السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا. اهـ (مختصرًا) ؟
الفتوى 75: لا علينا أن نعذِل من يعذُر المدرِّس الّذي وضع نفسه في مكانٍ ليس له، وارتقى مرتقى ليس له أهل، وفي اختلاق الأعذار له بأنه ثمرة منهج وتدريس لا يخرِّجان إلا مثله إلا ما ندر، وعذلنا - أي لومنا - له بسبب أنه أخل بالأمانة، لأنه يعلم قدره وحصيلته فآثر الحياة الدنيا وقدّم مصلحة المعيشة على مصلحة الناس، فضاع وضيّع، أو كان كفيئًا ولكنه لم يؤد الأمانة التي اؤتمن عليها وأهمل واجبه في إفهام تلاميذه وترغيبهم وتحبيب اللّغة العربية إلى أنفسهم وتزيينها في قلوبهم، وفي النوع الأول يقول الشاعر : تصـــدّر للتدريس كلُّ مهوِّس بليدٍ يسمَّى بالفقيه المـــــدرِّس وحُقَّ لأهل العلـــم أن يتمثلوا ببيت قريص شاع في كل مجلس وقد هُزِلت حتى بدا من هُزالها كُلاهـــا وحتّى سامها كلّ مفلسِ ذكر هذه الأبيات ابن الأثير في الكامل في التاريخ . وأما النوع الثاني فأقول فيه : إذا كنت تــدرِي أنَّ علــــمكَ قاصرٌ عـــن النحو والتصريف والفقه فاجلسِ ببيتك أو فـتِّـش عن العمــــل الذي يناسب مـــا تهــــــواه غير مُــــدلِّسِ نعَــــمْ وارتقبْ مالا حلالا أو اتَّجرْ أو احمل أو احرُثْ هذه الأرضَ واكنِسِ فذلك خـــــير من خيــــانتك التي سترديك في وادٍ مــن السَحت أمـــلسِ يراك بــــــه يوم التغــــابن ثُلَّــــةٌ رأوا فيك ذا عـــــــلمٍ وشيخَ تفـــرُّسِ تناديـهم والرّجـــل تَزلَـــقُ والورى بــــــه بين مَن يكـــــبو وبين منكِّـسِ ومن يتَّق المـــــولى يجدْ مخرجًا له ويَرزُقْـــــه ربّي وهـــو لم يتوجَّــــسِ وما نقله صاحب (الكامل)، صادق على كل زمان، ولعله في زماننا أكثر، وفي أزماننا وبلدنا أكفاء كرام .. وللجواب تتمة.
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا. اهـ (مختصرًا) ؟
الفتوى 76 : إن أشدّ ما يلاقيه الطالب في دراسته لقواعد النحو والصرف هو الانفصام بين ما يدرسه في فصله وبين ما يسمعه ويتخاطب به في بيته ومجتمعه، بل في مدرسته، بل في فصله، بل من أستاذ اللّغة العربية نفسه، كأنما يدرس لغة أخرى في غير موطنها، واللغة بنت المحاكاة، ولقد تنادى رجال من الغيارى بالالتزام بالفصحى في ميادين العلم وفصول الدّرس، فلم يستجب لهم عند ذاك مجيبُ، فأصبحت دراسة اللّغة وجدواها كمن يتعلّم السّباحة في الماء في كتاب يقرأه، ولم يَسْبح قطّ، ولا غمر نفسه في ماء، أو كمن يتعلم قيادة السَّـيَّارة، ولا يعرف منها إلا ركوبها.
ولو فزع المعلمون إلى تلقين الطلاب نصوص ما تيسر لهم من كلام الله وكلام رسوله، وكلام البلغاء بفصاحة وإعراب لوصلوا إلى الغاية من أقرب طريق وأخصر سبيل، ولأحبوا لغتهم حبّ غرام، فإن الوسيلة إذا كانت عسيرة ثقيلة لم يستطع أن يسلك بها صاحبها إلى غايته ومراده، وتربية هذا الحسّ في الطفل وتنشئته عليه يرقى به إلى درجة الفصاحة والبيان، ألا ترى أن الناس يتفاوتون في مسألة السلامة من الخلل في الإعراب حين التكلّم مع استوائهم في عدم معرفتهم بقواعد الإعراب؟ وكم من إنسان يعرف تفاصيل قواعد الإعراب ويحفظ فيها كلامًا ومتونًا، ولكنه خائب غائب عن السلامة في النطق، وقد ضربت مثلا لذلك منذ زمن لبيان أنّ اللّغة ما هي إلا محاكاة، وقلت: لو جمعنا عددًا من الأطفال من أبناء العجم قبل نطقهم وعزلناهم في مأوى لا يخالطهم فيه أحد من الناس، سوى نفرٍ من الفصحاء الحاذقين باللّغة، ولم يسمع أولئك الصِّبية إلا ما طرق آذانهم من كلام العرب المثبوت في أشعار الجاهليين ومنثورهم، فإنهم سوف يخرجون كما خرج أبناء العرب الأقحاح في عصر الجاهليين..إنّ عامًا واحدًا يكفي للوصول إلى الغاية بدل هذا الحشو الذي يرهق الأذهان، ويضعف الولدَان، ويطيل الزمان، ولا يتيقظ به الوسنان.. وللجواب تتمة.
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا. اهـ (مختصرًا) ؟
الفتوى 77: إنّ الفصل في فصل الدّراسة بين ما يتعلّمه الطالب في فصله وبين ما يمارسه نطقًا وسماعًا في بيته وسوقه وطريقه وسائر الميادين .. إنه فصل يولج الاختلاج في الطبيعة، وليس لذلك من دواء إلا أن يجعل ما يتعلّمه وينطق به في قاعة التّعليم هو الأصل الأصيل، وأن بعض ما يقوله ويسمعه في سوى ذلك يخرج فيه على سبيل التسمّح والمداراة للناس ولنفسه رفعًا للحرج ودفعًا للكُلفة، على أنني لم أشهد في حياتي من يأنف من الاستماع للفصحى ويعذل ملتزمها،سواء في ذلك الخاصّة والعامّة، بل إنها إذا سمعت من لسان يساقط الكلام بسلالة وسهولة، طربت لها الأسماع، وعَذُب فيها الإيقاع، وفهمها المخاطب سواء الحاضرُ في ذلك والباد، وراعي الماشية وصاحب (الآيْ بادْ)، ولن تبهم على السامع ما دامت معرفته بادية، ولتجدنّ أشدّ الناس عداوة للفصحى والفصاحة والفصحاء هم الأدْنين من ركام الثقافة الساخطة على لغة الضّاد، من كل عتلٍّ مضاد، وكلّ من أصابته لوثة الدعوة الناعقة بإطراح الفصحى والعدول إلى العامّيّة؛ لأنها في زعمهم هي الأسهل والأيسر، ولا والله ما كانت قط يومًا من الأيام هي الأيسرَ ولا الأسهل؛ إذ كيف يكون الأسهل ما لا تنضبط قواعده، ولا تجمع شوارده، ولا يضَمُّ شمله، فإنّ عامّي الصعيد لا يفقه ما يقوله عامّي المغرب، وعامّي اليمن لا يفقه ما يقوله من بَعُد عنه، وهكذا، ولا حَلَّ لهؤلاء كلهم إلا أن تكون الفصحى لسانا حاضرةً يديرونها بينهم، أولم يكفهم انّ الله أنزل هذا القرآن للناس كلهم والجنّ معهم يتلى عليهم؟ وأخبر - سبحانه - أنه يسره على اللسان فقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [سورة الدخان 58] وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) [القمر17] قال ذلك (أربع مرات).
إن الفصحى والالتزام بها هي وسيلة من وسائل اتحاد العرب واجتماع كلمتهم وهي أيضا نذير لنظيرهم من أعدائهم حين يرى دليلا صوتيا يشهد على وحدتهم، وهو نوع من الاعتصام بحبل الله، وحبله هو القرآن، والقرآن باللسان العربي .. وللجواب تتمة.
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا. اهـ (مختصرًا) ؟
الفتوى 78: إنّ السبب الأكبر الذي أحدث فجوة أو جفوة بين الطالب وما يدرسه من علوم اللّغة وغيرها هو إهمال التطبيق في التخاطب والكلام، كما تقدّم، والسّبب الكبير هو مزاحمة العلوم وإرهاق الأذهان في يوم واحد بخمس أو ستّ موادّ، وكنّا نقرأ في المرحلة الثانوية ثمانية عشر علمًا في الأسبوع، ولكأنّ كلّ علم يقول للآخر - وهو في ذهن الطالب: إما أن تدعني وحدي أو أخلي لك المكان، ومن المعلوم أن العلوم إذا تزاحمت سقطت كلها، ولابدّ أن يخرج التّوأمان حين خروجهما واحدًا بعد الآخر، فإن استبقا الباب فلن يخرجا، وسيموتا قبل موت أمّهما، وتلك الطريقة لا تكسب الرسوخ ولو مارسها مَنْ كان مِنْ أذكياء العالم، فإنّ الفوضى في طلب العلم لا تخرج إلا علمًا فوضويًّا لا تركيز فيه ولا تأصيل، ومن ينتفع بتلك الطريقة ينتفع بها في بعض العلوم؛ لكمال توجّهه إليها، ويخرج من البواقي بتحصيل قليل.. وكأن الذين وضعوا هذه الجداول والبرامج أرادوا أن يدفعوا وحشة الطالب من غائلة الملل فظنوا أن الإكثار يخرجهم من ذلك، فوقع الطالب في هذه الورطة التي يخرج فيها من الحراج بلا خراج، ومن البيت بلا سراج، وإنّ السائل ليسأل: لماذا لا تجرَّب طرق أخرى جريئة في التّدريس والمناهج؟ ولماذا تُجرى في كل بضعة أعوام مرّة أو مرّتين تجارب مشابهة تمشي على استحياء؟ لماذا - لو أردنا النّصح والنفع لأبنائنا وبناتنا - لا نكتفي في كلِّ عام بثلاثة علوم أو أربعة متشابهة يدرسها الطالب ويجتهد فيها، فيخرج آخر العام وقد هضمها، ثم يعود لدرسها في مرحلةٍ ثانية فيتقرّر لديه ما تكرّر، فإذا درسها في الجامعة درسها دراسة الراسخ الواثق بما حصله فيما خلا، وانتفع بذلك انتفاعا تامّا..ولن تمشي هذه المقررات بهذه الطريقة على استحياء، بل سوف تجري بهم في موج كالجبال، وليس للقلم فسحة لزيادة تفصيل..وللجواب تتمة.
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا. اهـ (مختصرًا) ؟
الفتوى 79 : إنّ الهمّ فيما سألت عنه لكبير، وما هو بكبير إذا جمعت الإرادات وصدقت العزائم، وروعي في المنهج والطريقة ما نعيشه اليوم في عصرنا هذا من تزاحم العلوم، وتفجر المعارف، وتوسع الثقافة.. إنّ أكبر خطأ يرتكبه المسؤول في تدريس هذا العلم هو التشديد والظنّ بأنّ الطالب لا يكثر تحصيله إلا بأن يغلظ عليه المعلّم ويشدّ وطأته عليه ويريه العين الحمراء، ويطلب منه أن يكون مثاليًّا، ولا يرضى بأن يدخل فصل الدراسة بعد دخوله، ثم يطرده إذا هو غفل عن درسه، كما يطرد ابن آوى، وربّما أمره بإخراج كرسيّه معه كي لا يذكّره به، وإذا أراد أن يعتذر قال له : اسكت ورفع صوته، فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل به حُبسة بل غُصّة، ولم يدر كيف يجيب، فمثل هذا الطالب يخرج من المرحلة التي درس فيها وهو ناقم على لغة الضاد وأستاذها، والمشاهد لذلك الموقف لابدّ أن يؤثر فيه ويُقذَفَ في نفسه طائفة من عاطفة نحو زميله ويبقى في ذهنه مشهدٌ أسود وصورة دميمة، وأما من أعجبه ذلك فسيقلّد أستاذه حين يكبر ويصنع كما صنع، وهل كان أستاذه إلا مقلّدا لأستاذه، ولانتكلّم ههنا بإطلاق ولا تعميم، فقد يكون في الواقع صورة نادرة يجد فيها الحليم نفسه قاسية أمام طالب قلّ حياؤه وقلت الحيلة في تربيته، وكلامنا عمن اتخذ ذلك منهجًا وقانونًا، وقد قال الله لنبيه: { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩].
والقصد أن الأصل في نجاح التعليم وانتفاع الطالب يعود إلى أمرين: منهج ميسّر يضمّ جوامع القواعد في تدرّج، وعلى طريقة يُحفظ بها مسائل العلم كما يحفظ رأس المال، ومعلّم خبير يطلع على الأفئدة ويفطن إلى معرفة قدرة كل طالب وملكته واستعداده، فيغرس فيها محبة هذا الفن غرسًا مثمرًا.
