هذا ما ننازع فيه أخي الكريم، فنحن نزعم أن القرآن لم ينزل ليبين لنا بعد قرون متطاولة أسرار العلوم التجريبية
قال تعالى : (
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) وقال سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89)
وقال جل جلاله: (
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43)
والذي أراه أن هذه البحوث الكثيرة في التفسير العلمي والإعجاز العلمي تغفل أمراً مهماً، هو فقه اللغة، ولو تظرنا إلى ما يزعمونه إعجازاً علمياً وعرضناه على شيء من فقه اللغة كما هي عند علماء أصول الفقه أدركنا مكمن المغالطة التي يقع فيها أرباب الإعجاز العلمي، والتي يكفي فيها أن نقول: إن فهمنا للقرآن يجب أن يكون على معهود العرب الأولين في كلامهم وتصرفهم فيه،
صحيح أن الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا فقال سبحانه وتعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78) لكن الله سبحانه وتعالى وهبنا السمع والأبصار والأفئدة لنرتقي بها ونعلم مراده ، وندرك آياته في خلقه ، وأوجب علينا أن نعمل العقل ونتفكر لا أن نبقى على حالنا حين خروجنا من بطون أمهاتنا ، قال سبحانه وتعالى :
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164)
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190)
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)
وأمرنا سبحانه وتعالى بأن لا نمر على آياته ونحن معرضون ، قال سبحانه :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف:105)
ولذلك نلتمس العذر للعلماء إذا ما فهموا هذا من لفظ الآية، لأنها ظاهرة فيه... والحديث يا أستاذ حسن لم يكن على الإعجاز العلمي أو غيره، وإنما هو من باب التماس العذر للشيخ ابن عثيمين أو القرطبي رحمهما الله، فإن ما يفهم من ظاهر الآية أن الشمس هي التي تتحرك، ونحن إنما صرفنا الآية عن ظاهرها لمعارضة ما ظهر لأدلة العقل
أخي الحبيب أنا لا أتهم أحدا من العلماء ، لكنني أستغرب كل الاستغراب ممن ينتسب إلى العلم الشرعي ويمثل الدين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107) ، ثم يأتي باجتهاده الخاطئ ليستبيح دم من يقول بأن الأرض تدور حول الشمس ، وهو يعلم بأن المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه .
هذا إن كان اجتهاده لمجرد الاجتهاد ، أما إن كان اجتهاده ليبرر أمرا عقديا يريد أن يبنيه ويصوّره للناس ، ويأخذ عليهم بالسيف أن يتبعوا مقالته فالأمر مختلف.
أما وقد ثبت لدينا بأدلة العقل أن الأرض هي التي تدور حول محورنا، فإننا نحمل كلام الله الوارد في الآية على حركة الشمس الظاهرية، وليس يلزم من هذا أن تكون متحركة على الحقيقة..
هذا أمر خطير لأن كلام الله سبحانه وتعالى هو الحق والفيصل وهو الحجّة الدامغة، أما ما يراه البعض اختلافا فهو من سؤ فهم النص القرآني ، ولا ينبغي أن نقول إنه لثبوت أدلّة العقل نحمل كلام الله ...
بل نقول إن كلام الله حق ، وفي آيات الوجود دلالة وشهود على مصداقية القرآن الكريم .
ولذلك عجبتُ من قولك أخي الكريم إنك لم تفهم منها إلا معنى واحداً هو دوران الأرض حول محورها فيتعاقب الليل والنهار! وكان سؤالي لك:
أين تجد هذا في الآية؟.
أخي الحبيب لا يخفى عليك أن تفسير القرآن الكريم لا يؤخذ منفصلا ، بل لا بد من تتبع الأمر الذي نبغ أن نفسّره في آيات الكتاب الكريم ، لذلك حين فهمت من الآية الكريمة هذا الفهم ، لم يكن فهمي لها بمعزل عن فهمي لباقي آيات الكتاب الكريم التي تتحدث في هذا الجانب .
1. إسناد الطلوع والغروب إلى الشمس في الآية يفيده ظاهره أن الشمس هي التي تتحرك.
2. تعاقب الليل والنهار يمكن أن يحصل إما بدوران الأرض حول محورها، وإما بدوران الشمس حول الأرض. (هذا نظرياً).
3. الترجيح بأن تعاقب الليل والنهار سببه دوران الأرض حول محورها، وليس دوران الشمس حول الأرض لا يمكن أن يفهم من الآية، ومن ادعى أنه مفهوم من الآية فقد حمل الآية ما لا تحتمل.
4. نحن عرفنا أن تعاقب الليل والنهار بسبب دوران الأرض حول محورها، لا بسبب دوران الشمس حول الأرض بأدلة العقل، وليس من الآية.
.
أولا: هذا الآية تدل صراحة على ما يراه المخاطب فقال سبحانه : (وَتَرَى الشَّمْسَ)
ثانيا: النقطة الثانية لا تقوم على أساس علمي صحيح إذ لو دارت الشمس حول الأرض لاستغرقها هذا الدوران سنة كاملة أي لكان اليوم والليلة يعادلان 365يوما . فهذا إحتمال لا يُسَلّم لك .
