بسم الله
هناك فوائد تأصيلية قيمة حول موضوع الوقف والإبتداء في الكتب التالية :
سنن القراء ومناهج المجودين للشيخ الفاضل : أبي مجاهد عبدالعزيز القارئ ص130-138
التمهيد في علم التجويد للإمام ابن الجزري رحمه الله
المقدمات الأساسية في علوم القرآن لعبدالله الجديع .
فهل بإمكانك أخي أبا بيان أن تختصرها لنا ، وتتحفنا بها ‘ فهي جديرة بالتأمل والمدارسة .
وأعتذر عن إحالة ذلك إليك ؛ ولكن ضيق الوقت من جهة مع كثرة المشاغل ، وكونك صاحب الموضوع هو ما حملني على ما صنعت ، والله المستعان .
وستكون مشاركتي هنا عبارة عن تهذيب لمقال جبد وجدته في أحد المواقع ، وفيه فوائد كثيرة ، وضوابط مفيدة حول هذا الموضوع ، فليتقبله الإخوة الأعضاء والزوار بقبول حسن :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد:
فالواقع أن باب الوقف والابتداء باب هام جداً يجب على قارئ القرآن الكريم أن يهتم به ؛ إذ هو دليل على فقهه وبصيرته ؛ لأن القارئ قد يقف أحياناً على ما يخل بالمعنى وهو لا يدرى ، أو يبتدئ بما لا ينبغى الابتداء به .
فإن كان ذا بصيرة ، فإنه لن يقف إلا على ما يتم به المعنى اللهم إلا إذا اضطر إلى غير ذلك ، فإن عليه حينئذٍ أن يعالج أمره بأن يرجع كلمة أو أكثر أى إلى موضع يجوز الابتداء به ، فيستأنف قراءته بادئاً به ، ومنتهياً بجملة تفيد معنى يجوز الوقوف عليه .
ومثل ذلك قل أيضاً فى الابتداء .
والهدف من وراء ذلك كله هو عدم الإخلال بنظم القرآن ، ولا بما اشتمل عليه من معان . ولسوف يقف القارئ الكريم على أمثلة تطبيقية فيما هو آت – إن شاء الله تعالى - يدرك من خلالها ارتباط كل من الوقف والابتداء فى قراءة القرآن الكريم بالتفسير ، ولكن من حق قارئنا علينا - قبل ذلك - أن نوقفه على معنى كل من الوقف والابتداء وأهم ما يتعلق بهما من أحكام0
تعريف الوقف والابتداء:
الوقف : هو قطع النطق عن آخر الكلمة .
والابتداء: هو الشروع فى الكلام بعد قطع أو وقف.
علاقة الوقف والابتداء بالمعنى أو التفسير:
قال الصفاقسى فى كتابه تنبيه الغافلين مبيناً أهمية معرفة الوقف والابتداء:
ومعرفة الوقف والابتداء متأكد غاية التأكيد ، إذ لا يتبين معنى كلام الله ، ولا يتم على أكمل وجه إلا بذلك ؛ فربما قارئ يقرأ ويقف قبل تمام المعنى ، فلا يفهم هو ما يقرأ ومن يسمعه كذلك ، ويفوت بسبب ذلك ما لأجله يقرأ كتاب الله تعالى ، ولا يظهر مع ذلك وجه الإعجاز ، بل ربما يُفهم من ذلك غير المعنى المراد ، وهذا فساد عظيم ؛ ولهذا اعتنى بعلمه وتعليمه والعمل به المتقدمون والمتأخرون ، وألفوا فيه من الدواوين المطولة والمتوسطة والمختصرة ما لا يعد كثرة .ومن لا يلتفت لهذا ، ويقف أين شاء ، فقد خرق الإجماع ، وحاد عن إتقان القراءة وتمام التجويد . انتهى
وهذا الكلام من عالم صرف حياته لخدمة القرآن كالصفاقسى له وجاهته ، وهو يؤكد ما قلته آنفاً عن ارتباط الوقف والابتداء بالتفسير.