السائل (حافظ سعيد - مصر) أقرأ في كتب اللغة والتفسير قولهم: وهذا شاذٌّ في اللّغة، ومع هذا يُقبل، فهل الشذوذُ مقبولٌ؟
الفتوى 80: الشاذُّ في اصطلاح أهل اللّغة: ما خرج عن القياس، أي: ما خرج عن القاعدة، والقياس قسيم السماع؛ لأن كلام العرب من كثرته لا يحصر، واللهجات مختلفة، فمن النظائر ما يجمعه قياس واحد ولا يخرج منه شيء، كضم أول المضارع إذا كان ماضيه رباعيًّا، فهذا قاعدته مطّّردة ولا يشذّ منه شيء، ومن النظائر ما يجري عليه القياس إلاّ أنه لا يطّرد، فيسمع عن العرب ما يخالفه فيكون شاذًّا، أي : خارجًا عن القاعدة، ويكون الشاذُّ على أقسام بعد ذلك، فمنه ما يكون بزيادة وجه في الكلمة مخالف لما قيس عليه كـ(حسِب يحسِب) بكسر السين، والقياس الفتح، ومنه ما يكون مستقلاً بذاته، وليس فيه إلاّ وجه واحد، كـ(استحوذ) قياسه: استحاذ، ولكنه لم يُسمع إلاَّ بالواو، ويُروى عن عمر أن قرأ (استحاذ)، ولو لم يُسمع لجرى على القاعدة، وقد يكون الشاذ هو الأفصح، أو الأشهر، أو هو المتعيّن، فهو غير الشاذ في اصطلاح أهل الحديث؛ لأنه من أقسام الضعيف، وأمّا شاذُّ اللّغةِ فصحيحٌ كما تقدّم؛ لأنه يأوي إلى ركن شديد، هو السماع، والسماع هو الأصل.
وفي اصطلاحهم ما يُقال له: النادر، والضعيف، والفاشي. فالنادر: القليل مطلقًا سواء قِيس أم لم يُقس، والضعيف: ما ضعَّفه بعض علماء اللّغة، والفاشي: ما كان كثيرًا.. ولبعضهم نظم في ذلك.
يقول فيه:
تفسير مــا شذَّ ومـــا فشا ومَا
نَدَرَ مَعْ مــا بالضَّعيف وُسِمــا
فذو الشذوذِ ما عن القياس قد
حــاد قليــلاً وكثيرًا مـــا ورد
والنـــادر القليل قيس أو لَــمِ
يُقَسْ، ومــا فشا بعكســه نُمِي
آخرهــا الضعيفُ وهـو كلّ مَا
ثبوتـُــه فيــه نـــزاع العلمـــا
والأولى أن يزاد نوع آخر وهو القليل، ويفرَّق بينه وبين النادر، فيقال: النادر: ما قلّ وروده جدًّا، والقليل ما كان دونَ ذلك، فإذا كان اللّفظ لم يرد إلاَّ مرّة واحدة أو مرتين فهو نادر، وما ورد مرّات فهو القليل، وكلّ من القليل والنادر لا يُقاس عليه ويحفظ يا حافظ.
السائل (حافظ سعيد - مصر ) هل أسماء سور القرآن مؤنثة أم مذكرة ؟ لأني قرأت أنها تذكر وتؤنث.
الفتوى 81: لا أعرف من ذكر جواز التذكير، ولم أجدْ فيما تيسّر لي من مصادر البحث، وكلام الناس ماضٍ على التأنيث المفرد؛ لأن العدد مضاف إلى (سورة) ولو لم تكن مذكورة، تقول: قرأت "إبراهيم" وأتممتها، وهذه (آل عمران) وتلك سورة (الدخان) وسورتا (الزمر وغافر). ولا يستقيم المعنى بلا عوج إلا على هذا، ألا ترى أنك لو قلت: قرأت (الليل) كله لم يستقم الكلام، ولذهب الذهن إلى معنى آخر، وهو أنك قرأت القرآن أو غيره اللّيل كله، ولهذا كان كثير من المتقدمين ينطق بها على الحكاية كما جاءت في السورة، فيقول: قرأت (والليل) وحفظت (والشمس) أو سورة (والشمس) وتلوت (تنزيلُ) السجدة، وهكذا، ومنهم من يقول في هذا ونحوه: قرأت تنزيلا السجدة، وأحب تلاوة تنزيل السجدة، كما ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري في كتابه (المذكر والمؤنث) ولو روعي معنى اسم السورة لقيل: حفظت (بني إسرائيل) كلّهم، وتلوت (النساء) كلّهن، وهذا غير مستقيم.
ولعلك تسأل فتقول: إذا كان المضاف وهو (سورة) محذوف وبقي المضاف إليه، وهو المذكر فإن المراعي هو المذكور لا المحذوف، قيل: هذا سؤال حسن، والجواب عليه من وجهين:
أحدهما: أنّ المضاف المحذوف وهو (سورة) كالمذكور على لسان المتكلم فتقديره معلوم في الأذهان، والفرق بينه وبين قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [يوسف: ٨٢] كبير؛ فإنه يمكن فيها تناسي المضاف ويكون السؤال للقرية كلها .. يوضحه الوجه الثاني: وهو أنّ هذه الأسماء أسماء السّور هي أعلام على مسمّيات، والمسميات هي السور، والسور مؤنثة، فتؤنث كما تؤنث أسماء البلدان والقبائل، وكما تؤنث (ثمود ومصر).
السائل (الأستاذ المساعد: محمد حسين علي العاني - بغداد) هل بالإمكان إيقافنا على الضوابط المعتمدة لمعرفة القياس اللغوي وكذلك السماع اللغوي، ولاسيما أنّ هناك آراء كثيرة قيلت حول هذه المسألة من حيث القلة والكثرة فيما يتعلّق بالقياس اللغوي، والحدود الزمنيّة لقبول السماع ؟
الفتوى 82 : القياس في اللغة العربية ليس كالقياس في الشريعة، وهو واسع سعة الدنيا، ولولاه لضاق على أمة الضّاد لغتهم، وحصرت صدورهم أن يتكلموا بما لم يسمعوا، ولقضي عليها وفنيت كما فنيت ألسنٌ كثيرة، ولولا القياس الذي يتمدَّد بعبقرية اللّغة وعبقرية العقل، ولولا قدر الله الكونيُّ الذي يصاحبه القدر الشرعيُّ الدينيُّ .. لولا ذلك كلّه لما بقي للنطق العربيّ ذكر، ولما كان هذا المجمع، ولأرسلت رسالتك بلسان أعجميًّ، فإنه ما من لغة من لغات العالم تحيا يوم تحيا إلاّ إذا كانت تعبّر عما ورثوا وعمّا يشاهدونه مما لم يشاهده من سبقهم من أسلافهم، وعمّا ابتكرته عقولهم وأملته على ألسنتهم، ولا يكون ذلك إلا بالاشتقاق والقياس، وإلا فكيف يخاطب بعضهم بعضا في مسمّيات لا أسماء لها ؟ وقد صنف شيخ الأزهر في زمانه وعضو مجمع القاهرة الشيخ محمد الخضر حسين كتاباً سماه "القياس في اللغة العربية" أحيلك وأحيل الباحثين إليه، طبع مستقلاً، كما طبع مع الأعمال الكاملة، في الجزء السادس منها، كما كتب في ذلك أيضاً عضو مجمع القاهرة الأستاذ الدكتور محمد حسن عبدالعزيز.. وأكتفي بالإحالة إليهما .
وفي ذهني أنّ أهم ضوابط القياس ضابطان، أحدهما : أن يكون اللّفظ المقيس عربيَّ المادة صحيحَ الأصل، الثاني : أن يكون على وزن من أوزان العرب .. وللعلامة أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهريِّ كتاب يسمى "العقل اللّغوي " عرض لشيء من هذا، وكلٌّ من الدكتور محمد حسن، والعلامة ابن عقيل عضو بمجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، فهما أجدر أن يحال إليهما سؤالك الكبير .
السائل (الشافعي أحمد): التيسيرُ في العلم أمرٌ نسبيٌّ، وقد رأيتُ أنّكم تكثرون من الكتابة عن التيسير، خاصة في علوم الآلة: كالنحو، والصرف، والبلاغة، فهل لذلك حدٌّ معينٌ؟
الفتوى 83: التيسير في كل شيء بما يريده الله تعالى ويحبه ويرضاه، وقلوب بني آدم إليه أقرب، وهو بها أليق وأوفق وأرفق، والآيات في ذلك كثيرة، ويكفينا منها قوله جل شأنه: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: ١٨٥]. والأحاديث فيه وفيرة، ونقنع منها بقول النبي: "يسّروا ولا تعسّروا". وويل لمن شق على أمّة محمد، أن تصيبه دعوة محمد، فيصبح من الخاسرين، والشاق على الناس مشاقق لله ورسوله، منشق عن فطرته الأولى؛ فإنَّ بين الفطرة السّوية والأخذ بالتيسير شَبَهًا كليًّا، والمراد بالتيسير في الشريعة الرفق بالنفوس والرحمة بها، وتوسعة العذر فيمن قصّر لعذر، والإطماع في رحمة الله لمن أقبل، وأن لا يقنّط منها من أدبر، والتخفيف على كل ضعيف.. ومن فهم هذه المسألة وعمل بمعناها رفَق الله به وفتحت له أبوابٌ في مقاصد الشريعة، وكُشفت عنه الحجب.. والتيسير الذي أجنح إليه هو الأصل الذي مضى عليه الأوائل من سلفنا الطّيّب، والكلام الذي دوَّنه من بعدهم نقلاً عمّن سلف، والذي دوَّنوه تأصيلاً وتقعيدًا هو مع سهولته أجمع وأوعب وأنفع، ومن ذلك مصنّفات اللّغة لاسيّما كتب النّحو، فإنّ الذي وسَّعه الخلاف، واحتاج علماء النّحو أن يتأيّدوا لصحّة مذاهبهم بما قاله الشعراء فأكثروا من ذلك، وفي تلك الأشعار ما ليس بصحيح.. والتيسير الذي ندعوا إليه هو في حقيقتين اثنتين، أولاهما : ترك ما لا حاجة إليه، وإقصاء ما كانت الحاجة إليه قليلة. الثانية: عرض العلوم ببيان سهل على ما كان عليه السابقون قبل تكلفات المتأخرين المشوبة بنَفَسِ المتكلمين، ولا نعني بالتيسير ما يفعله بعض المصنفين في عصرنا من إدخال الرسوم وتكثير الألوان، فإن المبالغة في التيسير تضعف الهمم، وتحدّ من حدّة الأذهان .. والله المستعان.
السائل (عبدالرحمن ...): كثيرًا ما نسمع مَن يقول: كلمته حوالى عشر دقائق، بفتح اللام، فهل هذا النطق صحيح؟
الفتوى 84: لفظ "حَولَ" من ظروف الأمكنة يُقال -كما في تاج العروس-: "قعد حوالَيه، بفتح اللام وكسر الهاء، مثنّى حَوال، وقعد حوله وحوليه وحوالَه كسحاب، وقعد أحواله، على أنه جمع حول بمعنى واحد، قال الصاغاني: ولا تقل: حوالِيه، بكسر اللام". ولا أجد تخريجًا لما سألت عنه إلاّ أن يكون استعمل على أنه مفرد حَوالَ، كسحاب، ونطقت به الألسنة على وجهه منصوبًا على الظرفية، واستقبلته الأسماع كذلك إلى أن تطوّر النطق بها باللام مشبعة بناء على توهّمه بالألف مثلما سألت عنه.
ولا يحسن تخريج ذلك على أنه من باب إبدال الياء ألفًا، كما يبدل بعض العرب الياء ألفًا في بعض الأفعال كـ( بقي) يقولون فيه: بقى.
وهناك مسألة أخرى لم تسأل عنها، ولابدّ من ذكرها، وهي أنّ هذه اللّفظة ظرف مكان، وقد خطأها بعض اللّغويين المعاصرين إذا استعملت على غير وجهها، وهو الشيخ عبدالقادر المغربي، وقال: الصواب أن يقال في نحو المثال الذي ذكرت "له في ذمتي نحوُ، أو زهاءُ ألف قرش" ولا يُقال: حوالي ألف قرش؛ لأن "حوالي" ظرف يطلق على جهات الشيء المحيطة به، (فيُقال: اضطربت الأمواج حول السفينة وحواليها).
والمثال الذي ذكرته يخفف الاعتراض عليه أنه منصوب هنا على الظرفية، وتوجيهه مقبول، أمّا في نحو اجتمع حوالي ثلاثين طالبًا، فالتوجيه فيه عسر جدًّا، لأن "حوالي" ظرف غير متصرّف، ولا يصح أن يكون فاعلاً، ولا بد أن يكون ظرفًا منصوبًا، والفاعل لا يكون كذلك، ومع هذا فقد أجازها مجمع القاهرة بناء على رأي جمهورهم وجعلوا الفاعل محذوفًا مقدّرًا، أو ضميرًا، وفي ذلك خلاف معروف بين أهل العلم تجده في الكلام عن ظرف المكان، لا يتسع له هذا المكان.
السائل: (أبو طارق زياد خياط) ما لنا نقولُ في وصف المخلوق الذي بلغ من العلم شأوًا قصيًّا: فلانٌ علّامةٌ، ونقول في خالقه الذي أحاط بكل شيء علمًا: علّام؟ ومعلومٌ أنّ لفظة (العلّامة) أصلها (العلّام)، وزيدت إليها الهاء للمبالغة؛ فصارت لفظة (العلّامة) أعظم دلالة على اتّساع العلم من (العلّام)، فكيف يكون ما هو للمخلوق أوسع ممّا هو للخالق؟
الفتوى85: هذا سؤال دقيق، يلمّح إلى فطنة السّائل، وأسأل الله أن يهديني إلى سبيل الجواب، على ما هو موافق للصّواب.
