بسم الله، وعلى بركة الله.
اللهم اجعل لي لسان صدق، ولا تجعل للشيطان فيما أقول نصيب، إنك سميع مجيب.
النصيحة لكتاب الله أن نتقي الله في كتابه، وأن نتأنَّى في مثل هذه الأمور الحادثة التي لم تتحرر، ودخلها من هبَّ ودبَّ.
فمثل الأستاذ الدكتور زغلول النجار الذي يطالب أن يحترم كل إنسان تخصصه = لا نراه يفعل ذلك مع المتخصصين في علوم القرآن والتفسير، كما أننا لا نستطيع أن نعرف تخصصه الدقيق فمرة نراه يرد على شبه الناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن، ومرة يناقش في علم الحيوان، ومرة في علم النبات، ومرة في السماء وأفلاكها ... إلخ، فهل هو متخصص في كل هذا ؟!
إنني أقول هذا ديانة لله، فقد قرأت كتبه، وعنده أخطاء يجب التنبيه عليها، والبقاء على السكوت لاحترام شيبته، مع موازنة الانتصار لحرمة كتاب الله؛ يجعلني أقدِّم الانتصار لكتاب الله من دعاواه الإعجازية، مع حفظ حقوقه الأدبية من كبر سنِّه، واحترامه في تخصصه الذي كنا نتمنى أن يكتشف لنا فيه مكتشفًا يسبق به الغرب، ويقول: هاأنذا المسلم المكتشِف، بدل أن يتخبط في فهم كتاب الله يمنة ويسره، وهو غير عارف بأصول التفسير ولا بمناهج أهله.
وقد قلت غير مرة:
أيها المسلمون: لن تستطيعوا التغلب على الغرب بهذا الطريقة ( الدعوة بالإعجاز العلمي )، بل التغلب عليه بأن تعملوا على إعداد القوة التي تماثل قوة الغرب، والتي استطاع بها أن يستعبدنا ويستهلكنا، ونكون مستوردين لا مصدرين.
والحضارة اليوم لا تخضع إلا للقوي، وأما العلم فقط؛ فإنها إن لم تستطع سَرِقَته = بإغراء العقول إلى الهجرة إليها ، فإنها تقتل العلماء الذين تخاف منهم، والشواهد المعاصرة أوضح من أن توضَّح.
انظروا ؛كم يموت من المسلمين هذه الأيام، ولم يتحرك الغرب ولا الشرق، وانظروا إذا قُتل جندي غربي ماذا يحصل؟!
أليس هذا دليلا على تغلبهم علينا بقوتهم ، ومسكنتنا بما فينا من الذُّلِّ ، ومن عدم اهتدائنا للطريق الصحيح؟!
وانظروا إلى العالم الإسلامي الذي تحرر من الدكتاتوريات هل هو بحاجة إلى الإعجاز العلمي أو الإعجاز العددي أو غيرها من مسميات لا تكاد تتوقف من أنواع الإعجاز المعاصر المزعومة؟!
أم هو بحاجة إلى من يهديه بهدى القرآن الذي اهتدى به السلف من الصحابة والتابعين الذين طبقوا أوامره واجتنبوا نواهيه وامتثلوا لآدابه؟!
انظروا إلى العالم الغربي يتكتَّل على بعضه ويتقوَّى بعضه ببعض ، ونحن حرام علينا أن نجتمع، بل يدفعوننا إلى الانقسام أكثر وأكثر، فالسودان يكون سودانَين، والعراق مقسم بطريقة لا تُشعر بالتقسيم، والقادم يحمل من خطط التقسيم للعالم الإسلامي ما يحمل.
إني أرى أن التوجه إلى الإعجاز العلمي بهذه الطريقة التي يعيشها بعض من يُعنون بالإعجاز هي دليل ( عجزنا ) العلمي في جميع المجالات، في العلم الشرعي الذي نبت هذا الإعجاز وترعرع بعيدًا عنه، وكان بأيدي من لا يحسنونه، والعلم الدنيوي الذي ترك أصحابه الإبداع فيه ومنافسة الغرب والشرق بالاختراعات، وتطوير بلاد المسلمين في ذلك، ثم اتجهوا إلى ما يظنونه الطريق السليم للتغلب على الغرب والشرق، والله المستعان.
والموضوع ذو شجون، لكن أدعو المسلم إلى أن يتأمل بعين النظر والتحرير إلى معادلة الإعجاز العلمي:
حقيقة علمية لا تقبل الجدل ( كما يقول بعضهم) .
كلام الله المحتمل للتأويل.
أيهما في الجانب الأضعف؟
تأملوا، وانظروا التأويلات المنسوبة للإعجاز العلمي، ولعلكم تصلون إلى أن الذي سيكون الأضعف في هذه المعادلة ( القرآن ) بجرِّه إلى هذه الحقيقة العلمية المزعومة أو تلك.
وارجعوا إلى تفسير الأستاذ الدكتور زغلول النجار لقوله تعالى : ( فلا أقسم بالخنس ...) ، فقد ذكر إعجازًا علميًا آخر لغيره من المسلمين لكنه لم يرتضه، ولم يبين سبب رفضه. ( السماء في القرآن الكريم : 215)
ومن هنا فإنه لا يمكن أن ندَّعي أنه لا يوجد للمسلمين المعاصرين تفسيرًا ثالثًا ورابعًا يعتمد على المكتشفات المعاصرة، فأي هذه التفسيرات هو الأولى؟!
