من كلام رشيد رضا في مجلة المنار

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
قال عام
29 شوال - 1315هـ
فبراير - 1898م​
ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى ( آية الجهاد ) وما يتلوها من
الآيات المبينة حكمة الحرب ، وسبب الإذن فيه ، وما يشترط في المحاربين
إثباتًا لقولنا وهي :
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } ( الحج : 39-41 ).
وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة
المحاربين ( بفتح الراء ) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة
التعليم ، لا بواسطة الجبر والإلزام ، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم ،
حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة .
وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى ، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل
مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم ، وفتح أبواب الرزق لأممهم ، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك
سبيلاً . والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك ، وهو أساس مدنيتهم ودعامة
قوتهم : الاقتصاد وتوفير الثروة ، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات
التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم ، ونشر لغات
أممهم وآدابها ، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا ، واكتفوا بالقبض على
زمام السلطة بالفعل ، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها ؛ ففي
الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين : نواب ( الأمير المسلم ) ، وراجا (الأمير الوثني) ،
وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون
بأوامره ( إلا قليلاً منهم ) .
وتبارت تلك الأمم في الاستعمار ، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث
المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه ، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا
السيل المنهمر ، فمنها ما أدركته بوادره ، ولا ندري ماذا تكون أواخره ، وبالجملة لم
تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه ، فإن لم يصبها وابل فطل ، هذا
هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة ، ومثار الخلاف بين
الأمم ، ومولد الفتن بين الدول ، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل
 
ذو القعدة - 1315هـ
مارس - 1898م​
:قوله صلى الله عليه وسلم :( إنما بُعثت لأتمم
مكارم الأخلاق) ، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا . نعم ، أكثر آيات القرآن
الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق ( كالعدل ، والقسط في الأمور كلها ،
والبر والإحسان لجميع الناس ، والصبر ، والحلم ، والحياء ، والرفق ، والرحمة ،
والوفاء ، والصدق ، والتواضع ، والعفو ، والأمانة ، وأمثالها ) ، وينهَى ويحذر من
سفسافها ( كالجور ، والجزع ، والغلظة ، والبخل ، والجبن ، والكبر ، والرياء ،
والكذب ، والنفاق ، والخيانة ، والوقاحة ، والسفه وأشباهها ) ، وفي حكاية أحوال
المهذبين مع الثناء عليهم للاقتداء بهم ، وحكاية أحوال فاسدي الأخلاق في معرض
الذم والتقريع للاعتبار والتنفير ، كما في قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم .
وحسبك مع هذا قول عائشة ( رضي الله عنها ) في قوله تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ } ( القلم : 4 ) : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلقه القرآن .
وقد ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ما لا يكاد يحصى ، فدونك حاصل بعضها .
وهو ( إن أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) . و( إن الخلق الحسن خير ما منح الله تعالى به العبد ) . و ( إن أحب الناس إلى النبي وأقربهم منه مجلساً أحاسنهم
أخلاقًا ) . و( إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة) ( انظروا وتأملوا ) ، و(إنه
يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد) . و(إن العبد ينال بحسن خلقه
الدرجات العلى مع ضعفه في العبادة ) . و ( إن سوء الخلق يقذفه في أسفل درك
جهنم ) . و( إنه يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) . و( إن الله تعالى قوَّى الإيمان
بحسن الخلق ، وقوَّى الكفر بسوء الخلق ) . وأبلغ من ذلك ما روي أن سائلاً جاء
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من بين يديه وسأله : ما هو الدين ؟ فقال : ( حسن
الخلق ) ، ثم جاءه عن شماله ، ثم من وراء ظهره وسأله هذا السؤال ، وأجابه بهذا
الجواب . ويقرب منه ما روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - أنه قال :
لكل بنيان أساس وأساس الإسلام : حسن الخلق .
فإذا تبين أن خلق الإنسان هو دعامة سعادته وعمادها ، وعليه مدار صلاح
أموره الدينية والدنيوية وفسادها ، فيجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يوجه قواه
العقلية والمالية للحصول على هذه المنقبة الكبرى والسعادة العظمى ، وعلى العلماء
أن ينبهوا الأغنياء ، ويعقدوا معهم الجمعيات للقيام بهذا العمل الجليل ، ولا عذر في
التهاون والوَنَى تلقاء هذا المقصد الشريف ، إلا لمن تخبطه شيطان الجهل ، فأمسى
لا يميز الكمال من النقص ، ولا يزيّل بين السعادة والشقاء ، وكفاه عذره ذنبًا . وأما
من كان صحيح الفكر ، وتلا أو تلي عليه ما ذكرناه ، ثم لم يعره أذنًا صاغية ، ولا
نفساً واعية ، رغبة في جمع الحطام ، والتلذذ بالشراب والطعام ، واشتغالاً بمفاخرة
الأقران ، وقهر الأخصام ، فلتهنأ له الحياة الحيوانية في { ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لاَ
ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ } ( المرسلات : 30-31 ) . والسلام على الإنسانية
وذويها ، والفضيلة ومحبيها ، في كل زمان ومكان .

 
26 ذو الحجة - 1315هـ
17 مايو - 1898م
الحرب​

لا تغادر الجرائد اليومية من أخبار الحرب متردمًا ، بل تكاد الرسائل البرقية
أن تحيط بجزئيات أخبارها وكلياتها ، والجرائد إنما تضع لها الشروح وتضيف إليها
الأبحاث بحسْب مشاربها وأهوائها التي تساعدها عليها أهواء شركتَيْ روتر وهافاس،
إذ الأُولى تتحزب للولايات المتحدة والثانية لأسبانيا ، كما يظهر من استقراء رسائلهما
في غير جريدتنا ؛ لأننا لا نكاد نذكر ما هو موضوع خلاف من تلك الرسائل ، وإننا
ننظر الآن في هذه الحرب من جميع وجوهها ، ونلم بشيء من أخبارها فنقول :
الحرب والتمدن :
تلهج الأمم المتمدنة بلفظ السلام عالمها وجاهلها ، وحاكمها ومحكومها ،
ويخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت من بينهم أوزارها ،
وغلب أولياء العقل والفلسفة أولياءها وأنصارها ، حتى بلغت منهم هذه الخِلابة أن
قالوا : إن جميع الاستعدادات الحربية برية وبحرية إنما هي لأجل منع الحرب من
العالم ، ثم ترقوا في مدارج الاختلاب ( الخِلابة والاختلاب : الخديعة بالقول )
فقالوا : ( إن الحرب نفسها لأجل السلام ) . قال ذلك الرئيس السياسي لأعظم أمة
متمدنة بعيدة عن الطمع بالنسبة لغيرها ، وهي الأمة الأميركية ، ورئيس آخر من
رؤساء الدين فيها ! يفتحرون الكلام ( أي يأتون به من عند أنفسهم ولا يطاوعهم
عليه أحد ) ، وينفذونه بالقوة لا بالإلزام .
إذا أمكن النزاع بالاستدلال على كذبهم في دعواهم حب السلم ، والسعي إليها
بوقوع الحرب فعلاً ، فهل يمكن النزاع في الاستدلال على ذلك بحالة مجموع أممهم
في جميع طبقاتها ؟ ألم تر أن الجنس اللطيف قد ألف أسرابًا من الغادات الحسان
عرضن أنفسهن للانتطام في سلك الجنود ، كما ينتظم اللؤلؤ والمرجان في العقود ،
وستسمع ما نهض له النساء في أسبانيا .
أما علمت أن المدارس الجامعة ، كمدرسة هرفرد ، و مدرسة يال ( في أميركا)
وغيرهما قد ترك التلامذة فيها دروس العلم للخوض في معامع الحرب . وأن بعض
تلك المدارس أقر مديروها على أن كل تلميذ من الصف الأخير ينتظم في سلك
الجيش البري أو البحري يعامل معاملة من أتم مدة المدرسة ، ويأخذ الشهادة ، وأما
سائر التلامذة فيمتحنون امتحانًا خصوصيًّا بعد العود من الحرب للمدرسة ، وأن
كثيرًا من شعراء الولايات المتحدة وكتابها قد تطوعوا للخدمة العسكرية ليشاهدوا
بأعينهم آيات الخراب والدمار ، وآثار الفتك والانتقام ، ثم ينظموها في عقود القصائد
والقصص لتكون مفخرًا لهم إذا انتصروا ، ومهيجًا لأمتهم على أخذ الثأر إذا هم
انكسروا ، ولقد كان من شأن طلاب العلم الأسبانيين مثل ما كان من أخصامهم
الأميركانيين ، فقد جاء في أخبار رومية : إن تلامذة الأسبان الذين يتعلمون فيها
اجتمعوا وأجمعوا على ترك المدارس والذهاب لأسبانيا للانخراط في العسكرية . ألم
تقرأ بأن التطوع للحرب عم جميع الطبقات ، حتى إن الإسرائيليين والسوريين قد
تطوع جماعة منهم في الولايات المتحدة .
وجاء في بعض الأنباء أن المتطوعين في الولايات المتحدة بلغوا ( 700 )
ألف رجل ، ومنهم كثير من النزلاء ، لا سيما الإنكليز ، ألم يأتك نبأ الأطباء الذين
عرضوا أنفسهم لخدمة الجيش الأميركي وهم ( 1200 ) طبيب .
الحرب والدين :
أهدى إمبراطور ألمانيا وسامًا للفيلسوف سبنسر الشهير ، فأبى قبوله قائلاً :
إنني أنا مقاوم للحرب وقائل بوجوب إبطالها ، فقبولي الوسام من رئيس حربي من
أعظم قواد الحرب دليل على رضاي منه .
فليت شعري هل الديانة النصرانية ديانة سلم أم ديانة حرب ؟ يقول الآخذون
بها : إنها ديانة سلم ، لكن هؤلاء المحاربين وأمثالهم مخالفون لهديها ، فإذا سلمنا لهم
قولهم تصديقًا لقول القس لوازون الخطيب الشهير : ( إن ظِل الديانة قد تقلص من
أوروبا ) - وأميركا مثلها - أو ذهابًا مع القول العام : ( إن السياسة لا دين لها ) ،
فهل يسوّغ لنا أن نقول : إن ذلك الظل قد تقلص ، حتى عن قلانس القسوس وقباب
الكنائس والهياكل الدينية ، أو إن تلك الهياكل مدارس سياسية ورجالها خطباء
الحروب ، ومسهلو الكروب ؟ وكيفما كان الحال ، فليس في كلامنا إيماء للاعتراض
على الديانة النصرانية ، سواء كانت حربية أم سلمية . وإنما هو مسوق لبيان أن
جميع الطبقات في الأمم الإفرنجية تؤيد الحروب ، وأن المحاربين لا يرون أنهم
منحرفون بخوض معامع الحرب عن دينهم ، بل يرون أنهم يسعون في سبيل الله ،
ويبتغون مرضاته .
ذلك أنهم يواصلون البِيَع والكنائس ، ويقيمون فيها الصلوات ، ويكرون
الدعوات بأن يهبهم الله النصر على الأعداء ، ويعقدون التحالف في الهياكل العظمى
على الاستبسال والاستماتة .
وأكثر المظاهرات الدينية في هاته الحرب يقع من أسبانيا ومن أخبارها أن
الأميرال فيلاميل قائد أسطول الحراقات ( التوربيد ) زار هو وبحارته هيكل
العذراء وخطب فيهم خطبة حماسية . ثم استحلفهم على الاستبسال فركعوا أمام
المذبح وأقسموا أغلظ الأيمان أنهم لا يعودون إلا ظافرين .
ومنها : أن نساء الأشراف أنشأن جمعيات دينية برئاسة رؤساء الدين لإقامة
الصلاة ليلاً ونهارًا ، والدعاء إلى الله بنصر أسبانيا .
ومنها : أن أسقف مدريد أصدر منشورًا عن الحرب أمر الكهنة أن يتلوه في
جميع الكنائس التابعة لإبرشيته ، وهو يلقي التبعة على الولايات المتحدة .
ولا تحسبنَّ الأميركانيين لم يصبغوا حربهم هذه بصبغة الدين وأنهم لم يقيموا
لها الصلوات ، ويرفعوا للاستنصار أكف الدعوات ، فمن أخبارهم أنه لما اجتمع
مجلس الأمة لسماع رسالة الرئيس عن الحرب قام أحد القسيسين وصلى صلاة حارة،
طلب فيها من الله أن يشدد قوى الولايات المتحدة وقال : ( لتحلّ نعمتك على الآباء
والأمهات الذين طلب منهم أن يقدموا أبناءهم للحرب ، وليكن عزاؤهم أن ضحاياهم
إنما هي لخدمة الإنسانية والتمدن ، أَرْشِدْ الرئيس ومشيريه بحكمتك ليعززوا قواتنا
في البر والبحر ، حتى تنتهي الحرب سريعًا بخدمة العدل والحرية والسلام الدائم )
( تأمل ) .
ولما أن جاءت بشرى انتصار الأسطول الأميركاني في منيلا اجتمع مجلس
الشيوخ وجيء بالقسيس ، فوقف وصلى صلاة الشكر ، وهي : ( نشكرك على
الأخبار الحسنة التي وافتنا من البحر ، وعلى النصر الذي أوليتنا وكللت به هام
ضباطنا في أسطولنا الآسيوي ، ونحمدك لأنك أوقفتنا موقف فخر لم يسبق له مثيل ،
وهو موقف أمة تحارب لا طمعًا بأرض ولا مال ولا بقوة ولا انتقام ، بل دفاعًا عن
المساكين المحتاجين المظلومين ) .
ولا يجهل جناب القس أن أمته حضت نار الفتنة في كوبا ، وحضت الثوار
على مواصلة القتال ، ومنّتهم بالمساعدة على الاستقلال ، ولولا ابتغاء الفتنة لدفعت
بالتي هي أحسن ، ولما عمدت إلى شفاء الداء بما هو أدوأ ، ولو أن حضرات
القسوس يرون الحرب مأثمًا لتأثّموا من مُثافَنة أهلها ، والافتخار والتبجح بتمكنهم من
إزهاق الأرواح ، وتقويض معالم العمران ، والدعاء لهم بالحصول على هذه
المقاصد، ولكان شأنهم في ذلك شأن الفيلسوف سبنسر الذي لم يقبل الوسام الذي
أهدي له على خدمته للعلم والفلسفة ؛ لأنه من رجل حربي . فالأصل أن تكون
الأعمال الاختيارية منبعثة عن التأثرات والاعتقادات القلبية .
والخلاصة : أن الحرب ليست لأجل الدين ، لكنها مؤثرة حتى على رجال
الدين​
 
كتاب الإسلام
[*]
للكونت هنري دي كاستري

يعلم مَن له وقوف على التاريخ الحديث أن الحروب الصليبية هي مبدأ جميع
المشاكل بين المسلمين وبين أوروبا ، بل بين هذه وبين جميع الشرق ، ولقد كان مبدأ
تلك الحروب تحمسًا وغلوًا في الدين وتعصبًا من أوروبا على الإسلام ، وما كانت
لتهب تلك الأمم كلها وتندفع على الممالك الإسلامية وتعمل على إبادة الإسلام وهي
تعتقد أنه دين قيم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحفظ العهد والذمة ، ويقيم
القسط في بلاد كان له السلطان عليها ، إذ لا يجوز اتفاق أمم كثيرة على حب الشر
وكراهة الخير ، والرغبة في محوه واصطلامه وإن جاز أن يجنح إلى ذلك أفراد أو
جماعات من الناس نشئوا على الشرور ، وتربوا على الفساد ، أو أعمتهم الحظوظ
وشهوات النفوس من حب الرياسة وغيره ، وإنما طوح بأمم أوروبا إلى ذلك أن قوماً
من أرباب الهواء مثلوا لهم الديانة الإسلامية بتمثال مشوه ، اجتمعت فيه المعايب
والرذائل المتفرقة في العالم كله ، وزايلته جميع المحامد والفضائل والمحاسن إلى ما
لا محل لشرحه هنا .
تفجر طوفان تلك الفتن ، فجرف ما جرف ، وفاضت بحار الانتقام ، فغشي
الناس من اليم ما غشيهم ، أعقب ذلك الجزر إلى أجل مسمى ، ثم فاض نائب تلك
البحار باسم جديد ، وتلون بألوان المدنية الحديثة المدهشة ببهاء منظرها وغرابة
مخبرها ، مدنية روحها الثروة ، وجسدها الثروة ، قرب طلاب الكسب فيها الأبعاد ،
وخالطوا جميع الأمم حتى كادت الأرض تكون مدينة واحدة .
بهذا أمكن لأهل أوروبا الوقوف على حالة المسلمين في سيرتهم الدينية ، ولكن
بعدما ( دب إليهم داء الأمم السابقين) و ( اتبعوا سَنَن من قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع ) ، فكان لمن رآهم بعين السخط دليل من أنفسهم على ما رماهم به الطاعنون ،
حتى بما يسمونه (عبادة القديسين) ، كما هو منصوص في كتبهم ، ومسموع من
كلمهم ، ومنهم من نظر بعين الإنصاف ، فرأى من أعمالهم حسناً وقبيحاً ، وتبين له
أن قومه مفرطون في ذمهم للإسلام ، وغالون في تحزبهم وغمطهم للمسلمين .
ومن هؤلاء من ذهب به حب اكتشاف الحقيقة إلى النظر في القرآن وغيره من
كتب الدين ، حتى أدى به البحث إلى الإعجاب به ، ثم اعتناقه أو الثناء عليه .
ومن المثنين على الإسلام في مصنفاتهم ( الكونت هنري دي كاستري ) كتب
كتابًا سماه : ( الإسلام خواطر وسوانح ) ، بحث فيه عن صدق سيدنا محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم في نبوته ، ففند مزاعم قومه فيه ، لا سيما أصحاب ( أغاني
الإشارات) ، التي كانت السبب في الحروب الصليبية ، وتكلم على الإسلام في زمن
الفتح وما بعده ، وعلى القضاء والقدر ، وغير ذلك من المسائل التي يطعن بها أهل
أوروبا على الإسلام ، وتكثر المباحث بها في هذه الأيام ، لا سيما من المستشرقين
في أوروبا ، ويستشهد في كلامه بالقرآن العزيز ويحتج بآياته .
كل هذا وعلماء المسلمين لا يدرون في الغالب ماذا يقال في دينهم مدحاً ولا ذمأ ،
بل تركوا الأمر لأهل أوروبا يفتاتون عليهم بما يشاؤون ، وكيف يدرون ، وهم لا
يعرفون لغات القوم ، ويذمون في الأكثر من يتعلمها ، ويختبر حالة أهلها ، وينظر
في كتبهم ، وربما طعنوا في دينه من جراء ذلك ، حتى كادت الطبقة العارفة بلغات
أوروبا والناظرة في فنونها تكون منفصلة عن الطبقة المشتغلة بعلوم الدين انفصالاً
تامًا . ولا مجال هنا لبيان الضرر في ذلك على الأمة الإسلامية ، وإنما نقول : إنه
يوجد في علماء الدين من يعلم وجه حاجتنا إلى علوم أوروبا حق العلم ، ويوجد في
العارفين بعض لغات الأوروبيين والناظرين في فنونهم من يحب خدمة الملة والدين
بعلمه ، ومن هذا الفريق العالم القانوني الفاضل عزتلو أحمد فتحي بك زغلول رئيس
محكمة مصر الابتدائية ، فإنه يختلس الفرص من أشغاله القضائية الكثيرة لترجمة
الكتب النافعة ، ولقد ترجم غير كتاب ، ولا يزال يدأب في هذه الخدمة . وآخر كتاب
نقله للعربية وطبعه كتاب : (الإسلام) للكونت دي كاستري المشار إليه آنفاً .
أحب القاضي الفاضل أن يعرف قومه ماذا يقال عنهم ، رجاء أن تنهض هممهم
للمدافعة عن أنفسهم بالاستدلال وإصلاح الحال ، فإننا إذا أقنعنا أوروبا بأن ديننا دين
علم وتهذيب ( وهو الواقع ) يوشك أن يتغير فيها الرأي العام فينا ، ولنا في ذلك من
المنافع العلمية والسياسية ما لا يجهل .
وقد أحببت أن أتحف قراء المنار بمقدمة حضرة المترجم ؛ لما فيها من الفائدة ،
والتنبيه لما ينبغي أن تتوجه إليه أفكار المسلمين ، لا سيما العلماء منهم ، فإننا نحن
المسلمين نعتقد أن القرآن هو أول كتاب سماوي أَلَّفَ بين الدين والعقل ، وجمع بين
مصالح الدنيا والآخرة بالعدل ، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم مكارم
الأخلاق ، ويضع حدود الفضائل والآداب ، وأوروبا ترمينا نقيض ذلك كله ، ونحن
نكاد نصدقها بأعمالنا وأحوالنا ، حيث نعرض عن الفنون العصرية ، ولا نكذبها
بأقوالنا ، حتى قام منها من يدافع عنا ، فكان أولى بنا منا ، ولو كنا نحن المناضلين
عن أنفسنا لكانت الفائدة أتم ، والمنفعة أعم ، فعسى أن يلتفت إلى هذا الأمر الجليل
أهل الرشاد ، كيلا نكون مع مناظرينا كالنعامة مع الصياد .
مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه
ومن والاه ، أما بعد : فإنى عثرت على كتاب فرنساوي ألفه حضرة الكونت هنري
دي كستري في الدين الإسلامي سنة 1896 ميلادية ، ولما فرغت من قراءته
وجدتني منساقًا إلى ترجمته ، فلم يدركني ملل ولا نصب حتى أتيت على آخر
الكتاب ، وعدت فراجعت الترجمة فإذا هي تكاد أن تكون حرفاً بحرف ، ثم توجهت
الفكرة إلى طبع هذه الترجمة ونشرها على الناطقين بالعربية ، فاعترضني بعض
الأصدقاء بعد أن أريته شذرات من الترجمة ، وكان من رأيه عدم النشر بالطبع ،
واحتج بأن الكتاب غاية في التدقيق قاصدًا نهاية التحقيق غير أنه اضطر إلى ذكر ما
كان وإن كان يعتقده أو يتوهمه مسيحيو العصر الخالية في الدين الإسلامي من
الشناعات والسباب ، وذكر مثل هذه الأشياء وإن كان على سبيل الرد عليه ربما
اشمأزت له النفوس ، ووقع من المطلعين عليه موقع الاعتراض وعدم القبول ، فهو لا
يروق من هذه الجهة جماعة المسلمين ، وإنني لم يكن ليخطر ببالي مثل هذا
الخاطر ، ولم يدر في خلدي أن يعترض واحد على ذكر هذه الأشياء في الكتاب ،
وهي لم تذكر من المؤلف وهو مسيحي على أنها حقائق ، بل أوردها على أنها أوهام
علقت بأذهان المسيحيين من تلك الأعصر ، وترتب عليها ارتسام المسلمين في
مخيلاتهم بالصور الشنعاء ، وأراد المؤلف محو هذه الصور من مخيلات
الأجيال الحاضرة ، فبرهن وأقنع واستدل بالحجة القاطعة على أن تلك موهومات
لا نصيب لها من الحقيقة ، وذكر أسباب إيجادها في النفوس ، ورغب إلى قومه
أن يستبدلوا تلك الصور المشوهة بصورة الإسلام الحقيقي، وما يدعو إليه من خير
وإصلاح ، فلذلك لم أعول على استشارة ذلك الصديق في التأخر في الطبع، إلا
أنه أوجب عندي استشارة غيري وغيره ، فرأيت أمام الصديق المعارض
أصدقاء موافقين وغيرهم مستحسنين وغيرهم آمرين ، وبالطبع غلب رأي
الأكثرين رأي الواحد ، خصوصًا وأنه لم يستند إلا على شيء قال : ربما يحصل ،
ونحن نقول : ربما لا يحصل ، وإن حصل فهو من عدد قليل ، وأنه لو لم يذكر
المؤلف ما ذكره من تلك الموهومات ونبه على فساده وبرهن على خلافه ، لبقي
مركوزاً في أذهان قومه ، وبقينا ونبينا عندهم على ما توهمه السابقون منهم ، أما وقد
فعل فلا شبهة في أنه خدم ما استطاع ، ووجب علينا شكره ما استطعنا ، ومن تمام
شكره إعلام قومنا بكتابه ، ولكنا لم نرد أن نأخذه بدون إذنه واستمنحناه الإذن فيه ،
فتفضل بالإجابة وكان له بذلك الشكر والامتنان .
على أن إمكان اشمئزاز البعض مما جاء في هذه الكتاب من الأقوال التي ردها
المؤلف ودل على خطئها بالبرهان ، لا يقابل الفائدة التي نراها من نشره ، والذي
يقصد الفائدة ويتحرى مآخذها لا ينبغي له أن يلتفت إلى ما عساه يكون من تقزز
بعض القراء ، فإنهم لو أنصفوا لما نفروا .
هذا وإن قومي لعلى علم تام من أن مقصد مثلي حسن ، وغرضي إنما هو
التنبيه على أنه قد وجد من غيرنا من قام للدفاع عنا بذكر الحقائق ، وسرد الوقائع
التاريخية الصادقة ، فسفه رأي قومه فينا ، وأبان لهم وجهي الخطأ والصواب ، ومن
الواجب علينا أن نعرف ما قيل ، وما دفع به الدافعون وليتهم كانوا منا ، وأن نتعرف
صاحبي الرأيين ، فنعرف المخطئ ، ولا ندع له باباً آخر للطعن علينا ، ونعرف
لذي الصنيعة صنعه الجميل ، فنزيده اعتقاداً باستحقاقنا لما صنع . وفينا كتاب الله
أعظم مرشد لهذا السبيل ، فقد حكى بعض المذاهب بنصها وفصها ، ورد عليها بغاية
الإيضاح والتبيين ، وعندنا كتب سادتنا الأولين في علوم الأصول والكلام ، وكأنها
تحكي المذاهب الباطلة مفصلة ، وترد عليها ، ومن علمائنا السابقين من يوجب
حكاية المذهب الفاسد ، ليتمكن المطلع من الرد عليه بالدليل ، فإذا كان هذا هو الحال
في المذاهب التي قررها أصحابها ، ويخشى حقيقة من انتشارها ؛ لأنها مبرهنة بنوع
من البرهان ، وإن كان فاسد المقدمات ، فما الظن بما حكاه الغير عنا على وجهه ،
إما غلطاً أو قصداً لغرض مخصوص . أظن أنه لا يختلف اثنان في أنه من ألزم
الواجبات حكاية ما حكوه ، وإشهار ما قالوه ، وإذا كان الغرض في القسم الأول هو
الرد عليه ، فليكن الغرض من هذ القسم معرفة ما رمينا به ، وهذا بلا ريب ينتج
الرسوخ في العقيدة عندنا ، وينتج أيضًا اقتناع الواهمين بضد ما توهموه ، وهذه
النتيجة تقصد لكبار العقلاء ، ويحبها أفاضل العلماء .
وفوق هذا فإنا بذكرنا ما قالوه قدحاً علينا أو طعناً في ديننا أو صاحبه عليه
الصلاة والسلام نرجع إلى أنفسنا ، ونبحث عما إذا كان لأقوالهم من إهمالنا منتزع أم
لا ، فإن كان لهم منها منتزع علمنا كما هو الصواب أنه ليس من أصل الدين ، فلا
نلبث أن نتباعد عنه ، ونرجع لأصل الدين القويم ، ولا نحيد عن العمل به في أي
حال من الأحوال ، وإن لم يكن لهم من أعمالنا منتزع أدركنا أن لهم غرضاً
مخصوصاً ، وعملنا على ما يزيل هذا الوهم من أنفسهم ، أو يدفع بهم إلى تغيير
غرضهم فينا ، وهم لا شك مجتنبوه إذا رأوا منا ذلك المنهج المعتدل ، والسير على
الصراط المستقيم ، فإن مقاومة الوهم بمثله لا تفيد .
ثم إنه لا ينكر أن في همتنا قصوراً عن البحث فيما يعتقده الناس فينا ، فإذا
قيض الله لنا من بحث بدلنا ورد الشبه عنا فما أجدرنا بقبول عمله وإظهار الرضا به ،
وما أولانا بنشر تحقيقاته بيننا ، حتى تعم فائدتها جميعاً ، وربما جرنا هذا إلى
الاشتغال بأنفسنا ، فإنه ما حك جسمك مثل ظفرك ، ولا أحسن من أن يتولى الإنسان
مصالحه بيده مع حفظه حق مرشديه وعدم إنكار صنيعهم الجميل .
ولقد رأيت للمؤلف من التثبت في العقل والاعتدال في الحكم واستعمال الذوق
في الرد وإعمال العقل في النقد وطريقه والاستشهاد بالوقائع التاريخية ، ما فاق به
سواه من مؤلفي زمانه ، فبان لي أن غرضه الحقيقة أيًّا كانت ، ولا أؤاخذه في بعض
مواضع كتابه ، مما لم يطابق نقله الأحكام الشرعية ، إذ ربما اعتمد فيه على قول
بعض النقلة ، وربما كان نقله صحيحًا على بعض المذاهب التي لم أقف أنا عليها ،
ولذا لم ألاحظ عليه في الهامش ملاحظات مستقلة ، وفضلاً عن هذا فإنني رأيت أن
تكون الترجمة نقلا للأصل برُمّته ؛ ليعلم ماذا قصد وماذا كتب ، ويكفينا منه أنه
طالب للحق ، وإن جاء في بعض آرائه ما عساه يحمل على الخطأ ، مثل الذي له
في التأويل والحكاية عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعماله واعتقاداته ،
على أنه لا يفوت قراء الترجمة أن الكتاب كتب لينشر بين قوم المؤلف ، وكان لابد
له من ملاحظة أفكار المكتوب إليهم وأحوالهم ، وربما اضطر في ذلك إلى إبراز
بعض الحقائق الثابتة عنده في صورة الاحتمال والإمكان ، كما يشير إليه كتابه إليَّ
إيذانًا بنشر ترجمته ، كذلك لم أشأ أن أكون معه من المجادلين ، لئلا تضيع الحقيقة
أو ينجر الأمر إلى الإنكار على صاحب مقصد حميد .
هذا وإني تارك هنا ما نحن عليه من وقوف حركة النظر ، ومن تعطيل قوة
البحث في العلوم ، ومن ترك ما دعينا للعمل به من قواعد الدين ، ومن الابتداع فيه
وعدم العمل بزواجره واجتناب نواهيه ، ومن إغفال ما حثنا عليه من العلوم النافعة
والتربية الناجعة ، فإن ذلك وإن كان له مساس بما نحن بصدده إلا أنه يقتضي الشرح
الطويل مما لا يحتمله هذا المقام ، لكننا نقول قولة مجملة بأن الإسلام يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر ، ولا يرضى منا بالغفلة عن المنافع والمصالح ، ويطالبنا بدفع
المفسدة ، ويحثنا على مكارم الأخلاق ، ويبين لنا أن كل بدعة ضلالة وأن كل ضلالة
في النار ، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وأن العلم يطلب ولو في
الصين ، وأن لا شيء من العلم بضار ، ولا شيء من الجهل بمفيد ، وأن من أحدث
في الدين ما ليس منه فهو رد عليه . هذه هي تعاليم الإسلام إلا أن الأعصر الحاضرة
قد خرجت بالدين إلى ما ليس منه ، فعطلت شعائره الحقيقية ، ودخلت فيه البدع ،
وتغلبت المعتقدات الفاسدة على القواعد الصحيحة ، وتمسك الناس بالبدع وتركوا
الفروض والواجبات ، وكاد القرآن يتلى مع الآلات المطربة ، والصلاة تؤدى في
الحانات ، واندثر العلم وانحلت العزائم ، وقعدنا عن تحصيل القليل من ضرورياتنا ،
وتأخرت التربية ، ففسدت الأخلاق ، وتناكرت النفوس ، فاختلفت المساعي ،
وتعاكست المقاصد فتفرقت المنافع ، وانحل عقد نظام المسلمين فأصبحوا أشتاتًا ،
يمقتهم الناس ويرمونهم بالانحطاط ويعيرونهم بما تنزه عنه شرعهم ، ولكنهم ألفوه
وبالغوا في التمسك به ، حتى تبدلت الأحوال ، وصار كما قال صحاب المنار :
الجبر توحيدًا ، وإنكار الأسباب إيمانًا ، وترك الأعمال المفيدة توكلاً ، ومعرفة
الحقائق كفرًا وإلحادًا ، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا ، والجهل بالفنون والتسليم
بالخرافات صلاحاً ، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا ، والذلة والمهانة
تواضعًا ، والخضوع للذل والاستبسال للضيم رضى وتسليمًا ، والتقليد الأعمى لكل
متقدم علمًا وإتقانًا ، نعم ، كان هذا كله وأكثر منه مما نمسك عنه ، وإنما سقنا ما
ذكرناه معذرة لمن يفهم من الأجانب أن سوء حالنا آتٍ من جهة ديننا ، وأن رضوخنا
للجهالة إحدى دعائمه ، كما يتبين من عرض أفكارهم في هذا الكتاب ، والدين براء
منه . وكيف نطلب منهم حسن الاعتقاد في الإسلام وهم يرون المسلمين يأتون من
الأعمال ما لا ينطبق على عقل ، ولم يقل به شرع ، اللهم إلا إذا كان كما فهموه منا .
إنهم في الحقيقة معذورون إذا نسبوا أعمالنا هذه إلى الدين ، فإنهم لا يفرقون بين ما
هو منه وما هو بعيد عنه ، وليس لهم إلا أن يعتقدوا بأن عملنا مأمور به لا منهي
عنه .
إلى هنا نمسك القلم ونترك القول للمؤلف ، سائلين أن يستصحب القارئ معه
في قراءة هذه الترجمة ما قدمنا من الملاحظات ، وبالله الاستعانة وعليه الاتكال في
صلاح الأعمال . اهـ .
__________
(*) فاتحة العدد الحادي عشر الذي صدر في 11 المحرم سنة 1316 .​
 
25 المحرم - 1316هـ
يونيو - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
رسالة التوحيد

قد نجز طبع ( رسالة التوحيد ) تأليف الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل الشيخ
محمد عبده ، العضو العامل في إدارة الأزهر الشريف ، ومستشار محكمة الاستئناف
في مصر .
أما الأستاذ فهو من آيات الحكمة البينات ، فلا يزيده التعريف بيانًا . وأما
الرسالة فهي في فن الكلام غاية الغايات ، لا تطاولها على اختصارها المطولات ،
تحقيق بديع في أسلوب رفيع ، وحكمة بالغة في عبارات سابغة ، يعرف قدرها مَن
نظر في كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا العلم . أثبت مؤلفها - شكر الله سعيه -
في مقدمتها نبذة في تاريخ هذا العلم ، ثم بيَّن حقيقة الدين المطلق ، وأفاض في شرح
ما امتاز به الدين الإسلامي على غيره من الأديان السماوية الحقة ، وكشف الحجاب
عن السر في كونه آخر الأديان ، ومن جاء به خاتم النبيين ، وحرر فيها مسائل
الخلاف الذي رَمَتْ أهل الاجتماع والتوحيد ، بسهام التفريق والتعديد ، فذهبت بهم
في دينهم مذاهب مختلفة ، ولبَّستهم شيعًا ، وأذاقت بعضهم بأس بعض ، غفلة عما
جاء به القرآن من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه . بيَّن أن ذلك الخلاف مما لا
يصح أن يكون مفرقاً لو نصف أحد الفريقين وطلب الحقيقة من غير عناد ولجاج ،
ومراء في الاحتجاج ، استدل بالعقل في موضعه ، وبالنقل في موضعه ، وسلك في
العقائد مسلك السلف . ولم يَعِِبْ في سيره آراء الخلف . وبَعُدَ عن الخلاف بين
المذاهب ، بُعْده عن أعاصير المشاغب ، فلا قيل ولا قال ، ولا مراء ولا جدال ، ولا
تمويه ولا تغرير ، ولا تفسيق ولا تكفير ، وقد راعى فيها حالة العصر ، فأغمض
عن شبه المتقدمين ووساوسهم في الدين ، وأسهب في الكلام على الرسالة العامة
وبيان حاجة البشر إليها ، وعلى إمكان الوحي ووقوعه ، وكونه كمالاً لنظام الاجتماع ،
وطريقاً لسعادة البشر ، ودفع ما يورده فلاسفة أوروبا من الاستدلال بسوء حالة
أهل الأديان عموماً ، والمسلمين خصوصاً على نقيض ما ذكر من مَزِيّة الدين
المطلق ، ومن كون الإسلام هو الدين الذي خاطب الله به البشر عند بلوغ النوع
الإنساني رشده ، ودخوله في طور العقل ، وأنه يمكن أن يكون عليه الناس كلهم من
مدنيتهم الحاضرة وما بعدها إلى يوم الدين .
وبالجملة : إن هذه الرسالة هي التي يصح تبليغ الدعوة بها في هذا العصر على
الشرط المعروف ( وهو أن يكون على وجه يستلفت النظر ) ، وأنها هي الدليل على
ترقي العلم عند المسلمين ، فقد مرت علينا قرون ونحن نسمي النقل من الكتب تأليفًا ،
وإن كان نسخًا يشبه المسخ ، ظهر فيه للعيان أن كل عصر دون ما قبله ، حتى
كدنا نجزم أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائماً في تدل وهبوط ، والحق أن
سنة الله تعالى في خلقه أن يكونوا دائماً في تَرَقٍّ وصعود ، وأن تدلينا وانحطاطنا كان
لعلل طارئة ، وأمراض عارضة ، والأمراض في الأمم كالأمراض في الأفراد .
ويسرنا أن الله تعالى أنعم علينا في هذا العصر بأطباء عارفين ، يشرحون لنا عللنا ،
ويصفون علاجها ، وقد نقه منا أقوام وأبلَّ آخرون ، ولا نزال إن شاء الله تعالى في
تقدم ونمو ، ورفعة ورقي ، وبالله التوفيق .
 
2 صفر - 1316هـ
يونيو - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الدين والمدنية في الشرق
الدين والمدنية في الشرق
نحن الشرقيين في أشد الحاجة إلى سلوك سبل المدنية القويمة مع المحافظة
على الدين ، فالشرق هو مهبط الوحي ، ومشرق شموس الأديان ، وهو الجدير
بالمحافظة على الدين ، وإن استهان به سائر العالمين ، الدين وضع إلهيٌّ حق ، يأمر
بتزكية النفس وتطهيرها ، ويحث على الحب والائتلاف ، وينهى عن العداء
والاختلاف ، فهو باعث الاجتماع على التعاون ، وداعي الرشاد إلى الاتفاق والاتحاد ،
يجمع المتفرق ، ويوحد المتعدد ، وذلك مبدأ المدنية أو هو هي .
يذهب قوم إلى أن البشر قد يستغنون عن الدين في انتظام شملهم ، وقوام
مدنيتهم ، وأن الإنسان يمكن أن يصل بعقله إلى كل ما فيه سعادته من غير وحي
إلهي ، ولا إرشاد سماوي ، اكتفاء بالعقل والمشاعر والوجدان والإلهام ، التي وهبها
مدبر الكون لكل إنسان ، وأعظم شبهة عند هؤلاء على إنكار الوحي زعمهم أنه لا
حاجة إليه ، فإذا قام البرهان ونهضت الحجة على حاجة البشر إلى الوحي ، وأنه
كمال ، لا يتم نظام العالم الإنساني بدونه ، يذعنون إلى أن صانع الكون الحكيم لا
يبخل عليهم في إيتائهم ما هو مكمل لوجودهم النوعي ، متمم لسعادتهم الإنسانية .
ولما كان المنار يدعو إلى المدنية مع التمسك بالدين أحببنا أن نتحف قراءه من
مسلمين ونصارى ويهود بما جاء في (رسالة التوحيد) من بيان الحاجة إلى الوحي
ووقوعه ، فهو البيان الكامل ، والتحقيق الذي لم تأتِ بمثله الأوائل ، وناهيك بحكمة
مؤلف تلك الرسالة ورسوخه في العلوم الدينية ، مع وقوفه التام على حقيقة المدنية ،
قال حفظه الله تعالى :
( حاجة البشر إلى الرسالة :
سبق لك في الفصل السابق ما يهم الكلام عليه من الوجه الأول ، وهو وجه ما
يجب على المؤمن اعتقاده في الرسل ، والكلام في هذا الفصل موجه إن شاء الله إلى
بيان الحاجة إليهم ، وهو معترك الأفهام ، ومزلة الأقدام ، ومزدحم الكثير من الأفكار
والأوهام ، ولسنا بصدد الإتيان بما قال الأولون ، ولا عرض ما ذهب إليه الآخرون ،
ولكنا نلزم ما التزمناه في هذه الوريقات من بيان المعتقد ، والذهاب إليه من أقرب
الطرق ، من غير نظر إلى ما مال إليه المخالف ، أو استقام عليه الموافق ، اللهم إلا
إشارة من طرف خفي ، أو إلماعًا لا يستغني عنه القول الجلي ) .
وللكلام في بيان الحاجة إلى الرسل مسلكان :
( الأول ) : وقد سبق الإشارة إليه ، يبتدئ من الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية
بعد الموت ، وأن لها حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ، تتمتع فيها بنعيم ، أو تشقى فيها
بعذاب أليم ، وأن السعادة والشقاء في تلك الحياة الباقية معقودان بأعمال المرء في
حياته الفانية ، سواء كانت تلك الأعمال قلبية كالاعتقادات والمقاصد والإرادات ، أو
بدنية ، كأنواع العبادات والمعاملات .
اتفقت كلمة البشر - موحدين ووثنيين ، مِلِّيّين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم
وزن - على أن لنفس الإنسان بقاءً تحيا به بعد مفارقة البدن ، وأنها لا تموت موت
فناء ، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء ، وإن اختلفت منازعهم
في تصوير ذلك البقاء ، وفيما تكون عليه النفس فيه ، وتباينت مشاربهم في طرق
الاستدلال عليه ، فمن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام ، ومن
ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال ، ومنهم من قال :
إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة ، حافظة لما فيه لذتها ، أو ما به
شقوتها ، ومنهم مَن رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية ، ألطف من هذه الأجسام المرئية ،
وكان اختلاف المذاهب في كُنْهِ السعادة والشقاء الأخرويين ، وفيما هو متاع الحياة
الآخرة ، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم . وتضارب آراء
الأمم فيه قديمًا وحديثًا ، مما لا تكاد تحصى وجوهه .
هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة ، المنبث في جميع الأنفس عالمها
وجاهلها ، وحشيّها ومستأنسها ، باديها وحاضرها ، قديمها وحديثها ، لا يمكن أن يعد
ضلة عقلية ، أو نزعة وهمية ، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع ،
فكما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا - وإن شذ أفراد
منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما ، أو إلى أنه لا يمكن
للعقل أن يوقن باعتقاد ، ولا للفكر أن يصل إلى مجهول ، بل قالوا : إن لا وجود
للعالم إلا في اختراع الخيال ، وإنهم شاكُّون حتى في أنهم شاكون ، ولم يطعن شذوذ
هؤلاء في صحة الإلهام العام ، المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن
الحياة ، وأس البقاء إلى الأجل المحدود ، كذلك قد ألهمت العقول وأشعرت النفوس أن
هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود ، بل الإنسان ينزع هذا
الجسد كما ينزع الثوب عن البدن ، ثم يكون حيًّا باقياً في طور آخر وإن لم يدرك
كنهه .
ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء ، يشعر كل نفس أنها خُلقت مستعدة
لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة ، شيقة إلى لذائذ غير محدودة ،
ولا واقفة عند غاية ، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب
والغايات ، معرضة لآلام من الشهوات ونزعات الأهواء ونزوات الأمراض على
الأجساد ، ومصارعة الأجواء والحاجات ، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عدّ ،
ولا تنتهي عند حدٍّ ، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع
إنما قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء ، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل
الجزاف ، فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات ، وآلام ولذائذ وكمالات
لا يصح أن يكون بقاؤه قاصراً على أيام أو سنين معدودات .
شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي ، وما عسى أن تكون عليه ،
ومتى وصلت إليه ، وكيف الاهتداء ، وأين السبيل ، وقد غاب المطلوب وأعوز
الدليل ، شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم
يكفنا في الاستقامة على المنهج الأقوم ، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد ،
وقضاء الأزمنة والأعصار ، في تقويم الأنظار ، وتعديل الأفكار ، وإصلاح الوجدان ،
وتثقيف الأذهان ، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب ، لا
ندرى متى نخلص منه ، وفي شوق إلى طمأنينة ، ولا نعلم متى ننتهي إليها .
هذا شأننا في فهم عالم الشهادة ، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما
في عالم الغيب ، هل فيما بين أيدينا من الشاهد ، معالم نهتدي بها إلى الغائب ، وهل
في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها ، وبأن لا
مندوحة عن القدوم عليها ، ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما أعد له
فيها ، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه ، أو إلى معرفة بيد
من يكون تصريف تلك الشؤون ؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى اليقين
بمناطها من الاعتقادات والأعمال ، وذلك الكون مجهول لديك ، وتلك الحياة في غاية
الغموض بالنسبة إليك ، كلا فإن الصلة بين العالمين تكاد تكون منقطعة في نظر
العقل ، ومرامي المشاعر ، ولا اشتراك بينهما إلا فيك أنت ، فالنظر في المعلومات
الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة .
أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد
والتعليم ، الذي خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، علمه الكلام للتفاهم ، والكتاب للتراسل
أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها بمحض فضله بعض من
يصطفيه من خلقه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطر السليمة ، يبلغ
بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنور علمه ، والأمانة على مكنون
سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته
وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ،
ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ،
فهم من الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ،
ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله وما خفي على العقول من شئون حضرته
الرفيعة ، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه ، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم
الأخروية ، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه ، معبرين عنه
بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد عن متناول أفهامهم ، وأن يبلغوا عنه شرائع
عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما
هو مناط سعادتهم وشقائهم ، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاصق
علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله ، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات
الأعمال ظاهرة وباطنة ، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم
بهم الحجة ، ويتم الإقناع بصدق الرسالة ، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه ،
مبشرين ومنذرين .
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وجاد
على كل حي بما إليه حاجته ، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه ،
يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه ، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام
المواهب التي اختص بها غيره ، أن ينقذه من حيرته ، ويخلصه من التخبط في أهم
حياتَيْهِ ، والضلال في أفضل حاليه .
يقول قائل : ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم ؟ ولم يضع فيها
الانقياد إلى العمل ، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة ؟ وما هذا
النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم ؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل ،
والغفلة عن موضوع البحث ، وهو النوع الإنساني . ذلك النوع على ما به وما دخل
في تقويم جوهره من الروح المفكر ، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب
الاستعداد باختلاف أفراده ، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه ، وأن
يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال ، فلو ألهم حاجاته كما تلهم
الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع ، بل كان إما حيواناً آخر كالنحل والنمل ، أو ملكاً
من الملائكة ، ليس من سكان هذه الأرض .
( المسلك الثاني ) في بيان الحاجة إلى الرسالة يؤخذ من طبيعة الإنسان نفسه ،
أرتنا الأيام غابرها وحاضرها أن من الناس من يختزل نفسه من جماعة البشر ،
وينقطع إلى بض الغابات أو إلى رءوس الجبال ، ويستأنس إلى الوحش ، ويعيش
عيش الأوابد من الحيوان ، يتغذَّى بالأعشاب وجذور النبات ، ويأوي إلى الكهوف
والمغاور ، ويتقي بعض العوادي عليه بالصخور والأشجار ، ويكتفي من الثياب بما
يخصف من ورق الشجر ، أو جلود الهالك من حيوان البر ، ولا يزال كذلك حتى
يفارق الدنيا ، ولكن مثل هذا مثل النحلة ، تنفرد عن الدبر ، وتعيش عيشة لا تتفق
مع ما قدر لنوعها ، وإنما الإنسان نوع من تلك الأنواع التي غرز في طبعها أن
تعيش مجتمعة ، وإن تعددت فيها الجماعات ، على أن يكون لكل واحد من الجماعة
عمل يعود على المجموع في بقائه ، وللمجموع من العمل ما لا غنى للواحد عنه في
نمائه وبقائه ، وأودع في كل شخص من أشخاصها شعور مَّا بحاجته إلى سائر أفراد
الجماعة التي يشتملها اسم واحد ، وتاريخ وجود الإنسان شاهد بذلك ، فلا حاجة إلى
الإطالة في بيانه ، وكفاك من الدليل على أن الإنسان لا يعيش إلا في جملة ما وهبه
من قوة النطق ، فلم يخلق لسانه مستعدًّا لتصوير المعاني في الألفاظ ، وتأليف
العبارات إلا لاشتداد الحاجة به إلى التفاهم ، وليس الاضطرار في التفاهم بين اثنين
أو أكثر إلا الشهادة بأن لا غنى لأحدهم عن الآخر .
حاجة كل فرد من الجماعة إلى سائرها مما لا يشتبه فيه ، وكلما كثرت مطالب
الشخص في معيشته ازدادت به الحاجة إلى الأيدي العاملة ، فتمتد الحاجة وعلى
أثرها الصلة من الأهل والعشيرة ، ثم إلى الأمة وإلى النوع ، كما لا يخفى .
هذه الحاجة خصوصًا في الأمة التي حققت عنوانها - لها صلات وعلائق
ميزتها عن سواها ، حاجة في البقاء ، حاجة في التمتع بمزايا الحياة ، حاجة في
جلب الرغائب ورفع المكاره من كل نوع .
لو جرى أمر الإنسان على أساليب الخلقة في غيرها لكانت هذه الحاجة من
أفضل عوامل المحبة بين أفراده ، عامل يشعر كل نفس أن بقاءها مرتبط ببقاء الكل ،
فالكل منها بمنزلة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء مضارها ، والمحبة عماد
السلم ورسول السكينة إلى القلوب ، وهي الدافع لكل من المتحابين على العمل
لمصلحة الآخر ، الناهض بكل منهما للمدافعة عنه في حالة الخطر ، فكان من شأن
المحبة أن تكون حفاظاً لنظام الأمم ، وروحاً لبقائها ، وكان من حالها أن تكون ملازمة
للحاجة على مقتضى سنة الكون ، فإن المحبة حاجة لنفسك إلى من تحب أو ما تحب ،
فإن اشتدت كانت ولعًا وعشقًا .
لكن كان من قوانين المحبة أن تنشأ وتدوم بين متحابين إذا كانت الحاجة إلى
ذات المحبوب أو ما هو فيها لا يفارقها ، ولا يكون هذا النوع منها في الإنسان إلا إذا
كان منشؤه أمراً في روح المحبوب وشمائله التي لا تفارق ذاته ، حتى تكون لذة
الوصول في نفس الاتصال لا في عارض يتبعه ، فإذا عرض التبادل والتعارض ،
وتعلقت بالمنتفع به لا بمصدر الانتفاع ، وقام بين الشخصين مقام المحبة إما سلطان
القوة أو ذلة المخافة أو الدهان والخديعة من الجانبين .
( ستأتي البقية )
((يتبع بمقال تالٍ))