إن كلًّا من لفظي "علاّم" و"علاّمة" يدلاّن على المبالغة، والأصل في ذلك علاَّم، على وزن "فعّال"، وبين علماء اللّغة اختلاف في سبب دلالته على المبالغة، فمنهم مَن يقول: لأنه كُرَّر فعله، فمن تكرر منه العلم كثيرًا قيل له: علاَّم، ومنهم مَن يقول: لأنه صار له كالحرفة، كما يُقال لمحترف النجارة: نجّار، وللحدادة: حدّاد. والظاهر: أن السببين متلازمان، فالحرفة لا تكون إلاّ عن تكرار، وأضرب لذلك مثلاً بحديث الحث على الصدق المخرَّج في الصحيح، وفيه: "وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا" أي: لم يزل يكرر الكذب حتى صار صفة له وحرفة.
وهذه المبالغة التي نطلقها في هذا الوزن وغيره من أوزان المبالغة هي غير المبالغة المعروفة في البلاغة التي يكون فيها شيء من التَّزيّد.
ولما كثر من يوصف بالعلم، وأطلق عليه ذلك الوصف أراد العرب أن يميّزوا من بلغ النهاية في العلم فزادوا هاء التأنيث فقالوا: علاّمة، كما قالوا: فهّامة، ونسَّابة، فاجتمع فيه مبالغتان، صيغة "فعّال" والهاء التي لحقته للتأنيث، وكالحافظة، والرواية، والنابغة، هاء التأنيث فيه للمبالغة، ولكن يشتمل على مبالغة واحدة "وعلاّمة " فيه مبالغتان، وعلى هذا بني سؤالك عن إطلاق "علاّم" على الله دون "علاّمة"، وهو أقوى منه دلالة.
وقد بحثت فوجدت أبا الهلال العسكري يقول في كتابه الفروق اللّغوية: "الْفرق بَين علاّم وعلاّمة أَن الصّفة بعلاّم صفة مُبَالغَة، وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ على فعّال، وعلاَّمة وَإِن كان للْمُبَالَغَة فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَمعنى دُخُول الْهَاء فِيهِ أَنه يقوم مقَام جمَاعَة عُلَمَاء، فَدخلت الْهَاء فِيهِ لتأنيث الْجَمَاعَة الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا يُقَال الله علاّم وَلَا يُقَال لَهُ عَلامَة، كَمَا يُقَال إِنَّه يقوم مقَام جمَاعَة عُلَمَاء، فَأَما قَول مَن قَالَ إِن الْهَاء دخلت فِي ذَلِك على معنى الداهية فَإِن ابْن درستوية ردَّه وَاحْتج فِيهِ بِأَن الداهية لم تُوضَع للمدح خَاصَّة، وَلَكِن يُقَال فِي الذَّم والمدح، وَفِي الْمَكْرُوه والمحبوب. قَالَ وَفِي الْقُرْآن (والساعة أدهى وَأمر)، وَقَالَ الشَّاعِر من الطَّوِيل (لكل أخي عَيْش وَإِن طَال عمره ... دُوَيْهَّيةٌ تصفرّ مِنْهَا الأنامل)
يَعْنِي الْمَوْت، وَلَو كَانَت الداهية صفة مدح خَاصَّة لَكَانَ مَا قَالَه مُسْتَقِيمًا، وَكَذَلِكَ قَوْله لحانة شبهوه بالبهيمة غلط، لأن الْبَهِيمَة لَا تلحن، وَإِنَّما يلحن مَن يتَكَلَّم، والداهية اسْم من أَسمَاء الفاعلين الْجَارِيَة على الْفِعْل، يُقَال: دهى فَهُوَ داهٍ، وللأنثى داهية، ثمَّ يلْحقهَا التَّأْنِيث على مَا يُرَاد بِهِ للْمُبَالَغَة فيستوي فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى مثل الرِّوَايَة، وَيجوز أَن يُقَال: إِن الرجل سمّي داهية كَأَنَّهُ يقوم مقَام جمَاعَة دَهاة، وَرِوَايَة كَأَنَّهُ يقوم مقام جمَاعَة رُوَاة على مَا ذكر قبل وَهُوَ قَول الْمبرد". وللجواب تتمة.
السائل: (أبو طارق زياد خياط) ما لنا نقولُ في وصف المخلوق الذي بلغ من العلم شأوًا قصيًّا: فلانٌ علّامةٌ ، ونقول في خالقه الذي أحاط بكل شيء علمًا: علّام؟ ومعلومٌ أنّ لفظة (العلّامة) أصلها (العلّام)، وزيدت إليها الهاء للمبالغة؛ فصارت لفظة (العلّامة) أعظم دلالة على اتّساع العلم من (العلّام)، فكيف يكون ما هو للمخلوق أوسع ممّا هو للخالق؟
الفتوى 86: ما ذُكر في شق الجواب الأول الذي نشر في الأسبوع الماضي هو ما نقله أبو هلال العسكري، ولم يكن ما نقله ببالي، وأذكر لك ما وصل إليه تأمّلي قبل الاطّلاع على هذا الكلام، فقد توارد على ذهني أجوبة، منها: أنّ الموصوف "فعّال" يحتمل أنه بلغ الغاية فيما وصف به، ويحتمل أنه لم يبلغ، فاحتاجوا أن يميّزوا مَن بلغ الغاية بهاء التأنيث، وعلاَّم الغيب الذي أحاط بكل شيء علمًا لا يحتاج فيه إلى ذلك، وعلمه بكل شيء سابق، ويقوّي ذلك، أن الهاء لا تدخل على صفة من صفات المولى سبحانه.
وتمثّل في خَلَدي وجه آخر أعمق دلالة، وهو أنهم أرادوا بإدخال هاء التأنيث التي للمبالغة بيان أن الموصوف بذلك بلغ النهاية في العلم، وقعد له قعود الواحدة من القواعد، وهكذا كل الأوصاف المختومة بالتاء، وليس له ما يشغل غيره من الرجال من القتل والقتال، والصّفق بالأسواق، ولا عليك أن لا تركن إلى جوابي وتأخذ بما قاله الأولون، فإنما قلته أشبه بالخاطرة، واعلم أنه لم يرد في القرآن لفظ "علاَّم" إخبارًا عن الله تعالى إلاّ مقرونًا بالغيوب أو الغيب، في بعض القراءات المتواترة.
والسؤال منبعث من قاعدة معروفة جرى عليها السلف والأئمة، وهي أن كلَّ كمال يُثنى به على المخلوق فالخالق أولى به، انطلاقًا من قول الله سبحانه "ولله المثل الأعلى" غير أن الألفاظ التي يثنى بها على الخالق منها ما هو أسماء، وهذه مبنية على التوقيف، فما ورد في الكتاب والسنة أثبتناه، ومنها ما هو وصف، وهذا أيضًا يكون بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما دلت عليه أسماؤه، تعالى ذكره، فنقول في وصفه: هو ستّار وساتر ولا نطلقه اسمًا، لأن الوارد في ذلك "ستّير" وحسب، ومنها ما هو إخبار بمقتضى أسمائه وصفاته. وغير خاف على السائل وغيره من أولي الألباب، أنّ "علاّمة" لا يصح إطلاقه اسمًا، لأنه لم يرد، ولا يصح وصفًا، لما ذكره المبرَّد وغيره، ولأنّ هاء التأنيث لا تدخل على أسمائه سبحانه، والله أعلم.
السّائل :( عَمرو - مصر) يعدّ اللّغويوّن الخطّ العربيّ من علوم اللّغة العربية فما علاقته باللّغة العربية؟ وكيف يخدمها ؟ وكيف أستطيع أن أخدم اللّغة من خلال معرفتي به؟
الفتوى 87: سؤال ينبئ عن فطنةٍ غابت معها فطنة لا تغيب عن مثلك أيّها السَّائل؛ فإنّ كل لغة من لغات العالم قائمة أصولها على آلتين (اللّسان والقلم) حتى قيل: القلم أحد اللّسانين، وخَلقُ القلم كان قبل الإنسان، بل هو من أول المخلوقات، بل قيل: هو أوّلها، في خلاف معروف بين أهل العلم، هل كان خلقه قبل العرش أو هو بعده؟ ولكنَّ للخط العربيِّ شأنًا آخر، ليس كنظيره في سائر اللّغات، فقد تفنّن فيه الكاتبون حتى بلغوا به من الجمال آيتَه، ومن الكمال غايته، وما كان ذلك الجمال والكمال إلا من بركة الكتاب الحكيم الذي تنافس فيه من وهبهم الله جمال الخط فكتبوا بأيمانهم ما تبتهج له النفس وتلذّ العين.
وما من كاتبٍ معتبرٍ إلا وله دراية باللّغة العربية وقوانينها التي يحتاج إليها لرسمه وضبطه وإعرابه،وأكثر الخطاطين في هذه الأزمان مقصّرون في هذه المعرفة الضروريّة، وكلّ راقم في قرطاس كلاما على قانون العربية فإنما يقدم لوحة حسنٍ وجمالٍ تزرع محبة العربية في قلوب الناس فيقولون: سبحان من علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم .. لقد صنع الخطّ العربي في بلاد الترك- وفيهم مشاهير الخطاطين- ما لم تصنعه جامعات ولامجامع، فالخط العربي بهيئته وشكله دالّ على لغة الضاد وداعٍ إليها بجمال وجهه، وسلطان جماله، فكيف يخفى عليك أن لا تستطيع أن تخدم لغة الضاد بهذه الصنعة الصامتة الناطقة، ألم تعلم أنّ من طرق تعليم اللّغة العربية -واللّغة العربية معربةٌ في أكثر ألفاظها- أن يتعلمها المتعلم برسم أحرفها وشكل ما أشكل منها؟ فإنه إن تعلم ذلك عرف وجوه الإعراب وأدركها بأسرع الطرق وأيسره، هذا إذا كان يُعنى بأسباب مواضع الشكل والضبط، وأما إذا كان مقلّدا فالله يخلف علينا وعليه، فما كان التقليد في علم إلا شانه، ولا في ذهن إلا خانه، ولا في حضارة إلا أخّرها، ولا أمةٍ إلا سخّرها.
السائل (أبو زيد): كلمة «نيف» كلمة شائعة، وأسمعُ مَن يشدّدها، مع أنّي سمعتُ أنه خطأ، وأرجو من فضيلة الشيخ أن يبيّنَ ذلكَ، ويشرحَ معناها في ملحق الرسالة؟
الفتوى 88: كلمة «نيّف» على وزن «صيّب»، كلمة شائعة كما ذكرت، والكلام فيها من وجوه.. أربعة:
أحدها: ضبطها، لا خلاف بين علماء اللّغة أن الأصل فيها تشديد الياء المكسورة قبلها نون مفتوحة، وهو ما ظننت أنه خطأ، ولعلّ وهْمَك سرى إلى التخفيف الذي قال عنه الأزهري: إنه رديء، وقال الأصمعي: لحن عند الفصحاء.
الثاني: معناها، وهو الزيادة، وتستعمل في غير العدد أيضًا. فيُقال: ضع النيِّف في موضعه، أي: ضع الفضل في موضعه، والفضل معناه الزيادة.
ومن معانيها: الإحسان، وهو مأخوذ من الزيادة أيضًا كما ذكر ذلك الزبيديّ في «التاج».
الثالث: موضعها: أمّا موضعها في العدد؛ فإنها لا تكون إلاَّ بعد تمام العقد في العدد، يقال عشرة ونيّف، وخمسون ونيّف، ومئة ونيِّف، ومئة وعشرون ونيِّف، وألفٌ ونيِّف، وهكذا، ولا يصح أن يقال: لديّ خمسة وعشرون كتابًا ونيِّف.
الرابع: إعرابها، وهو بحسب ما عطفت عليه، فحكمها حكم المعطوف عليه، نقول: عندي عشرةٌ ونيِّفٌ، ورأيت عشرين رجلاً ونيّفًا، وبعته بعشرين ونيِّفٍ.
وقد نظم أحد العلماء ما يتعلّق بضبط نونه ويائه، فقال:
النّيْفُ بانفتــــاح نونه بــدا
مـع انكسـار يائه مشـــــدّدا
وقـد يجي مخفّـــفًا كَهَـيْنِ
وذاك في»الصحاح» دون مينِ
أي دون شك.
