الفتاوى اللغوية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن علي الحربي.

السائل (سلمان محمد): أودّ منكم إفادتي عن شيءٍ سمعته من أحد المهتمين باللّغة، يقول فيه: لا يجوز أن نقول (الأمّهات) إلا لأمّهات الناس، وأمّا ما عداهم فنقول: أمّات، ما صحة ذلك، أفيدوني؟
الفتوى 30: ما قاله لك ذلك القائل قد قاله بعضُ أئمة اللّغة كالأزهريّ في (تهذيب اللّغة)، قال: (تجمع الأمّ من غير الآدميات على أمّات، بغير هاء). والصحيح الذي أقرّه كثير من اللّغويين الجواز، فلك أن تقول: (الأمّهات أو الأمّات السّت)، بل ورد في أشعار العرب إطلاق (الأمّات) على الآدميات، وإطلاق (الأمّهات) على غير الآدميات، ومن الأوّل قول السّفاح اليربوعي:
قـوَّالُ مـعـروفٍ وفـعّـالُـه
عـقّـارُ مثنى أمّهاتِ الرِّباع
ومن الثاني قول جرير:
لقد ولد الأخيطل أم سـوءٍ
مقلـدةً من الأُمَّـاتِ عـارا
قال ابن درستويه: (وهي لغةٌ ضعيفة، والفصيح في الآدميات: أمّهات)، ذكر ذلك الزّبيديّ في (تاج العروس)، وبه يتضح أن إطلاق (الأمّهات) على العاقلات وغيرهنّ جائزٌ، ولو لم يجوّزه النقل لجوّزه المجاز
.
 
السائل (فايز العتيبي): هل دوابّ ممنوعة من الصّرف، مع التعليل؟
الفتوى 31: دوابّ وصوافّ وكوافّ وجوادّ، جمع دابّة وصافّة وكافّة وجادّة، ونحو هذه الألفاظ ممّا كان على وزن (فعالِل) ممنوعة من الصّرفِ؛ لأنها على صيغة مشبهة لصيغة منتهى الجمع، كمساجد ومعابد ومفاتيح ومصابيح، وهذا ما عناه ابن مالك في >الخلاصة< بقوله:
وكن لجمعٍ مشبهٍ مفاعِلا... أو المفاعيلَ بمنع كافلاَ
وما يشبه (مفاعل) هو فعالِل وفواعل وفعائل، ونحوها، وما يشبه (مفاعيل) كقراطيس ومناديل. وكلمة (دوابّ) ممّا يشبه مفاعل، ومفردها (دابّة) على وزن فاعلة، ووزن الجمع (فعالِل). وفي كتاب (المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية) للشاطبي: (وزنُ دوابّ مفاعل)، ذكر ذلك مرّتين في باب (ما لا ينصرف) عند شرح البيت المذكور، وهو خطأ يبعد أن يكون من المؤلّف، إلاّ أن يكون مراده إدخاله تحت ما يشبه (مَفاعِل) من الجمع المتناهي
.
 