 
9 صفر - 1316هـ
يوليو - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الحرب بين أمريكا وأسبانيا
لقد طال على الحرب أمد المطاولة ، وكاد يقع اليأس من المناجزة والملاحمة ،
إلا ما كان ويكون من المناوشات الصغرى التي تقع بين شراذم الأمريكيين الذين
نزلوا إلى سنتياغو وبين الأسبانيين ، والحرب بينهما سجال ، ولقد كان الفلج أخيرًا
للجنود الأسبانية ، كما ترى في الأنباء البرقية . أما حركات الأساطيل فقد علمت أن
براعة الأميرال سرفيرا الأسباني في قطع عرض القاموس العظيم ( الأتلانتيك )
تحت حجاب الخفاء ، قد انتهت بحصر أسطوله في ميناء سنتياغو ، وأما أسطول
الأميرال كمارا الأسباني ، فقد وصل أمس إلى بورسعيد قاصدًا جزائر فيلبين من
طريق السويس الأمين .
وقد ورد على جريدة المقطم رسالة برقية من بورسعيد ، بأنه صدر الأمر إلى
ولاة الأمور فيها باتخاذ التدابير اللازمة لمنع الأسطول من شحن الفحم منها ، حتى
تأتيهم أوامر أخرى بذلك ، وقد ذكرت جريدة السلام ( أن من شروط ترعة السويس
أن لا يصح لدوارع إحدى الدول المحاربة أن تأخذ فحمًا من بورسعيد إلا مقدار
ما يكفيها للوصول إلى نقطة الحرب ، أي أنه لا يصح لها أن تأخذ فحمًا
وتحارب به بعد وصولها ؛ ولذلك فإن أسطول أسبانيا إذا مر بترعة السويس فلا
يأخذ منها إلا كفاية وصوله فقط ، ثم تنقطع بعد ذلك المواني التي تعطيه الفحم ؛ لأن
إنكلترا والدولة العلية وسواهما معتزلة الحرب ، فلا تمده بشيء ، والمرجح أن
هذا الأسطول سيتضايق جدًّا إلا إذا صحب معه سفنًا خاصة مشحونة بالفحم ، وعلى
هذا ربما كانت عاقبة هذا الأسطول شرًّا من عاقبة ذلك ، والله أعلم بمصير
الأمور .
أخبار بريد أوروبا عن الحرب متعارضة : نفي وإثبات ونقض وإبرام ،
والمتفق عليه أن جزائر فيلبين التي يقصد أسطول كامارا إغاثتها قد تفاقمت خطوبها ،
وعظمت كروبها وأضر بمنلّا حصار الثائرين ، وقد أضوى الأسبانيين الجوع
فخارت قواهم ، وخانتهم عزائمهم ، وقد طلب الأميرال ديوي الأميركي من حكومته
نجدة ، فسيرتها إليه ، ولا بد أن تصل قبل وصول أسطول كامار ، حتى إذا كان لديه
من الفحم ما يبلغه موضع قصده لا يرجى أن يستفيد من سعيه وكده ، وربما وجد
الأسطول ديوي له بالمرصاد ، فكان كما قيل :
مثل الغريق نجا ووافى ساحلاً ... فإذا الأسود روابض بجواره
أما أخبار كوبا : فقد نقل أن الأسبان في رضا عنها ، وأن الأميركان أجَّلوا
الهجوم العام عليها إلى الخريف القادم ، حيث يقل فتك الحمى وإنهم يكتفون الآن
بالاستيلاء على سنتياغو وأسر أسطول سرفيرا ، ولذلك أرسل الأسبانيون إليها جيشًا
من هفانا بقيادة الجنرال باندو للدفاع عنها ، كما أن الأميركيين أرسلوا نحو عشرة
آلاف رجل إمدادًا للجنرال شفتر الذي أنزل جنوده إليها ، والثائرون يمدون هذا
ويصدون ذاك .
إن الأسبانيين برهنوا على بسالتهم وثباتهم في جميع مواقف الحرب ، ولكن
خصمهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا ، وأهالي البلاد في مواقع الحرب يناوئونهم ويمالئون
خصمهم ، وهذه عواقب الجهل بحالة العصر ، وكون النجاح فيه منوطًا بالعلم
والثروة أكثر مما هو منوط بالبأس والشدة .
((يتبع بمقال تالٍ))
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
وظيفة الرسل عليهم السلام
( من رسالة التوحيد )

تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة
العقول من الأشخاص ، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية ، قضت رحمة
المبدع الحكيم بسدادها ، ونعمة من نعم واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية
الكائنات من جنسه ، ولكنها حاجة روحية ، وكل ما لامس الحس منها فالقصد منه
إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة ، أو تقويم ملكاتها أو إبداعها ما فيه
سعادتها في الحياتين . أما تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب وتطاول
شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه من أسرار العلم ، فذلك مما لا دخل
للرسالات فيه ، إلا من وجه العظة العامة ، والإرشاد إلى الاعتدال فيه ، وتقرير أن
شرط ذلك كله أن لا يُحْدِث ريبًا في الاعتقاد ، بأن للكون إلهًا واحدًا قادرًا عالمًا
حكيمًا متصفًا بما أوجب الدليل أن يتصف به ، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها
مخلوقة له ، وصنع قدرته وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال .
وشرطه : أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدًا من الناس بشرٍّ في
نفسه أو عرضه أو ماله ، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة على ما حدد في
شريعتها .
يرشدون العقل إلى معرفة الله ، وما يجب أن يعرف من صفاته ويبينون الحد
الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان ، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان
إليه ، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة ، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد ، لا
فرقة معه ، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده ، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به
في جميع الأعمال والمعاملات ، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات
فيما اختلف من الأوقات ، تذكرة لمَن ينسى ، وتزكية مستمرة لمن يخشى ، تقوي
ما ضعف منهم ، وتزيد المستيقن يقينًا .
يبينون للناس ما اختلفت فيه عقولهم وشهواتهم ، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم ،
فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع ، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم
به المصالح العامة ، ولا تفوت به المنافع الخاصة ، يعودون بالناس إلى الألفة ،
ويكشفون لهم سر المحبة ، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة
ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ليستوطنوها قلوبهم ، ويشعروها أفئدتهم . يعلمونهم
لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر ، وإن كان لا يغفل حقه ، وأن لا يتجاوز في الطلب
حده ، وأن يعين قويُّهم ضعيفهم ، ويمد غنيُّهم فقيرهم ، ويهدي راشدهم ضالهم ،
ويعلم عالمهم جاهلهم .
يضعون لهم بأمر الله حدودًا عامة ، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم ،
كاحترام الدماء البشرية إلا بحق ، مع بيان الحق الذي تهدر له ، وحظر تناول شيء
مما كسبه الغير إلا بحق ، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله ، واحترام الأعراض مع
بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع ، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوِّموا أنفسهم
بالملكات الفاضلة ، كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود ، والمحافظة على العهود ،
والرحمة بالضعفاء ، والإقدام على نصيحة الأقوياء ، والاعتراف لكل مخلوق بحقه
بلا استثناء ، يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية ، إلى طلب الرغائب
السامية ، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ،
حسبما أمرهم الله جل شأنه .
يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضاء الله عنهم ، وما يعرضهم
لسخطه عليهم ، ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة ، وما أعد الله فيها من الثواب ،
وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده ، وأخذ بأوامره وتجنب الوقوع في محاظيره ،
يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به مما لو صعب على العقل
اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده .
بهذا تطمئن النفوس ، وتثلج الصدور ، ويعتصم المرزوء بالصبر ، انتظارًا
لجزيل الأجر ، وإرضاءً لمَن بيده الأمر ، بهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع
الإنساني ، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم .
ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات ، فليس
مما جاءوا له تعليم التاريخ ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب ، ولا بيان ما اختلف
من حركاتها ، ولا ما استكنَّ من طبقات الأرض ، ولا مقادير الطول فيها والعرض ،
ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها ، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في بقاء أشخاصها
وأنواعها ، وغير ذلك مما وضعت له العلوم ، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه
الفهوم ، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة ، هدى الله إليه
البشر بما أودع فيهم من الإدراك ، يزيد في سعادة المحصلين ، ويقضي فيه بالنكد
على المقصرين ، ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال ،
وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه ، وما يكفل التزامه
بالوصول إلى ما أعد الله له الفِطَر الإنسانية من مراتب الارتقاء .
أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك
أو هيئة الأرض ، فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من حكمة مبدعة ، أو توجيه
الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه ، وحالهم عليه الصلاة والسلام في مخاطبة
أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون ، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم ، ولهذا
قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة ،
وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة ، وهذا القسم
أقل ما ورد في كلامهم .
على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزًا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به
من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان . بل يجب أن يكون الدين
باعثًا لها على طلب العرفان ، مطالبًا لها باحترام البرهان ، فارضًا عليها أن تبذل ما
تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديها من العوالم ، ولكن مع التزام القصد ،
والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد ، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين ، وجنى
عليه جناية لا يغفرها له رب الدين .
( اعتراض مشهور )
قال قائل : إن كانت بعثة الرسل حاجة من حاجات البشر ، وكمالاً لنظام
اجتماعهم ، وطريقًا لسعادتهم الدنيوية والأخروية ، فما بالهم لم يزالوا أشقياء ، عن
السعادة بعداء ، يتخالفون ولا يتفقون ، يتقاتلون ولا يتناصرون ، يتناهبون ولا
يتناصفون ، كل يستعد للوثبة ، ولا ينتظر إلا مجيء النوبة ، حشو جلودهم الظلم ،
وملء قلوبهم الطمع ، عَدَّ كل ذوي دين دينهم حجة لمقارعة من خالفهم فيه ، واتخذوا
منه سببًا جديدًا للعداوة والعدوان فوق ما كان من اختلاف المصالح والمنافع ، بل
أهل الدين الواحد قد تنشق عصاهم ، وتختلف مذاهبهم في فهمه ، وتتفرق عقولهم في
عقائدهم ، ويثور بينهم غبار الشر ، وتتشبث أهواؤهم بالفتن ، فيسفكون دماءهم ،
ويخربون ديارهم ، إلى أن يغلب قويّهم ضعيفهم ، فيستقر الأمر للقوة لا للحق والدين
فها هو الدين الذي تقول إنه جامع الكلمة ورسول المحبة ، كان سببًا في الشقاق
ومضرمًا للضغينة ، فما هذه الدعوى وما هذا الأثر ؟
نقول في جوابه : نعم إن كل ذلك قد كان ، ولكن بعد زمن الأنبياء وانقضاء
عهدهم ، ووقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه ، ولكن لم يمتزج
حبه بقلبه أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقولهم عن تصريفه تصريف
الأنبياء أنفسهم أو الخيرة من تبعتهم ، وإلا فقل لنا : أي نبي لم يأتِ أمته بالخير الجم
والفيض الأعم ، ولم يكن دينه وافيًا بجميع ما تمس إليه حاجتها ، في أفرادها
وجملتها ؟
أظن أنك لا تخالفنا في أن الجمهور الأعظم من الناس ( بل الكل إلا قليلاً ) لا
يفهمون فلسفة أفلاطون ، ولا يقيسون أفكارهم وآراءهم بمنطق أرسطو ، بل لو
عرض أقرب المعقولات إلى العقول عليهم بأوضح عبارة يمكن أن يأتي بها معبر لما
أدركوا منها إلا خيالاً لا أثر له في تقويم النفس ، ولا في إصلاح العمل ، فاعتبر
هذه الطبقات في حالها التي لا تفارقها ، من تلاعب الشهوات بها ، ثم انصب
نفسك واعظًا بينها في تخفيف بلاء ساقه النزاع إليها ، فأي الطرق أقرب إليك في
مهاجمة شهواتهم وردها إلى الاعتدال في رغائبها ؟
من البديهي أنك لا تجد الطريق الأقرب في بيان مضار الإسراف في الرغب ،
وفوائد القصد في الطلب ، وما ينحو نحو ذلك مما لا يصل إليه أرباب العقول
السامية إلا بطويل النظر ، وإنما تجد أقصد الطرق وأقومها : أن تأتي إليه من نافذة
الوجدان المطلة على سر القهر المحيط به من كل جانب ، فتذكره بقدرة الله الذي
وهبه ما وهب ، الغالب عليه في أدنى شؤونه إليه ، المحيط بما في نفسه ، الآخذ
بأزمَّة هِممه ، وتسوق إليه من الأمثال في ذلك ما يقرب إلى فهمه . ثم تروي له ما
جاء في الدين المعتقد به من مواعظ وعبر ، ومن سير السلف في ذلك الدين ما فيه
أسوة حسنة ، وتنعش روحه بذكر رضا الله عنه إذا استقام ، وسخطه عليه إذا تقحم ،
عند ذلك يخشع منه القلب ، وتدمع العين ، ويستخذي الغضب ، وتخمد الشهوة ،
والسامع لم يفهم من ذلك كله إلا أنه يُرضي الله وأولياءه إذا أطاع ويسخطهم إذا
عصى ، ذلك هو المشهور من حال البشر ، غابرهم وحاضرهم ، ومنكره يسم نفسه
أنه ليس منهم ، كم سمعنا أن عيونًا بكت ، وزفرات صعدت ، وقلوبًا خشعت لوعظ
الدين ، لكن هل سمعت مثل ذلك بين يدي نُصَّاح الأدب وزعماء السياسة ، متى
سمعنا أن طبقة من طبقات الناس يغلب الخير على أعمالهم لما فيه من المنفعة
لعامتهم أو خاصتهم ويُنفى الشر من بينهم لما يجلبه عليهم من مضار ومهالك ؟ ، هذا
أمر لم يُعهد في سير البشر ، ولا ينطبق على فِطَرهم ، وإنما قوام الملكات هو العقائد
والتقاليد ، ولا قيام للأمرين إلا بالدين ، فعامل الدين هو أقوى العوامل في أخلاق
العامة ، بل والخاصة ، وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو
خاصة نوعهم .
قلنا : إن منزلة النبوات من الاجتماع هي بمنزلة العقل من الشخص ، أو منزلة
العلم المنصوب على الطريق المسلوك ، بل نصعد به إلى ما فوق ذلك ونقول :
منزلة السمع والبصر ، أليس من وظيفة الباصرة التمييز بين الحسن والقبيح من
المناظر ، وبين الطريق السهلة السلوك والمعابر الوعرة ، ومع ذلك فقد يسيء
البصير استعمال بصره ، فيتردى في هاوية يهلك فيها وعيناه سليمتان تلمعان في
وجهه ، يقع ذلك لطيش أو إهمال ، أو غفلة أو لجاج أو عناد ، وقد يقوم من العقل
والحس ألف دليل على مضرة شيء ، ويعلم ذلك الباغي في رأيه من أهل الشر ، ثم
يخالف تلك الدلائل الظاهرة ، ويقتحم المكروه لقضاء شهوة اللجاج أو نحوها ، ولكن
وقوع هذه الأمثال لا ينقص من قدر الحس أو العقل فيما خُلق لأجله ، كذلك الرسل
عليهم السلام أعلام هداية نصبها الله على طريق النجاة ، فمن الناس من اهتدى بها
فانتهى إلى غايات السعادة ، ومنهم من غلط في فهمها وانحرف عن هديها فانكب في
مهاوي الشقاء ، فالدين هادٍ والنقص يعرض لمن دُعوا إلى الاهتداء به ، ولا يطعن
نقصهم في كماله واشتداد حاجتهم إليه { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ
بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } ( البقرة : 26 ) ، ألا إن الدين مستقر السكينة ، ولُجأ الطمأنينة ،
به يرضى كلٌّ بما قُسم له ، وبه يدأب عامل حتى يبلغ الغاية من عمله ، وبه تخضع
النفوس إلى أحكام السنن العامة في الكون ، وبه ينظر الإنسان إلى من فوقه في العلم
والفضيلة ، وإلى مَن دونه في المال والجاه ، اتباعًا لما وردت به الأوامر الإلهية ،
الدين أشبه شيء بالبواعث الفطرية الإلهامية منه بالدواعي الاختيارية ، الدين قوة من
أعظم قوى البشر ، وإنما يعرض عليها من العلل ما يعرض لغيرها من القوى ، وكل
ما وُجه إلى الدين من مثل الاعتراض الذي نحن بصدده فتبعته في أعناق القائمين
عليه الناصبين أنفسهم منصب الدعوة إليه ، أو المعروفين بأنهم من حَفَظته
ورُعَاة أحكامه ، وما عليهم في إبلاغ القلوب بغيتها منه إلا أن يهتدوا به ، ويرجعوا
به إلى أصوله الطاهرة الأولى ، ويضعوا عنه أوزار البدع ، فترجع إليه قوته ،
وتظهر للأعمى حكمته .
ربما يقول قائل : إن هذه المقابلة بين العقل والدين تميل إلى رأي القائلين
بإهمال العقل بالمرة في قضايا الدين ، وبأن أساسه هو التسليم المحض وقطع
الطريق على أشعة البصيرة أن تنفذ إلى فهم ما أودعه من معارف وأحكام . فنقول : لو
كان الأمر كما عساه أن يقال لَمَا كان الدين علمًا يهتدى به ، وإنما الذي سبق تقريره
هو أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي ، كما
لا يستقل الحيوان في درك جميع المحسوسات بحاسة البصر وحدها ، بل لابد معها
من السمع لإدراك المسموعات مثلاً . كذلك الدين هو حاسة عامة لكشف ما يشتبه
على العقل من وسائل السعادات ، والعقل هو صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة
وتصريفها فيما منحت لأجله ، والإذعان لما تكشف له من معتقدات وحدود أعمال ،
كيف ينكر على العقل حقه في ذلك وهو الذي ينظر في أدلتها ليصل منها إلى
معرفتها ، وأنها آتية من قِبَل الله ؟ وإنما على العقل بعد التصديق برسالة نبي أن
يصدق بجميع ما جاء به ، وإن لم يستطع الوصول إلى كُنْه بعضه والنفوذ إلى حقيقته
ولا يقضي عليه ذلك بقبول ما هو من باب المحال المؤدي إلى مثل الجمع بين
النقيضين أو بين الضدين في موضوع واحد في آن واحد ، فإن ذلك مما تُتَنَبزَّه
النبوات عن أن تأتي به ، فإن جاء ما يوهم ظاهره ذلك في شيء من الوارد فيها ،
وجب على العقل أن يعتقد أن الظاهر غير مراد ، وله الخيار بعد ذلك في التأويل
مسترشدًا ببقية ما جاء على لسان من ورد المتشابه في كلامه ، وفي التفويض إلى
الله في علمه ، وفي سلفنا من الناجين من أخذ بالأول ، ومنهم من أخذ بالثاني . اهـ
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الجيوش الغربية المعنوية
في الفتوحات الشرقية
[*]

الغرض من الفتوح والاستعمار تكثير المال وتنمية الثروة ، والثروة أو المال
مبدأ الأعمال المدنية وغايتها ، وبه تتألف مقدمات العمران ، وتحصل نتيجتها ، ولما
علم الغربيون أن الحروب تتلف الثروة ، وقد يستوي في خسائرها الغالب والمغلوب ،
عمدوا إلى الفتوح من طريق الكسب ، والتغلب على الأمم بالقبض على أزمة
معايشها ، وامتلاك نواصي مكاسبها ، ثم بتقطيع روابطها ، وإبطال الجوامع التي
تضمها وتجمعها ، إلى أن يقضي التفرق على الأمة بقضائه الذي رددناه مرارًا ،
وبمثل هذا التفرق يتسنى للعدد القليل الاستيلاء على شعب كبير وأمة عظيمة ،
يصرف الرجل الواحد من الغالبين الأثابيّ والجموع ، ويسوقهم حيث شاء ، كما
يسوق الراعي الإبل والشاء ، وقد يتراءى للغافل ، ويخيل للغر الجاهل ، أن حقيقة
هذا الأمر كما يعطيه ظاهره : تصريف واحد لثُبات ، وسوق فرد لجماعات ، وذلك
غير صحيح ، بل هو مخالف لطبيعة الوجود . ومن نفذت أشعة بصره من ظواهر
الأشياء لبواطنها رأى أن ذلك الفرد في الحقيقة جمع ، والواحد في نفس الأمر أمة ،
وأن تلك الأثابي والجموع أفراد لا رابطة تربطهم ، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ؛
ذلك بأنهم قوم لا يفقهون معنى القومية والأمية ، فاجتماعهم وتفرقهم سواء ، أما كون
هذه الجموع ليست أمة ، فهو مما لا خفاء فيه كما ترى ، إذا أهين أحدهم ، بل إذا
سحقت عظامه بأيدي الغرباء يقولون : هذا بعض ما يستحق من الجزاء ، وأما كون
تلك الآحاد التي يدير كل واحد منها شؤون جماعة أممًا ، فمعناه : أن أحدهم يدير
الجماعة باسم أمته وبقوتها ، وأن أمته كلها معضدة له في عمله وممدة له بقوتها
ونفوذها ، بحيث تعز لعزته وتذل لذلته ، فلو هضم جانبه أو غمط حقه تشعر الأمة
كلها بنفس الألم الذي شعر به ، وتهب كلها لإزالته ، كما هو شأن الأمم الغربية في
هذه الأيام : يهان أوروبي في أقصى المعمور ، فتسمع الصياح والصراخ يدوي له
فضاء أوروبا والجرائد تنشئ الفصول الطوال تقول : قد أهينت الدولة والأمة
فأجمعوا كيدكم وألزموا الدولة التي أهانه أهلها بالترضية ، إما منًّا بولاية من تلك
البلاد ، وإما فداءً بمبلغ عظيم من المال .
بقي علينا البحث في هذا الفتوح المعنوي ، وبيان القوى التي تسلطها الأمم
العاملة على الجاهلة فتقطع روابطها ، والجيوش التي تحشرها وتسوقها لهدم جوامعها
مع سلامة أفرادها ، وبقاء آحادها ، وكيف تفتقر الأمم وتدمّر الممالك بهذه الجيوش
المعنوية ، التي يقودها جماعة من أهل الوداعة والسكينة ، ومحبي الأمن والسلام ،
وهو بحث طويل الذيل نأتي منه على إجمال ينبئ عن تفصيل ، فنقول :
علم الأوروبيون بما أفادهم البحث في طبائع الأمم أن الترف مدعاة الدمار
والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من أدوائه ، وتعصم من بلائه ،
وعلموا بالاختبار أن الشرق فقدت منه التربية ، وانفصمت عُرَى الوحدة التي كانت
لأممه ودوله ، ولم يبق لهم من روابط الاجتماع إلا بقايا موروثة ، لا متعهد لها ولا
حافظ ، فيكفي لتقطيعها جذبة لطيفة من جذبات الترف ، فكرُّوا على الشرق بجنود
منه لا قبل لأهله بها ، وحملوه أوزارًا أثقل من الجبال فحملها ، وكان الشرق ظلومًا
جهولاً .
ساقوا عليه خمسة فيالق وهي : الخمر والميسر والربا والبغاء والتجارة ،
فنسفوا بذلك ثروته ، وقتلوا غيرته وأضعفوا همته ، وأفسدوا ما كان من بقايا أدب
ودين ، فتكت هذه الفيالق والجحافل في الأمم الشرقية فتكًا ذريعًا ، وبلغت نكايتها
ومضرتها في هذه البلاد ما لم تبلغه في غيرها ، ولو شئنا الشرح والتفصيل عن كل
فيلق من تلك الفيالق ، وما كان عنه من السلب والنهب والخراب والتدمير لاحتجنا
إلى تصنيف الأسفار والدواوين ، ولكننا نجمل في القول على ما شرطنا :
( الخمر ) : أم الخبائث ، وداعية الفجور ، وموقظة الفتن ، وآفة الثروة ،
ومولدة الأمراض ، ومقصرة الآجال ، فمضرتها في الجسم والعقل ، وإفسادها للدنيا
والدين مما لا يجهله أحد ، وإنما يدمنها الفساق تغليبا للذة على المصلحة ، وترجيحًا
للشهوة على المنفعة . إن مضرات السكر في هذا العصر تربي على مضرته في
العصور السالفة التي لعن الأنبياء فيها السكارى ، وسجلوا عليهم الحرمان من ملكوت
السماء ، فإن الأشربة الروحية التي اخترعها الإفرنج في هذا العصر هي أشد إتلافًا
للجسم والعقل والمال .
اجتمعتُ في أواخر سنة 1310 بالدكتور فانديك الشهير في بيروت ، وتذاكرنا
في تقدم سوريا وبيروت وتأخرهما ، لا سيما من جهة الأدب والتهذيب ، فقال : أنا
أعرف بيروت من نحو ثلاثين سنة ، وليس فيها إلا بعض حانات قليلة ( نسيت العدد
الذي عينه ولا أراه يبلغ عدد الأنامل ) يباع فيها خمر البلاد ، وأما الآن فيوجد في
بيروت عشرات من الحانات ، وياليتها تبيع من خمر البلاد القليل ضرره ، المحدود
خطره ، وإنما هي ملأى بهذه السموم الإفرنجية ، التي يسمونها الأشربة الروحية ،
وقد اتفقنا في المذاكرة إلى أن هذه السموم مميتة للآداب والفضائل ، وموت الآداب
والفضائل موت للشعوب والقبائل .
إن مصر تفوق بيروت في هذه الرذيلة ، بل تفوق جميع البلاد ، تجول في
شوارع القاهرة وأسواقها ، فلا يغيب عن نظرك مرأى الحانات دقيقة واحدة ، حتى
يخيل للجائل أن هذه الحانات تزيد على حاجة السكان ، ولو كانوا كلهم من السكارى ،
وإنها تتمثل لعيني ناظرها كأنها ثكنات عساكرها القوارير المصفوفة المرتبة
ترتيب الجنود المنظمة ، وقوادها الغيد والغادات من اليونان والتليان ، وسائر
أصناف الإفرنج كلا إن القوارير أكثر للأرواح انتهابًا ، وللأموال استلابًا ، فربما
ينفق المصريون في يوم واحد على الخمور أكثر مما أنفقته الحكومة في حرب
السودان في بدايتها إلى الآن ، فقد بلغنا أن من أمرائهم ومثريهم من ينفق في الليلة
الواحدة العشرات والمئات من الجنيهات على معاقرة الراح ، ومنادمة الصباح ،
ويوشك أن يمتص من الزجاجة مصة ، ثم يلقيها جانبًا ويطلب أخرى ، يرى الفَدْم
( البليد الأحمق ) أن الشرف في معالجة المفدّمات ( الدنان والأباريق ) ، ومجالعة
الجالعات ( الجالعة : المرأة التي تتبرج وتترك الحياء ، والمجالعة المجاوبة بالفحش
أو التنازع في شراب أو قمار ) ، لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ،
فأنفقوا أموالهم على تخريب بيوتهم وإتلاف أمتهم وتسليم بلادهم للأجانب ، لا أعني
أنهم سلموهم أزمَّة سياستها ، بل أريد رقبتها وجملتها .
( الميسر ) : فشا القمار في البلاد الشرقية فشوًا خرب دورًا ، وقوض صرحًا
وقصورًا ، وأمسى أكثر مُزاوِليه قومًا بورًا . ولقد كان لأهل هذه الديار منه أوفر
السهام وأقتلها . سرت عدواه من الرجال إلى النساء ، كما سرت عدوى سائر
الموبقات ، لا سيما في الأمراء وأهل الطبقات الدنيوية العالية ، ذلك أن الرجال
يجاهرون فيما يجترحونه من السيئات ، وهم قدوة النساء وأسوتهم فيقلدْنَهم بجميع ما
يفعلون ، فكيف حال الأبناء والبنات الذين يتولدون من هذه الأصول الخبيثة ويتربون
في أحضانهم النجسة . إلا أن حالة البلاد مظلمة ، ومستقبلها أحلك ظلامًا وأعظم
خطرًا إن لم تُدارَكْ بتربية دينية شريفة .
كان من شأن النساء أن تحفظ المال وتدير شؤون العائلة على محور الاقتصاد ،
وتدع الأعمال العامة مالية وغير مالية للرجال ، لكن نساء كبرائنا شببن عن الطوق ،
وتشبثن بأذيال من التمدن الأوروبي مسحوبة على أرض قذرة ، تجر من تعلق بها
عليها ، حتى يكون عبرة للناظرين . إن في المدنية الأوروبية من المحاسن والفضائل
ما هو أجدر باقتباس سيدات بلادنا له ، لا سيما ما هو أليق بهن وأمس بوظيفتهن ،
كتربية الأولاد وتدبير المنزل والاقتصاد ، فما بالهن فضَّلن الخمر والميسر واخترن
ما يُشقي على ما يسعد ، واستبدلن الذي هو أدني بالذي هو خير ؟ ! أما كفاهن ما
يقترفه رجالهن الأشرار ، ويجترحه أولادهن الأغرار ، من الإسراف والتبذير ،
الذي ينتهي بالعائلات - بل وبالبلاد - إلى شر مصير .
( البغاء ) : وما أدراك ما هو ؟ ! ارتياد الفاحشة الكبرى ، وتطلب النقيصة
السوأَى من جماعة من النساء يستعددن لذلك ويتجاهرن به . الزنا مولد الأدواء
المشوهة القاتلة ، ومقلل النسل ، ومضيع الأنساب ، ومتلف الأموال ، ومفسد نظام
العائلات ، وإن المجاهرة به مدعاة لتعميمِهِ وتعميمُهُ فتنة في الأرض وفساد كبير ،
وبلاء على الأمم وبيل ، فشا في الأمة الفرنسوية وهي مفيضة العلم على أوروبا
وقدوتها في التربية العملية التي بها قوام المدنية ، فصدمها صدمة وقفت بنموها ،
وقللت رجالها ، فقد كان متوسط المواليد فيها أوائل هذا القرن 32 في الألف ، فهبط
في بعض بلادهم إلى 14 ، وفي بعضها إلى 22 في الألف ، ولقد كان سكان أوروبا
يومئذ نحو مائة مليون ، ربعهم من الفرنسويين ، فزادت بروسيا في مدة القرن خمسة
أضعاف ، وبريطانيا أربعة أضعاف ، وروسيا ثلاثة أضعاف ، وفرنسا ضعفًا واحدًا ،
وأصبح أهل فرنسا عُشر أهل أوروبا ، وسبب ذلك الأكبر فشوّ الزنا فيهم ،
وساستهم الآن في حيرة من تلافيه .
هذا ، وإن لهذه المصيبة من الضرر المالي في مثل هذه البلاد ما لا نظير له
في فرنسا ، وذلك لأن معظم المال الذي ينفق على الفحش هنا إنما ينقصه الأجانب
من ثروة البلاد ؛ لأن معظم المسافحات وذوات الأخدان فيها من الإفرنج ، لا سيما
صواحب الأمراء والوجهاء اللواتي يفاض عليهن المال جزافًا بلا عدّ ولا كيل ،
وبهذا المعنى نعد البغايا والمومسات من الجند الفاتح للبلاد ، فإنهن ما نزلن في
عراص قوام إلا مهدن لأبناء جنسهن فيها المقام ، وأورثنهم أرضهم وديارهم وأموالهم
وشاهد ذلك بين يدينا وتحت مواقع أبصارنا ، فعلى من ابتلي بذلك أن يقلع حفظًا
لدينه ودنياه ، وإن كان استحوذ عليه الشيطان وملك عليه أمره فليستتر ، لا سيما عن
أهله وبنيه ؛ لئلا يجني عليهم فيفسدهم ، كما فسد ويضيع الأمل من مستقبل البلاد
بهم ، وليحجبهم ويمنعهم من قرناء السوء أمثاله ، ولا يأتمن عليهم الخدم ، فإنهم في
الغالب على دينه ومشربه الخبيث ، ولقد بلغنا أن هؤلاء الخدم يغشون مواخير
المومسات ومعهم الأولاد الصغار الذين عُهد إليهم بخدمتهم ، فيتربون على مشاهدة
الفاحشة وبئست التربية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } ( التحريم : 6 ) .
( الربا ) : هو الآفة المجتاحة للثمار ، والمخربة للديار ، التي جعلت الأغنياء
فقراء ، والأعزاء أذلاء ، هو الذي مكن للأوروبيين في أرض مصر ( كغيرها من
ممالك الشرق ) ، فاستولى دائنوهم على صفاصفها ( أرضها السهلة المستوية )
وأثباجها ( ترعها ) ، وساستهم على إتاوتها وخراجها ، ثم على سائر دوائر الإدارات،
حتى أوشكت تكون بلادًا أوروبية حاكمًا ومحكومًا . ضغط الربا على جثمان هذه
البلاد رويدًا رويدًا ، حتى اشتبكت الأضلاع بالأضلاع ، واختلط اللحم بالعظم ، وما
شعرت حكومتها بضغط ، ولا أحست أفرادها بألم ، حتى سحق الضغط كلًّا من
الحاكم والمحكوم ، ما أُكل الربا أضعافًا مضاعفة في بلاد كهذه البلاد ، وما أضر بقوم
كما أضر بأهلها ، ظلم حكامها رعيتهم ، فألجئوهم إلى الاستدانة بالربا الفاحش ، ومَن
ظلم رعيته كان لنفسه أظلم .
{ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } ( غافر : 21 ) . { وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ( هود : 102 ) .
( التجارة ) : لقد علم الأوروبيون أن حرب الدراهم والدنانير أنجح من حرب
المدافع والبواريد ، وقد امتلكوا بهذه الحروب الذهبية والفضية أكثر بلاد الشرق ،
فالإنكليز ما استولوا على ممالك الهند بتكتيب الكتائب ، وسوق الأساطيل بالفيالق
والجحافل ، وإنما هي جمعية تجارية وطَّأت المسالك ، ومهدت السبل ، تظلها السلطة
ويؤيدها النفوذ اللذان يقيمان حيث تقيم ، وكذلك كان شأن شركة النيجر في أحشاء
إفريقية ، واليوم يُنعم الإنكليز على الحكومة المصرية بثمانمائة ألف جنيه ونيّف ؛
لافتتاح السودان ، وتصرح وزارتهم بأن الإنصاف يقضي عليهم بمساعدة مصر
بالإنفاق على فتح السودان ؛ لأنها شريكتها بفوائده التجارية ومعناه لِأَنْ تستأثر
بالتجارة وتختص دون أوروبا بهذا الفتوح المعنوي الذي يتبعه التملك اسمًا ومعنى ،
كما هو المعهود في الهند والنيجر وغيرهما ، ومعلوم أن الحكومة المصرية لا تجارة
لها ، وبهذا يحتج عليها المحتلون في إجبارها على بيع سكك حديد السودان بعد الفتح.
يقولون : إن فائدتها العسكرية تنتهي بالفتح ، والحكومة المصرية لا تجارة لها،
ولا يليق بها التجارة ، فمن المصلحة أن تباع هذه السكك لشركة تجارية ، ويرجح
الإنكليز على سائر الأجانب ؛ لما أنفقوا من أموالهم ، وما أزهقوا من رجالهم ،
والحمد لله لا شركات وطنية لنا فنقول : إنها أحق بالتقدم حتى على الإنكليز .
ابتاع أخوان من الفلاحين عدة من الدجاج ( الفراخ ) لأجل تربيتها والانتفاع
ببيضها ، وكان أحدهما ذكيًّا ، والآخر بليدًا مغفلاً ، فقال الذكي للبليد : تعالَ نقتسم ،
واتفقا في القسمة على أن تكون الدجاجات للبليد وبيوضها لأخيه ، فكان هو يتعاهدها
بالأكل والشرب والمبيت ، وينفق عليها ويخلي بين أخيه وبين بيوضها ، يبيعها
ويأكل منها ما شاء ، وصار الأخوان مثلاً في بلدهما في تلك القسمة الضِّيزَى .
كذلك شأن الإنكليز مع الحكومة المصرية في السودان وشأن سائر الأوروبيين
في فتوحاتهم المعنوية ، يقنعون بامتلاك المنافع وثمرات البلاد ، ويدعون الاسم
لأهلها ، ولكن إلى أجل مسمى ، حتى إذا ما جاء الأجل يصرحون بالامتلاك الاسمي
أيضًا .
كل هذا والشرقيون وادعون ساكنون ، وإذا تحركوا فإنما تكون حركتهم ميلاً
مع ريح الأجانب ، انخداعًا لها أو رهبةً منها ، لاندهاشهم بعظمتها التي ما جاءتها إلا
من الشركات المالية ، وهي أيسر شيء عليهم ، لا سيما قبل تمكُّن الأجانب من
بلادهم . لو أن للشرقيين عقولاً ذكية ، وتربية وطنية لَمَا رضوا أن تكون بلادهم بينهم
وبين الأجانب كالدجاجات بين ذينك الأخوين - فكيف والأمر أعظم من ذلك ؟ -
ولقاوموا جنود التجارة الفاتحة أشد المقاومة .
اندفع الغرب على الشرق بخميس من الأزياء ، وكتائب من الحلي ، وجحافل
من الماعون النفيس ، وفيالق من اللذائذ ، فلم تَجِدْ هذه الجنود المجندة من الشرق أقل
مقاومة ، ولا أدنى مدافعة ، فطفقت تفتك في النفوس بعوامل الترف ، وفي الأموال
بعوامل السرف ، ومازال القوم يعدون هذه العوامل من علائم الشرف ، حتى وقفت
بهم على شفا جرف وأكبتهم على مناخرهم في مهاوي التلف .
لا ننكر أن من هذه الجنود ما لا قِبَلَ لنا بدفعه الآن ، كالضروري من الأدوات
والماعون والنسيج ، وكلامنا إنما هو في الزخارف الكمالية ، كالحلي وماعون الزينة
ومادة الترف من الأشربة وغيرها ، فهذه هي التي تنسف ثروة البلاد وترميها بالفقر
والعجز . فرُبَّ ملك أو أمير ( برنس ) ينفق على الترف والبذخ ما يكفي لإنشاء
مدارس أو معامل يحيي بها صقعًا من الأصقاع ، أو إقليمًا من الأقاليم ( كمديرية أو
متصرّفية ) ، يتنافس الأمراء وسائر أهل الثراء بتقليد الإفرنج في كل طراز
وإنما يتنافسون في خراب بلادهم ، فإن تطرّز الإفرنج وتورّنهم وتماديهم في الترف -
كل ذلك يزيد في إحياء صنائعهم ونموها وكمالها ، ولا تتحول به أثباج ثروتهم
ومجاريها إلى غير بلادهم ، بل تبقى دائرة فيها ، ومع ذلك يتحامون الإسراف في
الترف ، ويسيرون فيه على أصول التدبير والاقتصاد ، فلا ينغمسون فيه كأمرائنا
انغماسًا ينتهي بالغرق ، ويتلافون مضراته الروحية والجسدية من ضعف الأبدان
وقعود الهمم عن الأعمال العظيمة بالتربية الصحيحة التي رأينا من آثارها أن
أبناء الملوك والوزراء يزاولون الأعمال العسكرية والمدنية بأيديهم ، سواء كان ذلك
في البر أو البحر ، بل رأينا أن الجنس اللطيف آب ( تهيأ ) لمساهمة الجنس النشيط
في الأعمال الشاقة ، حتى طلب بعضهن الانتظام في سلك الجندية والقيام بالأعمال
الحربية ، وهذا هو معنى قولنا في أوائل هذه المقالة : ( إن الترف مدعاة الدمار
والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة ، تقي من أدوائه وتعصم من
بلائه ) .
فعسى أن يتنبه الشرقيون لما ذكرنا ، فيحترزون من مضار الترف وتقليد
الإفرنج بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالدمار ، ويجتهدون بتربية أولادهم تربية دينية
وطنية ، لعلهم يستردون ما فقدوا ، ويسترجعون ما سُلبوا ، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) فاتحة العدد السابع عشر الذي صدر في 23 صفر سنة 1316 .​
 
23 صفر - 1316هـ
يوليو - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الحرب
أثبتنا في النبذ التي كتبناها عن الحرب في العدد 12 و15 أن أسطول الأميرال
سرفيرا الأسباني قد حصر في ميناء سنتياغو ، فإذا حاول الخروج أسره أسطول
الأميرال سمبسون الأميركاني أو دمره تدميرًا ، وأن الأسبانيين قد أضر بهم السغب
واللغوب ( الجوع والتعب ) ، بحيث لا يستطيعون التمادي في المطاولة ، ولا بد أن
يلجئوا قريبًا للاستسلام أو الاستبسال والاستماتة ، وإن حالة جزائر فيلبين في خطر
مبين ، وإن أسطول الأميرال كمارا الذي جاء بورسعيد قاصدًا إغاثة تلك الجزائر لا
يرجى أن يستفيد من سعيه وكده ، وإنه إذا كان لديه من الفحم ما يبلغه مقصده يخشى
عليه من فتك الأسطول الأميركاني به . قلنا هذا ورأينا جريدة التيمس وافقتنا على
ما قلنا ، كما وافقنا بعض كتبة الجرائد في الولايات المتحدة ، ثم جاءت الحوادث
مؤيدة له ، فلقد حاول الأسطول الأسباني الفرار فهاجمه الأسطول الأميركاني ودمره
تدميرًا ، وأسر الأميرال سرفيرا مع بعض جنوده ، وهلك الباقون غرقًا وحرقًا ،
والأخبار مفصلة في الأخبار البرقية ، أما أسطول كمارا فقد ألجأته الحكومة
المصرية إلى مبارحة بورسعيد من غير أن يحمل منها فحمًا ؛ لأن الدولة العلية
صاحبة البلاد قد أعلنت الحياد في هذه الحرب ، وإقامته في ثغورها أو أخذه الفحم
منها يعد مساعدة منها لأسبانيا على الولايات المتحدة .
ولقد بلغ من تشديد الحكومة المصرية على الأسطول : أن النار شبت في
مستودع الفحم في إحدى البوارج وهي في السويس ، فطلبت الإعانة على إخمادها
فلم تصادف معينًا ، لكنها سمحت لبارجة الأميرال التي تعطل بعض آلاتها البخارية
في القنال أن تمكث ريثما يصلح الخلل فيها .
مر الأسطول في القنال وهو مؤلف من 12 سفينة ، وقد دفع عنه رسم المرور
لشركة القنال في باريس 344106 فرنكات ، وجاوز السويس ما عدا بارجة
الأميرال ، فإنها بقيت في ميناء البلد بحجة إصلاح الخلل الذي أصابها ، وقد ظن
بعض الناس أن دعوى الخلل حيلة للمُكْث حتى ترد عليها الأوامر من أسبانيا ، وربما
كان صاحب هذا الظن غيدارًا ( الغيدار الذي يظن سوءًا فيصيب ) ، ولم يكد يبعد
الأسطول مسافة عشرة أميال في البحر الأحمر حتى تأثره الأميرال كمارا ببارجته
المتخلفة وأمره بأن يرجع أدراجه ( أي من حيث أتى ) ، فمر في القنال راجعًا إلى
بورسعيد ، وقد سافر بعضه إلى قرطاجنة وسيتبعه الباقي ، والسبب في ذلك الخوف
عليه من الأميركان أن يدمروه كما دمروا أخويه من قبل في منلا وسنتياغو ، وقيل :
إن هنالك سببًا آخر وهو أن حكومة الولايات المتحدة سيرت أسطولاً إلى نفس أسبانيا
فإرجاع الأسطول إنما هو لأجل حماية جزائر كناري ( الجزائر الخالدات ) وسواحل
البلاد من أسطول الأعداء المنتظر ، ويوشك أن يكون السبب إرادة الصلح وتوقعه .
لقد كان لتدمير أسطول سرفيرا أسوأ وقع في أسبانيا ، وَجِلَتْ لِنَبَئِهِ القلوب ،
وذرفت العيون ورثى مَن في قلبه أثر للرأفة والرحمة لملك هذه البلاد الصغير ،
ورق لوصيته ووالدته الأسيفة ، وكتمت الحكومة الأمر عن أهل البلاد فرقًا من
حدوث اضطراب وهياج من مفاجأة الخبر ، ومن العجيب أنها كتمته حتى عن
أسطول كمارا ، فلقد أنكر هذا الأميرال الخبر عندما أُعلم به في السويس .
كل هذا الخذلان والخسران لم يخمد حمية الأسبانيين ، ومازال فيهم من يقول
باستمرار الحرب مادام في كوبا عسكري واحد منهم ، وجاء في أخبار بريد أوروبا
أن أسقف سيغوفيا أصدر منشورًا حض فيه على الحرب المقدسة . لكن البلاد لم تعدم
الهادئين المتبصرين الذين يودون الصلح ويشعرون بخطر الاستمرار على الحرب ،
سواء كانت مقدسة أو منجسة ، وقد أصدرت جمعية الحزب الاشتراكي منشورًا قالت
فيه : إن الاستمرار على الحرب - بعد أن فقدت أسبانيا عُدد الدفاع - ضرب من
الجنون ، وإن جميع العمال يطلبون الصلح . بل أحس ماعدا الحرب العسكري بما
أحس به الحزب الاشتراكي والعمال ، وأمسوا يودون الصلح ويتوقعونه ، وإن أظهر
ناظر الحربية وناظر البحرية الإصرار على الاستمرار ؛ لأن المستبسل لا ينظر إلى
ما وراءه . يصر هذان الناظران الأعميان على ما يضر بدولتهما ضررًا يكاد يكون
موتًا ، أما كفاهما تحطيم الأسطولين وفناء العسكرين ( البري والبحري ) ، فقد ورد
في رسالة برقية من سنتياغو لمدريد أنه لم يبق من الأسبانيين سوى ألفي مقاتل ،
فكيف يلقون نيفًا وعشرين ألفًا من الأميركيين والكوبيين كاملي العدد ؟ !
ويزعم السنيور سغستا وزير أسبانيا الأول أن في جزيرة كوبا الآن نحو مائة
ألف جندي خلا المتطوعين ، وتعجز الولايات المتحدة عن الظفر بهم إذا غادرت
سنتياغو وأوغلت في الجزيرة بعد ظفرها بأسطول سرفيرا ، ولقد قال الوزير هذا
القول قبل تدمير الأسطول ، ولعل فكره قد تغير بسبب الانكسار وجنح للسلم ، وإن
كان فيها ترك كوبا بالكلية وإعطاء الامتيازات للفيلبين فإن عاند أجهز الأميركيون
على أسبانيا ، وقضوا عليها قضاءً ، لا تنجو منه إلى أبد الآبدين
 
7 ربيع الأول - 1316هـ
أغسطس - 1898م​
العلم و الحرب​
:وأول ما نزل في الجهاد من الآيات مصرح بوصف المجاهدين بقوله تعالى :
{ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنكَرِ } ( الحج : 41 ) ، وبأنه لولا إذن الله الناس بالمدافعة عن الحق لهدمت
صوامع العباد ، وبيع النصارى ، وصلوات اليهود ( معابدهم ) ومساجد المسلمين .
وقد أوردنا هذه الآيات بنصها في العدد الثاني والخامس ، وأشرنا لما فيها من الحكمة.
لما كان المنتقدون علينا تفضيل التعليم على كل ما عداه جامدين على تقليد
الأوائل - أحببنا أن نذكر هنا نبذة في ذلك عن الإمام الغزالي فنقول :
بيَّن هذا الإمام فضيلة العلم والتعليم والتعلم بالآيات والأخبار والآثار ، ثم كتب
فصلاً بيَّن فيه ذلك بالشواهد العقلية ابتدأه بذكر معنى الفضيلة في نفسها ، وقسم
الشيء النفيس المرغوب فيه إلى ثلاثة أقسام : ما يُطلب لغيره كالنقود ، وما يطلب
لذاته كسعادة الآخرة ، وما يطلب لغيره ولذاته معًا كسلامة البدن ، ثم قال ما نصه :
وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه ، فيكون مطلوبًا لذاته
ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها ، وذريعة إلى القُرب من الله تعالى ، ولا
يُتَوَصَّلُ إليه إلا به ، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية ، وأفضل
الأشياء ما هو وسيلة إليها ، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ، ولا يتوصل إلى
العمل إلا بالعلم ، بكيفية العمل ، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم ، فهو إذًا
أفضل الأعمال ، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضًا بشرف ثمرته ، وقد
عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ
الأعلى هذا في الآخرة ، وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم
الاحترام في الطباع ، حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم
مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة
بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتميز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها .
هذه فضيلة العلم مطلقًا ، ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت فضائلها
بتفاوتها . وأما فضيلة التعليم والتعلم ، فظاهرة مما ذكرناه ، فإن العلم إذا كان أفضل
الأمور كان تعلمه طلبًا للأفضل ، وكان تعليمه إفادة للأفضل ، وبيانه أن مقاصد
الخلق مجموعة في الدين والدنيا ، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا ، فإن الدنيا مزرعة
الآخرة ، وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلاً لا لمن يتخذها
مستقرًّا ووطنًا ، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين ، وأعمالهم وحرفهم
وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام :
(أحدها) : أصول لا قوام للعالم دونها ، وهي أربعة : الزراعة وهي للمطعم ،
والحياكة وهي للملبس ، والبناء وهو للمسكن ، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع ،
والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها .
( الثاني ) ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها ، كالحدادة
فإنها تخدم الزراعة ، وجملة من الصناعات بإعداد آلتها ، وكالحلاجة والغزل فإنها
تخدم الحياكة بإعداد محلها .
( الثالث ) ما هي متممة للأصول ، ومزينة لها ، كالطحن والخبز للزراعة
وكالقصارة والخياطة للحياكة ، وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل
أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته ، فإنها ثلاثة أضرب أيضًا ، إما أصول كالقلب
والكبد والدماغ ، وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب ، والأوردة
وأما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين . وأشرف هذه الصناعات
أصولها وأشرف أصولها : السياسة بالتأليف والاستصلاح ، ولذلك تستدعي هذه
الصناعة من الكمال ، فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات ، ولذلك
يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع .
والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا
والآخرة على أربع مراتب :
( الأولى ) وهي العليا : سياسة الأنبياء عليهم السلام ، وحكمهم على الخاصة
والعامة جميعًا في ظاهرهم وباطنهم .
( الثانية ) : الخلفاء والملوك والسلاطين ، وحكمهم على الخاصة والعامة
جميعًا ، ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم .
( الثالثة ) : العلماء بالله وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء ، وحكمهم على باطن
الخاصة فقط ، ولا يرتفع فهم العامة إلى الاستفادة منهم ، ولا تنتهي قوتهم إلى
التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع .
( الرابعة ) : الوعاظ ، وحكمهم على بواطن العوام فقط .
وأشرف هذه السياسات الأربع - بعد النبوة - إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس
عن الأخلاق المذمومة المهلكة ، وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المُسعدة ، وهو
المراد بالتعليم .
وإنما قلنا : إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات ؛ لأن شرف الصناعة
يُعرف بثلاثة أمور : إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل
العلوم العقلية على اللغوية ؛ إذ تُدرك الحكمة بالعقل ، واللغة بالسمع ، والعقل أشرف
من السمع ، وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة ، وإما
بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة ؛ إذ محل أحدهما
الذهب ، ومحل الآخر جلد الميتة ، وليس يخفى أن العلوم الدينية - وهي فقه طريق
الآخرة - إنما تُدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء ، والعقل أشرف صفات الإنسان كما
سيأتي بيانه ؛ إذ به تُقبل أمانة الله ، وبه يُتوصل إلى جوار الله سبحانه ، وأما عموم
النفع فلا يُستراب فيه ؛ فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة ، وأما شرف المحل فكيف
يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم ، وأشرف موجود على الأرض
جنس الإنس ، وأشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه ، والمعلم مشتغل بتكميله
وتخليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل ، فتعليم العلم من وجه عبادة
الله تعالى ، ومن وجه خلافة الله تعالى ، وهو من أجلّ خلافة الله تعالى ، فإن الله
تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته ، فهو كالخازن لأنفس
خزائنه ، ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه ، فأي رتبة أجلّ من
كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زُلفى ، وسياقتهم
إلى جنة المأوى ، جعلنا الله منهم بكرمه وصلى الله على كل عبد مصطفى . اهـ
__________
(*) فاتحة العدد التاسع عشر الذي صدر في 7 ربيع سنة 1316 .
 