ثالثا: الترجيح لا يؤخذ من آية دون فهم باقي آيات الكتاب الكريم .
رابعا: لا يمكن أن يحدث خلاف بين القرآن الكريم والعقل السليم ، فإن ظهر لأحد خلاف فهو لسقم استدلاله العقلي وليس مرجعه للقرآن الكريم الذي : (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42)
بل نفهم منها ما فهم العرب الأولون من أن الذباب لو سلبهم شيئاً مما يعلق به لم يستطيعوا أن يستنقذوه منه، وهذا من باب ضرب المثل حتى يكون أقرب لأفهام العرب الأولين، ولا يعنينا بعد ذلك إن كان للذباب معدة أم لا...
للعلماء المحدثين أن يكتشفوا ما استطاعوا من أسرار الذباب والعنكبوت والبعوض والنحل وغيرها...
أما أن يقولوا إن الآيات دالة على هذه الحقائق فهذا ما لا نزال نطالبهم به...
هذا يا أخي تكلف في تحميل الآية ما لا تحتمل
..
وهل فهمنا مخالف للفهم الأول ، أم نبقى كما خرجنا من بطون أمهاتنا ؟
ولي أن أقول - على سبيل المعارضة- إن في قول الشاعر:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير
أشارة إلى دور الأصوات في إرهاب الخصم، وأن الصوت العالي مما يدخل الرعب في قلب الخصوم، ثم ندخل في دراسة لعلوم الصوتيات، ونزعم أن كل ما توصل إليه العلم الحديث في باب الصوتيات مختصر في هذا البيت من الشعر، ثم نبين مقدار مستوى صوت الطنين في أجنحة الذباب (DECIBEL)، ونبين أنه خافت جداً بحيث لا يكاد يسمع فكيف يخيف؟
هذه الحقائق – طبعاً – لم تكن معروفة للناس عندما سمعوا البيت... فيكون هذا إعجازاً علمياً !!! .
.
أنت فهمت قول الشاعر على غير مراده ، فهو يشير إلى أن صوت أجنحة الذباب لا يضير ، لكن ما تتحدث به بأن الصوت له أثر في فزع الناس وإلقاء الرعب في قلوبهم فهو موجود في القرآن الكريم أيضا :
قال تعالى : ( وَيَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل:87) ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) (البقرة:19) وهذا أمر لا يخفى على الطفل الصغير ، وليس فيه من السبق العلمي أيّ شيء ، لذلك نجد الجيوش يصنّعون القنابل الصوتية ، ويستخدمونها لتفريق الحشود... لما لها من أثر كبير في إيقاع الرعب في الأنفس ....
ولا أعرف كيف تحمّل هذا النص الشعري ليحوي أوجه إعجاز علمي ؟؟ فما هو مفهوم الإعجاز ؟؟ وما هي أركانه وشروطه ؟؟؟
. ولعل في قول عنترة العبسي:
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... هزجاً كفعل الشارب المترنم
هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم
إشارة إلى ارتباط حك الذباب ذراعه بذراعه بحالة من الهزح عند الذباب، ولا مانع من إجراء دراسة لإثبات صدق هذا، وأصدقك إذ أقول إن هذا ليس بالأمر العسير...
وهكذا نتوسع في فهم الكلام كما يحلو لنا ونحمله ما لا يحتمل...
فانظر ماذا جنينا على اللغة وعلى البلاغة إذا ما قبلنا بتوهمات كهذه في كتاب الله.
.
هذا ما أراك تجنيه أنت بأسلوبك الذي يخرج البلاغة القرآنية عن أصولها ، وتحمّل المسائل فوق طاقاتها الكثير الكثير ، فما الذي ترمي إليه بحك الذباب في جسد هذه الفتاة ؟؟؟ وإلى أين سيوصلنا هذا الفهم ؟؟؟ وماهو هذا الأمر العظيم في هذه المسألة؟؟
هل من وجه للمقارنة بين فهمك وفهم النص القرآني ؟؟ قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26)
أفليس من الأولى إذن تنزيه القرآن عن مثل هذه التوهمات والتحكمات؟؟؟!!!
.
أولا القرآن الكريم منزّه ولا يحتاج منا إلى تنزيه ، والذي نقوله : أليس من الأولى أن ننزه عقولنا عن التحجّر والانطواء على أمور أكل الدهر عليها وشرب ، ونتفكر في خلق السموات والأرض ، ونتبع ديننا حق اتباعه؟؟؟؟
وأنا على يقين أنه من أعجز الإعجاز تفسير المُفَسَّر ؛ فكيف لأحد أن يفسّر الماء لمن ينكره ، سيفسر الماء بعد جهد بالماء ؟؟؟؟ ليس لعجزه عن التفسير ، بل لأن من أنكر معرفة الماء الظاهر لن يتّبع أيّة حجّة في بيانه .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين