقه يبزُغ كوكب سعدها ، فأنشأ جريدة ( العروة الوثقى ) لدعوة
المسلمين إلى الوحدة الصحيحة ، وأن يجعلوا إمامهم الأعظم القرآن الحكيم ،
أرشدت هذه الجريدة العلماء إلى إماتة البدع وإحياء السنن ، كما أرشدت الملوك
والأمراء ، ولا سيما المختلفين في المذاهب ( كأهل السنة والشيعة ) إلى الاتحاد
والاتفاق ، وأن لا يجعلوا الخلاف الفرعي في الدين من أسباب التفرق والانقسام الذي
يقضي على الجميع ، نبهت وحذرت ، وبشرت وأنذرت ، بكلام أصاب مواقع
الوجدان ، وبراهين ملكت قياد الجنان ، فاهتز لها العالم الإسلامي هزة ، لو طال
عليها العهد لزلزلت الأرض زلزالاً ، ولنفر المسلمون إلى الاتحاد خفافًا وثقالاً .
قال الأستاذ المفتي محرر الجريدة : حدثني بعض أهل العلم من بغداد قال : كنا
نقرأ العدد من ( العروة الوثقى) في مجلس السيد سلمان أفندي نقيب السادة
الأشراف ، فيتفق رأينا على أنه لابد أن يظهر في العالم الإسلامي عمل كبير ، قبل أن
يصدر العدد الذي بعد هذا ، ونقل نحو هذا القول عن بعض فضلاء الغرب والشرق ،
وسمع كاتب هذه السطور الأستاذ الشيخ حسين أفندي الجسر مؤلف ( الرسالة
الحميدية ) يقول ما مثاله : لو طال الأمد على جريدة (العروة الوثقى) لحدث في العالم
الإسلامي انقلاب مهم ، ولهّب المسلمون من رقادهم ، ونشطوا لاسترجاع مجد آبائهم
وأجدادهم ، ولقد بلغ من تمام غرام نبهاء المسلمين بهذه الجريدة ، أن حفظها
بعضهم عن ظهر قلب ، وبعضهم يحفظ نسخها الأصلية ، وبعضهم كتبها فلم يغادر منها
شيئًا ، وهم يعيدون تلاوتها ويسترشدون بها آنًا بعد آن ، يحفظها أكابر العلماء في
الشرق والغرب ، وإنني وجدت كل ما فاتني من أعدادها عند فضيلة الأستاذ
الجسر فنسختها من عنده ، وحدثني الفاضل صاحب جريدة ( ثمرات الفنون) أنه
يحفظها في صندوق الحديد ، حيث يحفظ أثمن ما يملك ، وبالجملة كانت ( العروة
الوثقى) قبسًا من نور القرآن ، ونفخة من روحه ، وجدولاً من ينبوعه ، ظهرت
في ضوئها العلة والمعلول ، وانتعشت بانتشاقها مشام العقول ، ورويت من معين
نصائحها الأكباد ، حتى رجي أن تكون ( وهي العروة الوثقى ) رابطة الاتحاد ، وقد خافت الدولة الإنكليزية يومئذ مغبة الأمر ، ولم تكن أقدامها استقرت في مصر
فحملت حكومة مصر على منعها من دخول البلاد المصرية ، كما منعتها هي من البلاد الهندية . وكان هذان القطران أهم موارد إمدادها ومعاهد امتدادها ، فبطلت -
وهيهات أن تنفصم عروة تعليمها وإرشادها .