12 ربيع الثاني - 1316هـ
سبتمبر - 1898م
نصيحة في معالجة فضيحة​

البغايا على قسمين : مسافحات ، وهن اللواتي يجاهرن بالفاحشة ، ولهن في
مدن القطر المصري مواخير رسمية يتخذنها بمعرفة الحكومة التي تكشف عليهن
أطباؤها الكشف الطبي ، وتعطيهن براءات تعلن سلامتهن من الأمراض المُعدية ،
وتأخذ منهن رسومًا مالية ، كما هو الشأن في مدن أوروبا .
وذوات أخدان ، وهن اللائي يزنين سرًّا ولهن أخدان ( زبونات) مخصوصون ،
وكان العرب يسمونهن : ( ذوات الأخدان ) ويكنى عنهن في البلاد المصرية
لهاته الأيام : ( بصواحب البيوت السرية ) . وقد عزمت خيرًا الحكومة المصرية أن
تنقل مواخير المسافحات رسميًّا من داخل المدن وتجمعها من أحشائها إلى بقعة
مخصوصة من كل بلد ، وقد أحصت أخيرًا هذه المواخير في الإسكندرية فكانت 82
ماخورًا ، قالت جريدة البصير : ( أي عبارة عن بلدة صغيرة من بلاد القطر )
وزادت عليها جريدة السلام بقولها : ( لو أضيف إليها المحلات المستترة لكانت بلدة
كبيرة تقتضي مأمور مركز أو قائمقام ) .
ونحن نقول : إن صواحب البيوت السرية يكدن يكن من المسافحات ؛ لأنهن
إنما يبالغن بالاستتار من الحكومة هربًا من الكشف الطبي ، ومن أداء المفروض
على أمثالهن من المسافحات ، ولابد في كل بلد من وجود ذوات أخدان يتحامين حتى
البيوت السرية ويستترن وأخدانهن من كل أحد ، فإذا ضممنا هؤلاء وهن لا يحصين
إلا بالخَرْص والحدس إلى أولئك اللواتي قدرن بأهالي بلدة كبيرة - تجلّى لنا مقدار
ضرر حرية الفحش وإهمال التربية الدينية التي هي الدواء الوحيد لهذا الداء المبيد ،
وعلمنا أننا في حاجة - أي حاجة - لاستبدال المدارس الوطنية بهذه المواخير
الجهرية والسرية ، وهيهات أن يقاومها مثلها عددًا والشر أغلب ، والفحش أرغب ،
فالتربيةَ الدينيةَ التربيةَ الدينيةَ ، عالجوا بها داء البلاد قبل استحكامه ، وانتاشوا بها
الوطن من مخالب حِمامه ، فالفسق مدعاة الخراب والدمار ، وما للظالمين من أنصار .​
 
19 ربيع الثاني - 1316هـ
سبتمبر - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
العقيدة الإسلامية
( كتاب يحتوي على ذكر شهادات علماء أوروبا وأشهر كتابها بفضل الدين
الإسلامي في نشر المدنية وارتقاء العمران ، مع بيان الأساسات الجوهرية التي بني
عليها الدين المبين ، وتطبيقها على القواعد العقلية والأصول الفلسفية ).
هذا عنوان كتاب ألفه بالإنكليزية الشيخ عبد الله كويلبام ، شيخ المسلمين
ورئيسهم في ليفربول من بلاد الإنكليز ، وقد عربه الفاضل محمد أفندي ضيا
المصري ، وأهدانا نسخة منه تصفحناها فألفيناها جديرة بالمطالعة ، ولكن عنوان
الكتاب أكبر منه ، فإنه وإن بين الكثير من الأسس الجوهرية التي بني عليها هذا
الدين ، لم يستوفها مع التطبيق الذي يشعر به العنوان ، ومما يحسن ذكره في تقريظ
هذه العقيدة : أنها تتكلم عن الإسلام من الوجوه التي تستلفت نظر الأوروبيين وسائر
أبناء التمدن العصري إليه ، من ذكر محاسنه وفوائده للنوع الإنساني ، وتأثيره في
سوق من يأخذ به على حقه للمدنية الصحيحة ، والجواب عن انتقاد متمدني العصر
على بعض أحكامه : كالطلاق وتعدد الزوجات ، وبمثل هذا ينبغي أن يدعى إلى الدين
في هذه الأيام ، لا بمثل كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم : كحواشي السنوسية
والجوهرة التي تبحث عن مزايا الدين وفوائده وتأثيره في سعادة أهله ، بناءً على أن
هذا ليس من أصول العقائد ، لكنها تذكر أن خوارق العادات تقع من كل صنف أو
على يد كل صنف من أصناف البشر ، حتى الكفار والفساق وتسمى كل نوع من تلك
الأنواع باسم ، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب الله ولا سنة رسوله وسيرة أصحابه
وسائر سلف الأمة الصالح ، وإنما هو تقسيم لاح في ذهن بعض المؤلفين الذين لا
يؤخذ بقولهم في فروع الدين فضلاً عن أصوله وعقائده ، التي اختُلف في صحة
إيمان المقلد فيها ، ولو للأئمة المجتهدين .
ومما نقله في هذه العقيدة عن علماء أوروبا في وصف الإسلام ، مسألة حقيقة
بأن يلتفت لها طلاب العلم ، بل والعلماء المسلمون ، وهي أن دين الإسلام سهل
قريب من الفهم يمكن لكل إنسان أن يتناوله من طرف الثمام مع التعقل والإذعان في
مدة قليلة جدًّا ، وإنما أستلفت لهذه المسألة أهل العلم مع أنها لا نزاع فيها ؛ لأن كتبهم
وتآليفهم التي يتداولونها اليوم قد جعلت السهل حزنًا والقريب بعيدًا ، وصار تناول
الدين الذي كان يأخذه الأعراب من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مجلس واحد
يحتاج فيه إلى سنين طويلة ، فعسى أن يضعوا لنا كتبًا سهلة العبارة ، خالية من
الحشو والأبحاث الغريبة والمسائل المبنية على الفرض واحتمال الوقوع ، لأجل
تعليم الناس الدين بها ، فإن أكثر منتحلي علوم الدين - إن لم نقل كلهم - في عجز
عن إلقاء الدروس الدينية من غير كتب يقرءون بها ، والكتب كما تعلم ، فالحاجة إلى
غيرها شديدة ، وما ينتقد به على هذه العقيدة أنها تنقل مسائل دينية عن علماء أوروبا
مخالفة لما عليه المسلمون ، وتقر أصحابها عليها ، مثل : الجزم بأن سيدنا إبراهيم
عليه الصلاة والسلام كان يعبد النجوم ، كما يلوح لغير العالم بدين الإسلام من آيات
سورة الأنعام ، ومثل : نقله عن بعض كتب التاريخ الإفرنجية أن النبي عليه الصلاة
والسلام كان شاعرًا ، وعبارته المنقولة هي : وهكذا انتهت حياة الرجل الوحيد في
تاريخ العالم الذي جمع في آن واحد بين شاعر ونبي ، ومتشرع ومؤسس لدين
ومملكة ، ومثل : نقله أن أكثر القرآن منزل بالنثر المسجع ، وليس كذلك ، ومثل :
نقله عن بعضهم في القرآن أنه يثبت انقلاب هذه الأرض القاحلة على بغتة أرضًا طيبة
تجري من تحتها الأنهار ، وهو ناجم عن عدم فهم القرآن . هذا ما سنح لنا الآن ،
وربما نطالع العقيدة ثانية بدقة وإمعان ، ونوفيها حقها في التقريظ والانتقاد ، ونختم
الكلام بالثناء على حضرة المترجم ، ونستلفته إلى العناية بتصحيح الترجمة في طبعة
ثانية ، ونحث أبناء العربية على الإقبال على هذه العقيدة كما أقبل عليها أهل اللغات
الأجنبية .
__________
 
التعصب
[*]
( 1 )

قد علمت أن التعصب هو عبارة عن القيام بالعصبية ، وأن مناط العصبية في
اصطلاح هذا العصر هو : الجنس أو الدين ، وأن الإفرنج ومن احتذى مثالهم من
أبناء المشرق حذو القذة للقذة يغرقون في مدح التعصب للجنس على إطلاقه ،
ويعدونه المشكِّل للدول ، والمقوِّم للأمم ، ويفتخرون بالتغالي به والاستبسال في سبيله
ويرون أن الشرف الأعلى والكمال الأرفع في بذل النفس والنفيس في تقوية
الجنسية ونصب الأشراك والأحابيل لإيقاع سائر الشعوب فيها .
ويخصون التعصب للدين بالإزراء والازدراء والثلب والسب والطعن والقدح ،
ويعدونه منبع الشرور ، ومولد الفتن ، وعدو المدنية ، ومنار الحروب ، ومقطع
الصلات بين الأمم ، ويتقذرون الاتصاف به ، ويتنصلون من الانتساب إليه ، بل
استعملوا لفظه للسباب والشتيمة ، ويزعمون أن صاحبه خابط في ظلمات الجهالة ،
والتعصب غشاوة على عينه ، أو حجاب كثيف يحول بينه وبين نور المعرفة ، بل هو
أكمه ، لا قابلية فيه لإدراك نور المدنية الصحيحة !
فليت شعري ، هل يرى هؤلاء الدين المطلق هو منبع الشرور ومصدر
الرذائل ، والعقبة الكؤود في طريق المعارف ! وأن اللغة من حيث هي لغة مجمع
أزِمّة الفضائل ، ومنبعث أشعة العلوم والعرفان ! كيف وجلهم أو كلهم ينتسب للدين
تشرفًا به ، ولو رمي بلقب الكفر تقوم قيامته ويتبرأ من هذا اللقب الشائن الذي رماه
به الشانئ ، بل إن عقلاء الكفار من هؤلاء المتمدنين يعترفون بفضل الدين ، وإن
كانوا لا يدينون به ، ويشهدون أنه المهذب للنفوس ، الرادع لها عن الشرور ، وأنه
يَزَعُ ما لا يزع السلطان ؛ لأنه مهيمن على النفوس لا يفارقها في حنادس الليالي ،
ولا يزايلها وراء الحجب والأستار ، حيث تنام أعين القضاة ، ولا تصل أيدي
الشرطة والأعوان .
لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
فلم يبق من شبهة لمن يخص التعصب الديني بالمقت والذم ، والجنسي
بالشرف والإطراء - إلا الغرض ، وأنا أقص عليك غرض الأوروبيين منه ، فاستمع
لما يتلى .
أنت تعلم أن المنفعة مدار كل عمل عند هؤلاء القوم . فأما انتفاعهم من
التعصب للجنس وتربية الأمة على حب جنسهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم ، فهو
أنهم تمكنوا به من توحيد أممهم ، وأمنوا من عواصف الثورات التي كانت تهب في
بلادهم كالريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، وهو الذي
نقاسي اليوم عناءه ونساور بلاءه ، في أرمينيا وكريت وغيرهما من البلاد
العثمانية ، التي فقد منها هذا التوحيد ؛ لإهمال التربية على التحاب والتواد
والاعتصاب بالجنسية العثمانية الجامعة .
وأما انتفاعهم من التعصب الديني فهو أنهم شكلوا الجمعيات الدينية ، وجعلوها
من آلات الفتوح ، وأرسلوها إلى آسيا و إفريقيا أوزاعًا أوزاعًا ( جماعات متفرقة )
تحت حماية دولهم ، فعملت ما لا يعمل السيف ، بل كانت تسير على أثرها الجواري
المنشآت في البحر كالأعلام ، تحمل المدافع الفوهاء التي تدمر كل قطر ينظر فيه
لأحد المرسلين شزرًا ، أو تستعمره استعمارًا .
انظر تاريخ أوروبا مع المشرق كله ، وبين يديك الآن شاهد قريب وهو اندفاع
دول أوروبا الكبار على الصين ، ومبدؤه احتلال ألمانيا لكياوتشاو بسبب قتل بعض
المرسلين ، ولم يكتفوا بهذه المنافع والمغانم ، بل هم ينفخون هذا الروح ( التعصب)
في نصارى الشرق بواسطة جمعياتهم السرية والجهرية ، ويربونهم عليه في
المدارس السياسية الدينية التي ينشئونها في بلادهم ، يمثلون لهم لدى تعليم التاريخ
صورة ماضيهم مع بني وطنهم مشوهة ، تنفر منها النفوس وتقشعر الجلود ،
ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء ، ثم يعدونهم بالحماية والنصر ، ويمنونهم بالاستقلال
إذا هم شقوا عصا الطاعة ، وخلعوا رداء السلطة . ذلك وعد غير مكذوب ،
يجتهدون في الوفاء ما وجدوا للوفاء سبيلاً .
واعتبر ذلك في الفتن الأخيرة في بلاد الدولة العلية من عهد مقدمات الحرب
الروسية إلى عهد المسألة الأرمنية ، والمسألة الكريدية ، تَلْقَه واضحًا جليًّا .
ومما يقضي على العاقل بالعجب أن هذه الدول لا تتحاشى المجاهرة
بالانتصار للنصارى بعنوان حماية الديانة النصرانية .
ولو أن دولة أو إمارة إسلامية سألت عن حال المسلمين في مستعمرات تلك الدول
من حيث زراعتهم أو تجارتهم ، فضلاً عن الانتصار لهم ، لقامت عليها قيامة أوروبا،
وأجمع دولها على وجوب تأديبها ؛ لأنها حركت سواكن التعصب الديني الذي يقوض
أساس العمران ، بل لو انفجرت براكين العدوان في بلادهم ، فأحرقت جميع أرباب
المذاهب لا تتحرك لهم عاطفة رحمة ، ولا تجيش في صدورهم حمية ، سواء كان
المحترقون بتلك النيران نصارى أم غير نصارى ، اللهم إلا إن كانوا من جنسهم ،
فالفرنساوي لا يحن في أوروبا إلا للفرنساوي ، والإنكليزي لا ينظر إلا للإنكليزي ،
وهلم جرا .
فالتعصب الديني عندهم محرم في الغرب واجب الشرق ، اللهم أنه واجب كونه
مذمومًا لفظه لا فعله ، وعلى اجتناء المنافع المدار ، وهو المبدأ وإليه المآل .
وأما ما يثرثر به هذا النشء الجديد في الشرق من لفظ التعصب والمتعصب
في معرض الذم ، فهو لفظ عن غير عقل ولا بصيرة ، بل ليس إلا صدى ما يقوله
أولئك المختلِبون[1] ، يرجّعه هؤلاء المختلَبون ، أو هو حكاية أصواتهم من غير
ملاحظة ما ترمي إليه ، ألا تراهم يرددون كثيرًا لفظ ( فناتيك فناتيك ) أي تعصب
ديني .
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
إلا من انفصل من جنسيته الشرقية واتصل بهؤلاء الإفرنج ، كما تنفصل
النيازك من كوكب فيجذبها إليه كوكب آخر تتصل به ، وتكون جزءًا داخلاً في بنيته.
ومن تجرد من جلابيب الحظوظ والأغراض ، وترفع عن التحزب للأديان
والأجناس ، ونظر في الشؤون بعين الإنصاف ، جاعلاً مطمح نظره الحقيقة - تجلى
له أنه لا فرق بين التعصب للجنس والتعصب للدين ، إلا بما يكون به الأول أشرف
رابطة وأقدس مناطًا ، وأن كلاًّ منهما فضيلة ، إذا وقف عند حد الاعتدال ، وأن
الغلو في كل منهما رذيلة تدعو إلى ايذاء المتعصب لمخالفه فيما قامت به العصبية ،
وتحمله على التعدي وهضم الحقوق واختلاس المنافع .
والعقل المجرد عن الشوائب يحكم بقبح ومذمة التعدي والإيذاء لذاتهما ، من
غير نظر إلى سببهما ، ومن نظر في التاريخ يرى أن كلاًّ من هذين النوعين
للتعصب قد نشأ من الإفراط فيه منازعات وحروب أهريقت فيها الدماء ، ويتمت
الأطفال ، وأيمت النساء .
نعم إن للحروب وجهًا يرجع إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، وليس هنا
مجال للبحث فيه .
يرمي الإفرنج والمتفرنجون المسلمين بالتعصب الديني الذميم ، أي الإفراط فيه
المؤدي إلى إيذاء المخالف ، وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا ، تحملهم عليه
الأغراض السياسية ، وهم يعلمون أنهم كاذبون ، هذا الإفراط في التعصب لم يوجد
في ممالك المسلمين إلا بين أرباب المذاهب الإسلامية ، كالمعتزلة والخوارج والشيعة
من أهل السنة ، وأما بين أهل الأديان المختلفة فلم يكن له أثر ، إلا ما لا تخلو عنه
طبيعة الوجود مما يكون مثله ببن أبناء المذهب الواحد ، حتى أضرمت ناره أوروبا
بالحروب الصليبية ، فاستضاءت هي بنورها ، ورمي بشرر شرورها آخرون .
ومن يجهل التاريخ ينخدع بما يلغط به المذاعون من الإفرنج والمتفرنجين ،
ويصدق جرائدهم فيما تزعم من براءة أوروبا من التعصب الديني ، ويغتر بتلفيقهم
وتمويههم الحقائق وإبرازها في أثواب الزور المدبجة بألوان التمدن العصري ، لكن
أسفار التاريخ على علاتها واختلافها تشهد على أوروبا بالتعصب المشوه منذ دخلت
في النصراينة إلى ما بعد الحرب الصليبية ، وبالتعصب المموه في هذه القرون
الأخيرة . غض بصرك عن إبادة أسبانيا للمسلمين في بلاد الأندلس ، وعن معاملتها
هي و روسيا لليهود الذين أجبروا على النصرانية ، ومن لم يقبل كان جزاؤه القتل
أو الإجلاء عن وطنه ، ومصادرته في ماله وعقاره ، وارم بأشعة النظر إلى الأمتين
العظيمتين زعيمتي التمدن وناشرتي لواء الحرية والعدالة والمساواة ... إنكلترا
وفرنسا ، لم تكتف الواحدة منهما بتأليف الجمعيات لتنصير المسلمين وغيرهم ، ولا
بغرس التعصب الذميم في نفوس تلامذة المدارس التي ينشئونها في البلاد الشرقية ،
وعلى الأخص بلاد الدولة العلية ، ولا إلقاء الدسائس والفتن بين النصارى والمسلمين
في البلاد التي قوي نفوذهم وتداخلهم فيها ، لكثرة النصارى الآخذين عنهم
والمخالطين لهم ، ولا بالتحامل على الدولة العلية والاجتهاد في سلخ بلادها التي يكثر
فيها المسيحيون ، وإعطاء تلك البلاد الاستقلال عن الدولة أو إلحاقها بحكومة مسيحية،
بل لا يزال روح التعصب الذميم محركًا لألسنتهم ، ومالكًا أزمة عامتهم وخاصتهم،
وناهيك بعظيم إنكلترا وفقيدها المستر غلادستون وخطبه ضد الإسلام ، وكلمته
الأولى في وجوب إعدام القرآن ، وكلمته الآخرة في وجوب تطهير أوروبا من
المسلمين ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .
ودونك كلمة أخرى من عظماء الإنكليز عُبر بها عن قاعدة من قواعد السياسة
التي يجب على أوروبا العمل بها ، وهي كلمة اللورد سالسبري في وجوب إعادة ما
أخذه الهلال من الصليب للصليب دون العكس ، كبرت كلمة هو قائلها ، وعليه
وزرها ووزر من عمل بها ، ولا تنس معاملة البريطانيين لمسلمي ليفربول ،
ورجمهم بالأحجار في مصلاهم ، بله معاملتهم للهنود وغيرهم من البعداء عن أرض
التمدن والحرية ، بل لا تنس تعصبهم على كاثوليك أرلنده وعدم مساواتهم
بالبورتستان !!
واذكر ما نقله ( المقطم ) من عهد غير بعيد عن الفرنساويين واستنكافهم من
السفر مع المسلمين في حوامل ( عربات ) السكك الحديدية في تونس و الجزائر ،
ولديك الآن في فرنسا مسألة دريفوس التي أقامت الأمة الفرنسوية وأقعدتها ، فتألب
حكامها ومحكوموها على اليهود جميعهم بجريرة أسندت إلى بعضهم كذبًا وبهتانًا
وتعصبًا ذميمًا ، ومن وقف على دخائل هذه المسألة ودقائقها يتعجب من غلواء
الفرنساويين وطيشهم وتعصبهم الأعمى ، ويحكم بأن التهذيب لا يمكن أن يلابس
النفوس إلا بالدين السماوي من غير غلو فيه ولا تفريط ولا إفراط ، وهو ما فقده
الأوروبيون في الجملة والفرنسويون في الجملة والتفصيل .
قال قائل : إن ظل الديانة قد تقلص عن فرنسا وعن عامة أوروبا ، وإن
الحكومة الفرنسوية صرحت رسميًّا بأنه لا دين لها ، فكيف تغلو في التعصب للدين
وهي ليست على دين ؟
ونحن نقول : صدق القائل فيما حكاه عن فرنسا وسائر أوروبا ، ويؤيد قوله
هذا ما نقل عن كثير من العارفين بأحوال أوروبا : كالخطيب لوازون الفرنسوي في
خطبته في الأوبرا الخديوية بمصر وغيره ، وجاء في مجلة المقتطف الغراء عن
الدكتور يعقوب أفندي صروف أحد منشئيها أنه دخل إحدى كنائس باريس متفرجًا ،
فرأى فيها جماعة -ولم يكن يوم أحد- فقال : ما أراكم إلا متدينين يا أهل باريس ،
فقال له الدليل وهو فرنسوي : لا تغرنك الظواهر ، لكن التعصب على المخالف في
الدين لا يستلزم تمسك المتعصب بالدين حقيقة ، وإنما يكفي فيه الانتماء له ولو اسمًا ،
فكيف إذا انضم إلى ذلك جعله عاملاً من عوامل السياسة ، وأداة من أقطع أدواتها ،
وتأيد بالوراثة الطبيعية عن الآباء والأجداد ، والغرائز والسجايا المورثة لا تنزع
وتمحى آثارها بمجرد اعتقاد بطلان مناشئها وقبح مصادرها ومواردها .
قال القائل : إن تحامل الدول الأوروبية على الدولة ناجم عن محض المطامع
السياسية ، أو خدمة الإنسانية بإزالة الظلم وإصلاح البلاد ، وليس للتحمس الديني فيه
يد ، ولولا أن جميع حركات أوروبا وسكناتها صادرة عن منازع السياسة دون منازع
الديانة لما حارب بعضهن بعضًا ، ولما وازرن الدولة العلية في حرب القرم ، بل
وفي الحرب اليونانية الأخيرة ؟
والجواب عن هذا في غاية الظهور : أما كون المطامع السياسية هي المالكة
لإرادة دول أوروبا والمصرّفة لها ، فهو مما لا ريب فيه ، إلا أن هذه المطامع لما
أوجبت معاملة الدولة العلية معاملة لا تنطبق على معاملة بعضهن لبعض ، وكان من
المشاهد أنهن يكلن لها في السلم والحرب بغير المكيال الذي يكلن فيه لأنفسهن في
السلم والحرب ، حتى إنهن يسلبن من بلادها في الحالتين على السواء - علمنا أن
المطامع السياسية الأوروبية مشوبة بالتعصب الديني الذميم تلقاء الدولة العلية ، بل
أقول : إن للنزغات الدينية أثرًا عظيمًا في السياسة الأوروبية العامة ، تشهد لذلك
علاقات الشعوب البلقانية مع روسيا ، وعلاقة أيرلندا مع فرنسا ، ومن أقوى شواهده
ما كان للحرب الأميركية الأسبانية من الأثر المختلف عند أُمَّتَيْ : الحرية إنكلترا
وفرنسا ، فقد كان ضلع الأولى مع الأولى ، والثانية مع الثاينة ، ولا ينكر أن لاتفاق
المذهب واختلافه يداً في ذلك ، وإن كابر المكابرون وموه المموهون .
نعم ، إن الجنسية والوطنية في تنازع دائم مع الدين عند الأمم الغربية ، حتى
إن الكاثوليكي الأميركي قد يحارب أخاه الأسباني ، إلا أنهم لم يصلوا في ذلك إلى
محو سلطة الدين والمذهب على النفوس بسلطة الوطنية والجنسية .
وأما دعوى خدمة الإنسانية والسعي في إزالة الظلم وإصلاح البلاد ، فهي خداع
وتغرير للعقول ، أليس في بلاد بعضهن وفي مستعمرات جميعهن من الظلم ما يجب
إزالته أو لا ؟ لمَ لم تتعرض الدول الأوروبية لإغائة أهالي كوبا ، كما تعرضن لإغاثة
أهالي كريت ، مع أن ظلم أسبانيا لكوبا مما لا ريب فيه ، وهو الذي حملها على
العصيان ، بخلاف كريت ، فإن عصيانها كان بدسائس أوروبا التي صادفت من أهل
كريت نفوسًا خبيثة ، مجبولة على الفتن والشغب ، كما وصفهم مقدسهم بولس في
إحدي رسائله !
وأما انتصار بعضهن للدولة العلية في حرب القرم ومحاربة بعضهن بعضًا ،
فلا ينهض حجة على نفي التعصب ولا إثباته ، بل بعض ذلك من مطامع السياسة
المحضة ، وبعضه من المطامع المشوبة بالنزغات الدينية ، يعرف ذلك المؤرخون
المدققون .
أما المسلمون فقد كانوا في شبيبة دينهم وعنفوان قوتهم يحترمون مخالفيهم في
الدين ، ويساوون بينهم وبين أنفسهم في الحقوق ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهذا في
حق الذمي والأجنبي المعاهد دون الحربي ، وقد ذكرنا في العدد الثاني والعشرين
محاكمة الإمام علي - وما أدراك من هو - مع يهودي عند أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب ومعاتبة علي لعمر بعد المحاكمة على عدم المساواة بينه وبين خصمه ، حيث
كناه وسمى خصمه ( وسنذكر ما فرضت الشريعة الإسلامية من الحقوق للذمي
والأجنبي المعاهد في فرصة أخرى ) فهل وصل الأوربيون في نهاية مدنيتهم إلى
شيء مما كان عليه المسلمون في بدايتهم وبداوتهم من المساواة ؟
كلا إنهم لا يحتلون بلاداً ولا يطأون أرضًا إلا ويجعلون أنفسهم فوق كل
شريعة وقانون ، وهو ما يسمونه بالامتياز ، سواء كان حلولهم في الأرض حلول فتح
واستعمار أو حلول ارتياد واتجار !
لم يقف المسلمون عند هذا الحد من المساواة والعدل ، بل تخطوه إلى حد أبعد
منه ، وهو معاملتهم للمخالف معاملة الأكفاء فيما يتعلق بالشرف والفضل
(التشريفات) وتقليدهم المناصب العالية إن كانوا أهلاً لها ، حتى كان منهم من تولى
قيادة الجيش في أسبانيا ، وكثير منهم ارتقى إلى رئاسة الدواوين القلمية
وغيرها وحفظ أسرار الخلفاء والملوك ( سكرتير) ولم يكن ذلك خوفًا من مراقبة
دولة أخرى تنتصر لهم ، ولا استمالة لهم ولقومهم للإسلام . كيف وقد كان من عمال
الأمويين من يكره دخول المخالفين في الإسلام لئلا تنقص مبالغ الجزية .
لو شئنا سرد الشواهد على حسن معاملة المسلمين لمن خالفهم في الدين أيام
تمسكهم بالدين وعملهم بآدابه واهتدائهم بهديه لاحتجنا إلى تأليف رسالة أو كتاب ،
لكننا نزيد على ما أشرنا إليه شاهدًا واحدًا مما كان أيام الدولة العباسية ، ونشير إلى
بعض الشواهد في عهد الدولة العثمانية ، فنقول ...
(ستأتي البقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) فاتحة العدد السادس والعشرين الصادر في 26 ربيع الثاني سنة 1316 .
 
3 جمادى الأولى - 1316هـ
أكتوبر - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
التعصب
[*]
( 2 )
تتمة ما سبق

لم يكن الاستمساك بعروة الدين على عهد العباسيين كما كان على عهد الخلفاء
الراشدين ، فيساووا بين رجل من آحاد يهود وبين أعظم مسلم علمًا ودينًا ومكانة
وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كعلي كرّم الله تعالى وجهه ،
ويحاسبون أنفسهم وينكر بعضهم على بعض إذا أخل بالعدل والمساواة ولو في اللقب
والكنية كما علمت ، ولكنهم ( أي العباسيين ) لقربهم من عهد النبوة كانوا على
مقربة من ذلك : يحكمون بالشريعة ويتأدبون بآدابها بالجملة ، والشاهد الذي أريد
إيراده من تاريخهم قريب من الشاهد الذي أوردته عن عمر وعلي ( عليهما الرضوان)
في معاملة اليهودي وهو بعض خبر أبي إسحاق الصابئ . لا أعني بذلك
اعتراف الخلفاء بفضله ، وتقليدهم إياه الأعمال الجلائل مع ديوان الرسائل ، وإنما
أعني ما كان بينه وبين الطبقة العليا من المسلمين من الموادة والمحالفة ، نذكر منها
بعض خبره مع الشريف الرضي ، وهو مَن علمت مكانه من الشرف الباذخ والسؤدد
الرفيع ، وكان في العلم لا يضاف إليه كفيح ، ولا يقرن به نديد ، وهو من أئمة
الشيعة ، وكفاك أنه اجتمعت له الإجادة في المنظوم والمنثور معًا ، وهي كما قال ابن
خلدون : لا تتفق إلا للأقل ، ولقد كان يعامل أبا إسحاق معاملة الأكفاء والنظراء ، مع
أنه كان يسامي الخلفاء ويطاولهم في مجالسهم ، حتى إن الخليفة القادر بالله كان يتهمه
بالتطلع إلى الخلافه لأنه يرى نفسه أحق بها لمكانة نسبه وعلمه ، هذا وأبو إسحاق من
الصابئة الذين هم أضعف وأحقر فرقة من فرق الأديان ، لكنه كان فاضلاً بليغًا ، فلم
يحُل خلاف دينه وضعف طائفته دون معاملته بما يستحق فضله من الإجلال وتقليد
الأعمال .
ولقد كان مثل الشريف يجله لفضله وأدبه ، لا لوظيفته ومنصبه ، ومن آية ذلك
مرثاته التي رثاه فيها بعد موته ، فإن فيها من الثناء عليه ما يربي على ما كان يكتبه
له في حياته من المراسلات المنظومة والمنثورة ، وإننا نأتي ببعض أبياتها وإن
كانت مشهورة زيادة في البيان .
مطلع القصيدة
أعلمتَ مَن حملوا على الأعواد ؟ أرأيتَ كيف خبا ضياء النادي ؟
ومنها :
بعدًا ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتَّ في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضل ذاك الهادي
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيًا ... أنى ومثلك معوز الميلاد
ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد
لا تطلبي يا نفس خلاًّ بعده ... فَلَمَثله أعيى على المرتاد
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن ... شرفي يناسبه ولا ميلادي
إن لم تكن من أسرتي وقبيلتي ... فلأنت أعلَقُهُم يدًا بودادي
إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حيًّا إذًا ما كنت بالمزداد
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلها ... وتركت أضيقها عليّ بلادي
لك في الحشا قبر وإن لم تَأوِه ... ومن الدموع روائح وغواد
إلى أن قال في آخرها :
صفح الثرى عن حر وجهك إنه ... مغرى بطي محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حيا ... من رائح متعرس أو غاد
إن الشريف الذي قال : إن الفضل ناسب بينه وبين أبي إسحق ، وأنه كان
أعلق نسبائه وأسرته بوداده هو الذي أنشد الخليفة القادر بالله هذه الأبيات
( من قصيدة ) في مجلسه وهي :
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق
وهو الذي رثى الخليفة العادل والإمام المجتهد عمر بن عبد العزيز الذي رفع
من شأن آل البيت الكرام بعد اضطهادهم من سلفه الأمويين ، والذي مناقبه ومآثره لا
تحصى ، فاقتصر من مدحه على مثل قوله :
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين ... فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول إنك قد طبت ... وإن لم يطب ولم يزكُ بيتك
وعجيب أني قليت بني مروان ... طُرًّا وإنني ما قليتك
يقول : إنه لا يمكن البكاء على عمر بن عبد العزيز ، وقال : إن الدمع الذي
يبكي به أبا إسحق لا ينفد ؛ لأن له مداداً من القلب ، ويعجب أنه لم يقْلُ عمر
ويبغضه ، ولم يقل أنه يحبه ، وقد عهد إلى نفسه أن لا تتخذ خلاًّ بعد أبي إسحق ،
وقال : إنه أعلق أهله وأنسبائه بوداده ، وهذا مما يؤيد قولنا السابق : إن الإفراط في
التعصب الديني لم يُعهد من المسلمين إلا مع المخالفين في المذهب دون المخالفين
بأصل الدين ، كما أنه وقع منهم التعصب للجنس أحياناً ، ولا حاجة لبيان ذلك ؛ لأنه
مما لا نزاع فيه . وهذا الشاهد الذي أوردناه له نظائر كثيرة يعرفها من نظر في كتب
التاريخ الإسلامية ، لا سيما قبل الحروب الصليبية .
وأما الدولة العلية العثمانية فحسبك من حسن معاملتها للمخالف لها في الدين ،
وهي في أوج عزها ومنتهى قوتها ، ما كان من السلطان محمد الفاتح مع الروم يوم
فتح القسطنطينية ، وإقراره للبطريق على امتيازه وامتياز طائفته ، وإعطائهم الحرية
الكاملة ، ومنحهم الرعاية الشاملة ، وتسجيل ذلك في قوانين المملكة ، وجعله عهدًا
مُتبعاً في الدولة لا ينقض ، تعطى للبطارقة به الوثائق ( الفرامين ) السلطانية من
ذلك العهد إلى الآن ، خلافاً لما كان يعاملهم به الكاثوليك من القسوة والاضطهاد .
ولقد كان عرض على الروم الخضوع لكنيسة رومية بإزاء انتصار إخوانهم
الكاثوليك لهم وإغاثتهم من العثمانيين ، فائتمروا بينهم وأقروا على أن رؤية تاج
السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أهون وأحب إليهم من رؤية عراقية ( قبعة
مخصوصة ) كردينال من جماعة البابا فيه ، ولولا أنهم كانوا يعلمون من العثمانيين
العدل والإحسان والمجاملة لما فضلوا سلطتهم على الاتحاد مع إخوانهم في بعض
قضايا الدين ، وبقاء سلطتهم لهم ، ولم تزل تلك الامتيازات مرعية إلى اليوم ، وربما
نذكرها في فرصة أخرى لمناسبة تعن .
ولقد ساهم العثمانيون من سبقهم من العباسيين والأمويين في رفع مخالفيهم في
الدين لا سيما النصارى إلى المناصب العالية ، فجعلت الدولة حكاماً للصرب
وللمملكتين من اليونان فخانوها وكانوا لنعمتها من الكافرين ، ولقد كان منها مثل ذلك
في عهد كانت ترتعد فيه أوروبا من بأسها ، وما فتئ جاريًا بحركة الاستمرار إلى هذا
الحين ، نعم لم يكن السير على نحو واحد لما تقتضيه طبائع الأوقات من اختلاف
الحالات ، وكلنا شاهد رعاية الدولة العلية لطائفة الأرمن حين رأت من جدهم
واجتهادهم في العلم والعمل حتى إنها قلدتهم الأعمال الجليلة ، لا سيما في المالية ،
ورفعت غير واحد منهم إلى مقام الوزارة ، وبالجملة قد ميزتهم حتى على العرب
الذين أكثر رعاياها وأخلصهم وأكثرهم على دينها ، فقابلوها على ذلك بالكنود
والكفران والخيانة والعصيان . كان منهم من يظهر المضرة في صورة المنفعة ،
ويُلبس الأمانة ثوب الخيانة بحجة توفير المال في الخزينة ، وهو يعلم أنه يضطرهم
بذلك إلى الرشوة التي تفسد السلطنة وتضعضع بنيانها .
ويعلم أكثر القراء ( المصريون ) ما كان من خدمة نوبار باشا لإنكلترا في
مصر التي ثبتت أقدامهم فيها ، على حين كانت في زلزال ، وأمر الاحتلال قرين
الاختلال . وقد انتهى أمر الأرمن في الدولة إلى الثورات والفتن والسعي في إحراق
الباب العالى ونسف البنك العثماني ، وإن شئت فقل : بمحو الدولة العلية - حماها
الله تعالى- من دول الأرض .
كل هذا يكون بدسائس أوروبا ، ثم لا يخجل عظماء ساستها أن يقولوا : إن
الدولة متعصبة تهين رعاياها المسيحيين ، فيجب إنقاذهم . وإنما هي القوة تقول
للضعف ما تشاء ، ما أصاب المسيحيين من حسنة في ظل الدولة العلية فتزعم
أوروبا أنه كان خوفاً منها أو تعمية عليها ، وما أصابهم من سيئة فتقرنه بتعصب
الدولة وتحمسها ، وإن تاريخ الدولة يكذبها في زعمها الذي تغش به الجهلاء
والمخدوعين .
كانت أوروبا على عهد السلطان سليم ياوز ترتعد فرائصها من خشية الدولة
العلية ، وكانت الولايات المسيحية الأوروبية العثمانية تكثر الخروج على الدولة ،
لا سيما في إبان إشتغال الدولة بالحرب ، وما كان يجرؤها على ذلك إلا خفض العيش
وفرط الطيش ، فارتأى السلطان سليم - رحمه الله تعالى- أن يجبرهم على الإسلام
أو يمزق عصبيتهم بالتشتيت والتفريق بإجلائهم عن أوطانهم ، فاستفتى شيخ الإسلام
العلامة أبا السعود فأفتاه بعدم جواز ذلك شرعاً ، فعدل عن رأيه وإن كان لرأيًا
سياسيًّا حكيمًا . فهل كان ذلك عن خوف أو مصانعة لأوروبا ، أم هو الدين الإسلامي
الذي يقول كتابه العزيز { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة : 256 ) وتصرح سنته بأن
من آذى ذميًّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه يوم القيامة ، ونحو ذلك
من النصوص .
وخلاصة القول : إن الغلو في الدين أو التحمس الديني وهو ما يطلق عليه أهل
العصر : التعصب ، هو مما نهى عنه الدين الإسلامي صريحًا { لاَ تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ } ( النساء : 171 ) وآداب الإسلام وأحكامه تنافيه كما تنافيه أيضاً آداب
الإنجيل ومواعظه ، ولم يضرم الأوروبيون نيرانه في العالم قديمًا وحديثًا اتباعًا
للإنجيل ، وان كانوا أظهروه بمظهر ديني ، بل لم يلابس الدين قلوب الأوروبيين في
عصر من الأعصار ، وما كانوا متبعين للإنجيل يومًا من الأيام ، وأما قول الإنجيل :
ما جئت لألقي سلامًا ، إنما جئت لألقي سيفًا إنما جئت لألقي ناراً ، فليس معناه الأمر
بالحروب والفتن ، وإنما هو إخبار عن المستقبل ، أي أنه بسببه يحصل هذا ، وإن لم
يكن مأموراً به ولا مرضيًّا ، هذا ما نفهمه من تطبيق مثل هذا النص على سائر
النصوص التي تصرح بوجوب الخنوع والتسليم لأي حاكم ، وإعطاء ما لقيصر
لقيصر وما لله لله ، وهي كثيرة ولا تسمع من رجال هذا الدين إلا إنه دين سلام
واستسلام ، وإنما حارب الأوروبيون لأجل الدين المسيحي وأكرهوا الناس عليه
أجيالاً ، وغلوا فيه غلوًّا كبيراً ، حتى سرت عدوى غلوهم وإفراطهم في تعصبهم إلى
غيرهم ممن جاورهم ؛ لأن روح الحرب والفتنة كان صاحب السلطان الأكبر عليهم ،
والمصرف لأجسادهم قبل دخول الدين المسيحي في بلادهم ، ولقد تناولوا الدين من
أبناء الرومانيين وهم -كما قال في العروة الوثقي - : ( على عقائد وآداب وملكات
وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة ، وعلومهم وشرائعهم الأولى ، وجاء الدين
المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب عقولهم ، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة
الخواطر ، لا من مطارق البأس والقوة ، فكان كالطراز على مطارفهم ، ولم يسلبهم ما
ورثوه عن أسلافهم ، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية إلى السلامة والسلم لم تكن
لسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس ، بل كانت مذخورة عند الرؤساء
الروحانيين ، ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع ، وسنوا
محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين ، التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية
وجرت منها مجرى الأصول ، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في
أوروبا ، وافترقوا شيعًا ، وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته وعاد وميض ما
أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا . ثم أرشدهم النظر في طبائع الكون
والاعتبار بحالهم وماضيهم إلى استعمال الدين آلة سياسية ، وهذا ما يحمل حكومة
تصرح رسميًّا بأنه لا دين لها ، على إعلان حمايتها النصارى الكاثوليك في الشرق ،
وهذا بعينه هو الذي حمل قياصرة الروس على ادعاء الرئاسة الدينية وإعلان حماية
الروم الأرثوذكس ، ومن هنا نرى الفتن التي تحدث في بلاد الدولة من النصارى
تظهر على أيدي أبناء مذهب الدولة الأوروبية المحركة للفتنة ، فالنيران التي اشتعلت
في البلقان قبيل إعلان روسيا الحرب على الدولة العلية ، إنما أشعلها الأرثوذكس
قسيسوهم وعامتهم ، والنيران التي أضرمت أخيرًا في أرمينيا إنما أضرمها
البروتستان بحض بريطانيا العظمى البروتستنتية ، وإنما يذم الإفرنج والمتفرنجون
التعصب الديني ليخدعوا الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا ، فيحلوا رابطتهم
الدينية التي هي أقوى الروابط الجامعة بينهم على اختلاف لغاتهم وأجناسهم ، ويعموهم
عن تعصبهم وتحمسهم ، لكنهم كثيرًا ما تحملهم الأغراض والمقاصد السياسية على
التصريح بالحقيقة ، فقد صرحت جريدة الطان ، وهي من أشهر جرائد فرنسا بأن
حرب الإنكليز للسودان يمثل واقعة من وقائع الحروب الصليبية ، وصرحت بعض
الجرائد النمسوية والألمانية الشهيرة فيما أفادنا البريد الأخير بأن الخطة التي تجري
عليها أوروبا مع مسلمي كريت هي السبب في كل اضطراب حدث ويحدث في
الجزيرة ، وأن حالة الجزيرة قد ساءت منذ تولت أوروبا إدارة أحكامها وشؤونها ،
وهي تزداد كل يوم خرابًا ودمارًا ، فالمسيحيون واقعون في ضيق شديد وعذاب أليم ،
ولكن عذاب المسلمين وضيقهم أعظم ؛ لأنهم محرومون من جميع حقوقهم تقريبًا ، وقد
صبروا زمانًا طويلاً على مصائبهم وخطوبهم حتى ملوا مرارة الصبر وعذاب
الانتظار ، وطفحت الكأس إلى الاصبار .
هذا ما تعترف به جرائد الأمتين اللتين انفصلت حكومتاهما عن أوروبا وأبتا
مشاركتها في بغيها على أهل تلك الجزيرة ، كل هذا والأميرال الإنكليزي يشدد في
طلب تعجيل نزع السلاح عن المسلمين دون النصارى ، ليتمكنوا من استئصالهم
عاجلاً ، ومولانا السلطان الأعظم يطلب نزع السلاح من الفريقين ، كما يقتضيه العدل
والمساواة في الظاهر ، وإن كان في الباطن فيه إجحاف بالمسلمين ، لا من حيث
الطلب نفسه ، بل من حيث إن المسيحيين أكثر عَددًا وعُددًا ، والأوروبيون يحمونهم
برًّا وبحرًا ، كما تصرح بذلك الجرائد المسيحية ، قالت الأهرام : ( وعندنا أن جلالة
السلطان مصيب فيما يفترضه من نزع السلاح من المسيحيين والمسلمين في كريت ،
لا من المسلمين وحدهم ، إذ ليس من العدل ولا من الحكمة أن تجبر الفئة القليلة -
وهي لا ناصر لها ولا معين - وتبقى الفئة الكبيرة القوية مسلحة ، وهي محمية
ببوارج الدول ومدرعاتها ) اهـ .
لقد قلنا : إن تعصب أوروبا في هذة الأزمنة مموه ، وكان في العصور السالفة
مشوهًا ، وأبلغ من هذا ما نقل عن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أنه قال لبعض كتاب
جرائد أوروبا : ( إن أوروبا تحاربنا حربًا صليبية في شكل سياسي ) لكن مسألة
كريت خرجت عن دائرة المحاولات السياسية إلى العدوان الظاهر ، وتجلى فيها
الإفراط في التعصب الذميم في أقبح صوره المشوهة ، ولقد ذم أوروبا ولعن اتفاق
دولها العظام كل كاتب ، حتى كاتب المقطم ، فاعتبروا بمدنية أوروبا يا
أولي الأبصار !
فيا أيها المسلمون تمسكوا بدينكم وتعصبوا فيه ، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا
تفرقوا ، ولا تتعدوا في تعصبكم حدود العدل فتعتدوا على جيرانكم المخالفين لكم في
الدين ، فإن إيذاء أي مخالف من ذمي ومعاهد ومستأمن ، وبعبارة أخري : غير
حربي - حرام في دينكم ، وخروج عن هديه القويم ، سواء كان الإيذاء بالقول أو
الفعل ومن قال لكم : إن التعصب بهذا المعنى مذموم ، فهو غاشّ مخادع ، يريد أن
يفتنكم عن دينكم الذي لا تقوم لكم قائمة بدونه ، بل ما أصبتم بالمصائب وانتابتكم
النوائب إلا بانحرافكم عما كان عليه سلفكم الصالح ، و تشبثكم بالبدع وانغماسكم في
الشهوات واقترافكم المنكرات .
لا أعني بالبدع والمنكرات اختلاف أشكال الأزياء وألوان الطعام والشراب
المباحين ، فإن المخالفة في هذا ليست مخالفة في الدين وإنما هي مخالفة في العادات.
وإنما أعني : الانحراف عن أخلاقهم الفاضله وأعمالهم النافعة ، كالعفة والشجاعة
والعدل وعلو الهمة وعزة النفس والتواضع ، وما ينجم عنها وعن أمثالها من الآثار ،
لا تكونون مؤمنين حتى تكونوا - كما قال الله تعالى - إخوة ، أبوكم جميعًا خليفة
المسلمين الذي يجب على كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها الخضوع له
والاعتراف برئاسته ، ولا يلومكم على هذا بنو وطنكم المخالفون لكم في الدين ، كما
أنكم لا تلومونهم على خضوعهم لرؤساء دينهم في الممالك الأخرى ، كخضوع
الكاثوليك العثمانيين لحضرة البابا . وإن مقام الخلافة في الإسلام أعرق في الدين من
مقام البابوية في النصرانية ، فإن الصحابة لم يدفنوا النبي صلي الله عليه وسلم إلا
بعد تعيين الخليفة عنه . أما السلطة البابوية فقد أفادنا التاريخ أنها تأسست في أوائل
القرن السابع للميلاد ، وأول من رتب قوانين الكنيسة ووضع رسومها هو البابا
غريغوريوس الأول الذي تولى من سنة 590 إلى 604 ، ومعلوم أن سلطة خليفة
الإسلام روحية وزمنية ( سياسية ) من الأصل ، أما البابوبية فقد أنيطت بها السلطة
الزمنية في أثناء القرن الثامن للميلاد إثر مقاومة البابا لقانون ليون قيصر
القسطنطينية القاضي بإزالة الصور والتماثيل من الكنائس ، ونجاحه في إبطال العمل
بما سنه القيصر ، وفي سنة 800 م ألبس البابا الملك شرلمان التاج ، وسمى شرلمان
حاميًا للمسيحيين ورئيسا جسمانيًّا لهم ، كما أن البابا رئيس روحاني ، وكان نصب
البابا مشروطًا بتصديق الإمبراطور ( ولا تنس ما نقل عن جوستنيانوس قيصر
القسطنطينية في ذلك ) مع هذا فإنك تجد فرقة الكاثوليك وهي أكبر فرق النصارى
خاضعة أتم الخضوع الديني لسلطة البابا ، حيث اتفقوا بعد عدة قرون من وجود
ديانتهم على ذلك ، فما بالنا نحن المسلمين لا نرتبط بخليفتنا مع وجود الأمة ؟
أنخشى أن يقال : إننا متعصبون ؟ إن كان معنى التعصب ما ذكرنا فلنكن متعصبين ،
فإن من يغمزنا بذلك أشد منا تعصبًا ، ونحن نريه الجذع في عينه قبل أن يرينا القذى
في أعيننا ، وإن كان التعصب عبارة عن إهانة المخالف وإيذائه وإكراهه على ترك
دينه ولو بضروب الحيل ، فنحن أبرأ الناس من التعصب ، وأبعد عنه قديمًا وحديثًا.
نعم قد أحرجنا إليه خصمنا في بعض الأزمنة ، لكن لم يكن إلا كسحاب
الصيف عن قريب يتقشع ، ولا تزال أوروبا تعلمنا بسوء معاملتها لنا وافتئاتها علينا
بحجة الانتصار للمسيحيين ما لا نعلم ، وما منعنا أن نرسخ في هذا العلم إلا الدين
الإسلامي الذي ( يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي ) ، على أننا لسنا متمسكين به على وجه الكمال ، ولو مرقنا ( والعياذ
بالله ) كما مرقت أوروبا لأفرطنا في التعصب كما أفرطت ، وبغينا كما بغت ، وقد
قلت ولا أزال أقول : لا يصد عن الغلو والإفراط في التعصب إلا التمسك بآداب الدين
الصحيحة ، فمن كان يحب الإصلاح ويرغب في الوفاق بين المختلقين في الدين ، لا
سيما المسلمين والنصارى فليأمر الأولين بآداب القرآن ، والآخرين بمواعظ الإنجيل ،
وعلى الله قصد السبيل ، ومن حاول الإصلاح في الشرق بغير هذا فقد حاول
المستحيل .
فيا أيها العثمانيون إن لكم مخادعين من أنفسكم تأمنون جانبهم ، وتتوهمون
غيرتهم ، قد أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ، فاحذروهم على
وطنكم وبلادكم ، فإنهم عاملون على انحلال عصبيتكم الدينية والجنسية العثمانية معًا،
يُبغِّضون إليكم دولتكم ، ويسعون في إماتة لغتكم وإحياء لغات أوروبا ، ويلقون
بينكم وبين بني وطنكم العداوة والبغضاء بعنوان الدين ، وما ذلك إلا هدم للدين ،
ليضع كل منكم يده في يد شريكه في وطنه ، وتعاونوا على الأعمال النافعة ،
وتعاملوا بالأمانة والصدق ، لتقوى فيكم المحبة التي تغفر معها الهفوات ، ويعفى عن
السيئات ، لا تنخدعوا لأوروبا ، فها أنتم أولاء تشاهدون كيف اتفق أعظم دولها على
شقاء إخوانكم في كريت . حافظوا على جامعتكم العثمانية واجتهدوا في تعميم التربية
التي تصلح أحوال الحاكم والمحكوم ، ولا يجرمنكم اختلاف الدين والمذهب على أن
لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) فاتحة العدد السابع والعشرين الصادر في 3 جمادى الأولى سنة 1316 .​
 
3 جمادى الأولى - 1316هـ
أكتوبر - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تصريح إنكلترا بامتلاك السودان
تناقلت الجرائد المحلية خبرًا كَلَم كل فؤاد ، وفَتَّ في جميع الأعضاد ، بل كان
قارعة من القوارع ، تمزقت من وقعها المسامع ، وهو أن الدولة الإنكليزية بعثت إلى
نظارة خارجية مصر برسالة برقية تقول فيها : ( إن حكومة إنكلترا أنفقت في
محاربتها السودان النفقات العظيمة ، وخسرت في فتحها الخرطوم و أم درمان دماء
رجالها ، ومن هذا هي تعدّ نفسها ذات الحق الأول في السودان ، ولمصر الحق
الثاني ، فيحتم على إنكلترا أن تكون هي الآمرة الناهية فيه ، وعلى مصر أن تقبل
إرشادها ونصائحها فيه ) .
انظر إلى هذه المقدمات البينة والحجج القيمة ؟ من قال من بني الإنسان : إن
المتطفل أو المتفضل بمساعدة إنسان على دفع مضرة عن أرضه ، أو اجتلاب منفعة
لملكه ، يكون له الحق الأول في ذلك الملك ، والتصرف المطلق في تلك الأرض ،
ويجب على صاحب الأرض المالك أن يكون عبدًا خاضعًا له ، ومنفذ أوامره ؟ أي
قانون أم أية شريعة تبيح لصاحب الهدية أن يمتلك بيت المهدى إليه بحجة أن الهدية
كانت حجرًا أو خشبة ودخلت في البناء ؟
أقول : إن شريعة البغي والظلم المؤسَّسة على قاعدة ( القوة تغلب الحق ) هي
التي تبيح هذا دون سواها ، سمحت إنكلترا لمصر بثمانمائة ألف جنيه لكنها ابتزت
منها ألوف الألوف من الجنيهات من مدة الاحتلال ، فهل كان ذلك ذريعة لامتلاك
بلادها ؟ نعم ، إنهم ليأكلون أموالنا ويسفكون دماءنا بتسليط بعضنا على بعض لأجل
فتح بلادنا وامتلاكها ، ونسميهم مع ذلك مصلحين ، ولا يزال فينا من يحسن بهم
الظن وينخدع لهم ، وأولئك هم الغافلون .
أما الحكومة المصرية فقد ارتاعت - كما قيل - لهذا النبأ العظيم ، وإن
كانت مستسلمة للإنكليز في جميع الشؤون ، وطيرت الخبر لسمو العزيز في أوروبا ،
ورفعته للآستانة العلية أيضًا ، ولا نعلم ماذا يكون الجواب عنه ، وإن بعض الناس لم
يزالوا في ريب من صحة الخبر لغرابته وبعده عن مسلك الإنكليز في التمويه ، وعدم
انطباقه على قاعدة من قواعد حقوق الأمم والدول ، وستنكشف الحقيقة عما قليل .
***
جاء في بعض الجرائد المحلية أن مولانا السلطان الأعظم تعلقت إرادته السنية
بمنع جميع الجرائد المصرية من دخول ولايات السلطنة ، ماعدا ثلاثًا مسيحية ، ولقد
كذبت هذا الخبر جريدة الأهرام ، وتكذبه دائمًا جرائد سوريا التي تنقل الأخبار في
كل أسبوع عن الجرائد المصرية مع العزو الصريح إليها ، ولا وجه لتخصيص
الجرائد المسيحية بخدمة الخلافة الإسلامية ، بل المسلمون العارفون بحقوق الخلافة -
لأنها من مهمات دينهم - أحق بهذه الخدمة وأهلها ، وهم والمسيحيون سواء في خدمة
الدولة العلية والجامعة العثمانية ؛ لأنهم في بنوتها سواء ، ويجب عليها العدل فيهم
والمساواة بينهم في الحقوق والأحكام بحسب نصوص الشريعة الغراء .
إننا لنعلم أن ذلك الخبر قد خلقه بعض المذاعين في الآستانة ليوهم بعض
أرباب الجرائد هنا أن مولانا السلطان لا يرضى إلا عن الجرائد التي تشهد لبعض
الشيوخ في الآستانة بالقطبية الكبرى ، والولاية العظمى ومقام المعرفة بالله تعالى ،
أو ما يقرب من هذه الشهادة ، لكن من أراد أن يوهمهم ذلك الخداع لا يسيرون في
ظلمات الأوهام ، ولا يشهدون الزور ، ولا يتسلقون لإعطاء مراتب الصوفية
لأهل الضلال . وإذا كان أولئك الشهداء معتقدين صدق أقوالهم ، فلماذا لا يدينون
بدين العارفين بالله تعالى وأقطاب دينه وأهل سره ؟ تبًّا لمن يبيع دينه ووجدانه
بالأماني الوهمية ، وويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .
 
17 جمادى الأولى - 1316هـ
أكتوبر - 1898م​
تعصب أوربا على الدولة العلية

لقد ظهر من خبث الدول الأوروبية وإفراطها في الطمع والتعصب الأعمى على
الدولة العلية ما لم يكن في الحسبان ، وأشوه مظاهر خبثها وطمعها وتعصبها ما كان
في هذه السنين الأخيرة في أرمينيا و كريد وغيرهما ، ولقد عادت هذه السياسة السوأى
من أوروبا بالضرر على النصارى والمسلمين معًا ، فكان ذلك فضيحة لدعواها
حماية النصارى في بلاد الدولة ، فلم يبق في هذه البلاد عاقل ينخدع بهذا التمويه ،
وقد اعترف بهذا كل بصير ، حتى الذين يقدسون أوروبا كأصحاب جريدة المقطم ،
فعسى أن يعم هذا العلم جميع المسيحيين بواسطة عقلائهم وفضلائهم ، فيتفقوا مع بني
وطنهم على إعلاء شأن الوطن في ظل الدولة العلية ورعاية المراحم السلطانية ، وما
ذلك على الله بعزيز
 
12 رجب - 1316هـ
ديسمبر - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس

زار إمبراطور ألمانيا وقرينته في دمشق الشام ضريح السلطان صلاح الدين
الأيوبي ، ومكث عنده برهة واقفًا ثم بسط يديه كأنه يستنزل عليه الرحمة الإلهية
وأطراه في الثناء قائلاً : إنه كان الآية الكبرى في زمانه في الشهامة والعدل والكرم
ولما انفتلا صنعت الإمبراطورة بيدها إكليلاً بديعًا من الزهر إجابة لطلب
الإمبراطور، وأمر أن يكتب عليه بالعربية : ( ويلهلم الثاني قيصر ألمانيا وملك
بروسيا تذكار للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي ) .
ألقى الإمبراطور خطبة حيث أقيمت له المأدبة من بلدية دمشق أثنى فيها أطيب
الثناء على الحفاوة التي لقيها في زيارته للشام ، وذكر فيها أن من أسباب سروره
وجوده في بلدة عاش فيها من كان أعظم رجال عصره وفريد دهره شجاعة وبسالة ،
من كان قدوة الشهامة وطائر الشهرة في الآفاق ، السلطان صلاح الدين الأيوبي
الشهير ، وأثنى فيها على مولانا السلطان الأعظم صديقه المخلص ، وشكره ثم ختم
خطابه بقوله :
وليوقن حضرة صاحب الشوكة السلطان عبد الحميد خان الثاني والثلاث مائة
مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافته العظمى ارتباطًا قويًّا ، والمنتشرين في
جميع أنحاء الكرة الأرضية أن إمبراطور ألمانيا سيبقى محبًّا لهم إلى الأبد ( وفي
رواية معضدًا لهم ) .
اتفقت الجرائد العربية والأوروبية على شدة سرور الإمبراطور بما لقيه من
الحفاوة في دمشق الشام ، وروي عنه أنه قال : إنه لم ير منذ جلس على سرير الملك
جمعًا رحب به وابتهج بلقائه أكثر مما رحب به أهل دمشق الفيحاء . وقد ابتهج في
دمشق بأمور كثيرة ، ورأى فيها ما لم يره في غيرها ، منها : لعب العرب بالرماح
وبالسيف والترس ، ومنها : الرقص المعروف ( بالدبكة ) ومنها : آثار قديمة رآها
في منزل أحد أمراء بني العظم ، وقد أبيح له أن ينتقي منها ما أحب ويأخذه ، فانتقت
الإمبراطورة بعض أوانٍ نفيسة ، وأعجب بما أهدي إليه من المصنوعات الشامية من
أثاث ورياش . منها : عباءة من الحرير عسلية اللون موشاة بخيوط الذهب والفضة،
وكوفية من الحرير المرزكش أيضًا ، وعقال - أهداه تلك متصرف لواء حماة -
فلبسها في الوقت وكان يخرج بها إلى البرية . وقد أهدى الإمبراطور والإمبراطورة
لكثير من الرجال والنساء هدايا نفيسة .
ومما نقلته الجرائد الأجنبية : أن جلالة الإمبراطور أقام احتفالاً في البقعة التي
أهداه إياها صديقه السلطان الأعظم في جبل صهيون ، وهي التي يقول المؤرخون :
إنها كانت منزل السيدة العذراء عليها السلام . وقد أهداها الإمبراطور لأبناء رعيته
الكاثوليك ، وطير في إثر الاحتفال للحضرة البابوية رسالة برقية قال فيها : ( أعد
نفسي سعيدة برفع هذه الرسالة البرقية إلى قداستكم لأعرب لكم عن سروري وامتناني
من رجل الكرم والفضل السلطان عبدالحميد الذي أهداني بقعة أرض مقدسة في
أورشليم ، ليبرهن لي على صداقته التي لا أشك بصدقها ، فقد وفقني الله للحصول
على منزل السيدة العذراء في أورشليم ، وقد وهبته لأبناء بلادي الكاثوليكيين ، وإني
ليسرني جدًّا أن أؤكد لقداستكم أن الآثار المقدسة عزيزة لدي ، لا سيما ما يختص منها
بالكاثوليك الذين هم تحت حماية إمبراطوريتي ومستظلين بالراية التي جعلتني العناية
الإلهية حاميًا لها . وأرجو من قداستكم قبول خالص شكري واعتباري لكم ، وتحققوا
صدق إخلاصي للكرسي الرسولي ) فأجابته الحضرة البابوية بالشكر على هذه
الهدية الثمينة التي أهداها للكاثوليك الألمانيين قائلة : إنهم لا شك يقبلونها من جلالتكم
بالشكر الخالص .
لما استعرض الإمبراطور العساكر السلطانية في دمشق أعجب بانتظامها وأثنى
على المدفعية قائلاً لسعادة القومندان : ( إنى أهنئك بحسن انتظام مدفعيتك التي هي
كأحسن مدفعيات الدول ، وبمثلها تخاض معامع الحروب ) وقد شهد للجيش
الشاهاني عقب استعراضه في دار السعادة قائلا : ( بمثل هذا الجيش ينبغي أن
يحارب المحاربون ) وفي هذه الشهادة من أعظم إمبراطور ما يحق لنا معاشر
العثمانيين الافتخار به لأن سيد القول ما يقول الرئيس .
***
تعصب أوروبا الديني
إمبراطور ألمانيا رجل حربي لأنه رئيس أعظم جيش منظم في العالم اليوم ،
وقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي أعظم رجل حربي في عصره ، ومن سجايا
البشر أن البارع في شيء يحترم من هو مثله في طبقته ، وإن كان خصمه ، ولذلك
شواهد كثيرة ، وقد عهد في تاريخ الحروب أن الشجاع الباسل يأسف على قرنه
الباسل إذا قتل ، ولو بسيفه ، وفي هذا المعنى قال بشر لما قتل الأسد :
وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدًا وفخرًا
من أجل هذا افتخر الإمبراطور في دمشق بأنه في ( بلد عاش فيه ذلك البطل
الهمام الذي دوخ الألمان وسائر الصليبين وأعاد للإسلام سلطته) وأهدى لضريحه
ذلك الإكليل ، وقد أعمى التعصب جرائد الألمان عن هذا المعنى ، فأقام أصحابها
النكير على الإمبراطور قائلين : إن هذه اللهجة لم تكن تنتظر من إمبراطور يتظاهر
بأنه حامي المسيحيين وملكهم ، وزعم بعضهم بأنه نسي التاريخ وأورد نبذة من
تاريخ صلاح الدين ، وأنه أسس دولة عظيمة وقهر الفرسان المسيحيين في ملحمة
طبريا وأخذ الصليب الحقيقي وكسر الدولة النصرانية ، فاضطر الإمبراطور فردريك
بربروس بأن يأتي لمحاربته ، فكسر السلطان جيشه ومات غريقًا ، وملك صلاح
الدين البلاد المقدسة النصرانية . قال : هذا هو السلطان الذي كسر الجيوش
المسيحية الغربية ، قد قام الإمبراطور الألماني الجديد اليوم يطريه بالمدح والثناء ،
فكيف استطاع أن يحرك لسانه بالثناء على رجل هدم معالم الدولة النصرانية وسد
طريقها في أوجه الزائرين … كل هذا عند القوم وهم يرموننا بالتعصب ويدعون
البراءة منه ، فمن لنا بمن ينصفنا منهم بالحجة ، ولا حجة إلا القوة ، فمن لا يستطيع
أن يفعل لا يستطيع أن يقول .
ومن تعصب أوروبا ( والشيء بالشيء يذكر ) : اضطهاد اليهود والهياج عليهم
في فرنسا المتمدنة بسبب مسألة دريفوس الذي اتضحت براءته ، وقد سرى لهيب
هذا الهياج من باريس إلى الجزائر ، وطار بعض شرره إلى تونس ويوشك أن يعم
كل بقعة لفرنسا فيها نفوذ ، فليعتبر المعتبرون .


 
26 رجب - 1316هـ
ديسمبر - 1898م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
الإصلاح المطلوب
يجب على مَن يتكلم في الإصلاح أن يكون على علم بوجوه الإفساد ومثاراتها
في الأمة التي يبحث في إصلاحها ، وإلا خبط خبط عشواء ، فإن اتفقت له الإصابة
في بعض كلامه فرمية من غير رامٍ ، وإن أخطأ فهو ما ينتظر منه
 
26 رجب - 1316هـ
ديسمبر - 1898م​
الشعر العصري
نظم فارس اليراعة عزتلو الأمير شكيب أرسلان

عما بصباح العلم رغدًا وأنعما ... ربع ظلام الجهل عنه تصرما
قد انصاح [1] صبح السعد في ليل نحسه ... فغادره شيئًا فشيئًا مهزّما
وثاب إليه العلم عدوًا بعوده ... إليه فلا لوم ما تلوّما [2]
فأصبح داجي أفقه اليوم زاهرًا ... وقد كان زاهي أفقه قبل مظلما
وأينع ذاوي روضه اليوم بعد أن تصوّح ... من عصف البوارح في الحمى[3]
ترنح عطف السعد فيه بعيد ما ... رأى لثغور العلم فيه تبسما
وباتت غصون العز تخطر عندما ... رأت فوقها طير المعارف حوّما
لعمرك إن الشرق ردّ بهاؤه ... فيرفل في ثوب الثناء منمنما
وعاد إليه الفضل والعود أحمد ... عليه إذا كان الغياب مذمما
وما الشرق إلا ذلك الشرق لم يزل ... مدى الدهر أعلام العلى متسنما
فإن نابه يومًا من الدهر صرفه ... فلم تك إلا برهة فتثلما
وإما تطش دهم الليالي سهامه ... فهيهات لم تسلبه للحظ أسهما
وإن فاته للفضل غيث فإنما ... وخي إليه الرجع جما فعتما [4]
وإن تعره الأحداث من بعد بسطة ... أي الورى لم يلق بؤسًا وأنعما
وإن يك يومًا سوّد الجهل أفقه ... فقد طالما في الفضل أطلع أنجما
نجوم علوم أخجلت بضيائها ... نجوم علوم لحن في كبد السما
بهن اهتدى في سيره كل بارج ... توغل في بحر الكيان الذي طما
رجال بهم جاد الزمان وعله ... على مثل هذا الجود يومًا تندما
أقامهم في الشرق يحيون أهله ... فأذهل عما نال عادًا وجرهما
هم الملأ الأخيار والعصبة الأولي ... رأينا لعمري الرشد فيهم مجسما
تظلم منه الفخر قبل مجيئهم ... فجاءوا فلما أثقلوه تظلما[5]
لكم أرهفوا بالجد للمجد مخذمًا ... وكم أرعفوا بالنبل للفضل مخطما[6]
وكم صرفوا وجه الصروف عن الورى ... وكم عفروا بالحزم للدهر مرغما [7]
وكم سهلوا حزنًا علا وثنية ... وكم بدلوا بالشهد صابًا وعلقما
وسلُّوا من الآراء أبيض صارماً ... ففلوا من الأرزاء جيشًا عرمرماً
أماطوا قناع المكرمات وقد جلوا ... محيا المعالي بعد أن كان أسحما
وأعلوا منار الرشد في أفق شرفهم ... وخلو سبيلاً للمآثر أقوما
وأجروا ينابيع المعارف في الملا ... فطال بها نبت المعاني وقد نما
وشادوا أصولاً للفنون وأوضحوا ... لها سبلًا أضحت إلى النجح سلما
( لها بقية )
الشعر العصري

( من القصيدة السابقة )
فنعم رجال الشرق قومًا ومعشرًا ... إلى جدهم أصل المعاني قد انتمى
جروا في رهان الفضل في أول المدى ... سباقًا كما أجريت أجرد شيظما[1]
ولم يرهبوا من دونها في جهادهم ... خطارًا فقد خالوا التوقي تقحما [2]
فهم أسسوا ركن الحضارة في الورى ... ولم يفعلوا إلا لندرك مغنما
وهم أكنهوا سر المعارف أولاً ... وهم عرفوا نفع العلوم مقدما [3]
فلما أحل الله فيهم قضاءه ... ووافاهم داعي الردى متخرّما [4]
طوتهم أيادي البين من بعد أن رموا ... من الهمة الشماء أبعد مرتمى
فغار ضياء الشرق عند غيارهم ... وأظلم وجه الشرق وقتًا وأقتما [5]
ودالت إلى الغرب العلوم مع العلى ... كما حكم المبدي المعيد وأبرما
وأوجف ركب السعي في طلب العلى ... فكان بذا الجري الجواد المصمما[6]
فهادنه صرف الزمان مسالمًا ... ونوله الخير الأتم المعمما
وباتت بلاد الشرق من بعد عزها ... كأن لم تنل مجدًا ولم تحو مقرما [7]
إلى أن تجلى طالع العصر بعد أن ... تحجب عن تلك الجوانب واكتمى[8]
فثابت إلى إشراقه الهمم التي ... عن العلم قبلاً قد تقاعسن نوما
ومنها :
ألا يا بني الأوطان إن عليكم ... إلى السعي في تلك المعالي التقدما
عليكم بها فاسعوا لها وتشبهوا ... فمن يتشبه بالكرام تكرما
ومن قصرت أيديه فليسع طوقه ... ومن لم يجد ماء بأرض تيمما
وقد نكتفي بالطل إن بان وابل ... ونحجو اعورار العين خيرًا من العمي
أما نحن من سَنُّوا المآثر واقتفى ... مآثرنا من بعدنا حاز مستمى
ألم نُعلِ أعلام العلوم بقطرنا ... على حين حد السيف يرعف بالدما
ألم نك أهل الأولية في العلى ... ليالي لا نثني عن المجد معزما
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... زمان توخى حيفنا وتحكما
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... من الفضل ما أبدوا مدى الدهر معجما
متى يذكر الإفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
فلا تحسبونا قد عرينا وطالما ... جررنا من الفضل الرداء المرقما
وهم أثروا عنا العلوم فهذبوا ... فجروا علينا مطرف المجد معلما
تباروا بعلم بينهم وتنافسوا ... ولا جرم أن العلم سُر فأشكما[9]
وقد بلغوا من باذخ العز منزلاً ... يظل لسان الحال عنه مترجما
إذا نظر الشرقي حال صلاحهم ... بكى صاحبي منها دمًا سال عندما
فيا وطني حتام تلبث غافلاً ... وحتام يا شرقي أراك مهوِّما [10]
ألم تدُر بالغربي في الأرض سائحًا ... على سابح من علمه ليس ملجما
فلله در العلم إن جداءه ... لمما يفوق العارض المتسجما
لكم نال من فخر وأيد صاغرًا ... وكم عال من فقر وقلد معدما[11]
وكم حل من عِيّ وأطلق حبسة ... وكم فل من غي وأنطق أبكما
ومنها :
فذو العلم يلقى العز حينًا ومفردًا ... وذو العلم يلقى العز دهرًا وتوأما
ومن نال أخطار اليراع فإنما ... ستقرن كفاه يراعًا وصيلما [12]
فسعداً لمن في حلبة العلم قد جرى ... وسحقًا لمن في حلبة العلم أحجما
ومنها :
لئن تبذلوا فيه النفيس فغيركم ... لإحرازه هلك النفوس تجشما
وما غيركم والله لا أصولكم ... نخبر عنهم لا حديثًا مرجما
وقوم هدوا في الحق هدي جدودكم ... إلى أن غدوا الأعلون في الأمر مثلما
أولئك قد سادوا وأقصى نكاية ... لنا فيهم ألقاب علج وأعجما
بعلم إذا ما بات فيهم متوجًا ... فيا طالما قد كان فينا معمما
فإما لعمري قدوة بمعاصر ... وإما تراث للذي صار أعظما
ولا نحسب الأحوال وهي عوارض ... غير في أصل المبادي فنسأما
ومنها :
وإن الفتى مَن زان مسقطَ رأسه ... بما ناله مِن حكمة وتعلما
فذاك الذي في بردة الفضل ينثني ... وليس الفتى مَن بالعقيق تختما
فإن ينتظم شمل الرجال بقطرنا ... ترتب فيه أمرنا وتنظما
لأن نجاح الصقع في حسن أهله ... إذا كان أصل الود في القوم محكما
فكونوا كجسم واحد إن تألمت ... له علة تلق الجميع تألما
تفوزوا بتذليل الصعاب إذا عصت ... وتقووا على ذا الدهر إما تهضما
وتحظوا بأعلاق المنى وتحققوا ... بهمتكم من عصرنا ما توسما
هو العصر وافى ضاحكًا عن فنونه ... وقد كان من قبل عليكم تأجما
وختامها :
كفى عصرنا فخرًا وعزًّا إذا دعى ... أمير الورى عبد الحميد المعظما
ليجهد في استرجاع رونق شرقنا ... وتجديد ما من مجده قد تهدما
فلا زال في عصر الخلافة قائمًا ... لما أناد من أمر العباد مقوما
ينث عليه الخافقان بعدله ... ناء جميلاً بالدعاء مختما
__________
(1) المدى هنا بمعنى المسافة ، والأجرد : السبَّاق من الخيل ، والشيظم : العظيم الفتيِّ منها .
(2) الخطار : جمع خطر وهو الشرف ، والإشراف على الهلاك ، ومنه الخطر ، للسبق يراهن عليه ، والخطار مصدر لخاطر إذا أشفى على الهلاك لنيل ملك أو شرف وبمعنى راهن .
(3) أكنهوا الشيء : وصلوا إلى كنهه وحقيقته وبلغوا غايته .
(4) متخرما : مستأصلاً .
(5) أغار بمعنى : غاب ، وأقتم : أسود .
(6) أوجف : أسرع ، والمصمم من : صمم في السير إذا مشى على رأيه فيه .
(7) المُقرم بضم الميم وفتح الراء : السيد العظيم ، وأصله البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل ، ومثله القَرم بالفتح .
(8) اكتمى : استخفى .
(9) أشكمه : جازاه .
(10) المهوم والمتهوم : الذي يهز رأسه من النعاس .
(11) نال : أعطى .
(12) الأخطار جمع خطر بالنحريك وهو الشرف والرتبة ومكانة الرجل ، والصليم هنا : السيف ، ومن معانيه : الداهية ، والأمر الشديد ، والمعنى : أن شرف العلم يوصل إلى شرف السيف وبمعنى آخر : أن شرف العلم هو الذي يأتي بشرف القوة .
 
9 رمضان - 1316هـ
فبراير - 1899م
الحكم بالشريعة في السودان

ذكرنا في عدد سابق ملخص خطبة اللورد كرومر في أم درمان وأنه حين وعد
بالعدالة وقال : إن الإنكليز متعقلون بدينهم ، ويعلمون كيف يحترمون دين غيرهم ،
وخاطب السودانيين بقوله : ( فلا يتعرض لكم أحد في دينكم على الإطلاق ) سأله أحد
المشايخ : هل يتضمن هذا الوعد الجري على الشريعة والعمل بها ؟
فقال اللورد : نعم .
ولا يصدق وعد اللورد وجوابه إلا بأمرين اثنين :
أحدهما : عدم إرسال أحد من دعاة النصرانية إلى السودان ، بل عدم تمكنيهم
من الذهاب إليه ، فإذا وفد المبشرون بالإنجيل من قسوس البروتستان أو غيرهم إلى
السودان يدعون أهله إلى دينهم فالوعد يكون مكذوبًا ، قصد به الخداع والتغرير ؛
لأن التعرض للدين في هذا العصر لا يكون إلا بالدعوة ، وهذا التعرض لم تسلم منه
مصر ، فإذا سلمت منه السودان فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه السلامة نعمة
يحق لبريطانيا أن تمتنها على السودانيين ، ويحق عليهم أن يشكروها لها .
وثانيهما : أن تكون جميع الأحكام القضائية والمدنية بالشريعة الإسلامية الغراء
والأحكام الشرعية لا تكون صحيحة ونافذة إلا إذا كانت تولية القضاء من جانب
خليفة المسلمين وإمامهم الأعظم ، أو من مأذونه . وقد صرح اللورد في خطبته بأن
الذي يؤسس المحاكم ويولي القضاة هو اللورد كتشنر ، وأن الموظفين من الإنكليز
هم الذين يقيمون الأحكام في كل مركز من السودان ، فأنى لهؤلاء الإنكليز معرفة
الشريعة الإسلامية ؟ ومتى كان اللورد كتشنر خليفة على المسلمين أو مأذونًا بتولية
القضاة من الإمام الأعظم ؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فما معنى جوابه للشيخ بنعم .
إن وعده يتضمن الجري على الشريعة إلا أننا لم نفهم لهذا معنى ولم تتصور أذهاننا
كيف يكون صادقًا .
والذي يتبادر إلى الذهن أن الوعد بالحكم بالشريعة واحترام الدين في السودان
يكون كالوعد السابق بأن السودان كله للحكومة الخديوية كمصر ، وأن بريطانيا
العظمى تساعد على قطع دابر الثوار الخارجين ، وإرجاع البلاد إليها . أو كالوعد
بعد الفتح بأن البلاد السودانية ستكون مشتركة بين مصر وإنكلترا ؛ لأن الثانية
ساعدت الأولى على الفتح ، وشريعة العدل تقضي أن من يساعد أحدًا في شيء يكون
شريكه فيه ، وإن كان في مساعدته متبرعًا ، والمساعَد ( بفتح العين ) هو صاحب
الشيء وصاحب العمل ، ويقدر على القيام من دون مساعدة ، ثم تفسير هذه المشاركة
بأن صاحب الملك والعمل ليس له في الشركة شيء إلا الإنعام عليه بلفظ ( شريك )
بشرط أنه لا يملك في المشترَك فيه قولاً ولا عملاً .
 
16 رمضان - 1316هـ
فبراير - 1899م​
الكاتب : رفيق بك العظم
مَن المسئول الحكومة أم الشعب ؟!
فأي خرق في الرأي وإفساد في سنن الطبيعة
أعظم من حيلولة الحكومة بين الشعب وبين مناحي عقول أفراده التي تؤهله لأن
يكون مدنيًا عارفًا بواجبات الإنسان القاضية بتفضيله على سائر الحيوان .
هذا الخرق في الرأي والإفساد في سنن الطبيعة هو ما تفعله الآن حكومات
الإسلام في المشرق ، وذلك باتخاذها الوسائل القاضية بإضعاف قوة النزوع إلى
العلوم في سائر أفراد الشعب
لأسباب * وظنون تضحك الثكلى .
 
10 محرم - 1317هـ
20 مايو - 1899م​
الكاتب : أحد الكتاب من سوريا
( المسألة الشرقية ) وكل واحد على شيء من العلم بالمسألة الشرقية . هي
اقتسام دول الغرب لحكومات الشرق . ما منشؤها ؟ هو ذلك الينبوع الذي انبثق في
ربوع الحجاز ثم تعاظم مده وطما سيله حتى غمر معظم الأصقاع الشرقية في آسيا
وأفريقيا وتنفست أمواجه على السواحل الجنوبية من قارة أوربا وتدرجت رويدًا رويدًا
حتى كادت تصافح أمواج البحر الشمالي لو لم يقف شارل مارتل ( ملك فرنسا ) في
وجهه ويعترض جريته ، ففلّ سورته وعرامه [1] وأرجعه أدراجه .
ما غرض ساسة أوربا في المسألة الشرقية ، وما الذي حملهم على التداخل في
خُويِّصة الشرق وشؤونه وأي عذر لهم في اقتسامه واستباحة التهامه ؟ يزعمون أن
شعوب الشرق مسلوبو الخلال التي ترشحهم للمدينة فاقدو المزايا التي تؤهلهم لتكوين
أمة ذات حضارة وعمران على نسق حضارة أوربا وعمرانها . عامتهم جهلاء لا
إلمام لهم بشيء مما تتوقف عليه راحة الإنسان وانتظام معيشته الصحية والأدبية
أذلاء مستعبَدون لحكامهم ، لا يعرفون كيف يطالبون بحقوقهم ، ولا كيف يلزمون
حكامهم حدود العدل والإنصاف . عمالهم على جهل تام بأمور الإدارة الداخلية وكيفية
ارتباطها بسياسة الأمة الخارجية لا يعلمون الواجب عليهم ليقفوا عنده ولا يحفلون
بالحقوق ليبذلوها إلى أصحابها . معظم همهم في مخالسة رشا ( جمع رشوة ) أو
مجالسة رشا . أمراؤهم لاهون وعن النصيحة معرضون ، لا يهمهم صلاح رعيتهم ولا
يبالون بشقوتهم ، ولا يصيخون لشكيتهم . يتفننون في ابتداع الأساليب لابتزاز أموال
الرعايا وإنفاقها في ضروب ملاذهم وشهواتهم سعادة . أحدهم في مراوحته بين
الافتراش والاكتراش . وبالجملة إن حكام الشرق وأمراءه استذلوا رعاياهم
وتهضموهم وبخسوهم حقوقهم وتلاعبوا بهم ، كما تتلاعب الزعازع بالنباتات الغضة
والغصون اللينة .
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وتدّعي دول الغرب أن إبقاء أهل الشرق على هذه البيئة السيئة والشؤون
البهيمية وتركهم وتعاليمهم المختلة وآدابهم المعتلة وحكمهم الظالم واستبدادهم الغاشم
جناية على الإنسانية وضربة قاضية على المزايا البشرية وإخلال بتعاليم الشريعة
الأدبية ، وأن الواجب والضمير يأمران أولئك الدول بالدمور [2] على أهل الشرق
والاستيلاء عليهم شاؤوا أو أبوا ، ثم إن كان الشرقيون عاجزين عن إدارة بلادهم
الداخلية قصروا أيديهم عنها وتناولوها منهم وكان استعمارًا صرفًا ، وإلا خلوا بينهم
وبينها واستبدوا بسياسة البلاد الخارجية ومصالحها العمومية الكبرى ، وسموا ذلك
حماية .
ويموهون بأن هذا الحجر إنما هو مُوَقَّت بزمن عجز المحجوزين وقصورهم
حتى إذا أدركوا وبلغوا الحالة التي يمكنهم معها القيام بشؤونهم الإدارية والسياسية
خلوا بينهم وبين بلادهم وودعوهم وانصرفوا مأجورين لا مأزورين . هكذا يزعمون.
ومما يقدمون عذرًا - بين يدي فعلتهم هذه - قولهم : إننا قد أرخينا الطِّوَل [3]
لحكومات الشرق منذ نصف قرن وأكثر ، وانتظرنا إفاقة أمرائهم من غفلتهم وانتعاشهم
من عثرتهم ، وما زلنا في أطواء تلك المدة نتقدم إليهم بالوعظ تارة وبالإنذار أخرى ،
وننصح لهم بأن يصلحوا شأنهم ويرعَوُوا عن غشمرتهم ، ويعرفوا لشعوبهم حقوقهم
وهم عن ذلك معرضون وبالترف لاهون وبالترهات مغترون .
هل المسألة الشرقية تقتصر في تناولها على الشعوب الإسلامية أو يتعدى
حكمها إلى سائر الأمم الأخرى ؟ إنما وضعت تلك المسألة في أول أمرها لأجل
مقاومة الإسلامية ومساورة أهلها ، واسترجاع ما افتتحوه من الأقطار المسيحية
والولايات الرومانية التي سقطت أمامها وعنت لسلطانها ، فمن هذا تعلم أن حقيقة
المسألة الشرقية دينية ، لكنها مموهة الظاهر بالصبغة السياسية التي تقدم شرحها .
ومن جرّاء ذلك لم يقتصروا في مدلول تلك الكلمة على الشعوب الإسلامية فقط ، بل
تجاوزوا بها إلى سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وتعاليمهم .
وما لي لا أتوخَّى في بحثي الصدق وأتحرى في حكمي الحق . إن فَسيلة تلك
المسألة وإن كانت زرعت حبتها الأصلية لأول عهدها في تربة التحمُّس الديني
وسقيت بمياه الأحقاد الملية ، لكنها - والحق يقال - لم تستغلظ وتستوِ على ساقها إلا
في هذه الأزمنة المتأخرة وبين الأمم الغربية ، حيث تعهدوها بالأسمدة السياسية وأتموا
تشذيبها وعذق تربتها بمعاذق الأطماع والأغراض والأثَرَة الجنسية ؛ فبذلك أصبحت
تلك الفسيلة شجرة عظيمة غليظة الساق ممتدة الفروع ضاربة الأغصان تظل
بأوراقها وغصونها بقاع آسيا وإفريقيا وجزائرها وشبه جزيرة البلقان ، بما يسرح
فيها من الشعوب المختلفة والأمم المتباينة والقبائل المتنوعة ، لا فرق تحتها بين دين
ودين ، ولا تمييز بين مذهب وآخر .
 
10 محرم - 1317هـ
20 مايو - 1899م​
الأخبار التاريخية

( ثمرات الفنون
الكاتب : محمد رشيد رضا
كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها
منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية
على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على
الأغراض السياسية ، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة ،
وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة
بلدية دمشق : ( إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني ) معناه أنه استدل منه على
حسن حال النصارى مع المسلمين ، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد
خروجه من المأدبة - : ( إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في
إنكلترا ، والمسلمين في الهند والروسيا ، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة
إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون ) ولم
نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة
تحت عنوان ( حبذا الموت في سبيل الإصلاح ) لإلياس أفندي أنطون شقيق
منشئ الجامعة ، زعم كاتبها أن طرابلس الشام ( التي قتل فيها رجل من أسافل
النصارى رجلاً من سراة المسلمين ) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع
الأحمر من دماء النصارى ، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم ، ويحث
إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من
الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي
فاض عنها طوفان حرب الصليب .
كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد ، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي
خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها ، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة ،
بقولهم : إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة
والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته . هكذا يشقون
الصدور ويردون على ما في القلوب ، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون
عليه ، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة !
 
17 محرم - 1317هـ
27 مايو - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
أن المصريين يمتازون على سائر الشعوب الإسلامية بأمرين عظيمين
وهما : المنافسة ، وسرعة قبول الإصلاح إذا جاء على يد عظيم محترم إما
لدينه وإما لما يُرجى من خيره أو يُخشى من شره ، فإذا تسنى لبعض الكبراء فيهم
إشراع مناهج الارتقاء الاقتصادي والأدبي ، وإن شئت قلت الديني والدنيوي ، فلا
يلبثون أن يتباروا ويتنافسوا في السباق ؛ حتى لا تدرك شأوهم الشعوب الأخرى التي
تفوقهم في الهمة والإقدام والثبات كالسوريين وغيرهم .
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم يحُول بينهم وبين
السير في طريق الترقي ، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقبوه ، ولا أقول : أن
يدركوه . يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح ، والمهيع الواسع .
وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم
وسلاسل في أيديهم وقيودًا في أرجلهم وغشاوة على أبصارهم ووقرًا في أسماعهم
ورينًا على قلوبهم . وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء فإنما نزل من سماء عظمتهم
واستبدادهم . وإن تعجب فعجب قول مَن ليس للدولة العثمانية في بلادهم أمر ولا
نهى ولا نفوذ ولا سلطان : ( إن حياتنا بين يدي المابين ! وإن السعادة ستهبط علينا
من أفق الباب العالي ) وهم يعلمون أن البلاد التي تحت جناح المابين ونفوذ الباب
العالي تنقص من أطرافها ويتمزق أهلها كل ممزَّق ، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من
المابين والباب العالي إلا الاعتراض على من مزق الأشلاء وشرب الدماء !
ماذا جنى ويجني أهل جاوا والهند ومصر من الظهور القولي في حب
مظاهرة الدولة العثمانية ؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم ؛ فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً أو سمعتا منهم فيها قولاً - تزيدان عليهم الضغط
والاضطهاد والقهر والاستبداد . أَوَ لا يرَوْن أن الدولة لا تُرجِع إليهم قولاً ولا تملك
لهم ضرًّا ولا نفعًا ؟ ! لا أقول لهؤلاء المسلمين : أبغضوا الدولة العثمانية . ولكني
أقول : إذا أحببتموها فاكتُموا حبها ولا ترجوا منها ما لا ينال واعتمدوا في رقيكم على
المعونة الإلهية ثم على جدكم وكدكم وعلمكم وعملكم ، فإن رأيتم من الدولة نهضة
فعلية فانهضوا معها إن كنتم صادقين . كل عاشق يحذر العذال والرقباء فكيف لا
تحذرون ؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها إلا مثلما ينالكم من
الضغط الأوربي والاضطهاد ؟ نعم ، إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له
ولهجكم بتمداحه ، ولكن هل تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح
الدولة ؟
 
17 محرم - 1317هـ
27 مايو - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
أيها الإخوان المصريون ، لا يروعنّكم طوفان الاحتلال ، ولا تقنطوا من النجاح
لاستئثار الأجانب بالوظائف والمناصب وعبثهم بالمصالح والمنافع ، فنجاح وطنكم
بالزراعة والاقتصاد وحياة أمتكم كلها بالمعارف ، وإن الإسلام لينتظر منكم ما لا
ينتظر من سواكم ، فأنتم أكثر المسلمين بذلاً للدرهم والدينار ، وأشدهم منافسة ومباراة
في طرق الفخار ، تبذلون الألوف والملايين للدنيا وباسم الدين...ألا يوجد مسلم يوقن بأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمته
ونصرة دينه فيبذل ماله في سبيل الله ؟ ألا يوجد فيكم محب للمحمدة الحقة والمجد
المؤثل يعمل عملاً ، كهذا يحفظه له التاريخ إلى الأبد . ويكون مفخراً لقومه ما بقي
منهم أحد ؟ ، بلى ، إن الاستعداد لهذه الأعمال متأصل فيكم وأنتم أحق بها وأهلها ،
ولكن عَدَتْ على الروابط العمومية عُوَّاد ، اشتبه بها على الناس سبيل الرشاد ،
و{ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ } ( يوسف : 51 ) وبادر إلى العمل أهل الإخلاص والصدق
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ } ( الواقعة : 10-11 ) .
 
17 محرم - 1317هـ
27 مايو - 1899م​
الكاتب : أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
( 4 )
فإن بعض حُذًّاق المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي
والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون
إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين ، وإشرافهم على
مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في
الصناعة والزراعة ، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم
أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم ؛ فنمت
وربت وأثمرت من كل زوج بهيج ؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا
تقصوا كل جراثيم العمران فيها ، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم
( واحرباه ) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم .
أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس
وخيبة حملة فلسطين .
الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف ، وإكبابهم
على الشهوات ، وتخاذلهم في الموازرة ، وتواكلهم دون النجدة ، ومناوأة أولى الأمر
بعضهم بعضًا ، وتحرش المحاظي ، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة ، وقيام
كل أمير في صقع يدعي الخلافة ، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة .
وتفرقوا شيعًا فكل مدينة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس
سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها
عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها . وهل تعلم ماذا يصنع جندها
ومقاتلها في داخلها ؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع
واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم ، بل يمثل
لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم ، ذكرهم وأنثاهم ،
تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين
رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون
بأنفسهم على عدوهم ؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه . نعم إن ذلك العمل الشريف
لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في
ناحية عن أهل ملتها ، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة
عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها ، وعبث يده الجائرة ؛
جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها
وسلبها تراث آبائها وأجدادها ، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها .
جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين ، وغطاريفهم
عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها ، واقتبسوا أرواحهم من هوائها ، نعم نعم ذلك
جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون . اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة
من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم ؛ ذلك أنه
كان في غرناطة لذلك العهد حزبان ، أهل المدينة حزب ، وأهل البيازين وهي محلة
كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر ، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة
واحد ، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن[4] واستعار نار
الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح
أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [5] والمناصاة [6] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع
أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [7] فامتشقوا
الصفاح وقوموا سمر الرماح ، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها
ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح . ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب ؟ ما الذي
فتَّ في أعضادهم ؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم ؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم ؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها ، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها ؟
أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها ؟ أي شيء لابسها حتى كاد
يمسخها ؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها ؟
أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين ، فما الذي
أطفأها ؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته ، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس
مطردة فلن تتبدل . عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف . سبحانه
ما أجل شأنه . ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك ، ونهنه من
زفراتك ، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية .
 
24 محرم - 1317هـ
3 يونيو - 1899م​
الكاتب : أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
( 5 )
أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى . كان جامعًا
بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك ، وشؤونه في
إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية ، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب ،
ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون
تحذو على مثاله الشعوب والأمم . لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره
وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه ، بل ربما
كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس
الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه .
وقد كان - رحمه الله - كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع
معاهديه وأهل ذمته ، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين
غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به
إبان الحرب وساعة الطعن والضرب ، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد
من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا
يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة . بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ
المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية
تقتنص الآجال . وتدك راسيات الجبال .
نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب ، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه
نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ
للشاربين ، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا ( غريبًا ) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله . هكذا فليكن الرجل المسلم ، هكذا أُمرنا أن نكون .
هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول . محاسنة ملائكية في وقت السلم ، مخاشنة
غضنفرية في وقت الحرب . بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم . بهذا خضعت
الرقاب لتعاليم الإسلام . بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا .
وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها
مقبلاً بشراشره ( بكُليته ) على حمايتها والذود عنها ، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع
من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟
لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن
الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى
منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم ، وما تظنه فاعلاً هو ؟ !
ما كان يناغي ويباغم [1] ويلهو وينادم ، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على
حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه
ويعلق فيها شكته [2] ويرفع فوقها رايته ، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته
طول مدة الهدون والمتاركة ، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة . وتهطل عليه
السحب الغادية الرائحة . كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [3] للمسلمين تدرأ عنهم
الطوارئ . وهو فيها كربيئة [4] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ .
يا سبحان الله ! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه . وما أنشطه
للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه . أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق
الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها . لِمَ نضنّ على الرجل بهذه
المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها ؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب
الأيام والسنين ؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء
والشكر ؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه
إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في ( بانتيون ) [5] .
أستغفر الله ، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب
إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد
في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ
شعثهم ، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع
وتطوع ، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه ، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه
الذمة إياه ، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه
بيعتها ؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات . وهذا
لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم .
ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني ؟ حكي أن عمر رضي الله عنه
كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز
في صبية يتضاغَوْن ( يتصايحون ) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها
على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات ، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز
القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال : لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال
المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك ؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة- :
على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا ، بما يسد
عوزهم ، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن
تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك ( قطًّا ) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي
أكفانه . كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم
يفِ بحقوق البيعة . هذه هي الخلافة في الإسلام . هذه هي واجبات الخلافة المقدسة .
هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته
. هذه هي
الأمة التي تطالب بحقوقها . هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها .
هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز ، ما هو له وعليه . بهذه
المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها . بهذه المبادئ الشريفة غمرت
آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم .
لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن
البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ
غربها ، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من
الجسم الحيواني ، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي
تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات . ذلك الشأن هو الوفاق
والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط ، بل بين لفيف الأمراء والقواد
والأبطال ومساعر هاتيك الحروب . ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه
لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة
الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون
أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه
المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين ، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام
وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا
قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين ، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف
اللغة والدين .
اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو
ومكن عواليهم من مقاتله . نظروا - رحمهم الله - في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها
وطغيان مدها وحدة تذمرها ( تغيظها ) ، فقابلوها من بأسهم بأشد ، ومن طغيان هممهم
وحدتها بأطغى وأحدّ . علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة ، وعاقبة التخاذل عن
تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [6] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على
استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم . لا جرم
أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من
استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب
الإسلامية الآن ، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط ، بل كل
الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة
العرب ؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل
عادات . فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن -
هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين .
تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية ؛ فأركستها
وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا ، تلك الشرذمة التي تقحَّمت
ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين
به إلى أبد الأبيد ؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم ، حيث
تختلط نغيته بزمزمة [7] مادي و آشور و بابل و الكلدان و الرومان ، تلك الشرذمة
التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا
السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [8] أو تحويله عن دراجه [9] .
واعجبًا ! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم ، أما
أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى ، أو تكون
الملايين انحطت عن أفقها الإنساني إلى أفق البهائم والعجماوات .
ترى ما هو قدر استبشار العالم الإسلامي باتفاق هذه الشرذمة ونجدة أبطالها ؟
ماذا كان وقع عملهم الشريف بين العوالم السماوية ، وكيف كانت مظاهر التهاني بهم
في ( ملا ) الحظائر القدسية . لو ترى كيف كانت تتناغى حور الجنان بأحاديث
أولئك الأبطال ، كيف كانت تتغنى بذكر وقائعهم ومجيد غاراتهم . كيف كانت أولئك
العذارى تتمسح برشيح عرقهم وتتنافس بطيبه ؟ كيف كانت تتخطف رشاش دم
شهدائهم وتتضمخ بمسكه وتتزين بخضابه ، بل لو تسمَّعت إلى برازخ أرواح أجدادهم
لسمعت عجبًا - تسمع لأصوات الابتهاج والبشرى طنينًا وصدًى في جو ذلك العالم
المهيب . تسمع ضجيج الفرح يترجرج فوق تلك الجماهير النيرة اللطيفة . ترى
أرواح الآباء تستنشق روائح أولئك الأبناء وتنتعش برياها تشوفًا وسرورًا . ترى تلك
الأرواح تسرح عصائب عصائب في فضاء ذلك العالم وتتزاور وتباهي بصنيع
خلائفها وبرهم بوالديهم . ترى تلك الأرواح ترفرف أسرابًا أسرابًا ولها حفيف حول
شجرة طوبى و البيت المعمور تستنزل الرحمة الإلهية لأولئك الأبطال وتناجي الحق
برضاها وتسأل رضاه عنهم وتجأر إليه بالدعاء وطلب الغفر لهم إزاء أيامهم المأثورة
وجزاء مساعيهم المشكورة ، والله لا يضيع أجر المحسنين .
واختزال الكلام في هذا المقام أن العامل في خيبة الحملة الصليبية هو اتفاق
أمراء ذلك العهد ونجدتهم وعدلهم ومحاكاتهم للسلف في أعمالهم واحتذائهم مثال
الصدر الأول في أطوارهم ؛ فكل ذلك حببهم إلى قبيلهم وأمَّنهم غائلة ثورته وأذى
نائرته ودفع بذلك القبيل إلى الاستماتة مع أمرائه في سبيل حماية الوطن وصيانة
الشرف ، علمًا بأن التقاعد عن الدفاع مصيره فقد الجنسية واللغة والدين ، وفي ذلك
الشقاء والذل والخزي أبد الآبدين .


 
2 صفر - 1317هـ
10 يونيو - 1899م
الكاتب : محمد رشيد رضا
العز والذل


{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ( الإسراء : 70 ) .
...ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية ،
التي محت الامتيازات الجنسية ، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية ،
( كما أوضحنا ذلك من قبل ) ووضعت أصل المساواة بين الناس ، حتى إن الخليفة
الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم
هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى
النصرانية ، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود ،
فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك ؟ وأية نهضة
وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب
أصحاب العروش والمواكب ؟ فإن قيل : إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول:
نعم ، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون
العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة
في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان.... ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا
يُذهب بالبأس ، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون : 8 ) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على
مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة
للناس ، بل يصلي عاريًا . وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس
وعزتها .
بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض ، وبدلوا من خوفهم أمنًا ، ومن
بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا . وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم ،
فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم
دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة ، ودماء
مطلولة ، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم
والانحراف عن الصراط المستقيم ؟
انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها ،
وسحبت مرائرها . وصارت طعمة لكل طاعم ، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت
عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين
يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية . وقد
بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال : إن حبي
للسلطان أشد من حبي لله تعالى ! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا
التهور ، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى
الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية ، فاستكبر ذلك واستنكره
بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه ...
ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته ،
ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى
تقصير - بالمروق من الدين ، ويعدونه عدوًّا للمسلمين ، فأي انحراف عن الإسلام
أشد من هذا الانحراف ؟ !
وحرف بعض رجال الدين التعاليم ، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون
في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح
نفوسهم آيات العزة الإيمانية ، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء
الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية ؛ لأن المسلمين لا
يذلون إلا لسلطان ؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم
السلاطين ، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين . وسنبين فساد ذلك في وقت آخر .
ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في
مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا
يُحتَج بأقوالهم ، ولا يُقتدَى بأعمالهم ، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة
باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها .
امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن
شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا
بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة
بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه

.
 