السائل (أحمد سالم) : سمعتك في محاضرة تقول : اليمّ لم يرد بمعنى البحر في اللّغة، وانّ فرعون لم يغرق في البحر الأحمر، وهذا لا يُعرف لأحد من المفسرين ؟
الفتوى 89: قلت في الجزء الأول من الجواب: إنني لا أقول: إن اليمّ لا يطلق على البحر في اللّغة، بل يطلق عليه وعلى النّهر وعلى لجَّة البحر، وذكرت وجوهًا ستة في أنه لا دليل –عند التحقيق- على الجزم بأن الغرق كان في البحر، وبقي في هذا إشكالات أوردها وأجيب عنها، فإنه لا يتم التحقيق إلا بالتخلية والتحلية معًا. ومما يمكن إيراده –هنا- أن الله سبحانه قال : (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة: ٥٠] فأخبر أنه أنجاهم وأغرق عدوّهم وهم ينظرون!! والجواب: أن للمفسرين في معنى (تَنْظُرُونَ) أقوالا، منها: أنّ المراد بالنظر نظر بعضهم إلى بعض، ومنها: أن النظر يعود إلى الإنجاء وحده، ومنها: أن المعنى: وأنتم بحال من ينظر لو نظر، ومنها: أنهم لم يروهم حتى أخرجوا إليهم فنظروا إليهم، ومنها: أن معناه: وأنتم تنظرون وتتأملون كيف يفعل فرعون وجنوده، فهو بمعنى: تنتظرون. هذا ما تحصّل لي من أقوال أهل التفسير في الآية مع القول بأن معناه: ينظرون إلى آل فرعون وهم يغرقون.. فتبّين مما تقدم أنّ للجملة معاني أخرى وفيها ما هو أرجح من دليل الاعتراض، ولو سُلّم به أيضا لما كان فيه دليل متيقّن، لأنّ نظر من كان على ساحل البحر إلى من كان في الجهة الأخرى ممكنة إذا كانت قريبة منخفضة، ولا يلزم من النظر أن يكون مسلّطا على ذوات المغرقين، بل من رأى هيئة ماء غامرة في مكان فيه أحد من الناس فقد رأى مغرقين، لهذا كان من غير البعيد أن يكون الماء المجتمع كالأطواد العظيمة هو الذي فاض عليهم واجتمع منه يـمٌّ، ونحن لا نعلم كيف كان مكان البحر ولا ما حوله.. وقد يشكل على بعض الناس قول الله تعالى (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [الدخان: ٢٤] ومعناه : اتركه منفرجًا أو ساكنًا أو يابسًا، وقد يفهم أنّه أمر بتركه ليسير فيه فرعون وجنده فيغرقوا، ولكنه غير لازم، بل هذا مما يؤيد ما قلناه سابقا من احتمال غرقهم بالماء المنفرق من البحر كالجبال العظيمة، فلما أراد موسى أن يضرب بعصاه البحر ليعود البحر كما كان أمر بتركه لتفيض أمواجه التي تشبه الجبال العظام حوله، وليس من شأن الماء إذا ارتفع أن يقف . ومع هذا كله لا أجزم بشيء مما قلت . إنْ هو إلا فهم أُراه هو الصّواب، والله أعلم .
السائل (فيصل عبدالله): هل من الكلام الفصيح ما يستوي فيه الوجهان في باب الاشتغال؟
الفتوى90: هذا سؤال دقيق، حقيق بإجابة طُولى، ولكنّي سأوجزها في هذه الفتيا حذرًا من التفريق والتشتيت.. ووجه دقته: أن التخيير في الاشتغال بين النصب والرفع شائع لدى النحويين، والتخيير فيه أحد الأحكام الخمسة التي اجتمعت في هذا الباب وهي (وجوب النصب، ومنعه، والكراهة، والاستحباب، والإباحة) هذا بحسب القانون النحويّ الذي يغفل عن معانٍ أخرى يلحظها أهل البيان، بما يقضي أنه لا بدّ من رجحان أحد الوجهين، وأن التخيير لا موضع له في الكلام البليغ، لا سيما في القرآن الكريم، وأضرب على ذلك مثالين متقاربين في موضعهما في القرآن، كلاهما في أواخر سورة القمر، أمّا أحدهما فمنصوب، وهو قوله سبحانه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وتقديره عند النحاة: خلقنا كلَّ شيء خلقناه، وقواعد النحو تجيز الرّفع أيضًا، ولكن لم يقرأه أحد من العشرة بالرفع، ووجه ذلك: أن المعنى على النصب: أنّ كل شيء هو مخلوق لله تعالى، سواء في ذلك الخير والشر، لأن المعنى: خلقنا كلَّ شيء، فجملة «خلقناه» توكيد وتفسير لـ(خلقنا) السابقة، وأمّا الرفع فإنّ معناه كذلك غير أنه يزيد احتمال معنى آخر، وهو: أنّ كل شيء خلقه الله ثابت بقدر، وما لم يخلقه ليس كذلك، فيلزم أن يكون ما لم يخلقه الله تعالى لا بقَدر، فاحتجَّ أهل السنة بالآية في الرّد على من ابتدع القولَ بأن للشر خالقًا آخر، وأنّ الله خالق الخير والشر، ولا يمكن أن يكون ما قالوه على قراءة النصب. وهذه الآية يتنازعها القدرية، وأهل السنة، فأهل السنة يقرأونها بالنصب تبعًا لقراء القراءات العشر، والقدرية يقرأونها بالرفع.
وأمّا الثاني فهو في قوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)، لم يقرأ أحد بالنصب، مع جوازه نحوًا، لأن معناه -حينئذٍ-: فعلوا كلَّ شيء، وهم لم يفعلوا كلَّ شيءٍ، بل معناه: كلّ ما فعلوه هو ثابت مكتوبٌ في الزّبر، فهذا هو الفيصل في هذه المسألة.
السائل (سمير سعيد): قرأتُ عن كتاب «تكملة المعاجم» في إحدى فتاويك، وأحبُّ أن تتحفني بنبذة عنه، وعن مؤلّفه، ولك أجمل الشكر.
الفتوى(91): كتاب «تكملة المعاجم»، لمؤلِّفه الهولندي «رينهارتدوزي» مستشرق، عارف باللغات السامية، مع معرفته بعدد من اللغات الأوروبية، وله كتب ومقالات وتحقيقات كثيرة لاسيما في التاريخ واللغة، وكتابه «تكملة المعاجم» من أعظم تواليفه إن لم يكن أعظمها، طُبع في العراق عام 1398هـ، والذي نقله إلى العربية د. محمد سليم النّعيمي، وهذا الكتاب الجليل لا يخلو من نقص وعيب، كما قال مؤلّفه عنه، ولم يكن صاحبه من المتضلعين في اللغة، ولم يدّع أيضًا أنّ ما جمعه صحيح، بل جمع في كتابه ما هبَّ ودبَّ ودرج من الألفاظ والمصطلحات والمفردات العربية التي جمعها من سبقه من المستشرقين، ومن طاف على القبائل في الجزيرة، وعمد إلى كثير من الكتب المصنّفة في القرون الوسطى من كتب التواريخ والأدب والأخبار والطب والتراجم والقصص والأمثال، فجمع من ألفاظها التي لم يجدها في معاجم اللّغة ما جَمع، وقد يرتقي في الاختيار إلى أن يبلغ كتب أبي حيان التوحيدي، وقد ينزل إلى كتاب «ألف ليلة وليلة» إلى ما دون ذلك من الصحف والمجلات التي أدركها، ولم يدخل في معجمه ما يوقن أنه أعجمي إلاّ ما عُرَّب، وصفوة القول: إن هذا كتاب جليل جامع أَثْرى المكتبة العربية، وقدم لها جهدًا ينوء بالعصبة أولي القوة، وأؤكد القول بأنه ليس مصدرًا يوثق به، ولا يعتمد عليه أول مرّة، ولكن الحاذق بالعربية يحتاج إليه، فما وجد فيه من لفظ نظر فيه، وبحث في صحته وأصله، فإن كان عربيًّا صيغةً ومادةً أثبته، وإن كان عربيَّ المادّة وحسب، أقامه على وزن من أوزان العرب، وإن كان معرّبًا بيَّنه، وإن كان أعجميًّا نفاه، وإن كان قابلاً لإدراجه في لسان العرب وضحه، وإن كان غير ذلك طرحه، وإن كان غامضًا شرحه.. والله يشرح صدرنا، وصدركم، وصدر شباب الزمان إلى حذق لغة كتاب الواحد الديّان.
[align=justify]
السائل (هاشم عبدالرحمن): لماذا لا ندرِّس العلوم كعلم الطب والهندسة وغيرهما باللّغة العربية؟
الفتوى (92): اختصرت سؤالك يا أخي هاشم مراعاة للمقام، والأجدر بالإجابة عنه ذوو التّربية والتعليم، ولكني أذكر رأيي وأعرضه، وهو رأي كثير غيري: وتقريبًا للفتيا أعرض السؤال على نحو آخر: هل يمكن أن ندرّس هذه العلوم باللغة العربية؟ فإن أمكن ذلك، فهل هو الأولى؟ أم الأولى أن ندرِّسها بلغتها المشتملة على مصطلحات أعجمية؟ الجواب: مسألة الإمكان لا جدال فيه، والدنيا زاخرة تشهد على ذلك، فإن أمة الصين واليابان وكثيرًا من دول أوروبا تدرّس علومها بلغتها، والأقرب من ذلك سوريا الجريحة تدرّس هذه العلوم باللغة العربية، ونجحت في ذلك، وفاقت.. وأمّا ما هو الأنفع والأيسر للطالب؟ فلا أشك أنّ الأولى أن يدرس كلُّ قوم كلَّ علم بلسان قومهم لا بلسان غيرهم، وبرهان ذلك أنّ الطالب العربي حين يدرس علم الطب مثلاً باللغة الإنجليزيَّة يقع في عناءين، أحدهما: اشتغاله بمعاني الألفاظ، ودراستها، لا سيما إذا كانت معرفته باللغة الإنجليزية ضعيفة، والعناء الثاني: تحصيله العلمي، ويكبرُ هذا العناء بسبب انصراف قدر كبير من الجهد في تفهم معاني الألفاظ وفوات كثير من المعاني عليه عند قراءته وسماعه من أستاذه، ولكنه حين يتعلّم الطب أو غيره بلغته يريحه ذلك من العناء الأول، ويخفف عنه العناء الثاني لانصرافه بكليته إلى التحصيل العلمي، وممّا يزيد ذلك حسنًا أن ذلك ممّا يرفع من شأن العربية، ويعلي مكانتها، وينشر عبيرها في الآفاق، فأمّا ما يكون من مصطلحات علمية بلغة أخرى فلا بأس من بقائها على ما هي عليه، وتنطق بلسان أصحابها مع شرحها وبيانها، إن لم تكن عرَّبت ، وربنا المستعان.
[/align]
السائل(سليمان حسان): أقرأ في كتب الطّب والأعشاب أسماء كثيرة للنبات، كالعرفج والشبرم والكرفس وغيرها ، ولا أدري هل هي أسماء عربية أم لا ، وسؤالي : كيف أعرف ما هو عربيّ ؟ وهل تدلني على معجم يذكر أصول هذه الأسماء؟
الفتوى(93): لا تبتئس بما فعلتُ من اختصار سؤالك المطوّل، واعلم أنّ كلَّ نبت زرعته العرب أو عرفته في أرضها له اسم عربي، ولكن لما جهل الناس أسماء ما نسي اسمه سمّاه من بعدهم باسم تلقَّفوه من غيرهم أو وضعوه من عند أنفسهم، وليس ذلك بضائر، وكثير من النبات الذي لا يحتاج إليه الناس لأغذيتهم ، أو أدويتهم ،أو علف دوابَّهم ،أو تطيبهم، أو ظلالهم، أو سائر منافعهم، لا تجد له أسماء، وكثير من النبات يسمَّى باسمين أو ثلاثة أو أكثر أو يُلفظ على وجهين أو أكثر، كالزَّعتر نقل النطق به بالزاي والسين والصاد، وربما تعدّد الأسماء لتعدد الواضعين كالبطيخ، يقال له في بعض البلدان الحبحب، وفي بعضها: الدُّلاّع، وفي بعضها: الجحّ ، وفي بعضها الرَّقي، وكلّ هذه الأسماء مادتها عربية، والعرفج والشبرم الواردان في سؤالك اسمان معروفان منقولان عن العرب، وأما الكَرفْسُ فمعروف في كتب الأعشاب للرازي والأنطاكي وابن سينا وغيرهم ولكنه لم يرد في شعر العرب وكلامهم، فيما أعلم ، ولصاحب القاموس عناية بالنبات، وربّما ذكر منافعه ومضارّه وقد ذكر (الكرفس) في كتابه، فالمعاجم هي التي تدلّك على ما تريد .
وحُمادى القول وقُصاراه: أنّ جمهور النباتات مدوّن في مبسوطات المعجم وحريٌّ بالدّارسين أن يجمعوا معجماً نباتياً لكل شجر الجزيرة العربية ونجمها (النبت الذي لا ساق له) وماذا على أقسام اللّغة لو كلَّفتْ أو أذنت لطلاّبها أن يتقصَّوا ذلك ويجمعوه جمعاً ينتفع منه أهل اللّغة والطَّبَّ البديل، فإنّ المعاجم السابقة التي جمعت أسماء النبات غير وافية، وفي كلّ بلد من النبات أنواع لا توجد في بلدان أخرى، على أن يكون من عملهم ذِكر الأسماء المتعدَّدة التي تكون لمسمىَّ واحد، وأيهما كان الأصل، وللدكتور: أحمد عيسى معجم في النباتات ،ولعل مجمعنا ينهض بشيء من ذلك الجمع.
السائل (لم يذكر اسمه): ورد في خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله إلى هرقل الروم: «فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأَريسَّيين»، وسؤالي: كيف تضبط كلمة «الأَريسيّين»؟ وما معناها؟
الفتوى [94]: لعلّك اطَّلعت فرأيت ما قاله شراح الحديث في ضبطه ومعناه، ولولا أنني ظفرت بمعنى جديد ذكره الدكتور أحمد الحوفي -رحمه الله- في مجلة مجمع اللّغة القاهري في مؤتمر الدورة السادسة والأربعين عام 1400هـ، لاكتفيت بالإحالة إلى شروح الحديث، وبتصحيح الضبط المشهور الذي ورد في سؤالك، وقد ذكر لها الشرّاح ضبطين مشهورين، أحدهما «الأَريسيين» بفتح الهمزة، وكسر الراء بعدها ياء ساكنة، فياء مشددة فياءُ مدّ، والثاني: بياء بدل الهمزة «اليَريسيَّيْن» وكلاهما في نسخ البخاريّ، والأول أشهر، وأشار ابن حجر إلى روايات أخرى خارج الصحيح، ولم يذكرها، وهما روايتان، «الأَريسين» بحذف الياء المشدّدة، والأخرى: «الإِرِّيسيين» بكسر الهمزة وتشديد الراء مكسورة وياء واحدة بعد السين وقبلها ياء.