ظهرت العروة الوثقى في جمادى الأولى سنة 1301 هـ ، وكل ما صدر منها
18 عددًا ، ثم مرت فترة من الزمن لم تذكر فيها الشؤون الإسلامية العامة في
الجرائد ، إلا ما يجيء في عرض القول ، أو يصيبها من رشاش أقلام غير أهلها من
الكتاب ، مما لا يروي غليلاً ، ولا يغني فتيلاً ، حتى أنشأ نابغة الخطباء والكتاب
السيد عبد الله نديم المصري الشهير ، مجلة ( الأستاذ ) في أوائل سنة 1310 هـ ،
وكتب فيها المقالات الطنانة الرنانة في تنبيه المسلمين إلى الأخطار المحدقة بهم
وبسائر الشرقيين ، وتنشيط هممهم لتلافيها ، إلا أن بيئة النديم ( حاله ومحله )
وزمنه وسياسته ، اقتضت أن يكون أكثر خطابه عامًّا للشرقيين ، وفي كليات الأمور
الاجتماعية ، وأن لا ينحي باللوم على الرؤساء من الأمراء والحكام والعلماء
والمرشدين ، فكانت فائدة كلامه في التنبيه المطلق ، وفي جزئيات وطنية وأدبية ،
وفروع دينية ، وكان كلامه مؤثرًا فيما نقل إلىّ ، فلو بقي لأحدث في مصر تأثيرًا
سياسيًّا أدبيًّا له شأن ، ولكن أخرج النديم من مصر بدعوى أن جريدته تنفخ روح
التعصب الديني ، وتنفث سموم الثورة ، ولم يكن تم لها سنة ، ولقد قرأت منها أعدادًا
في سوريا رأيته يحترس فيها كل الاحتراس من الوقوع في هاتين التهمتين ، وإنما
ينفع الاحتراس بالنسبة للمؤاخذة القانونية دون المؤاخذة السياسية التي أخذ بها .
فتر بعد ( الأستاذ ) الكلام الذي يرمي إلى ( الجامعة الإسلامية ) حتى وفقنا الله
تعالى في العام الماضي لإنشاء (المنار) لإحياء تعاليم (العروة الوثقى) فوضعنا
قاعدته على أساسها ، وأضأنا قمته بنبراسها ، إلا ما كان فيها من السياسة التي تتعلق
بالمسألة المصرية ، والتحريض على الإنكليز ، فإن هذا أمر ذهب بذهاب وقته ،
و(العروة الوثقى) نفسها صرحت مرارًا بأن تلك الفرصة إذا ذهبت لا تكاد تعود ،
ويستقر قدم الإنكليز في مصر - وقد كان - ولكنها قالت في شأن النهضة
الإسلامية الاجتماعية المطلقة التي كانت تعمل لها ما نصه : ( إن الرزايا الأخيرة
التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط ، وقاربت بين الأقطار المتباعدة
بحدودها ، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها ، فأيقظت أفكار العقلاء ، وحولت
أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم ، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم
فيه ، فتقاربوا في النظر ، وتواصلوا في طلب الحق ، وعمدوا إلى معالجة المرض
وعلل الضعف ، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة ، ومؤملين أن تمهد
لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف ، وأن في الحاضر منها
لنهزة تغتنم ، وإليها بسطوا أكفهم ولا يخالونها تفوتهم ، ولئن فاتت فكم في الغيب
من مثلها ؟ ! وإلى الله عاقبة الأمور ) اهـ من مقدمة العدد الأول ، ولا ريب أن
المسألة المصرية ليست في هذا العام كما كانت في سنة 1301 هـ ( 1884م )
أما المسألة الإسلامية فهي هي ، بل تقدمت إلى الأمام بالنسبة إلى ما كانت عليه
في ذلك العام .