16 صفر - 1317هـ
24 يونيو - 1899م
كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

الكاتب : رفيق بك العظم
...لهذا كان العلم بالدين واجبًا على جميع المسلمين ، وبمعرفة هذا الواجب
عمل الصحابة الكرام بسائر ما جاء به القرآن ، وأمر به نبيُّنا - عليه الصلاة
والسلام - فمن لم يكن منهم على علم تفصيلي بأمر الدِّين كفاه العلم الإجمالي ، فدعا
إلى الله على بصيرة ، وعمل بعلم ، وبهذا وَصَفَ الله المؤمنين ، وإليه أرشدهم في
قرآنه العظيم ، فقال تعالى - مخاطبًا لنبيه -عليه الصلاة والسلام - : { قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ( يوسف : 108 ) وبهذا أَلَّفَ
الصحابةُ الكرام قلوبَ الأمم على الإسلام ، وعَمَّموا الدين واللغة والسياسة بين الأنام؛
فملأوا الأمصار علمًا ، وضربوا دون الجهالة سدًّا ؛ فأخذوا بنواصي الأمم ،
وانقادت لهم الشعوب ، وانحطت دون هممهم الهمم ، وأخضعوا قياصرة الروم
وأكاسرة العجم ، ومرت على ما أسَّسوه من قواعد العمل بالعلم أعوام وأيام ، أتى
بعدها خَلْف انقلب إلى الشهوات ، وقنع بآثار المجد ، وخَلْف آخر أحرجه مرض
القلوب ؛ فلجأ إلى الحشو في الدين ، والإكثار من القول على غير يقين
 
23 صفر - 1317هـ
1 يوليو - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

النهضة الإسلامية في مصر

قالوا : إن للأمم ثلاثة أدوار : نموٌ ، ووقوفٌ ، وهبوط يَتْلوه الموت ، ولكن ،
كيف تتكون الأمة ، فتتقلب في هذه الأدوار ؟
كانت الأمم تتكون بالعصبية والحرب ، وتحيا بقوة الساعد ، وكثرة عدد
المساعد ، وأما في هذا العصر ، فقد ارتقى النوع الإنساني عن أن تكون حياته بقواه
الحيوانية وكثرته العددية ، وصارت حياتُه بالقوّتين : العلمية ، والأدبية ، وما ينشأ
عنهما من القوة الصناعية ، وفي اليابان والصين آية مبصرة للناظرين . وكيف
تنهض الأمم الخاملة بالعلم ، وتحيا بعد موتها بالآداب ؟
يسوق الله تعالى إليها ، أو ينشئ فيها أفرادًا من أصحاب العقول الكبيرة ،
والهمم العالية ، والفضائل السامية ، تكون لهم هذه المزايا بالفطرة ، فيدركون بها
علل ضعف الأمة وخمولها ، وأسباب صحتها ونباهتها ، ويجتهدون في نشر هذا فيها
بالتعليم الصحيح ، فعندما تُُلقى هذه التعاليم في الأمة تضطرب لها - وكيف لا
يضطرب الساهي تفاجئه صيحة الحق ؟ ! - ثم تقع في حيرة ، لا تدري هل
الصواب بقاؤها على ما كانت عليه ؟ ، وإن أُنذرت بأن فيه حينها وهلاكها ، أو
الأخذ بما تُدعى إليه ، وفيه مفارقة عادها ومألوفها
. ثم يكون الناس أزواجًا ثلاثة :
( 1 ) مقاومون معاندون ينفرون عن الدعوة إلى الإصلاح باسم الدين .
( 2 ) مخضرمون يصيخون إلى الدعوة ، فلا يعقلونها كما هي ، فيكون من
أثرها فيهم : نبذ التعاليم العتيقة - حسنها وقبيحها - والاكتفاء من التعاليم الجديدة بما
لا يظهر أثره في الإصلاح ؛ فيكونون بما استهانوا به ، حتى من محاسن أسلافهم ،
وبما عساه يوجد فيهم من المغامز الشخصية حجة للمعارضين المعاندين .
( 3 ) وعقلاء فضلاء يكتنهون شؤون الأمة ، ويقفون على عِلَلها وأمراضها ،
ولو في الجملة ، ومتى أخذوا بالعمل يزدادون بصيرة وعلمًا ، ولكن أشعة أفكارهم لا
تخترق حجب الأوهام الضاربة في أذهان بني وطنهم إلا رويدًا رويدًا ، كما هي سُنة
الله في الإنسان ، يعرج في سلاليم الترقي درجة درجة ، لا أنه يطفر طفورًا .
كان مبدأ هذه النهضة في مصر رجل أعجمي الوطن ، علوي النسب ، وهَبَه
الله من ذكاء العقل وذكاء الفطرة ، ما يندر مثله في الأجيال الكثيرة والقرون الطويلة،
إلا وهو الحكيم الإسلامي الشهير السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني ، نوَّر الله
مرقده ! تربّى الرجل تربية دينية ، فقرأ العلوم الإسلامية - وسائلها ومقاصدها -
وبرع في الفنون العقلية ، كالحكمة القديمة والكلام والأصول ، ثم نظر في الفنون
الرياضية والفلسفية على طريقة أوروبا الحديثة ، وسلك طريق التصوف سلوكًا كاملاً
وأضاف إلى علمه الواسع في التاريخ الاختبار بالسياحة ، وعني أشد العناية
بدراسة أحوال الإسلام ، وتعرف أمراض المسلمين الاجتماعية ، التي أرجعتهم من
مقدمة الأمم إلى ما وراءها .. إلخ ، ما هو معروف من سيرته ، وقد كان وقف نفسه
على تنبيه المسلمين من غفلتهم ، وإرشادهم للقيام بواجب شؤونهم ؛ لكي تلحق الأمة
بالأمم العزيزة ، ولكن الأمة أمست كالمريض الأحمق ، يأبى الدواء ويعافه من حيث
إنه دواء ! ، وقد اعتادت منذ قرون على أن لا تقبل إصلاحًا إلا إذا كان صادرًا من
جانب القوة الحاكمة ؛ ولذلك لم يوجد مستبد ظالم من سلاطينها وأمرائها حاول عملاً
مضرًا وقاومته فيه ، بل تستبدل المساعدة له بالمعاندة ، فإذا استفتى العلماء يحرفون
له الكلم ، فيفتونه ، وإذا استرفد الوجهاء يبذلون له النفس والنفيس ، فيرفدونه ،
ولأجل هذا لجأ السيد جمال الدين إلى عالم السياسة ، وحاول أن يكون الإصلاح من
جانب الملوك والأمراء ؛ لتخضع له الأعناق ، ويسري سريان الرياح في جميع
الآفاق . ولقد كان سَلَك في مصر طريقة الإصلاح المثلى ، وهي التربية والتعليم ،
فانبرى له علماء السوء الذين أظهر تقصيرهم في العلم وخطأهم في التعليم ،
فوضعوا في طريقه الأشواك والعواثير ، وحاربوه بسلاح الدين الذي جعلوه آلة
للدفاع ، وأُحبولة للانتفاع ، وذلك بأن نفثوا في رَوْع الدَّهْمَاء من الناس بأنه منحرف
عن هدْيه ، وشارك بعضَ علماء السوء في مظاهرته بعض ُالمخلصين ، انخداعًا لهم،
وكان لهم في ذلك شبهات ثلاث :
( أولاها ) : أنه كان يعرف الفلسفة ، ومتوغلاً في العلوم العقلية ، وهذا النوع
من السلاح هو الذي حاربوا به أساطين الأمة من قبل ، وبهذه الشبهة كفَّروا الإمام
الغزالي وأضرابه وأحرقوا كتابه ( إحياء علوم الدين ) في الشرق والغرب ، ثم
كتبوه بعد ذلك بماء الذهب ، وسَمُّوا صاحبه ( حجة الإسلام ) ، وكذلك
يفعلون !
( الثانية ) : عدم التقيد بالعادات التي ألفوها ، ولوَّنوا الكثير منها بلوَن ديني ؛
فصار في نظر العامة من شعائر الدين، وهو في الحقيقة مخالفٌ لأصوله أو فروعه.
( الثالثة ) : أن كثيرًا من المترددين عليه والمتلقين عنه ، كانوا لا يُبَالون
بأمر الدين ، وإنما كان لهم هذا من فساد تربيتهم الأولى ، لا من الاجتماع به ؛ إذ لم
يكن هو الذي ربَّاهم وعلَّمهم من النشأة الأولى ، والرجل كان يبذل الحكمة لكل مَن
يحضر مجلسه ، من بر وفاجر ، ولا يمنع منه مؤمن ولا كافر ، والناس معادن كل
يؤخذ ما يلائم معدنه ويناسب مشربه ، والحكمة كالمطر تُلقى في أرض النفوس ،
فتتكيف كل نفس منها بحسب استعدادها ، كما يغتذي البِطِّيخ والحنظل النابتين في
أرض واحدة من ماء واحد ، ويكون ثمر أحدهما حلو المذاق ، والآخر مُرًا زعاق :
{ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ } ( الرعد : 4 ) .
كان فريق ممن يحضر مجلسه يُسيء الفهم ، ويُسيء الأداء ، ومنهم الذين
يلوون ألسنتهم بالكتاب ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ومنهم الذين يقولون كذبًا
ويخلقون إفكًا . وكل هذه الفرق كانت توجد في زمان الإصلاح النبوي ، وإبَّان نزول
الوحي وظهور الآيات البينات . فما بالك بأتْباع غير الأنبياء ومتبوعوهم مهما
عظمت حكمتهم ضعفاء ؛ لأنهم - وإن مُنحوا الحكمة - لم يؤيَّدوا بالعصمة . إنني ما
لقيت الرجل ، ولكنني استقريت أنباءه وتتبعت مواقع الانتقاد عليه حتى عرفت
مثارها ، ووقفت على مهب أهوائها . علمت أن بعضها كان من سوء الفهم ،
وبعضها من سوء قصد الناقلين المذاعين ، ألا لعنة الله على الكاذبين .
أذْكُر لسوء الفهم مثالاً واحدًا ، قال لي منتقد من أهل العلم : إنني حضرت
مجلس السيد جمال الدين حتى نهانا عن الصلاة في يوم من الأيام ، فانقطعت عنه !
فقلت له : كيف كانت القصة ؟ وهل نهاكم عن الصلاة نهيًا صريحًا بأن قال : لا حاجة
إلى الصلاة ، أو لا تصلوا ؟ ! فقال : لا وإنما تكلم عن الصلاة كلامًا أبان فيه عن
أن صلاتنا لا يعبأ اللهُ تعالى بها ، ولا يقبلها بأن قال - ما ملخصه - : إن الأعمال
الظاهرة في الصلاة ، كالركوع والسجود ، هي كأعضاء الجسم والإنسان ، ليس
إنسانًا بأعضاء جسمه ، وإنما هو إنسان بروحه ونفسه ، وروح الصلاة الشعور
بعظمة الله تعالى وكمال سلطانه فيها ، وتدبر ما يُتلى من القرآن والذكر المعبر عن
ذلك بالخشوع . قال محدثي : وإذا كانت صلاتنا ليست على هذا الوجه الذي لا
يرضى الله تعالى إلا به ، فلا شك أنه يعني بأن الأوْلى تركها ، مع أن قصارى ما
قاله فقهاؤنا : إن الخشوع مستحب أو مسنون . فقلت له : يا أستاذ ، إن الذي قاله
الرجل موافق للقرآن والأحاديث الصحيحة ، وقد فصَّل الكلام فيه علماء الآخرة الذين
بيَّنوا للناس ما يقربهم من الله ، وما يبعدهم عن رضوانه ، كالإمام الغزالي في
(الإحياء) ، أما الشرنبلالية ، والولوالجية ، والتتارخانية ، ونحوها من كتب الفقهاء
فإنما وُضعت لضبط الأعمال الظاهرة ، وهلاَّ حملت قول السيد على طلب الخشوع
الذي أناط الله تعالى به الفلاح في كتابه دون الحمل على ترك الصلاة بالمرة ، فرجع
الرجل إلى قولي وكان منصفًا ، فلو أنني أخذت منه القول الأول على غرّة وأذعته ،
كما هو دأب الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - لما تعديت في ذلك ما
عليه الدهماء مِنَّا ، ولقد وقع لتلامذة المرحوم السيد جمال الدين كثير من أمثال هذا ،
لا سيما في المسائل الفلسفية الغامضة ونسبتها للدين .
أما سوء القصد وما يتبعه من الكذب والافتراء ، فلا تسلْ عن حال أهله مع
المصلحين ، لا سيما في مثل الدَّور الذي فيه أمتنا اليوم من الضعف والاضمحلال
وفساد الأخلاق . وأعجب ما سُمع فيه أن بعض علماء السوء والفتنة أشاع بين الناس
في العام الماضي بأن فلانًا من العلماء أنكر وحدانية الله ، وبعضهم قال : أنكر
وجوده إنكارًا صريحًا على ملأ من العلماء والطلاب في الجامع الأزهر ، ومع أن
هذا غير معقول - وأين من يعقل ؟ ! - أن يصدر ممن له أدنى تمييز ، وإن كان
فاسد الاعتقاد ؛ فإن كتاب ذلك العالم الذي كان يقرؤه في التوحيد بين الأيدي ، وفيه
أقوى البراهين العقلية على وجود الله تعالى ووحدانيته ، وهو من تأليفه ، ولكن ماذا
تقول فيمن سَفِه نفسه واستخف عقولَ الناس ، ولم يراقب الله تعالى ، فحمله إغواء
شياطينه على ذلك البهتان العظيم ، فنزل به - ثم بمستشاره - الجزاء الأليم . لقد
جمح القلم في بيان ما يعرض للإصلاح من العلل ، فلنرجع إلى ما كنا فيه .
قلنا : إن الحكمة كالمطر ، يأخذ كل أحد منها ما يلائم تربيته ، وقد كان عدد
الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين من المشتغلين بالعلوم الدينية - قليلاً ؛ بسبب تنفير
الشيوخ عن حضور مجلسه لما علمت ؛ ولذلك ظهرت النهضة القلمية في لابسي
الطرابيش أكثر من لابسي العمائم ، وكان عدد الذين يسعون في إصلاح العلم والتعليم
الديني قليلين . وكما أننا في حاجة شديدة لرجال الأقلام الذين يجيدون الكتابة في
جميع المواضيع ، لا سيما في الفنون العصرية التي عليها مدار التقدم الدنيوي -
كذلك نحن في أشد الحاجة لقوم يفهمون الدين على حقيقته التي ساد وسعد بها سلفنا
الصالح ، وشَقي واستُعبِد بجهلها خلفُنا الطَّالح ، إلى قوم يفهمونه ويحسنون تلْقينه
وتعليمه ، فيأخذون بما ينبغي ، وهو اللباب الخالص ، ويلقون ما أُلحق به وتغلغل
في كتبه مما ليس منه ، ولكنه صار حائلاً دون فهمه وتعلمه . ولقد كانت عناية السيد
- رحمه الله - بهذا النوع من إصلاح العلم والتعليم ، أشد من غيره ، ولكنه لم يجد
من المستمعين له إلا قليلاً ، والكرام - كما قالوا : - قليل .
أمثل مَن اتّصل بالسيد مِن الذين تربَّوا في مهد الدين - علمًا وعملاً - العلاَّمة
المِفضال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد ، وهو الرجل المفرد
الذي تُشبه فطرته الزكية فطرة السيد جمال الدين ، وتُماثِل تربيتُهُ تربيتَهُ ، حتى في
سلوك طريقة التصوف سلوكًا كاملاً . ولقد كان قبل معرفة السيد زيته صافيًا ، يكاد
يضيء ولو لم تمسسه نار ، فمسَّته بالاتصال به نار غيرته وحكمته ، فاشتعل نورًا
على نور . ووقف على نتيجة أبحاثه واختباره الطويل في الإصلاح الإسلامي ، بل
والشرقي أيضًا ، وعومل من الشيوخ الذين يخافون أن يُظهر الإصلاح العلمي
تقصيرَهم في العلم أو التعليم - بمثل ما عومل به سابقًا ؛ حتى لم يكن بينه وبين
معهد التعليم الإسلامي في ( الأزهر ) اتصال قبل هذه السنين الأخيرة ؛ وسبب ذلك
وشايات الشيوخ به للخديوِ السابق ، وتنفيرهم طلاب العلم عنه ، بأنه فيلسوف يُخشى
من فلسفته على دينهم ، وكأن هؤلاء لا ثقة لهم بدينهم ؛ لأنهم ليسوا على بينة منه ،
فيخافون من كل شبهة أن تأتي على زلزاله ، أو زواله ، والموقِنُ بالشيء لا يتوقع
ولا يتصور زواله ، ومن لا يكون موقنًا لا يكون مؤمنًا .
ولقد بقي لهذا الوهم بقية في نفوس بعض طلاب العلم في الأزهر إلى السنة
الماضية ، فكانوا عندما قرأ الأستاذ رسالته في التوحيد يتوقعون أن يأتي بمسائل
الخلاف بين الفلاسفة والمسلمين ، ويُرَجِّح أدلة الأوّلين ، فلما رأوه قد سلك في العقيدة
مسلك السلف ؛ اطمأنت قلوبهم وزايلتهم أوهامهم .
تلك الدسائس والوساوس هي التي حرّمت الترقي على الأزهر في السنين
الخالية ، وانحصر سعي الأستاذ في الطباعة زمنًا - قبل الفتنة العرابية - فكان له
أثر عظيم في النهضة القلمية وفي القضاء زمنًا آخر ، والعهد به قريب ، وقد كان
للمتصلين به في كل طور من الأطوار ، وكل زمن من الأزمان أثر ظاهر في
النهضة الحاضرة ، بحسب معارفهم وبيئتهم ( حالهم ومحلهم ) ، انظرْ تَرَ القضاة
الثلاثة : سعد بك زغلول وأخوه فتحي بك وقاسم بك أمين - وهم الذين يفتخر بهم
القطر المصري ، وبمثلهم يصِحُّ له الاحتجاج بأن المصريين أهلٌٌ لأن يَحْكُموا أنفسهم
بأنفسهم ، هم من أخصّاء الأستاذ والمتلقين عنه .
تَعَلَّم كثيرٌ من المصريين في مدارس أوروبا ، كما تعلم قاسم بك وفتحي بك ،
ولكن لم نرَ واحدًا منهم يشغل أوقات فراغه بالتأليف والترجمة للكتب النفيسة التي
يحتاج إليها الوطن في رُقيّه ، كما هو شأن هذين الفاضلين . هل يوجد بين أيدينا من
الكتب النافعة لنا في نهضتنا الدينية والدنيوية - ( كرسالة التوحيد ) للأستاذ ، وكتاب
( تحرير المرأة ) لقاسم بك وكتاب ( سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ، الذي ترجمه
حديثًا فتحي بك ، وهو أَفْيَد كتاب أُلِّف في أوروبا في التربية والتعليم ؟ كلا . إنه
يوجد كثير من المصريين لا يعرفون قيمة هذه الكتب ، وآخرون لا يرفعونها إلى
مكانتها من الاعتبار التي تستحقها ؛ لأغراض معلومة ، وأمراض غير مجهولة ،
ولكن سيأتي على مصر زمان تُجعل فيها دراسة هذه الكتب ضربة لازب ، ويجزم
كل من يكتب في تاريخ مصر ، بأن هذه الكتب كانت من أنفذ عوامل النهضة
الأخيرة ، وأقوى أركانها ( كما اعترف الذين كتبوا في ذلك كجرجي أفندي زيدان ،
بأن السيد كان مبدأ هذه النهضة ) ، وكما يجزمون بهذا يجزمون بأن هذه الكتب
الكثيرة التي وُضعت للبحث في ألفاظ الكتب وأساليبها ، كانت عثرات في طريق العلم
بل وفي فهم تلك الكتب نفسها ، وسدود أمام الترقي ، وإن كانت ألقاب مؤلفيها
ضخمة ، ونعوتهم كبيرة .
إن جهل الأمة هو الذي شبّه عليها النافع بالضار ، وقد طفقت تتنبَّه إلى
مصالحها ، وتخرج من مضيق الغرور والانخداع باللبوس والنعوت والألقاب ، وهذه
حركة طبيعية اقتضتها سُنة الله في رقي الأمم ، فمقاومتها جهلٌ وغرور ؛ لذلك نرجو
من علمائنا العقلاء أن يسايروها ويساعدوها ، لا أن يقاوموها ويعادوها ، وأن يجعلوا
الحق ميزان الأعمال ؛ إذ الرجال تُعرف بالحق ، لا الحق يُعرف بالرجال .
 
29 صفر - 1317هـ
7 يوليو - 1899م
يستحيل إرضاء الناس

... .
وانتقد علينا استشهادنا على فضل السيد جمال الدين بأحد الأجانب عن الدين -
كجرجي زيدان - دون علماء الإسلام ، ونجيبه عن هذا بأننا إنما استشهدنا بقول هذا
الرجل في مسألة تاريخية ، وهو من المؤرخين المدققين ، لا على أن السيد كان من
أعلام الدين الإسلامي . على أن الاستشهاد بمدح الأجنبي أَبْلَغ ؛ لأنه إما أن يقول
الحق ، وإما أن يذم ، ولا يتوقع منه أن يكون ذا ضلع مع المخالف له في دينه .
وهذا ، وإن للسيد المرحوم المكانة العالية عند عقلاء المسلمين ما لم يرتقِ إليه إلا
القليل ، وحسبك أن أكبر العلماء المحققين في مصر قد سُروا بدلالته . واغترفوا من
فضالته . دعْ ذكر فضيلة مفتي الديار المصرية . وارمِ ببصرك إلى قُضاة محكمة
مصر الشرعية تجدْ أكابرهم من تلامذته . والشاهدين بعلوِّ مكانته ، كالشيخ بخيت
والشيخ محمد أبي خطوة والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهم ...
وعجيب من المنتقد كيف لا ينكر على إخوانه المسلمين الذين يسألون مثل
جورجي أفندي زيدان عن المسائل الدينية المحضة التي ليس هو من أهلها
، وينكر
علينا الاستشهاد لكلامه في المسائل التي هو من أمثل أهلها وأشدهم تحريًا وإنصافًا ،
ثم نوجِّه نظره إلى أن من هدي القرآن الشريف { إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ( هود : 114 ) ، وأن الحسنة بعشر أمثالها ، فليعذرنا بما عساه يراه من المسائل
النادرة التي لا تروق له ، ولا يبهتنا بما نحن بَرَاء منه ، وليعذرنا على عدم نشر
كتابه ؛ فإنه على ضعف عبارته لا يفيد القُرّاء ، وقد علم ما فيه ، والله مع
الصادقين !
 
28 ربيع الأول - 1317هـ
5 أغسطس - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الجنسية والدين الإسلامي

البداوة في النوع الإنساني سابقة على الحضارة ، ولكن الإنسان مدني بالطبع ،
ميال للاجتماع بالفطرة ، وقد كان مبدأ اجتماعه تكوّن الشعوب والقبائل بالعصبية
النسبية ، فكانت هي مناط الجنسية ، ثم صعد النوع في سلم الارتقاء الاجتماعي ،
فاتسعت دائرة جنسيته ، فكان مناطها اللغة ، وكما كانت تتألب القبيلة التي يجمعها
نسب واحد ، وتزحف لقتال قبيلة أخرى من أهل لغتها لأقل عدوان يقع بين أفراد
القبيلتين ، صارت تتألب القبائل الكثيرة التي يرتبط بعضها ببعض برابطة اللغة
ويلتحم بلُحمتها ، على قتال الأجناس التي تجمعها لغة أخرى غير لغتهم ، وبهذه
الجنسية تكونت الأمم ، فكان منها العربي والتركي ، والفارسي والهندي والصيني
إلى غير ذلك .
ما كانت عناية الله تعالي بالإنسان لتقف به عند هذا الحد من الاجتماع
والتمدن ، بل أعطاه سلمًا ليعرج عليه إلى الأفق الأعلى من المدنية وسعة دائرة
الاجتماع ، وهو المُعبر عنه بناموس الارتقاء العام ، ولما استعد بمقتضى هذا
الناموس لامتزاج بعض أجناسه ببعض ، ومؤاخاة العربي للعجمي والرومي
والفارسي ، منحه رابطة أعلى من جميع روابط الاجتماع ، رابطة تضم متفرق
العناصر وأشتات الأجناس ، وتصوغها فتجعلها عنصرًا واحدًا ، رابطة يمكن لكافة
البشر أن يكونوا بها أمة واحدة ، وإخوانًا على سرر متقابلين ، هذه الرابطة هي
الديانة الإسلامية ، التي بُني أساسها على الوحدة في الاعتقاد ، والتهذيب والأحكام
القضائية والمدنية التي يخاطب قرآنها البشر كافة بقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى : 13 ) ويخاطب أهل الكتاب خاصة بقوله :
{ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران : 64 ) .
ما كان ليعزب عن شارع هذا الدين - وهو عالم الغيب والشهادة - أن الناس
لا يعتنقونه مرة واحدة ، وأن هذا موجب للاختلاف والتفرق ، وهو إنما وضع للوفاق
والتوحيد ، ولذلك جعل الرابطة ذات طرفين ، طرف يمكن أن يضم جميع البشر على
اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ، وهو كونهم يحكمون بشريعة واحدة عادلة ، تساوي بين
مؤمنهم وكافرهم ، ومليكهم وصعلوكهم ، وغنيهم وفقيرهم ، وقويهم وضعيفهم ،
وهذا الطرف هو طرف الجامعة الدنيوية ، ويمكن لأهله أن يعملوا لإحراز سعادة الدنيا بالاشتراك ، حتى يصلوا إلى الغاية التي في استعدادهم الوصول إليها ،
والطرف الثاني هو طرف الجامعة الروحية الأخروية ، وهو يؤلف بين الآخذين بهذا
الدين تأليفًا روحيًّا زائدًا عن ذلك التأليف الجثماني تأليفًا جرثومته وحدة المعتقد
والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وغذاؤه الأخلاق الفاضلة ،
والعبادات الكاملة ، وثمرته الإخاء الصحيح ، وجعل المؤمنين في تضافرهم وتعاونهم
على البر والتقوى كالبنيان يشد بعضه بعضًا ، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو
تداعى له سائر الجسد .
لا تحقرن أمر الرابطة الأولى ، رابطة الشريعة العادلة ، فهي على كونها أعم
من رابطة اللغة وأشمل ، قد كانت أقوى وأكفل ، كان أبناء اللغة الواحدة والدين
والواحد يفرون من هجير ظلم قومهم ، المشاركين لهم في جنسيتهم ، ويستظلون بظل
العدل الإسلامي الظليل ، حتى أن الروم في بلاد الشام لما رأوا في أثناء الفتوح وفاء
المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم ، صاروا عونًا لهم على قومهم ، وعيونًا للمسلمين
عليهم ، يتجسسون لهم الأخبار ، ويوقفونهم على الأسرار .
جاء في رسالة ( الجزية ) التي نشرت في المجلد الأول من (المنار) أن أبا عبيدة
رضي الله عنه لما أراد أن يشخص من حمص إلى دمشق لتألّب الروم على المسلمين
وجمعهم لهم ، أمر حبيب بن سلمة أن يرد على القوم ما كان أخذه المسلمون منهم من
الجزية ، فرد عليهم ذلك ، وأفهمهم بأن الأمير أبا عبيدة يقول : ما كان لنا أن نأخذ
أموالكم ، ولا نمنع بلادكم ( أي أن أخذ المال هو بإزاء الحماية ، وقد عجزوا عنها في
ذلك الوقت لاضطرارهم إلى الخروج من البلد ، فردوا عليهم المال ) فقال أهل
البلد : ( ردكم الله إلينا ، ولعن الذين يملكوننا من الروم ، ولكن والله لو كانوا هم
ما ردوا إلينا ، بل غصبونا ، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا ) هذه
الرابطة مناط للجنسية ، اتخذه الأوروبيون أحبولة لصيد الأمم والشعوب التي
ثقلت عليها وطأة ظلم حكامها ، فنجحوا مع بُعدهم عن العدل الصحيح والمساواة اللذين كان عليهما المسلمون عندما كانوا متمسكين بدينهم وحاكمين بشريعتهم ، ولكن
هذه الرابطة مهما كانت وثيقة وقوية ، فهي لن تبلغ مبلغ رابطة وحدة الاعتقاد
بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها ، ولذلك ترى المسلمين يتململون من
سلطة الأجنبي عن دينهم ، وإن كان عادلاً ، ويودون الفرار من ظل عدل ، ولو
لفحهم مثل لهيب جهنم من ظلم المتحدين معهم في الاعتقاد والمذهب ، وبهذا لم يكن
للمسلمين جنسية في غير دينهم ، ولا يخضعون باختيارهم سرًّا وجهرًا إلا لحكومة
شوروية تحكمهم بشريعتهم ، وتقيم حدودها العادلة فيهم ، مقتفية آثار خلفائهم
الراشدين ، بحيث يكون لديها الخليفة والصعلوك في الحق سواء ، لو اهتدت لهذا الأمر
أية حكومة إسلامية ، ووفقت للعمل به مع الحكمة ، من غير زيغ ولا زلل ،
لأمكنها أن تجمع كلمة المسلمين في مدة قصيرة ، بل لو أن دولة حكيمة كإنكلترا
اعتنقت الإسلام وأقامت شريعته ، لتسنى لها امتلاك باقي الشرق وإفريقيا كلها .
عرف الأوروبيون من المسلمين ما ذكرنا ، فانتفعوا بمعرفتهم واجتهدوا
في إزاحة القابضين على أزمَّة الحكومات الإسلامية عن صراط شريعتهم ،
وأدخلوا عليهم القوانين الوضعية ؛ فنفرت قلوب الرعايا منهم وكرهت سلطتهم ،
حتى صارت تخرج عليهم . واجتهدوا في حل عروة الرابطة الدينية من نفوس
المسلمين باسم المدنية الجديدة التي تسمي التمسك بالدين تعصبًّا ، وتمثل هذا
التعصب بمثال مشوه قبيح ينفث السموم في الأرواح فيقتلها ، ويعترض دون شمس
العلوم والمعارف فيحجب أنوارها [1] وما كان الأوروبيون ليتمكنوا من خلابة
المسلمين بأنفسهم فيجعلوا اسم التعصب ( بمعنى التمسك بالدين ) بينهم سبة
وعارًا ، ويتخذوا هذا ذريعة لفصم عروة الدين وتوهين رابطته العامة ، ولكنهم
تمكنوا من فتنة بعض المسلمين الجغرافيين [2] بمدنيتهم ، واتخذوهم أعوانًا لهم على
كل ما يقصدونه من المسلمين . يردد المصريون الشكوى مع التوجع والتألم من
المستر دنلوب سكرتير المعارف العام ، القابض على أزِمَّة المدارس كلها حيث يجتهد
في محو معالم اللغة العربية ، وطمس آثار الديانة الإسلامية من المدارس ، وجعل رسومها مواثل ودوارس ، ولا لوم على من يخدم دولته وملته بالصدق والنشاط ،
وإنما اللوم والتثريب - بل اللعن والتأنيب - على الذين رضوا بأن يكونوا معاول في
يديه لهدم بناء جامعتيهم الدينية واللغوية ، وهم يعلمون أن هدمهما يعدم
جنسيتهم بالكلية ، وفي هذا محو الملة والأمة من لوح الوجود ، هؤلاء هم الذين
يجب أن يحفظ التاريخ ذكرهم محفوفًا بالخزي والمقت ، ملوثًا بقذر الخيانة والغش،
حيث يحفظ للمستر دنلوب في خدمة ملته اسمًا سميًّا ، ويرفعه في صدق وطنيته
مكانًا عليًّا ، ويوجد في غير مصر كثير من هؤلاء المارقين .
فعلى كل مسلم حقيقي أن يسعى جهده في توثيق الرابطة الإسلامية الروحية
بين كل من ينتسب للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، بأن يعرف أهل كل بلاد
تاريخ أهل البلاد الأخرى ، وشؤونها الغابرة والحاضرة ، وأن يكون لهم طرق
للتعارف ، وأمثل هذه الطرق الجرائد ، والاجتماع في موقف الحجيج العام ، ومما
يقضي بالأسف واللهف أن الحجاج بعد ما يرجعون من أداء الفريضة يقضون
أعمارهم في الحديث عن سفر الحج ، وما لاقوه وجرى لهم فيه ، ولا نسمع منهم
خبرًا عن أحوال إخوانهم من أهل الأقطار الأخرى الذين ضمتهم وإياهم عرفات
حتى كأنهم لم يشهدوا ذلك الموقف الشريف الذي لم يسم بهذا الاسم (عرفات) إلا
لأنه موقف التعارف بين الشعوب والقبائل ، واحسرتاه ، فقدنا كل شيء ، حتى
معاني أركان ديننا الكبرى ، وأسرارها وفوائدها ، ومن الضروري في هذا أن يكون
منا أمة يدرسون اللغات التي ينطق بها إخواننا في كل قطر ، أليس من البلاء أن
لغةأوردو التي ينطق بها ثمانون مليونًا من المسلمين في الهند لا يوجد تركي في
الرومللي أو الأناضول ولا عربي في العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب يتعلمها
ليتعرف بها شؤون أولئك الملايين من إخوانه ؟ ونرى الجم الغفير من دعاة
النصرانية يتعلمون هذه اللغة ، وسائر لغات العالم لأجل دعوة أهلها
إلى دينهم .
متى عرف بعضنا تاريخ بعض ، وتعارفنا بما يمكن من طرق التعارف ،
وتبادلنا الأفكار بالجرائد ، يتسنى لنا حينئذ أن نتفق على وحدة التربية والتعليم ،
وكمال هذه الوحدة إنما يكون بتعميم اللغة العربية ، وعلى وحدة الاشتراك في
المشروعات والأعمال النافعة ، وبهذين الوحدتين تكون ( الجامعة الإسلامية ) التي
أكثر من ذكرها الكُتاب ، وبحثوا فيها من وجوه كثيرة غير محررة ، فتضاربت
أقوالهم ، وتناقضت آراؤهم .
قلنا : إن الجامعة الإسلامية لها طرفان ، أحدهما يضم المعتقدين بالدين
الإسلامي ، ويربطهم برابطة ( الأخوة الإيمانية ) حتى يكونوا جسمًا واحدًا ، وقد
انحلت هذه الرابطة ، ولكنها مازالت ، ولن تزول ، والطريق إلى توثيقها وشدها
هو ما قرأت آنفًا ، وثانيهما يربط المسلم وغيره من أرباب الملل برابطة الشريعة
العادلة ، التي يحكمون بها جميعًا بالمساواة ، وقد طرأ على هذه ما حل عقدتها في
بعض الحكومات ، وما أزالها في حكومات أخرى ، وعلى كل حال ينبغي للمسلمين
في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة
إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران ، ويفجر فيها ينابيع الثروة ، هذا ما
يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها ، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان ، وأما
الحكومات الإسلامية ، وفي مقدمتها الدولة العلية ، فيجب عليها أن تساعد رعاياها
على هذه الأعمال ، وتسهل لهم سبلها ، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات
الداخلية ، والاستعدادات الحربية ؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة ،
وأرى من الضروري لصيانة الدولة العلية من طمع الطامعين أن يسلك مولانا
السلطان الأعظم ( أيده الله تعالى بروح منه ) في جميع الولايات ، الطريقة العسكرية
التي سلكها في طرابلس الغرب ، وهو جعل كل فرد مستعدًّا للقتال إذا دخل العدو
بلاده ، كما هو الواجب في الدين الإسلامي ، وأن لا يحرم ولاية من الولايات من
فرسان الألايات الحميدية ؛ فإن استعداد الدولة نفسها مهما بلغ ، لا يمكن أن تقاوم به
أوروبا المتحدة عليها باطنًا ، وإن اختلف دولها ظاهرًا ، وأما استعداد الرعايا
لمصادمة كل قوة أجنبية تدخل بلادهم حتى الفناء ، فهو يمنعهم من كل عداء .
هذا هو رأينا في تكوين الجامعة الإسلامية بالطرق الممكنة ، ولا سبيل لدول
أوروبا إلى الاعتراض على شيء من ذلك ، أما الإصلاحات الداخلية ، فأهمها جعل
الحكومة شوروية ، والعدل والمساواة بين الرعية ، وانتقاء جميع الموظفين من
الأكْفاء المستعدين ، وقد شرحنا رأينا في الإصلاح في مقالات سابقة ، فلا نعيده
( ومن يتق الله ) مسترشدًا بسننه الكونية وشريعته السماوية ( فهو حسبه )
وكافيه ما يهمه { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ( الطلاق : 3 ) .
__________
(1) قد شرحنا حقيقة هذه المسألة في مقالات نشرت في أعداد السنة الأولى للمنار ، فلتراجع .
(2) أعني بالمسلمين الجغرافيين : الذين يعدون في اصطلاح الجغرافيا مسلمين ، وهم كل من ينتسب للإسلام ولو اسمًا ، وقد سنحت لي هذه الكلمة أثناء خطاب كنت ألقيته في جمعية ( مكارم الأخلاق ) في القاهرة ، فقلت : يقال : إن المسلمين ثلاثمائة مليون أو يزيدون ، وهؤلاء هم المسلمون الجغرافيون ، أما المسلمون الحقيقيون الذين يفهمون الإسلام حق فهمه ويعملون به ، فهم قليلون .
 
5 ربيع الثاني - 1317هـ
12 أغسطس - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الجامعة الإسلامية
وآراء كتاب الجرائد فيها

أول من كتب وخطب في بيان أحوال المسلمين الاجتماعية ، وتمثيل أمراضهم
ودلالتهم على علاجها ، وإرشادهم إلى الاتحاد وجمع الكلمة ، حكيم الأمة الكبير
وفيلسوفها الشهير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني ( تغمده الله تعالى برحمته )
فإنه كان قد وقف نفسه على تكوين ما نسميه اليوم ( الجامعة الإسلامية ) وكان
أكثر سعيه لها من الطريق الأقرب ، طريق تنبيه الحكومات المسلمة المستقلة إلى
الاتحاد .
ولكن أباها الحاكمون فكاره ... لها جاهل أو مكره وهو عالم
ثم أشرب في قلبه مذهبه هذا الحكيم الثاني ، صاحب الفضيلة الشيخ محمد
عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد ( كما ألمعنا إلى ذلك في عدد سابق ) ولم يدع
الرجلان بابًا للإصلاح الإسلامي إلا طرقاه ، وقد بدأا بباب السياسة ، فكتبا وخطبا ،
ما شاء الله أن يكتبا ويخطبا ، فلم تأت النتيجة كما طلبا ورغبا ، ثم استقر رأيهما
على أن هذه الأمة بالدين وجدت وتكونت ، وبالدين سادت وعزت ، ومن قبِل الدين
( أي الإعراض عنه ) أُخذت وابتُزَّت ، ومن قِبله ضعفت وذلت ، وبه يرجع إليها
مجدها . ومن أفقه يبزُغ كوكب سعدها ، فأنشأ جريدة ( العروة الوثقى ) لدعوة
المسلمين إلى الوحدة الصحيحة ، وأن يجعلوا إمامهم الأعظم القرآن الحكيم ،
أرشدت هذه الجريدة العلماء إلى إماتة البدع وإحياء السنن ، كما أرشدت الملوك
والأمراء ، ولا سيما المختلفين في المذاهب ( كأهل السنة والشيعة ) إلى الاتحاد
والاتفاق ، وأن لا يجعلوا الخلاف الفرعي في الدين من أسباب التفرق والانقسام الذي
يقضي على الجميع ، نبهت وحذرت ، وبشرت وأنذرت ، بكلام أصاب مواقع
الوجدان ، وبراهين ملكت قياد الجنان ، فاهتز لها العالم الإسلامي هزة ، لو طال
عليها العهد لزلزلت الأرض زلزالاً ، ولنفر المسلمون إلى الاتحاد خفافًا وثقالاً .
قال الأستاذ المفتي محرر الجريدة : حدثني بعض أهل العلم من بغداد قال : كنا
نقرأ العدد من ( العروة الوثقى) في مجلس السيد سلمان أفندي نقيب السادة
الأشراف ، فيتفق رأينا على أنه لابد أن يظهر في العالم الإسلامي عمل كبير ، قبل أن
يصدر العدد الذي بعد هذا ، ونقل نحو هذا القول عن بعض فضلاء الغرب والشرق ،
وسمع كاتب هذه السطور الأستاذ الشيخ حسين أفندي الجسر مؤلف ( الرسالة
الحميدية ) يقول ما مثاله : لو طال الأمد على جريدة (العروة الوثقى) لحدث في العالم
الإسلامي انقلاب مهم ، ولهّب المسلمون من رقادهم ، ونشطوا لاسترجاع مجد آبائهم
وأجدادهم ، ولقد بلغ من تمام غرام نبهاء المسلمين بهذه الجريدة ، أن حفظها
بعضهم عن ظهر قلب ، وبعضهم يحفظ نسخها الأصلية ، وبعضهم كتبها فلم يغادر منها
شيئًا ، وهم يعيدون تلاوتها ويسترشدون بها آنًا بعد آن ، يحفظها أكابر العلماء في
الشرق والغرب ، وإنني وجدت كل ما فاتني من أعدادها عند فضيلة الأستاذ
الجسر فنسختها من عنده ، وحدثني الفاضل صاحب جريدة ( ثمرات الفنون) أنه
يحفظها في صندوق الحديد ، حيث يحفظ أثمن ما يملك ، وبالجملة كانت ( العروة
الوثقى) قبسًا من نور القرآن ، ونفخة من روحه ، وجدولاً من ينبوعه ، ظهرت
في ضوئها العلة والمعلول ، وانتعشت بانتشاقها مشام العقول ، ورويت من معين
نصائحها الأكباد ، حتى رجي أن تكون ( وهي العروة الوثقى ) رابطة الاتحاد ، وقد خافت الدولة الإنكليزية يومئذ مغبة الأمر ، ولم تكن أقدامها استقرت في مصر
فحملت حكومة مصر على منعها من دخول البلاد المصرية ، كما منعتها هي من البلاد الهندية . وكان هذان القطران أهم موارد إمدادها ومعاهد امتدادها ، فبطلت -
وهيهات أن تنفصم عروة تعليمها وإرشادها .
ظهرت العروة الوثقى في جمادى الأولى سنة 1301 هـ ، وكل ما صدر منها
18 عددًا ، ثم مرت فترة من الزمن لم تذكر فيها الشؤون الإسلامية العامة في
الجرائد ، إلا ما يجيء في عرض القول ، أو يصيبها من رشاش أقلام غير أهلها من
الكتاب ، مما لا يروي غليلاً ، ولا يغني فتيلاً ، حتى أنشأ نابغة الخطباء والكتاب
السيد عبد الله نديم المصري الشهير ، مجلة ( الأستاذ ) في أوائل سنة 1310 هـ ،
وكتب فيها المقالات الطنانة الرنانة في تنبيه المسلمين إلى الأخطار المحدقة بهم
وبسائر الشرقيين ، وتنشيط هممهم لتلافيها ، إلا أن بيئة النديم ( حاله ومحله )
وزمنه وسياسته ، اقتضت أن يكون أكثر خطابه عامًّا للشرقيين ، وفي كليات الأمور
الاجتماعية ، وأن لا ينحي باللوم على الرؤساء من الأمراء والحكام والعلماء
والمرشدين ، فكانت فائدة كلامه في التنبيه المطلق ، وفي جزئيات وطنية وأدبية ،
وفروع دينية ، وكان كلامه مؤثرًا فيما نقل إلىّ ، فلو بقي لأحدث في مصر تأثيرًا
سياسيًّا أدبيًّا له شأن ، ولكن أخرج النديم من مصر بدعوى أن جريدته تنفخ روح
التعصب الديني ، وتنفث سموم الثورة ، ولم يكن تم لها سنة ، ولقد قرأت منها أعدادًا
في سوريا رأيته يحترس فيها كل الاحتراس من الوقوع في هاتين التهمتين ، وإنما
ينفع الاحتراس بالنسبة للمؤاخذة القانونية دون المؤاخذة السياسية التي أخذ بها .
فتر بعد ( الأستاذ ) الكلام الذي يرمي إلى ( الجامعة الإسلامية ) حتى وفقنا الله
تعالى في العام الماضي لإنشاء (المنار) لإحياء تعاليم (العروة الوثقى) فوضعنا
قاعدته على أساسها ، وأضأنا قمته بنبراسها ، إلا ما كان فيها من السياسة التي تتعلق
بالمسألة المصرية ، والتحريض على الإنكليز ، فإن هذا أمر ذهب بذهاب وقته ،
و(العروة الوثقى) نفسها صرحت مرارًا بأن تلك الفرصة إذا ذهبت لا تكاد تعود ،
ويستقر قدم الإنكليز في مصر - وقد كان - ولكنها قالت في شأن النهضة
الإسلامية الاجتماعية المطلقة التي كانت تعمل لها ما نصه : ( إن الرزايا الأخيرة
التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط ، وقاربت بين الأقطار المتباعدة
بحدودها ، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها ، فأيقظت أفكار العقلاء ، وحولت
أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم ، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم
فيه ، فتقاربوا في النظر ، وتواصلوا في طلب الحق ، وعمدوا إلى معالجة المرض
وعلل الضعف ، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة ، ومؤملين أن تمهد
لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف ، وأن في الحاضر منها
لنهزة تغتنم ، وإليها بسطوا أكفهم ولا يخالونها تفوتهم ، ولئن فاتت فكم في الغيب
من مثلها ؟ ! وإلى الله عاقبة الأمور ) اهـ من مقدمة العدد الأول ، ولا ريب أن
المسألة المصرية ليست في هذا العام كما كانت في سنة 1301 هـ ( 1884م )
أما المسألة الإسلامية فهي هي ، بل تقدمت إلى الأمام بالنسبة إلى ما كانت عليه
في ذلك العام .
قلنا : إن (المنار) وافق (العروة الوثقى) في تعاليمها الاجتماعية وقواعدها
التي وضعتها للوحدة الإسلامية ، وخالفها في وجهتها السياسية المصرية ، ونقول
أيضا : إنه زاد عليها بالبحث في جزئيات البدع ، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة
والعقائد الزائغة ، والتربية المفيدة ، ونحو ذلك مما أرشدت إليه إجمالاً ، ولم يتسع
معها الزمان لتفصيله ، ولهذا يقول قرّاء (المنار) : إنه لم توجد قبله جريدة في
موضوعه ، وقد اعترف لنا الكتاب المسلمون والمسيحيون ، ومن هؤلاء أصحاب
(المقتطف) و (المقطم) وصاحب (الأهرام) وصاحب (الهلال) بأننا تصدينا
لخدمة نافعة ، ولكن أصحاب (المقطم) كانوا يقولون لنا : إن في طريق هذه الخدمة
خطرًا عظيمًا ، وهو مقاومة أوربا للمسلمين إذا هم حاولوا الترقي من وجهة الدين ،
وقد كاشف برأيه هذا بعضُ أكابر علماء الإسلام العارفين بالسياسة منذ بضعة أشهر،
فراجعه العالمُ القول ، وكتب يومئذ صورة المذاكرة في (الأهرام) واجتمع به
كاتب هذه السطور بعد ذلك ، وكنت في صحبة الأستاذ صاحب (المؤيد) ففتح باب
المذاكرة في المسألة ، وكان الكلام مشتركًا ، ولم نتفق معه على نتيجة واحدة ، أما
صاحب (الهلال) فإننا لم نر منه إلا استحسانًا وتحبيذًا ، وإبانة عن اعتقاد أن هذه
الخطة لا أنفع منها للمسلمين ، ومثله كتاب ( دائرة المعارف) وغيرهما من أفاضل
المسيحيين المنصفين ، وفي هذه السنة كثرت الكتابة في تنبيه المسلمين ، فنشر
(المؤيد) كثيرًا من المقالات لكتاب من المسلمين في الشرق والغرب ، ومنهم الفقير
منشئ هذه المجلة ، وبعض تلك المقالات عُرِّب من جريدة ( محمدان) الهندية ،
وكتبت مجلة (الموسوعات) أيضًا عدة مقالات لكتاب متعددين ، ورأينا في جريدة
(زمان) التركية التي تصدر في قبرص مقالات تحت عنوان ( الاتحاد الإسلامي )
ولم نظفر بمن يعرّبها لنا ، وسرى السر من الجرائد المصرية إلى جريدة (معلومات)
العربية في الآستانة العلية ، وإلى جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت ، فَكُتِبَ فيهما
مقالات كثيرة في الموضوع ، ولو سمحت لهما حكومة البلاد لتوسعا في الكتابة ، ثم
أصاب الرشاش غيرهما من الجرائد الإسلامية في الديار السورية ، أما الجرائد
الهندية فكثير ما كتبت ، وقد ترجم بعضها كثيرًا من مقالات (المنار) ، وكذلك
جريدة ( الحاضرة) التونسية .
والحاصل أن أكثر الجرائد الإسلامية قد خاضت في مسألة الاجتماع الإسلامي
من نحو سنة أو أكثر ، ولم تكن تذكر قبل ذلك إلا نادرًا على ما علمت من صدر هذه
المقالة ، وفي هذين الأسبوعين كتب فيها (الأهرام) بعنوان ( الجامعة الإسلامية )
ثم كتب (المقطم) وناقشهما (المؤيد) فيما كتبا ، هذا ملخص تاريخ الكلام في هذه
المسألة بحسب ما وصل إليه علمنا . وبلغنا أن رجلاً عظيمًا من فضلاء مسلمي
القريم في بلاد روسيا اسمه إسماعيل بك ، قد أنشأ جريدة سمّاها ( ترجمان) جعل
جُل مباحثها في الشؤون الإسلامية ، وأنشأ مدرستين لتربية أبناء المسلمين ،
وتعليمهم في تلك البلاد ، ولم نقف على شيء من أعماله ، ولكن رائحته العطرية
تدل على أن عمله عظيم .
أما الطرائق التي بحث فيها الكتاب فهي كثيرة ، ولم تنجلِ للناس الطريقة
المثلى بقول أحد ، إذ ما من قول إلا وله وجه يعتمد عليه قائله ، وما من شبهة على
فساد رأي إلا ولصاحبها تكأة يستند عليها في تقويتها ، والأمر في نفسه أكبر من كل
هؤلاء الكتاب ، وكيف لا وهو ترقية أمة يبلغ عددها ثلاثمائة مليون من النفوس ،
يتبوأُون كل قطر ، وينطقون بكل لغة ، وحكامهم من أنفسهم ضعفاء ، ومن الأجانب
عنهم أقوياء ، وأضعفهم هذا الفقير قد اشتغل بدراسة هذه المسألة بضع سنين ، وهو
في كل يوم يزداد بها علمًا لم يكن عنده ، ويزيح جهلاً كان يغشاه ، إن لم يكن في
أصولها وقواعدها ، ففي جزئياتها وشواردها ، وما يقف عليه الإنسان في سنين ، لا
يمكن أن يجليه لمن لم يقف عليه في مقالة أو عشر مقالات ( مثلاً ) بحيث يؤدي
إليه فكره ووجدانه تامّين بتلك المقالات ، ولكن الميزان الذي يجب أن نزن به
الأقوال والآراء لنعلم النافع منها والغير النافع ، هو أن ننظر فيما يعرض علينا ،
فما كان منها مقومًا لفكر ، ومصححًا لرأي أو اعتقاد ، فهو نافع ، وما كان منها
مرشدًا إلى عمل مفيد ممكن ، فهو نافع ، وما عدا هذين النوعين ، فهو إما خيالات
وأوهام ، وإما غش وتغرير ، وأقل ضرر فيه أنه حجاب على وجه الحقيقة ، وتعليل
للآمال بما لا ينال ، وإزاغة للقلوب عن صراط الحق ، ومن انحرف عن الصراط
المستقيم فهو يزداد بعدًا عن الغاية كلما جد في السير ، وأي خذلان أكبر من كون
سعي المرء واجتهاده مبعدًا له عن غايته ومراده ، لا يعرف الحق بقائله وكونه
صديقًا أو عدوًّا ، ولا بكونه يستلزم تعظيم كبير ومرضاته ، أو عدم ذلك ، وإنما
يعرف الحق بذاته ، فمن رعى هذا حق رعايته ، رجي له التمييز بين الحق والباطل،
والتزييل بين النافع والضار ، فاحفظ هذا الميزان ، وانظر ما يرجح فيه مما سيُلقي
عليك من الآراء والأقوال .
(الأهرام ) و(المقطم) تتفقان على أن الدعوة إلى (الجامعة الإسلامية) باسم
الدين ، مُضرة وغير موصلة إلى الغاية ، وأنه لا سبيل إلى ترقي الأمة الإسلامية إلا
باتباع خطوات أوروبا كما فعلت اليابان ، و(المؤيد) رد عليهما قولهما الأول ، ولم يبد
رأيًا جديدًا ، إلا أنه وافق على أن مسلك الكتَّاب المسلمين في الدعوة الدينية مفيد ،
كما أن الأخذ بالفنون والصنائع الأوروبية مفيد مع ذلك ، وذكر في كلامه عن
(الجامعة الإسلامية) مقالة لبعض أفاضل كتاب الهند نقلت في (المؤيد) من نحو شهر،
وذكر أنه موافق على كل ما جاء فيها ، وخصص بالذكر اقتراح عقد مؤتمر
إسلامي في دار الخلافة العظمى ، وقال : إن (المؤيد) كان قد سبق إلى اقتراح هذا
المؤتمر منذ أربع سنين ، ومن الآراء التي تناقلتها الكتاب فكانت مسلمة عند أولي
الألباب : تعميم التربية والتعليم - إنشاء الجمعيات والشركات والمنتديات العلمية
والأدبية - تكثير الجرائد باللغات التي ينطق بها المسلمون - اتحاد الحكومات
الإسلامية - العناية بأمر القوة الحربية - تعليم النساء بخصوصهن .
ومهما تخالفوا وتناقشوا ، فلكلٍّ وجه ، وقد جمعنا بين الأقوال في مقالة نشرت في
(المؤيد) حديثًا ، ولكن قد ظهر في ( المقطم ) قول جديد في مقالة نسبت إلى
( مسلم حر الأفكار ) لم يتابع به قائله مسلمًا ، ولن يتابعه عليه مسلم ؛ لأنه ناسفٌ
لبناء الدين الإسلامي ، ومقوض لعمود بنائه ، وهو زعم أن الدين والدولة أمران
متبائنان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر .
ولقد وجد للإسلام أعداء اجتهدوا في كل عصر بمحوه أو إضعافه ، منهم من
حاول إفساد العقائد بالتأويل ، ومنهم من وضع الأحاديث الكاذبة ، ومنهم من سهل
للملوك طريق الاستبداد ، ومنهم ومنهم ، ولكن مجموع مفاسدهم ومضراتهم لن تبلغ
بعض ما يرمي إليه هذا القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس ، فهو أبلغ
قول يشير إلى أحكم رأي لمحو السلطة الإسلامية من لوح الوجود ، قاتل الله قائله
ولا كثر فيمن يدَّعون الإسلام من أمثاله ، وكفى بمقالتنا التي صدرنا بها العدد ردًّا
عليه ، ولدينا مزيد .
هذا فإذا وزنت سائر الآراء بالميزان الذي وضعناه آنفًا ، يظهر الراجح
والمرجوح من سائر الأقوال .
يظهر لك من تلك الآراء ما لا يقوّم رأيًا واعتقادًا ، ولا يرشد إلى عمل نافع
يرجى القيام به ، وذلك كعقد مؤتمر في الآستانة العلية ، على أن ( المنار ) كان قد
اقترح في مقالات ( الإصلاح الديني ) التي نشرت في أوائل شعبان من السنة
الماضية تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون مقرها في مكة المكرمة ،
ولها شعب في سائر البلاد الإسلامية ، وجريدة مخصوصة ، أو جرائد ، وبينا هناك
وجوه ترجيح مكة على الآستانة ، كما بينا أصول وظائف الجمعية وأعمالها ونتائجها،
أما الأصول فهي التوحيد في العقائد ، والتعاليم الأدبية التهذيبية ، والأحكام
القضائية والمدنية ، واللغة ، وأما الأعمال ، فأهمها تلافي البدع والتعاليم الفاسدة ،
وإصلاح الخطابة ، والدعوة إلى الدين ، وأما نتائجها ، فأهمها اتحاد الحكومات
الإسلامية ، وكل قول فصلناه تفصيلاً .
وإذا ارتقينا في الأسباب ، وسبرنا أعماق الأقوال والآراء ، ننتهي إلى القول
بأن سبب النهضة الذي يجمع الأسباب كلها ، هو تعميم التربية العملية والتعليم
الصحيح من الوجهة الدينية الجامعة لمصالح المعاش والمعاد ، وهو ما صرحنا به
في فاتحة العدد الأول من (المنار) وأقمنا عليه البرهان في العدد الثاني ، وجرينا
في سائر الأعداد إلى الآن على تفصيل إجماله ، وبيان إبهامه ( خلافًا لما قاله
مصباح الشرق) وأكبر عقبة أمامنا في هذا الطريق هي ندرة الرجال القادرين
على التعليم الذي نريده والتربية التي نبتغيها ، ومع ندرتهم لا تعرف الأمة قيمتهم ،
ولا تنيط بهم ما خلقوا لأجله ، فالجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي ، وكل ما
يرجوه الإسلام ، متوقف على وجود الرجال العارفين بحاجة الأمة ، وإناطة الأعمال
بهم ، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثالهم ، وينفع أمتنا بعلومهم وأعمالهم .
 
