قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية ، فيغفر له ، كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية ؛ وحكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله ، كما قال تعالى : ] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [ ... ( بغية المرتاد : 2 / 145 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين إنما قبلوه ؛ لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعانيه جميعًا ، كما ثبت ذلك عنهم ، مع أن هذا مما يعلم بالضرورة عن عادتهم ؛ فإن الرجل لو صنف كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك وحفَّظه تلامذته ، لكان يعلم بالاضطرار أن هممهم تشوَّق إلى فهم كلامه ، ومعرفة مراده ، وإن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب ؛ فكيف بكتاب الله ؟ الذي أمر ببيانه لهم ، وهو عصمتهم وهداهم ، وبه فرق الله بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والرشاد والغي ؟ وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه ، والعمل بما فيه ، وهم يتلقونه شيئًا بعد شيء ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } الآية ، وقال تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }.
وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه ، وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ، ولا ما يقرؤونه ، ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ، ولا يسألونه عن ذلك ، ولا يبتدئ هو بيانَه لهم ؟ هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله .... ( بغية المرتاد : 2 / 164 ، 165 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : فَرْقٌ بين من قامت عليه الحجة النبوية التي يكفر تاركها ، وبين المخطئ المجتهد في اتباع الرسول إذا اقتضى خطؤه نفى بعض ما أثبته ، أو إثبات بعض ما نفاه ؛ حتى نفس المقالة الواحدة يكفر بتكذيبها من قامت عليه الحجة دون من لم تقم ، كالذي قال : " إذا مت فاسحقوني ، ثم اذروني في اليم ، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين " .
فإن الإيمان بقدرة الله على كل شيء ، ومعاد الأبدان ، من أصول الإيمان ؛ ومع هذا فهذا لما كان مؤمنًا بالله وأمره ونهيه ، وكان إيمانه بالقدرة والمعاد مجملا ، فظن أن تحريقه يمنع ذلك ، فعل ذلك ؛ ومعلوم أنه لو كان قد بلغه من العلم أن الله يعيده وإن حرق ، كما بلغه أنه يعيد الأبدان ، لم يفعل ذلك ... ( بغية المرتاد : 2 / 177 ، بتصرف يسير جدًّا ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : وأئمة السنة ولجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة ، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة ، سالمين من البدعة ، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) ، ويرحمون الخلق ، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، لا يقصدون الشر لهم ابتداء ، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم ، كان قصدهم بذلك بيان الحق ، ورحمة الخلق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ؛ فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ، ومن قاتلهم يقاتل في سبيل الطاغوت ، كالصديق رضي الله عنه مع أهل الردة ، وكعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج المارقين ، ومع الغلاة والسبائية ؛ فأعمالهم خالصة لله تعالى ، موافقة للسنة ، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ، ولا صواب ؛ بل بدعة واتباع الهوى ، ولهذا يسمون أهل البدع وأهل الأهواء ... ( الرد على البكري : 2 / 490 ، 491 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح ، والباطل بالحق ، والبدعة بالسنة ، والضلال بالهدى ، والكذب بالصدق ؛ وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال ، وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح ؛ وقد رأيت من هذا عجائب ، فقَلَّ أن رأيت حجة عقلية هائلة لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلِّها ، إلا رأيت بعد ذلك من أئمة تلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينَّه ؛ وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة ، والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات ... ( درء التعارض : 1 / 221 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : أما سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين المشهورون بالإمامة فيهم ، كالأربعة وغيرهم ، وأهل العلم بالكتاب والسنة ، فيفرقون بين مملوكاته وبين صفاته ، فيعلمون أن العباد مخلوقون ، وصفات العباد مخلوقة ، وأجسادهم ، وأرواحهم ، وكلامهم وأصواتهم بالكتب الإلهية وغيرها ، ومدادهم وأوراقهم ، والملائكة ، والأنبياء ، وغيرها ، ويعلمون أن صفات الله القائمة به ليست مخلوقة ، كعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحياته ، وسمعه ، وبصره ، ورضاه وغضبه ، وحبه وبغضه ؛ بل هو موصوف بما وصف به نفسه ، وبما وصفته به رسله ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ، ولا تمثيل ؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يتأولون كلام الله بغير ما أراده ، ولا يمثلون صفات الخالق بصفات المخلوق ، بل يعلمون أن الله سبحانه ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، بل هو موصوف بصفات الكمال ، منزه عن النقائص ، وليس له مثل في شيء من صفاته ، ويقولون : إنه لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال ، لم يزل متكلمًا إذا شاء بمشيئته وقدرته ، ولم يزل عالِمًا ، ولم يزل قادرًا ، ولم يزل حيًّا ، سميعًا ، بصيرًا ، ولم يزل مريدًا ، فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به فهو موصوف به ، لم يزل ولا يزال متصفًا بصفات الكمال ، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام سبحانه وتعالى ... ( الجواب الصحيح : 2 / 163 ، 164 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : الحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه ، وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيًا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرًا متلقيًا لهم بعجزه ، ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له : ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضًا ؛ فقال القاضي : ثنتان قدح فيهما ، ورميتا بالزنا إفكًا وكذبًا : مريم وعائشة ، فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد ، مع أنه كان لها زوج ؛ فأبهت النصارى ؛ وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى ... ( منهاج السنة النبوية : 2 / 57 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح في مكان كان الكفار يعملون فيه عيدًا ، وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد ، والسائل لا يتخذ المكان عيدًا ، بل يذبح فيه فقط ؛ فقد ظهر أن ذلك سدًّا للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم ، خشية أن يكون الذبح هناك سببًا لإحياء أمر تلك البقعة ، وذريعة إلى اتخاذها عيدًا ، مع أن ذلك العيد إنما كان يكون - والله أعلم - سوقًا يتبايعون فيها ، ويلعبون ، كما قالت له الأنصار : يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية ؛ لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ، ولهذا فرق صلى الله عليه وسلم بين كونها مكان وثن ، وكونها مكان عيد.
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان .... ( اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 191 ) .
"وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه،ولايرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار ،فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية،وإذا تاب واستغفر وقال :هذا بذنوبي،صارت في حقه نعمة."(جامع المسائل 1/169). ونشكر الدكتور الفاضل :محمود عطية على جمعه الكثير من درر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الملتقى،وأن يجعل الله ذلك في ميزان حسناته.