قلنا : إن (المنار) وافق (العروة الوثقى) في تعاليمها الاجتماعية وقواعدها
التي وضعتها للوحدة الإسلامية ، وخالفها في وجهتها السياسية المصرية ، ونقول
أيضا : إنه زاد عليها بالبحث في جزئيات البدع ، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة
والعقائد الزائغة ، والتربية المفيدة ، ونحو ذلك مما أرشدت إليه إجمالاً ، ولم يتسع
معها الزمان لتفصيله ، ولهذا يقول قرّاء (المنار) : إنه لم توجد قبله جريدة في
موضوعه ، وقد اعترف لنا الكتاب المسلمون والمسيحيون ، ومن هؤلاء أصحاب
(المقتطف) و (المقطم) وصاحب (الأهرام) وصاحب (الهلال) بأننا تصدينا
لخدمة نافعة ، ولكن أصحاب (المقطم) كانوا يقولون لنا : إن في طريق هذه الخدمة
خطرًا عظيمًا ، وهو مقاومة أوربا للمسلمين إذا هم حاولوا الترقي من وجهة الدين ،
وقد كاشف برأيه هذا بعضُ أكابر علماء الإسلام العارفين بالسياسة منذ بضعة أشهر،
فراجعه العالمُ القول ، وكتب يومئذ صورة المذاكرة في (الأهرام) واجتمع به
كاتب هذه السطور بعد ذلك ، وكنت في صحبة الأستاذ صاحب (المؤيد) ففتح باب
المذاكرة في المسألة ، وكان الكلام مشتركًا ، ولم نتفق معه على نتيجة واحدة ، أما
صاحب (الهلال) فإننا لم نر منه إلا استحسانًا وتحبيذًا ، وإبانة عن اعتقاد أن هذه
الخطة لا أنفع منها للمسلمين ، ومثله كتاب ( دائرة المعارف) وغيرهما من أفاضل
المسيحيين المنصفين ، وفي هذه السنة كثرت الكتابة في تنبيه المسلمين ، فنشر
(المؤيد) كثيرًا من المقالات لكتاب من المسلمين في الشرق والغرب ، ومنهم الفقير
منشئ هذه المجلة ، وبعض تلك المقالات عُرِّب من جريدة ( محمدان) الهندية ،
وكتبت مجلة (الموسوعات) أيضًا عدة مقالات لكتاب متعددين ، ورأينا في جريدة
(زمان) التركية التي تصدر في قبرص مقالات تحت عنوان ( الاتحاد الإسلامي )
ولم نظفر بمن يعرّبها لنا ، وسرى السر من الجرائد المصرية إلى جريدة (معلومات)
العربية في الآستانة العلية ، وإلى جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت ، فَكُتِبَ فيهما
مقالات كثيرة في الموضوع ، ولو سمحت لهما حكومة البلاد لتوسعا في الكتابة ، ثم
أصاب الرشاش غيرهما من الجرائد الإسلامية في الديار السورية ، أما الجرائد
الهندية فكثير ما كتبت ، وقد ترجم بعضها كثيرًا من مقالات (المنار) ، وكذلك
جريدة ( الحاضرة) التونسية .
والحاصل أن أكثر الجرائد الإسلامية قد خاضت في مسألة الاجتماع الإسلامي
من نحو سنة أو أكثر ، ولم تكن تذكر قبل ذلك إلا نادرًا على ما علمت من صدر هذه
المقالة ، وفي هذين الأسبوعين كتب فيها (الأهرام) بعنوان ( الجامعة الإسلامية )
ثم كتب (المقطم) وناقشهما (المؤيد) فيما كتبا ، هذا ملخص تاريخ الكلام في هذه
المسألة بحسب ما وصل إليه علمنا . وبلغنا أن رجلاً عظيمًا من فضلاء مسلمي
القريم في بلاد روسيا اسمه إسماعيل بك ، قد أنشأ جريدة سمّاها ( ترجمان) جعل
جُل مباحثها في الشؤون الإسلامية ، وأنشأ مدرستين لتربية أبناء المسلمين ،
وتعليمهم في تلك البلاد ، ولم نقف على شيء من أعماله ، ولكن رائحته العطرية
تدل على أن عمله عظيم .