وقيل في معناه: هم الملوك الذين يخالفون أنبيائهم، وقيل: الفلاَّحون، وقيل: الأتباع، ويدل عليه ما جاء في بعض روايات الحديث: «فإن عليك إثم رعاياك»، وقيل: هم أتباع عبدالله بن أرِيس، والمراد اليهود والنصارى، وهم أتباعه، وقيل: هم قوم من المجوس، ولكنهم لا يعبدون النار، وصناعتهم الحراثة، ويقولون: إنهم أتباع إبراهيم، ويحرّمون الزنا، وقيل: «هم كبراء القوم وزعمائهم الذين يأتمر من دونهم بأمرهم، وقيل: هم عبدة النار من الفرس، وقيل: هم أتباع عبدالله بن أرس، وهو غير عبدالله بن أريس المذكور آنفًا، وقيل: هم القادرون على هداية الناس، وأشهر المعاني هو الثاني، وبينه وبين الثالث تلاقٍ، لأنّ العامة على دين ملوكهم في الغالب، وإذا نودوا إلى الإسلام انقادت فطرتهم إليه، فليس لديهم من قواطع الطريق من المناصب والجاه والدنيا ما يصدّهم عنه، وأمّا المعنى الجديد الذي انتهى إليه الدكتور الحوفي في بحثه: فهو أنه نسبة إلي «أَرْيُس» وكان داعيًا في مصر إلى التوحيد الخالص، وأنكر عليهم ما كانوا يعتقدونه في شأن المسيح، وبقيت دعوته قوية في القرن السادس الميلادي، وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل في القرن السابع، وإنّما خصهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سيسارعون إلى القبول والتصديق بدعوته صلى الله عليه وسلم، فإن صح هذا المعنى فالنسبة إليه «أَرْيُسِيّ» وبجمع على «أَرْيُسِيَّيْن» ، بفتح الهمزة، وسكون الراء، وضم الياء، وكسر السين، بعدها ياء مشددة مكسورة، فياء مدّيّة.
السائل (أحمد إسماعيل): لدينا في أفريقيا كلمات نجدها في لغتنا من الكلمات العربية وأحب أن أجمعها وأدرس العلاقة بين هذه الكلمات ودلالاتها، مثل كلمة (واجب)و(فرض عين) إلى آخره.
الفتوى [95]: اللّغة العربية أمّ ودُودٌ وَلودٌ، وقد قيل: إنها أم اللّغات، وعطاؤها لأخواتها من بنات سام لا يحدّ ولا يعدّ، وأكثر من نصف الألفاظ العبرية هو عربيّ، ولا غرابة في ذلك ولا نكارة، كما أنه لا نكارة أن يقترض منها أبناء حام ألفاظًا وجملا وصيغًا وأساليب، ولم يزل ذوو اللّغات المختلفة تتلقَّف آذنهم ما يروق لها، وقد يشيع ذلك حتى يصبح لفظة في قاموس ذلك اللّسان، معروفَة الأصل أو منسيَّة، فإن آذان المستقبلين لما يسمعون تنفذ الألفاظ إلى أذهانهم من خلال آذانهم بلا استئذان، ولا ينتظر أصحابها أن تأذن لهم المجامع، فإن تعلقت الكلمات بمصلحة في حياتهم أو تجارتهم كانت ألصق من ريشٍ على غِراء، ومن قارٍ على جدار، ولم تزل اللّغة العربية على سعتها تأخذ وتعطي، غير أنها تمتاز على غيرها بأمرين: أحدهما: أنها تعطي أكثر مما تأخذ، والثاني: أنّ ما تأخذه تحفظه على أنه دخيل عليها بحيث يدرك أهلها ويعرفون أصله وفصله، وسرّ عطائها المدرار أنها لغة الإسلام الذي شاع في تلك البلدان، ومنها أفريقيا فكان لسكان البلاد فيها انجذاب إلى هذا الدين الحق بكتابه وسنته، وفي كثير مما يحتاجون إليه في عبادتهم ومعاملاتهم وعقودهم ألفاظ شرعية، والقرآن آيات بيناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم منهم، وكذلك الكلم الطيّب النبويّ، وقد ظفرت ببحث نفيس للدكتور مصطفى حجازي، عنوانه "ظواهر صرفيّة مشتركة بين اللّغة العربية والهَوسا" جمع فيه كثيرًا من الأمثلة فقد كان للحراك الثقافي والدعوي أثر بالغ في تسلّل كلمات كثيرة في آذانهم واحتاج ذلك اللّسان الأعجميّ أن يقترض ألفاظًا من العربية على ما هي عليه أو مع حذف أو زيادة أو إبدال، لا سيما الألفاظ الشرعية، نحو "الله أكبر" و "الحمد لله" و "إن شاء الله" وكذلك العبارات الدّالة على رسوخ حضارة الإسلام نحو "بيت المال" و "دفتر الخراج" و "البحر المالح" و"البحر المحيط" و"مثقال ذرّة" و"سلس القياد" فهذه الألفاظ وغيرها كثير يلفظون بها كما هي في العربية بما يناسب لهجتهم وصوتهم أو مع تغيير يسير.. هذه لمحة من الرّشح المسكيّ لابنة الضاد.. ولعلك يا أحمد توفي بالجمع والدراسة، فتتحفنا بما انتهيت إليه.
السائل (أبو الفتح): كيف نشأ الخلاف بين النحويين ؟
الفتوى [96]: اعلم أنّ مسائل النحو – يا أبا الفتح – محصورة، ولو كثرت، والذي وسَّع دائرة النحو وشقّق مسائله وحمّل كثيرًا من أبوابه وجوهًا كثيرة هو الخلاف الذي كان بين مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، وكثير من ذلك الخلاف سببه علميّ صِرف، ومنه ما هو سياسيّ، ومنه نوع ثالث مردّه إلى الهوى والتعصّب وقهر الخصم، لاسيما إذا كان الخلاف بحضرة خليفة أو وزير، وربّما وضع المجادل منهم عن مذهبه ورأيه البيت والبيتين، ولا غرابة في ذلك فقد وضع الواضعون في حديث رسول الله، وفيهم من كان من العبّاد والزهّاد، فكيف بالنحويّين الذين لا ورع في كثير منهم، أو كان فيهم من يرى أن النحو لا يحتاج إلى وَرَع، بل هو اجتهاد وكلام لا يغيّر حكمًا ولا يفسد طهارة، والخلاف الناشئ بين مدرسة الكوفة والبصرة شائع ذائع، وللكسائي مع الأصمعيَّ ومع سيبويه مجالس محفوظة، وكان الأصمعيُّ عالمًا بالرواية حافظًا للعربية ولم يكن على دراية تامة بالإعراب، وقصة الكسائي مع سيبويه مشهورة، وهي مع شهرتها في حِياكتها نظر، وقد يكون لها أصل، ولكن الله سلّط على الكسائي من يثأر للأصمعي وسيبويه، وهو يحيى بن المبارك اليزيديُّ، فجرَّعه كثيرًا من الويلات في مجلس الرشيد والمهدي، ثم كان للمبرّد البصري وثعلب الكوفيَّ مطارحات ذكر طائفةً منها الزجاجيُّ في «مجالس العلماء» وفيها – إن صحّت – تظهر قوة المبرّد وسلطانه العلميّ ومراوغات ثعلب وتناقضاته، عفا الله عنهم جميعا، وهكذا استمر الخلاف ثم استقرَّ بعد ذلك مفصلًا يقرأه الناس ويتعلمونه ويحكون فيه وجوه الخلاف وأدلة كلَّ فريق، وكان في أتباع كل مذهب من له خروجات عن مذهبه إلى مذهب الآخر تبعًا للدليل كما فعل ابن مالك وأبو حيان، وقبلهما أبو علي الفارسيّ وابن جنيّ، وكما يصنع الفقهاء أتباع المذاهب، وقد كانت البصرة أقرب إلى قبائل البدو التي لم يخالطها العجم وأكثر عربها من قيس أو تميم، وكان أهل الكوفة أدخل في مخالطتهم العجم، والقبائل المحيطة بهم دون قبيلتي قيس وتميم،غير أنهم – أعني الكوفيين- أدنى إلى التيسير وترك التكلف في كثير من مسائل النحو، وفي كل خير، وعلى الباحث الدارس أن يحقق ليرجَّح، وأما من لا يحتاج إلى ذلك فيكفيه ما عليه كلام الله وكلام رسوله وكلام الفصحاء، ونحن في هذه العصور نحتاج في كل العلوم إلى التصفية والتيسير أكبر مما نحتاج إلى الجمع والتكثير.. والله المستعان، وهو على جمعهم إذا يشاءُ قدير.
السائل (صالح بن أحمد) قرأتُ في القواعد المذكورة في كتابكم في شرح الألفية أن "الأيسر في الاستعمال هو الأشهر"، وقد أشكل عليَّ ذلك، لأنَّ معنى هذا أن نتّبع المشهور، ولو كان مرجوحًا، وأين أجد كتابك "ما هبّ ودبّ"؟
الفتوى [97]: لعلّ الإشكال الذي حصل لديك بسبب ما تقرر عندك من أنَّ الحقَّ لا يلزم أن يكونَ مع الأشهر، ولا مع المشهور، وهو أمر صحيح، ولكننا نفرق في هذا بين قواعد اللّغة وقواعد الشرع، فقواعد اللّغة يتعدّد الحق فيها لتعدد القبائل وتعدّد لغاتها، والاختلاف فيها من قبيل اختلاف التنوع لا من قبيل اختلاف التّضاد، كاختلاف القراءات، لأن مردّها لاختلاف اللّغات، وقد يكون في بعض تلك الوجوه ما هو أفصح، ولكن شهرته كانت غالبة، وقد يتحقق لدى عالم من علماء اللّغة وجه ما في مسألة من مسائل اللّغة المختلف فيها، ويكون ما رجّحه مخالفًا لما عليه استعمال الناس وكلامهم في نطقهم وكتابتهم، كقول بعض العلماء المعاصرين: إنه يجب أن تكتب الهمزة كما تنطق، فتكتب على ألف أو تحته في كل الأحوال، فنكتب (هؤلاء) هكذا (هاألاإ)ونكتب (قرآن) هكذا (قرأان) فهذا إن كان فيه تيسير على الناس في توحيد الكتابة وتيسير قاعدة الهمزة التي تكتب على وجوه كثيرة إلاّ أنها توقع في الحرج والكلفة من وجوه، منها: إلغاء جميع ما كان عليه الناس من قبل، ومن ذلك الكتب المصنفة وجميع الآراء والقواعد المتقدمة، ومنها: تطويل الكتابة والإكثار من الحروف في الكلمة الواحدة حتى تأخذ اللّفظة الواحدة موضع لفظين، ومنها أنّ العلماء حين وضعوا تلك القواعد راعوا فيها الإبدال كما راعوا فيها أصل الكلمة، وهو ما يمكن أن نسميه فقه الرسم، ومنها: أننا سنُضطرُّ إلى ضبط الكلمة بالشكل خيفة اللبس لأننا إذا كتبنا كلمة (يؤمن) على تلك القاعدة كتبناها هكذا (يأمن) فلا ندري هل هي من الأمن أم هي من الإيمان، فلا بدّ من وضع ضمة على الياء.. هذا مثال للرسم، وأمّا النحو فمن الأمثلة العربية على ذلك إعراب الأسماء الستة، فإن من العرب من ينطق بـ(أبوه وأخوه وحموه) مقصورة، بألف في كل الأحوال، فيقول (هذا أباه، ورأيت أباه، وجئت إلى أباه) فهذه اللّغة سهلة وإعرابها مطّرد، ولكنها مخالفة لما جرت عليه ألسنة الفصحاء، ولما عليه نصوص الوحيين، وشعر الناس ونثرهم، مدة ألف سنة ومئات من السنين، والعدول عن ذلك إلى تلك اللّغة إشقاق على الناس من حيث يُظنُّ أنه تيسير عليهم، ثم إن هذا يفقد العربية شيئا من ميزتها التي فاقت بها كثيرًا من اللّغات وهو الإعراب، لأن أكثر اللّغات مبنية لا معربة، والعربية معربة، وشرح ذلك يطول، وأمّا كتاب "ما هبّ ودبّ" الذي سألت عنه، فالذي طبع منه جزء واحد، وسيطبع مع أخ له في رحمٍ واحدٍ بإذن الخالق سبحانه، في أجلٍ قريبٍ.
السائل (طلال الجابري): أفاد بعض النابهين عن تصحيح (الاثني عشرية) إلى (الاثنا عشرية) في سياق الخفض، أو النصب خلافًا للشايع حتى في بعض عناوين الكتب، فهل هذا التصحيح صحيح؟ نريد فصل الخطاب في بسط الجواب، وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.
