من درر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا لَقُولٍ إلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ وَمَنْ نَصَّبَ شَخْصًا - كَائِنًا مَنْ كَانَ - فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، فَهُوَ { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } الْآيَةَ ؛ وَإِذَا تَفَقَّهَ الرَّجُلُ ، وَتَأَدَّبَ بِطَرِيقَةِ قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، مِثْلَ : اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ وَأَصْحَابَهُ هُمُ الْعِيَارُ ، فَيُوَالِي مَنْ وَافَقَهُمْ ، وَيُعَادِي مَنْ خَالَفَهُمْ ؛ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ التَّفَقُّهَ الْبَاطِنَ فِي قَلْبِهِ ، وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَهَذَا زَاجِرٌ ؛ وَكَمَائِنُ الْقُلُوبِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ إلَى مَقَالَةٍ أَوْ يَعْتَقِدَهَا لِكَوْنِهَا قَوْلَ أَصْحَابِهِ ، وَلَا يُنَاجِزَ عَلَيْهَا ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ، أَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَيَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يُقَدِّمَ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ نُورٌ وَهُدًى ؛ ثُمَّ يَجْعَلَ إمَامَ الْأَئِمَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ .... ( مجموع الفتاوى : 20 / 8 ، 9 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ؛ وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ ؛ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ؛ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ؛ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ . وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ ؛ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ ؛ وَالسُّتُورُ الْمُرْخَاةُ حُدُودُ اللَّهِ ؛ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ نَادَاهُ الْمُنَادِي : يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَفْتَحْهُ ؛ فَإِنَّك إنْ فَتَحْته تَلِجْهُ . وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ ؛ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ " فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ - الَّذِي مَنْ عَرَفَهُ انْتَفَعَ بِهِ انْتِفَاعًا بَالِغًا إنْ سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ ؛ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظًا ؛ وَالْوَعْظُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، وَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ . وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَعْمُورًا بِالتَّقْوَى انْجَلَتْ لَهُ الْأُمُورُ وَانْكَشَفَتْ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْخَرَابِ الْمُظْلِمِ ؛ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : إنَّ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ سِرَاجًا يُزْهِرُ ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " إنَّ الدَّجَّالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ : كَافِرٌ ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ " ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ ؛ وَلَا سِيَّمَا فِي الْفِتَنِ ، وَيَنْكَشِفُ لَهُ حَالُ الْكَذَّابِ الْوَضَّاعِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ يُجْرِي عَلَى يَدَيْهِ أُمُورًا هَائِلَةً ومخاريق مُزَلْزِلَةً ، حَتَّى إنَّ مَنْ رَآهُ افْتَتَنَ بِهِ ؛ فَيَكْشِفُهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ حَتَّى يَعْتَقِدَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا ؛ وَكُلَّمَا قَوِيَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ قَوِيَ انْكِشَافُ الْأُمُورِ لَهُ ، وَعَرَفَ حَقَائِقَهَا مِنْ بَوَاطِلِهَا ؛ وَكُلَّمَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ ضَعُفَ الْكَشْفُ ، وَذَلِكَ مَثَلُ السِّرَاجِ الْقَوِيِّ ، وَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ ... ( مجموع الفتاوى : 20 / 44 ، 45 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : فِعْلَ الْحَسَنَاتِ يُوجِبُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ تَرْكِ السَّيِّئَاتِ يُوجِبُ فِعْلَ الْحَسَنَاتِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِحَسَنَةٍ ، وَفِعْلُ الْحَسَنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ مُقْتَضِيهَا لَا يَقِفُ عَلَى تَرْكِ السَّيِّئَةِ ، وَذَلِكَ يُؤْجَرُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مُقْتَضِيهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ابْنَ آدَمَ هَمَّامًا حَارِثًا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ : حَارِثٌ وَهَمَّامٌ " وَالْحَارِثُ : الْعَامِلُ الْكَاسِبُ ، وَالْهَمَّامُ : الْكَثِيرُ الْهَمِّ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ ، وَالْهَمِّ وَالْإِرَادَةُ ، لَا تَكُونُ إلَّا بِشُعُورِ وَإِحْسَاسٍ ، فَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ دَائِمًا ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " لَلْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا " ، وَ " مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ " وَ " مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ " ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ إحْسَاسِهِ وَحَرَكَتِهِ مُمْتَنِعٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، أَوْ الْمُبَاحَاتِ ، وَإِلَّا كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، فَصَارَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ ، فَهُوَ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَدْ يَمْتَنِعُ بِذَلِكَ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ جِهَةِ اجْتِمَاعِهِمَا ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ ضِدُّ الْكُفْرِ ؛ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ضِدُّ السَّيِّئِ ، فَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا مُكَذِّبًا ، مُحِبًّا مُبْغِضًا . وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اقْتِضَاءِ الْحَسَنَةِ تَرْكَ السَّيِّئَةِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، وَهَذَا مَحْسُوسٌ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ بَعْضِهَا ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْإِيمَانِ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَبِعَذَابِ اللَّهِ عَلَيْهَا يِصَدِّ الْقَلْبِ عَنْ إرَادَتِهَا ؛ فَالْحَسَنَاتُ إمَّا ضِدُّ السَّيِّئَاتِ ، وَإِمَّا مَانِعَةٌ مِنْهَا ؛ فَهِيَ إمَّا ضِدٌّ وَإِمَّا صَدٌّ . وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّيِّئَاتُ عِنْدَ ضَعْفِ الْحَسَنَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتَهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ ، فَلَا يَقَعُ إلَّا عِنْدَ نَوْعِ ضَعْفٍ فِي الْإِيمَانِ يُزِيلُ كَمَالِهِ . وَأَمَّا تَرْكُ السَّيِّئَاتِ : فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ عَدَمِهَا ، فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُنَافِي شَيْئًا وَلَا يَقْتَضِيهِ ، بَلْ الْخَالِي الْقَلْبُ مُتَعَرِّضٌ لِلسَّيِّئَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَعَرُّضِهِ لِلْحَسَنَاتِ . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِهَا ؛ فَهَذَا الِامْتِنَاعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهَا وَقَصْدِ تَرْكِهَا ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَالِاقْتِصَادُ حَسَنَتَانِ مَأْمُورٌ بِهِمَا ، وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْحَسَنَاتِ يَمْنَعُ السَّيِّئَاتِ ، وَأَنَّ عَدَمَ السَّيِّئَاتِ لَا يُوجِبُ الْحَسَنَاتِ ؛ فَصَارَ فِي وُجُودِ الْحَسَنَاتِ الْأَمْرَانِ ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ عَدَمِ السَّيِّئَاتِ ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَمْرٌ وَاحِدٌ ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ .... ( مجموع الفتاوى : 20 / 122 – 124 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : مَنْ زَهِدَ فِيمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يُوقِعُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، فَهُوَ مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ؛ وَمَنْ زَهِدَ فِيمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالدَّرَجَاتِ ، فَهُوَ مِنْ الْمُقَدِّمِينَ السَّابِقِينَ .... ( مجموع الفتاوى : 20 / 151 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا ؛ وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ ، وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا .... ( مجموع الفتاوى : 21 / 82 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في فوائد غض البصر : نُورُ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ ، قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ ، وَسُكْرَ الْقَلْبِ ، بَلْ جُنُونَهُ ؛ كَمَا قِيلَ :
