الفتاوى اللغوية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن علي الحربي.

ضيف الله الشمراني

ملتقى القراءات والتجويد
إنضم
30/11/2007
المشاركات
1,508
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه زاوية أضع فيها تباعاً ـ إن شاء الله ـ الفتاوى اللغوية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن علي الحربي ـ حفظه الله ـ، وهي أجوبة الشيخ على أسئلة القراء في ملحق الرسالة التابع لجريدة المدينة المنورة.
وقد كانت الزاوية أولاً بعنوان: "لحن القول" وصدرتْ بعد في كتابٍ مطبوع، ثم أصبحت خواطر، ثم رأى الشيخ أن تكون فتاوى لغوية؛ نظراً لكثرة الأسئلة الواردة إليه فيما يتعلق بذلك.
ومَنْ كان له تعقيبٌ على ما يُذكَر هنا، فليفدنا به مشكوراً.
والله الموفق.
 
السائل (أبو أحمد الزهرانيّ) يسأل عن راء المبرِّد، أهي مفتوحة أم مكسورة؟
الفتوى 1: أبو العباس، محمد بن يزيد المبرّد الأزديّ، صاحب الكامل والمقتضب. قيل له: المبرَّد (بفتح الرّاء) لحُسن وجهه، يقال: رجلٌ مبرَّدٌ، ومقسم الوجه. ومن قال: المبرِّد (بالكسر)، قال: معناه: المثبّت للحقّ، لقَّبه به شيخه المازنيّ.
وقد لقيت هذه الرّاء حظًّا كبيرًا من الخلاف والجدل، كما فصّل ذلك الشيخ عبدالخالق عضيمة في تحقيقه لكتاب “المقتضب”، حتى قال أحد علماء شنقيط:
والكسر في راء المبرِّد واجبٌ
وبغير هذا ينطق الجُهلاءُ
ولا أنصحكُ بتضييع الوقت في تحقيق ذلك، فليس في هذا وأمثاله كبير فائدة، ويكفي أن تعلم ورود الوجهين، كما رُوي الوجهان في (المسيّب)، والد كبير التّابعين سعيد بن المسيّب، ونظيره في القراءات: (فمستقرٌ ومستودعٌ) بفتح القاف وكسرها، وفي السنَّة الميمُ في قوله صلى الله عليه وسلم: “فقمنٌ أن يستجاب لكم”، وفي أسماء الأنبياء سين (يوسف)، ونون (يونس) مع الضمّ، وفي الصحابة دال (دحية الكلبي)، وفي الملائكة جيم (جبريل)، وفي الشياطين خاء (خنزب)، وهو شيطان الصلاة، وفي ألفاظ الآخرة قوله عليه الصلاة والسلام عن جسر جهنّم: “دَِحضٌ مزلة” بفتح الدّال وكسرها، وفي ألفاظ البرزخ (جنازة)، وفي الأزمنة قاف (ذي القعدة)، وحاء (ذي الحجّة)، وفي الأمكنة (البصرة)، وفي ذوات الأربع (اللّقحة)، وفي الطّير دال (دجاجة)، وفي الجماد فاء (ذو الفقار)، وتاء (الخاتم)، وفي الأفعال سين (عَسَِيت)، وفي الأموال صاد (الصّداق)، وفي الآنية طاء (الطست)، وفي الأعضاء حاء (الحقو)، وفي أبواب الفقه جيم (الجعالة)، وفي الأنساب (الكشي) بفتح الكاف مع الشِّين، وبكسرها مع السِّين، وفي أسماء العلوم طاء (الطّب)، وفي أوصاف العلماء حاء (الحبر).
وأمّا ما روي عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: (سيّب اللهُ من سيَّب أبي)؛ فهي إن صحّت عنه، دعوة لا يُستجاب لها، ولا ذنب على من نطق بما ثبت له، وهي -أي الدّعوة المذكورة- تحتمل الدّعاء له والدّعاء عليه، ولا يُظنّ بصالحي المؤمنين إلاّ خيرًا.
 
جزيت خيراً، فكرة طيبة، وزاوية هادفة إن شاء الله، وأسأله جل وعلا أن يرزقك حسن الاستمرار عليها. وتوقع منا مشاركات تثري الموضوعات المطروقة بحول الله تعالى، لاسيما وقد عنيت هذه الزاوية بهذه اللغة الشريفة والدوحة المنيفة زادها الله تشريفاً وتكريماً.
 
الشيء بالشيء يذكر، هذه ترجمة موجزة عن المبرد رحمه الله.

الشيء بالشيء يذكر، هذه ترجمة موجزة عن المبرد رحمه الله.

أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمبرد ينتهي نسبه بثمالة، وهو عوف بن أسلم من الأزد.(ولد 10 ذي الحجة 210 هـ-286 هـ/825 م) هو أحد العلماء الجهابذة في علوم البلاغة والنحو والنقد، عاش في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
كان المبرِّد واحدًا من العلماء الذين تشعبت معارفهم، وتنوعت ثقافاتهم لتشمل العديد من العلوم والفنون، وإن غلبت عليه العلوم البلاغية والنقدية والنحوية، فإن ذلك ربما كان يرجع إلى غيرته الشديدة على قوميته العربية ولغتها وآدابها في عصر انفتحت فيه الحضارة العربية على كل العلوم والثقافات، وظهرت فيه ألوان من العلوم والفنون لم تألفها العرب من قبل.
ولد المبرد بالبصرة، تلقى العلم في البصرة على يد عدد كبير من أعلام عصره في اللغة والأدب والنحو منهم: أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي، وكان فقيها عالما بالنحو واللغة، وأبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني الذي وصفه "المبرد" بأنه كان «أعلم الناس بالنحو بعد سيبويه»، كما تردد على الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر، وسمع منه وروى عنه حتى عد من شيوخه، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني، وكان من كبار علماء عصره في اللغة والشعر والنحو، كما تلقى عن التوزي -أبي محمد عبد الله بن محمد-، وكان من أعلم الناس بالشعر.
بالرغم من مكانة المبرد الأدبية والعلمية، وغزارة علمه واتساع معارفه، فإنه لم يصلنا من آثاره ومؤلفاته إلا عدد قليل منها:
1- الكامل: وهو من الكتب الرائدة في فن الأدب وقد طُبع مرات عديدة، من أنفسها طبعة بتحقيق أستاذ المحققين عبد السلام هارون، وشرحه "سيد بن علي المرصفي" في ثمانية أجزاء كبيرة بعنوان "رغبة الآمل في شرح الكامل".
2- الفاضل: وهو كتاب مختصر يقوم على أسلوب الاختيارات، ويعتمد على الطرائف وحسن الاختيار.
3- المقتضب: ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، ويتناول كل موضوعات النحو والصرف بأسلوب واضح مدعَّم بالشواهد والأمثلة.
4- شرح لامية العرب.
5- ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد.
6- المذكر والمؤنث.
وأشهر هذه الكتب وأهمها هو كتاب الكامل، وهو أحد أركان كتب اللغة العربية الأربعة كما قال ابن خلدون في مقدمته: (( عند الكلام على علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة كتب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيُّن للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها )).
إضافة: من الخطأ الشائع في تسمية هذا الكتاب البيان والتبيين، والصواب: التبيُّن، فهكذا سماه مؤلفه، وقد نبه على ذلك الأستاذ عبد السلام هارون، لأنه بنى كتابه على منهجين، البيان والتبيُّن الذي بمعنى النظرة النقدية، وإلا فالبيان والتبيين -كما هي التسمية الشائعة- بمعنى واحد لأنك تقول: بيَّنت الأمر تبييناً وبياناً والأول مصدر، والأخير اسم مصدر. فليتفطن لذلك. والله أعلم.
 
السائلان (أبو الوفاء -الرياض-، وآخر لم يذكر اسمه) قال أحدهما -وهو أبو الوفاء-: سعدتُ جدًّا بتغيير عنوان زاويتكم إلى (فتاوى لغوية)، أتمنّى من فضيلتكم توضيح معنى الفتوى، وأنها لا تقتصر على الفتوى الشرعية. وقال الآخر: هل يقال: الفُتيا، أو الفَتوى؟
الفتوى 2: يقال في اللّغة: فَتْوى وفُتْيا، إذا فتحتَ الفاء جئتَ بالواو، وإذا جئتَ بالياء ضممتَ الفاء، وحكى في (القاموس) الضمّ في (الفُتوى)، واعترض عليه، وناصره الزّبيديّ في (التاج)، والجمع: فتاوِي، ويجوزُ الفتحُ، وهو أخفّ وأشهر. وقد وردت الفتوى بمشتقاتها في الحديث في عشرات المواضع، لا سيما على لسان الصحابة في تحديثهم. ومن كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ)، وفي (مسند البزار): (فأفتوا بالرأي)، والأول هو الصحيح، وهو في الصحيح. ومعناها في معاجم اللّغة: بيان الحكم أو الجواب عن المشكل، كما أشار إلى ذلك الرّاغب، وأمّا ابن فارس؛ فقد خيّب ظنّي، ولم أجد له تأصيلاً يفرحُ به، ولطالما أفَرَحَ، وأحسب أنّ اشتقاقها من الفُتوّة، والفتى هو القويّ النشيط، والفتوى لا يقوى عليها كل أحد. والمتأمّل في مواضع ورودها في الكتاب العزيز، يتجَلَّى له أمورٌ:
منها: إطلاقها على المشكل من الأحكام، كقول الله سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ)، وعلى المحيّر من الرأي في سياق المشورة، كقول ملكة سبأ: (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)، وعلى ما يسأل عنه في الرُّؤى والأحلام، كقول الله سبحانه مخبرًا عن ملك مصر: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ).
ومنها: إطلاق الاستفتاء على مطلق السؤال، ولو كان تهكميًّا في دعوى باطلة، كقول الله سبحانه: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون).
ومنها: أن الإفتاء يسند إلى الله، إذ أسندها سبحانه إلى نفسه، وأخبر أنه يفتي من استفتى رسوله في النساء والكلالة، وذلك في موضعين من كتابه، كلاهما في سورة النساء، أحدهما تقدم ذكره، والآخر: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ).
وأمّا إطلاق الفتاوى على غير أحكام الفقه؛ فهو معروفٌ، وإن كانت الغلبة على إطلاقها على مسائل أحكام الفقه، ولابن حجر الهيتمي (فتاوى حديثية)، وللسيوطي (الفتاوى النحويّة) .. قضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان.