الفتوى[98]: (الاثنا عشرية) اصطلاح محدث للفرقة الهالكة المعروفة، والقانون الإعرابي في هذا اللفظ وأمثاله يجري على ما هو عليه، ويتأثر بالإعراب على حسب اختلاف العوامل، وكتب أهل العلم طافحة بذكره بالألف والياء، وحكمه حكم سائر الأسماء المعربة كأبي بكر، وأبي هريرة، واثنى عشر شهرًا، وإنما تكون الحكاية أو تلزم في الأحوال الآتية: 1- أن ينقل اللّفظ عن الواضع على وجه واحد، ويكون علمًا على مسمّاه، ولم يذكر نطقه على وجه آخر، ومن ذلك (البحرين، ويوم الاثنين، وأبو ظبي)، فهذه تلزم حالة واحدة، وتصير منقولة من الإعراب إلى البناء، فلا يُقال: البحران (للبلد المعروف)، ولا يُقال: الاثنان يوم مبارك، كما لا نقول: ذهبنا إلى أبي ظبي، ودخلنا أبا ظبي، فمثل هذه الصور يجب فيها الإبقاء على ما هي عليه.
2- أن تحكي اللّفظ كما سمعته، وتردّده كما نُطِق به كرجْع الصَّدى، فتقول لمن قال لك: لقيت المؤمنين: مَنِ (المؤمنين)؟ تحكيه كما سمعته، ويُذكر عن بعض الأعراب أنه قيل له: فلان.. أليس قرشيًّا؟ فقال: ليس بقرشيًّا، نطق بها كما سمعها، وهذا يجوز لك فيه الوجهان، الإعراب والحكاية.
3- أن ننطق اللّفظ الوارد في نصّ من النصوص، كسورة (المنافقون، والمؤمنون) فتقول: قرأت سورة المؤمنون، وتلك سورة المنافقون، ولك أن تقول: سورة المؤمنين، والمنافقين، إذا أردت الإعراب، ولم ترد الحكاية، ولا ضير في ذلك، فقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم سورة البقرة، وهي لم ترد في القرآن مفردة إلاَّ بلفظ «بقرة»، ولكن لما أراد التسمية جعل فيها لام العهد.
وكذلك إذا قلت: قرأت «براءة»، فإنه يجوز لك الوجهان، لكنك إذا قلت: «قرأت «براءة من الله ورسوله...» فإنه لا يجوز لك إلاّ الحكاية، وقراءة النص كما ورد.
هذا ما تبين لي القول فيه.. ولعلّك لا تجد هذا التقسيم مبسوطًا في مظانّه، ولكنه تفصيل يقتضيه النظر، وأمّا همزة(اثنا) فالصحيح أنها ألفُ وصلٍ، وصلني الله وإيّاكم بعفوه وبرحمته.
السائل (رامي أحمد): ما رأيكم في المقامات الصوتية ومراعاتها في القرآن؟ وهل كانت العرب تعرفها؟
الفتوى [99]: قُرئ فيما وراء الشَّواذ (يزيدُ في الخلقِ ما يشاء) بالحاء المهملة، وفسّر بالصوت، وسؤالك يا رامي أحمد سؤال كبير، وليتك كتبتَ لفظة (ابن) إن لم يكن الاسم مركَّبا حتى يتبيّن أنه كذلك.. إنّ المقامات والنغمات، وكذلك الإيقاعاتُ والسلَّم الدَّرجيُّ للصَوت فروع عن صوت كل ذي صوت من الناس والدوابّ والطير والريح وغيرها من المخلوقات المصّوتة بإرادة، أو بغير إرادة، ومن ثم فهي قديمة قِدم المخلوقات، وأمّا نشأتها وتقسيمها إلى مقام الصَّبا والسَّيكا والنَّهاوند والحجاز والبيات والكرد والعجم وغيرها، فتقسيمات متأخرة حدثت مع اختراع آلات الموسيقى وتطويرها، وقد يكون لذلك أصل، وله اسم دارس، وهذه التقسيمات والتسميات تشبه تقسيم الخليل بن أحمد وتسميته البحور الشعرية بحسب أوزانها، وكما أن تلك المقامات الصوتية قابلة للتطور والزيادة، فكذلك أوزان الشعر قابلةٌ للزيادة والاستدراك، كما استدرك الأخفش على الخليل وزنًا سمَّاه المتدارك، فصارت البحور ستة عشر، والزيادة عليها ممكنة، ولمّا كانت أصوات البشر المُغَنَّاة معبرةً عن الوجدان الذي يكون في صدورهم خرجت النغمات الصوتية على أنواع شتّى، بحسب ما يوجبه الحال والمقام الذي يعيشه المرء، فإن كان حزينًا تتفجر منه الأحزان، وتتساقط منه الحسرات فهو مقام الصَّبا، وإن كان صادرًا من صدر مُلِئَ رعبًا ورهبةً، فهو مقام الحجاز، فإن كان عن رغبة فهو السيكا، وأمّا ضياع الأمل، وبكاء الأطلال، ونحوها، وضدّها فهو مقام النهاوند، وأمّا مَن قلَّت حيلته، وضاقت مذاهبه، فمقامه الكرد، فإن كان ذا فوضى وصخب فهو مقام العجَم، ومَن بات في سرور وحبور وأنس فذلك البيات، ولكل مقام فروع، ومنها ما يتداخل بعض فروعه في بعض فروع الآخر، وأنا لستُ من المتعمقين في تفاصيل هذه المقامات من حيث الاصطلاح، وأمّا مراعاة تلك المقامات في القراءة وتكلّف الالتزام بها وتعلّمها بأسمائها، وتلقيَّ ألحانها كما يتلقى المغنُّون ألحان الغناء من ملحّنيها، فمن محدثات الأمور التي ينفر منها نفورًا شرعيًّا كلُّ ملتزم بخير الهدي هدي محمد، وبسيرة السلف الطيّب، ولكل عارف بطريقة أئمة القراءة منذ أن كانوا إلى الآن، ولقد كان منهم مَن يحبّر القرآن تحبيرًا، كأنما يفسر القرآن حين يتلو آياته تفسيرًا، من غير معرفة لهذه التفاصيل، ولا مراعاة لمقام بعينه، بل كانت أصواتهم تجري على طبيعتهم وسجيتهم، وهذه المسألة من مسائل العصر التي لا أريد أن أقصر الجواب فيها على هذه السُّطور القليلة، وأعد بإتمامها في ثانية جُمَعِ شهرنا الجليل، وعلى الله قصد السبيل.
ما رأيكم في المقامات الصوتية ومراعاتها في القرآن ، وهل كانت العرب تعرفها ؟ الفتوى [100] : ذكرتُ لك في جزءِ الجواب الأوَّلِ أنّ الاعتناء بمقامات الصوت بالكيفية المعروفة اليوم في القرآن أمر محدث، وأبين لك اليوم وجه ذلك بإيجاز مفصل ، إن وجه الإحداث فيه – ولو كان تحسينياًّ- أنه مشغلة جديدة شغل بها الشيطان قرّاء اليوم، لأنه حين لم يقدر على شَغل الناس عن القرآن شغلهم به عنه، فترى الذين يُجهدون أنفسهم في مراعاة ذلك مصروفين إليه منشغلين بالألحان والمقامات عن فهم القرآن وتدبّره ،وبعضهم يراعي النغم والإيقاع في صلاته كلّها، ولقد أحزنني – والله - ما سمعته منذ زمن من تسجيل يتعلم فيه أحد القراء الفضلاء على عارف بالمقامات يلقّنه كيف يناسب بين التكبير والتسليم والقراءة وقوله: سمع الله لمن حمده، ويعلمه القرار والجواب ، ليقوم بالناس في الصلاة بما تعلَّم ، ولقد يقول قائل: إنّ الذي يتعلم ذلك ويعمل به إنما يتكلفه من أجل الناس ليكون ذلك أعون لهم على الخشوع والانسجام والفهم والتدبر، فهو كالشّمعة التي تضيء وإن احترقت، فأقول : ظاهر هذا الاعتراض السلامة ، ولكنَّ فيه علّةً كامنةً غير آمنة، وذلك أن المقام ليس مقام إيثار ،بل هو مقام عبودية يُطلب فيها منه أن يكون أولهم تدبراً، بل إنّ تدبر القارئ يسري إلى نفوس المستمعين من خلال قراءته المواطئة لما في قلبه، فإذا نزعت نفسه إلى الاهتبال بالمقامات ومراعاتها سرى ذلك إلى من حوله ، خاصة من يعرف المقامات ويدريها ، وأنا أقول منذ زمن: مالي لا أجد بعض ما كنت أجده حين أسمع آثار التلاوة في القلب، فالآن حصحص الحقّ، هذا هو قاطع الطريق الخفي، فإن قيل : فماذا تقول في صنيع أبي موسى الأشعري وقوله للنبي ‘ حين أخبره بسماعه لقراءته: لَوْ عَلِمْتُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا، فالجواب :أنّ هذا ليس مما نقوله وإن أشبهه من وجه، ذلك بأنَ التحبير الذي هو بسط الصوت ومدّه أمر يعرفه كلُّ أحد، وكل من يقرأ القرآن حدرا يقدر على تجويده وترتيله، وذلك هو ما عناه أبو موسى الأشعري ، وأما صاحب المقامات فإنه يقرأ وفي ذهنه التزام المقام الذي يقرأ به ،ولا همَّ له غيره، وفي نفسه مراعاة من يستمع إليه ، وهو فوق ذلك ملازم له في كلَّ حين ، فلا هو كالترتيل يُتَعلَّم حتى يصير سليقة ،ولا هو كتحسين الصوت المنطلق بلا قيد، وإنما هو قيود وأغلال وحُجُب تحول بين القارئ ومواعظ القرآن ، فتراه في اهتزاز مطرب مع اللفظ وهو عن المعنى في مكان سحيق، ولو رأيت أحدهم وهو يقرأ «خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلّوه» وكيف يتراقص بصوته لما خفي عليك ما ذكرت..وللجواب تتمة.
السائل (رامي أحمد): ما رأيكم في المقامات الصوتية ومراعاتها في القرآن، وهل كانت العرب تعرفها؟ الفتوى [101] : قدّمتُ في صدر الجواب أول مرَّة أنها من المحدثات، وإحداثها قديم، ولهذا تكلم فيها الأئمة وحكموا عليها بالكراهة أو التحريم، في تفصيلات معروفة عند أولي العلم، ومنهم من رأى أنها من حسن الترتيل وجميل التغني، وهو محمود مندوب إليه، بشرط ألا تخرج القراءة إلى طريقة أهل المجون والغناء في ألحانهم، وألا يكون لذلك أثر على ترتيل القرآن ومخارج حروفه واستقامة أدائه..وإني أميل كلّ الميل إلى منع ذلك، وسأجهد في إقناعك ودفع الحيرة عنك بما هو آت: 1- اعلم أنّ كثيرًا من مسائل الشريعة التي يختلف فيها أهل العلم يكون في بعضها من يبيح المختلف فيه بضوابط، فإذا لقيتَ شيئًا من ذلك فكن منه على حذر، فإن (الضَّوابط) مطيّة من مطايا العصر يُرحَل بها إلى تحليل ما حرّم الله في كثير من الأحيان، كمن يبيح قُبلة الأجنبَّية إذا كانت من حائل بلا شهوة. 2- لا تحسبن الذين أجازوا ذلك من الأسلاف يُقرُّون ما أدخل في هذه المقامات وما زيد فيها وكيف يتعلمها من أراد إتقانها، وما عليه طائفة من مشاهير قراء المحافل من تعلم ذلك على العود والمعازف، وربطهم ذهنًا وتطبيقًا بين ما يقرأون وما علموه من ذلك، بحيث لا ينقصهم إلا أن يضرب أحدهم بيده على آلة العزف، ودليل ذلك تمايله يَمْنةً ويَسْرةً، ولم يعد اليوم ما يخفى، ففي مستودع الشبكة العنكبوتية صورٌ وشواهد تريك كيف يتلقّى متعلّم المقامات من الملحَّن، وكيف يلقَّنه الأداء بألحان مقطعة الأوصال، يُقطَّع فيه ألفاظ القرآن من أنصافها، كما يفعل ملّحن الغناء واحدةً بواحدة، فلو علم أولئك الأخيار ما آلت إليه الأمور من بعد لكان لهم رأي آخر. 3- إنّ وجه إصراري على المنع هو غلق الباب وحماية جناب الكتاب العزيز من التلاعب به، وإجلاله عن لحون اللهو واللّعب والمجون، فإن كان العلماء قد مَنعوا من كتابة القرآن بغير الرّسم العثماني كي لا يصير القرآن أُلعوبةً يضع فيها من يشاء ما يستحسن مما يشاء، فالمنع هنا أولى، ولو لم يغلق الباب في وجوه أصحاب تلك الوجوه المجيزة بضوابط وبلا ضوابط، لبقي الباب مفتوحًا يدخل منه في كلّ حين شيء مما يستحسنه الناس، حتى يقول القائل: لو أدخلنا على القرآن شيئًا من الأصوات البشرية التي تشبه الموسيقى أو مزجنا صوت القرآن ببعض أصوات البلابل والتغاريد لكان لذلك وقع على النفس وأثر في خشوعِ القلب، وما هو إلا قلب للحقائق.