12 ربيع الثاني - 1317هـ
19 أغسطس - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الدين والدولة
أو الخلافة والسلطنة

ارتأى بعض من كتب في ( الجامعة الإسلامية ) أن هذه الجامعة تتوقف على
الفصل بين الدين والدولة ، وبين الخلافة والسلطنة ، بأن يكون الخليفة رئيسًا روحيًّا،
والسلطان رئيسًا سياسيًّا لا علاقة له بالدين ، واقترح أصحاب هذا الرأي من كتاب
النصارى على كتاب المسلمين أن يكتبوا مبينين رأيهم فيه ، وها نحن أولاء قد
لبَّينا طلبهم ، ونبدأ ببيان معاني هذه الألفاظ ، فنقول :
( الدين )
عرَّفه علماء المسلمين بأنه وضع إلهي ، سائق لذوي العقول
باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل ، وإن شئت قلت : إلى سعادتهم
الدنيوية والأخروية . وقواعده عندهم ثلاث : تصحيح العقائد ، وتهذيب الأخلاق ،
وإحسان الأعمال ، والأعمال قسمان : عبادات ، ومعاملات ، ومن الثاني : الأحكام
بأنواعها ، قضائية ومدنية ، وسياسية وحربية ، ومن الناس من جعل الأحكام قسمًا
مستقلاًّ بنفسه ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، والدين عند النصارى هو - كما في
دائرة المعارف - عبارة عن مجموع النواميس الضابطة لنسبة الإنسان إلى الله ، أو
يبين صفات لتك النسبة ، وهو كما ترى لا علاقة له بالأمور الدنيوية ، ولا بالأحكام
والسلطة ، ومن المشهور أن الديانة النصرانية مبنية على الخضوع لأية سلطة
حكمت أصحابها ، لِما في الإنجيل من أن سلطة الملوك إنما هي على الأجسام الفانية،
وأن سلطة الدين على الأرواح فقط ، فيجب على كل متبع لهذا الدين أن يدين لكل
سلطة ، ويذعن لكل شريعة حكمته ، بخلاف الدين الإسلامي ؛ فإنه مبني على
السلطة والغلب ، وأن يحكم العالم كله بشريعته ، وإن لم يدينوا كلهم به ، إذ لا سبيل
إلى اتحاد النوع الإنساني وجعله أمة واحدة إلا بإحدى الوحدتين : وحدة الاعتقاد ،
ووحدة الحكم العادل الذي يساوي بين الجميع ، وقد بيَّنا هذا في العدد الأسبق فلا
نعيده ، فيجب على المسلمين أن لا يدينوا إلا لمن كان على دينهم ، وإذا حاول أجنبي
العبث باستقلالهم ، ودخل فاتح إلى بلادهم يتعين عليهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً ،
ويقاتلوا نساءً ورجالاً حتى يدفعوا العدو ، أو يفنوا عن آخرهم ، بل يجب عليهم أن
يسعوا في نشر دينهم ، ورفع لواء سلطتهم حتى تزول الفتنة والشرك من الأرض ،
ويكون الناس أمة واحدة ، تجمعها رابطة الاعتقاد الحق والحكم العادل ، أوالثاني فقط
كما قدمنا ، وبهذا الأخير كان الإسلام لا إكراه فيه ، ولا تنافي سلطته تقدم غير
متبعيه ، فضلاً عن إيذائهم وهضم حقوقهم { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ } (الممتحنة : 8) .
( الدولة )
لهذه الكلمة إطلاقان ، فتطلق على سلسلة من الملوك تجمعهم أسرة واحدة أو
جنس واحد ، يحكمون مملكة من الممالك ، يقال : دولة الأمويين ، ودولة العباسيين
والعثمانيين ، كما يقال : دولة الفرس ، ودولة الرومانيين ، وتطلق على الحكومة
والسلطة ، فيقال : الدولة الفرنساوية ، ويعني به حكومتها الحاضرة في مجموع
بلادها ، والحكومة في أصل اللغة : مصدر حَكَمَ ، واسمٌ مِن تَحَكَّم بمعنى فصل
الخصومة ، وفي العرف عبارة عن السلطة ورجالها القائمين عليها .
( الخلافة )
هي في الشرع الإسلامي النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة
الدين وسياسة الدنيا ، فهي جامعة للرئاستين معًا ، ويجب تفويض الأمور العامة إلى
الخليفة ، ولا تصح الأحكام في السعة إلا إذا كانت صادرة عنه مباشرة ، أو بواسطة
نوابه ، قال في الأحكام السلطانية : والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء :
( أحدها ) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ؛ فإن نجم
مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة ، وبين له الصواب ، وأخذه بما
يلزم من الحقوق والحدود ؛ ليكون الدين محروسًا من خلل ، والأمة ممنوعة من زلل.
( الثاني ) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين ، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم
النصفة ، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم . ( الثالث ) حماية البيضة والذب
عن الحريم ؛ ليتصرف الناس في المعايش ، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير
بنفس أو مال ، و ( الرابع ) إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك ،
وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
و ( الخامس ) تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة ، حتى لا تظهر
الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا ، و (السادس )
جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم ، أو يدخل في الذمة ؛ ليقام بحق الله تعالى
في إظهاره على الدين كله ، و ( السابع ) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه
الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف ، و (الثامن) تقدير العطايا ،
وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا
تأخير ، و ( التاسع ) استكفاء الأمناء ، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من
الأعمال ، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة ، والأموال
بالأمناء محفوظة ، و ( العاشر ) أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ؛
لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو
عبادة ، فقد يخون الأمين ويغش الناصح ، وقد قال الله تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ } ( ص : 26 ) فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة ، ولا عَذَره في اتباع الهوى ، حتى وصفه بالضلال ، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه
بحكم الدين ومنصب الخلافة ، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعٍ ( لعله مسترعى )
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) . اهـ ،
فهذه وظائف الخلافة بالإجمال .
( السلطنة )
كلمة أخذها المولدون من لفظ ( سلطان ) ويعنون بها الدولة أو الحكومة ،
يسمى حاكمها الأكبر سلطانًا ، ولم يطلق لقب السلطان على أحد من خلفاء الأمويين
والفاطميين والعباسيين ، وإنما حدث هذا اللقب في طور ضعف الخلافة
العباسية الذي كان من أثره افتئات العمال في الأقاليم على الخلفاء ، واستبدادهم
بالأمر من دونهم ، واختراع الألقاب الضخمة وتحليهم بها ، ثم جعل الخلافة اسمًا
مهملاً ، ليس لأربابها من الأمر شيء ، إلا نحو ذكر أسمائهم في الخطب ، وما هو
بالأمر المهم في الدين ولا في الدنيا ، وكان من تلك الألقاب الضخمة التي تلقب بها
العمال والأمراء الذين استبدوا على الخلفاء لقب ( سلطان ) وأول من تلقب به
الأمراء المستقلين في عهد الخلافة العباسية محمود بن سبكتكين الغزنوي الفاتح
الشهير في القرن الرابع للهجرة الشريفة .
مَن تدبر ما شرحناه من معاني هذه الكلمات الأربع يتجلى له أن الدين
الإسلامي جامع لمصالح المعاش والمعاد ، ومبني على أساس السلطتين الزمنية
والروحية ، وأن الديانة النصرانية على خلاف ذلك ، وأن الخليفة هو رئيس
المسلمين القائم على مصالحهم الدينية والدنيوية ، وأن كل حكومة تخرج عن طاعته
الشرعية فهي منحرفة عن صراط الإسلام ، وأن القول بفصل الحكومة والدولة عن
الدين هو قول بوجوب محو السلطة الإسلامية من الكون ، ونسخ الشريعة الإسلامية
من الوجود ، وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم ممن يسمونهم
فاسقين وظالمين وكافرين ؛ فإن القرآن العزيز الذي هو أساس الدين يقرع دائمًا
آذانهم ، بل يناديهم من أعماق قلوبهم قائلاً بلسان عربي مبين { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } ( المائدة : 44 ) { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ } ( المائدة : 45 ) { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } ( المائدة : 47 ) .
إذا تمهد هذا ، فنقول للذين يدعوننا إلى فصل الدين عن الدولة ، والتفريق بين
السلطة والخلافة لأجل تأييد ( الجامعة الإسلامية ) إن كنتم تدعوننا هذه الدعوة
جاهلين بمعنى هذه الألفاظ عندنا ، فها نحن أولاء قد بيناها لكم فارجعوا عن دعوتكم ،
فقد علمتم أن قياس الإسلام على النصرانية قياس مع الفارق ؛ فإن فصل السلطة
الروحية عن السلطة الزمنية هو أصل النصرانية ، وقد كان رؤساء الدين تعدوا
الحدود ، وتسلقوا عروش السلاطين والملوك ، مخالفين لصاحب الدين الذي :
قد جاء لا سيف ولا رمح ولا ... فرس ولا شيء يباع بدرهم
يأوي المغارة مثل راعي الضأن لا ... راعي الممالك في السرير الأعظم
فلا بدع إذا ترقّى الدين بانصراف رؤسائه إلى خدمته ، وتركهم الاشتغال بما
ليس منه في شيء .
ونحن والنصارى في هذا الأمر على طرفي نقيض ؛ فإننا إذا تَلَوْنَا تِلْوَهُم فيه
نكون قد تركنا نصف ديننا الذي هو السياج الحافظ للنصف الباقي ، كلا إن الدين كله
يكون بهذا العمل عرضة للاضمحلال ، ومهددًا بالزوال ، لا جرم أن ما تدعوننا
إليه هو أقرب طريق لإعدام ( الجامعة الإسلامية ) فكيف جعلتموه طريق إيجادها
وهو أقوى علل شقائها ، فأني يقنعوننا بأنه علة إسعادها ؟
وإن كنتم تدعوننا إليه عن بينة وعلم ، ووقوف على حقيقة الحكم ، خدمة لمن
فُتِنْتم بمدنيتهم ، واتصلتم بهم بجاذبية تعليمهم وتربيتهم - فاعلموا أن العلة لم تهبط بنا
إلى هذا الحضيض الذي يقال فيه : ( حال الجريض دون القريض ) وأن الجهالة ما
امتلخت أحلامنا وأزاغت أبصارنا ، ولا رمتنا بالأفن وضيق العطن ، بحيث
صِرنا نختبل بهذه الوساوس ، ونختلب بتلك الهواجس ، أو ننخدع لذي ( خواطر
خواطر ) ونغتر بكلام مارق غادريصف نفسه بأنه ( مسلم حر الأفكار ) وما
جاءت حريته إلا من رق الكفار ، فإن كان اتخذ لقب المسلم ذريعة لهدم منار الشريعة
فكأين من منتسب مثله للإسلام ينتهك حرماته بالفعل لا بالكلام ، ويساعد الأجانب
على نقض أساسه وإطفاء نبراسه متبجحًا ، بأنه من الأحرار المتمدنين ، البرآء من
لوث التعصب للدين .
ربما كان الحامل لبعض الكتاب المسيحيين على اقتراح ما ذُكِرَ هو اعتقادهم
بأن زوال السلطة الشرعية الإسلامية هو الذي يساوي بين طائفتهم وبين المسلمين ،
ويخمد نيران الغلو في التعصب ، فيتفقون على إعلاء شأن الوطن ، ويخدم كل دينه
من الوجهة الروحية التي لا مثار فيها للتنافر ولا مبعث للتنافس والتفاخر . ويسهل
علينا أن نبين لهم خطأهم في اعتقادهم هذا فنقول :
( 1 ) إن بناء الشريعة الإسلامية قام على قاعدة العدالة والمساواة بين
المسلمين وغيرهم في الأحكام والحقوق المعبر عنها بهذه الجملة التي يتناقلها الإسلام
خلفًا عن سلف ، وهي ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) وقد دلنا التاريخ على أن
الحكومات الإسلامية كانت تراعي هذه القاعدة بحسب تمسكها بالدين قوة وضعفًا
ومن قابل بين مساواة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا صهر النبي وربيبه،
وابن عمه ، برجل من آحاد اليهود في المحاكمة ، وانتقاد علي عليه بقوله له : ( يا
أبا الحسن ) وعده التكنية إخلالاً بالمساواة لما فيها من التعظيم ، وبين ما هو جارٍ
اليوم في فرنسا من التحامل على دريفوس وهو من أكابر عظماء اليهود ، حتى إنهم
حاولوا قتل وكيله الذي يحامي عنه ، وهم أصحاب العلم الذي ينطق بالحرية والعدالة
والمساواة - يظهر له الفرق بين المسلمين في بدايتهم والأوروبيين في نهاية مدنيتهم .
فالشريعة في نفسها عادلة ، ولا يضر المسيحيين أن مواطنيهم المسلمين يعتقدون أنها
سماوية ، بل هو ينفعهم كما يأتي ، وهم لا فرق عندهم بين الشرائع ، إذ دينهم
يوجب عليهم اتباع أي شريعة حكموا بها .
( 2 ) إن الترقي الديني والمدني الذي نقصده من إحياء(الجامعة الإسلامية)
يتوقف على التهذيب وقيام الأفراد بما عليهم من الحقوق والواجبات لمن يعيشون
معهم ، وهذا القول لا يخالف فيه أحد ، ومعلوم أن المسلمين لا يعتقدون بحق ولا
واجب إلا إذا كان مبينًا في شريعتهم ومأخوذًا من أصول دينهم ، فإذا فصل بين
الدين والدولة كان جميع ما تكلفهم به الدولة من الحقوق والواجبات غير واجب
الاتباع في اعتقادهم ، فإذا أخذوا به في العلانية لا يأخذون به في السر ، ولا يتم
تهذيب الأمة ما لم يكن الوازع لها عن الشر والحامل لها على الخير ثابتًا في نفسها
مقررًا في اعتقادها ، فخير للمسيحيين أن يحكم المسلمون بشريعة ودولة توجب
عليهم احترامهم ، والقيام بحقوقهم سرًا وجهرًا ، وبدون هذا يتضرر المسيحيون ،
ولا يرتقي المسلمون ، بل يتدلون ويهبطون كما علم بالاختبار والمشاهدة ، فقد أنبأ
التاريخ أن مبدأ الخلل والضعف الذي ألمّ بنا كان إهمال وظائف الخلافة والخروج
بها عن معناها الذي هو حراسة الدين وسياسة الدنيا ، ولما ضعف الخلفاء عن القيام
بالوظيفتين لجهلهم وانغماسهم في الترف والرفاهية استبد العمال بسياسة الدنيا ،
فكانوا ملوكًا وسلاطين ، وأهملت حراسة الدين فلم يكن لها زعيم يقيم السنن ويميت
البدع ، غير ما كان يأتيه بعض صلحاء الملوك أحيانًا ، فتمزق بهذا نسيج الوحدة ،
وتفرق شمل ( الجامعة الإسلامية ) حتى وصلت إلى ما نحن فيه الآن ، وكان هذا
أمرًا اقتضته طبيعة العمران ، ولن يعود للإسلام مجده إلا بإحياء منصب الخلافة
واتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون وجوب الخضوع له سرًّا وجهرًا ، ولا إمام
اليوم للمسلمين بهذا المعنى إلا القرآن الكريم ، فيجب على من يهمه ترقية شؤونهم
أن يدعوهم به إلى العلم والعمل ، ونفض غبار الجهل والكسل ، والقيام بمصالح
المعاش والمعاد على ما تقتضيه سنن الترقي والإسعاد ، فهو إمام كل إمام ، وكما كان
المبدأ في ترقيهم كذلك يكون الختام .
 
26 ربيع الثاني - 1317هـ
2 سبتمبر - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

تحريف الكلم عن مواضعه
( رد على مسلم حر الأفكار )
يعلم القراء ما كان من خوض الجرائد في مسألة ( الجامعة الإسلامية ) وأن
بعض كتاب النصارى ارتأوا أن تَرقِّي المسلمين يتوقف على الفصل بين الدين
والدولة ، والخلافة والسلطنة ، كما هو مقتضى أصول دينهم ، وخالفهم كتاب
المسلمين في هذا ؛ لأنه مخالف لأصول الديانة الإسلامية وفروعها ، ولكن نشر في
( المقطم) مقالتان طويلتان بإمضاء : ( مسلم حر الأفكار ) وافق فيهما صاحبهما
كتاب النصارى وجعل قاعدته فيها أن تكون وظيفة الدولة والحكومة ( تأمين الناس
على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ، وسن القوانين العادلة لهم ) وهذا انحراف عن
صراط الإسلام وتحول عنه ، لا يقول به إلا مَن لا يعرف ما هو الإسلام ، أو مَن
يرى أن نجاح المسلمين وترقيهم إنما يكونان بتركهم أصل دينهم والأخذ بأصل
النصرانية في هذه المسألة ، وقد أسهب ( المنار ) في الرد على هذا الكاتب وبين
حكم الدين الإسلامي في المسألة ، والفرق بينه وبين الدين المسيحي ، وأثبت أن كل
بلاء حلَّ بالإسلام والمسلمين فمرجعه إلى ما طرأ على الخلافة والخلفاء ، ففصل بين
السلطة الدينية والسياسية ، وأنه لا يعود للإسلام كمال مجده إلا برجوع هذا الأمر
إلى نصابه ، وإناطته بمن يقوم به حق القيام ، فإذا سلَّمنا لحضرة الكاتب ( أن الغاية
التي تسعى إليها الدولة في زماننا هذا دنيوية محضة ) وهي ما مر عنه آنفًا من
التأمين وسن القوانين ، فيجب علينا أن نطالبها بحفظ الدين والعمل بالشرع دون ما
يخالفه من القوانين لا أن نشايعها على تعدي حدوده وإبطال شعائره تقليدًا لديانة
أخرى تعتبر أن الدولة والدين أمران متبائنان يفترقان ولا يجتمعان ، ويجب علينا
أيضًا أن نقف مع ذلك عند هذه الحدود العادلة ، ونقوم بتلك الشعائر الشريفة ونربي
عليها أبناءنا وبناتنا إلى أن يكون للأمة رأي عام تقدر به على إلزام دولتها بالتزام
دينها وشريعتها .
ووجهة (المنار) في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي الأمة الإسلامية دون
حكوماتها ؛ لأن بعض تلك الحكومات أجنبية لا كلام لنا معها ، والأمراء
والسلاطين من المسلمين قلَّما يلتفتون لإرشاد جريدة ، أو يجيبون مطلب رجل إنما
شأنه في لسانه وقلمه ، فإذا خافوا تأثير كلامه في بلادهم منعوه دونها .
وبعد انتشار ( المنار) - المشتمل على الرد - بأسبوع رأينا في (المقطم)
مقالة بإمضاء ذلك الكاتب ( مسلم حر الأفكار ) يرد فيها على ( المنار) لكنه حرَّف
الكلم عن مواضعه ، ونسب إلينا ما ليس لنا ، فزعم أننا حملنا عليه حملة منكرة ؛
لأنه نصح لأبناء ملته في ( المقطم ) أن يجعلوا اتكالهم على أنفسهم في تدبير
مصالحهم ، ولا يلقوا كل اعتمادهم على الحكومة ، وأن يراعوا دوران الزمان وتغير
الأحوال طبقًا لمقتضى العمران... إلخ ، وأننا أنكرنا الخلافة العثمانية ، والصواب أن
الحملة المنكرة إنما كانت لأجل المسألة المتقدمة التي زعم أن ( المنار) موافق له
فيها ، و ( المنار) أول جريدة أنشئت في العربية تحث الأمة على الاعتماد بعد الله
على نفسها إلى آخر ما تقدم آنفًا ، ولنا في هذا مقالات ونبذ كثيرة في المجلد الأول
وفي المجلد الثاني ، وما وافقناه ولن نوافقه على جعل الفصل بين الدين والدولة ،
وإقرار الدولة على ترك الشريعة السماوية وقيامها بتشريع جديد - من اعتماد الأمة
على نفسها المطلوب منها ولا على جعله إياه من الأمور التي يجب أن تراعي به
الأمة أحكام الزمان وتغيير الأحوال ، فإننا نعتقد أن شريعتنا صالحة لكل زمان ،
ويمكن اتباعها في كل حال بشرط أن لا تتقيد بقول مجتهد واحد من علمائها .
أما احتجاجه علينا بما شرحناه من سبب ضعف الخلافة واستبداد العمال
بسياسة الدنيا ، وإهمال حراسة الدين ، وقولنا في إثر ذلك : ( فتمزق بهذا نسيج
الوحدة ، وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) إلى قولنا: ( وكان هذا أمرًا اقتضته
طبيعة العمران ) فهو حجة عليه لا له ، وظاهر في خلافه لا في وفاقه ، وبيانه من
وجهين ؛ أحدهما : إننا صرَّحنا بأن خروج السلطة الدنيوية من أيدي الخلفاء واستبداد
السلاطين فيها هو الذي مزق ( الجامعة الإسلامية) كل ممزق ، فكيف نعود فنقول
اليوم بأن ما كان سبب النقض والانفصام ، يكون اليوم سبب الفتل والإبرام ؟ وثانيها:
إن ما تقتضيه طبيعة العمران لا يكون ضربة لازب إلا إذا وجدت أسبابه ودامت
علله ، ويدلنا علم الاجتماع على أن للقوة والترقي نواميس ، وللضعف والتدلي
نواميس أخرى ، وأن لكل أمة من الأمم شؤونًا مخصوصة في تقدمها وتأخرها ،
وصعودها وهبوطها وأفادنا التاريخ - وهو مورد علم الاجتماع ومصدره - أن
الأمة الإسلامية ما بلغت ذلك السؤدد الرفيع وما أشرفت على العالم بالأمر والنهي
من شواهق العزة والسلطان ، وما أشرقت على كرة الأرض بالعدل والإحسان من
سماء العلم والعرفان إلا بدينها من حيث أنه جمع بين السلطتين في رئيس واحد مقيد
بالشريعة العادلة التي يدين لها هوومرءوسوه سرًّا وجهرًا ، ويرون اتباعها إيمانًا ،
والإعراض عنها كفرًا ، وأن ذلك السؤدد ما تداعى سوره ، وزلزل عرشه
وسريره إلا بما ذكرنا من إهمال وظيفة الخلافة التي ضمت السيادة من قطريها ،
وجمعت للسعادة بين طرفيها ، وكل واحد من الأمرين اقتضته طبيعة العمران ، ولم
تخرج فيه الأمة عن نواميس الأكوان ، فكيف نظر ( ناصحنا حر الأفكار ) بإحدى
العينين ، واختار لأمته أمرَّ الأمرين ؟ هذا ملخص ما قلناه في المسألة من حيث هي
اجتماعية إسلامية ، وجوابنا عن شبهته فيه ، وهو صريح في أننا نحن وإياه على
خلاف لا على وفاق .
وما كان لنا أن نتكلم في مسألة اجتماعية من الوجه النظري من غير أن نبين
وجهتها من حيث الوجود والواقع ؛ لئلا نغش الناس بإيهامهم أننا نطلب منهم ما ليس
في أيديهم ، كإمكان توحيد السلطة الإسلامية في هذا العصر بالنسبة لما نحن فيه من
البحث ، ولذلك بيَّنا في آخر تلك المقالة ، مقالة ( الدين والدولة والخلافة والسلطة )
أن السعي في إعادة مجد الإسلام متوقف على اتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون
الخضوع له سرًّا وجهرًا ، ليس من العبث ( كما يدعي حر الأفكار ) فإنهم إذا لم
يكونوا متفقين على خليفة واحد فهم متفقون على القرآن ، وهو الإمام الأعظم
والمصلح الأول الداعي إلى كل هدى ، والناهي عن جميع أسباب الردى ، وقلنا :
إنه يجب على من يهمه ترقية شؤون المسلمين أن يدعوهم بالقرآن إلى العلم والعمل
والقيام بمصالح المعاش والمعاد مع مراعاة سنن الكون في السير ، فحرَّف ( حر
الأفكار ) الكلم عن مواضعه ، وزعم أنني أنكرت ( أن للمسلمين اليوم خليفة حقيقيًّا )
و( أن سلاطين الدولة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ) والحق أنني إنما
أنكرت وجود إمام غير القرآن يخضع له جميع المسلمين سرًّا وجهرًا ، وهذا لا
ينافي وجود خليفة حقيقي يخضع له البعض أو الأكثر دون الجميع ، ومعلوم لكل أحد
أن مسلمي مراكش وإيران لا يخضعون لخلافة آل عثمان ، فإذا كان الإخبار بهذا
يدل على الاعتقاد ببطلان خلافة سلاطين آل عثمان ، فالإخبار بأن بعض الناس
ينكر وجود الله تبارك وتعالى يدل على اعتقاد المخبر عنهم بأنه ملحد مثلهم ، والحق
أن حاكي الكفر ليس بكافر ، وأنني ما تعرضت في مقالتي تلك للخلافة العثمانية بنفي
ولا إثبات ، لا تصريحًا ولا تلويحًا وأن ( حر الأفكار ) حرَّف الكلم ، ورماني بهذه
التهمة عن سوء قصد ، لا عن سوء فهم فيما يظهر ، والله أعلم بالسرائر .
فتبين للبيب مما بسطناه أن صاحب ( المنار) ما وافق ولن يوافق ذلك الملقّب
بـ ( مسلم حر الأفكار ) وأغرب من زعمه الموافقة وأعجب أن كتابته تشيد عليه
إحدى الغميزتين : عدم فهم الإسلام ، أو اعتقاد أن تركه سعادة للأنام ، وهو مع ذلك
ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين ، والتبجح بالانتماء إليهم ، والأخذ
بتعاليمهم ، وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم ، أو الحمل على هذا ، حيث قال بعد ما زعم أنني موافق له على ما اتهمته فيه بالغدر والمروق ما نصه : وأغرب من ذلك
وأعجب أن صاحب ( المنار) يعيرني بقوله عني ( يصف نفسه بأنه مسلم حر
الأفكار ، وما جاءت حريته إلا من رق الكفار ، فمن هم الكفار الذين يعنيهم ؟
الأوروبيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم أم الإنكليز المحتلون لهذه
الديار ) اهـ .
وأقول في الجواب : ( أولاً ) إنني ما عبته على الدرس في مدارس
الأوربيين ؛ بل لا أعرف أين دَرَس ، ولا أعرف شخصه الكريم أيضًا . ( ثانيًا ) إن
احتلال المحتلين لهذه البلاد أمر سياسي عسكري لا علاقة له بالكفر والإيمان ، ولا نعلم
عن الإنكليز أنهم أكرهوا أحدًا على ترك دينه ، اللهم إلا أن يُظهر مارق كفره
الذي أشربه من قبل ، اعتزازًا بهم ، واعتمادًا على منعهم قومه من إيذائه أو امتهانه.
( ثالثًا ) إن الدين الذي ينتسب إليه ويتكلم في ترقي أهله يسمي كل من لم يكن مسلمًا
بالكافر ، وهذا الاستعمال مستفيض في الكتاب والسنة وكتب الأئمة ، وهو اصطلاح
شرعي لم يقصد به الذم والإهانة ، كما بيّنتُ ذلك في العدد الأول من ( المنار) معززًا
بالشواهد من كتب الدين واللغة . ( رابعًا ) إنني أنا قد ذكرت في ذلك العدد أيضًا أن
لفظ الكفر صار من أقبح ألفاظ السب والشتم ؛ لأنه يطلق في اصطلاح كُتَّاب العصر
على من لا دين له ، أو على من ينكر وجود الباري تعالى ، وأنه ينبغي لذلك أن
يخصص في الكتابات العصرية بهذا المعنى ، وذكرت هناك صورة فتوى شرعية
بعدم جواز مخاطبة الذمي بـ ( يا كافر ) إذا كان يستاء من ذلك ، ولكن الاصطلاحات
الشرعية لا تتغير ، ومثل هذه المسألة إنما خصصت بالحكم الشرعي المقرر
بالإجماع ، وهو عدم جواز إهانة الذمي ونحوه ، كالمعاهد والمستأمن ( خامسًا ) إن
الذي أملى على الفكر كلمة ( رق الكفار) هو النكتة البديعية ، فإن في العبارة
الطباق بين الرق والحرية ، والجناس المطلق بين الأفكار والكفار ، وأعني بالكفار
الذين يتعلمون العلوم الحديثة وهم ليسوا على شيء من الدين غير ما يتلقونه بالتقليد
الناقص وما يرونه بالمشاهدة ممن يعيشون معهم فيخرجون على غير دين بالكلية ، لا
سيما إذا كانوا مسلمين وتعلموا في مدارس أجنبية ، وذلك أن التلميذ المسلم لا
يتعلم في المدارس الأجنبية الديانة النصرانية فيكون نصرانيًّا ، ولا يعرف الإسلام
فيكون مسلمًا وهؤلاء هم أضر على المسلمين من جميع العالمين ، ويصدق
على المارقين منهم لفظ الكفر بمعنييه الشرعي والاصطلاحي .
هذا وإنني أختم كلامي بالنصيحة لحضرة الكاتب ، كما ختم كلامه بالنصيحة
لي ، وأحب كما يحب أن أعيش معه ومع جميع الناس بحب وسلام ، فأقول : إذا
كنت تحب أن تتكلم في الشؤون الإسلامية ، فيجب عليك أولاً أن تقف على علوم
الشريعة من عقائدها ، وأصولها وفروعها ، وتفسيرها وحديثها ، وفقهها وآدابها ؛
لتكون على بصيرة من أمرك وأمر ما تدعوإليه ، كما هو شأن المسلم ، بمقتضى قوله
تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ( يوسف :
108 ) وإلا فالزم شأنك مكتفيًا بعلومك الأوروبية ، والسلام على من اتبع الهدى .
 
16 جمادى الآخرة - 1317هـ
21 أكتوبر - 1899م
الكاتب : أحد الأفاضل في بتاوي الجاوه
__________
الشكوى من ظلم هولندا
لأحد الأفاضل في بتاوي الجاوه
لقد سرَّني وسرَّ جميع المسلمين في هذه البلاد ما نشرته جريدة ( معلومات )
في عددها131 المؤرخ في 23 ربيع الآخر من هذه السنة جوابًا عن الرسالة الواردة
إليها من جاوه بتاوي وقد أصابت الغرض الذي نرمي إليه ، وجميع المسلمين واثقون
بقولها ومرتقبون لنتيجة ما كتبته في عدد 94 في شأن التابعية العثمانية ، وما تقرر
بين دولتنا العلية وهولندا ، ويلهج بقرب وفاء الوعد النساء والأطفال فضلاً عن
الرجال ، أما هولندا فقد زادها عُتوًّا ونفورًا ، وأنشأت تموه وتعلن أن ما جاء في عدد
94 من معلومات قول لا يقصد به الفعل و أمين بك شهبندر الدولة العلية ساكت على
ذلك فاعتُبر مُقِرًّا له ، وفي الشهر الماضي كتبت جريدة ( بنتغ بتاوي ) في عددها
188 المؤرخ في 18 ( أكوس ) سنة 1899م كلامًا أساءت فيه الأدب مع الحضرة
الشاهانية اقشعرت له قلوب العالم الإسلامي في هذه البلاد ، وكتبوا عرائض الحال
للشهبندر أمين بك وقَدّموا له عدد الجريدة المشتمل على الطعن .
نشكر لجريدة ( المنار ) ما كتبته في عدد 25 المؤرخ في 26 ربيع الثاني
جوابًا على الرسالة الواردة إليها من ( بتاوي - جاوه ) وما ذكرت من العقبات التي
أمام دولتنا العلية -أعزها الله إلى آخر الدوران- المانعة لها من إنقاذ المسلمين من
ظلم هولندا ، احتج ( المنار ) واعتذر عن الدولة العلية أولاً بأن أسطولها ناقص
يعوزه زيادة المدرعات ، وثانيًا بأن هولندا بعيدة في البر عن حدود الدولة العلية ،
وأنها لو كانت قريبة لدمرتها بمثل ما دمرت اليونان ، ونحن معاشر الجاويين
المسلمين نظهر في ( المنار ) وبواسطة كل من له غيرة على المسلمين ، أنه إذا
أرادت الدولة العلية إنقاذنا من ظلم هولندا ارتجّ لها العالم بأسره ، ونطلب من الدولة
بمرأى ومسمع من معتمدها أمين بك أولاً أن تحارب هولندا بالحجة والإقناع ، ثانيًا
أن باب المندب ليس ببعيد عن دولتنا العلية ، وحياة هولندا وموتها هناك ، ثالثًا
الضغط على رعاياها في الممالك المحروسة وإبطال امتيازات قناصلها حتى لا يبقى
لقنصل هولندا إلا المحافظة على بنديرة ( عَلَم ) دولته كما هو شأن قنصل الدولة
العلية في بتاوي ، فإنه لا يفوه ببنت شفة أمام الهولنديين دفاعًا عن رعايا دولته
وحفظًا لحقوقهم .
فإننا تحت ظلم هولندا يكال ويوزن لنا بالموازين والمكاييل الناقصة ، وقد
فضلت الهرباوين و اليابان علينا في الموازين أعني القوانين والامتيازات . ونحن
نعتقد أن دولتنا العلية أقوى في جميع الوجوه من اليابان ، وإن اليابانين منذ عهد
قريب حازوا الامتيازات من هولندا ، وكانوا يعاملون مِثلنا ولمّا رفعوا شكواهم إلى
( الميكادو ) أغاثهم حالاً وأنذر هولندا بأنها إذا لم تعامل رعاياه كمعاملة الهرباوين يعلن
عليها الحرب حالاً ، وعندما وصل الإنذار إلى والي بتاوي أمر حالاً بأن يعامل
اليابانيون في جميع مستعمرات هولندا كمعاملة الهرباوين في جميع الامتيازات .
وأخيرًا نستلفت أنظار دولتنا العلية أن ترحمنا وترق لما نحن فيه من الظلم
وأن ترسل إلى مياهنا ولو سفينة حربية اقتداء بالدول كي تقرّ أعين المسلمين وتطمئن
قلوبهم برؤية الهلال والعساكر الأهلية وما ذلك عليها بعسير ؛ فإنها هي المسئولة
عن ذلك بين يدي الله عز وجل بما لها من القوة في الوقت الحاضر ، وجميع
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها متمسكون بالسدة الملوكية ، والمرجو من
حضرات محرري الجرائد التركية والعربية ، والفارسية والهندية ، ومن له غيرة
على المسلمين أن ينادوا ويحرروا ويعلنوا ما نحن فيه من الظلم والاعتساف من
هولندا ؛ حتى يُسَخِّر الله لنا مَن يُحامي عنّا وأجر الكل على الله وحده ، والسلام .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الدولة والملة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر الدين
( المنار )
لو أن قناصل الدولة العلية في بلاد جاوه من الرجال المُحَنكين في السياسة ،
الصادقين في الخدمة ، لأمكنهم أن يُخففوا البلاء على المسلمين هناك ، ويحملوا
حكومة هولندا على إعطائهم حقوقهم كلها أو بعضها ، ولكننا بُلينا بقوم خونة يكون
أحدهم وكيلاً للدولة العلية ليحافظ على حقوق رعاياها فيتفق مع الحكومة المحلية
على أن يكتم عن دولته الحقيقة ، ويخبر عما يجري بخلاف الواقع ، يشتري بذلك ثمنًا
قليلاً { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون } ( البقرة : 79 ) أما
الوجوه التي ذكرها الكاتب فهي مما يُقال ويخطر بالبال ، ولكن هولندا تجيب الباب
العالي إذا هو احتج عليها بضياع حقوق رعيته أو سائر المسلمين في جاوه بأن أخبار
الجرائد كاذبة ، وأن الصحيح ما يقول القنصل الرسمي ، وقد علمنا أن القنصل يكتب
لدولته ما تحب الحكومة الهولندية وترضى ، وإذا وصل للدولة العلية خبر رسمي
صحيح ينطق بثبوت تلك المظالم واحتجت به تقابلها هولندا بالوعود الكاذبة حيث
هي آمنة من الإلزام بالقوة ، وأما التعرض لمراكب هولندا في باب المندب فهو لا
يجوز إلا إذا وقعت بين الدولتين حرب رسمية ، ولا مجال للحرب لما ذكرنا قبلاً
من بُعد بعض البلادين عن بعض وضعف أسطولنا ، وأما الضغط على رعايا
هولندا في الممالك المحروسة فهو يفيد لو كان لهولندا رعايا في بلاد الدولة العلية ،
ولكن هولندا دولة صغيرة إذا خرج بعض أهلها من بلادها للاتجار والكسب ،
فإنما يقصدون مستعمرتهم أو أرضًا غنية أخرى يسكنها قوم من جنسهم كجنوبي
إفريقيا ، ولا يوجد منهم في بلاد الدولة العلية إلا قليل ، على أنه يصعب على
هولندا أن تحرمها الدولة العلية الامتيازات الممنوحة لغيرها من دول
أوروبا لما فيه من الإهانة لها ، ولا نخال أن الدولة تفعل هذا ، وأما اعتقاد الكاتب
وغيره أن دولتنا أقوى من دولة اليابان فهو إن صح لا يلزم منه أن تعامل الدولة
العلية كما تعامل اليابان ؛ لأننا مُقِرّون بأنه لا سبيل للدولة إلى حرب هولندا للبعد في
البر وعدم استعداد أسطولنا لحرب البحر على أن بحرية هولندا ضعيفة أيضًا .
ونحن نرى أن يستصرخ إخواننا الجاويون العالم المتمدن بالكتابة في الجرائد
عامة والأوروبية خاصة بأن يبينوا فيها مظالمهم من غير تحامل ، ويحددوا فيها
مطالبهم تحديدًا وأخال أنه يوجد فيهم من يحسن الكتابة في اللغتين الإنكليزية
والفرنسوية .
ومع هذا فإننا لا نأتلي أن نستصرخ لهم مولانا السلطان الأعظم ، ونستنجد
عواطفه الشريفة ، ونستغيث بمراحمه ، ونستجدي مكارمه ، ونرغب إلى سائر
الجرائد الإسلامية بمساعدتنا على ذلك ، عسى أن يوفقه الله تعالى لحل هذا الإشكال
بطريقة لا تخطر على البال ، فتتحقق بجلالته وبدولته الآمال ، وعلى الله الاتكال .
وفي عدد اخر
27 شعبان - 1317هـ
30 ديسمبر - 1899م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
أشرنا في ( المنار ) الماضي إلى رسالة جاءتنا من سنغابور يذكر فيها صاحبها
تعدي هولندا على الآجينيين ، وعدم مبالاة الدولة العلية بهم ، وهم من أتباعها ، وقد
استغاثوا بإنكلترا فلم تلتفت إليهم على قربها منهم ، فإن بلدة فلفلان لاجي التابعة لها
على مسيرة يومين ونصف منهم ، وجميع معاملة تجارها معهم ، وقد تلفت أموالهم
بواسطة محاصرة هولندا للآجينيين ، وقال صاحب الرسالة : ( إن آجي جميعها في
حماية الدولة العلية من عهد ساكن الجنان السلطان سليم خان الثاني, وفيها مدافع صفر
عليها طغراء السلطان المومي إليه , نظرتُها بعيني ، وقد نقلتها دولة هولندا إلى بتاوي
في مبدأ الحصار ، وعندهم فرمان من ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان بأنهم
في حمايته مؤرخ في جمادى الأولى سنة1267 ) ويشكو صاحب هذه الرسالة من
رجل يسمى السيد عثمان بن عقيل ويقول : إن هولندا اتخذته صنيعة لها وعونًا على
تذليل المسلمين ، وقد جاءنا في البريد الأخير رسالة من جاوه فيها تفصيل عن
السياسة الهولندية هناك ، وشكوى من هذا الرجل ننشرها في العدد التالي إن شاء الله
تعالى .


-
19 رمضان - 1317هـ
20 يناير - 1900م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية
( من بتاوى )
لأحد الأفاضل :
حضرة اللوذعي البارع صاحب المنار الساطع :
إن ما نشرته جريدة ( المعلومات وثمرات الفنون ) وجريدتكم الغرّاء فيما يتعلق
بالحكومة الهولندية ومعاملتها للعرب من الظلم والجور والاحتقار والغمط والغمص
إلى ما لا يتناهى - لأمر واضح ولا وضوح الشمس في رابعة النهار ومعلوم عند
الحكومة المذكورة ، ونحن نتعجب أيضًا غاية العجب من تحاملها على من يكاتب
الجرائد وفحصها وبذل المجهود في معرفته والإعلان بأنها ستذيقه كأس عقابها ، فنحن
مهما كاتبنا الجرائد فلا نقول إلا الحق الصراح ، ومع ذلك نذكر الواقع والوقيعة
والشخص والمحل ، فلو كانت غير عالمة بذلك لأحضرت الأشخاص الذين سميناهم
وسألتهم عما جرى عليهم ، ولو أردنا سرد جميع الوقائع لاستدعى ذلك نشره في كل
طبعة من الجرائد واستغراقه الستة أعمدة فيها ، ولكن أوردنا أنموذجًا من تلك القبائح ،
ودونك قطرة من بحر , فأوله رجل يسمى الشيخ بلوعل ضربه اثنان من الهولنديين
اعتباطًا فرفع أمرهما إلى الحكومة فأُحضرا في غير مجلس الحكم ، فقيل للشيخ
بلوعل : إنهما لن يعودا إلى مثل ذلك ، وكذا الشيخ عبدالله حسان سبَّه بعض
المستخدمين في محل التلغراف سبًّا فاحشًا ، فقيل له مثل ما قيل للشيخ بلوعل ،
وكذا الشيخ علي مرصد في أثناء الطريق بدّد ما معه من الأقشة وسُب وضُرب فعومل
كالأولين ، وكذا الشيخ محمد بن علي مكارم دفعه بعضهم دفعًا عنيفًا حتى سقط مغشيًّا
عليه بدون سبب ، وكان المومي إليه شيخًا جليلاً فعومل بمثل أولئك ، فلم يقبل وأبى
إلا القصاص ، فطرد ولم تقبل له الحكومة كلامًا فلم يسعه إلا أن قوّض خيامه ورحل ،
وهيهات التعداد ، ولو أردنا تفصيل الحوادث حادثة حادثة للزم الحال إلى سِفر ، بل
إلى أسفار وأما عثمان بن عقيل فليته كان كفافًا لا لنا ولا علينا ، وكيف وهو باذل
جهده في أن تشد وطأتها الحكومة على العرب أبناء جنسه بأشد مما هي عليه ، بل لم
يزل يواعد العرب بالشر في المستقبل ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وجزى الله
الشيخ أحمد الخطيب المنكاباوي فيما قاله فيه خير الجزاء ، وأقسم بالله أنا لم نعرف
محملاً للخير نحمل عثمان عليه ؛ لأنه صرح على رءوس الأشهاد بحضرة الجم الغفير
بأن سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين لا يسمن ولا يغني من
جوع إنها لإحدى الكبر ومن أمهات العبر ما سمعنا بهذا في الملة الإسلامية . هذا
بعض ما جرى الآن , نستعطف مراحمكم أن تنشروه في جريدتكم ( المنار ) الأغرّ
كما هو شأن غيرتكم في الذب عن الملة والوطن أثابكم الله .