 
بسم1
ماشاء الله أحسنت أحسن الله إليك
شكرا لحضرتك على الإفادة أفادكم الله وزادك علما نافعا وعملا صالحا
 
السائل (سعد الحارثي) يقول: بارك الله فيك شيخنا، ونفع بك الأمّة، نسمع في أخبار الإذاعة قولهم: بَلْوَرَةُ المواقف.. فما أصل (بَلْوَرة)؟ ونسمع قولهم أيضًا: تخوم المناطق الجَنوبيَّة.. فما أصل (تخوم)؟ وما معنى كلمة (سَرعان) في قولهم: سرعان ما ذهبوا عنه؟
الفتوى 3 : بارك الله فيك -يا سَعْدُ-، ونفع بك.. أمّا كلمة (سرعان) فلفظة صحيحة، واستعمالها في نحو: سرعان ما ذهبوا إليه صحيحٌ أيضًا، ويجوز في سينها الفتح والكسر والضمّ، وفي ذلك تخفيفٌ على أمّة العرب، ومَن يتكلم بلغتها، وهي لدى النحويين اسم فعلٍ بمعنى (سَرُعَ)، كهيهات بمعنى (بَعُدَ)، ولها معنيان، التعجبُ من السرعة، والإخبارُ بها إخبارًا محضًا؛ لأنّ التعجب يتضمن الإخبار أيضًا، لكنه غير محضٍ. ويشبهها كلمة (وَشْكَان) في معناها واستعمالها.
وأمّا (البَلْوَرَةُ)؛ فهي تجلية الشيء ليكون واضحًا، مأخوذة من (البلَّور) على وزن: تنُّور، وسِنَّور، وقِمَطْر، ويُسمّى به نوعٌ من الحجارة شفاف، ونوعٌ من الزّجاج.
و(البَلْوَرة) من الاشتقاق المحدث، ومن التَّوليد المقبول الذي لا يضيقُ به صدر العربيّة، وأقرَّه مجمع اللغة القاهري في ألفاظ مشابهة، نحو: تَلْفَنَ، وبَسْتَر، وكَهْرَب، وفَبْرَك، ونظيرها في المسموع: هوَّدَه ونصَّره، ونحوه: تَسَعوَد وتَمصَّر وتأمْرَك، وكلها معلومة الأصل عدا (فَبرَك)؛ فهي من آلة تسمَّى (الفابريكة). ويقال: فلانٌ تألبَن؛ أخذًا من (الألبانيّ).
وأمّا اللّفظة الثالثة الأخرى (تخوم)؛ فلا نزاع في عربيتها، ولكنهم تنازعوا في لفظها وصيغتها، فمن قائل: إنها من الألفاظ التي استعملت للمفرد والجمع بصيغة واحدة، ومن قائل: المفرد تخوم كزَبُور، والجمع تُخُوم، بالضمّ، ومن قائل: المفرد: تُخوم، بالضمّ، والجمع: تُخُم. ومن قائل: المفرد: تَخْم، والجمع: تُخُوم، كفَلْسٍ وفُلُوس، وهو الأظهر عندي. والحاصل: أنّ قولهم: تُخومُ الجنوب من طيّب القول وعريقه.
 
وأمّا (البَلْوَرَةُ)؛ فهي تجلية الشيء ليكون واضحًا [ لو فسرت ب تَشَكُّل المواقف وأخذها الصورة النهائية وما آل إليه الأمر ، كما في سؤال السائل ، ألا يكون أوضح مما فسّر به الدكتور الفاضل ]، مأخوذة من (البلَّور) على وزن: تنُّور، وسِنَّور، وقِمَطْر، ويُسمّى به نوعٌ من الحجارة شفاف، ونوعٌ من الزّجاج.
وجزيتم خيرا .


 
وما معنى كلمة (سَرعان) في قولهم: سرعان ما ذهبوا عنه؟
الفتوى 3 : بارك الله فيك -يا سَعْدُ-، ونفع بك.. أمّا كلمة (سرعان) فلفظة صحيحة، واستعمالها في نحو: سرعان ما ذهبوا إليه صحيحٌ أيضًا، ويجوز في سينها الفتح والكسر والضمّ، وفي ذلك تخفيفٌ على أمّة العرب، ومَن يتكلم بلغتها...
هل من علاقة بين هذا وبين الوارد في الحديث : ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ ...
وفي آخر : وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ ...
وآخر : وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النَّاسِ ... ؟
 
السائل (خليل أحمد) يقول: قرأتُ في تنويه لأحد الباحثين يقول فيه: لا يجوز جمع (نادٍ) على نوادٍ؛ لأنه لم يُسمع؟
الفتوى 4: لغة العرب واسعة سَعَة الدنيا، والقياس فيها ركن من أركانها الكبرى، وسماع كل ما نطقت به العرب، ونقله كلّه متعذِّر، والقياس فيما سألتَ عنه، وفي باب الجمع خاصّة كالسماع أو أقوى منه.
ومن ذلك: ما ورد على وزن (فاعل) لما كان لمذكر غير عاقل ذاتًا أو وصفًا، نحو: كاهل وكواهل، وحاجب وحواجب، وشارع وشوارع، وطابق وطوابق. وكذلك إذا كان وصفًا لمؤنث كحائض وحوائض، وحامل وحوامل.
وجمع فاعل على فواعل بالقيود المذكورة لا شذوذ فيه لدى اللّغويين، ولم يستثنوا من ذلك إلاّ لفظًا واحدًا، وهو (وادٍ)؛ لأن أوّله واو، فكُرِه جمعه على (وَوَادٍ).
وأحيلك في هذا إلى شروح ألفية ابن مالك، عند قوله في باب (جمع التكسير):
فواعِلٌ لفَوعَلٍ وفاعَل وفاعلاء مع نحو كاهل
نعم، لم يُسمع عن العرب في جمع (نادٍ) إلاّ أندية، ولكنه غير كافٍ في المنع، فإمّا أن يكون ممّا تكلمت به العرب ولم ينقل، أو يكون ممّا يجوز لمن بعدهم منهم أن يسلك طريقتهم وقياسهم الصحيح.
لكن الشّاذ في هذا هو جمعهم (الندى) بمعنى المطر على (أندية)، والقياس جمعه على (أنداء)، كبطل وأبطال.
والحاصل: أنّه يجوز لك أن تقول في جمع (نادٍ): أندية، ونوادٍ. وإثبات الياء في التنكير جائزٌ، كما أن حذف الياء في المعرّف جائز، كلاهما ثبتت به القراءة الصحيحة.
 
وما معنى كلمة (سَرعان) في قولهم: سرعان ما ذهبوا عنه؟
الفتوى 3 : بارك الله فيك -يا سَعْدُ-، ونفع بك.. أمّا كلمة (سرعان) فلفظة صحيحة، واستعمالها في نحو: سرعان ما ذهبوا إليه صحيحٌ أيضًا، ويجوز في سينها الفتح والكسر والضمّ، وفي ذلك تخفيفٌ على أمّة العرب، ومَن يتكلم بلغتها...
هل من علاقة بين هذا وبين الوارد في الحديث : ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ ...
وفي آخر : وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ ...
وآخر : وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النَّاسِ ... ؟
هناك فرقٌ بين الكلمتين.
* فما تحدّث عنه الشيخ هو (اسم فعل ماض), لفظه: (سرعانَ), بالبناء على الفتح, وما بعده يكون فاعلا له, ومثل العرب مشهور جدًّا في ذلك, وهو: (سَُِرعانَ ذا إهالة), وفي سينها جواز الوجوه الثلاثة, فتعامله -معنويًّا- معاملة الفعل.
- ومثاله: (سرعانَ ما جئتك, دأب المؤمن سرعانَ الإجابةُ لداعي الله).
* وما ذكرته مما ورد في الحديث هو من (وصفٍ) يدخل ضمن أبنية الاسم الثلاثي (المزيد فيها حرفان), بفتح فائه وعينه: (فَعَلان), وهو لازمٌ هذا الضبط على هذا الوجه, وآتٍ معربًا, بادي العلامة على آخره, فيكون مرفوعًا علامته الضمّةُ, ومنصوبًا علامته الفتحة, ومجرورا علامته الجرّةُ.
مثاله: (أقبل سَرَعَانُ الناس), و(رأيت سَرَعَانَ الناس), و(مررت بسَرَعَانِ الناس). و(سرعان الناس): أي أوائلهم.
- و(فَعَلان): يأتي منه الاسم, كـ(كروان, ورشان, دوَران, هيَجان... إلخ), والوصفُ, كـ(سَرَعان, قَطَوان, زَفَيان... إلخ).
 
السائل (خليل أحمد) يقول: قرأتُ في تنويه لأحد الباحثين يقول فيه: لا يجوز جمع (نادٍ) على نوادٍ؛ لأنه لم يُسمع؟
الفتوى 4: لغة العرب واسعة سَعَة الدنيا، والقياس فيها ركن من أركانها الكبرى، وسماع كل ما نطقت به العرب، ونقله كلّه متعذِّر، والقياس فيما سألتَ عنه، وفي باب الجمع خاصّة كالسماع أو أقوى منه.
ومن ذلك: ما ورد على وزن (فاعل) لما كان لمذكر غير عاقل ذاتًا أو وصفًا، نحو: كاهل وكواهل، وحاجب وحواجب، وشارع وشوارع، وطابق وطوابق. وكذلك إذا كان وصفًا لمؤنث كحائض وحوائض، وحامل وحوامل.
وجمع فاعل على فواعل بالقيود المذكورة لا شذوذ فيه لدى اللّغويين، ولم يستثنوا من ذلك إلاّ لفظًا واحدًا، وهو (وادٍ)؛ لأن أوّله واو، فكُرِه جمعه على (وَوَادٍ).
وأحيلك في هذا إلى شروح ألفية ابن مالك، عند قوله في باب (جمع التكسير):
فواعِلٌ لفَوعَلٍ وفاعَل وفاعلاء مع نحو كاهل
نعم، لم يُسمع عن العرب في جمع (نادٍ) إلاّ أندية، ولكنه غير كافٍ في المنع، فإمّا أن يكون ممّا تكلمت به العرب ولم ينقل، أو يكون ممّا يجوز لمن بعدهم منهم أن يسلك طريقتهم وقياسهم الصحيح.
لكن الشّاذ في هذا هو جمعهم (الندى) بمعنى المطر على (أندية)، والقياس جمعه على (أنداء)، كبطل وأبطال.
والحاصل: أنّه يجوز لك أن تقول في جمع (نادٍ): أندية، ونوادٍ. وإثبات الياء في التنكير جائزٌ، كما أن حذف الياء في المعرّف جائز، كلاهما ثبتت به القراءة الصحيحة.
لي بُحَيثٌ صغير في بيان وجه الشذوذ, وتعقبّات العلماء عليه, وهو شِبْه نقض لما ذكره الشيخ الحربي أيّده الله, وعسى أن أنشط للبحث عنه في دهاليز حاسوبي, وبإذن الله سأضعه قريبًا.
 
السائلة (م. ع): لماذا أنّثت العربُ الشمسَ، وذكّرت القمرَ؟ وذكّرت القلبَ، وأنّثت الرأسَ؟
الفتوى «5»: هذا السؤال ونحوه من الأسئلة النافعة، التي أحبّ أن تكون أسئلة السائلين من مشكاتها، لأنها تضيء جانبًا من جوانب اللّغة، وتكشف بعض مكنونها، وتخلع على الباحث من أسرارها سابغاتٍ من فقه اللّغة، والسؤال عن الشمس والقمر مرّ بناظري في بعض كتب المتقدمين، أظنّه كتاب (الهوامل والشوامل) لأبي حيّان التوحيدي، والمسؤول هو مِسْكَويْه، والذي بقي في ذهني من جوابه: أنّ الشمس كانت معبودة، ومن أسمائها لديهم «أُلاهة»، والجواب غير مقنع؛ لأنّ عبادتها بعد تسميتها بالشمس، وأتلمس لتعليل ذلك جوابًا آخر، وهو: أنّ اسم (قمر) على وزن «فَعَل»، وعلى هذا غالب الأسماء المذكورة، أسماء الذوات، وأسماء المعاني، كجَبَل، وحَمَل، وقَلَم، وصَفَر، ووَلَد، وخَبَر، ويظهر لي من عادة العرب إطلاقُ مثل هذه الأسماء بهذا الوزن على ما يقبل الكِبَر والزيادة، تارة يطلقونه على آخر مراحله كـ «قمر»، وتارة على إحدى مراحله كـ (وَلَد، وحَمَل)، وكذلك أسماء المعاني، كـ «خَبَر، ونَبَأ، ومَلَك»؛ إذ هو آخر درجات النّورانية.
وأمّا الشمس فعلى وزن (فَعْل)، فتطلق موزوناته على المذكر والمؤنث، فمن المؤنث (نَفْس، وشَمْس)، والنفس واحدة، والشمس واحدة، ثم إنّ الشمس آية النهار، ولا تظهر في الليل، وذلك من شأن الأنثى، والقمرُ آية الليل، والرّجلُ ليليٌّ. وقد يقال: إنّ من عادة العرب تأنيث ما كثرت منافعه، وتفرّد، كالأرض، والنّار، والشمس، والسماء.
وأمّا القلب فهو ملك الأعضاء، والملوك رجال، و(ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة)، ولا أتذكر الآن اسمًا ثلاثيًّا ساكن الوسط، ثالثه باء إلاّ وهو مذكر، إلاّ ما كان أصله المصدر كـ(الحَرْب)، وأمّا (الرأس) فمذكرٌ.
 