سكران سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ... فَمَتَى يُفِيقُ مَنْ بِهِ سكران
وَقِيلَ أَيْضًا :
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ ، فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ؛ وَكَانَ شُجَاعُ بْنُ شَاهٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ ، وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ ؛ وَذَكَرَ خَصْلَةً سَادِسَةً أَظُنُّهُ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ ، فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، مِمَّا يُنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ .... ( مجموع الفتاوى : 15 / 425 ، 4266 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ الْعَمَلِ يُثَابُ عَلَيْهَا ، وَالْعَمَلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ النِّيَّةِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِغَيْرِ إخْلَاصٍ لِلَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ " ... ( مجموع الفتاوى : 22 / 243 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الْقَلْبَ مَلِكُ الْبَدَنِ ، وَالْأَعْضَاءَ جُنُودُهُ ؛ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ ، وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ ؛ وَالنِّيَّةُ عَمَلُ الْمَلِكِ ، بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا عَمَلُ الْجُنُودِ ... ( مجموع الفتاوى : 22 / 244 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : أَفْضَلُ الْجِهَادِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا كَانَ أَطْوَعَ لِلرَّبِّ ، وَأَنْفَعَ لِلْعَبْدِ ؛ فَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ وَيَمْنَعُهُ مِمَّا هُوَ أَنْفَع مِنْهُ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَالِحًا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ؛ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : كَيْتُ وَكَيْتُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَآكُلُ اللَّحْمَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " ؛ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الزُّهْدِ الْفَاسِدِ ، وَالْعِبَادَةِ الْفَاسِدَةِ ، لَيْسَتْ مِنْ سُنَّتِهِ ؛ فَمَنْ رَغِبَ فِيهَا عَنْ سُنَّتِهِ ، فَرَآهَا خَيْرًا مِنْ سُنَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ .... ( مجموع الفتاوى : 22 / 300 ، 301 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : خَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْفَعَ ؛ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ الْعَمَلَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّهُمَا ؛ فَلَيْسَ كُلُّ شَدِيدٍ فَاضِلًا ، وَلَا كُلُّ يَسِيرٍ مَفْضُولًا ؛ بَلْ الشَّرْعُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرِ شَدِيدٍ ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، لَا لِمُجَرَّدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ ؛ كَالْجِهَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } . وَالْحَجُّ هُوَ الْجِهَادُ الصَّغِيرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعُمْرَةِ : " أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك " ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ ، فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا لَنَا ؛ بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِمَا يَنْفَعُنَا وَنَهَانَا عَمَّا يَضُرُّنَا ... ( مجموع الفتاوى : 22 / 313 ، 314 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، بَلْ يَفْعَلُهُ عَبَثًا ؛ فَهَذَا عَلَيْهِ لَا لَهُ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ : " كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ ، إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفِ ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ ، أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ " ؛ فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا قَوْلُ الْخَيْرِ ، أَوْ الصُّمَاتُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ الْخَيْرِ خَيْرًا مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرًا مِنْ قَوْلِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .... ( مجموع الفتاوى : 7 / 49 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا ، كَعِلْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ مَا لَا يَجِبُ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ ، وَطَلَبَ الثَّانِي مُسْتَحَبٌّ ، وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ ؛ وَأَمَّا طَلَبُ حِفْظِ الْقُرْآنِ ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ عِلْمًا ؛ وَهُوَ إمَّا بَاطِلٌ ، أَوْ قَلِيلُ النَّفْعِ ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ فِي التَّعَلُّمِ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ عِلْمَ الدِّينِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ مِثْلِ هَذَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ عُلُومِ الدِّينِ ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ ، حَيْثُ يَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءِ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ الْجِدَالِ وَالْخِلَافِ ، أَوْ الْفُرُوعِ النَّادِرَةِ ، أَوْ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، أَوْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا ، وَكَثِيرٍ مِنْ الرِّيَاضِيَّاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ ، وَيَتْرُكُ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَلَا بُدَّ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ ؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .... ( مجموع الفتاوى : 23 / 54 ، 55 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ أَفْضَلَ يُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ ، وَبِالْعَكْسِ ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلَ ؛ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الْجِهَادِ ، كَالنِّسَاءِ ، وَكَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْجِهَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلَ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ " ، وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ ... ( مجموع الفتاوى : 23 / 60 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ ، بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا ؛ وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ ، وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً ؛ فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } ، فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ ، وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْمَشْرُوعِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً ، كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِيَاءً ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ ... ( مجموع الفتاوى : 23/ 174 ، 175 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ ؛ فَهَذَا الَّذِي كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَإِقَامَتِهِ ، عَزْمُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ ، وَقَدْ فَعَلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مَا أَمْكَنَهُ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ ؛ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ ، فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ ، أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ؛ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا ، إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ، قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟! قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ " ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ ؛ فَهَذَا وَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَفْعَلَ ، وَقَدْ عَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَمَلِهِ مِثْلَ عَمَلِ الصَّحِيحِ ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ نَفْسَهَا فِي الْأَجْرِ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ ، وَلَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ الْمَعْذُورِ فِي نَفْسِهَا مِثْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ ، كَمَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إذَا فَاتَتْهُ مَعَ قَصْدِهِ لَهَا . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْذُورٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ عَمَلِ الصَّحِيحِ ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ إذَا كَانَ يَقْصِدُ عَمَلَ الصَّحِيحِ وَلَكِنْ عَجَزَ عَنْهُ ... ( مجموع الفتاوى : 23 / 236 ، 237 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُنَا ، وَلَمْ يَنْهَنَا إلَّا عَمَّا فِيهِ فَسَادُنَا ؛ وَلِهَذَا يُثْنِي اللَّهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَيَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ ؛ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَضَرَّةِ وَالْفَسَادِ ، وَأَمَرَنَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالصَّلَاحِ لَنَا ؛ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إلَّا بِمَشَقَّةِ ؛ كَالْجِهَادِ ، وَالْحَجِّ ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ ؛ فَيَحْتَمِلُ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا ، لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ لَمَّا اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك " ؛ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ مَنْفَعَةً لَا تُقَاوِمُ مَشَقَّتَهُ ، فَهَذَا فَسَادٌ ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً لِرِبْحِ كَثِيرٍ ، أَوْ دَفْعِ عَدُوٍّ عَظِيمٍ ، كَانَ هَذَا مَحْمُودًا ؛ وَأَمَّا مَنْ تَحَمَّلَ كُلَفًا عَظِيمَةً وَمَشَّاقًا شَدِيدَةً لِتَحْصِيلِ يَسِيرٍ مِنْ الْمَالِ ، أَوْ دَفْعِ يَسِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَعْتَاضَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ أَوْ مَشَى مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِيَتَغَدَّى غَدْوَةً ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَغَدَّى خَيْرًا مِنْهَا فِي بَلَدِهِ .
فَالْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ جَمِيعُهُ مَبْنَاهُ عَلَى الْعَدْلِ وَالِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ ، الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْأُمُورِ ، وَأَعْلَاهَا ؛ كَالْفِرْدَوْسِ ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
هَذَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا ، مِثْلِ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْمَشْيِ ؛ وَأَمَّا مَا يُقْصَدُ لِنَفْسِهِ ، مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ ، وَمَحَبَّتِهِ ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ؛ فَهَذِهِ شُرِعَ فِيهَا الْكَمَالُ ، لَكِنْ يَقَعُ فِيهَا سَرَفٌ وَعُدْوَانٌ ، بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فِيهَا ؛ مِثْلُ أَنْ يُدْخِلَ تَرْكَ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي التَّوَكُّلِ ، أَوْ يُدْخِلَ اسْتِحْلَالَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكَ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الْمَحَبَّةِ ؛ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .... ( مجموع الفتاوى : 25 / 282 – 284 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : النُّفُوسُ أَحْوَجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاتِّبَاعِهِ ، مِنْهَا إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا فَاتَ حَصَلَ الْمَوْتُ فِي الدُّنْيَا ، وَذَاكَ إذَا فَاتَ حَصَلَ الْعَذَابُ ؛ فَحُقَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَذْلُ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتِهِ ، إذْ هَذَا طَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَالسَّعَادَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ ؛ وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ ، إذْ لَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ ؛ بَلْ كَمَا أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ لَا يُرَى إلَّا مَعَ ظُهُورِ نُورٍ قُدَّامَهُ ، فَكَذَلِكَ نُورُ الْعَقْلِ لَا يَهْتَدِي إلَّا إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَاجِبًا عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ ... ( مجموع الفتاوى : 1 / 5 ، 6 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ صَغُرَتْ عِنْدَهُ الْمَحْبُوبَاتُ وَقَلَّتْ ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ كَثُرَتْ مَحْبُوبَاتُهُ وَانْتَشَرَتْ ؛ وَكَذَا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَمُلَ خَوْفُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ ، لَمْ يَخَفْ شَيْئًا سِوَاهُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ } ، وَإِذَا نَقَصَ خَوْفُهُ خَافَ مِنْ الْمَخْلُوقِ ، وَعَلَى قَدْرِ نَقْصِ الْخَوْفِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ الْخَوْفُ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَحَبَّةِ ، وَكَذَا الرَّجَاءُ وَغَيْرُهُ . فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ ، إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، وَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا : الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ إلَّا بَعْدَ الزُّهْدِ ، وَلَا زُهْدَ إلَّا بِتَقْوَى ، وَالتَّقْوَى مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .... ( مجموع الفتاوى : 1 / 94 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ عِلْمُ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، بِحَيْثُ لَا يَضِيعُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ شَيْءٌ ؛ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، لَكِنَّ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُعَيَّنُ : فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ إذَا قَامَتْ بِهِ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ جُمْلَةً ، فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ ، لَكِنْ يُرَغَّبُ كُلُّ شَخْصٍ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ إلَيْهِ أَحْوَجُ ، وَهُوَ لَهُ أَنْفَعُ ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ ؛ فَرَغْبَةُ عُمُومِ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْفَعُ لَهُمْ ؛ وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ وَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ فَقَدْ تَكُونُ رَغْبَتُهُ فِي عَمَلٍ يُنَافِيهَا أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ ... ( مجموع الفتاوى : 3 / 328 ، 329 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ الَّذِينَ أَحْسَنُوا ، ثُمَّ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } يَقْتَضِي حَصْرَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي أُولَئِكَ ، وَالنِّسَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُنَّ مِنْ أُولَئِكَ ؛ وَ { أُولَئِكَ } إشَارَةٌ إلَى الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ؛ فَوَجَبَ دُخُولُ النِّسَاءِ فِي الَّذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ، وَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ مَوْعُودٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْحُسْنَى ، الَّتِي هِيَ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا بِدَلِيلِ ؛ وَهَذِهِ ( الرُّؤْيَةُ الْعَامَّةُ ) لَمْ تُوَقَّتْ بِوَقْتِ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ عَقِبَ الدُّخُولِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْمَنَازِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ وَقْتٍ يَكُونُ ذَلِكَ ؛ وَكَذَلِكَ مَا دَلَّ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى ( الرُّؤْيَةِ ) كَقَوْلِهِ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } هُوَ تَقْسِيمٌ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } وَظَاهِرُ انْقِسَامِ الْوُجُوهِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ؛ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ . تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أَيْضًا إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوُجُوهِ الْبَاسِرَةِ ، كَانَ مِنْ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ النَّاظِرَةِ ؛ كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسَاءَ يَزْدَدْنَ حُسْنًا وَجَمَالًا كَمَا يَزْدَادُ الرِّجَالُ فِي مَوَاقِيتِ النَّظَرِ ... ( مجموع الفتاوى : 6 / 436 ، 437 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاقَ ، وَيَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنْهُ . وَالْمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ، وَبِوَسَاوِسِ الْكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ ؛ كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَئِنْ يَخِرُّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ! فَقَالَ : " ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ! قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ " أَيْ : حُصُولِ هَذَا الْوَسْوَاسِ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ الْعَظِيمَةِ لَهُ ، وَدَفْعِهِ عَنْ الْقَلْبِ ، هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْإِيمَانِ ؛ كَالْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاءَهُ الْعَدُوُّ فَدَافَعَهُ حَتَّى غَلَبَهُ ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْجِهَادِ ؛ وَالصَّرِيحُ : الْخَالِصُ ، كَاللَّبَنِ الصَّرِيحِ ؛ وَإِنَّمَا صَارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلْكَ الْوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةَ وَدَفَعُوهَا ، فَخَلَصَ الْإِيمَانُ ، فَصَارَ صَرِيحًا . وَلَا بُدَّ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاوِسِ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُهَا ، فَيَصِيرُ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ غَمَرَ قَلْبَهُ الشَّهَوَاتُ وَالذُّنُوبُ ، فَلَا يُحِسُّ بِهَا ، إلَّا إذَا طَلَبَ الدِّينَ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ مُنَافِقًا ؛ وَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ الْوَسَاوِسِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَعْرِضُ لَهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكْثُرُ تَعَرُّضُهُ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَ الْإِنَابَةَ إلَى رَبِّهِ ، وَالتَّقَرُّبَ إلَيْهِ ، وَالِاتِّصَالَ بِهِ ؛ فَلِهَذَا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ ، وَيَعْرِضُ لِخَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْعَامَّةِ ، وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ شَرْعَ اللَّهِ وَمِنْهَاجَهُ ، بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى هَوَاهُ ، فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ؛ وَهَذَا مَطْلُوبُ الشَّيْطَانِ ، بِخِلَافِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى رَبِّهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمْ يَطْلُبُ صَدَّهُمْ عَنْ اللَّهِ .... ( مجموع الفتاوى : 7 / 282 ، 283 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : صَاحِبُ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ ، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا وَاجِبٌ ، وَأَمَّا صَبْرُ السَّرَّاءِ فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا ، وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ قَدْ يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا ، وَاجْتِمَاعُ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا ، وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ ... ( مجموع الفتاوى : 8 / 210 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : مَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا ؛ وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ ؛ فَيَتُوبُ مِنْ المعائب ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } ... ( مجموع الفتاوى : 10 / 160 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ حَسَنَةٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ ؛ وَهَذِهِ لَا تَنْهَضُ بِدَفْعِ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ ، فَلَوْ أَشْرَكَ مُشْرِكٌ بِاَللَّهِ ، وَكَذَّبَ رَسُولَهُ ، نَاظِرًا إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَافِرًا لِتَكْذِيبِهِ ، وَلَا مَانِعًا مِنْ تَعْذِيبِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْرِكُ مُقِرًّا بِالْقَدَرِ وَنَاظِرًا إلَيْهِ ، أَوْ مُكَذِّبًا بِهِ أَوْ غَافِلًا عَنْهُ ؛ فَقَدْ قَالَ إبْلِيسُ : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فَأَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ ، فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِ ، وَسَبَبًا لِمَزِيدِ عَذَابِهِ ؛ وَأَمَّا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ قَالَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، قَالَ تَعَالَى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ؛ فَمَنْ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ كَانَ آدَمِيًّا سَعِيدًا ، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ كَانَ إبليسيا شَقِيًّا ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لإبليس { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } .... ( مجموع الفتاوى : 2 / 302 ، 303 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إِنَّ النَّفْسَ لَهَا قُوَّتَانِ : قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ ؛ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ قُوَّتَانِ: قُوَّةُ الْحِسِّ ، وَقُوَّةُ الْحَرَكَةِ بِالْإِرَادَةِ ؛ وَلَيْسَ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ دُونَ أَلَّا يُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ وَيَتَّبِعَهُ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ سَعَادَتُهُ فِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاَللَّهِ مُقِرًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلَّهِ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لِلَّهِ ؛ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ؛ فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ ، كَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ طَالِبًا لَهُ - وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْمَطْلُوبِ وَطَرِيقِهِ ، كَانَ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ اللَّعْنَةِ - الَّتِي هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } ؛ وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ : عَلِمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يُحِبُّوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ ، وَالضَّالُّونَ : قَصَدُوا الْحَقَّ لَكِنْ بِجَهْلِ وَضَلَالٍ بِهِ وَبِطَرِيقِهِ ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ ؛ وَهَذَا حَالُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ ضَالُّونَ ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ " .... ( مجموع الفتاوى : 7 / 585 ، 586 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا ؛ وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ : الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا ؛ وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا ، كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا ، وَرَسَخَ الْعِلْمُ فِيهِ وَثَبَتَ وَأَثَّرَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا ، كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا ؛ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا ، حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ ، وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ ، وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ ، أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ ، إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يَنْبُتَ ، مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ .
وَتَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ وَجْهَانِ : وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ : وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ فِيهِ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ وُجُودٍ وَثُبُوتٍ .
وَوَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ : زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ وَطَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ ، وَانْتِفَاءِ الْخَبَثِ وَالدَّغَلِ ؛ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ عَدَمٍ وَنَفْيٍ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ كَذَلِكَ :
وَجْهُ الْوُجُودِ ، أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ .
وَوَجْهُ الْعَدَمِ ، أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ ... ( مجموع الفتاوى : 9 / 315 ، 316 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : في حديث أنس رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " ، فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع .
والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات ؛ وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة .
وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين ، أو غير متأولين ولا معذورين .
وفيه - أيضًا - تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببًا لتشديد آخر يفعله الله ، إما بالشرع ، وإما بالقدر ؛ فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم ، كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ، ومثل أن من نذر شيئًا من الطاعات وجب عليه فعله ، وهو منهي عن نفس عقد النذر ، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب .
وأما القَدَرِ فكثيرًا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى - أيضًا - بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم ، مثل كثير من الموسوسين في الطهارات ، إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة .... ( اقتضاء الصراط ، ص 103 ، 104 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : التوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه ؛ فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله ، وإلى فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ؛ وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال ، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح ، كالفواحش والمظالم ؛ بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها ، فأكثر الخلق يتركون كثيرًا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها ، وأقوال البدن وأعماله ، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به ، أو يعلمون الحق ولا يتبعونه ، فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع ، وإما مغضوبًا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته ... (رسالة في التوبة ضمن مجموع الرسائل ، ص 228 – تحقيق د. محمد رشاد سالم )
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : أَمَّا السَّمَّاعَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالصَّفَّارَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلات ؛ فَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ ، بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ كَالْغِنَاءِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْيَدِ وَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَالرَّقْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مُبَاحٌ ، وَفِيهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ ، وَفِيهِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ أَوْ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ ؛ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ يَحْضُرُونَ مِثْلَ هَذَا السَّمَاعِ ، لَا بِالْحِجَازِ ، وَلَا مِصْرَ ، وَلَا الشَّامِ ، وَلَا الْعِرَاقِ ، وَلَا خُرَاسَانَ ؛ لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ ؛ لَكِنْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَكَانَ طَائِفَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمُّونَ الضَّرْبَ بِالْقَضِيبِ عَلَى جَلَاجِلَ وَنَحْوِهِ ( التَّغْبِيرَ ) . قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَرَّانِي : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ ، يُسَمُّونَهُ ( التَّغْبِيرَ ) يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ ؛ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ وَعِلْمِهِ بِالدِّينِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا تَعَوَّدَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ ، وَالْتَذَّ بِهَا ، حَصَلَ لَهُ نُفُورٌ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ ، فَيَسْتَغْنِي بِسَمَاعِ الشَّيْطَانِ عَنْ سَمَاعِ الرَّحْمَنِ ؛ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " وَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ مِنْ الصَّوْتِ ، فَيُحْسِنُهُ بِصَوْتِهِ ، وَيَتَرَنَّمُ بِهِ بِدُونِ التَّلْحِينِ الْمَكْرُوهِ ؛ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ، يَجْهَرُ بِهِ " وَفِي الْأَثَرِ : ( إنَّ الْعَبْدَ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ : تَغَنَّ ، فَإِنْ لَمْ يَتَغَنَّ ، قَالَ لَهُ : تَمَنَّ ) فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْغَالِبِ تَتَرَنَّمُ بِهِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَتَرَنَّمْ بِالْقُرْآنِ تَرَنَّمَ بِالشِّعْرِ .
وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْعَالِمِينَ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا } ( مريم : 58 ) .... ( مجموع الفتاوى : 11 / 531 – 533 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه - ويروى مرفوعًا – ( إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته ، وإن مأدبة الله هي القرآن ) ، ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعامٍ حاجته ، استغنى عن طعام آخر ، حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم ، وربما ضره أكله ، أو لم ينتفع به ، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه ؛ فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلَّت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره ، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع ؛ فإنه تعظم محبته له ، ومنفعته به ، ويتم دينه به ، ويكمل إسلامه ؛ ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه ، تنقص رغبته في سماع القرآن ، حتى ربما يكرهه ؛ ومَنْ أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها ، لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة ؛ ومَنْ أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم ، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع ؛ ومَنْ أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ؛ ونظائر هذه كثيرة ... ( اقتضاء الصراط ص 217 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : التنعم إما بالأمور الدنيوية وإما بالأمور الدينية ؛ فأما الدنيوية فهي الحسية ، مثل الأكل والشرب والنكاح واللباس ، وما يتبع ذلك ؛ والنفسية وهي الرياسة والسلطان .
فأما الأولي ، فالمؤمن والكافر والمنافق مشتركون في جنسها ، ثم يعلم أن قاعدة التنعيم بها ليس هو حقيقة واحدة مستوية في بنى آدم ، بل هم متفاوتون في قدرها ووصفها تفاوتًا عظيمًا ، فإن من الناس من يتنعم بنوع من الأطعمة والأشربة الذي يتأذي بها غيره ، إما لاعتياده ببلده ، وإما لموافقته مزاجه ، وإما لغير ذلك .