وما الطريقة في الترجيح بينها؟!
ومن الحكم في ذلك؟!
أسئلة وأسئلة تدور، ولا جواب عليها، لكن الجامع بينها أن كل واحد يَجُرُّ مدلول القرآن إلى ذلك المكتشف دون ذاك، ولا قواعد علمية واضحة عند القوم في الاستدلال على صحة الجميع أو الاختيار منها.
وبمناسبة ذكره لتفسير هذه الآيات انظر إلى طريقته في تقرير ما يراه( السماء في القرآن : 214 ) ، فلا هي تتوافق مع اللغة ولا مع منهجية التفسير:
1 ـ فمنها : أنه عدل إلى معنى حادث جديد ( كُنَّس = كنس بمعنى أزال)، ولولا هذا المكتشف المعاصر لما حمل هذه اللفظة على هذا المعنى اللغوي، مما يدلُّ على أن الأصل ( الحقيقة العلمية المزعومة)، ثم يأتي القرآن تبعًا لذلك.
2 ـ ومنها أنه جعل (كُنَّس) جمع كانس، وهذا لا يتوافق مع تصريف اللفظ في اللغة ، بل هو ادعاءٌ عليها؛ إذ لا يقال في كُنَّس : ( كنس يكنس فهو كانس وهو مكنوس، وآلته مِكنسَة، وجمعها مكانس) أو ( كنَّس يكنِّس فهو كنَّاس، وهو مكنِّسٌ ومُكنَّسٌ) ، وإنما يقال : ( كنس يكنس في كناسه، فهو كانس، وهن كُنَّس، والموضع مِكنَس ، وجمعه مكانس) وهذا مدلول آخر، وتصريف مغاير.
قال الأزهري في تهذيب اللغة : (والمِكْنَسة جمعهَا: مكانسُ، ومكانسُ الظِّبَاءِ وَاحِدهَا مَكْنِسُ).
وبيَّن ابن دريد في جمهرة اللغة العلاقة بين المكنسة والكُناسة، فقال : (كَنَسْتُ البيتَ وغيرَه أكنِسه كَنْساً، إِذا كسحتَه. والمِكنسة: المِكسحة. والكُناسة: مَا كُنس. وكِناس الظبي من ذَلِك اشتقاقه لِأَنَّهُ يكنِس الرملَ حَتَّى يصل الى بَرْد الثرى ...).
ولم أجد من ذكر ما ذكره الأستاذ الدكتور زغلول النجار من هذا المعنى، ولا أدري هل تستجيز أصول الإعجاز العلمي عنده الإتيان بمعنى لغوي جديد؟!
3 ـ ومنها أنه جعل ( كُنَّس ) صيغة منتهى الجموع، وهذا ادعاء على اللغة، ولا يصح فيها أن ( فُعَّل ) من صيغ منتهى الجموع.
4 ـ ومنها ظنُّه أن معنى ( الكنس ) عند المفسرين هو معنى الخنس، هذا مع وضوح الفرق بينهما عندهم.
5 ـ وبعد تقريره هذا انتهى إلى أمر متناقض، حيث قال: ( ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أرى الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين ( فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس ) ينطبق انطباقًا تامًّا كاملاً مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السوداء ... وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها في القرآن الكريم الذي نزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة على نبي أمي صلى الله عليه وسلم في أمة غالبيتها الساحقة من الاميين، هي شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو من كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته، وعلى أن سيدنا محمدًا بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم ) كان موصولاً بالوحي، معلما من قبل خالق السموات والأرض، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى). أهـ. ( السماء في القرآن الكريم : 215)
ـ فإذا كانت كل هذه المعاني ( ص: 214 )جائزة ( ص: 215)، فما قيمتها مع جزمك بانطباق الآيتين انطباقًا كاملاً على الثقوب السوداء؟!
إن النتيجة التي تلزم على رأيك : أن الصحيح الصواب الذي لا محيد عنه أنها في الثقوب السوداء، وليس فيما فهمه غيرك من المتقدمين والمعاصرين.
ومن أين لك هذا اليقين في قولك : (ينطبق انطباقًا تامًّا كاملاً مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السوداء)، وبأن هذا هو المراد، وأن ما عداه يجوز فحسب؟!
ونتيجة ذلك أن الأمة قد ضلَّت عن الفهم الصحيح للمعنى الذي ينطبق انطباقًا كاملاً على الآيتين، ولم يفهمه إلا أنت وبعض المعاصرين الذين يرون رأيك.
ويلزم من ذلك أن تلك الثقوب السوداء لو لم تُكتشف بعد لبقيت الأمة لم تفهم المعنى الذي ينطبق انطباقًا تامًّا على الآيتين، وأنهم لا يزالون في ظنون من فهم كلام ربِّهم.
وأخيرًا: حينما أقرأ كتاب ( الجواهر في تفسير القرآن ) لطنطاوي جوهري ، وما يكتبه الأستاذ الدكتور زغلول النجار لا أرى فرقًا إلا في التسمية، فذاك يسمونه ( التفسير العلمي) ، وهذا يسمونه ( الإعجاز العلمي)، مع أن طريقتهما متقاربة، وهذا التفريق تحكُّمٌ في المصطلح، والتحكُّم لا يعجز عنه أحد؛ كما يقول إمام المفسرين الطبري.
هذا ، والله الهادي إلى سواء السبيل.