وقال السخاوى فى تأكيد ذلك أيضاً:
فى معرفة الوقف والابتداء الذى دونه العلماء تبيين معانى القرآن العظيم ، وتعريف مقاصده ، وإظهار فوائده ، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده 00 وقد اختار العلماء وأئمة القراء تبيين معانى كلام الله تعالى وجعلوا الوقف منبهاً على المعنى ومفصلاً بعضه عن بعض ، وبذلك تلذ التلاوة ، ويحصل الفهم والدراية ، ويتضح منهاج الهداية. انتهى
من الآثار الدالة على وجوب معرفة الوقف والابتداء:
1- حديث الخطيب الذى خطب بين يدى النبى - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما . ثم وقف على "يعصهما" ثم قال فقد غوى . هنا قال له النبى -صلى الله عليه وسلم -: "بئس الخطيب أنت"
وقد قال له النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك لقبح لفظه فى وقفه ؛ إذ خلط الإيمان بالكفر فى إيجاب الرشد لهما ، وكان حقه أن يقول واصلاً: ومن يعصهما فقد غوى . أو يقف على "فقد رشد" ثم يستأنف بعد ذلك " ومن يعصهما ..الخ" فهذا دليل واضح على وجوب مراعاة محل الوقف.
2- روى عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أنه قال: لقد غشينا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على النبى - صلى الله عليه وسلم - فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها وما ينبغى أن يوقف عنده منها.
3-وقال على - رضى الله عنه - لما سئل عن قوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً ) قال: الترتيل معرفة الوقوف وتجويد الحروف.
قال ابن الجزرى فى النشر: فى كلام على - رضى الله عنه - دليل على وجوب تعلم الوقف والابتداء ومعرفته.
وفى كلام ابن عمر برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة - رضى الله عنهم - أجمعين وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبى جعفر يزيد ابن القعقاع - أحد القراء العشرة - وإمام أهل المدينة الذى هو من أعيان التابعين ، وصاحبه الإمام نافع بن أبى نعيم وأبى عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمى ،وعاصم بن أبى النجود - وهم من القراء العشرة - وغيرهم من الأئمة ، وكلامهم فى ذلك معروف ، ونصوصهم عليه مشهورة فى الكتب ؛ ومن ثم اشترطه كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء .
وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف ، ويشيرون إلينا فيه بالأصابع ، سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين -رحمة الله عليهم أجمعين. ا.هـ....
4-وأختم هذه الأدلة بحديث نبوى كما استهللتها به وهو حديث أبى بن كعب رضي الله عنه ، قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الملك كان معى فقال: اقرأ القرآن ، فعد حتى بلغ سبعة أحرف فقال: ليس منها إلا شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة ، أو تختم رحمة بعذاب .
قال أبو عمرو الدانى : هذا تعليم التمام من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عليه السلام ، إذ ظاهره دالّ على أنه ينبغى أن تقطع الآية التى فيها ذكر النار والعقاب وتفصل مما بعدها إذا كان بعدها ذكر الجنة والثواب ، والأمر كذلك أيضاً إذا كانت الآية فيها ذكر الجنة والنار بأن يفصل الموضع الأول عن الثانى.
قال السخاوى معقباً: لأن القارئ إذا وصل غير المعنى ؛ فإذا قال: ( تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين ) غيرّ المعنى وصير الجنة عقبى الكافرين ....
والسلف الصالح - رضى الله عنهم - كانوا يراعون مواضع الوقف والابتداء تمام المراعاة خشية أن يقف الواحد منهم على مالا يجوز أو أن يبتدئ بما لا ينبغى بل إن بعضهم كان إذا قرأ ما أخبر الله به من مقالات الكفار يخفض صوته بذلك حياءً من الله أن يتفوه بذلك بين يديه . وليس معنى ذلك أن من يجهر بمثل ذلك يكون مخطئاً أو لم يراع قواعد الأدب مع الله لأن السر والجهر بالنسبة إلى الله تعالى سواء. قال تعالى: ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ).
ومن العلماء الذين نبهوا على وجوب مراعاة ذلك الإمام مكى بن أبى طالب فى كتابه الكشف عن وجوه القراءات السبع ، وضرب على ذلك بعض الأمثلة على ما لا يجوز الابتداء به ومن ذلك الابتداء فى القراءة بقوله تعالى : ( الله لا إله إلا هو ) بعد الاستعاذة مباشرة فإنه غير سائغ ؛ لأن القارئ يصل "الرجيم" بلفظ الجلالة وذلك قبيح فى اللفظ يجب الكف والامتناع عنه إجلالاً لله وتعظيماً له.