 
23 جمادى الآخرة - 1317هـ
28 أكتوبر - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذكرى لرؤساء الأمة

] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا [ [1]
ويلٌ للمفرِّطين الذين هم في غمرة ساهون ، تلمع لهم بروق الهداية ولا
يبصرون ، وتصيح بهم رعود النذر ولا يسمعون ، وتفيض عليهم سماء النعم ولا
يشكرون ، أنذرهم الله بطشته بسوء الحال وقلة المال وزلزلة الاستقلال ، فتماروا
بالنذر- وأعرضوا عن الآيات والعبر ، واعتذروا بالقضاء والقدر ، وما أذنب
القضاء ولكنهم هم المذنبون ، وما قصر القدر ولكنهم هم المقصرون ، يجادلونك في
الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، وما هي إلا كلمة واحدة
تذهب باستقلالهم ، وتقطع حبال آمالهم ، وتجتاح ثمرات ما كان من أعمالهم ،
أستغفر الله لأنهم قوم لا يعملون ، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم
يخصمون .
ويل للغافلين الذين هم في سكرة يعمهون ، أضلهم الهادون ، وأغواهم
المرشدون ، وفتك بهم الحرَّاس الحافظون ، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ،
تفرقت بهم السبل فأعيتهم الحيل ، واختلف فيهم الأدلاء فلا يدرون كيف العمل ،
وغلبت العادات السيئة فكثر الخلل ، وقوي سلطان التقاليد الباطلة فعمّ الزلل ، فإذا
قيل لهم : ارجعوا إلى قرآنكم ، قالوا : إنما نحن مقلدون ، وإذ قيل حَكِّموا العقل ، قالوا : إنما نحن مؤمنون ، كلا ، إنه لا يشقى بالإيمان العالمون { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم
بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } ( يوسف : 106 )
ويل للمرءوسين من الرؤساء ، وويل للرؤساء من المرءوسين ، ويل لعلماء
السوء ، وويل لخطباء الفتنة ، ويل للذين يغرون الناس بأقوالهم ، ويفتنونهم بأفعالهم
وأحوالهم ، يزهدونهم وهم طامعون ، وينفثون في أرواحهم سموم الخرافات وهم
يعلمون { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ
المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } ( البقرة : 11-12 )
ويل للأمراء الظالمين ، والسلاطين الجائرين ، الذين جعلوا الرعية عبيدًا ، بل
حسبوها حجارة أو حديدًا ، يستعبدونها كما يشاؤون ، ويستعملونها بما يشتهون ، لا
يتقيدون بشريعة ولا قانون ، ويرى كل منهم أنه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون } ( الأنبياء : 23 ) .
حسبكم حسبكم أيها الرؤساء ، وأفيقوا من نومكم أيها المرءوسون ، فقد ذهبت
تلكم الأزمان ، وتغيرت طبيعة العمران ، ودخل البشر في طور جديد ، فمنهم شقي
وسعيد ، فأما الذين سعدوا في دنياهم ، وكاد يخلص لهم ملكها دون من سواهم ، فهم
الذين نظروا في الأكوان واسترشدوا بسنتها ، وسبروا أحوال الأمم الأمم فأخذوا
بنافعها ومستحسنها ، وطهروا أنفسهم من ضارها ومستهجنها ، وبذلوا جل العناية في
اختبار طرق التربية والتعليم ، واختيار ما ثبت لهم أنه الصراط المستقيم ، وإنما
تعرف المبادئ بغاياتها ، وصحة الأسباب بصحة مسبباتها ، وهذه آثارهم بين أيديكم ،
وهي أكبر حجة عليكم ، يدير الواحد منهم شؤون الملايين من سائر الأمم ، كأنه يدير
الآلات الصماء أو يرعى النَّعَم .
وأما الذين شقوا فهم الذين تنكبوا الطريق الأَمم ، وأعرضوا عن النظر في
أحوال الأُمم ، وجهل علماؤهم سنن الله في الخلق ، وزعموا أن في تعلمها إعراضًا
عن الحق ، بل أوهموا أمتهم أن سنن الله وأحكامه في خليقته ، مخالفة سننه وأحكامه
في شريعته ، وأن العالم بالخليقة كافر أو منافق ، والمشتغل بكتب الفقه
( التي زعموا أن الشريعة محصورة فيها ) هو المؤمن الصادق ، هيهات هيهات ،
لقد أضل الواهم قومه وما هدى ، وإنما { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ( طه : 50 ) { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ
قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ( يونس : 101 ) وهم الذين يحاربون الإصلاح باسم الدين ، وهو
ما كان عليه آباؤهم منذ مائة سنة أو خمسين ، فيقولون : ليس في الإمكان ، إلا إبقاء
ما كان علي ما كان ؛ لأن سعادة الأمة في حاشيتي التجريد والصبان ، ومعرفة حكم
مناكحة الإنس والجان ، وقطع السنين الطوال في أمور لا تتعلق بها الأعمال ،
كأبواب الرقيق وما فيها من التدقيق ، وإذا قيل لهم : اقتدوا سلفكم الأولين من
الصحابة والتابعين ، ومن يليهم من الأئمة الوارثين ، الذين جمعوا بين مصالح الدنيا
والدين ، ولم يكن عندهم الصبّان ولا ابن عابدين ، فارجعوا إلى كتبهم ، وتأدبوا
بأدبهم ، واستمسكوا بسببهم ، فأما أدبهم فالسنة الصحيحة والقرآن ، وإتقان لغتهما
بالكتابة واللسان ، وأما سببهم فالاستعداد للقوة بقدر الإمكان ، بحسب حال الزمان
والمكان ، وبذلك فتحوا البلدان ، ودوخوا الفرس والرومان ، إذا قيل لهم هذا يقولون :
أما اقتفاء آثارهم في الآداب والعرفان ، فلا يستطيعه اليوم إنسان ، لفساد طبيعة
الزمان… وأما اتباعهم في القوة ، والنجدة والفتوة ، فهو مطلوب من الحكام ، لا من
العلماء الأعلام ، فإذا قلت : كيف ؟ وإن المدافعة عن الأوطان هي عند كم من
المفروض على الأعيان ، حيث تحقق شرطه في هذا الزمان ، وهي متوقفة علي علم
تقويم البلدان ، ونحوه من العلوم التي يذمها منكم الجمهور الأكبر ، ويقولون : يجب
أن لا يتلوث بها الأزهر - يجمجم قوم ويهمهم آخرون ، ويعرض عن الجواب
المتكبرون ، انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون ، لكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون ، وهم الذين استبدل حكامهم قانون الإفرنج بقانون الديّان ؛ لأن سوء التعليم
أبعد الفقه عن متناول الأذهان ، وجهل الفقهاء بأحوال العصر جعله غير منطبق على
مصالح الإنسان ، وتجاوزوا الحد في الاستبداد ، والعلو في الأرض والفساد ، فجعلوا
لأنفسهم الحق في إبطال الشريعة الإلهية ، والعفو عمن يحكم عليها بأحكامها العدلية ،
على إنهم لم يتقيدوا بالقوانين الوضعية ، ونظام الأمم المتمدنة الغربية ، فيالها من
تجارة بائرة ، وصفقة خاسرة ، وما هو إلا خسران الدنيا والآخرة { وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ( المائدة : 45 ) لا أٌطيل في القول ، فشقاء
أمتنا في كل مكان ، قد شعر به مِنَّا كل إنسان ، ولم يزل منزلة الرؤساء من الأمة
منزلة الوالدين من الولدان ، وأمام هؤلاء الرؤساء الآن فرصتان لإصلاح الشان ،
إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية ، والثانية في بلاد الدولة العليّة ، وهي
السياسية الإدارية ، فإذا انتهز علماؤنا وفضلاؤنا الأولى ، ودولتنا الثانية ، فُزْنَا إن
شاء الله تعالى بالعيشة الراضية ، وإلا أضاعوا ما تنتظره الأمة من المجد في دنياها
وهم غافلون ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون .
__________
(1) (المزمل : 19) .​
 
30 جمادى الآخرة - 1317هـ
4 نوفمبر - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الفرصتان
مِن المُجْمَع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في
حياتهم الاجتماعية ، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم إما في بسطة المال وسعة
الرزق وخفض العيش فقط كاليهود ، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان
وسطوة الملك أيضًا .
ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها
من تراث أسلافها ، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه ، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا
قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض
وإصابة الغرض ، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها
طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها ، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم
صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه ، أما وجه اللزوم
فظاهر ، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام
شريعتها ، والصالح لا يختار إلا مثله : { الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } ( النور : 26 ) ولكن الإصلاح إذا بَدأ في
الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل ، وإذا بدأ
في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل ،
فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي
الدعوة إحداهما أو كلتاهما ، ولكن كثيرًا من المتنبهين لوجوب الإصلاح يائسون منه
لما يرونه من تقدم أوربا السريع وتأخر شرقنا المريع بل موته الذريع ، وأعني
بموته قيام الغربيين بأعماله ، واستئثارهم بأمواله ، وذهابهم باستقلاله ، وما كان
لمؤمن أن ييأس { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ } ( يوسف :
87 ) فكم سنحت الفرص وما انتهزناها ، وكم نادتنا النهز وما لبيناها ، وقد قلنا في
( المنار ) الماضي : إن أمامنا الآن فرصتين للإصلاح : إحداهما في مصر وهي
العلمية الدينية ، والثانية في بلاد الدولة العلية وهي السياسية الإدارية ، وإننا مبينون
هاتين الفرصتين في هذه المقالة بعض البيان .
أما التي في مصر فحرية التعليم والتصنيف والتحرير والطبع والنشر والخطابة
وتأليف الجمعيات بأنواعها ، وهذه هي سلاليم الترقي التي ترتقي فيها الأمم ، ولا
يوجد تحت السماء بلاد إسلامية متمتعة بتمام الحرية فيها كالبلاد المصرية ، والسبب
في هذا ظاهر ، فإن فقد الحرية في مثل هذه الأمور النافعة إنما يكون من فساد
الأحكام واستبداد الحكام ، وزمام السلطة في هذه البلاد بأيدي المحتلين ، وقد اقتضت
سياستهم أن لا يتعرضوا لهذه الأمور إما لأنهم لا يشاءون التعرض لها كرمًا منهم
وفضلاً على خلاف ما يفعلون هم وسائر الأوربيين في كل بلاد تنفذ فيها شوكتهم
وتعلو كلمتهم ، وإما لأن حكمة التدريج الذي يسيرون فيه اقتضت أن يبدءوا بالأعمال
المالية والإدارية والسياسية ويكتفوا من الأمور المعنوية بإدارة المدارس الأميرية
على محور سياستهم ، وإما لأسباب أخرى ، ومهما كان من السبب فإن هذه الحرية
فرصة تغتنم ، فإذا فرَّطنا فيها ندمنا حيث لا ينفعنا الندم ، إذ ربما تأتي أيام نحاسب فيها على خطرات القلوب وهواجس النفوس ، ونجبر على التعليم الذي يراد ونمنع من التعليم الذي نريد .
وأما انتهاز هذه الفرصة فبإصلاح التعليم في الأزهر الشريف ، وبالاجتهاد
بتعميم المدارس الأهلية على الوجه المرضي ، ولا مجال هنا لبيان الإصلاح
الأزهري ، فإن لجنة من أكابر علمائه تبحث في هذه الأيام بطرق هذا الإصلاح
فنرجئ الكلام فيه إلى أن تفرغ من بحثها ونعلم ما تقرره ، فإما ثناءً وتحبيذًا ، وإما
انتقادًا وتفنيدًا ، وأظهر الدلائل على فساد طريقة التعليم المتبعة فيه من قبل أن
الكثيرين أو الأكثرين من الذين يمتحنون للتدريس يجرحون فلا يمنحون درجة من
درجات التدريس على ما في الامتحان من السهولة ، وما منهم إلا من يقضي خمس
عشرة سنة في التعليم على الأقل ، على أن الذين يمنحون شهادة العالمية ويؤذن لهم
بالتدريس لا يوجد واحد في المائة منهم يحسن لغة الدين قولاً وكتابة بحيث يقدر على
الكلام والخطابة باللغة العربية الصحيحة ، ويكتب بالأسلوب العربي البليغ ، ولا
يعقل أن أحدًا يفهم القرآن والحديث الذين هما ينبوعا الدين من غير أن تكون ملكة
اللغة راسخة في نفسه ، ولذلك ما ورد أحد من علماء المسلمين وغيرهم إلى هذه
الديار واختبر تعليم الأزهر إلا وذمه ، وقال : إنه لا يرجى منه خير للمسلمين ،
فالأستاذ الشنقيطي من علماء المغرب ، والأستاذ الشيخ شبل النعماني مدرس العلوم
العربية في كلية عليكرة في الهند ، والأستاذ الشيخ أحمد جان القازاني مدرس العلوم
العربية في مدرسة عالمجان في بلاد قزان الروسية - اتفقت كلمتهم مع اختلاف
أقطارهم على أن التعليم الأزهري لا يرجى منه خير للمسلمين إذا بقي على حاله ، وأمثالهم كثير ولا حاجة للاستشهاد بكلام الإفرنج ؛ لأن قومنا لا يقيمون لكلامهم
وزنًا ويرجمون من يعبأ بكلامهم بأسوأ الظنون ، ولا ننكر أن تعليم الأزهر - على
عِلاته - وُجُوده خيرٌ من عَدَمِه بالكلية ، كيف وقد حفظ لنا بعض علومنا وآثار سلفِنا
حفظًا يُحمد عليه ، وإن كان ناقصًا لا يبعث على العمل الذي تحيا به الأمة ، ولا يُرجى أن تفيض الحياة الملية على الأمة إلا إذا صار المتخرجون منه متقنين
لوظيفتهم التي أنشئ الأزهر ووقفت عليه الأوقاف لأجلها ، وهي حفظ الدين
ولغته بحيث يقدرون على القيام بمنصب القضاء الشرعي على الوجه الصحيح العادل الذي لا يثلم به شرف الملة والأمة ، وعلى إرشاد الخاصة والعامة والتعليم في
المدارس النظامية ليبثوا الدين في جميع طبقات الأمة ويخاطبوا كل إنسان على قدر
عقله وعلمه ، ويدفعون عنه الشبهات العصرية ، ولن يقدروا على شيء من هذا
إلا بتغيير أساليب التعليم ، وبالاطلاع على أحوال العصر وفنونه المتداولة ولو في
الجملة ، وسنفصل ذلك في وقته إن شاء الله تعالى .
وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا الكبرى
عنها بالمسألة الصينية ، وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن
سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول وضمها إلى الإمبراطورية
الروسية العظمى ، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها ، يدل على شغل روسيا عنها
بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء ، أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا ( وطوله 4695 ميلاً ) بخط آخر
ينشط من الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًا
إلى ميناء ( آرثر وينوشوتفم ) ويقرب أن تُمدد من هذه إلى بكين عاصمة الصين ،
ويقدر المال اللازم لهذا الناشط بعشرين مليون جنيه ، كما قدر المال اللازم
لطريق سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد ، وأنها
قررت إنفاق 9 ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز الجديد ، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا لتلك الغنيمة
الكبرى التي تتوقعها في الصين ، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها على ثغورها في أوربا من الدول البحرية وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها فتخاف منها
على فلاديفوستوك وميناء آرثر ، ولا يخشى على هاتين الحاضرتين من غير
اليابان ، هذا ، ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا ، ولا بد أن يمتد
اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة ، فيجب على الدولة العليا أن تشتغل
بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها ، فقد مضى عليها نحو نصف قرن وهي
مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح الداخلي والدول الأوربية تطالبها
بالإصلاح ، وهي التي تحول بينها وبينه ، وقد بَيَّنا رأينا في الإصلاح والواجب من
قبل في مقالات نشرت في (المنار) وأخرى في (المؤيد) وأهمها تعميم التعليم
العسكري وتقوية الأسطول ، ومساعدة الرعية على تعميم المعارف ، وانتقاء العمّال
والحكام من الأكفاء ، والدولة العلية وسلطانها الأعظم - أيده الله تعالى - أعلم منا بما
ينبغي ويجب من ذلك .
وقد وجه مولانا الخليفة أنظاره في هذه الأيام إلى هذا الأمر المهم ؛
فتعلقت إرادته السنية بزيادة الجيش لا سيما الألايات الحميدية ، وأمر من عهد قريب
بإنشاء بارجتين جديدتين ويخت سلطاني ، وبإصلاح بعض السفن القديمة ، كما أمر
بإنشاء المكاتب والمدارس في بلاد اليمن وغيرها من الولايات المحروسة ، ونسأل الله
تعالى أن يلهم قلبه الشريف أن يصدر إرادته لجميع الولاة بترغيب الرعية في
تأليف الشركات المالية وإنشاء المدارس الوطنية ، ولجميع الفيالق العسكرية بتعميم
التعليم العسكري ، وبالله التوفيق .
 
20 شعبان - 1317هـ
23 ديسمبر - 1899م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الشريعة والطبيعة
والحق والباطل

{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا
يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الأَمْثَالَ } ( الرعد : 17 ) .
إن لله تعالى خليقة منها جميع ما نعرفه من هذه الأكوان ، وشريعة اختلفت
أحكامها باختلاف أحوال الاجتماع لنوع الإنسان ، ثم ثبتت أصولها وقواعدها العامة
بالسنة الصحيحة والقرآن ، على وجه ينطبق على مصالح البشر في كل آن ، ولولا
هذا لم يصح أن تكون شريعة عامة لكل زمان ومكان ، فالخليقة أو الطبيعة من الله
كما أن الديانة والشريعة من عند الله ، فذلكم الله ربكم الحق ، وكل ما كان من الحق
فهو حق ، فمن قال : إن الطبيعة أوعلمها باطل ، كمن قال : إن الشريعة أو العلم بها
باطل ، كلاهما متجرئ على مقام الربوبية بنسبة الباطل إلى الحق تعالى عن ذلك
علوًّا كبيرًا .
ربما يستبعد بعض الناس هذا القول بالنسبة للطبيعة دون الشريعة ، ولكن
الذين يتلون القرآن حق تلاوته أولئك يؤمنون به ، واتل عليهم قوله عز وجل :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ( آل عمران : 190-191 ) فإذا
كانت آيات الله تعالى في خلق العوالم العلوية والسفلية وحوادثها الطبيعية - كاختلاف
الليل والنهار- إنما يعرفها العقلاء باستمرارهم على التفكر فيها ، فلا جرم أن أكثرهم
تفكرًا أكثرهم علمًا وأجدرهم بمعرفة الله تعالى وتعظيمه ، والإيمان بقدرته وكمال
علمه وحكمته ، وما شذوذ بعض الناظرين في علوم الطبيعيات والهيئة اشتغالاً
بالصنعة عن الصانع إلا كشذوذ الناظرين في علوم الشريعة المتوسعين فيها عن
العدالة في الأحكام والعفة في المعاملة ، وهما روح الشريعة ، فإننا نسمع الناس
يرمون رجالاً من أوسع العلماء والقضاة الشرعيين علمًا بالأحكام بما لا يرمون به
سائرهم ، وما كان الزيغ والانحراف من هؤلاء وأولئك من علمي الطبيعة والشريعة
فيكونا باطلين ، وإنما هو فساد في التربية زاد بالعلم فسادًا { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } ( البقرة : 10 ) ومثل العلم يشقى به قوم ويسعد به آخرون
مثل الحنظل والبطيخ يسقيان بماء واحد فيزيد الأول مرارة والثاني حلاوة { يُضِلُّ
بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ } ( البقرة : 26 ) من حقيّة
الشريعة أن جميع ماجاءت به من العقائد والآداب والأحكام موافق لمصالح الناس
ومسعد لهم في معاشهم ومعادهم ، ولذلك كانت كلياتها حفظ الدين والنفس والعقل
والعرض والمال ، فإذا نسب إليها شيء فيه مفسدة أو منافاة لمصلحة ، فهو ليس منها ،
وإن أُسند إلى علمائها ودُوِّن في كتبها ؛ لأن هذا من الباطل ، ومن حقيّة الطبيعة أنها
قامت بقوانين ثابتة وسنن مطّردة ( يسمونها نواميس ) بحيث يتمكن الناس من
الانتفاع بها كلما زادوا علمًا بسننها وقوانينها ، ولو كانت مختلة النظام تجري فيها
الحوادث بغير إحكام لما اهتدى الناس للانتفاع بها ، ولما صح الاستدلال بها على
علم مُبدعها وحكمته وكمال قدرته ونفوذ مشيئته ، فمن يرى في الطبيعة خللاً أو
فسادًا فإنما يريه إياه ضعف نظره أو ظلمة بصيرته ، فليتْلُ عليه قوله تعالى : { مَّا
تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ
البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } ( الملك : 3-4 ) .
لولا الخليقة والطبيعة لم توجد الديانة والشريعة ، فإن الله تعالى خلق الإنسان
في هذا العالم كثير الحاجات والضرورات ، ميّالاً بفطرته إلى الكمالات وبلوغ
الغايات ، وجعل له الوجدان والمشاعر والعقل ليهتدي بها إلى ما تطلبه فطرته
وتقتضيه خلقته ، ولكنه جعل بين أفراده تباينًا في هذه المدركات تتباين بها مقاصدهم
وأعمالهم ، والمباينة والتفرق في هذا هما منشأ اختلال المصالح الاجتماعية ، فمن ثم
كان في أشد الحاجة إلى هداية رابعة تقرب المتباين وتجمع المتفرق ، وقد منح الله
الإنسان هذه الحاجة بالشريعة ، ومقاصد الشريعة وأسسها : ( 1 ) الاستدلال بالطبيعة
عامة على موجدها ومبدعها ، وما اتصف به من صفات الكمال , و ( 2 ) تقويم
الطبيعة الإنسانية بتهذيب أخلاقها وترويضها بضروب من العبادات ؛ ليسهل على
الإنسان الوقوف في تصرفه بالطبيعة العامة على صراط الاعتدال , و ( 3 ) تحديد
الحقوق والواجبات وبيان أحكام العمل بها , و ( 4 ) تبشير من وقف من الأمم عند
الحدود بالسعادة في الدنيا ووعده بالمثوبة في الآخرة ، وإنذار من تعداها بالشقاء
العاجل ، ووعيده بالانتقام الآجل ، فالعلم بالطبيعة مرتبط بالعلم بالشريعة , يكمُل
بكماله وينقُص بنقصه ، فمن لا يعرف الكون ونظامه وطباع البشر وقواهم
العقلية والجسدية ، وارتباط بعضهم ببعض ، وما وصلوا إليه من العلم بطبيعة الكون
وكيفية تصرفهم فيه على وفق مصالحهم ومنافعهم - لا يمكنه أن يعرف مقاصد
الشريعة ، وكيف يؤخذ الناس - أو يأخذون بها - وهذا الأمر واضح بنفسه وإن
ضل عنه كثير من المنتمين إلى علم الدين ، المتوهمين أن شرع الله يعرف
بالاستنباط من ألفاظ المؤلفين ، وكمال العلم به يكون بالجهل بالخليقة وأحوال الخلق
أجمعين .
نتيجة هذا كله أنه يجب أن لا يكون في الدين والشريعة شيء مخالف لما في
الخلق والطبيعة ؛ لأن كلاًّ من عند الله وحاشا أن يصدر عن تلك الذات العلية
التناقض والاختلال ، وأي أمر ينافي الكمال ، وما عساه يوجد في الكتب الدينية أو
يجري على ألسنة رجال الدين من قول يذم علوم الخليقة أو يرمي إلى بطلانها ، أو
ينهى عن تعلمها - فهو من الناس لا من الله ، ألصقوه بالدين لشبهٍ عرضت لهم
أكثرها لفظية أو لمحض الجهل ، على أنه يوجد في كتب العلوم الطبيعية مثلما يوجد
في كتب العلوم الشرعية من الأقوال والآراء المبنية علي الظن والخرص .
واليقيني من مسائل العلوم الطبيعية ، وما يلحق بها هو ما ثبت
بالمشاهدة والاختبار أو البراهين القطعية كالبراهين الرياضية على الكسوف
والخسوف ، وكثير من مسائل الهيئة الفلكية وغيرها ، ولا يطلقون اسم العلم في
هذا العصر إلا على ما ثبت بالتجربة والاختبار العملي .
واليقيني من مسائل الدين هو ماثبت بنصوص القرآن والسنة المتواترة
كأصول الاعتقاد والأركان الخمسة ، وسائر المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة ، فهذه المسائل اليقينية لا ينافي شرعيها طبيعيها أبدًا ، ومتى نافى
قطعي من قسم منها ظنيًّا من القسم الآخر يترك الظني للقطعي إلا إذا أمكن الجمع
بينهما ، وإذا تعارضت الظنيات نرجح الشرعي علي غيره .
علمنا أن الشريعة والطبيعة كليهما حق من الله تعالى ، والحق لا تكون آثاره
ونتائجه إلا صالحة وثابتة بثباته ، والباطل لا يكون إلا مضطربًا ومتزعزعًا ،
وآثاره تفنى بفنائه وتزول بزواله ، فإذا تصارع الحق والباطل لا يلبث الحق أن
يصرع الباطل : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ( الأنبياء :
18) ، وفي الزبور الذي في أيدي أهل الكتاب ما مثاله أن الذي تكون مسرته
وغبطته في الناموس الإلهي ينجح في عامة أعماله ، ويكون كالشجرة عند مجاري
المياه تثمر في أوانها ولا يذبل ورقها ، وأما الأشرار فهم كهشيم تذروه الرياح لا
يثبت لهم في طريق الدين قدم ؛ لأن الرب يعلم طريق الأبرار ، أما طريق الأشرار
فتهلك .
والأمثال على هذا في القرآن كثيرة ، ومن أبلغها وأظهرها الآيات التي
افتتحنا بها هذه المقالة ، ثبات الحق وزهوق الباطل ثابت في الطبيعة كما هو ثابت
في الشريعة ويسميه الحكماء الذين اهتدوا إليه ( الانتخاب الطبيعي ) يعنون أن
طبيعة الوجود تقتضي بقاء الأصلح الأنفع في الكون وتلاشي ما سواه .
والأصلح في الطبيعة ما كان جاريًا على سننها ومندرجًا تحت نواميسها ،
والأصلح في الأمور الشرعية ما كان موافقًا لأصول الدين وقواعده وأحكامه من
حيث إنها هادية للأرواح في شؤونها الروحية ومصالحها الاجتماعية ، فيمكننا على
هذا أن نستدل من الشريعة والطبيعة معًا على أن الأمة المخذولة المهضومة الحقوق
المغلوبة على أمرها لا بد أن تكون على الباطل ، أي زائغة عن صراط الشريعة
متنكبة سنن الطبيعة { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ
هَضْماً } ( طه : 112 ) .
كأني بأكثر القرَّاء من إخواني المسلمين ، وقد انتهوا إلى هذه المسألة
فاضطربت أفكارهم وانفعلت أرواحهم ، وسبق الوسواس إلى أذهان بعضهم بأن
قصارى هذا القول طعن بالإسلام ؛ لأن أهله مخذولون في هذا الزمان في كل قطر
ومكان ، واعتراف بأحقية أديان أخرى ثبتت سلطة أهلها ، واستقام أمرهم ونجحوا
في أعمالهم وعلت كلمتهم على المسلمين ، ومنهم الوثني ومن لا يدين بدين ، مهلاً
مهلاً ، استوقف أيها المنتقد سربك واستغفر ربك ، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ، فإن
بعض الظن إثم ، واعلم أن ما تراه من الباطل ثابتًا قويًّا ، فإنما ثباته بالتوكؤ على
أركان من الحق كالنظام ومراعاة سنن الله في الخلق والأخلاق والسجايا الفاضلة
كالصدق والأمانة ، فالحق ثابت في نفسه ، والباطل ثابت به أو شبيه بالثابت ، فلو
تداعت أركان الحق عند هؤلاء لسقط الباطل ، بل لتبين زهوقه وبطلانه ، ولما ثبت
بنفسه قط ، وما تراه من خذلان المسلمين واضمحلال سلطتهم مع حقيّة دينهم فسببه
عدم السير على منهاج دينهم ، وهذا كتابهم ينطق عليهم بالحق : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الأنفال : 53 ) وقد كتبنا في ( منار)
السنة الأولى مقالة تحت عنوان قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود : 117 ) أتينا فيها بالقول الفصل في دعوى المسلمين
أن نجاحهم وارتقاءهم بدينهم ، ودعوى الباحثين في طبائع الملل وعلوم الاجتماع
والعمران أن شقاء المسلمين وضعفهم العام إنما جاءا من قِبل دينهم لأنه لا شيء
آخر يناط به تأخرهم في جميع الأقطار ، وأن ترقيهم إنما يكون باحتذاء أوربا
وتقليدها ، وخلاصة ما هنالك أن كل واحد من القولين له وجه وفيه قصور ،
والصواب أن الإسلام جامع لأسباب السعادة الدنيوية التي نالها الغربيون ومن تلا
تلوهم كاليابانيين على أكمل الوجوه ، وزاد على ذلك بيان أسباب السعادة الآخرة ،
ولكن المسلمين انسلُّوا مما أرشد إليه الدين من أسباب السعادة كاستقلال الإرادة
والرأي ، وتطهير النفس من أدران الخرافات وصدأ الأوهام وصقلها بصقال الحجة
والبرهان في جميع ما تأخذ به ، وإطلاق العقل من قيوده وتسريحه في عوالم
الطبيعة علويها وسفليها ؛ ليبحث عن حقائقها وينتفع بها ، فإن الله ما قال : { وَسَخَّرَ
لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } ( الجاثية : 13 ) إلا ليرشدنا إلى
هذا - انسلوا من هذه الإرشادات كلها باسم الدين ، وتبع هذا فساد الأخلاق والأعمال،
فلا غرو إذا قال القائلون : إن الدين هو الذي حال بينهم وبين الترقي ، فإنهم يرون
أن دين الناس ما هم عليه ، وبيّنا هناك أيضًا أن دين الإسلام هو دين الفطرة " أي
الخليقة والطبيعة " وأنه بيّن في القرآن سنته في هلاك الأمم بمثل قوله : { وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } ( يونس : 13 ) وقوله : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن
نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } ( الإسراء
: 16 ) وبيّن سنته في نجاة الأمم وحفظها من الهلاك بمثل قوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود : 117 ) والمراد بالظلم هنا الشرك
خاصة ؛ فإن من أشرك ظلم نفسه وفي الآية الأولى ما يعم الجور في الأحكام
والأعمال نص . على ذلك المفسرون ، وبه يرتفع التناقض ، فقد بيّن أن المصلح لا
يهلك وإن كان مشركًا ، وبيّن في آيات أخرى أن الصلاح والإصلاح سبب إرث
الأرض ، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين ، وكل شيء فصلناه تفصيلاً .
فالقرآن بجملته حجة على المنتسبين للإسلام بأنهم على غير الحق الذي جاءهم
به ، بل إن تعريف الدين عندهم بأنه سائق إلى النجاح في الحال والفلاح في المآل .
حجة عليهم فإنهم غير ناجحين ، وأما الأمم الناجحة المرتقية فإنها أخذت بأسباب
الترقي الدنيوي التي أرشد إليها القرآن من طبيعية وشرعية ، ولكن لا على أنها من
القرآن ، بل على أنها نافعة في ذاتها معقولة بنفسها ، والنتيجة في الدنيا واحدة ،
وابتغاء مرضاة الله تعالى بالأعمال النافعة يجعلها نافعة لذويها في الآخرة أيضًا ، فإذا
كانوا قد ربحوا بهذا سلطة الدنيا وسعادتها ، فنحن قد خسرنا بتركه الدنيا والآخرة ،
وذلك هو الخسران المبين ، ولا ينكرن عليّ هذا أحد شم رائحة الإسلام ؛ إذ لا يجهل
أحد أنه قرن مصالح الدنيا والآخرة بعضها ببعض ، وجعل غايته سعادة الدارين ،
ففقد إحداهما من مجموع الأمة دليل على فقد الأخرى ، ولا التفات للآحاد ، فإنما
كلامنا في الأمم ، فتدبروا وتذكروا أيها المسلمون ، ولا يخدعنًّكم المؤوِّلون الغاشّون ،
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون .
 
12 رمضان - 1317هـ
13 يناير - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

التقريظ والانتقاد
( رواية قلب الأسد )
لخصها معربها العالم المتفنن الدكتور يعقوب أفندي صروف محرر مجلة
(المقتطف) الغرّاء من رواية إنكليزية اسمها الطلسم ( تلمسن ) وهي تاريخية فكاهية
حوادثها من الحروب الصليبية ، وقد تصرف فيها المعرب تصرفًا حسنًا بحيث أن ما
تحكيه عن عادات المسلمين والمسيحيين في ذلك العهد يرضي أبناء الملتين بما فيه
من النزاهة والأدب وعدم التحامل على ما كان عليه الأمتان يومئذ من الأضغان
والأحقاد والغلو في التعصب .
نعم إن فيها بعض هفوات نسبت للسلطان صلاح الدين وهي على غير منهاج
الإسلام كقول المؤلف في الرسالة التي قال : إن صلاح الدين أرسلها إلى ريكارد ملك
الإنكتار (الإنكليز) فى صفحة 162 ( فسينصرنا الله ونبيه عليك) وما كان
لمسلم يعرف الإسلام كصلاح الدين أن يقول هذا وهو يعلم أن الله يقول في كتابه :
{ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ } ( آل عمران : 126 ) بل لم تجرِ عادة جهلاء
المسلمين بطلب النصر أو إسناده لغير الله عز وجل ، ومن دون هذه قوله : إن
صلاح الدين سقى ضيوفه الخمر ، ولعل هذا من هفوات الأصل التي سها عن
التصرف فيها الدكتور صروف ، والرواية عذبة قرأتها فى سهرة واحدة على أنني
لست من المغرمين بقراءة القصص والروايات .
 
21 ذو الحجة - 1317هـ
21 إبريل - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

الدنيا والآخرة
] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [
[*] .
ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات ، وأنَّ زعم
بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب
والغرور , وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع , ولا
يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره , بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني
فقالوا : إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات , وأنقص في فطرته من كثير من
الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها
والأخذ عنها , ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت , والمقلد لا يكون إلا
أنقص من مقلَّده . قالوا : لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده
ويحفظ حياته , والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات , فإنه تعلم النسج
من العنكبوت , والهندسة من النحل , وبناء البيوت من النمل الأبيض , وتعلم قابيل
ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه .
وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني ، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني
ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي ،
وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم ، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من
عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم ، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى
يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني ( الآخرة ) غير منهوكي
القوى ، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى
حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء ، أي أن عالم الوجود يخلو من
هذا النوع الذي نسميه ( الإنسان ) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم
نقائص , بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم
الأرواح والروحانيات . ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على
اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي
قبله ، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي :
إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم , واستخرجت مقاصدهم من جميع
أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار , وإن شئت فقل :
اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم , وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في
المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها ؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة
عندهم إلا اللذة , ولا معنى للمضرة إلا فقدها , واللذات منها الجسدي والمادي ومنها
الروحي والعقلي , والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين , ولكن اللذة الجسدية
سابقة في الطبيعة , وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في
وقت من الأوقات , ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي
بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله . والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان
قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له . وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل
بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو
الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني , وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل
إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع
الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال .
إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق ؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة
الجسدية نقيصة في الإنسان , وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن
هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه
لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح
العاقل وما يصل به إلى كماله ، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته , وهو محال لا
يطلبه إلا جاهل . ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها
مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا , ولو
حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل
اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية , وكان كالبهائم السائمة
والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه
الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال .
هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم
المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون
الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير
عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما .
بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس : مليين وفلاسفة , وحُكمه
هذا ترتاح له النفس المعتدلة , ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن
الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات . نعم إن العقل الجوال لا يرضيه
الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل . وقد تكفل له
الإسلام بكل هذا ، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال :
{ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ( البقرة : 111 ) .
ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من
أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله , وإنما
الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة , وكيف جمع بين
مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة
والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز , ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة
بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام ( وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة
عنوانها ( الشريعة والطبيعة والحق والباطل ) فليرجع إليها من أراد ) وسنبين فيما
يأتي وجه الجمع بين الأمرين , ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي
ينطبق على قاعدتنا ، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية .

__________
(*) البقرة : 200-202 .​
 
رشيد رضا ومستر هانوتو وزير خارجية فرنسا
11 محرم - 1318هـ
10 مايو - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

فرنسا والإسلام
عجبًا للدم الذي تحرك لكلام المسيو هانوتو كيف لم يتبيغ لكلام القومندان
نابليون ني , وعجبًا للقلوب التي جرحها ذلك كيف لم يذبحها هذا , بل عجبًا للنفوس
التي اضطربت للأول كيف لم يزلزل الثاني وجودها زلزالاً ؟ إلا إن قومنا لا يزلون
أغرارًا يغترون بالظواهر وينخدعون للمظاهر , ويخلبون بالأوهام ويعيشون
بالأحلام , يصيحون من السب ويسكتون على الضرب , ويتململون من الكلام ولا
يتألمون من الكِلام ( بالكسر : الجراح ) حاشا نفرًا من أهل الفهوم المشرفين على
حقائق العلوم , والاستثناء- كما قالوا- معيار العموم .
صاح الصائحون وناح النائحون وكتب الكاتبون وخطب الخاطبون , وما ذلك
إلا لما رواه هانوتو عن الغالين في التعصب الديني من قومه من وجوب نسف الكعبة ,
ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى متحف اللوفر في باريس لتنحلَّ رابطة جامعة
الإسلام ويقع أهله في اليأس التام , ونحو هذا الهذيان الذي يقوله طفل فلا يلتفت له
سائر الصبيان اللهم إلا ما كتبه ذلك الإمام من روائع الحِكم وحقائق الأحكام .
كتب ( نابليون ني ) في الإسلام والمسلمين ما كتب فعلم المسلمين من هم , وما
هو الإسلام لو كانوا ممن يعلم أو يتعلم , وأنى لمن يجهل تاريخ الإٍسلام أن يعرف
تأثيره في الأنام ؟ وكيف يهرب من هذا الجهل من يقول علماؤهم : إن هذا العلم
يضعف العقل ؟ يبحث نابليون ني عن مكان تتوجه إليه وجوه المسلمين وتتولاه
قلوبهم , وترمي إليه أبصارهم وتمتد نحوه أعناقهم ليجعلوه قبلة آمالهم , وكعبة
لإقبالهم , ومعهدًا لاجتماعهم , ومعقدًا لارتباطهم- لآمالهم بفرنسا وإقبالهم عليها ,
واجتماعهم في دائرتها وارتباطهم بحبل سيادتها .
علم (نابليون ني) أنه لا يوجد في الدنيا بلد من البلاد تتعلق به قلوبهم وتتوجه
إليه نفوسهم إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وأنى لفرنسا أن تقبض على زمام
السلطة الإسلامية فيهما ؟ ذلك ما لا مطمع فيه , وقد أشار الكاتب بأن تُجعل باريس
بديلاً من مكة , وأن تلفت إليها أنظار العالم الإسلامي بتأليف جمعية فيها من كبار
علماء الإسلام من جميع الأقطار , وأن يكون للجمعية جريدة إسلامية باللغات
المشهورة بينهم , فهو يرى أن هذه الجمعية التي يقاد أفرادها إلى أوربا بسلاسل
الذهب والفضة كافية لتحويل قلوب الأمة الإسلامية إلى فرنسا ، وصرح بأن اجتماع
المسلمين على دولة أجنبية أقرب من اجتماع بعضهم على بعض لما بينهم من تفرق
المذاهب وتعدد المشارب .
فهل يفقه المسلمون بعد سماع هذا الكلام معنى الجامعة الإسلامية وكيف تكون
وبماذا تكون ؟ هل يفطنون للسر الغريب في فريضة الحج , ويتنبهون إلى أنه لم
يوجد دين من الأديان , ولا حكيم من الحكماء قدر أن يضع وضعًا يجذب به أرواح
الشعوب من جميع أقطار الأرض إلى مكان واحد ، فتطير بأجسامهم إليه لتقوية
الجامعة الملية بينهم , وهو ما وضعه دين الإسلام دين المدنية الكبرى والاجتماع ,
هل يتدبرون سوء مغبة اختلاف المذاهب في الملة التي يتبرأ كتابها ونبيها من
المتفرقين في الدين ويسعون في شعب الصدع ورتق الفتق ؟ هل يتفكرون بعده في
معنى اجتماع العلماء وما له من النفع العميم ؟ وما في اختلافهم من البلاء العظيم ؟
هل يعقلون بعده فوائد الجرائد الدينية الإسلامية وآثارها .
قد بيَّنا كل هذا ودعونا إليه في مقالات الإصلاح الإسلامي التي نشرناها في
المجلد الأول من المنار- دعونا إلى تأليف جمعية إسلامية يكون لها شُعب في كل
قطر إسلامي وتكون عظمى شعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع
أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة ويكون أهم اجتماعات هذه
الشعبة في موسم الحج الشريف حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشُّعب التي في
سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي
من التعاليم السرية والجهرية ، وقلنا هناك : وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية
الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة .
وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم والأمن
من وقوفهم على ما ينبغي عدم وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله ، ومنها أن
لشرف المكان ولحالة قاصده الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى
والغرض فضلاً عن الغش والخيانة .
وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة دينية علمية تطبع في مكة أيضًا وأية
شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها .
وارتأينا أن يكون من أعضاء الجمعية العاملين العلماء والخطباء ليتسنى
للجمعية إفاضة تعالميها على قلوب جميع المسلمين , وبينا أعمال الجمعية ونتائجها,
ومنها الجمع والتأليف بين أهل المذاهب لا سيما الفرقتين العظيمتين أهل السنة
والشيعة .
بماذا قابل المسلمون هذا الاقتراح ؟ السواد الأعظم لا إحساس لهم ولا شعور ،
وأما المتصدرون للكتابة وإرشاد المسلمين في الجرائد فقد مسخوه مسخًا واستدبروا
به المقصد ، فأنشأوا يكتبون مقالات يحثون فيها على عقد ( مؤتمر إسلامي )
في القسطنطينية ، ولا ينتظر من التائه في مفاوز الخيال إلا طلب الفوز من المحال
ولقد كان من حجتنا على هؤلاء أننا نعترف لهم بإصابة رأيهم إذا وجدت جريدة من
جرائد الأستانة العلية توافقهم في الدعوة إليه فإن تلك الجرائد يشبه أن تكون كلها
رسمية ؛ لأنها لا تكتب الا ما يمليه عليها أولو الأمر ... ثم علمنا أنه يوجد من يسعى
بما اقترحناه عملاً لا قولاًً- وما كان غرضنا من القول إلا تنبيه الأفكار إليه- ولكن
المسلمين أمسوا أعداء أنفسهم يبلغون من نكايتها ما لا يبلغه الأجانب منهم , أو كما
قلت في مكتوب أرسلته منذ سنين لأحد عظماء المسلمين : ( إن الممالك الإسلامية
أمست كالمريض الأحمق يأبى الدواء ويعافه من حيث أنه دواء ) ولولا رجال
فضلاء منبثون في بعض الأنحاء لانقطع بنا - والعياذ بالله - حبل الرجاء .
قال هذا الضابط : إن الوحدة الاسلامية النظرية ( كذا ) قد تمزقت بالفتوحات
المتوالية , وانشقت إلى أقسام دينية لا حدود لها ، ولا نظام لحكوماتها , وقال قبل
هذا : إن الإسلام أصابه الشلل من سوء إدارة مديريه ومديري شئونه , وكرر القول
بأن دوام فتوحات أوربا المسيحية قد آلمت المسلمين فطفق يتقرب بعضهم من بعض
وأحسوا بالحاجة إلى الاجتماع , وحث أمته أن تكون الجامعة الإسلامية على يديها
وبيديها .
وعنده أنه لا يمكن أن توجد بنفسها ، وأنها إذا وجدت فإنها تنحل بعد ثلاثة
أشهر من وجودها , ثم صرح بأنه لا ينقص الحركة نحو الجامعة الإسلامية إلا
شيء واحد إذا وجد تكون به قوة الإسلام وغلبته ؛ ألا وهو اختيار مكان غير تابع
لدولة من الدول كي يتم به الائتمار بين الفرق الاسلامية المختلفة ، فإن عدم وجود هذا
المكان هو السبب في عدم استقرار الفرق الدينية الإسلامية في مكان ثابت ، فلكل
منها آثار تتفاوت في الشدة أو الضعف ، في بغداد ومصر والأستانة وفارس والهند
وأفريقية , قال : ولو اهتدى رؤساء تلك الفرق إلى وجود بقعة على سطح الأرض
تكون للإسلام بمثابة رومية أو الفاتيكان للمسيحيين فلا ينقضي زمن يسير حتى
ينعقد فيها مجتمع إسلامي يخضع لإرادته العالم الإسلامي بأسره , وعقب هذا
بالتنبيه على عموم دعوة الإسلام ، يشير إلى أن هذا المجتمع لابد أن يصل مده إلى
أطراف العالم الإنساني .
ونقول نحن : أين رومية والفاتيكان من مكة ؟ رومية لا يحج إليها النصارى ,
ولا يؤمن لحبرها الأعظم جميع فرقهم ، ولا يوجد مسلم يؤمن بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم إلا ويستقبل في صلاته مكة ويحج إليها عند الاستطاعة ، لا فرق بين
سني وشيعي ووهابى وخارجي ... ولكن أمراء المسلمين وسلاطينهم هم الذين جنوا
على الإسلام وأهله ما لم يجنه الأعداء , فجعلوا البلاد المقدسة دون سائر البلاد
فأخذهم الله بذنوبهم , وفرق كلمتهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
ذكر هذا الضابط الباسل بل الضابط العاقل أن من الأمور السياسية التي
يجهلها الأوربيون كون الحكومة الشرعية في الإسلام مبنية على قواعد الدين
والمبادئ الديموقراطية , وأن أعظم مصيبة ألمت بالمسلمين هي اتخاذهم
الديموقراطية أساسًا لحكومتهم , وعدم حرصهم على البناء الذي شادوه فوقها , ثم
ذكر أن هذا الأساس هو الذي يبنى عليه هيكل الوفاق بين فرنسا التي حكومتها
ديموقراطية لا علاقة لها بالدين , وبين الإسلام الذي تسوسه الديموقراطية الدينية .
لقد صدق الرجل فيما حكاه عن أساس الحكومة الإسلامية ويتذكر قراء المنار
أننا ذكرنا غير مرة أن الإسلام هو الذي وضع أصول الحكومة الديموقراطية
المعتدلة , ولكن العالم الإنسانى لم يكن استعد لها كمال الاستعداد , ولذلك لم يتعد
العمل بها زمن الراشدين حتى جعلت السلطة المطلقة للأفراد ، ومُني الزعماء
بالاستبداد ، فكان ما كان من الفساد والإفساد , وأما اعتماد المسلمين على فرنسا في
تكوين جامعتهم على الوجه الذي ارتآه فهو المرام الذي لا يدرك واللبانة التي لا
تقضى , وكأني به وقد نسي أساس الديموقراطية الذي عمل الخلفاء والملوك
والمسلمون في نقضه من القرن الأول إلى الآن فما استطاعوا له نقضًا ، وبقي
المسلمون على ضعف الدين فيهم لا ينقادون ظاهرًا وباطنًا إلا لشريعتهم السماوية ,
وخضوعهم الظاهر للحكام القانونيين منهم ومن غيرهم لا يطابق باطنهم , ولولا
العجز ما خضعوا و رضخوا ، وهذا العجز لا يدوم لأن طبيعة العمران قاضية بأنه
سيزول قريبًا بزوال سببه , وهو الجهل العام بالشئون الاجتماعية الذي تقطعت بمداه
روابطهم الملية , وقد علم الكاتب هذا ونبه عليه غير مرة .
هذه الجامعة لا تستطيع دولة أوربية تكوينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام ,
وقد كتبنا في المنار من قبل أن الدولة الأوربية التي تدخل في الإسلام يمكنها أن
تضم إليها العالم الإسلامي كله , وأن تمتلك به الدنيا بأسرها .
نعم يمكن لفرنسا أن تعيش مع المسلمين بسلام , وأن توسع دائرة استعمارها
لبلادهم إذا هي عاملتهم بالحسنى , ولم تمس استقلالهم الديني بوجه ما , ويمكن
أيضًا للمسلمين أن يستفيدوا من انصراف عناية دولة كفرنسا إلى الاستفادة من قوة
الإسلام .
ولكن من الذي يستفيد ؟ وماذا يستفيد ؟ وكيف يستفيد ؟ أترك الكلام في هذا
لأجل أن تشتغل به الأفكار , وربما نعود إليه في فرصة أخرى .
 
21 محرم - 1318هـ
20 مايو - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

تقاريظ
( الإسلام )
طبعت جمعية التأليف رسالة بهذا الاسم جمعت فيها من جريدة المؤيد مقالات
المسيو هانوتو الأخيرة
, وما جاء في الرد عليها لأحد أئمة المسلمين وعظمائهم
ولحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة , ولا حاجة
بنا للترغيب في اقتناء هذه الرسالة فإن ما فيها قد أخذ من نفوس المسلمين مأخذًا
وأثر فيها تأثيرًا لم يعهد له نظير .
ومن الناس من نسخها بخطه ، ومنهم من حفظ نسخ المؤيد التي نشرت فيها ،
وتمنى السواد الأعظم لو تطبع لتحفظ , وتكون عبرة ومرشدًا لهم على ممر الأيام .
مقال هانوتو جرح القلوب ، وآلم الوجدان ، ومقال الإمام كشف ظلمة الشبهة ,
وأنار مصباح الحجة ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه .
وقد أجمع الناس على استحسانه حتى فضلاء المسيحيين , ولم يوجد فيه مغمز
لغامز ولا مطعن لطاعن ، فإن اتفق شذوذ واحد نقول فيه :
ليس كل خلاف جاء معتبرًا ... إلا خلاف له حظ من النظر
والرسالة تطلب من إدارة مجلة السمير الصغير ، ومن حضرة الفاضل حسن
أفندي وصفي بعموم الأوقاف ومن مكتبة المعارف في شارع بين الصورين , وثمنها
ثلاثة غروش .
 