أما الطرائق التي بحث فيها الكتاب فهي كثيرة ، ولم تنجلِ للناس الطريقة
المثلى بقول أحد ، إذ ما من قول إلا وله وجه يعتمد عليه قائله ، وما من شبهة على
فساد رأي إلا ولصاحبها تكأة يستند عليها في تقويتها ، والأمر في نفسه أكبر من كل
هؤلاء الكتاب ، وكيف لا وهو ترقية أمة يبلغ عددها ثلاثمائة مليون من النفوس ،
يتبوأُون كل قطر ، وينطقون بكل لغة ، وحكامهم من أنفسهم ضعفاء ، ومن الأجانب
عنهم أقوياء ، وأضعفهم هذا الفقير قد اشتغل بدراسة هذه المسألة بضع سنين ، وهو
في كل يوم يزداد بها علمًا لم يكن عنده ، ويزيح جهلاً كان يغشاه ، إن لم يكن في
أصولها وقواعدها ، ففي جزئياتها وشواردها ، وما يقف عليه الإنسان في سنين ، لا
يمكن أن يجليه لمن لم يقف عليه في مقالة أو عشر مقالات ( مثلاً ) بحيث يؤدي
إليه فكره ووجدانه تامّين بتلك المقالات ، ولكن الميزان الذي يجب أن نزن به
الأقوال والآراء لنعلم النافع منها والغير النافع ، هو أن ننظر فيما يعرض علينا ،
فما كان منها مقومًا لفكر ، ومصححًا لرأي أو اعتقاد ، فهو نافع ، وما كان منها
مرشدًا إلى عمل مفيد ممكن ، فهو نافع ، وما عدا هذين النوعين ، فهو إما خيالات
وأوهام ، وإما غش وتغرير ، وأقل ضرر فيه أنه حجاب على وجه الحقيقة ، وتعليل
للآمال بما لا ينال ، وإزاغة للقلوب عن صراط الحق ، ومن انحرف عن الصراط
المستقيم فهو يزداد بعدًا عن الغاية كلما جد في السير ، وأي خذلان أكبر من كون
سعي المرء واجتهاده مبعدًا له عن غايته ومراده ، لا يعرف الحق بقائله وكونه
صديقًا أو عدوًّا ، ولا بكونه يستلزم تعظيم كبير ومرضاته ، أو عدم ذلك ، وإنما
يعرف الحق بذاته ، فمن رعى هذا حق رعايته ، رجي له التمييز بين الحق والباطل،
والتزييل بين النافع والضار ، فاحفظ هذا الميزان ، وانظر ما يرجح فيه مما سيُلقي
عليك من الآراء والأقوال .
(الأهرام ) و(المقطم) تتفقان على أن الدعوة إلى (الجامعة الإسلامية) باسم
الدين ، مُضرة وغير موصلة إلى الغاية ، وأنه لا سبيل إلى ترقي الأمة الإسلامية إلا
باتباع خطوات أوروبا كما فعلت اليابان ، و(المؤيد) رد عليهما قولهما الأول ، ولم يبد
رأيًا جديدًا ، إلا أنه وافق على أن مسلك الكتَّاب المسلمين في الدعوة الدينية مفيد ،
كما أن الأخذ بالفنون والصنائع الأوروبية مفيد مع ذلك ، وذكر في كلامه عن
(الجامعة الإسلامية) مقالة لبعض أفاضل كتاب الهند نقلت في (المؤيد) من نحو شهر،
وذكر أنه موافق على كل ما جاء فيها ، وخصص بالذكر اقتراح عقد مؤتمر
إسلامي في دار الخلافة العظمى ، وقال : إن (المؤيد) كان قد سبق إلى اقتراح هذا
المؤتمر منذ أربع سنين ، ومن الآراء التي تناقلتها الكتاب فكانت مسلمة عند أولي
الألباب : تعميم التربية والتعليم - إنشاء الجمعيات والشركات والمنتديات العلمية
والأدبية - تكثير الجرائد باللغات التي ينطق بها المسلمون - اتحاد الحكومات
الإسلامية - العناية بأمر القوة الحربية - تعليم النساء بخصوصهن .