ومنه أيضاً الابتداء بقوله تعالى: ( إليه يرد علم الساعة ) بعد الاستعاذة مباشرة لأن القارئ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إليه يرد علم الساعة ؛فيصل ذلك بالشيطان وهو قبيح جدا ً.
ما يشترط فيمن يقوم بتحديد مواضع الوقف والابتداء
ليس لكل واحد من الناس أن يحدد مواضع الوقف والابتداء بل ينبغى توفر شروط فيمن يقوم بشأن تحديد مواضع الوقف والابتداء منها:
1- العلم بالنحو : حتى لا يفصل -بالوقف - بين المبتدأ وخبره أو بين المتضايفين - أى المضاف والمضاف إليه - أو بين المستثنى والمستثنى منه اللهم إلا إذا كان هذا الاستثناء منقطعاً ؛
فإن العلماء قد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
أ- قال بعضهم: يجوز الفصل مطلقاً ؛ لأنه فى معنى مبتدأ حذف خبره للدلالة عليه.
ب- وقيل: هو ممتنع مطلقاً لأن المستثنى فى حاجة إلى المستثنى منه - فى هذه الحالة - من جهة اللفظ والمعنى حيث لم يعهد استعمال إلا الاستثنائية وما فى معناها إلا متصلة بما قبلها لفظاً ومعنى كذلك لأن ما قبلها مشعر بتمام الكلام فى المعنى ؛ إذ قولك: ما فى الدار أحد هو الذى صحح: إلا الحمار. فلو قلت: إلا الحمار وحده لكان خطأ.
ج- وقيل: الأمر يحتاج إلى تفصيل ، فإن صرح بالخبر جاز لاستقلال الجملة واستغنائها عما قبلها ، وإن لم يصرح به - أى الخبر - فلا يجوز لافتقارها.
وبالجملة ؛ فإن معرفته بعلم النحو تجعله لا يقف على العامل دون المعمول ، ولا على المعمول دون العامل ، ولا على الموصول دون صلته ، ولا على المتبوع دون تابعه ، ولا على الحكاية دون المحكى ، ولا على القسم دون المقسم به ، أو غير ذلك مما لا يتم به المعنى. يضاف إلى ذلك أن الوقف قد يكون تاماً على إعراب غير تام على إعراب آخر ؛ فظهر بذلك ضرورة العلم بالنحو لمن يقوم بتحديد مواضع الوقف والابتداء.
2- العلم بالقراءات: لأن الوقف قد يكون تاماً على قراءة ، غير تام على قراءة أخرى.
3- العلم بالتفسير: لأن الوقف قد يكون تاماً على تفسير معين ، غير تام على تفسير آخر.
4- العلم بالقصص: حتى لا يقطع قبل تمام قصة.
5- العلم باللغة التى نزل عليها القرآن.
هذه الشروط اشترطها ابن مجاهد ، ونقلها عنه السيوطى موجزة. واشترط غير ابن مجاهد العلم بالفقه كذلك.
قال صاحب هذا الرأى: ولهذا فإن من لم يقبل شهادة القاذف وإن تاب فإنه يقف عند قوله تعالى: ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ) ، وأما من قالوا بقبول شهادته إذا تاب ومن جملة ذلك إقامة الحد عليه ؛ أقول: هؤلاء يصلون الآية بالآية التى بعدها : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا )..
والذى ينبغى علمه أن كلاً من التفسير والوقف مرتبط بالآخر ، وهذه الحقيقة نتصورها أحياناً فى القراءة الواحدة ، وأحياناً فى القراءات المختلفة.
قال السيوطى مقرراً هذه الأخيرة: الوقف قد يكون تاماً على قراءة غير تام على أخرى ….. والوقف يكون تاماً على تفسير وإعراب غير تام على تفسير وإعراب آخر.
ومثال هذا: الوقف على ( لا ريب ) فإنه يكون تاماً إن جعلنا ( فيه هدى ) مبتدأً وخبراً، وهو اتجاه نافع وعاصم ، ولو جعلنا الجار والمجرور ( فيه ) متعلقاً بــ ( لا ريب ) فالوقف يكون على ( لا ريب فيه ) ويستأنف بعد ذلك بـ( هدى للمتقين ) أى: هو هدى ؛ فعلى الأول الوقف تام على قول أصحاب الوقف ، وعلى المعنى الثانى الوقف كاف .