السائل (عائض عبد الله)، أودّ أن أسألكم حفظكم الله عن الفرق بين الواحد والأحد ؟
الفتوى 32 :هذا السؤال حاضرٌ في قلوب الذين أوتوا العلمَ، واردٌ على ألسنتهم، ومنهم من يختلج عليه الفرقُ لاختلاف كلام العلماء في الفرق بينهما، ومن تأمّل اللّفظين في سياقهما في النّصوص وصرّف فيهما الأمثال اهتدى إلى الفرق بينهما ولو من بعض الوجوه، وقد ذكر علماء التفسير واللّغة وجوهًا في التفريق بينهما، وسأحرّر لك الفرقَ بإيجاز انطلاقًا من الوجوه الحسنة التي نظرت إليها مع زيادة وجوهٍ أخرى، وأحد هذه الوجوه: أنّ الأحد يشمل الواحد لأنه أعمّ منه، فيطلق على الواحد والواحدة والاثنين والجمع بنوعيهما، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]، وتقول: ما رأيتُ أحدًا منهنّ، ولا يكون الواحد إلاّ للفرد المذكر. الثاني: الواحد له مؤنث من لفظه، كقوله تعالى: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [النساء: 11]، والأحد لا مؤنث له من لفظه إلاّ مع التركيب. الثالث: الواحد يطلق على من يعقل ومن لا يعقل، فهو أعمّ من هذا الوجه، والأحد لا يكون إلا فيمن يعقل، فلا يقال: لا أملك أحدًا من الكتب. الرابع: الواحد يجوز أن يكون معه ثانٍ، فيقال: ليس عندي واحدٌ بل اثنان، ولا يجوز: ليس عندي أحد بل اثنان. الخامس: الواحد لا جمع له من لفظه، وجمعه آحاد، والأحد لا يجمع أصلا، وسئل المبرّد عن (الآحاد) أهو جمع لأحد؟ قال: معاذ الله، إنه ليس للأحد جمعٌ. السادس: الأحد وصفٌ خاصّ بالله تعالى. السابع: الواحد يدخل في الحساب والعدد والقسمة، والأحد ليس كذلك، ولذلك كان الواحد أول العدد، وقيل: يجوز أن يقال: أحد، اثنان ... الثامن: وهو من الفروق اللّفظية أن (أحد) يختصّ بتركيبه في (أحد عشر)، ولا يقال: واحد عشر. التاسع: زعم بعضهم أن الأحد لا يستعمل إلا في النفي، وهو مردودٌ بالآية المذكورة في الوجه الأول. العاشر: أن (الأحد) يستعمل اسمًا بمعنى إنسان في خصوص النفي، كالآية المتقدمة. الحادي عشر: الأصل في (أحد) وَحَد، و(أحد) فرعٌ، قاله ابن فارس.
هذا ما أمكن جمعه من الوجوه الفارقة بينهما من حيث العموم، وأمّا من حيث معناهما اسمين من أسماء الله، فمن العلماء من لا يرى الفرق بينهما، والصحيح التفريق، وأقرب ما قيل في ذلك: أنّه إذا قيل: الله أحد، فمعناه: المنفرد بالإلهية، وإذا قيل: الله واحدٌ، فمعناه: الذي لا ثاني له. ولي نظمٌ بَطيط، لبعض الوجوه المذكورة في أوراق مفرقة شماطيط، عسر عليّ وِجدانها إلاّ بتبْطيط.
 
بارك الله فيك أخي ضيف الله وفي أخي الشيخ عبدالعزيز على هذه المتابعة وهذه الفوائد ، وبالمناسبة فالدكتور عبدالعزيز الحربي يشكرك على متابعتك ، ونقلك لها إلى هنا فجزاك الله خيراً .
 
بارك الله فيك أخي ضيف الله وفي أخي الشيخ عبدالعزيز على هذه المتابعة وهذه الفوائد ، وبالمناسبة فالدكتور عبدالعزيز الحربي يشكرك على متابعتك ، ونقلك لها إلى هنا فجزاك الله خيراً .
وفيكم بارك الله -شيخنا الكريم- وجزاكم خيراً.
والشيخ الكريم عبد العزيز الحربي من أحب أهل العلم إليّ، وله مكانة جليلة في نفسي؛ ولذلك أحرص على تتبع كتبه، والاستفادة من علومه، ولو كنتُ في مكة للزمتُه ملازمة القرين، لا سيما مع انقراض أهل العلم في هذه الأيام، إلا من رحم الله.
 