ومهما تخالفوا وتناقشوا ، فلكلٍّ وجه ، وقد جمعنا بين الأقوال في مقالة نشرت في
(المؤيد) حديثًا ، ولكن قد ظهر في ( المقطم ) قول جديد في مقالة نسبت إلى
( مسلم حر الأفكار ) لم يتابع به قائله مسلمًا ، ولن يتابعه عليه مسلم ؛ لأنه ناسفٌ
لبناء الدين الإسلامي ، ومقوض لعمود بنائه ، وهو زعم أن الدين والدولة أمران
متبائنان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر .
ولقد وجد للإسلام أعداء اجتهدوا في كل عصر بمحوه أو إضعافه ، منهم من
حاول إفساد العقائد بالتأويل ، ومنهم من وضع الأحاديث الكاذبة ، ومنهم من سهل
للملوك طريق الاستبداد ، ومنهم ومنهم ، ولكن مجموع مفاسدهم ومضراتهم لن تبلغ
بعض ما يرمي إليه هذا القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس ، فهو أبلغ
قول يشير إلى أحكم رأي لمحو السلطة الإسلامية من لوح الوجود ، قاتل الله قائله
ولا كثر فيمن يدَّعون الإسلام من أمثاله ، وكفى بمقالتنا التي صدرنا بها العدد ردًّا
عليه ، ولدينا مزيد .
هذا فإذا وزنت سائر الآراء بالميزان الذي وضعناه آنفًا ، يظهر الراجح
والمرجوح من سائر الأقوال .
يظهر لك من تلك الآراء ما لا يقوّم رأيًا واعتقادًا ، ولا يرشد إلى عمل نافع
يرجى القيام به ، وذلك كعقد مؤتمر في الآستانة العلية ، على أن ( المنار ) كان قد
اقترح في مقالات ( الإصلاح الديني ) التي نشرت في أوائل شعبان من السنة
الماضية تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون مقرها في مكة المكرمة ،
ولها شعب في سائر البلاد الإسلامية ، وجريدة مخصوصة ، أو جرائد ، وبينا هناك
وجوه ترجيح مكة على الآستانة ، كما بينا أصول وظائف الجمعية وأعمالها ونتائجها،
أما الأصول فهي التوحيد في العقائد ، والتعاليم الأدبية التهذيبية ، والأحكام
القضائية والمدنية ، واللغة ، وأما الأعمال ، فأهمها تلافي البدع والتعاليم الفاسدة ،
وإصلاح الخطابة ، والدعوة إلى الدين ، وأما نتائجها ، فأهمها اتحاد الحكومات
الإسلامية ، وكل قول فصلناه تفصيلاً .
وإذا ارتقينا في الأسباب ، وسبرنا أعماق الأقوال والآراء ، ننتهي إلى القول
بأن سبب النهضة الذي يجمع الأسباب كلها ، هو تعميم التربية العملية والتعليم
الصحيح من الوجهة الدينية الجامعة لمصالح المعاش والمعاد ، وهو ما صرحنا به
في فاتحة العدد الأول من (المنار) وأقمنا عليه البرهان في العدد الثاني ، وجرينا
في سائر الأعداد إلى الآن على تفصيل إجماله ، وبيان إبهامه ( خلافًا لما قاله
مصباح الشرق) وأكبر عقبة أمامنا في هذا الطريق هي ندرة الرجال القادرين
على التعليم الذي نريده والتربية التي نبتغيها ، ومع ندرتهم لا تعرف الأمة قيمتهم ،
ولا تنيط بهم ما خلقوا لأجله ، فالجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي ، وكل ما
يرجوه الإسلام ، متوقف على وجود الرجال العارفين بحاجة الأمة ، وإناطة الأعمال
بهم ، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثالهم ، وينفع أمتنا بعلومهم وأعمالهم .