ما من شك أبدا أن هذه معجزة مبهرة
وكنت أتسائل هل من ثمرات هذه المعجزة أن نربط معانى المثانى الخاصة بكل سورة بما تحويه السورة من آيات وأحكام ودلائل
فنخرج بخصوصية ومواضيع جديدة
....
كان هذا مجرد اقتراح لا أدرى هل توافقونى عليه أم لا لأنى أدركت أنه لابد أن يكون ثمة فوائد من معرفة هذا الإعجاز ولا نتوقف عند كونه إعجاز فحسب
وأستاذنا العليمى يصحح لى إذا جانبت الصواب
قولك سديد ، واقتراحك مفيد ، وأنت عن الصواب غير بعيد
بل لعلك تندهش حين تعلم أن مطلبك كان هو نفس ما تبناه وقام بتطبيقه اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب رحمه الله فى دراسته " إعجاز النظام القرآنى " والتى هى أساس موضوعنا هذا وحجر الزاوية فيه
ومن الأمانة العلمية أن أذكر وجهة نظره كما عبَّر هو عنها
قال رحمه الله فى الصفحة 19 من دراسته المذكورة :
(( للسورة رباط رئيسى يتردد ذكره فيها أكثر من غيرها من سور القرآن كثرة مطلقة أو نسبية . ولما كان الحق يقول : " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " فسوف نصطلح على إطلاق اسم " العلامة " على هذا الرباط الرئيسى ، وتهدى العلامة إلى الموضوع الرئيسى الذى تتحدث عنه السورة ))
فمن هذا القول يتضح أن اللواء عبد الوهاب رحمه الله كان يرى أن لكل سورة – حتى الطوال منها – موضوع رئيسى واحد تدور حوله سائر آيات السورة مهما بلغ طولها
وقد كانت تلك نقطة اختلافى معه ، حيث رأيت أنه من الصعوبة بمكان ، بل من التكلف الشديد أحيانأ ، أن نجعل للطوال من السور موضوعأ وحيدأ لا تحيد عنه ، فسورة مثل سورة البقرة مثلاً قد تعددت مواضيعها بشكل لافت للنظر ولا يمكن تجاهله ، وحتى المحاولة التى قام بها الدكتور محمد عبد الله دراز لبيان الوحدة الموضوعية لسورة البقرة قد علق عليها الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد قائلاً :
(( بالرغم مما قاله المرحوم دراز ، فإن البون لا يزال بعيداً فى وضع هذا على قوالب علمية محددة ، تنتقل به من باب الالتماس والإجتهاد والظن وكثرة الإختلاف ، إلى باب الحقائق المحددة المعالم والأوصاف ))
أما اللواء أحمد عبد الوهاب فقد رأى أن سورة البقرة لها موضوع رئيسى واحد ، ذلك الموضوع هو " التقوى " وكل ما يتعلق بها من أوامر ونواهِ ، وفروض وحدود وتشريعات، وكان يرى أنه لهذا السبب فقد تمثلت مثانى فاتحتها – أو العلامة كما أسماها – فى لفظ " المتقين " فى قوله تعالى " هدى للمتقين " ( أنظر المشاركة الثانية من هذا الموضوع )
فكان يرى أن هذا اللفظ الذى حاز فى سورة البقرة معدل التكرار المطلق ، قد جاء فى فاتحتها كعلامة على موضوعها الرئيسى الذى هو التقوى ومطالبها ، وهذا هو سبب اختياره لمصطلح "العلامة" ، بينما أسميته أنا "مثانى الفواتح" ، لأنى رأيتُ أن وجهة نظره هذه حول وجود موضوع رئيسى واحد لا تسلم تمامأ من التكلف وغلبة الظن ، ولا ترقى إلى مستوى الحقائق البينات
أما السبب الأهم وراء رفضى التام لوجهة نظره ، فهو أن هذه المعجزة قد بدت لى أقرب إلى علوم اللغة والبيان منها إلى علم التفسير الموضوعى الذى أريد لها إقحامها فيه . وسبب ذلك أنى وجدت الكثير من تلك المثانى الإعجازية قد تمثلت فى أساليب لغوية محضة وأنها تشيع فى أجزاء متعددة من السورة لا ينتظمها موضوع بعينه ، فالتركيز هنا يكون على الاسلوب وطريقة البيان والتعبير ، أكثر من كونه على المعنى والمضمون
وبكل صراحة أقول : لقد تيقنت من أن الإهتمام بالبحث عن موضوع رئيسى للسورة والتركيز عليه ، سوف يشتت انتباهنا بحيث لا نتمكن من ملاحظة العديد من المثانى الاعجازية القائمة على التراكيب اللغوية المحضة
خذ لذلك مثلا سورتى : يونس والنحل . فقد كانت مثانى فاتحة يونس تتمثل فى التعبير المزجى بين فعل الكينونة ( كان ، يكون ... ) ولفظ " الناس " ، وذلك فى قوله تعالى بأول السورة : " أكان للناس " ( أنظر المشاركة رقم 26 )
فهل تجد فى هذا التركيب دلالة على موضوع ما ؟ فضلأ عن جعله موضوعأ رئيسيأ للسورة بأكملها ؟!
وكذلك مثانى سورة النحل التى تمثلت فى التركيب المزجى بين الفعل " أتى " ومشتقاته ولفظ " أمر " ، وذلك فى قوله تعالى بأول السورة : " أتى أمر " ( أنظر المشاركة رقم 51 )
فهل تجد كذلك فى هذا التركيب اللغوى المحض دلالة على موضوع بذاته ؟
إن أمثال تلك المثانى الاعجازية ما كانت لتنكشف لنا ، بل كانت ستبقى خفية وغير معروفة لو كان اهتمامنا الأكبر منصرفأ إلى اكتشاف الوحدة الموضوعية للسورة ، ضاربين صفحأ عن ملاحظة الاسلوب البيانى بحد ذاته
وكما نقول عندنا فى مصر : " صاحب بالين كذاب " .. فإما أن يكون بحثك متجهأ نحو الموضوع والمضمون ، أو أن تتوجه به صوب طرائق البيان والتعبير . أما أن يتجه إليهما معأ فى وقت واحد ، فهذا خداع للنفس ، ولن تكون له ثمرة محققة
هذا ما تيسر لى بيانه فى هذه العجالة ، وأرجو أن أكون قد وفقت فيه
والسلام عليكم ورحمة الله