أمثلة تطبيقية تؤكد مدى ارتباط كل من التفسير والوقف بالآخر غير ما ذكر :
1- قال تعالى : ( هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )
وشاهدنا من هذه الآية هو قوله سبحانه: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم ...) حيث قال الجمهور: الوقف على قوله: ( إلا الله ) وقف تام. وقال غيرهم: ليس تاماً بل يوصل بما بعده ولا يوقف عليه.
تفسير الآية على رأى الجمهور:
الله عز وجل فى هذه الآية يذكر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللناس أجمعين أنه أنزل القرآن فيه المحكم الواضح ، والمتشابه غير الواضح ، ثم بين بعد ذلك أن أهل الزيغ الحاقدين يتبعون هذا المتشابه بهدف التشكيك وإثارة البلبلة بين صفوف المؤمنين ، مع أن المتشابه لا يعلمه إلا الله وحده فقط ؛ وعلى ذلك فالجملة التى بعد هذا الوقف وهى قوله: ( والراسخون فى العلم يقولون..) ليست معطوفة على لفظ الجلالة ، بل الواو للاستئناف و "الراسخون" مبتدأ وجملة "يقولون" خبر فالجملة هذه مقطوعة إذن عما قبلها ، وقد قال بهذا القول كل من:
ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وأبى الشعثاء وأبى نهيك ، وهو مذهب الكسائى والفراء والأخفش وأبى عبيد وحكاه ابن جرير الطبرى عن مالك واختاره.
تفسير الآية على رأى غير الجمهور:
وبناء على رأى غير الجمهور يكون المعنى أن الراسخين فى العلم المتمكنين منه يعلمون أيضاً تأويل المتشابه ، فقوله سبحانه : ( والراسخون فى العلم يقولون .. ) ليس مقطوعاً عما قبله ولكن معطوفاً عليه ، فالواو للعطف و "الراسخون" معطوف على لفظ الجلالة و "يقولون" حال. وهذا الرأى منقول عن مجاهد وابن عباس فى قول آخر حيث نقل عنه أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
ومن هنا نعلم أن تفسير الآية قد اختلف بناءً على اختلاف القراء حول موضع الوقف فيها. وإن شئت قلت: إن موضع الوقف قد اختلف حسب اختلاف نظرة العلماء إلى تفسيرها ، فالتلازم واضح وظاهر بين موضع الوقف والتفسير.
هذا وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين الرأيين ومنهم ابن عطية الذى قال: وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق وذلك أن الله تعالى قسم آى الكتاب قسمين: محكماً ومتشابهاً فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب ولا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شئ يلبس ويستوى فى علمه الراسخ وغيره. والمتشابه يتنوع ، فمنه مالا يعلم البتة كأمر الروح وآماد المغيبات التى قد علم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه فى اللغة ومناح فى كلام العرب فيتأول تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله تعالى فى عيسى ( وروح منه ) إلى غير ذلك ، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له ، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً . اهـ
وقال الشوكانى: ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به فى القرآن شيئان :
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره إليه ….. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة - تام - لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل …..
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان فالوقف على ( والراسخون فى العلم ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار.
وحاصل ذلك أننا لو نظرنا بإمعان إلى رأى الفريقين لأدركنا أن كل فريق قد أصاب الحقيقة من وجه وذلك بأن نحمل رأى المعارضين لمعرفة الراسخين فى العلم لتأويل المتشابه نحمله على نوع منه وهو الذى استأثر الله بعلمه ، فهذا لا اطلاع لأحد عليه إلا الله كوقت الساعة وخروج الدابة ونزول المسيح ….الخ
ونحمل رأى المؤيدين على المتشابه الذى يعرف المراد منه بالبحث والنظر ؛ فإن الراسخين فى العلم يعلمون تأويله حيث هم أهل البحث والنظر ، وذلك مثل المتشابه الذى يرجع التشابه فيه إلى اللفظ المفرد من جهة غرابته أو اشتراكه أو ما يرجع التشابه فيه إلى تركيب الكلام ونحو ذلك .