السائلة (أم دعاء - المدينة) قالت: أسأل عن كلمتي (العَصْلَجة، واللّحْلَحَة)، وهما من الألفاظ الشائعة لدينا في الحجاز: يقال الشيء تَعَصْلَج، ويا فلانُ تَلَحْلَحْ؟
الفتوى 6 : في اللّغة العربية ألفاظ يدلّ لفظها على معناها، وهذه الدلالة يدركها العربيّ بذوقه؛ لأن نظائرها بحروفها المشبهة تضع له ميزانًا يقيس به الأصوات، وإيقاعها ثم معناها، ومن ذلك هاتان اللّفظتان، لا سيما (عَصْلَج) التي عدّها المجمعيّون في القاهرة من المحدثات، وهي الألفاظ التي لم تنقل عن العرب في عصر الاستشهاد ومن بعدهم إلى العصر الحديث.
ويظهر لي أنّ الألفاظ المحدثة نوعان، أحدهما: ما لا أصل له في مادته بترتيب حروفها، فهذا محلّ بحث ونظر وتفصيل، لا يكفي هذا الحيز لذكره وبيانه. والثاني: ما لم يستعمل في الإطلاق الحديث، ولكن مادته استعملت في معنى آخر بنسق حروفه على وزن آخر، ومن هذا (العَصَلَّج)، وهو: الرجل المعوجّ الساق، كما في (تاج العروس). فانظر -الآن- إلى استعمال المحدثين للعَصْلَجة بمعناها الذي هو التعسّر، وستجد روعة الاشتقاق في هذا الإطلاق، ولا تحتاج إلى ذكر الجامع بينهما، إذا لوحظ أن مُعوجَّ الساق متعسِّر المشية.
وكثيرًا ما تكون هذه الألفاظ (عَصْلَج) ونحوها من الأفعال الملحقة بالفعل الرّباعي مازجة بين فعلين مزجًا يشبه النّحت، كما قيل في (بَعثَر)، أصلها: بَعثَ وعَثَر. و(عثر) من العثير، وهو الغبار. وكذلك هنا يمكن أن يقال: أصل (عَصْلَج) عصى ولَجَّ. ومن اللغويين من يقول: لا يكاد يجتمع الصاد والجيم في كلمة واحدة في لغة العرب.
وأمّا (اللّحْلَحَة) فالمعاجم تقول فيها: خبزة لَحْلَحة، أي: يابسة. ومكان لَحْلَح، أي: ضيّق. ويقال: رجلٌ مُلَحْلَح، أي: سيّد. وهذا هو مربط الفرس الذي نمسك به، ونقول: استعمال الحجازيّين اليوم (التّلحْلُح، واللّحْلحة) فعلاً ومصدرًا استعمالٌ منطلقٌ من هذا المعنى، فإنها تستعمل في مقام الإيقاظ، وتحريك الهمّة، والتنبيه إلى معالي الأمور، وتلك هي السيادة، أيُّها السّادة
.
 
أحسن الله إليكم، لقد انتفعتُ بهذه الزاوية، فواصلوا بارك الله فيكم.
 
ما شاء الله فكرة رائعة نرجوا المزيد من تلك النتف الروائع ونسأل الله لكم التوفيق وحسن النية والأجر
 
السائل (عبدالعزيز شلبي): ماذا أطلق على أبناء ولدي وأبناء ابنتي.. أحفادي أو أسباطي أو حفدتي؟ وهل هناك فرق بين أبناء الولد وأبناء البنت؟ وما اللفظ المفرد والمذكر؟
الفتوى (7): هذا سؤالٌ حسنٌ، أرجو أن أوفق فيه إلى جواب حسن.. أمّا السِّبط: فكلام أئمة اللّغة صريحٌ في شموله لأولاد البنين والبنات، والمشهور بين النّاس أنه خاصّ بولد البنت؛ ليفرِّقوا بينه وبين الحفيد. وسئل ابن الأعرابيّ عن الأسباط، فقال: هم خاصّة الأولاد وصفوتهم، والولد يشمل الذكر والأنثى.
وابن الأعرابيّ من حُذاق اللّغة وثقاتهم.
وأمّا الحفيد: فهو ولد الابن والبنت أيضًا، فهو والسّبط سواء في الإطلاق على هذا. وقال ابن فارس: الصحيح أنّ الحَفَدة في قوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} [النحل: 72] هم الأعوان. وقيل: الأختان.
ومن العلماء من قال: هم البنات؛ لأنّه ذكر الحفدة مع البنين، والله يمتنّ على عباده بما خلق من أزواجهم، وهم صنفان (بنون، وبنات)، وقد ذكر البنين، فلم يبقَ غير البنات، وأطلق عليهنّ حَفَدة؛ لأنهنّ أسرع إلى طاعة الأب، ومادّة (حَفَد) دالّة على الإسراع، ومنه الحديث: (وإليك نسعى ونحفِد).
هذا ما ظهر لي في معناه في الآية، ولا يلزم من ذلك قصرُه على هذا المعنى في غير الآية.
ومن الذهول الشائع اليوم في الوصايا والوقف أن يذكر الموصي أو الواقف مثل هذه الألفاظ المشتركة التي اختلط فيها العرف في مقام يحتاج فيه إلى تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم.
والحاصل أنّ الأجداد ذوي الأسباط والأحفاد في سَعة أن يطلقوا هذين اللفظين على من شاءوا من ذرّياتهم، فإن كان لمن حولهم عرفٌ شائعٌ فعليهم مراعاته، ومن الشائع إطلاق الأسباط على أولاد البنات، والأحفاد على أولاد البنين أو على الجميع، وأمّا مفرد الأسباط فسبط للذكر والأنثى، ومفرد الأحفاد حفيد، ومفرد الحَفَدة حافد، كحافظ وحَفَظة.. متّعك الله بأسباطك وأحفادك.
 
من اللطائف التي تستحق أن يُلتفت إليها الجمل التي يختم بها الشيخ فتاويه، وفيها كما يقول البلاغيين ( حسن الاختتام).
 
السائل (فهد العودة): هل الصواب أن يقال: توافرَ الشيءُ أم توفَّر ؟
الفتوى 8: هذا السؤال أجاب عنه عددٌ من قُرَّح الكَتَبَةِ الضالعين في دراسات الأساليب، ومنهم أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب)، ومصطفى جواد في كتابه (في التراث اللغويّ)، وأبو تراب الظاهري في كتابه (كبوات اليراع).
وفي كلامهم شيءٌ من الاختلاف؛ فأسعد داغر يمنع أن يقال: (توفّر) إلا على معنى: رعى حُرُماته، وصرَف هِمَّته إلى الشيء، ولم يرضَ بذلك مصطفى جواد، وردّ على (داغر)، ورماه بالتسرُّعِ في حكمه هذا، وقال: إنّ من يقول: توفّر الشيء؛ أراد: تجمَّع، وتحصّل، ولكنهم -أي: الفصحاء- يستعملون (على) معه، وأيّده أبو تراب، وساق لذلك من كلام أهل العلم والأدب؛ كابن المعتز، وابن أبي الحديد، وزياد بن سميّة، وأبو تراب يوافق جوادًا في جمهور ما يقرّره.. والذي أحرّر لك في هذه المسألة موجزًا هو:
أولاً: يقِلّ ورود هذين الفعلين في كلام العرب شِعْره ونثره. وممّا يُنسب إلى عنترة قوله:
يـرون احتمـالي عـفّـةً فيريهمُ تـوفُّر حِلْمي أنني لستُ أغضبُ
ثانيًا: مادة هذا اللفظ الواو والفاء والرّاء، وهو أصلٌ يدلّ معناه على الكثرة، غير أنّ صيغة تفعّل في (توفّر) تفيد التجمّع، وصيغةُ (توافر) تفيد التكاثر.
ثالثًا: قال الخليل في (العين) عن العقيقة، وتبعه سائر المعاجم: (تُوفَّر أعضاؤها فتطبخ بماء)، ومعناه: (تُجمَع). والكثرة فيه ملحوظة. وقال أبو عبيد: قال الكسائيّ: إعفاء اللحى: أن تُوفَّر، وتُكثَّر.
رابعًا: لم أجد في بحثي ومطالعتي (توافَر) في حُرّ كلام العرب، ولكنها صيغة صحيحة لأصل صحيح مستعمل في كلامهم.
خامسًا -وهو ثمرة البحث-: إذا قلتَ: توفّرت الأسباب، أو: توافرت. فالوجهان صحيحان، ويلحظ في الأوّل معنى الاجتماع، وفي الثاني الكثرة. والثاني لازمٌ للأوّل؛ ولو كان في شيء متصل. فلا تثريب على من نطق بهذا أو ذاك .. ولنا عودة أخرى مع غير (العودة)
.
 
من الملاحظ أيضا في هذه الفتاوى أن الشيخ عبد العزيز يسير فيها على منهج التوسع والتيسير في التعامل مع الألفاظ الشائعة، حيث يصححها ما وجد إلى ذلك سبيلا، بخلاف كثير مما ألف وكتب في هذا الشأن مما ينهج التشدد في تخطئة الألفاظ.
وهو بهذا يوافق منهج (معجم الصواب اللغوي) الذي اعتمد منهجية محكمة في الحكم على الألفاظ، وتصويبها ما كان إلى لك سبيل.
وهو معجم مهم ومفيد، ويمكن تحميله مصورا من هنــا .
 
السائل (عبد الله بيلا): لديَّ استفسارٌ نحويّ أتمنى أن أجد له حلاًّ بخصوص عنوان قصيدة كتب هكذا (ألف شكرًا لكم)، هل كتابتها بهذا الشكل ممّا يُعتد به في اللّغة أم يجب أن تكتب هكذا (ألف شكرٍ لكم) ؟ وهل هناك ما يسوِّغ كتابتها هكذا؟
الفتوى 9 : نعم يجوز كتابة لفظ (شكرًا) في الجملة المذكورة، ونطقها منصوبة، على الحكاية، والحكاية أن تنطق باللفظ كما سَمِعْتَه أو كما هو مسموع ومنطوقٌ به، وفي ذلك ما يزيد المخاطب ثقة بأن المتكلم علم مراده، لا سيما إذا كان الكلام جوابًا، كأن تقول: رأيت زيدًا، فيقول لك من تخاطبه: من زيدًا. وحكى سيبويه أنه سمع أعرابيًا سأله رجلٌ: ألستَ قرشيًا ؟ قال: لستُ بقرشيًّا. هكذا بالنصب، سمعها الأعرابيّ ووعاها، فأدّاها كما سمعها، وفي ذلك دلالة أيضًا على سعة فلك العربية الذي لا يحيط به أحدٌ إلا عن معجزة، والذوق والحسّ والعقل والوجدان تزيدها روعةً وجمالاً، ومهابةً وجلالاً، ولا تزيد الطاعنين إلاّ خبالاً.
كذلك هي اللّغة العربية حقًّا، تقول للمتكلم: قل ما شئت ما دمتَ على بقيّة من سَنن العربية وقوانينها، فلك أن تحكيَ ما يكون بـ (كان)، وما كان بـ (يكون) إذا أردتَ تحقق الوقوع في الأول، واستحضار الحَدَثِ في الثاني، وقريبٌ من هذا التزام العرب بحكاية الأمثال على ما هي عليه مهما اختلف المخاطب، فتقول للأنثى والذكر المفردين وغير المفردين: الصّيفَ ضيَّعْتِ اللّبنَ، هكذا بالنصب وكسر التاء في (ضيعت)، وتلك هي الأمانة في ذرى مقاماتها، والدّقة في أعلى معاليها، والحاصل أن قولك: ألف شكرًا، هو ممّا سبق، حكاية لكلمة الشكر على نطقها الشائع الذي يردّ به من ذاق حلاوة المعروف، وأصابه نورٌ من وجهه الجميل، وهكذا إذا قلتَ: ألف مرحبًا، وألف سمعًا وطاعةً، وألف سلامٌ عليكم
.
 