السائل (محمد أبو زيد) أريدُ أن أجد جوابًا شافيًا عن الفرق بين (أحد) و(واحد)، هل بينهما فرق؟ كما أريدُ من مجمعكم بيان معنى (رمضان)، وكيف يُجمع؟ الفتوى [ 102] أمّا الفرق بين (أحد وواحد) فقد أجبتُ عنه بتفصيل في فتوى سابقة رقمها (32) في هذه الصحيفة، وذكرتُ في الفرق بينهما أحد عشر فرقًا. وأمّا (رمضان) فهو من الرَّمَض، وهو الحرُّ الشديدُ الذي يكون في الرَّمل من وقع الشمس، والرَّمضاء: الأرض التي اشتدت حرارتها، وقد كان لشهور العام أسماء قديمة، وكان اسم «رمضان» من قبل (ناتق)، فوافق رمضان أيام شدّة الحرّ فسمّوه به، كذا قال أهل اللغة، وقال الخليل بن أحمد: رمضان: من الرَّمْض، وهو مطر يكون قبل الخريف يطهِّر وجه الأرض عن غبارها، ولا جناح علينا أن نقول على طريقة العارفين وأرباب السلوك: لما كان التلطُّخ بقاذورات الذنوب والعصيان بمنزلة الغبار، كان شهر رمضان بمنزلة المطر الذي يغسل الذنوب غسلاً، ويذهب بدرنها أصلاً، ولنا أن نقول على المعنى الأول، وهو شدّة الحر: لما كان رمضان بما فيه صيام، وقيام، وعمل صالح، ومراقبة للخالق ذاهبًا بها إلى الاضمحلال والفناء، كانت الذنوب محترقة بسبحات تلك الأعمال النُّورانية، وبما يشعُّ من شمس الطاعات، وعمل الصالحات، ووجدتُ في تفسير القرطبي مَن يقول: إنما سُمّي الشهر به لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، وهو معنى ما ذكر آنفًا، وبعض أهل العلم يقول: (رمضان) من أسماء الله، ولا دليل عليه، ولم أجد في ذلك نصًّا صحيحًا، ولا ضعيفًا، وقال في القاموس: «ورمضان -إن صح- من أسماء الله تعالى، فغير مشتق، أو راجع إلى معنى الغافر، أي: يمحو الذنوب ويمحقها»، وهذا هو الصحيح، فإن تعطيل الاسم من الاشتقاق يضيع معناه وصفته، والكمال يقتضي أن يتضمن الاسم صفة دالة على معناه، وذلك ممّا يُمدح به، واعلم -يا أبا زيد- أن رمضان يُجمَع على رمضانات، ورمضانين، وأرْمضة، وأرْمضاء، ورماضين، وزعم بعضهم أنه يجمع على (أرْمُض).. والله يجمع بيننا، وإليه المصير.
[align=justify] يفرح طالب علم مثلي (فرح شكر) أن تكثر أسئلة السائلين فيما ينفع، فالسؤال دليل اليقظة وحركة الفكر، ولو قال قائل: أنا أفكّر إذنْ أنا أسأل لكان خيرًا من قول (ديكارت): أنا أفكر إذن أنا موجود، إذ لا يسأل إلا من كان موجودًا، فالوجود لازم من لوازم السؤال، والسؤال شطر تحصيل العلم، لأنه من شرطه، كما قال البحر بن عباس في العلم الذي حصله: إنما أوتيته بلسان سؤول، وقلب عقول، وقد جعلت فريقًا من الأسئلة في اللغة العربية في قسم الفتاوى بمنتدى المجمع، ومنها ما أحيله إلى طائفة من أعضاء المجمع، وما أجيب عنه أحرص على نشره هنا قبل وضعه هناك، وتبقى أسئلة كثيرة في التفسير، وجمهورها يرجع إلى اللغة، وقد أجبت عن بعضها في هذه البقعة المباركة من الصحيفة، وبقى منها كثير، استعين الله، جل ذكره، في الإجابة عنها بعد الزيادة في العنوان العام ليكون (فتاوى في اللغة والتفسير) مبتدءًا بسؤال: السائل (طارق حمادي): [/align]ما هو الماعون؟ في قوله تعالى: «وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ» فقد وجدت فيها أكثر من قول للمفسرين. الفتاوى (103): أحمد لك – يا أخي طارق حمادي- سؤالك عن الماعون، وإني لذو فأل به، وأسأل الله العون، وأعجَّل بالإجابة ، لأن تأخيرها عن طالبها من التساهل في منحها، وتأخير للماعون، وإهمال لها منع له.. وأجتهد في إتحافك بجديد أو تجديد بحسب ملكتي وعلمي.. قال ابن عباس: الماعون: المعروف كلّه، وقال علي: الزكاة، وقال بعضهم: العاريَّة، وقيل: المال، وقيل: الماء والكلأ، وقيل: المستغلّ من المنافع، أُخِذ من المعن، وهو الشيء القليل، وقيل: ما يُتعاون به عادة، وهذا أظهر الأقوال وأوّلها وآخرها، وما يحتاجه الناس ويتعاونون به عادة يختلف باختلاف الأمم والأزمان، ومن أمثلته في أزماننا، مدّ الكهرباء لجارك الذي يبني بجوارك، ومساعدة من التمس عندك اشتراكا لشحن ذاخرة سيارته، وكذلك مناولة قلمك لمن أراد الكتابة به، وإعطائه ورقة أو أوراقًا، وأما الكتب فقد تبت إلى الله من إعارتها، وكيف لا يتوب ويحور، من لُدِغ من جحور؟ وقد اختلف في (الماعون) هل هو من العون فتكون ميمه زائدة، أو من المعن، وهو القليل فتكون أصلية ويكون على زنة (فاعول) ويجمع على مواعين، كما نستعملها في عصرنا الحاضر.. والله المعين.
السائل (عبد الرؤوف عماد): قوله تعالى : «فإن تولوا فإنّ الله لا يحب الكافرين « هل الفعل «تولوا» مضارع أم ماضٍ ؟ أفتوني في ذلك ،جزاكم الله خيرا. الفتوى[104] : غير خاف عليك وعلى الملّمين بقواعد العربية أنّ المضارع لا يكون أوّله إلا أحد حروف (نأتي) وأما الماضي فكل حرف من حروف الهجاء قابل لأن يكون أوّله، فإذا جاء في الكلام ما أوّله ألف أو تاء أو نون أو ياء وقَبِلَ أن يكون معناه ماضيا مع صحة أن يكون مضارعا فلا مانع من حمله على الوجهين، ومن ذلك هذه الآية ، فإنها تحتمل أن يكون الفعل فيها مضارعاً، وحذفت تاؤه للتخفيف، ومعلوم أنَّ الفعل إذا كان مبدوءا بالتاء ودخلت عليه تاء المضارعة صار في اجتماع التاءين ثقل في النطق ، ولما كانت العربية تسارع إلى التخفيف تصرفت العرب في مثل هذا على نوعين من التخفيف ، أحدهما :إدغام التاء في التاء، وبذلك قرأ الإمام ابن كثير المكي من رواية البزّيّ في مواضع في القرآن، ليس هذا الموضع منها، وتعرف عند القراء بتاءات البزي، ومن ذلك «لتعارفوا» و «ولا تنازعوا» و «لا تكلم نفس إلا بإذنه» و»ناراً تلظى»، وأما لفظ «تولوا»، فقد ورد في القرآن في عشرين موضعا، أكثرها من قبيل الماضي، وفيها خمسة مواضع تحتمل أن تكون من قبيله أو من قبيل المضارع، وقرأ البزي في أربعة منها بالإدغام على أنه أفعال مضارعة، منها موضعان في سورة هود، الآية (3و57) وموضع بسورة الأنفال الآية(20) ورابع بسورة النور، الآية (54)والموضع الذي سألت عنه لم يقرأ فيه بالإدغام بل جعله كسائر الأفعال الماضوية، مع احتماله أن يكون مضارعا ،كما جزم بذلك غير واحد من المفسرين والمعربين ، بل إن السياق يرجحه ولكن القراءة مبنيةٌ على التوقيف، وعدم قراءته بالإدغام لا يمنع أن يكون مضارعا. وأما النوع الثاني من أنواع التخفيف في الأفعال التي اجتمع فيها تاءان، فهو الحذف، وهو الذي عناه ابن مالك بقوله في آخر ألفيته المباركة: وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ*** فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ العِبَرْ ولله درّ الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي، ودرُّ صنيعه في «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن» إذ جمع المواضع العشرين كلَّها، ثم أعاد ما يحتمل الوجهين، على غير عادته، رحمه الله رحمة واسعة ، وجزاه عن الباحثين خير الجزاء.
[align=justify]
السائل (أبو مصطفى الحضرمي): السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. في الآية 27 من سورة لقمان في قوله تعالى: (... والبحرُ يمدّهُ من بعدِهِ سبعةُ أبحرٍ) وجدتني منساقًا إلى معنى لم أكنْ استحضره من قبل أثناء قراءة هذه الآية وهو أن (يمدّه) بمعنى يجعله مدادًا، أي حبرًا؛ لأنه بمعنى الإمداد والمعاونة، ووقع في نفسي أن صيغة الفعل يمدّه للدلالة على التصيير كقولنا (هذا الفعل يجرمه القانون)، بمعنى يعدّه جرمًا.. أرجو التكرّم ببيان المعاني المتعدّدة لغة لهذه اللفظة.
الفتوى [105]: أحسنت في السؤال، وفي الاستنباط، يا أبا مصطفى، وإنَّ من أحسن ما يُهدى إليه متدبر القرآن، أن يُعْمِل فكره في معاني ما يقرأه، أو يسمعه من كلام الله سبحانه، قبل أن ينظر إلى ما قاله المفسرون، فلعله يُهدى إلى معنى لم يذكره أحد من المفسرين، فالقرآن لا تنقضي عجائبه، وفيه ما لا يفسر آياته الدالة على آيات الكون والأنفس والآفاق إلاّ العصور المتلاحقة، ولا يختص بفهم آيات القرآن عند التدبّر العلماء ومن قاربهم، بل العطاء الرباني القرآني مبذول لكل أحد، على قدر ما يبذله من نظر وفكر، وعلى قدر ما أوتي من أسباب ذلك، ومن توفيق الله له، غير أنه لا يجوز لمن دلّه فهمه على معنى من المعاني الخفية أن يعجل بتقرير فهمه، إلاّ أن يكون له برهان من السمع أو اللغة أو العقل أو الحسّ، فإن كان له برهان يعتقده على جهة الظن فإنه لا يجوز له أن يجزم بما كان مبنيًّا على دليل متجلبب بلباس الظن في ثبوته أو معناه، وقنوات الفضاء اليوم فيها من عجائب التعالم ما يؤلم القلب. هذه مقدمة أَعُدُّها من جوهر الجواب عن سؤالك، والآن أمدّ المقدمة بما يجيب عن سؤالك.. مادة (مَدَدَ) تدل على البسط والزيادة، قال ابن فارس: «أصلٌ يدلُّ على جرِّ شيء في طول واتّصال شيءٍ بشيء في استطالة»، ثم ذكر طائفة من معانيها، ومنها: «مددتُ الدَواة وأمددتها، والمدَّة: استمدادك من الدَّواة مُدَّة بقلمك»، والمتأمل في القرآن يجد أن المَدَّ، أو الإمداد بمعنى الإمهال، كقوله تعالى: «ويمدُّهُم في طغيانِهِم» وبمعنى الإعطاء، كقوله سبحانه: «وأمددنَاكُم بأموالٍ وبنينَ» وبمعنى الإغاثة، كقوله جل شأنه: «مُمدّكم بألفٍ من الملائكةِ» وبمعنى مدّ الدواة بالمداد، كهذه الآية، فهذه أربعة معانٍ، وكلّها تعود إلى معنى واحد هو الزيادة، وهذا العَودُ إمّا أن يكون عَوْدًا مباشرًا كما في المعاني الأربعة الأولى، وإمّا أن يكون غير مباشر كما في المعنى الرابع، والمفسرون أكثرهم لا يذكرون هذا المعنى، ولكنه معنى صحيح تؤيّده اللغة ويشهد له سياق الآية، شُبَّه فيه البحر الأول بالدواة التي تملأ بالحبر، والأبحر السبعة تزيده مدادًا، لأنها هي المداد، وقد علمنا أن من أساليب العربية: مدَّ الدّواة وأمدّها إذا صبّ فيها المداد، والحاصل: أنَّ كلاًّ من المعنيين صادق على معنى المدّ، ويمكن حمل اللفظ على كلا المعنيين من باب حمل المشترك على أكثر من معنى.. والله أعلم.