غرة ربيع الثاني - 1318هـ
28 يوليو - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

هانوتو والإصلاح الإسلامي

ألم المسلمين من مقالات هانوتو , عظمة أمر فريضة الحج ، رأيُ كيمون في
نسف الكعبة ونقل القبر المعظم عليه كثيرون من الأوربيين , حاجتنا إلى معرفة
رأي الأوروبيين فينا ، وفاء كتاب الإسلام الذي عربه فتحي بك زغلول بهذا
الغرض , أوربا والإسلام ، خطأ الأوربيين في اتهامهم إيانا بالسعي في أن يكون لنا
حاكم واحد ، قولهم : إن الدين الإسلامي يحول دون تقدم المسلمين ، مناقشة هانوتو
في رده على كيمون ، الفصل بين السلطتين السياسية والدينية ، سيرة فرنسا في
الجزائر وتونس , النسبة بين الصلاة والحج ، المساواة في الإسلام ، حقيقة أثر
الإسلام في التقدم والتأخر ، الرأي في إزالة سوء التفاهم بين أوربا والمسلمين .
نشرت مقالات هانوتو في ( الإسلام ) فما بلغت البلاد الإسلامية إلا وقامت لها
وقعدت , وأشد ما أمضَّها منها وجرح وجدانها هو ما نقله عن ( كيمون ) من
التحريض على نسف الكعبة المكرمة ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر , ومن
وصف الإسلام بالأوصاف القبيحة الشائنة , وما صرح هو به من رغبة أوربا في
الحيلولة بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج التي هي من أركان الدين الإسلامي لا
من أعماله المندوبة أو المستحبة ولا من الواجبات المخيَّر بها المكلف . ولو أن ما
جاء في تلك المقالات هو رأي كيمون وحده أو رأيه ورأي هانوتو معًا ، لما كان لنا أن
نلقي إليه بالاً أو نعده بلاء ووبالاً ولكنه رأي الكثيرين من الكتاب والسياسين . ومن
البلاء الأكبر أننا نجهل هذا وهو من أسوأ أنواع الجهل وأقبحها وأشدها ضررًا
ووخامة عاقبة لأن بغض الأمم الأوربية واحتقارهم لنا ما جاء إلا من الكتاب
والسياسيين القابضين على أزِمَّة النفوس والمتصرفين في الوجدانات والعقول . وقد
ذقنا مرارة هذا البغض والاحتقار , وربما كان ما سنلاقيه من الألاقي ( الدواهي )
أشد مما لاقيناه في الماضي .
علم عقلاؤنا شدة حاجتنا إلى الوقوف على اعتقاد الأوربيين فينا فقام صاحب
الهمة العلية والغيرة الملية أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر بترجمة كتاب
من الكتب التي ألفوها في الإسلام[1] ليكون عبرةً لنا وباعثًا لعلمائنا وكتابنا على
الدفاع عن حقيقتنا ببيان حقيقة الإسلام لهم ليزول سوء التفاهم , وبإصلاح شئوننا
حتى لا يكون لهم حجة علينا ، فلم يكن من بعض أصحاب الأنظار القصيرة والآراء
الأفينة إلا أن نَفَرُوا ونَفَّرُوا من قراءة الكتاب المذكور زعمًا منهم أن تعظيم الدين
ومن جاء به إنما يكون بجهل ما يقوله خصماؤه فيه وما يريدونه من السوء به ,
ومن هؤلاء الاغرار من خطأ المؤيد بنشر ترجمة مقالات هانوتو الأخيرة .
دع هؤلاء الغافلين في جهلهم الذي سموه تعظيمًا وهلم بنا للبحث في هذا
الموضوع الذي هو أهم مصالح الإسلام والمسلمين - موضوع العلاقة بين أوربا
والإسلام وما يريده القوم منا وما نريده منهم وما نريده من أنفسنا تجاههم . تتهم
أوربا كتاب المسلمين بأنهم قاموا في هذه السنوات الأخيرة يطالبون إخوانهم في
جميع أقطار الأرض بالاتحاد والاجتماع تحت راية واحدة والسعي في أن يكون
حاكمهم كلهم واحدًا منهم فحزبها هذا الأمر وأهمها لأن غايته نزع المستعمرات
الإسلامية من مخالب الدول المسيحية , وقد كتبنا في الجزء الحادي عشر من هذه
السنة مقالة عنوانها ( أوربا والإصلاح والإسلامي ) بينا فيها أن كتاب المسلمين لا
يطالبونهم في هذه الأيام إلا بمجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال وما خطر على
بال أحد منهم أن يحضهم على السعي في أن يكون لهم حاكم واحد , وكل يعتقد أنه
لا سبيل إلى ذلك . والآن نعيد القول بمناسبة ما جرى بين موسيو هانوتو وسعادة
بشارة باشا تقلا ونشر في جريدة الأهرام منذ أيام , وأهم ما في تلك المذاكرة أمور :
( أحدها ) قول هانوتو للباشا : ( أنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسويين ,
ولم أستشهد بكيمون وهو يوناني الجنس إلا لأفنّد أقواله التي لم ينفرد بها , فإن
كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسويين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه وقالوا
قوله , وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام
معتقدهم يحول دون ذلك , وحجة هؤلاء واحدة وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر
الشرق لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي , وأن كل حكومة انفصلت عن
الشرق سارت على منهاج أوروبا علمًا ومدنية فنجحت مع أن العثمانية و أفغانستان
ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة , وأنا ذكرت من
هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم , ولأفند مزاعم هذا
الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون
الإصلاح والمدنية , واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس فذكرتها مثالاً أؤيد
به أقوالي وسياستي , هذه هي روح كتابتي السابقة , وإنها ستكون روح اللاحقة ) ثم
ذكر أن مغزى كتابة هؤلاء لا تخرج عن إعادة الكَرَّات الصليبية . ونحن نقول : إنه
لا يفند رأي كيمون إلا من هذه الجهة - جهة التحريض على الحرب الصليبية - لما
في ذلك من الخطر على العالم كله فإن مناوأة ثلاثمائة مليون مسلم ( أو مجنون كما
يقول كيمون ) يتمنون الموت في سبيل الدين ، ليس بالأمر الهين والسهل , ولكن
فلسفته في عقائد الدين الإسلامي كان من معناها أن المسلمين أو الساميين عامةً لا
يمكن أن يجاروا المسيحيين أو الآريين ؛ لأن طبيعة عقائدهم لا سيما القضاء والقدر
تحول دون ذلك , وذكر أن تمسك المسلمين بدينهم المقتضي للتأخر يسهل على أوربا
أن تحل رابطته وتفصم عروته , واستشهد على هذا بأن فرنسا تمكنت من فصل
تونس عن مكة وذلك بمنع أهلها من أداء فريضة الحج الشريف .
( ثانيها ) مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسة وهي أهم
المسائل التي تطلبها أوربا من المسلمين , والجرائد التي تدعو الشرقيين أو المسلمين
إلى مدنية أوربا تجتهد في في إقامة الحجج على أن النجاح موقوف على هذا الفصل ,
وربما كان فيهم من يعتقد ذلك حقيقة , وقد كتبنا في هذا غير مرة ومن ذلك مقالة
عنوانها ( الدين والدولة والخلافة والسلطنة ) بلغنا أن قناصل الدول في القاهرة
ترجموها وأرسلوها إلى أوربا , وليس من غرضنا الآن إلا مناقشة موسيو هانوتو
للوقوف على حقيقة مراده , قال في حديثه مع تقلا باشا بعد كلام في المسألة :
( وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسويين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق
للسلطة الحاكمة مع احترام عقائد الشعوب الذين تحت حكمنا وسلطتنا , وهو ماسرنا
عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية ) ونحن نقول :
إن المسلمين يكتفون من الفرنسوين وغيرهم من المتسلطين عليهم من الأوروبيين
بأن لا يتعرضوا لشيء من أمور دينهم , ولكن الفرنسويين منعوا الحج من
القطرين واستولوا على الأوقاف ومنعوا حقوق الحرمين الشريفين منها , وذكر
العلامة الشيخ محمد بيرم في رحلته ( صفوة الاعتبار ) أنه لم يبق في مدينة
الجزائر إلا أربعة جوامع , ولقد عارض الباشا هانوتو مذكرًا له بأن أهل الجزائر
غير راضين عن فرنسا فاعترف بذلك ووعد بالكتابة فيه , وأكد القول بأن أهل
تونس راضون بإصلاح فرنسا بلادهم لاحترامها جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم
الشخصية وهي راضية منهم باحترام سلطتها السياسية وإذا كان هذا القول صحيحًا
فما هو إلا لأنهم يعتقدون أن منع الحج أمر عرضي مؤقت ، الغرض منه المحافظة
على الصحة وأنهم يتوقعون في كل عام الإذن لهم بإقامة هذا الركن الإسلامي العظيم ,
فإذا علموا بعد ذلك بأن الغاية منه فصل تونس من مكة فلا يمكن أن يرضى منهم واحد
بذلك , ولا بد أن تظهر آثار السخط عليهم أجمعين إذ لا فرق عندهم بين أن يمنعوا من
دخول المساجد لأداء الصلاة وبين أن يمنعوا من دخول الحرم الشريف لأداء الحج ,
بل المنع الأخير أشد جناية على الدين لأن الصلاة يصح أن تؤدى في البيوت والطرق
وكل مكان , وأما الحج فلا يصح إلا في مكة المكرمة . فإذا كان ما يقوله موسيو
هانوتو حقًّا فما على حكومته إلا أن تثبته بإزالة المنع من الحج وبدون هذا لا يمكن أن
يصدق هذه الأقوال أحد من قارئيها على أنهم أقل القليل , إن الأمة الإسلامية أصبحت
أسوأ اعتقادًا بفرنسا من سائر الدول بسبب منع الحج لأن لأهل الجزائر وتونس شئونًا
خاصة في بلاد الحجاز تستلفت إليهم جميع الشعوب الإسلامية , وذلك في اجتماعهم
ومدافعة بعضهم عن بعض وكلامهم وعاداتهم , وقد نقل إلينا أنهم افتقدوا بعد المنع في
عرفات لا سيما في هذه السنة , وكان حديث الحجاج أن فرنسا منعتهم من أداء فرضهم
غلوًّا في التعصب على الإسلام .
يسهل على هانوتو وغيره أن يقنع بعض من يقرأ كلامه من المسلمين بالأدلة
النظرية على حسن قصد فرنسا بمنع الحج في هذه السنين , ويتعذر عليه وعلى كل
أحد أن يقنع العالم الإسلامي بذلك , ولكن يسهل على فرنسا هذا الإقناع بإزالة المانع
كما قلنا .
( ثالثها ) قول موسيو هانوتو : إن أوربا لا تسعى إلا لمصلحتها السياسية
وأنها ستتفق على المسائل الشرقية اتفاقها الآن على دولة الصين ، وأن مِن جَهْل كُتَّابنا
التحيز للألمانيين لنكاية الإنكليز والانتصار للفرنسويين على الألمانيين ( مثلاً )
وهذا القول صحيح وهو موضع العبرة لمن يعتبر والعظة لمن يعقل , وقد بالغ
هانوتو في تبرئة أوربا من التعصب الديني علي المسلمين وخطَّأ الذين يدَّعون هذا
محتجًّا بحرب القريم وغيرها , فإذا سلَّم له المسلمون احتجاجه وقالوا : إننا لا ثقة
لنا بأوربا , ولا يمكن أن نأمن لها ونطمئن بوعودها لأنها طامعة في بلادنا وعاملة
على نزع استقلالنا بعامل المصلحة والسياسة لا بعامل الاعتقاد والدين , فهل يمكن
لهانوتو أن يزيل هذا العذر بفصاحته بعد ما أثبت أسبابه بصريح قوله ؟ ؟
( رابعها ) قول تقلا باشا لهانوتو : ( المسلمون يعتقدون أن مصلحة أوربا
المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول
المسيحية , وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ولو
أخلص لهم الخدمة وصدق معهم ) قوله هذا مبالغ فيه فإن المسلمين كانوا ولا
يزالون يقلدون المسيحيين المناصب العالية , ويثقون بمن يصدق ويسير بالأمانة ,
وانظر كيف كان رستم باشا موضع ثقة الأمة الإسلامية وإمامها الأعظم السلطان عبد
الحميد وانظر إلى كثرة الموظفين في الدولة العلية من الأرمن على خيانتهم
وثوراتهم المتعددة , وانظر إلى الحكومة المصرية كيف كانت تقدم المسيحيين ولو
غرباء على المسلمين المصريين أصحاب البلاد , ولكن تكرار الخيانة يعلم البليد
الحذر .
( خامسها ) قول موسيو هانوتو : إنه كان يجب على المسلمين الذين
عركتهم حوادث السنين أو الذين درسوا في أوربا أن يهتموا بنشر العلوم العصرية
في بلادهم وأن يسعوا في إزالة سوء التفاهم بين الشرق والغرب بأن يتلوا تلو أوربا
في الاجتهاد والإقدام كما فعلت اليابان , ومن الأسف أن هذا الرجل على سعة
معارفه بأحوال عصره لما يدرِ بأن عقلاء المسلمين وكُتابهم قد جعلوا كل عنايتهم في
هذا الأمر النافع , وقد صدق في قوله : إن التعليم لا يفيد إذا لم يصحبه التهذيب ,
وفى قوله : إن المتعلمين في أوربا منا ربما كانوا أكثر من الذين تعلموا فيها من
اليابان , ولكن ظهرت في اليابان نتيجة لم يظهر مثلها عندنا .
( سادسها ) ما ختم به قوله من أن النجاح مشروط بخدمة الوطن خدمة
منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية ( قال ) : لأن الوطن الواحد قد يجمع أكثر
من عنصر ومعتقد ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرًا واحدًا إلى أن قال : لهذا كانت الرابطة الوطنية أعم وأشد من الرابطة الدينية وهي التي كانت قاعدة
أوربا وبها تقدمت وتمدنت ونجحت , ونحن نقول : إن هذا القول لا يصدق على
الدين الإسلامي فإن الرابطة الإسلامية لها طرفان : طرف روحي يضم أبناء الدين
ويجعلهم إخوة بعضهم أولياء بعض في الدين , وطرف مادي اجتماعي يضم مع
المسلمين غيرهم من العناصر ما عدا المحاربين الذين لا عهد لهم ، ويجعل الجميع
سواءً في الحقوق لا يفضل المسلم مهما كان عظيمًا على غير المسلم مهما كان حقيرًا ,
وبهذا يمكن أن تعمر البلاد وتسعد العباد , وقد أوضحنا هذا المبحث في مقالة
نشرت في المجلد الثاني من المنار عنوانها ( الجنسية والدين الإسلامي ) ونوهنا به في
مقالات أخرى كثيرة .
ولا يمكن لكتاب المسلمين أن يجعل كل واحد منهم إرشاده لأهل بلاده خاصة
لأن تأخرهم لم ينسب إلى بلادهم وإنما هو منسوب إلى دينهم وهو يوافقون كُتَّاب
أوربا على قولهم : إن للدين أقوى الأثر في هذا التأخر , ولكنهم يخالفونهم في وجهه
فأولئك يزعمون أن طبيعة الدين تقتضي هذا ونحن نوقن أن طبيعته تقتضي التقدم
وأن التأخر ما جاء إلا من الانحراف عن سننه ولبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا ( كما
قال الإمام علي كرم الله وجهه ) وقد بينا هذا من قبل في مقالات كثيرة ولكن صوتنا
لا يصل إلى هانوتو وأمثاله من السياسيين والكتاب الأوربيين , ولا ينقل لهم
الوسطاء بيننا وبينهم إلا أقوالاً مقتضبة مختزلة يستثيرون بها إحنتهم علينا , ولو
نقلوا إليهم كتابة من يعتد بكلامهم ويوثق بمعرفتهم للإسلام لقبله المنصفون وزال
سوء التفاهم الذي نتمناه كما تمناه هانوتو وغيره من العقلاء أو أشد تمنيًا , وربما
كان فيه الخير للفريقين , فعسى أن نصل إلى هذه الأمنية بالجرائد الشرقية التي
تنشر باللغات الأوربية كالمؤيد الفرنسوي في مصر ومحمدان ومسلم كرونكل في
الهند , وغيرها من الجرائد المسيحية المنصفة والله يجزي المحسنين .
__________
(1) هو كتاب عنوانه ( الإسلام خواطر وسوانح ) من تأليف الكونت هنري دي كاستري وهو من أحسن الأوربيين الذين كتبوا في الإسلام رأيًا وأحسنهم عنه دفاعًا ولكنه يعرفنا جميع خطأ المخطئين وعيب العائبين .​
 
21 ربيع الثاني - 1318هـ
17 أغسطس - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

مدنية العرب
نبذة ثالثة

السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين . العلم في الدولة
العباسية . من عضده في الشرق من دونهم . العلم في الأندلس وفي مصر . العلوم
الفلكية عند العرب . التنجيم والكهانة . السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي
الدين عنه . العلم قبل الإسلام . الساعة الدقاقة . أخذ العلم للعمل . التحول بالعلم عن
العمل إلى النظريات وسببه . مشاهير الفلكيين . الاكتشافات والاختراعات
الإسلامية .
***
لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه
والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية ،
فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى
غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في
آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية . وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار
الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط
الآخر ( عدم المانع ) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم
البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء
نور دعوتهم ، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت
كلمته ونفذت شوكته ، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم
والعرفان . وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به .
قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم ,
ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة
وإفشاء أسرار الخليقة , واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب
الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه , وجرى
من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من
حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه , ولذلك بقي قائمًا
على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم
ملكهم زلزالاً . نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف
الفتن وشدتها . وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء
على العباسيين و عضد الدولة و شرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم
ويمد إليه ساعد المساعدة . وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات
العلمية لترقية الفنون . ولا ننسى فضل ملكشاه و محمد شاه من السلجوقيين وأشد ما
مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها
أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار . وما كان مثل العلم في الإسلام
إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر , وإذا سدله مجرى
تحول إلى مجرى غيره ، فلا تزول بالمرة أثباجه ( مجاريه ) ولا تنقطع أمواجه .
تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام
وفي شيراز و سمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان
من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد
الآخرون .
تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من
مشرقه بهاء , ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في
الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا . ورفعوا للمعارف صرحًا
عاليًا ومنارًا . وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا . فكانت أشبيليه و قرطبه و
غرناطه و مرسيه و طليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع . ولقد علا
مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه و فاس و مراكش و سبته من
معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس .
وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من
العلم بعيدًا من حظ الجناحين ، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت
دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب
الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز .
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً .
***
العلوم الفلكية
كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم
الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات
الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال
على حكمة مبدعه ومدبره , ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى
بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً , وحب الإشراف
على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى
الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين
والمنجمين . لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب
ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه . ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به
على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة , وقد جعل العرب كل واحد من هذين
علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية .
لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في
النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس
و سقراط و جالينوس و إقليدس و بطليموس وغيرهم ، وقد أحسن المهدي و الرشيد
صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم , ثم وجد في المسلمين من يحسن
الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية ,
ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما
صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم ، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام .
أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين ( ما شاء الله ) الفلكي
المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية و أحمد بن محمد النهاوندي وأول من
أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس . تناول العرب هذه الكتب
من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر ,
ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات , فكان من
بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف : ( من عمل بما علم
ورثة الله علم ما لم يعلم ) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة
الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم
أوربا لعهده , ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت
فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع .
ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا
لاستمرار الترقي فيه , ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها : مزج الدين بالعلم
وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة
فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج .
واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون . استخرج هذا الإمام لقومه
العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين
وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر
والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس ، و تيودوس , وأبولوينوس
وإيسيقليس و مينيلوس , وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها ,
وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي , وكان هذا قد ألف أرصادًا
مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ ، وهذان هما اللذان
قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر ,
وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب ، وحسبوا
الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس
ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر
المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد , ورصد
أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى
الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية , ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا
بالاكتشاف والاختراع , وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء
موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح , وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس
في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم ( رصدخانه )
المبني على قنطرة بغداد , وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض
القمر , وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد
زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة ( المتوفى سنة 287هـ ) كتاب المجسطي ثانية ,
وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات
مفيدة , وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح
المجسطي ، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون ,
وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من
بعده مدة قرن واحد , ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني ,
والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين ( المتوفى سنة 317هـ ) .
وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره , وألف أربعة أرصاد
في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة , ومنهم علي بن
أماجور وأخوه ، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة
لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب
من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما
أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم و عبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم
منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة
( وقد مر ذكرهما ) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون .
لها بقية
 
11 جمادى الأولى - 1318هـ
6 سبتمبر - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا

ميزان الإيمان وسلم الأمم
أو السلف والخلف في الإسلام
[*]
الوعود الإلهية بنصر المؤمنين وبأن الأرض يرثها الصالحون . إثبات العزة
للمؤمنين . آيات الوعد محكمة لا تقبل التأويل . صدقها على سلف المسلمين . حالة
الإسلام في الصدر الأول . حال المسلمين اليوم . عدم صدق الآيات عليهم . السبب
فيه تغيير ما بأنفسهم . ما هو التغيير والمتغير ؟ ما به تقوم الدول والأمم . علامة
المؤمن الصادق وعلامة المنافق . الوحدة الإسلامية . حث العلماء على القيام بها .
] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [( الرعد : 11 ) , { ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الأنفال :
53 ) .
تلك آيات الكتاب الحكيم , تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولا يرتاب فيها
إلا القوم الضالون . هل يخلف الله وعده وهو أصدق من وعد وأقدر من وفى ؟ هل
كذب الله رسله ؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم ؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال ؟
نعوذ بالله . هل أنزل الآيات البينات لغوًا وعبثًا ؟ هل افترت عليه رسله كذبًا ؟
هل اختلقوا عليه إفكًا ؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا
يدركونها ؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون ؟ نستغفر الله . أليس قد أنزل القرآن
عربيًّا غير ذي عوج وفصل فيه كل أمر وأودعه تبيانًا لكل شيء ؟ تقدست صفاته
وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا . هو الصادق في وعده ووعيده ما اتخذ
رسولاً كذابًا ولا أتى شيئًا عبثًا وما هدانا إلا سبيل الرشاد ولا تبديل لآياته تزول
السموات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه .
يقول الله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ } ( الأنبياء : 105 ) ويقول : { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون : 8 ) وقال : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 ) وقال :
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا } ( الفتح : 28 ) هذا ما وعد الله في
محكم الآيات مما لا يقبل تأويلاً . ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن
السبيل , ورام تحريف الكلم عن مواضعه . هذا عهده إلى هذه الأمة المرحومة ,
ولن يخلف الله عهده ، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة ومهد لها سبيل ما وعدها
إلى يوم القيامة وما جعل لمجدها أمدًا ولا لعزتها حدًّا .
هذه أمة أنشأها الله عن قلة ، ورفع شأنها إلى ذروة العلاء حتى ثبتت أقدامها
على فتن الشامخات ودكت لعظمتها عوالي الراسيات وانشقت لهيبتها سرائر
الضاريات وذابت للرعب منها أعشار القلوب . هال ظهورها الهائل كل نفس
وتحير في سببه كل عقل واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا : قوم كانوا مع الله فكان
الله معهم . جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده . هذه
أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر معوزة من الأسلحة وعدد القتال فاخترقت صفوف
الأمم واختطت ديارها ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم ولا صدتها قلاع الرومان
ومعاقلهم ولا عاقها صعوبة الممالك ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية ولا فعل في
نفوسها غزارة الثروة عند من سواها ولا راعها جلالة ملوكهم وقدم بيوتهم ولا تنوع
صنائعهم ولا سعة دائرة فنونهم ولا عاق سيرها أحكام القوانين ولا تنظيم الشرائع
ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة . كانت تطرق ديار القوم فيحقرون
أمرها ويستهينون بها وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع
أركان تلك الدولة العظيمة وتمحو أسماءها من لوح المجد وما كان يختلج بصدر أن
هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة وتمكن في نفوسها عقائد دينها
وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها لكن كان كل ذلك ونالت تلك الأمة المرحومة
على ضعفها ما لم تنله أمة سواها . نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم
أجورهم مجدًا في الدنيا وسعادة في الآخرة .
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس [**] وأراضيها آخذة
من المحيط الأتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين تربةً طيبةً ومنابت خصبةً وديارًا
رحبةً ومع ذلك نرى بلادها منهوبة وأموالها مسلوبة تتغلب الأجانب على شعوب
هذه الأمة شعبًا شعبًا . ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة ولم يبق لها كلمة تسمع
ولا أمر يطاع حتى أن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة ويمسون في
كربة مدلهمة ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء
لهم . هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن
صاغرات استبقاء لحياتهن وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك
الدول الأجنبية . ياللمصيبة ويا للرزية . أليس هذا بخطب جلل ؟ أليس هذا ببلاء
نزل ؟ ما سبب هذا الهبوط وما علة هذا الانحطاط ؟ هل نسيء الظن بالوعود
الإلهية ؟ معاذ الله , هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا ؟ نعوذ بالله .
هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد ما أكده لنا . حاشاه سبحانه . لا كان شيء من ذلك
ولن يكون فعلينا أن ننظر إلى أنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها . إن الله تعالى برحمته قد
وضع لسير الأمم سننًا متبعة ثم قال : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } ( الأحزاب :
62 ) .
أرشدنا الله في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ولا بادت
ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على
أساس الحكمة البالغة . إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض
عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر
وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين
جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار ثم الفناء لعدولهم عن سنة العدل
وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة . حادوا عن الاستقامة في الرأي والصدق
في القول والسلامة في الصدور والعفة عن الشهوات والحمية على الحق والقيام
بنصره والتعاون على حمايته . خذلوا العدل ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته
واتبعوا الأهواء الباطلة وانكبوا على الشهوات الفانية وأتوا عظائم المنكرات .
خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة , واختاروا الحياة في
الباطل على الموت في نصرة الحق فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين .
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها وجعل هلاكها
ودمارها في التخلي عنها . سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم ولا تتبدل بتبدل
الأجيال كسنته تعالى في الخلق والإيجاد وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال . علينا أن
نرجع إلى قلوبنا ونمتحن مداركنا ونسبر أخلاقنا ونلاحظ مسالك سيرنا لنعلم هل
نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح هل غيَّر
الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا وخالف فينا حكمه وبدل في أمرنا سنته ؟ حاشاه
وتعالى عما يصفون بل صدقنا الله وعده حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه
من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا فبدل عزنا بالذل
وسمونا بالانحطاط وغنانا بالفقر وسيادتنا بالعبودية . نبذنا أوامر الله ظِهْريًّا وتخاذلنا
عن نصره فجازانا بسوء أعمالنا ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة
إليه . كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا ويستذلون أهلنا
ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا ولا نرى في أحد منا حراكًًًًا .
هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن
أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كل
واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة وأن كان غذاؤه الذلة وكساؤه المسكنة ومسكنه
الهوان . تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا وكاد يتقطع ما بيننا لا يحن أخ لأخيه , ولا يهتم
جار بأمر جاره , ولا يرقب أحدنا في الآخر إلاًّ ولا ذمة , ولا نحترم شعائر ديننا
ولا ندافع عن حوزته ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا .
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا
يمس سواد القلوب ؟ هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف فإن أصابهم خير
اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوهم خسروا الدنيا والآخرة ؟ هل ظنوا
أن لا يبتلي الله ما في صدورهم ولا يمحص ما في قلوبهم ؟ ألا يعلمون أن الله لا
يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ؟ هل نسوا أن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته لا يبخلون في
سبيله بمال ولا يشحون بنفس ؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم
يخط خطوة في سبيل الإيمان لا بماله ولا بروحه . إنما المؤمنون هم الذين إذا قال
لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا
ويقولون في إقدامهم : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ } ( آل عمران : 173 ) كيف
يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه ممتع
بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان ؟ كيف يخاف مؤمن من غير الله , والله
يقول : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 175 ) .
فلينظر كلٌّ إلى نفسه ولا يتبع وسواس الشيطان وليمتحن كل واحد قلبه قبل
أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة ، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به
المؤمنين وما جعله من خصائص الإيمان , فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا
واهتدينا . يا سبحان الله ! إن هذه أمتنا أمة واحدة والعمل في صيانتها من الأعداء
أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء . يثبت ذلك نص الكتاب العزيز
وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة
بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة والمتَّسمون بسمة الإسلام آهلون لكل
أرض متمكنون بكل قطر ولا تأخذهم على الدين نعرة ولا تستفزهم للدفاع عنه
حَمِيَّةٌ ؟ . ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن ، وتعملوا بما فيه
من الأوامر والنواهي ، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكمة في
العمل كما كان سلفكم الصالح . ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه { فَإِذَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ } ( محمد : 20 ) ألا تعلمون فيمن نزلت هذه
الآية ؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم . هل يسرُّ مسلمًا أن يتناوله الوصف
المشار إليه في الآية الكريمة أو غرّ كثيرا من المدعين للإيمان ما زين لهم من سوء
أعمالهم وما حسنته لديهم أهواؤهم { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد : 24 ) أقول ولا أخشى نكيرًا : لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون
أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان لا يراعي في ذلك عذرًا ولا تعلة وكل
اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله .. .. .. .. .
مع هذا كله نقول : إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ
النبوَّة وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا يزول ولو قام العلماء
الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله والرسول وللمؤمنين لرأيت الحق يسمو
والباطل يسفل ولرأيت نورًا يبهر الأبصار وأعمالاً تحار فيها الأفكار , وإن الحركة
التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله قد أعدَّ
النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين ويوحّد بها بين جميع الموحدين ونرجو
أن يكون العمل قريبًا فإن فعل المسلمون ذلك وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله
عليهم صحت لهم الأوبة ونصحت منهم التوبة وعفا الله عنهم { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
المُؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 152 ) فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير وهو
الخير كله - جمع كلمة المسلمين - والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم في العمل
{ ومَن يَهْدِ الله فَهو المُهْتَدِ ومَنْ يُضْلِلْ فَلن تَجِدَ لهُ وَليًّا مُرْشِدًا } ( الكهف : 17 ) .
( المنار )
ليس المراد بجمع كلمة المسلمين أن يكون لهم سلطان واحد وحكومة واحدة فقد
صرح صاحب المقالة في مقالة أخرى بأنه لا يعني بجمع كلمة المسلمين أن يكون
إمامهم الحاكم واحدًا وقال : إن هذا ربما كان متعذرًا وإنما أعني أن يكون إمامهم
القرآن . وليعتبر بما في المقالة من الآيات البينات على وجوب العناية بأمر الحرب
المسلمون الذين يعدون انتظام أبنائهم في سلك الجهادية من أكبر المصائب ويحتالون
في الهروب منها حتى بإتلاف بعض الأعضاء ويتوسلون إلى أضرحة الأولياء
والصالحين لإنجائهم من ذلك فيا للفضيحة ويا للبعد عن الإسلام . وظاهر أنه لا
يمكن لأمة أن تحفظ وجودها وتصون استقلالها إلا بالقوة الحربية والأمة التي لا قوة
لها ولا استقلال تكون في أسوأ الأحوال سواء كان ذلك في الآداب والفضائل أو في
الأعمال والصنائع النافعة بل لا يمكن دفع مصائب الحرب إلا بالاستعداد الكامل
للحرب .
__________
(*) من مقالات العروة الوثقى الحكيمة والعنوان لنا .
(**) ثبت بالإحصاء الأخير أن المسلمين ثلاثمائة مليون أو يزيدون وما في المقالة كان بحسب
الإحصاء السابق .​
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
مدنية العرب
نبذة ثالثة

السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين . العلم في الدولة
العباسية . من عضده في الشرق من دونهم . العلم في الأندلس وفي مصر . العلوم
الفلكية عند العرب . التنجيم والكهانة . السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي
الدين عنه . العلم قبل الإسلام . الساعة الدقاقة . أخذ العلم للعمل . التحول بالعلم عن
العمل إلى النظريات وسببه . مشاهير الفلكيين . الاكتشافات والاختراعات
الإسلامية .
***
لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه
والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية ،
فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى
غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في
آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية . وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار
الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط
الآخر ( عدم المانع ) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم
البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء
نور دعوتهم ، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت
كلمته ونفذت شوكته ، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم
والعرفان . وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به .
قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم ,
ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة
وإفشاء أسرار الخليقة , واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب
الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه , وجرى
من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من
حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه , ولذلك بقي قائمًا
على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم
ملكهم زلزالاً . نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف
الفتن وشدتها . وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء
على العباسيين و عضد الدولة و شرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم
ويمد إليه ساعد المساعدة . وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات
العلمية لترقية الفنون . ولا ننسى فضل ملكشاه و محمد شاه من السلجوقيين وأشد ما
مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها
أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار . وما كان مثل العلم في الإسلام
إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر , وإذا سدله مجرى
تحول إلى مجرى غيره ، فلا تزول بالمرة أثباجه ( مجاريه ) ولا تنقطع أمواجه .
تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام
وفي شيراز و سمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان
من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد
الآخرون .
تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من
مشرقه بهاء , ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في
الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا . ورفعوا للمعارف صرحًا
عاليًا ومنارًا . وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا . فكانت أشبيليه و قرطبه و
غرناطه و مرسيه و طليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع . ولقد علا
مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه و فاس و مراكش و سبته من
معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس .
وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من
العلم بعيدًا من حظ الجناحين ، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت
دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب
الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز .
تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً .
***
العلوم الفلكية
كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم
الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات
الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال
على حكمة مبدعه ومدبره , ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى
بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً , وحب الإشراف
على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى
الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين
والمنجمين . لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب
ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه . ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به
على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة , وقد جعل العرب كل واحد من هذين
علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية .
لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في
النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس
و سقراط و جالينوس و إقليدس و بطليموس وغيرهم ، وقد أحسن المهدي و الرشيد
صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم , ثم وجد في المسلمين من يحسن
الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية ,
ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما
صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم ، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام .
أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين ( ما شاء الله ) الفلكي
المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية و أحمد بن محمد النهاوندي وأول من
أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس . تناول العرب هذه الكتب
من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر ,
ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات , فكان من
بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف : ( من عمل بما علم
ورثة الله علم ما لم يعلم ) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة
الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم
أوربا لعهده , ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت
فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع .
ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا
لاستمرار الترقي فيه , ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها : مزج الدين بالعلم
وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة
فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج .
واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون . استخرج هذا الإمام لقومه
العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين
وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر
والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس ، و تيودوس , وأبولوينوس
وإيسيقليس و مينيلوس , وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها ,
وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي , وكان هذا قد ألف أرصادًا
مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ ، وهذان هما اللذان
قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر ,
وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب ، وحسبوا
الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس
ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر
المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد , ورصد
أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى
الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية , ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا
بالاكتشاف والاختراع , وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء
موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح , وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس
في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم ( رصدخانه )
المبني على قنطرة بغداد , وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض
القمر , وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد
زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة ( المتوفى سنة 287هـ ) كتاب المجسطي ثانية ,
وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات
مفيدة , وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح
المجسطي ، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون ,
وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من
بعده مدة قرن واحد , ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني ,
والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين ( المتوفى سنة 317هـ ) .
وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره , وألف أربعة أرصاد
في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة , ومنهم علي بن
أماجور وأخوه ، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة
لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب
من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما
أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم و عبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم
منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة
( وقد مر ذكرهما ) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون .
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
غرة جمادىالأولى - 1318هـ
27 أغسطس - 1900م​
(3/)
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
مدنية العرب
نبذة رابعة

مدرسة بغداد وطريقة علمائها . اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل . الأرصاد
المأمونية . أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته . التتار واهتداؤهم
ونصرهم للعلم . مرصد مراغة وامتيازه . الفلك في مصر . ابن يونس والزيج
الحاكمي ومرصد المقطم . اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة . الفلك في
الأندلس و المغرب .. ..
ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من
الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره
ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم
تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا . ولا يزال
فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق . قال بعض مؤرخي الإفرنجة : إن العرب
استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد واتبعوا قواعدهم
وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية
والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما
اتضحت صحته وعرفت حقيقته , ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف
ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم
علم الفلك , ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية
من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب ( تلسكوب ) ولا إسطرلاب .
ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون .
ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع
العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة
البروج ( الأكليتيك ) سنة 385هـ - 995 م برفع دائرة نصف قطرها خمسة
عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري
السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا , وأظهر في حساب سير القمر
اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه ( تيكو براحه ) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء
الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف
كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما
اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها
المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر ,
وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره
وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل . ومن مشاهيرهم البيروني و أبو سهل
الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة .
***
الفلك في أعاجم المسلمين
جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء
زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا
المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء
فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق
دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل تسابق العلم والدين إلى عقولهم
فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني , وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول , ولا غرو
فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول . جمع هلاكو خان ( وقد اختلف
المؤرخون في إسلامه ) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير
الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد ، والشام ,
والموصل , وخراسان , وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف
بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل
فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله . وجعل
في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع
أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء . وبنى ألوغ بيك مرصدًا في
دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها ,
وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده , ولا ننسى أن
تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان
مشهورًا .
***
علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى
قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة
الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس
العباسيين على ما بينا قبل . ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار
المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب
وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب
الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة 389هـ .
جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته
ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي ( الذي نوهنا به
في النبذة الثالثة ) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله
واستفاد من أزياجه , وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد
خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في
الفرس من بعده بنحو سبعين سنة . ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي ,
وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا
في الأرصاد ، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس , وقد انتفع بأزياجه
المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه
أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت
إلى 30 سنة .
وأما الأندلس , وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك ، وقد اقتبس
منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا
ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي ، وظن أن نقطةً
سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد .
ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي , وابن أبي طلحة الذي عمل في
ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي
فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد 402 وأرصاد أخرى لمبادرة حركة
الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية ( نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس )
والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة , ومنهم جابر
ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية .
ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى
عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك
فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية
الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون , ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات
والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر
ارتفاع القطب الشمالي في 41 مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد
المغرب وآخرها القاهرة , فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة
الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار ؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم
يجاوبني قائلاً : إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين .
حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين . عندما يرونهم سائحين ومؤلفين
ومخترعين ومكتشفين . وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون ,
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
 
غرة رمضان - 1318هـ
23ديسمبر - 1900م​
الكاتب : محمد رشيد رضا​
مسألة زيد وزينب
إيضاح وخلاصة

رد شبهة مسيحي فاضل
لقد كان لما كتبه مولانا مفتي الديار المصرية في هذه المسألة , ونشرناه في
الجزء 27 أجمل وقع . وأجمل نفع . فتقشعت به سحب الشبهات . وانحلت عقد
المشكلات . وسكتت حركة الشكوك التي كان يثور عجاجها . وتتلاطم أمواجها .
وينهمر ثجاجها . وتتدفق أثباجها . وشفيت أمراض أعيا الأطباء علاجها . وقطعت
من شخوص المطاعن حلاقيمها وأوداجها . وهكذا يقذف بالحق على الباطل . فيدمغه
فإذا هو زاهق وزائل .
إلا أن كلام الأستاذ في علوّ أسلوبه وبديع تأليفه وتركيبه . ورسوخ عرقه في
الفصاحة . وبُعْد غوره في البلاغة . لم تتجلَّ جميع مقاصده لجميع الأذهان . ولم
تتجل عرائس حسنه لكل من له عينان . ومن الناس من أعشاه نوره . وراعت فؤاده
حوره . فاشتبه عليه سلطان البرهان . بسحر البيان . فتوهم أنه مسحور الوجدان .
لا مقتنع العقل والجنان . وتخيل أنه مختلب بعبارة القلم واللسان . لا مجتذب
ببراعة الحجة إلى قرارة الإقرار والإذعان . أعني بهذا وما قبله من استزادنا في
المسألة بيانًا . ليزداد الذين آمنوا إيمانًا . ومن قال من فضلاء المسيحيين : إن
الشبهة لم تنكشف عن غير المسلمين , وإنما غشيها من فصاحة الأستاذ وبلاغته ,
وبراعته في عبارته نور علا ظلمتها , وشغل النظر عن تشويه صورتها . وأن من
يضع على عينيه منظارًا ملوَّن الزجاج ينكسر به شعاع البلاغة الوهاج يمكنه أن
يبصر الطريقة ويدرك الحقيقة . قال هذا وأنشأ ينتقد كلمات للأستاذ رأى أنها إقناعية
وليست حقيقة واقعية . منها قول الأستاذ : " ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى
الله عليه وسلم لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في رُوَائِه ( بالضم وضبط في
الأصل بالكسر سهوًا ) ونضرة جدته " إلخ , وذهب هذا المعترض في نقض هذه
المسألة إلى أن من البنات من تكون دميمة في طور البكارة حتى إذا ما تزوجت
اكتست حلل الحسن والبهاء . والجمال والرواء . فيحتمل أن السيدة زينب كانت من
هذا القبيل . وإن كان في الوجود أقل القليل .
ومنها قول الأستاذ : " لم يُعرف في مألوف البشر أن تعظم شهوة القريب
وولعه بالقريب خصوصًا إذا كان عشيره من صغره " إلخ قال المعترض : إنه يحفظ
وقائع متعددة تعلق فيها الأقرباء بعضهم ببعض حتى كان من ذلك ما لا خير فيه .
وكذلك شأن من أشرب قلبه إنكار شيء , أو إثباته يتعلق بالشذوذ , ويتشبث
بالاستثناء , ويترك القواعد العامة لا يحفل بها . وعهدي بأذكياء المسيحيين أنهم
يرون أقوى اعتراض لهم على المسلمين في احتجاب النساء أن الحجاب والمنع من
أسباب ازدياد الرغبة . وقوة الداعية إلى التطلع والرؤية . وأن في الاختلاط أنسًا
ينتهي بالملل والزهادة . كما هو المطرد في العادة , لا سيما بالنسبة للأقربين .
ورأيت من المسلمين من يستدل على صحة هذا القول بكون النفوس إلى
النساء المسلمات المتحجبات أميل منها إلى النساء الأوروبيات . وأكثر تشوقًا , وأشدُّ
تطلعًا . مع أن الأوربيات في الجملة أجمل . وزينتهن أكمل . وما ذلك إلا أنهن
معروضات على الأنظار . مألوفات للأبصار . وكل معروض مهان . والمألوف لا
يعظم به الافتتان .
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
ولنلو عنان النظر عن هذا وذاك , وننظر إلى تلك الواقعة من غير
ملاحظة أن من مقتضى الطباع السليمة ومن شأن النفوس الكبيرة - التي لا
ينكر مناظرنا المسيحي الفاضل أن نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منها وإن
أنكر نبوته - أن لا يقع منها الشذوذ بشدة العشق للقريب المألوف بحيث ينتهي إلى أن
صاحب النفس الكبيرة المتصدي لتأسيس دين وشريعة يزاحم عبدًا من عبيده على
امرأة زوَّجه بها لعشقه لها بعد زهده فيها , وأن يدخل ذلك في الشريعة التي
يؤسسها . ثم يظهر للملأ أن الله تعالى أنَّبه على ذلك بمثل قوله : { وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ( الأحزاب : 37 ) . ولو كانت الواقعة كما يتوهم القوم ,
وكان محمد هو واضع القرآن ومؤلفه لما جعل نفسه ملومًا , وأظهر أنه إنما
أبطل التبني في دينه لحظ نفسه وإرضاء شهوته , وجعل هذه الفضيحة مسجلة عليه
في الكتاب الذي أمر بكتابته دون سائر كلامه , وبشر بأنه ينتشر في مشارق
الأرض ومغاربها , وأنه يبقى مقروءًا متبعًا ما دام الناس في هذا العالم .
قال مناظرنا : إن الأستاذ كتب للمسلمين , وكلامه مبني على التسليم بنبوة
محمد , وهو لا ينهض حجة على النصارى الذين ينظرون في المسألة نظرًا تاريخيًّا
وقد ألمعنا إلى هذا من قبل , ولذلك بنينا الكلام على أن محمدًا رجل مصلح باسم
النبوّة تنزلاً جدليًّا , وإن كان الذين يعتقد فيهم صاحبنا وقومه النبوّة ليس لهم من
الأثر الإصلاحي الديني عشر معشاره . أما كونه مصلحًا فلا ينكره منهم عاقل , وقد
قال لي الدكتور فانديك الشهير : إن مبدأ الاصلاح الذي وضعه محمد هو أعظم
المبادىء وأقواها , وهو الوحدة في الاعتقاد والاجتماع ... ورأيت بعض من كتب
في تاريخ العرب من الإفرنج جعل تاريخهم قسمين قسمًا سماه ( ما قبل الإصلاح
المحمدي ) , وقسمًا سماه ( ما بعد الإصلاح المحمدي ) وكل هذا من البديهيات
فلنرجع إلى أصل المسألة .
المخالف موافق لنا في شيء واحد , وهو أن الآيات الواردة في المسألة
متضمنة لإبطال التبني الذي كانت العرب تدين به , ولكنه يدعي أن إبطال هذه
البدعة لم يكن مقصودًا أولاً وبالذات , وإنما كان حيلة للتوسل إلى تزوج محمد
بزينب بعد أن تزوجها عتيقه ومتبناه زيد بن حارثة ورآها عنده قد زادت حسنًا عما
كان يعهد . ولو كان الغرض إبطال التبني وما يترتب عليه من الأحكام الجائرة
والمفاسد الضائرة ؛ لعهد بتنفيذ ذلك إلى غيره من أتباعه . ونجيب عن هذا من
وجوه تضمنها كلام الأستاذ أو استلزمها .
( الأول ) من المشهود المعهود في البشر أن العادات والتقاليد متى صارت
عامة يصعب على النفوس أن تتركها لمجرد أمر مصلح لا سيما في أول زمن
الدعوة إلى الإصلاح , ولا يقدم على الابتداء بخرق العادة وتمزيق حجب التقليد إلا
أصحاب العزائم الكبيرة , وهم المصلحون الذين يستهدفون لسهام الانتقاد العام
ويتحملون في سبيل الإصلاح كل إهانة وسخرية من الدهماء وجماهير الناس ؛
ليكونوا قدوة لغيرهم في ذلك . وقد اتفق علماء التربية على أن ملاكها وقوامها
الاقتداء والتأسي لا القول والإرشاد اللفظي . وكذلك كان شأن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) في كل ما أبطله من اعتقاداتهم وتقاليدهم وعاداتهم يبدأ بنفسه ثم بأقرب
الناس إليه . وقد مثلنا للأول في هامش مقالة الأستاذ بمسألة الحلق في الحديبية
وكيف خالف النبيَّ جميع الصحابة حتى حلق بالفعل فاقتدوا به , ومثَّل الأستاذ
بإبطال الربا . وليفرض المخالف أنه دخل في دين جديد مقتنعًا به ومعتقدًا صحته ,
وأن القائم بالدعوة إلى هذا الدين أمره بأن يتزوج بأخته لأن دينه يحكم بذلك أليس
يصعب عليه الامتثال أشد الصعوبة بحيث يرجح مخالفته . هذا وإننا نرى أهل كل
دين قد خالفوا بعض أحكام دينهم اتباعًا للعادات التي صارت عامة , ويصعب عليهم
الرجوع إلى الأصل . وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من الصعوبة لا يقدم العاقل على
تكليف الناس به بمجرد القول خوفًا من اضطرارهم إلى مخالفته التي تفسد العمل
وتؤدي إلى خلاف المقصود .
( الثاني ) لو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) عمد إلى تنفيذ هذا الحكم بغيره
لاحتاج إلى الأمر بعدة أمور بعضها أشد من بعض , ومنها ما هو خلاف تعاليمه
الدينية .
( أحدهما ) أن يأمر بعض من تُبُنِّيَ بأن يتزوج , وربما كان يقل في
المسلمين عدد الأدعياء الذين عندهم الاستطاعة الشرعية للتزوج مع أن الذين تبنوهم
مسلمون وفي سن قابل للزواج , وربما يقع الأمر لغير المستطيع من حيث لا يعلم
لأنه لم يكن عارفًا بجميع شئون الناس الخصوصية والمنزلية . على أن من شأن من
يحب أن يطاع في كل أمر أنه لا يتعرض للأمور الخصوصية المباحة إلا بالنسبة
لأقرب الناس إليه بل هذا شأن جميع العقلاء , وهذا الوجه أهون مما بعده .
( ثانيها ) أن يأمره بعد الزواج بالطلاق , والأمر بالطلاق منكر , وإنما
أباحه الشرع للضرورة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في التنفير منه : ( أبغض
الحلال إلى الله الطلاق ) رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . ثم
إن هذا المتزوج لا يبعد أن يحصل بينه وبين من يتزوج بها من الألفة والمحبة ما
يصعب معه الفراق . ويتعاصى به الخضوع لأمر الطلاق .
( ثالثها ) أن يأمر من كان تبنى هذا المطلق بأن يتزوج بالمطلقة . ويتوقع
في هذا الأمر أمور منها أن هذا المتبني قد تنفر نفسه منها لذاتها بأن يستبشع
صورتها , أو يكون عارفًا من طباعها ما لا يمكنه معه معاشرتها , وقد يكون
متزوجًا بغيرها , ولا يستطيع الجمع بين امرأتين ثم إن هنا ملاحظة أهم من كل ما
ذكر وهو أن تعدد الزوجات مشروط في القرآن بعدم الخوف من ترك العدل بين
الزوجات , ولا شك أن الذي يريد التزوج بامرأة متبناه لمجرد الامتثال لأمر النبي
صلى الله عليه وسلم يخاف من عدم العدل بين الزوجة الجديدة التي يأخذها كارهًا ,
وبين الأولى التي كان آلفًا لها ومستأنسًا بمعاشرتها , وعند ذلك لا يصح النكاح .
( رابعها ) أنه قد يرضى هو ولا ترضى هي لأنها فتية وهو شيخ مثلاً , ولا
يخفى شيء من هذه الأمور على ذلك الرجل العظيم الذي جاء بتعاليم وأعمال قلبت
هيئة الأرض , وغيرت نظام الأمم سواء كان نبيًّا ( كما هو الواقع ) ، أو لم يكن
( كما هو رأي المخالف ) .
( الوجه الثالث ) أن هذا المصلح الحكيم اختار صورة لإبطال تلك العادة
الدينية الجاهلية خالية من كل المحظورات المشروحة في الوجه الثاني , وذلك بأن
يزوج متبناه بامرأة يقضي العقل بأنه يختار هو وإياها الفراق عن رضى لعدم
الكفاءة , ثم يتزوجها هو ولا شك أنها ترضاه لما هو معلوم من القرابة والجمال
والكمال وكذلك كان .
( الوجه الرابع ) أن الذي يدل مع ما تقدم على أن هذا الأمر مقصود للنبي
( صلى الله عليه وسلم ) منذ خطب زينب لزيد ( رضي الله عنهما ) إلحاحه فيه
وعنايته الكبرى به , وقد خطب هو نساء , ولم يتزوج بهن وتزوج بعدة نساء , ولم
يذكر في القرآن شيء من ذلك لأن القرآن كما قلنا لم يذكر فيه إلا أهم المهمات في
الدين حتى إنه لم يذكر فيه هيئة الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا تحديد أوقاتها , فعدم
مبالاته بإبائها وتمنعها وإباء أخيها لا يمكن أن يكون لمصلحتها ولا لمصلحة زيد لأن
العقل قاض بأنه لا ينعم له معها بال مع هذا النفور والإباء وما هو معلوم من أنفة
أشراف العرب كبني هاشم و بني المطلب وهي من صميمهم , وكانت لا ترى لها
كفؤًا إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يبق لهذا إلالحاح والتحتيم عليها بالرضى
به إلا قصد إبطال تلك البدعة الذميمة بأقرب الوجوه وأبعدها عن الضرر والضّرار .
( الوجه الخامس ) أن السورة التي ذكرت فيها القصة جاء في فاتحتها { وَمَا
جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *
ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ( الأحزاب : 4-5 ) الآية . وجاء فيها بعد هذا وقبل ذكر القصة : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ( الأحزاب : 21 ) فقد أبطل التبني بالقول , ولم
يعمل بمقتضاه أحد قبله ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا التمهيد . مع ذلك التشديد .
برهان كافٍ على ذلك القصد الحميد . ومناف لزعم الزاعمين أن قصد النبي صلى
الله عليه وسلم التزوج بزينب كان بعدما رآها في بيت زيد رضي الله عنه . وفي
هذا كفاية لغير المعاند والله أعلم​
والمجلد
(3/714)
 
غرة ذو الحجة - 1318هـ
21 مارس - 1901م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
_
الهدايا والتقاريظ

( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد )
كتاب جديد ظهر في عالم الطباعة ، جديد في وجوده ، جديد في مباحثه
ومسائله ، جديد في حكمته وفلسفته ، وإرشاده وسياسته ، حملت به فكرة عالم عامل ،
ومحنك عاقل ، حلب الدهر شطريه ، وعرف ما له وما عليه ، ولما تم حمله وأراد أن
يظهر في الوجود فضله ، وضعته تلك الفكرة الوقَّادة ، والقريحة النقادة ، في أرض
الحرية ، من هذه البلاد المصرية ، فكانت جريدة المؤيد أول مهد له تمهد ، ثم لم يلبث
أن تم فصاله ، وظهر في إثر ولاده كماله ، وتم له استقلاله ، وعم القارئين نواله .
أطال هذا الرجل النظر في الاستبداد ، فرأى أنه هو المخرب للبلاد ، وتبصر
مليًّا في الاستعباد ، فعلم أنه هو المهلك للعباد ، فدرس من هذين الأمرَين الأمرَّين
طبائعهما ، وتعرف مصارعهما ، ثم أتحف ناشئة قومه بنتيجة علمه ، وثمرة عقله
وفهمه ، فوضع لهم بدر التمام ، على طرف الثمام ، وقرب إليهم ما كان على بعد
سنين وأعوام ، فجعله على مسافة يوم وأيام .
يشتمل الكتاب على خطبة في سبب تأليفه وإهدائه للناشئة ، ومقدمة في علم
السياسة والدعوة للكتابة في الاستبداد ، ويليه فصول في تعريف الاستبداد وذويه ،
والاستبداد والدين ، والاستبداد والعلم ، والاستبداد والمجد ، والاستبداد والمال ،
والاستبداد والأخلاق ، والاستبداد والتربية ، والاستبداد والترقي ، والاستبداد
والتخلص منه ، وفي هذا الفصل 25 بحثًا من أهم المباحث السياسية والاجتماعية
ذكرها المؤلف ، ( تذكرة للكُتَّاب ذوي الألباب ، وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها
بترتيب ) ، وهذا الفصل الأخير وما فيه مما لم يُنْشَر في المؤيد .
أشار المؤلف لاسمه برمز ( الرحالة ك ) ليحكم الناس على القول بذاته لذاته ،
وللناس شغف بمعرفة الفضلاء النابغين من أمتهم ، وحفظ أسمائهم وألقابهم في ألواح
القلوب ودفاتر التاريخ ، فأما الذين يعرفون شخص الأستاذ الهمام السيد الشيخ
عبد الرحمن أفندي الكواكبي الحلبي وفضله ، فيقولون : أجدر بهذا الكتاب أن يكون
له ، وأما الذين لا يعرفونه فليحفظوا هذا الاسم الذي يطابق الرمز إلى أن يجيء يوم
يستبدل فيه هذا الرحالة التصريح ، بالرمز والتلميح .
والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد بشكل كتاب ( المرأة الجديدة ) ،
وصفحاته 183 ، وثمنه خمسة قروش ، ويباع في مكتبة الترقي ، ومكتبة هندية ،
ومكتبة الهلال ، ومن يدفع سبعة قروش أميرية يرسل إليه الكتاب مضمونًا حيث
كان ، والطلب يكون بهذا العنوان ( القاهرة صندوق البوسطة نمرة 517 محمد
أفندي الوكيل ) ، فنحث كل قارئ على قراءته ، ونرجو من مؤلفه أن يكتب لنا كتابًا
آخر في المباحث 25 التي وضعها تذكرة للكتاب ، فلا يوفيها حقها غيره .
 
عودة
أعلى