السائل (ماجد الجهني): هل لي أن أستخدم (حتّى) بمعنى (كَي)؛ لأن استعمالها شائعٌ عندنا؟
الفتوى 10: نعم يجوز ذلك، ووجدتُ له شاهدًا في القرآن غفل عنه النحويّون، وهو قوله سبحانه: (هم الذين يقولون لا تُنْفقوا على مَنْ عِنْد رسول الله حتى ينفضّوا) [المنافقون: ٧]، معناه: كي ينفضوا. هذا هو معناه الصحيح، ومن ظنّ أنّ المعنى: إلى أنْ ينفضُّوا؛ فهو غالط، ومن الدليل على فساد اعتباره أنّه سيؤول إلى ما يُبطله، وهو أن يكون مرادهم: المنع من الإنفاق على من عند رسول الله إلى انفضاضهم وتفرقهم، فإذا قاموا عنه بطل المنع. والمعنى هو الأول، وذلك من ظنّ المنافقين في بناء العلاقة في الدّين على المال، ومن ضعف ظنّهم بمن له خزائن السموات والأرض.
ثم وجدتُ ابن هشام استشهد به في (مغني اللبيب)، وذكر له شاهدًا قرآنيًّا آخر، وهو قوله سبحانه: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم) [البقرة: ٢١٧]، وليس في وضوح الأول لاحتمال أن يكون معنى (حتى) الغاية المحضة.
والمنافقون في تقلُّبهم وتلوّنهم فيهم شبهٌ من (حتى) التي حيّرت علماء النحو، ومات أحدهم -وهو أبو زكريا الفراء (207هـ)- وهو يقول: أموتُ وفي نفسي شيءٌ من حتّى. وكان يقال لأبي زكريا: أمير المؤمنين في النحو.
وإنما حيّرتْ من حيّرتْ من النحويين ودوّختهم؛ لأنها خرجتْ عن سَنَن سائر الأدوات العاملة، وجمعت في عملها بين المتضادات، فهي عاملة ناصبة، وخافضة رافعة، وتكون ابتدائية في أول الكلام تارة، وغائية في آخر الكلام تارة أخرى، وتدخل على الأفعال والأسماء والحروف، وحينما يجد النحويّ قول القائل: (أكلتُ السمكةَ حتى رأسها) لا يدري أَأُكِلَ رأسُها أم لم يُؤكل؟ حتى يرفع الرأس أو يخفض أو ينصب. والحقّ أن معناها الذي لا يفارقها هو الغاية، غير أنه يقوى في بعض المواضع، ويضعف في مواضع أخرى، وأمّا الإعراب فمختلفٌ.
هذا هو الجواب بإيجاز، وقد ذكرتَ في سؤالك يا أخا جُهينة بأنّكم تستعملونها بمعنى (كي)، ولا غرو في ذلك؛ فعند جهينة الخبر اليقين
.
 
السائل (أبو سليمان): لديّ سؤالٌ أودُّ الإجابةَ عنه في زاويتكم الموفّقة، هل الرّوح مؤنث، أم مذكر؟ واسمح لي بسؤال آخر يتعلّق بالرّوح يحيّرني كثيرًا، وهو: كيف يبقى الإنسان حيًّا وهو نائم، مع خروج الرّوح؟
الفتوى 11: أفهمُ من سؤالك أنّك تسألُ عن الرّوح التي بها حياة البدن، واللّغويون يذكرون الوجهين، ومنهم مَن يقول: الأصلُ التذكير، ويجوز التأنيث، وإنّما كان الأصل التذكير لكثرة الشواهد عليه، وله معانٍ في القرآن مبثوثة في كتب التفسير تبلغ عشرين أو تزيد، والمتيقّن من صحته منها أنّها أطلقت في القرآن على الرّوح التي بها حياة البدن، وعلى جبريل، وعلى النفخ، وعلى الوحي، وجمعتُ ما قِيل في ذلك في كتيّبٍ لي عن بحث منشور، اسمه: (معاني الرّوح في القرآن الكريم). وقال ابن القيم: لم يرد في القرآن لفظ الروح بمعنى النّفس، والصّواب أن ما قاله غير صواب، وعليه الجمهور.
وأمّا سؤالك الثاني؛ فليس بمحيِّر ما سألتَ عنه، إذا أيقنتَ بطلاقة القدرة، وعجزنا نحن البشر عن إدراك ما لا تبلغه عقولنا، فإنّ عقولنا لم تقدر على معرفة أسرار مخلوقات مدركة بالحسّ، فكيف بمخلوق لا ندركه بأيِّ نوعٍ من المدركات، كالرّوح التي هي من أمر ربّنا سبحانه، وما عَجْزُ الإنسان عمّا لم يبلغه علمه إلاّ كعَجْزِ النملة عن تصنيف كتاب، أو صنع طائرة، أو بناء قصر، أو صنع دواء، أو صولةٍ على أسدٍ، فربّنا سبحانه أخبر بقبض الأنفس حين موتها، وبقبضها حين تنام، فأمّا التي حكم عليها بالموت فيمسكها، وأمّا النائمة فيطلقها، وكيفية ذلك لا نعلمه، ولا يلزم من ذلك أن تفارقَ الرّوحُ الجسدَ مفارقة كليّة، وقد ضربتُ لذلك مثلاً بالهاتف الجوّال حين يكون على خدمة (موجود)، تبقى فيه خصائص استعماله من اتصال وإرسال، وبعض أنواع الاستقبال، ومَن يتّصل به يظنّه مقفلاً معطّلاً من ذلك كله، وما هو بمعطّل، ولولا أنّ عقولنا قد اعتادت على العجائب المتلاحقة لكان ذلك من المحيّرات، وقرأتُ في آخر كتاب (شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور) للسيوطي: أنّ العزّ بن عبدالسلام السلميّ كان يقول بأنّ لكل إنسان روحين، وذكر في ذلك تفصيلاً لم يذكر له دليلاً، ولعلّه أشكل عليه معنى آية (الزمر). وشكرًا لك أبا سليمان، على سؤالك المناسب لروحانية رمضان
.
 
السائل (أبو زينب): ما معنى (الخبء) في قوله تعالى مخبرًا عن الهدهد: (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، ولماذا ذكره الهدهد دون غيره من شواهد القدرة؟
الفتوى (12): الخبء معناه المخبوء، والخبء الذي في السموات هو القَطْر، والذي في الأرض هو الحبّ، وذكر بعده علم ما يخفى وما يعلن، كقوله تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) (الأعلى: 4)، ثم قال بعده: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) (الأعلى: 7)، وكذلك قوله في (طه): (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه: 6-7)، وفي دعاء إبراهيم: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) (إبراهيم: 38)، بعد قوله: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ) (إبراهيم: 37).
والذي يظهر لي أنّ الهدهد ذكر ذلك لتعلقه برزقه؛ لأن علم المخلوق بشيء علم مشاهدة وانتفاع هو أمكن في نفسه وأدنى إلى منطقه، وأقرب إلى مخيلته، ويروى عن ابن عباس أنّه ذكر لأصحابه الهدهد، وقال: إنه يرى الماء تحت الأرض من بُعد. فقال له نافع ابن الأزرق: قف.. قف يا ابن عباس، كيف تزعم أن الهدهد يرى مسافة الماء من تحت الأرض وهو ينصب له الفخ، فيذرّ عليه التراب، فيُصطاد. فقال ابن عباس: إنّ البصر ينفع ما لم يأتِ القدرُ، فإذا جاء القدرُ حال دون البصرِ. فقال ابن الأزرق: لا أجادلك بعدها في شيء. وفي بعض كتب الأخبار والتواريخ والتفسير أنه كان يدل سليمان على الماء، وأنه افتقده حين احتاج إليه. ولهذا علّل من علّل من المفسرين، كأبي حيان بأنّ الهدهد ذكر (الخبء) دون غيره؛ لأنّه يرى الماء تحت الأرض، وذكره الألوسي واستضعفه، وأكثر المفسرين لم يذكروا شيئًا في ذلك. والأخبار المرويّة في رؤيته الماء في باطن الأرض أخبارٌ لا تثبتُ.
ومن لطيف ما نُقل في شأن هدهد سليمان: أنّ الله أنقذه من وعيد سليمان ببرّه لوالديه. وهي مُلحةٌ لا تُصدَّقُ ولا تُكَّذب، ولو قيل: أنقذه الله ببره بوالدته؛ لكان أقرب إلى الصدق؛ فالحيوان لا يكاد يعرف أباه، إلاّ إذا كان والد الهدهد تزوج أمه بنكاح معلوم في شرع الطير؛ فلا غرابة حينئذٍ، ولا ضير
.
 
جزاك الله خيراً يا أبا غادة ، على هذه المتابعة النافعة .
د. عبدالعزيز الحربي رجلٌ موفقٌ، وباحثٌ طُلَعة ، عبارته رصينة، ومؤلفاته نافعة.
انظر إلى توفيق الله له للتصدي للإجابة عن مثل هذه الأسئلة اللغوية في الوقت الذي لم يتصد لها أساتذة اللغة في الجامعات، وهو متخصص في القراءات والقرآن وعلومه .
وفقه الله ووفقك أخي ضيف الله لكل خير ، فاختياراتك موفقة ونافعة ، واختيارك يدل على عقلك وفطنتك .
 