2- قال تعالى: ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولاً )
وشاهدنا هو قوله سبحانه : ( لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى ) حيث وقف الجمهور عليه وقفاً تاماً ؛ لأن كلام الظالم قد انتهى عند هذا الحد. ثم جاء بعد ذلك قوله سبحانه: ( وكان الشيطان للإنسان خذولاً ) تقريراً وبياناً لما قبله. والمراد بالظالم عقبة ابن أبى معيط كما سيأتى بيانه ، وقال بعضهم: إن هذا القول ( وكان الشيطان ……. ) الخ هو من تتمة كلام الظالم وعليه فالوقف على (خذولاً ) وليس على (إذ جاءنى ) ، والمراد بالشيطان إما الخليل - وهو أمية بن خلف على ما سيأتى أو أبى بن خلف - وعلى ذلك فتسمية الخليل شيطاناً فلأنه قد أضله وزين له الكفر وعدم الإيمان فقلد الشيطان فى ذلك ونهج نهجه فى الصد والإضلال. وقد يراد بالشيطان هنا إبليس إذ هو الأصل فى الغواية والإضلال.
قال الشوكانى تعليقاً على قوله تعالى: ( وكان الشيطان للإنسان خذولا ) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، أو من تمام كلام الظالم ، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً ، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذى حمله على مخاللة المضلين . اهـ
.......
3- جاء فى سورة النمل فى سياق حديث بلقيس مع قومها حين كانت تشاور فى أمر سليمان عليه السلام ، أقول: فى هذا السياق جاء قوله تعالى: ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون )
قال الجمهور عن هذه الآية : إن الوقف على ( أذلة ) وقف تام. وقال غيرهم: بل الوقف على ( وكذلك يفعلون ) وليس على ( أذلة ) ؛ فأما على رأى الجمهور فإن كلام بلقيس قد انتهى عند ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) ثم جاء هذا التذييل ( وكذلك يفعلون ) وهو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما ذهبت إليه بلقيس من أن الملوك إذا دخلوا قرية من القرى فاتحين لها أو غازين ؛ فإنهم يخرجون أهلها ، ويفرقون شملهم ، ويتلفون ما فيها من خيرات. وعلى ذلك فهذا التذييل مستأنف وليس معطوفاً على ما قبله .
وأما على رأى غير الجمهور ؛ فتذييل الآية ( وكذلك يفعلون ) موصول بما قبله على أنه من كلام بلقيس ، فالواو إذن للعطف ، وما بعدها من جملة مقول القول. وبذلك تكون الجملة كما يقول البيضاوى: تأكيداً لما وصفته - بلقيس - من حال الملوك وتقريراً بأن ذلك من عادتهم المستمرة .اهـ ...
ضوابط للوقف والابتداء يجب مراعاتهاوإلا أخل القارئ بالمعنى والتفسير :
الضابط الأول : لا يجوز الوقوف على مالا يتم به المعنى .
هذه قاعدة عامة مجملة ، وتفصيلها : أنه لا يجوز أن يوقف على العامل دون المعمول ، ولا المعمول دون العامل ، وسواء كان العامل اسماً أم فعلاً أم حرفاً ، وسواء كان المعمول مرفوعاً أم منصوباً أم مخفوضاً ، عمدة أو فضلة ، متحداً أو متعدداً.
ولا يوقف أيضاً على الموصول دون صلته ، ولا على ما له جواب دون جوابه ، ولا على المستثنى منه قبل المستثنى ، ولا على المتبوع دون التابع ، ولا على ما يستفهم به دون ما يستفهم عنه ، ولا على ما أشير به دون ما أشير إليه ، ولا على الحكاية دون المحكى ، ولا على القسم دون المقسم به وغير ذلك مما لا يتم المعنى إلا به .
وقد مضت الأمثلة على ذلك فى أقسام الوقف.
الضابط الثانى : كلمة "كلا" وردت فى القرآن الكريم فى ثلاثة وثلاثين موضعاً منها سبعة للردع بالاتفاق وهذه يوقف عليها. وهى:
( عهدا. كلا ) ، (عزاً. كلا )، ( أن يقتلون. قال كلا ) ، ( إنا لمدركون. قال كلا ) ، ( شركاء كلا ) ، ( أن أزيد. كلا ) ، ( أين المفر. كلا ) .