[/align]
[align=justify]
السائل (محمد - الجزائر) يكثر الاختلاف في بعض الكلمات التي تُكتب في وثائق التحبيس خاصّة في الذّرّية، ومن ذلك: قول المُحبَّس [الواقف]: وقفت هذه الدّار على عقبي وعقب عقبي، فهل يدخل أولاد البنات في معنى العقب في اللّغة العربية؟
الفتوى [106]: العقب - كما في (القاموس) -: الولد، وولد الولد، بكسر القاف ويُسكّن، وربما أطلقها بعض النّاس وأراد معنًى خاصًّا، ولا يزال أهل المحاماة والقضاء في حيرة من كثير من الألفاظ المحيّرة التي تصادم في كثير من الأحيان عرفًا عامًّا أو خاصًّا، أو يكون للموصي أو الواقف والمحبّس نيّة يخالف معناها ما دلّت عليه اللّغة، ولهذا لا تكون العربية بما ينقله أصحاب المعاجم حَكَمًا عدلاً في مثل هذه المسائل، فإن ههنا ثلاثة أمور (نيّة الموصي، والعُرف، واللّغة)، وهي بهذا التّرتيب. فإذا عُرف قصد الواقف أو الموصي، بأن شَرَح مراده كتابة ،أو شهد من حضر الوصيّة أنّه أراد بالعقب وعقب العقب الولد ثم ما تناسل من الذّكور وذكور الذّكور.. وهكذا، فإنّه يرجع إلى مراده، وهو ممّا يجوز استعماله في اللّغة، ولكنه تقصير من الموصي في إيراده اللّفظ العامّ الذي يشمل أفرادًا أخرجهم الموصي بنيّته لا بلفظه، والحاصل: أن اعتبار قصد المتكلّم هو المعتبر في مثل هذا، حتى لو كان مخالفًا للعرف الذي جرى عليه الناس في بلده، ثم إذا جُهل مراد الموصي، نُظر في العرف الشّائع بينهم، إمّا في استعمالهم المطلق، أو استعمالهم للفظ في وصاياهم وأوقافهم، فيجري العمل على ما هو معروف، وينظر في ذلك كلّه في ردّ المعنى المتعارف عليه إلى إطلاقات اللّغة، فإذا لم يكن ثمّة عرف خاصّ، ولم يعرف ما أراده المتكلم فإن إعمال ما دلّت عليه اللّفظة في اللّغة العربية متعيّن، وفي مثل هذه الحال التي وردت في السّؤال تنفُذ الوصيّة أو الوقف على المعنى العامّ الذي يدلّ عليه لفظ العقب، فيكون المال لكلّ ولد من ذكر أو أنثى، ولكلّ مولود من كلّ ذكر أو أنثى، فيشمل ما تناسل من أبنائه وبناته، ذكرانًا كانوا أو إناثًا، ولا فرق. هذا هو الحلّ في مثل هذه العوائص.. ومجمع اللّغة العربية على الشبكة العالمية بصدد مفاهمة بين طائفة من المحامين وطائفة من القضاة لتحرير مثل هذه العبارات وكتابة نماذج في الوصايا والوقف يأخذها من أرادها من الموصين والواقفين ويوضح المراد منها، ويُثبتُ فيها ما أراد إثباته.. والله المعين.
[/align]
السائل (محمد مهيوب) لديّ عدد من الأسئلة.. منها سؤال عن الدورات المكثفة في اللغة وغيرها، سمعت أنكم لا تؤيدونها؟
الفتوى [108] تركتُ بعض أسئلتك، وأقرب سؤال يصلح أن يشغل بجوابه هذا الحيز سؤالك عن الدَّورات المكثفة، وسماعك أني لا أؤيدها سماع صحيح من حيث الجملة، وأمّا التفصيل: فاعلم أن كثيرًا من طرق التعليم والتلقين التي يسلكها المعلمون اليوم ليست طرقًا مستقيمة، لا سيَّما علوم الشريعة والعربية، ومنها ما يسمّى بالدورات المكثفة، وأعني بها تلكم الدورة التي تعقد في يوم وليلة، أو يوم وبعض يوم، في علم من العلوم القوية، كالنحو والبلاغة وأصول الفقه، هكذا بهجوم فاتك على أذهان الطلبة الشاردة، وفي هؤلاء الطلبة الصغير في سنه وعلمه وتحمله، وفيهم من لم يسمع إلاّ بألفاظ مرّت في دراسته أو بعض حِلّق العلم، وفيهم الذكيُّ والغبيُّ، فأما الغبيُّ فيزداد غباءً، وأمّا الذكي فيُعْقَر ذكاؤه بذلك الحشو المكثف وإرهاق الذهن، وكثيرًا ما يحبط الطالب الذكيّ وتَنْقبضُ نفسه حين يرى أنه لم يخرج ممّا طمح إليه إلاّ بشيء يسير، لا يناسب همته وأمله فيترك ذلك العلم، أو يترك العلم كلّه، ولا ينتفع بذلك التلقين أو المحاضرة إلاّ قليل، بانتفاع قليل، ولو قدر أن المنفعة أكبر من ذلك، فإن فيها من المساوي ما يقضي على ذلك كلّه، ويشوه تلك المحاسن، ومنها:
أنّ العلوم كالغذاء للعقول، وتغذيتها بهذه الطريقة إجهاد وإرهاق للأذهان، وضرر ذلك أكبر من نفعه، كإجهاد البدن بالرياضة مدّة طويلة بلا راحة.
ومنها: أنّ في الطلبة الضعيف والقويّ، والضعفاء هم الأكثر، وأصحاب تلك الدّورات يفتحون بابها لمن هبَّ ودبَّ، بلا توجيه ولا تدريب، فيتحمل أولئك الضعفاء ما يدرسونه كما يتحمل الجسم الضعيف الدواء القويّ، فيتحول الدواء إلى داء.
ومنها: أنّ ذلك المنهج مخالف للنهج الصحيح في العلم وسياسته، فإن سياسة التعليم وصحة التربية أن يُعلَّم الطالب صغار العلم قبل كباره.
ومنها: أن هذه الطريقة تُعلَّم الطالب العجلة وتضعف عنده الصبر والبصيرة والأناة في طلب العلم، وطول النظر والفهم. ولا يزال المرء في عجبِ، كيف صح لهؤلاء أن يضعوا دورة في يوم واحدٍ في متن كاملٍ في البلاغة، التي تحتاج إلى وقوف وتأمل ومباحثات وتذوق ونظر؟
ومنها: أن في ذلك استهانة بالعلوم، وبطرق أهل العلم في تعلمها وتعليمها.
وهذه الأسباب وغيرها قد تقع لبعض الطالبين دون بعض.. ولو كانت تلك الدورات في تصحيح المتن وضبطه لهان الخطب، ولكان في ذلك بعض نفع.. أسأل الله لي وللقائمين على تلك الدورات الهداية والتوفيق إلى ما هو خير للعلم وأهله وأشدّ تثبيتا.
السائل (محمد مهدي): ما توجيهكم لمن أراد أن يقوي أسلوبه الإنشائي في الكتابة والخطابة؟.
الفتوى (109) لا أحصي عدد من سألني مشافهة أو مكاتبة في هذا المعنى، وقد يكون لبعضهم جواب أصلَحُ من هذا، ولكنني أذكر جوابًا صالحًا لمتوسطي الملكات، وأوجزُه في عشر جُملٍ:
الأولى: اعرف نفسك ومزاجها، وقُدْها إلى ما تحبُّ، ولا تقهرْها على ما تكره فيما لم يوجبْه عليك شرع، فإنَّ ظلم النفس يضرُّها ولا ينفعها.
الثانية: راقب ملكاتك، فقد يكون طبعك حجريّاً، لا يرقّ للأدب والجمال، وعلاج ذلك أن ترطّبه بالتأمل والخيال ومجالسة الأدباء، وترك مخالطة الثقلاء، وجرّئ نفسك بمخاطبتها بما تحب، وعَذْلها فيما تكره، على أني لا أقول بتعدد الأنفس في الذات الواحدة، ولكني أجزم بأنّ للنفس أثرًا منها عليها.
الثالثة: ادرس النحو دراسة متقنة، واعمد إلى أيسر كتاب تراه مناسبا لك، وألمَّ بشيء من البلاغة وقواعدها، وأتقن قواعد الكتابة، فكل ذلك يورث لك الثقة وييسر لك الطريق.
الرابعة: في دراستك العلوم العربية ،احرص على من ينفعك ومن ترى أنه يفيدك بأسلوبه ونصحه وبذل وقته.
الخامسة: لا تظنَّ أنك تنتفع بالأعلم أكثر من غيره، فهذا أمر يرفضه الواقع والتجربة، فمن يكثر التكرير، ويجوَّد التقرير، ويعلّمك صغار مسائل العلم قبل كبارها ،هو أنفع لك وأقوم.
السادسة: عليك بقراءة الدواوين الشعرية مترقّيا إلى شعر الشعراء الجاهليين.
السابعة: طالعْ بفهمٍ ما يعجبك من التواليف الأدبية، المتقدمة والمتأخرة ، ككتب الرافعي، والمازني، والزيات، وطه حسين، وزكي مبارك، واليازجيّ، وعلي الطنطاوي، واقرأ كتاب طوق الحمامة، وكتب المقامات، وكتاب صبح الأعشى، وكتب الجاحظ، وكتاب أدب الكاتب، والكامل للمبّرد.
الثامنة: أما الخطابة فاستمع إلى غيرك، ولا بأس بتقليد من يعجبك من الخاطبين أوَّل أمرك، ودرّب نفسك، ولو أن تقف أمام شخوص من الحجارة تنصبها بين يديك.
التاسعة: القاعدة التي أظن أنّ بارعي الخطباء يتفقون عليها ( الخطيب الناجح هو من يَرهَبُ لموقف الخطابة، فإذا علا على منبرها انقلبت الرَّهبة إلى رغبة وشجاعة وثبات وثقة).
العاشرة: خذ من كل شيء أحسنه (هذه قاعدة تنفعك في الدين والعلم والحياة).
السائل (؟) هل الملكان هاروت وماروت اللّذان ذُكرا في القرآن الكريم مطرودان من الجنّة، أم حقَّق الله لهما رغبتهما في النّزول إلى الأرض؟ وهل يمكن أن أحصل على قصّتهما بالتّفصيل.. والله الموفّق.
الفتوى 110: ذُكرت قصّة هاروت وماروت في (سورة البقرة: 102): ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )، وفي عامّة مبسوطات التّفسير تفصيلٌ لقصّتهما، وخلافٌ مطوّلٌ في حقيقتهما، وحقيقة ما أُنزل إليهما، كتفسير ابن جرير الطّبري، وتفسير الفخر الرّازيّ، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا.
وخلاصة ما قيل فيهما: أنّهما ملكان أنزلهما الله، تشكَّلا للنّاس ليتعلموا منهما السّحر حتى تكشف أسرار السّحر التي كان يعلمها السّحرة، فأراد الله تكذيبهم بواستطهما.
وقيل: هما رجلان تظاهرا بالصّلاح ببابل، كانا يعلمان النّاس السّحر، وظنَّ النّاس أنّهما ملَكان نزلا من السّماء لما رأوه فيهما من التّقوى، وبلغ مكر هذين الرّجلين حين رأيا حسن اعتقاد النّاس بهما أنّهما صارا يقولان لكلّ من أراد أن يتعلّم منهما: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ )، يقولان ذلك؛ لإيهام النّاس أنّ علمهما إلهيّ، وأنّهما لا يقصدان إلاّ الخير، كما يفعل ذلك كثير من الدّجاجلة في سائر الأزمان، وسمّيا ملكين (بفتح اللاّم) لتلقيب النّاس لهما بذلك، وفي قراءة الحسن: (وما أنزل على مليكين) (بكسر اللاّم)، وهذا القول أوفق من الذي قبله.
وأمّا ما روي من مسخهما وطردهما بعد وقوعهما في الفاحشة، وشربهما الخمر بعد أن كانا من الملائكة؛ فذلك من أكذوبات اليهود واختلاقاتهم، أبطلها المحقّقون، وبيّنوا زَيفها.
السائلة (شيماء): أرجو من فضيلتكم أن تَشرحوا معنى أفعال المطاوعة، ولماذا سُمّيت بهذا الاسم؟ مع ذكر بعض المصادر التي ترشدوني للرجوع للتوثيق منها مع الشكر.
الفتوى [111]: المُطَاوَعَة: مصدر للفعل (طاوع) بمعنى أطاع ووافق، وتكون في الأفعال القابلةِ لأِثر أفعالٍ قبلها، فإذا قال القائل: مزَّق زيد الورق فتمزَّق، فالفعل (تمزَّق) فعل مطاوعة، والنحاة يقولون: المطاوع (بالفتح) هو الفاعل، الذي هو (زيد) في المثال السابق، والمطاوع هو (الورق) لأنه طاوع الفاعل فيما أراده منه، ولكنهم أطلقوا المطاوعة على الفعل بدلاً من المفعول؛ تسمية للشيء باسم متعلّقه، ولا مانع أن يُسمّى الفاعل مطاوِعًا (بالكسر)، والفعل مطاوَعًا (بالفتح)، كأن الفعل طلب من الفاعل فطاوعه الفاعل، كما أنه يصح أيضًا من حيث النظر والقياس أن يُفتح كل من الطرفين، لأن الإطاعة ملحوظة من كل واحد منهما، وكذلك الفتح فيهما يحتمل صحته، كصحة وقوع الفاعلية والمفعولية من نحو: قاتل زيد عمرًا، فكلّ منهما يصح أن يكون فاعلاً ومفعولاً، وبدليل فعل المفاعلة الدالة على حصول الفاعلية والمفعولية منهما، هذا ما يقررّه النحو، ثم تأتي البلاغة بعد ذلك لتكشف عن المعنى الذي من أجله خصص زيد بالفاعلية، ومن تلك المعاني: أن يكون هو البادئ بالقتال، أو الغالب، وعمرو هو المغلوب.. ومن صيغ المطاوعة: علمته فتعلّم، ودحرجته فتدحرج، ومددته فامتدَّ، وشويته فانشوى أو فاشتوى، وقد تكون المطاوعة في الفعل بصيغة مغايرة، كقولهم: طردته فذهب، ولا يقال فانطرد، نصّ على ذلك سيبويه.
وفي الأفعال ما يتفق مع صيغة المطاوعة، ولا يكون منها، ومن ذلك: تكبرَّ، وتثنّى، وتقبّل، وتَمسَّك، وغيرها.
وأمّا المراجع في ذلك فهي كتب النحو، وكتب الصرف، في أبواب نائب الفاعل، والتعدّي واللزوم، والتجرّد والزيادة، وأبنية المصادر.
والمطاوعة في النحو من دلالات الرفق والتلطف والحكمة، وهو من الأخلاق النحوية الكامنة، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ -رضي الله عنهما-: «تطاوعا ولا تختلفا»، وأما إطلاق (المَطاوِعَة) على ذوي المظهر الديني، فله حديث آخر في مناسبة آتية.