السائل (ماجد الجهني): هل لي أن أستخدم (حتّى) بمعنى (كَي)؛ لأن استعمالها شائعٌ عندنا؟
الفتوى 10: نعم يجوز ذلك، ووجدتُ له شاهدًا في القرآن غفل عنه النحويّون، وهو قوله سبحانه: (هم الذين يقولون لا تُنْفقوا على مَنْ عِنْد رسول الله حتى ينفضّوا) [المنافقون: 7]، معناه: كي ينفضوا. هذا هو معناه الصحيح، ومن ظنّ أنّ المعنى: إلى أنْ ينفضُّوا؛ فهو غالط، ومن الدليل على فساد اعتباره أنّه سيؤول إلى ما يُبطله، وهو أن يكون مرادهم: المنع من الإنفاق على من عند رسول الله إلى انفضاضهم وتفرقهم، فإذا قاموا عنه بطل المنع. والمعنى هو الأول، وذلك من ظنّ المنافقين في بناء العلاقة في الدّين على المال، ومن ضعف ظنّهم بمن له خزائن السموات والأرض.
ثم وجدتُ ابن هشام استشهد به في (مغني اللبيب)، وذكر له شاهدًا قرآنيًّا آخر، وهو قوله سبحانه: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم) [البقرة: 217]، وليس في وضوح الأول لاحتمال أن يكون معنى (حتى) الغاية المحضة.
والمنافقون في تقلُّبهم وتلوّنهم فيهم شبهٌ من (حتى) التي حيّرت علماء النحو، ومات أحدهم -وهو أبو زكريا الفراء (207هـ)- وهو يقول: أموتُ وفي نفسي شيءٌ من حتّى. وكان يقال لأبي زكريا: أمير المؤمنين في النحو.
وإنما حيّرتْ من حيّرتْ من النحويين ودوّختهم؛ لأنها خرجتْ عن سَنَن سائر الأدوات العاملة، وجمعت في عملها بين المتضادات، فهي عاملة ناصبة، وخافضة رافعة، وتكون ابتدائية في أول الكلام تارة، وغائية في آخر الكلام تارة أخرى، وتدخل على الأفعال والأسماء والحروف، وحينما يجد النحويّ قول القائل: (أكلتُ السمكةَ حتى رأسها) لا يدري أَأُكِلَ رأسُها أم لم يُؤكل؟ حتى يرفع الرأس أو يخفض أو ينصب. والحقّ أن معناها الذي لا يفارقها هو الغاية، غير أنه يقوى في بعض المواضع، ويضعف في مواضع أخرى، وأمّا الإعراب فمختلفٌ.
هذا هو الجواب بإيجاز، وقد ذكرتَ في سؤالك يا أخا جُهينة بأنّكم تستعملونها بمعنى (كي)، ولا غرو في ذلك؛ فعند جهينة الخبر اليقين
.

أن تكون حتى بمعنى كي هو من العربية المعاصرة وليس من الضرورة لجوازها أن تكون مستعملة في القديم وإن كان ذلك آنس لها وأفضل بلا شك، ولكن ما ذهب إليه الأخ المجيب مرجوح ولا ريب وحجته داحضة ولا شك، ذلكم أن "حتى ينفضوا" لا يلزم منها دليل مخالفة ويكون المعنى الذي رده هو الأقوى لغة وتاريخا ولا يبدو لي يجوز غيره، لأن حتى بمعنى كي مستعملة بكثرة في العربية المعاصرة فلا يكون العربي المعاصر بمأمن من الإسقاط على التاريخ أي الفهم بمفهوم متأخر، فهذا أمر لا يكاد يسلم منه سالم، وهو الذي أوقع الأخ المجيب في الخطأ.
كون النهي عن الإنفاق إلى حين أن ينفضوا يدخل فيه من باب أولى عدم الإنفاق بعد انفضاضهم، لأن دافع النفاق عند رسول الله وأمام المؤمنين موجود وهذا السبب في قولهم حتى ينفضوا، أي قاوموا دافع النفاق حتى لا يكون ثم داع لمقاومته لأنهم إن لم ينفقوا عليهم وهم عند رسول الله فمن باب أولى لا ينفقون عليهم حين ينفضون.
فما ذهب إليه الأخ صاحب الفتاوى اللغوية في هذا المعنى خطأ ولا ريب، ولا وجود مطلقا لحتى في القرآن بمعنى كي، والله أعلم
 
السائل (سموّ الرّوح): ما الفرق بين أن يُقال: زوجة فلان، وامرأة فلان، وخاصة في القرآن؟
الفتوى 13: كلّ من الزّوجين الذكر والأنثى، يُقال له: زوج، بلا تاء فارقة، كأنهما ذاتٌ واحدةٌ، قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) [البقرة: 187]، ويجوز في اللغة أن يُقال: زوجة، والفصحى هي لغة القرآن، وأمّا الفرق بين امرأة الرجل وزوجه في القرآن فليس عندي جوابٌ أجزمُ بصوابه، وإنّما هو فهمٌ عن اجتهادٍ قد يرد بعده ما هو أقوى وأقوم لي أو لغيري، وقد كثر فينا مَن يعجبه علمُه، فيقول: إنّ الله قال كذا لكذا، ولم يقل كذا لكذا. وقلّة الخطأ في تفسير الكتاب العزيز تعود إلى أمرين؛ جودة الفهم، والتضلّع من العربية، وأوّلهما أولاهما، وقد وجدنا من الغوّاصين في بحار اللّغة مَن يُحَمِّل الألفاظ أوزارًا من تخاليط فهمه، حتى يقول القائل إذا سمعه: كيف يصحّ لعاقل أن يفهم مثل هذا الفهم؟
ولو شئتُ لضربتُ لكم الأمثال، ولكنّ الغرض متعلق بالجواب، فأقول: الذي يُفهم من معنى الزوجية هو تحقّقُ معناها وغايتها من التواد والإفضاء والتكامل، فحيث كانت الأنثى تحقق هذا المعنى كانت زوجًا، فإذا تعطّلت معاني الزوجية، أو نقصت واحدًا من أخصّ خصائصها، لا يُقال لها: زوجة إلاّ باعتبار مجازي، ومن شواهد القرآن على ذلك: (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35]، (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90]، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ) [الأحزاب: 28]، فإذا فقدت عنصرًا من عناصر التوافق، فهي مجرّد امرأة، كامرأت فرعون، وامرأة نوح، وامرأة لوط؛ لانفصال جهة الديانة بينهما، ونحو ذلك قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ) [هود: 71]، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) [الذاريات: 29]، (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) [آل عمران: 40]، لتعطل الغاية الزوجية وهي الولادة، ولهذا قال عن امرأة زكريا بعد أن استجاب دعاءه ووهب له يحيى: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90]. وبقي آيتان إحداهما: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب) [المسد: 4]، وقد وجدتُ لها جوابًا ذكره السهيليّ (ت 581)، قال رحمه الله: (لم يقل: وزوجه؛ لأنها ليست بزوج له في الآخرة، ولأن التزويج حلية شرعية). وأمّا الثانية فهي ( امْرَأَتُ عِمْرَانَ) [آل عمران: 35]، وأجاب السهيليّ في كتابه (الروض الأنف) عن نظائرها بأنها ذكرت في سياق الحمل والولادة، وهو اللائق بكونها أنثى. ويحتمل عندي أن يكون عمران لم يكن معها لفراق أو موت، وبه يستقيم التعليل في عامّة آي القرآن. وملخص جواب السّهيلي أن الأنثى يعبّر عنها بالمرأة مضافة إلى بعلها عند اختلاف دينها، أو حين تُساق مساق الحمل والولادة مراعاة لأنوثتها.
وملخص جوابنا -وهو معروف لدى الدّارسين- أنّ ذلك يكون حين فقدان معنًى من معاني النكاح المثلى
.
 
السائل (محمّد الغامديّ): نقول في كلامنا كثيرًا: أجابه على الطاير، ومرَّ على الطائر، فهل هذا أسلوب صحيح ؟
الفتوى 14 : نعم، هو أسلوب صحيح، ولا حاجة للبحث عن أصله، وهل نقل عن العرب أم لا ؟ وإنما ينظر في صحة إطلاقه وحسن بلاغته وتركيبه، ما دامت المفردة صحيحة، وهذه الجملة من أحسن الجمل وألطفها في معناها، وأوضحها دلالة على المراد، وهو الإخبار عن سرعة الحدث، ومثله قولهم: على السّريع، ونظيره قولهم على الماشي، وهو إخبارٌ أيضًا عن الإسراع بالمطلوب. وأقتنص فرصة السؤال لأجيب (على الطائر) عن سؤالين آخرين:
أحدهما من السائل (ماجد المشدق): أيّهما أنسب أن أقول: فِطْرِي أم فَطوري، نسبة إلى الفطور (الأكل) ؟
الفتوى 15 : كلاهما صحيحٌ إذا أردتَ الإفطار، وهو تناول الصائم الطعام بعد الغروب، سواء قلت: الفِطر أو الفَطور، بشرط أن تكون الفاء في (الفطور) مفتوحة، وأمّا الفُطور (بالضم) فهو طعام الإفطار المعدّ للصائم، وأمّا إطلاق الفَطور والإفطار على ما يتناوله الطاعِم صباحًا فهو إطلاق عصريّ، وإنما هو الغداء، وقد أقرَّه مجمع اللغة القاهري، وأثبت في المعجم الوسيط، وله وجهٌ في شبهه بطعام الصائم؛ لأنّ حال المفطر صباحًا كحال الصائم، كلّ منهما بعيد عهد بطعام، وحديث: ((فرحة الصائم عند فِطره))، يحتمل معنيين، أوّلهما وأولاهما: فِطره يوم عيده بعد كمال عدة الصيام. والثاني: فِطره في كل يوم.
السائل (لم يذكر اسمه): هل يمنع من الصرف (أرِنا فيهم يومًا أسودَا) ؟
الفتوى 16 : نعم، هو ممنوع من الصّرف، وهذه الألف ألف الإطلاق، أو الإرسال وليست منقلبة عن التنوين، وهو سائغٌ في الشعر بلا كراهة .. آمل أن يكون الجواب جوابًا أبيض.
 
السائل (؟): ماذا نقول -شيخنا نفعنا الله بكم- عندما نتكلم عن قصّة زكريا مثلاً: {ربّ لا تذرني فردًا}، هل نقول: قال زكريا، أم نقول: قال تعالى عن نبيّه، لمن ننسب القول؟ بارك الله فيكم.
الفتوى 17: كل ذلك حسنٌ صحيحٌ، وفي ذلك طرائق شتّى، فللقائل أن يقول ما ذكرتَ، وله أن يقول أيضًا: قال الله تعالى مخبرًا عن زكريا، أو إخبارًا عنه، أو قال في شأنه كذا، وله أن يقول: قال زكريا كما قصّ الله، أو كما أخبر، أو: قال زكريا كما جاء في سورة الأنبياء.
ومن العلماء مَن يقول: قال الله تعالى حكاية عن فرعون أو إبليس، يقول ذلك كثيرٌ من أهل التفسير، كالبغوي، والقرطبيّ، والرّازيّ، والتعبير بالإخبار أولى.. ومَن أسند الكلام إلى الله فذاك هو الأصل، ومَن أسند الكلام لمَن أخبر الله عنه فهو مخبرٌ عن الله، وإخباره يتضمن إيمانه به. غير أنه يمنع إسناد الكلام مجرّدًا إلى القائل إذا كان المخاطب لا يعلم أنه قرآن، فالعبرة بالمخاطب في كل حال، ألا ترى أنه لا يحسنُ أن يبدأ القارئ بقوله تعالى:{إنّي أنا الله لا إله إلا أنا} دون قرينة حالٍ أو مقالٍ، ومن قرائن الحال الصلاة، ومن قرائن المقال الاستعاذة، فلو بدأ بهذه الآية في صلاة، أو قرأها في غيرها مستعيذًا فلا حرج.
ومن الخطأ الشائع أن يقول حين الاستشهاد بآيةٍ من القرآن: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، فإن الله لم يقل ذلك، صحيحٌ أن مراد المتكلم أن يستعيذ، وجعل ذلك اعتراضًا بين القول والآية، ولكنه مردودٌ بأمرين، أحدهما: أنه محدَثٌ. والآخر: اشتماله على معنى محتمل باطل، فلا حاجة إلى العدول عن قصد السبيل إلى سبيل جائر، والله من وراء القصد.
 