والباقى منها ما هو بمعنى حقاً قطعاً فلا يوقف عليه ، ومنها ما احتمل الأمرين أى الردع ومعنى حقاً قطعاً ففيه الوجهان.
وإذا استقرأنا هذه اللفظة فى القرآن الكريم فإننا سوف نجد أنها لم تذكر إلا فى النصف الثانى من القرآن الكريم وفى السور المكية فقط ولذلك قيل:
وما نزلت "كلا" بيثرب فاعلمن
ولم تأت فى القرآن فى نصفه الأعلى
والسبب فى ذلك أن هذه الكلمة "كلا" تفيد الردع والزجر والرد على الكفار فيما يزعمون أو يدعون.
الضابط الثالث : كلمة "بلى" جاءت فى القرآن الكريم فى إثنين وعشرين موضعاً فى ست عشرة سورة وهى على أقسام ثلاثة:
الأول: لا يجوز الوقف عليها بالإجماع ، لتعلق ما بعدها بما قبلها وذلك كائن فى سبعة مواضع هى:
( بلى وربنا ) ، ( بلى وعداً عليه حقاً ) ، ( قل بلى وربى لتأتينكم ) ، ( بلى قد جاءتك ) ، ( بلى وربنا ) ، ( قل بلى وربى ) ، ( بلى قادرين ) .
الثانى: المختار فيه عدم الوقف ، وذلك فى خمسة مواضع هى:
( بلى ولكن ليطمئن قلبى ) ، ( بلى ولكن حقت ) ، ( بلى ورسلنا ) ، ( قالوا بلى ) ، ( قالوا بلى قد جاءنا ) .
الثالث : المختار فيه جواز الوقف عليه وهى العشرة الباقية:
الضابط الرابع :قال ابن الجزرى : كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده.
الضابط الخامس :
كل ما فى القرآن من "الذى" و "الذين" يجوز فيه الوصل بما قبله نعتاً ، ويجوز فيه القطع على أنه خبر إلا فى سبعة مواضع يلزم فيها القطع وهى قوله سبحانه:
( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه ) ، ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) ، ( الذين يأكلون الربا ) ،
( الذين آمنوا وهاجروا ) ، ( الذين يحشرون ) ، ( الذين يحملون العرش ) .
الضابط السادس :
كلمة "نعم" وردت فى القرآن فى أربعة مواضع ، وضابط الوقف عليها وعدمه : أنه إن وقع بعدها واو لم يجز الوقف عليها وإن لم يقع بعدها واو فالمختار الوقف عليها ؛ لأن ما بعدها غير متعلق بما قبلها ، ومثال ذلك قوله تعالى:
( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم فأذن ...) فالمختار هنا الوقف على "نعم " ؛ لأن ما بعدها غير متعلق بما قبلها ؛ حيث إنها من قول الكفار ، وما بعدها ( فأذن ) ليس من قولهم.
وأما المواضع الثلاثة الباقية التى وردت فيها كلمة "نعم" فإنه لا يوقف عليها لكونها مرتبطة ومتعلقة بما بعدها ، وهى قوله تعالى :
1- ( وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم لمن المقربين)
2- و( قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين ) .
3- و ( قل نعم وأنتم داخرون ) .
وننتهى من هذه الدراسة إلى أن مراعاة مواضع الوقف والابتداء أمر من الأهمية بمكان بحيث إنه يجب مراعاته حتى لا يخل القارئ بالمعنى الذى يقصده القرآن الكريم ، وأن عدم مراعاة هذه المواضع يوقع كثيرا فى الحرج حيث يستحيل المعنى القرآنى عن مقصوده ، بل إنه يصل بالقارئ أحيانا إلى ما هو أبعد من الحرج كما عرفنا ذلك فيما مضى وفقنا الله تعالى إلى ما يحبه ويرضاه كما نسأله سبحانه أن يجنبنا الزلل وأن يوفقنا إلى حسن القول والعمل وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا ونور أبصارنا وقائدنا إلى الجنة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم0
المرجع :
http://www.quransite.net/modules.php?name=News&file=article&sid=4