ومن الناس من يتنعم بنوع من المناكح لا يحبها غيره ، كمن سكن البلاد الجنوبية ، فإنه يتنعم بنكاح السمر ، ومن سكن البلاد الشمالية فإنه يتنعم بنكاح البيض .
وكذلك اللباس والمساكن ، فإن أقوامًا يتنعمون من البرد بما يتأذي به غيرهم ، وأقواما يتنعمون من المساكن بما يتأذي به غيرهم ، بحسب العادة والطباع .
وكذلك الأزمنة ، فإنه في الشتاء يتنعم الإنسان بالحر ، وفي الصيف يتنعم بالبرد ؛ وأصل ذلك أن التنعم في الدنيا بحسب الحاجة إليها ، والانتفاع بها ، فكل ما كانت الحاجة أقوي والمنفعة أكثر كان التنعم واللذة أكمل ، والله قد أباح للمؤمنين الطيبات .
فالذين يقتصدون في المآكل نعيمهم بها أكثر من نعيم المسرفين فيها ، فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقي لهذا عندهم كبير لذة ، مع أنهم قد لا يصبرون عنها ، وتكثر أمراضهم بسببها .
وأما الدين فجماعه شيئان : تصديق الخبر ، وطاعة الأمر .
ومعلوم أن التنعم بالخبر بحسب شرفه وصدقه ، والمؤمن معه من الخبر الصادق عن الله ، وعن مخلوقاته ، ما ليس مع غيره ؛ فهو من أعظم الناس نعيمًا بذلك ، بخلاف من يكثر في أخبارهم الكذب .
وأما طاعة الأمر ، فإن من كان ما يؤمر به صلاحًا وعدلًا ونافعًا ، يكون تنعمه به أعظم من تنعم من يؤمر بما ليس بصلاح ولا عدل ولا نافع .
وهذا من الفرق بين الحق والباطل ، فإن الله سبحانه يقول في كتابه : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } ( محمد : 1 – 3 ) ، وقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ( النور : 39 ) ؛ وتفصيل ذلك أن الحق نوعان ، حق موجود ، وحق مقصود ، وكل منهما ملازم للآخر ؛ فالحق الموجود هو الثابت في نفسه ، فيكون العلم به حقًّا ، والخبر عنه حقًّا ؛ والحق المقصود هو النافع الذي إذا قصده الحي انتفع به ، وحصل له النعيم ... ( قاعدة في المحبة 153 – 155 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : كل ما يعين على طاعة الله من تفكر ، أو صوت ، أو حركة ، أو قوة ، أو مال ، أو أعوان .. أو غير ذلك ، فهو محمود في حال إعانته على طاعة الله ومحابه ومراضيه ؛ ولا يستدل بذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق ، ويحتج بذلك على أنه محمود إذا استعين به على ما هو من طاعة الله ، ولا يحتج به على ما ليس هو من طاعة الله ، بل هو من البدع في الدين ، أو الفجور في الدنيا .
ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته " ، وقال : " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ، يجهر به " ، بل قوله : صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ، يقتضي أن التغني المشروع هو بالقرآن ، وأن من تغنى بغيره فهو مذموم ، ولا يقال : هذا يدل على استحباب حسن التغني ... ( الاستقامة : 1 / 291 – تحقيق د. محمد رشاد سالم ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إن ما في القلب من النور والظلمة والخير والشر يسرى كثيرًا إلى الوجه والعين ، وهما أعظم الأشياء ارتباطًا بالقلب ؛ ولهذا يروى عن عثمان t - أو غيره - أنه قال : ما أسرَّ أحد بسريرة ، إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه ؛ والله قد أخبر في القرآن أن ذلك قد يظهر في الوجه ، فقال : } وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ { ، فهذا تحت المشيئة ، ثم قال : } وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ { (محمد : 30 ) ؛ فهذا مقسم عليه محققٌ ، لا شرط فيه ؛ وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظم من ظهوره في وجهه ، لكنه يبدو في الوجه بدوًا خفيًّا يعلمه الله ، فإذا صار خلقًا ظهر لكثير من الناس ، وقد يقْوَى السواد والقسمة ( يعني في وجهه ) حتى يظهر لجمهور الناس ... ( الاستقامة : 1 / 355 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته ؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : " حبب إلي من دنياكم : النساء ، والطيب ؛ وجعلت قرة عيني في الصلاة " ، هكذا لفظ الحديث ، لم يقل : ( حبب إلي ثلاث ) ، فإن المحبب إليه من الدنيا اثنان ، وجعلت قرة عينه في الصلاة ، فهي أعظم من ذينك ، ولم يجعلها من الدنيا ... ( الصفدية : 2 / 272 – ت : د. محمد رشاد سالم ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ ؛ كَمَا قِيلَ : لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ ؛ كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانًا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجِ ، لَا تَتْرُكُهَا جُمْلَةً . فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً ، وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةُ عَنْ الطَّاعَةِ : الرُّخْصَةُ لَهُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ ، وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ : النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ ، مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ - مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ ؛ كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَحَذَفَهُ بِهَا ، فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ " ... ( مجموع الفتاوى : 29 / 113 ، 114 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الْمَصَائِبَ كَفَّارَاتٌ كَثِيرَةٌ ، وإذَا صَبَرَ عَلَيْهَا أُثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ ؛ فَالثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعَمَلِ - وَهُوَ الصَّبْرُ - وَأَمَّا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ فَهِيَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ ؛ لَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ ، وَهِيَ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ وَتَكْفِيرِهِ ذَنْبَهُ بِهَا ؛ وَفِي الْمُسْنَدِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ مَرِيضٌ ؛ فَذَكَرُوا أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى مَرَضِهِ ، فَقَالَ : مَا لِي مِنْ الْأَجْرِ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ . وَلَكِنَّ الْمَصَائِبَ حِطَّةٌ ؛ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَفْسَ الْمَرَضِ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ ، بَلْ يُكَفَّرُ بِهِ عَنْ خَطَايَاهُ . وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ ، فَيَكُونُ فِيهِ أَجْرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْوِيضِ وَالْأَجْرِ وَالِامْتِنَانِ ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ ، كَمَا يُفْعَلُ عَنْهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ؛ وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ فَفِيهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ ، قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . فَالرَّجُلُ إذَا ظُلِمَ بِجُرْحِ وَنَحْوِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ ، كَانَ الْجُرْحُ مُصِيبَةً يُكَفَّرُ بِهَا عَنْهُ ، وَيُؤْجَرُ عَلَى صَبْرِهِ وَعَلَى إحْسَانِهِ إلَى الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يَكُونُ بِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَبِدَفْعِ مَضَرَّةٍ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ صَدَقَةً .... ( مجموع الفتاوى : 30 / 363 ، 364 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع : في رياضة الأبدان ، بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم ؛ وفي رياضة النفوس ، بالأخلاق الحسنة المعتدلة ، والآداب المحمودة ؛ وفي رياضة الأذهان ، بمعرفة دقيق العلم ، والبحث عن الأمور الغامضة ... ( الرد على المنطقيين ، ص : 255 )