السائل (عبدالمجيد، الرياض) يقول: ما صحة هذا الكلام: الترشيح مصدر الفعل (رشح)، فعندما أرشح فلانًا، فإني أقدمه وأنتخبه، أمّا عندما يتقدّم فلانٌ ويعرض نفسه كمرشح نسميه ترشحًا، وهو المصدر من الفعل (ترشح)، فمن الخطأ قولهم: الانتخاب والترشيح، والصواب هو: الانتخاب والترشح؟
الفتوى 18: كلّ من التَّرشّح والترشيح محفوظ في دواوين اللّغة، منقولٌ عن العرب. يقال: ترشّح ولد الظبية إذا قوي على المشي، وترشح فلانٌ للأمر: تهيأ له، وتقوّى.
والترشيح -أيضًا-: التهيئة للشيء والتربية، وفي خبر خالد بن الوليد: أنه رشّح ولده لولاية العهد، أي: أهَّله لها، ويقال: فلان يرشح للوزارة، أي: يُربّى لها، ويؤهّل. هذه خلاصة ما حفظته المعاجم الوثقى، وليس في كلام الموضح ما هو جديد، فكل ملمٍّ بمبادئ علم التصريف يعلم أن الترشح مصدر (تَرشّحَ)، نحو: تكلم تكلمًا، وتقدّم تقدمًا، وأن الترشيح مصدر (رشّح).
فإن كان اعتراض السائل على من يعرض نفسه كمرشح كما قال، وأنه لا يجوز أن يقال عنه: مرشّح، ولا يقال في مصدره الترشيح، فليس بصحيح، فإن البلاغة تمنحه حقَّه في ذلك، ولا تمنعه؛ لأنه رشّح نفسه، أي: أهَّلها وأعدّها. وقد اتّسع المراد من الترشيح في عصرنا، فصار معناه: الاختيار والتزكية، ولهذا جعله جامعو (المعجم الوسيط) من (المُحْدَث)، ولو جعل في دائرة المعنى العربي المذكور لما ضاقت به.
ولابن فارس فلسفة في تأصيل (الترشيح)، حاصله: أنه من الرّشح، وهو العَرَق، أصله: أنّ الوحشيّة إذا مشى معها ولدها مشت به حتى يرشح عَرَقًا فيقوى، ثم قيل: لكل من يُربّى للخلافة: يرشّح. ولكن من يعرقون حين يفرقون قد يغرقون
.
 
نرجو أن تستمر رشحات الأخ الشمراني ولا تنقطع
 
السائل (؟): شيخنا -حفظه الله-: أودّ أن أطرح عددًا من الأسئلة على فضيلتكم، وآمل الإجابة عنها: أولاً: مَن هو واضع علم الصّرف؟ وهل أحدٌ ذكر قبل السيوطيّ أنه معاذ بن مسلم الهرّاء؟ ثانيًا: ما هو النظم المفضل للحفظ في علم الصّرف؟ ثالثًا: هل التفريقُ بين القرية والمدينة له أصلٌ في اللّغة؟
الفتوى 19: أمّا واضع علم الصّرف فهو معاذ بن مسلم الهرّاء، أحد أئمة الكوفيين في النحو والصرف (ت 187هـ)، وقد ذكر أنّه الواضعُ الأولُ الرّازيُّ في كتاب (المحرر)، والرّازيّ قبل السيوطيّ، وحكى الأزهريُّ (ت 905هـ) الاتّفاقَ على ذلك، والمحققون يأبون هذا الإطلاق؛ لأنّ النحو والصرف متلازمان دأبًا، لا يفترقان أبدًا. وسيبويه كتب كتابه في النحو وفي الصرف من قبل، فهو أقرب إلى الأولية وأسبق، فإن كان معاذ بن مسلم صنّف في ذلك مصنّفًا مستقلاً خالصًا للصرف من دون النحو، فلا رادّ لذلك. فيكون الأولَ باعتبار تخصيصه بالتصنّيف.
وأمّا النّظم المفضّل للحفظ في علم التصريف فهو ما تضمنته ألفية ابن مالك، فإن أضيف إليه حفظ لامية الأفعال فحسنٌ، ولا يحسبنّ طالب العلم أنه لا يمكنه الإتقان إلاّ بحفظ نظم في التصريف أو في غيره، فقد كان العلماء متقنين قبل النظم -ومنهم الناظمون الأوائل- لا يحفظون في ذلك نظمًا، ومنهم مَن كان يحفظ متونًا أو كتبًا منثورة، وقد يكون الأسهل على الطالب أن يحفظ متنًا نثريًا كالشافية لابن الحاجب، فهذا المتنُ لا مثيل له في الجمع في بابه حتى قال الشوكانيّ: إن الطالب لا يتمكّن في الصرف حتى تكون شافية ابن الحاجب على طرف لسانه. فإن كان الطالب لا يسهل عليه الحفظ فلا يقهر نفسه على ما لا تحبّ، ويكفي أن يدرس كتابًا مختصرًا في الصرف مع فهمه، وحفظ ما لا بدّ منه، ككتاب (شذا العرف)، فهو كتاب جامع.. ولي كتابٌ ميسّرٌ، اسمه (القرعبلانة في فنّ الصرف).
وأمّا القرية والمدينة فبينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق؛ لأنّ كلّ مدينة يقال لها قرية، ولا يُقال لكل قرية مدينة؛ لأنّ من القرى ما هو صغيرٌ لا تجتمع فيه مقوّمات الإقامة، فالقرية يُلحظ في إطلاقها معنى الاجتماع؛ لأنّ مادة (قرا) تدلّ على ذلك، والمدينة يُلحظ في إطلاقها معنى الإقامة؛ لأنّ معنى (مدن) أقام. وإن ظهر لي معنًى آخر، أو وجدتُ ما هو أوسع من هذا التفريق، فسأذكره في مناسبة أخرى.
 
السائل (محمد العجمي): هل الأفصح ملحوظة، أم ملاحظة ؟
الفتوى 20: الملحوظة: اسم مفعول من (لَحَظ)، والملاحظة مصدر (لاحظ)، وما كان فعله على هذا الوزن فمصدره القياسي الفِعال والمفاعلة.
وأصل معنى (لحظ) في لغة العرب: النظر بمؤخر العينين، قال في (القاموس): هو أشدّ التفاتًا من الشّزْر. ولو فُرِّق بينه وبين الشّزر بأنه - أي الشّزر - لا يكون عن رضًا، وأمّا اللّحظان فيكون عن رضًا أو غيره، فهو أعمّ منه.
وسؤالك عن الأفصح منهما يشير إلى صحة استعمال كلّ منهما، مع أنّ قوانين العربية الظاهرة لا تنصر إلاّ واحدًا منهما حين يكون المراد النظر من واحد، فإن كان النظر من اثنين فأكثر، كلّ منهما يلحظ فهو ملاحظة، وإلاّ فهو ملحوظة، غير أنّ هذا جمودٌ لا يليق بعبقرية اللّغة، وتحجير لواسعها؛ لأن باب المفاعلة من الأبواب التي تتسع وتضيق بحسب ما صدقت عليه، ألا ترى أنّه يقال: قاتله مقاتلة، ولم يكن من أحدهما قتالٌ أصلاً، لملاحظة استعداد المقاتَل للقتال، بل يكون ما هو أقلّ معنًى من ذلك، نحو: سافر مسافرة، وجُعِل منه قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، وكثيرٌ من النحاة يجعل هذا ونحوه من الخروج عن باب المفاعلة، وإن جاء بصيغتها، والصحيح هو ما تقدّم، وأنّ التعدّد في صيغة (فَاعَل) ملحوظٌ، حتى في نحو (سافر)، لما في السفر من مجاهدة وتنازع إرادات النفس، أو باعتبار الأرض؛ لأنها تسفر له في سفره عن أشياء تكشفها له ولغيره، وهو سببٌ في انكشافها له، وكذلك المواعدة في الآية، فإنّ استجابة موسى للمواعدة مشاركة في الوعد، وقراءة البصريين {وَوَعَدْنَا مُوسَى}، من غير ألف.
وكذلك الملاحظة إذا أطلقت على أمرٍ مستدركٍ بالمعنى الشائع اليوم، هي باعتبار تعدّد اللاّحظ، أو باعتبار تعدّد اللّحظ؛ لأنه يكون بمؤخر العينين كما سبق، أو باعتبار تعدّده مرة بعد مرة. وأمّا الملحوظة فهو وصفٌ لما لحظه اللاحظ في صيغة اسم المفعول وحسب.
 
السائل (؟): لو تنازع ثلاثةُ أفعال في معمولٍ واحدٍ، نحو: قام وقعد وخرج الزّيدان. وجاء في الحديث «تسبّحون وتكبّرون وتحمدون دبرَ كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين»، هل يجوزُ أن يكونَ «دبرَ كلّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين» معمولاً لكلّ واحد من الأفعال الثلاثة، أم المعمول للثالث؟
الفتوى 21 : قبل الإجابةِ عن سؤال السائل أذكر ملحظين، أحدهما: أنّ أصحّ الرّوايتين في لفظ الحديث: «تسبّحون وتحمدون وتكبّرون»، وعليها أكثر المحدثين، ومنهم البخاريّ في (الصحيح)، واللفظ الواردُ في السؤال هو لفظ مسلم، وورد في غير (الصحيح) تقديمُ التكبير على التسبيح والتحميد، واستدلّ به على أنّ للذّاكر أن يقدّم ما شاء.
الثاني: المعمول الذي يطلبه هذه الأفعال أو أحدهما محذوفٌ معلومٌ، والأصلُ: تسبّحون اللهَ، فلفظ الجلالة هو المعمول الأولُ، ولفظ «دبرَ كلّ صلاةٍ» ، متعلقٌ بتلك الأفعال أيضًا، أو أحدها.
وأمّا تعيينُ العامل في هذه الأفعال الثلاثة، هل هو الأوّل، أو الأخيرُ؟ قولان لعلماء النحو، أشهرهما قول نحاة البصرة، وهو الأقربُ إلى المعمول والمعقول، فإذا قلتَ: قامَ وقعدَ وخرجَ الزّيدان، فالعاملُ هو (خرج)، و(الزيدان) فاعله، وعامل الفعلين السّابقين مهملٌ. وقال الكوفيّون: العامل الأوّل، وسواء كان العامل اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، فالخلافُ دائرٌ بين النحويين بين الأول والأخير، والشّائعُ مجيء عاملين، ومنه في القرآن: {عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الأَعْمَى}، أي: لأن جاءه الأعمى، وهو متعلقٌ بأحد الفعلين السّابقين، ونحو: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه}، ويُسمّى عند النحاة بـ (التنازع)، ولم يسمّه سيبويه بذلك، وسمّاه الكوفيّون: (الإعمال).
وقد مسّ النحويين نصيبٌ من معناه، فتنازعوا فيه، وفي بعض تعليلاته تنازعًا ذهب بريح النحو الطيّبة إلى مكان سحيق. فلا تذهب نفسك حسرةً أيُّها السّائل، فالخطب يسير، ولا ثمرةَ لتعيين العامل في مثل هذا، ولو كان لمثلي أن يقول قولاً ثالثًا لقلتُ: بأنّ كلاًّ من الفعلين أو الثلاثة عاملٌ، وقلتُ في (زبدة الألفية):
وأعْــمِــلِ الأوّلَ إن تــنــازعـا
فِعلانِ، والبصريُّ ذا، عندي معا
ومن العلماء مَن جوّزَ التنازعَ في الحروف، وليس بالمألوف.
 
السائل (معاذ عبدالله): من الشّائع على الألسنة قولهم: ابدأ بالأهم فالأهم. هل هذه العبارة صحيحة؟ أم الصواب: الأهم فالمُهِمّ ؟
الفتوى 22 : نعم، هذه العبارة من شائع القول، منهم من يقول: الأهمّ فالأهمّ، ومنهم من يقول: الأهمّ فالمهم، وكلٌّ من القولين صحيحٌ إذا وافق مراد القائل، فإذا أراد المتكلم التدني من الأعلى لما هو دونه وليس في الكلام ولا الحال قرينة تدلّ على مقصوده إلاّ التصريح بمراده = قال: الأهمّ فالمهم، والأكثر فالكثير، وهكذا.
ومن مسوغات الخطاب بلا قرينة ظاهرة الثقةُ بفهم المخاطب وفطنته، فخطاب الذكي غير خطاب الغبي، ويحضرني في الاستشهاد لمثل ما ذكرت قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل). فإن قوله: (الأنبياء) قرينةٌ على أنه أراد أعلاهم منزلة، ثم الأمثل كالصّديقين، أي: الأمثل ممّن هم دونهم، ثم الأمثل كالصّالحين، ثم من دونهم من المسلمين.
وكذلك قولهم: الأهمّ فالأهم، أي: الأهمّ مطلقًا، فالأهمّ ممّا هو دونه. فإنه ما من شيءٍ إلاّ وتحته ما هو دونه في جِرمه أو معناه، إلى أن ينتهي، إلى ما لا يقبل القسمة والتجزئة، إمّا حسًّا كالذّرة، أو عقلاً كالجوهر الفرد عند من يقول به، أو شرعًا كإماطة الأذى، في شعب الإيمان، لا في كل خير، فإنّ الله يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}، وفي الأعمال الصّالحة ما هو أدنى من ذلك، أعني: إماطة الأذى عن الطريق. وخصال الخير لا يحصيها المحصون، وشعب الإيمان بضع وستون، أو بضعٌ وسبعون.
وأمّا من يقول: الأهمّ فالمُهِمّ، فمقصوده واضحٌ، غير أنه جعل القسمة اثنين، وذلك جعلها قابلةً للتسلسل من الأعلى للأدنى. ولو استعمل المتكلم الأهمّ فالأهمّ قاصدًا الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يُثرّب عليه؛ لأنّ الأقوال بالمقاصد، ولكل امرئٍ ما نوى
.
 
السائل (معاذ عبدالله): نسمعُ بعضَ المؤذنين مَن يقول: اللهُ أكبرَ اللهُ أكبرَ، بفتحِ الرّاء عند وصلها، وبعضهم بضمّها، فما الصحيحُ في ذلك؟

الفتوى 23: المشهورُ في هذا هو الإعرابُ، وهو ضمّ الرّاء؛ لأن (أكبر) خبرٌ، ولم ينوّن لأنه على وزن (أفْعل)، فمَن وصلها بالضمِّ فقد أعطى الإعرابَ حقَّه، وأحسن في التخلّص من التقاء الساكنين؛ لأنه يكون بالضمِّ والكسرِ والفتحِ.

ويُذكر عن المبرّد أنه كان ينكر الوصلَ بالضمِّ، ويقول: الأصلُ في (الله أكبر) تسكين الرّاء، وهو يشبه المبني. فإذا وصلتَ بلفظ الجلالة ألقيتَ حركة الهمزة (همزة الوصل) على الرّاء، نظير قوله تعالى: {الم. اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [آل عمران] تفتح الميم في حال الوصل، وفتحتها هي فتحة همزة الوصل، نقلت إليها، حكى ذلك عنه أبو بكر ابن الأنباريّ وغيره في كتابه (الزاهر)، ونقله عنه ابن الحفيد في كتابه (الدّرّ النّضيد). قال ابن الأنباريّ: (عوام الناس يضمّون الرّاء)، وقد تجرّد للردّ على مَن عاب الضمّ الرَّاعي الأندلسي (ت 853هـ)، وردّ على المبرّد وغيره بما يكفي، وهو منقولٌ بتمامه في كتاب (معجم المناهي اللفظية)، غير أنه قال في صدر كلامه: (إنّ الوصل مخالفٌ للسُّنّة وما درج عليه السّلفُ الصّالحُ في لفظ الأذان).

ولا أدري ما مستنده في ذلك، فإنّ ظواهر النّصوص، وما درج عليه أكثر المؤذنين فعلاً وسماعًا ونقلاً عن الأسلاف هو الوصل. وفي الصحيحين: أنّ بلالاً أُمِرَ أن يشفع الأذانَ ويُوتر الإقامة. فجعل (الله أكبر الله أكبر) كالكلمة الواحدة، وجعل التكبير في الأذان كلمتين، وكذلك خبر معاوية في الصحيح أيضًا: أنه سمع المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال: الله أكبر الله أكبر. فذكرها موصولة.

وهناك نوعان من أذان الناس لم يُذكرا في السؤال؛ أحدهما: الوصل بإسكان الرّاء، وقطع الهمزة في لفظ الجلالة، وهو من باب إجراء الوصل مجرى الوقف. وقد يختبئ في هذا الوصل سكتة لطيفة. والثاني: النّطق بـ (الله أكبر) مفردة، والوقف عليها، على الوجه الذي حكاه الرّاعي عن السّلف.

فتحصَّل في هذا أربعة أوجه أو خمسة، هي: الوصل بالرفع، أو بالفتح، أو بالإسكان مع قطع الهمزة بلا سكت، أو مع سكت، أو الوقف
.
 
السائل (راشد القحطانيّ) يقول: إنّي لأسعدُ كثيرًا بكل عدد من ملحق الرسالة الرّائد، والذي أجد فيه وبكل سرور سلسلةً من مقالاتكم الشائقة عن اللّغة العربية.. ولي ملاحظة، وسؤالان، أمّا الملاحظة فقد ورد في مقالكم كلمة (خطإه) ولعلّه خطأ في الطباعة، وصوابه (خطئه)، فهل أنا محقّ مصيبٌ؟ وأرجو تنبيه كُتّاب الصحيفة على مثل هذا.. وأمّا السؤالان فعن كلمة (مقدّمة) هل هي بكسر الدّال أم بفتحها؟ وهل نكتبُ كلمة (رضا) بالألف أم بالياء؟

الفتوى 24: زادك الله سعادةً إلى سعادتك، وأمّا ما لحظته في كتابة كلمة (خطإه) بهمزة تحت الألف، فلا أدري أهو من الكاتب، أم من الصحيفة، أم منّي، وهو المرجّح؛ لأنّي أكتبه على ما ذكرتَ بهيئة الياء، وهو الأشهر، وأكتبه أيضًا على ما يراه آخرون بهمزة تحت الألف. وقد حكمتَ عليه في صدر سؤالك بالخطأ، ثم قلتَ في ذيل السؤال: (فهل أنا محقٌّ أم مصيبٌ).

وأمّا (المقدّمة)؛ فمن علماء اللّغة مَن لا يرى الفتح، ومنهم من يجيزه بإطلاق، ومنهم مَن يقول: الكسر هو الأصل، ولم ينقل الفتح إلاّ في مقدّمة الخيل والإبل، نقل ذلك الزّبيديّ في (تاج العروس)، ولعلك تريد مقدّمة الكتاب، وهي كذلك؛ لأنّ الألفاظ المنقولة من الحسّ إلى المعنى باصطلاح أو غيره تأخذ حكمها في استعمالها الأوّل، ومقدِّمة الكتاب بالكسر؛ لأنها في أول الكتاب، ومقدِّمة كل شيء أوّله، ولهذا سُمِّيت الجبهة بالمقدِّمة. ويجوز فتح الدّال على اسم المفعول؛ لأنّ مصنِّف الكتاب قدَّمها، فهي مقدَّمة، ولا يجوز أن يُلحّن مَن يقول هذا.

وأمّا كلمة (رضا)؛ فإنها تكتب بالألف؛ لأنها واوية، أصل فعلها: رَضِو، فقلبت الواو ياءً؛ لوقوعها طرفًا بعد كسر، والأصل: أن ما كان أصله واوًا كُتب بألف، وما كان أصله ياءً كُتب على نحو الياء. نسأل الله أن يجعلنا ممّن اتَّبع رضوانه
.
 
السائل :(معاذ عبدالله) يقول: أنا أحبُّ اللّغة العربية، وأريد أن أعلم أبنائي غريب اللّغة، وألزمتهم بأن لا يتكلموا إلاّ بالفصيح بحسب ما أسمعهم، هل ترى شيخنا الفاضل في ذلك من جدوى؟
الفتوى 25: على الخبير سقطت، وعلى المجرِّب وقعت، وإنك لَسَؤُول.. إنّ اللّغة بنتُ المحاكاة، فما يسمعه الوليدُ عربيًّا كان أو عَجَميًّا هو الذي يحكيه، بل إن علم النفس المعرفي اليوم يقول: إنّ الجنين في بطن أمِّه يتأثّر بما يسمعه. فاللّغات واللّهجات بأنواعها يعود نطق الناطق بها إلى السّماع، ولو أنّ إنسانًا جمع عددًا من الصّبية، كاللّقطاء مثلاً، وجعلهم في دارٍ لا يخالطهم فيها إلاّ مَن ينطق بفصيح الكلام، وغريب الألفاظ، وأسمعهم شعر الجاهليِّين، وأخبارهم، وسمّى لهم الأشياء بأسمائها في تلك العصور الغابرة، ونثر لهم غريب المعاجم نثرًا، لنشأ أولئك الصِّغارُ كما نشأ صغار الجاهليِّين، وصاروا كبارًا ككبارهم في اللّغة والنطق، على أن يكون مَن يخاطبهم صحيح النطق، سليم الأداء، وإنّك لتجد الوافدين من غير العرب إذا خالطوا غيرهم من العرب تنفتق ألسنتهم عن لهجةٍ كلهجتهم، وهمسٍ كهمسهم، وإن شئتَ سمعتَ منهم عنعنة قيسٍ وتميم، واستنطاء الأزديين، وكشكشةَ أسد، وكسكسةَ ربيعة، وفحْفَحةَ هذيل، وعَجْعجة قُضاعة، ووكَم بني كلب، ولخْلخانية عمان، وطُمطُمانية حِمْيَر، ولسمعتَ منهم ترقيق الرّاء المفخمة إذا كانوا بمكة، وإمالة الألف وهاء التأنيث في الوقف إذا كانوا في لبنان، وتصغير الألفاظ تحبيبًا وتمليحًا إذا كانوا بنجد، وهدوء النطق والأناء في الإجابة إذا كانوا مع أهل القصيم.
وأخبرني بعض الأصحاب عن طلبة علم وفدوا من بُخارى أو ما حولها، قال: فسمعتهم يقولون: (دُوك ها الغضيِّرة الصغيِّرة)، أي: خذ هذه الغضارة الصغيرة، وإذا ناديتَ الواحدَ منهم، قال: سَمّْ. أو قال: لبّيك.
وكل هذا لا غرابة فيه، فاللّغة كما قدمنا بنت المحاكاة، والنطق وليد السّماع، ألم ترَ إلى أنّ الأبكمَ لا يتكلّم؛ لأنه لم يسمع شيئًا يقول مثله، وإلاّ لتكلّم على نحو ما سمع.. وللجواب تتمة
.
 