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إن الحسنة تدعو إلى الحسنة ، والسيئة تدعو إلى السيئة ، كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه : " عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صديقًا ؛ وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابًا " ؛ وقال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنةُ بعدها ، وإن من عقوبة السيئة السيئةُ بعدها ؛ والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة ، فيحتاج أن يعتقد لوازمها ، فتكثر اعتقاداته الفاسدة ... ( الصفدية : 1 / 88 – تحقيق د. محمد رشاد سالم )
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : يجب أن تتلقى أحكام الله بطيب نفس ، وانشراح صدر ، وأن يتيفن العبد أن الله لم يأمره إلا بما في فعله صلاح ، ولم ينهه إلا عما في فعله فساد ، سواء كان ذلك من نفس العبد بالأمر والنهي ، أو من نفس الفعل ، أو منهما جميعًا ؛ وأن المأمور به بمنزلة القوت ، الذي هو قوام العبد ، والمنهي عنه بمنزلة السموم ، التي هي هلاك البدن وسقمه ؛ ومن يتيقن هذا لم يطلب أن يحتال على سقوط واجب في فعله صلاح له ، ولا على فعل محرم في تركه صلاح له أيضًا ؛ وإنما تنشأ الحيل من ضعف الإيمان ، فلهذا كانت من النفاق ، وصارت نفاقًا في الشرائع ، كما أن النفاق الأكبر نفاق في الدين ... ( الفتاوى الكبرى : 6 / 104 – الشاملة ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إن نية المرء إنما تتعلق بفعله ، وما تعلق بفعل غيره فهو أمنية ... ( الفتاوى الكبرى : 6 / 297 – الشاملة ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : قال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ والفتنة هي الامتحان والاختبار ، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } أي : امتحانك واختبارك ، تضل بها من خالف الرسل ، وتهدي بها من اتبعهم ؛ والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان ؛ فإنها تميز جيده من رديئه ، فالحق كالذهب الخالص ، كلما امتحن ازداد جودة ؛ والباطل كالمغشوش المضيء ، إذا امتحن ظهر فساده .
فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر ، وناظر عنه المناظر ، ظهرت له البراهين ، وقوي به اليقين ، وازداد به إيمان المؤمنين ، وأشرق نوره في صدور العالمين ؛ والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل ، ورام أن يقيم عوده المائل ، أقام الله تبارك وتعالى من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، فإذا هو زاهق ، وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق ، وظهر فيه من القبح والفساد والحلول والاتحاد والتناقض والإلحاد والكفر والضلال والجهل والمحال ، ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال ، حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد ، ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد ، ويحيى بالعلم والإيمان من كان ميت القلب ، لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولا ينكر منكر المغضوب عليهم والضالين ... الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 1 / 88 - 90 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم ؛ فإن الإنسان إذا عرف المعروف ، وأنكر المنكر ، كان خيرًا من أن يكون ميت القلب ، لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرًا ؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم ؛ وفي لفظ : " ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " ، وإنكار القلب هو الإيمان بأن هذا منكر وكراهته لذلك ، فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان ، وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف ، وإنكار هذا المنكر ، ارتفع هذا الإيمان من القلب ... ( اقتضاء الصراط ، ص 44 ، 45 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إرضاء الله واجب مكتوب على الخلق ، وذلك يكون بفعل المأمور ، وبترك المحظور ، لا بفعل ما لم يَأْمر بفعله ، وبترك ما لم ينه عن تركه ؛ والرهبانية فيها فعل ما لم يؤمر به ، وترك ما لم ينه عنه ... ( الجواب الصحيح : 2 / 200 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْعِبَادَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } ، وَبِهَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ؛ وَهِيَ اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ ، وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ وَنِهَايَتَهُ ؛ فَالْحُبُّ الْخَلِيُّ عَنْ ذُلٍّ وَالذُّلُّ الْخَلِيُّ عَنْ حُبٍّ لَا يَكُونُ عِبَادَةً ، وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ مَا يَجْمَعَ كَمَالَ الْأَمْرَيْنِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا لِلْعَبْدِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ، فَهِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ مَحَبَّتِهِ لَهَا وَرِضَاهُ بِهَا ... ( مجموع الفتاوى : 10 / 19 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : مَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْإِرَادَةِ ، وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهَا وَفِعْلُ مَا تَطْلُبُهُ ، كَالْمَأْمُورِ الَّذِي يَتْبَعُ أَمْرَ أَمِيرِهِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُرَادَهُ ، الَّذِي يَهْوَاهُ وَيَشْتَهِيهِ فِي نَفْسِهِ ، وَيَتَخَيَّلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ ؛ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمِثَالُ كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُومِ ، يَتْبَعُهُ حَيْثُ كَانَ ؛ وَفِعْلُهُ فِي الظَّاهِرِ تَبَعٌ لِاتِّبَاعِ الْبَاطِنِ ، فَتَبْقَى صُورَةُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الْمُشْتَهَى الَّتِي فِي النَّفْسِ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلْإِنْسَانِ الْآمِرَةُ لَهُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعِلَّةُ الغائية عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِلْعِلَّةِ الغائية - بِهَذَا التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ - صَارَ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ الْفَاعِلَ فَاعِلًا ، فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَّبِعًا لَهَا ، وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ ، فَهُوَ يُقَوِّي تِلْكَ الصُّورَةَ ، وَيُقَوِّي أَثَرَهَا ، وَيُزَيِّنُ لِلنَّاسِ اتِّبَاعَهَا ، وَتِلْكَ الصُّورَةُ تَتَنَاوَلُ صُورَةَ الْعَيْنِ الْمَطْلُوبَةِ - كَالْمَحْبُوبِ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - وَيَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشَرَةُ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَكُلَّمَا تَصَوَّرَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبَ فِي نَفْسِهِ أَرَادَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ ، وَأَوَّلَ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ ؛ وَلِهَذَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ أَسِيرًا لِذَلِكَ ، مَقْهُورًا تَحْتَ سُلْطَانِ الْهَوَى ، أَعْظَمَ مِنْ قَهْرِ كُلِّ قَاهِرٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَاهِرَ الْهَوَائِيَّ الْقَاهِرَ لِلْعَبْدِ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ ، لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ أَلْبَتَّةَ ، وَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ تَطْلُبُهَا النَّفْسُ ، فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ تَطْلُبُ النَّفْسُ أَنْ تُدْرِكَهُ ، وَتُمَثِّلَهُ لَهَا فِي نَفْسِهَا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْإِرَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الذِّهْنِيَّةُ وَالتَّزَيُّنُ مِنْ الزَّيْنِ وَالْمُرَادُ التَّصَوُّرُ فِي نَفْسِهِ ؛ وَالْمُشْتَهَى الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ لَهُ مُحَرِّكَانِ : التَّصَوُّرُ وَالْمُشْتَهَى ، هَذَا يُحَرِّكُهُ تَحْرِيكَ طَلَبٍ وَأَمْرٍ ، وَهَذَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّبِعَ طَلَبَهُ وَأَمْرَهُ ، فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ ؛ بِخِلَافِ كُلِّ قَاهِرٍ يَنْفَصِلُ عَنْ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى حَالِهَا ، وَهَذَا إنَّمَا يُفَارِقُهُ بِتَغَيُّرِ صِفَةِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ ؛ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ : خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا " ؛ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " هَوَى مُتَّبَعٌ " ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ ، كَقَوْلِهِ : فِي الشُّحِّ الْمُطَاعِ ، وَجَعَلَ الشُّحَّ مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ ، وَجَعَلَ الْهَوَى مُتَّبَعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ قَدْ يَكُونُ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَكُونُ آمِرًا ... ( مجموع الفتاوى : 10 / 586 – 588 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَائِرَةٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، أَوْ تَفْصِيلٍ ؛ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِآثَارِ السَّلَفِ ، وَحَقَائِقِ أَقْوَالِهِمْ ، وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ وَحَقِيقَةِ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنَاقِضَ ذَلِكَ ، لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي دَقِيقِ الْعِلْمِ مَغْفُورٌ لِلْأُمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ أَكْثَرُ فُضَلَاءِ الْأُمَّةِ ؛ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بِأَرْضِ جَهْلٍ ، مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَطْلُبْ الْعِلْمَ ، فَالْفَاضِلُ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ - بِحَسَبِ مَا أَدْرَكَهُ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ - إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ ، هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَيُثِيبَهُ عَلَى اجْتِهَادَاتِهِ ، وَلَا يُؤَاخِذَهُ بِمَا أَخْطَأَ ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ... ( مجموع الفتاوى : 20 / 165 ، 166 ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة ، هي أعظم وقعًا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ؛ ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه ، وينفعها ويضرها ، هو أرسخ فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ؛ ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم بالأخبار المتواترة ، ورؤية الآثار من حسن عاقبة أتباع الرسل ، وسوء عاقبة المكذبين ، أنفع من معرفة صدق الرسول واتباعه ، مما يفيد العلم فقط ؛ فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب ، فيفيد كمال القوتين : العلمية والعملية بنفسه ، بخلاف ما يفيد العلم ، ثم العلم يفيد العمل ... ( درء التعارض : 2 / 24 – تحقيق : د. محمد رشاد سالم ) .
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : أصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمون من دعوى العقليات ، التي عارضوا بها النصوص ، إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها ، ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي ، صار الشعراء ينظمون هذا المعنى ، كقول أبي تمام :
جهمية الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء
فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم ؛ أحدها : ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ والثاني : ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء ؛ والثالث : جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين ؛ والرابع : تكفيرهم أو تفسيقهم أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول .
وأما أهل العلم والإيمان فهم على نقيض هذه الحال ، يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه ، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه ، فما وافقه كان حقًّا ، وما خالفه كان باطلًا ، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين ، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه ، غفر الله له خطأه ، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية ، أو المسائل العملية ؛ فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس يجب أن يكون معلومًا متيقنًا لغيره ، وليس كل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس ويفهمونه ؛ بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه ، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده ، وإن كان كلامه في نفسه محكمًا مقرونًا بما يبين مراده ، لكن أهل العلم يعلمون ما قاله ، ويميزون بين النقل الذي يصدق به ، والنقل الذي يكذب به ، ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله تعالي أمر الرسول بالبلاغ المبين ، وهو أطوع الناس لربه ، فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ، ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسًا مدلسًا ... ( درء التعارض : 1 / 149 ) .
 
عودة
أعلى