الفتوى 25 : تتمة لسؤال السّؤول العَقُول (معاذ عبد الله) عن تعليم الأبناء اللّغةَ، وإسماعِهم غريبَها لتعتاد ألسنتهم النطقَ بها وحفظها .. إنّما قلتُ لك يا معاذ: على الخبير سقطتَ؛ لأنّي أردتُ قبل بضع سنين أن ينشأ بعض أبنائي نشأةً أعرابيّة، وليحذق مفردات اللّغة عن ممارسة بشغف، وعمَدتُ إلى تلقينه شيئًا من حوشيّها ليكون ما دنا منها أيسر، فقلتُ له: يا غلام، إنّي أعلمك كلماتٍ، لعلّها في الشّدة تنفعك بما ظنّ أبو علقمة النحوي أنّه ينفعه، ولم أردْ أن يتقعّر تقعُّر أبي علقمة، ولكني أردتُ أن ألقي بذرةً في أرض خصبة، وإنّما الأذهان حدائق للحقائق، توافيها، فإذا جادها الغيثُ ألقت ما فيها، فغدوتُ ألقّنه أسماء الأشياء، فقلتُ له- وأشرتُ للفيلاّ -: سمِّها الصَّلْهَب، والفيلًجَة (الشّقة)، وصحن الدّار (الصّالة)، وعِراق الدّار هو المدخل بعد الباب (السِّيب)، والثَّوىُّ (المجلس)، والوصيد (السّاحة التي من خارج الباب)، والطَّنَف (البلكونة)، والمِرْبد (مكان القمامة)، والاصطبل (موقف السّيارات)، والقَرمَد (البوية)، وحجرتك العَرِين؛ لتكون كالأسد شجاعة، وقل: إنّي جائعٌ إلى الخبز، وقَرِمٌ إلى اللّحم، عطشان إلى الماء، بَرِد إلى التّمر، عَيمانُ إلى اللّبن، جَعْم إلى الفاكهة، واعلم أن سيارتنا البيضاء هي التَّولب (وهو في الأصل: الحمار الذي له حولٌ)، وسيارتنا الحمراء السَّمَحج (وهو الحمار طويل الظّهر)، فإذا خرجتَ لتشتري لبنًا من أسواق ابن داود - وكان من تحتنا - فقل: ذهبتُ إلى القُرْبَج لأشتري الجَلْعَطِيْط، فإذا أصابتك علّة فقل: إنّي مُتَبَغْثِر، أو مُسَخَّد، أو مُدْنَف، فإذ عُوفيتَ فقل: إنّي مُطْرَغِشّ، ثم مُبِلّ، وهذه الوسادة سمّها حُسْبانة، والمتكأ: المِسْورَة، وفنجان الشّاي: الطِّرْجهارة .. إلخ. وأوصيته بتقوى الله فيما عُلِّم، ثم لبثتُ مليًّا، فقلتُ: مَهْيَمْ يا عبد الغنيّ؟ أي: ما الأمر؟ فلم أجد عنده ما استحفظته إلاّ القُربج لأنّه يغدو إليه كلّ حين، وإلاّ العرين لأنه استأسَد . ولم يكُ ذلك عن قلّة فِطنة ولكن لقلة المُساعِد. وعندي في مثل هذا طرائف وعجائب لا مكان لذكرها؛ فإنّ مثل هذه المساحات تلقي صاحبها في مضايق الإيجاز في غير مقامه، فيبقى ملومًا محسورًا.
 
السائل (؟)، فضيلة الشيخ: لفظة (العلاَّمة) هل تطلق على العالم في فنٍّ معيّنٍ كالعالم في النحو مثلاً، أم لا تطلق إلاّ على المتفنن في علومٍ كثيرة، أفيدوني جزاكم الله خيرًا.
الفتوى 26: لا أعلم تخصيص (العلاَّمة) بالمتفنن في علوم كثيرة، في عرف أهل العلم والمصنِّفين في سِيَرهم، وبحثتُ فلم أجد. وأمّا اللّغة فلا تمنع من إطلاقها على غير المتفنن، إذا كان كثير العلم، والكثرة في مثل هذه الصيغة من جهتين، إحداهما: ما تدل عليه صيغة (فعَّال) المنبئة عن المتّصف بها بأن صفة العلم صارت كالحرفة التي يتقنها الصّانع، وغلبت على كلّ أوصافه، بل على الاسم الذي سُمّي به، كما يقال: خيّاط ونجّار وتمّار وعطّار.
الثانية: الهاء الدّاخلة عليه، وفيها الدّلالة على بلوغ النهاية في العلم، وتلحق هذه الهاء صيغة (فاعل) كراوية وحافظة، وصيغة (فعال) كعلاَّمة فهّامة، ونسّابة، وصيغة (مفعال) كمِطْرابة، لكثير الطرب، و(فُعَلَة) كهُمَزة لُمَزة، وبعض صيغ أخرى. وكلّها تدل على بلوغ النهاية، فيجتمع في الصيغة الواحدة مبالغتان، وهذه المبالغة اللّغوية غير المبالغة المعروفة في بديع البلاغة؛ لأنّ المبالغة فيها فيها تزيّدٌ ومجاوزة الصّدق مدحًا أو ذمًّا؛ لهذا لا يحرّج على من قال في نحو (علاَّم الغيوب)، و(غفور شكور) صيغ مبالغة؛ لأنه أراد المعنى اللّغوي. وأمّا مبالغة البلاغة فلا يجوز إطلاقها على الله سبحانه حقيقة أو مجازًا، بل الألفاظ والجمل قاصرة في أداء المقصود إلاّ بما تطيقه عقول البشر القاصرة. وأهل الكوفة يجعلون هذه الهاء إذا كانت في صفة مدح من باب التشبيه بكلمة (داهية)، وهي الأمر العظيم المجاوز للحدّ، وإذا كانت الهاء في صفة ذمٍّ فتشبيهٌ لها بالبهيمة، التي لا تفرّق بين الحقّ والباطل، من الإبهام. وأهل البصرة يقولون - وقولهم الحقُّ هنا -: الهاء للمبالغة.
وفي هذه الهاء إثباتًا كما مرّ، وسلبًا كحائض وطالق وحامل ومرضع دقائقُ تكشف عن بعض أسرار لغة القرآن الباهرة. والحاصل: أنّ من كان كثير العلم في فنٍّ من الفنون أو في فنين أو أكثر وبلغ الغاية التي يبلغها مثله من البشر = صحّ وصفُه بما سألت عنه. والظاهر لي أن (العلاَّمة) هو من كان كثير العلم والتعليم.
هذا ما تمثّل في البال، جوابًا عن ذاك السؤال.
 
السائل (سامي الهذلي): هل كلمة (بلطجي) عربيّة؟ وما هي مادّتها؟ وهل جمعها على (بلاطجة) صحيحٌ؟
الفتوى 27: البلطجيّ، استعمالٌ تركي، بشهادة الجيم المتوسطة بين الكلمة وياء النّسب. وهو اصطلاحٌ شائعٌ لديهم في ألفاظ كثيرة، عربيّة وغير عربيّة، كعطرجيّ، وقلعجيّ، وصاغرجيّ، وخاشقجيّ. وفي (محيط المحيط): (البلطجيّ: من يسير مع العسكر لأجل تسهيل الطريق بقطع الأشجار، وإقامة المحاصن، نسبة إلى البَلْطَة، بزيادة الجيم على اصطلاح الأتراك في النسبة). وقال قبل ذلك: (البَلْطة: فاسٌ)، وفي (تكملة المعاجم): (بلطجي، بالتركية: بالته جي).
ولو قال قائلٌ: إذا حذفت الجيم وصارت اللّفظة (بَلْطِيّ) فهل هي عربيّة؟ قيل له: نعم، وحركة مادة (بلط) وتصريفاتها واستعمالها يؤكّد المعنى المتعارف عليه اليوم، فمن المادّة (البُلُط)، وهم الفارّون من العسكر، والماجنُون، ومنها: (البَلْط) وهي حديدة يخرُط بها الخرّاطون، ومنها: (البُلطة) أي: المفلس، وورد هذا في شعر امرئ القيس.
وهذه المعاني مجموعة فيمن يطلق عليهم اليوم (بلاَطجة)، وهو جمعٌ سائغٌ، كحنابلة وفلاسفة وأساكفة.
 
السائل (حسين باقر): شيخنا، نَقَد ناقدٌ (قبّحه الله) بشديد الباء، وصوّبه بالتخفيف؛ لأنّ (قبح) ثلاثي، وفي التنزيل: {مِّنَ الْمَقْبُوحِين}، فما رأيكم؟
الفتوى 28: المقبوح والمقبّح، كلاهما له وجهٌ، يقال: قبَحه الله، بتخفيف الباء، أي: طرده وأبعده، ومنه الآية: {مِّنَ الْمَقْبُوحِين} [القصص: 42]، وأشعار العرب في ذلك كثيرة. ويقال: قبّحه الله، أي: صيّره قبيحًا، ومنه قول الحُطيئة يهجو نفسه:
أرى لك وجهًا قـبَّح اللهُ شخصَه فقُـبِّح من وجهٍ وقُـبِّحَ حامِلُهْ
وفي الحديث: ((لا تضرب الوجهَ، ولا تقبِّح)).
 
السائل (محمد العجمي): هل يجوز أن يقال في وصف الأنثى (بَطَلة، شُجاعة)، وغيرها من النظائر التي لا يسمعها الناس إلّا في الرجال؟
الفتوى 29: الشجاعة والبطولة والخوف والجُبن صفاتٌ مشتركة ينعت بها الرّجال والنّساء. وفي الرجال من هو جبانٌ خوّارٌ، وفي النّساء من هي شجاعة بَطلة، وغلبة الرّجال عليهنّ في الشجاعة والإقدام بما اعتادوا عليه، ووافق طبائعهم وأجسادهم، كما قال:
كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ
وما تفاوت الرجال في الشجاعة والإقدام إلا بسبب ما كانت عليه نشأتهم وما عوّدهم عليه آباؤهم، ألا ترى إلى الرجال الذين امتهنوا صنعة النساء كيف يتطبّعون بطبائعنّ؟ وإلى بعض النساء اللاّتي يبرزن في مواطن الرجال وميادينهم اضطرارًا أو اختيارًا كيف ترى منهنّ ما لا تراه في كثير من الرّجال؟ وفي (الحاكم): أنّ النّبيّ لم يقتل في بني قريظة النساء ولا الصبيان، إلا امرأة نودي باسمها لتقتل، فضرب عنقها وهي تضحك شَجاعةً. وفي التواريخ من أخبار هند امرأة أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث، وأم عمارة وأم سُليم امرأة أبي طلحة، وتماضر الخنساء، والزّرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأسماء بنت أبي بكر وموقفها مع الحجاج ومؤازرتها لولدها عبدالله بن الزّبير ما هو معروفٌ. وقتال النساء في اليرموك كخولة بن الأزور، وأم أبان زوج عكرمة، وعزّة بنت عامر، ورملة بنت طليحة، وغيرهن مشهورٌ مدوّنٌ في كتب الأخبار، وممّا أفزع النّاسَ في عصر التتار أن نساءهم يقاتلن قتال الموت كرجالهنّ.
وإنّما احتجت إلى الاستطراد في ذكرهن لبيان أن هناك واقعًا يستوجب إسقاط ذلك الوصف عليه، فيقال للواحدة منهن: (بطلة، وشجاعة)، فلو لم ينقل شيءٌ في ذلك عن العرب لأغنانا ذلك عن البحث، فكيف والمعاجم كلّها إلاّ قليلًا منها قد نقلت هذا الوصف عن الأنثى، بل قيل عن المرأة المتشبهة بالرجال في بعض خصائصهم: (رَجُلَة)، ولم يشذّ من أصحاب المعاجم سوى ابن دُريد، فقد قال في كتابه (الجمهرة): ولا يُقال: (امرأة بطلة)، وهو باطلٌ مخالفٌ لما عليه النَقَلَةِ الأثبات كافّة ، نسأل الله الثبات
.
 
عودة
أعلى