السائل (عادل عبد الله .. مكة المكرمة): أذكر أن الزّبيدي صاحب «التاج» ذكر أن (آمين) تأتي بمعنى: اللهم استجب. وأظنه خطّأ ذلك. وبعض مشايخنا يرون أن يقال: آمين في الدّعاء، ولو لم يكن طلبًا. فلعل في فتاواكم تفصلون ذلك. وفي نظري
- وآمل أن تصوبوني - أن دعاء القنوت من الأئمة الآن يشتمل على: مدح الله وطلبه، وزيادات الذي يظهر أنها لغوٌ، نحو: اللهم إن أعداءك عندهم طيارات ودبابات وبوازيك... فمتى يقال آمين في هذه القسمة الثلاثية
؟
الفتوى 33 : لم يُخطّئ الزّبيديّ ما ذكرته عنه، وخطّأ قولاً آخرَ يُروى عن الحسن ومجاهد، وحاصل هذا القول أنّ (آمين) اسم من أسماء الله تعالى بمنزلة يا أللّه، وأضمر (استجبْ لي). ما سرى وهمك إليه قولٌ مشهورٌ، بل هو أشهر المعاني المحكية، وهو: (اللّهم استجبْ). وقيل معناه: كذلك فليكن. أو: كذلك ربّ فافعلْ. ومن أغرب ما قيل في معناه: أنها خلاصة ما اشتملت عليه الفاتحة من دعاء، فمن قالها بعد الفاتحة كان كمن دعا مرّتين. وأمّا التأمين على ما ليس من صريح الدعاء فهو حسنٌ إذا كان بمعنى الدّعاء أو كان تتميمًا للدّعاء، ومن الأول قول نبيّ الله أيوب {ربّ إنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الرّاحمين}. ومن الثاني ما يقال في القنوت: >تباركتَ ربّنا وتعاليت،لك الحمد على ما قضيت ...».
وأمّا مبالغات الأئمة في الدّعاء في ذات الدّعاء أو كيفيته أو متعلَّقه بالاعتداء فيه، فممّا نهى الله عنه، وأبرز ما يقع فيه كثيرٌ من الدّاعين في الخطب والقنوت رفع الصوت، والخروج عن المأثور إلى أدعية كثيرة ليست من جوامع الدّعاء، نعم قد يجد الدّاعي في مقام التضرع فتحًا في ابتهاله ودعائه، ويُلهم ألوانًا من الدّعاء، لكن التخفيف مطلوبٌ على من خلفه، والنّائحة المستأجرة غير الثكلى، وما أحسن ذلك لو كان في بيته بينه وبين ربّه.
ومن ألوان الاعتداء أن ينسى الواعظُ نفسه، فبينما هو يجأر بزواجر لفظه، ويجهر بقوارع وعظه، ويلتفت يمنة ويسرة، إذا به ينتقل إلى الدعاء بالصوت نفسه أو أشدّ، وبالحركات نفسها، وهو ذهولٌ أو غفلة، وضعفٌ في الذّوق، وخروجٌ عن هيئة الافتقار إلى بساط من الانبساط وما يشبه الزّهو. ومنهم من يطيل في دعاء خطبة الجمعة، ولو عمد إلى جوامع الدّعاء، ودعا لنفسه وللمسلمين ووليّ أمرهم أو بنزول الغيث عن القحط، لكفى. ولم ينقل في هذا المقام دعاء مرفوع، والأصل في ذلك فيما أحسب هو تحرّي ساعة الإجابة، ولعلك وجدتَ ما يكفي في هذه الإجابة
.
 
السائل (حسام.. مصر): أطالع فتاواكم المنقولة في (ملتقى التفسير) وأنا فخورٌ بما أراه من لغة جميلة وجواب شافٍ.. وسؤالي: سمعتُ من بعض الأساتذة يقول: لا يجوز أن نقول في كلامنا: نحن كمسلمين.. كذا وكذا. أرجو الإجابة.
الفتوى 34: لا تؤاخذني بما تركته من كلام في سؤالك، وأشكر لك ما أملاه باعث حسن الظنّ من ثناء، وإني عند نفسي دون ما ذكرت. وأسارع إلى الجواب عن سؤالك، فأقول: هذه العبارة فيها نظران، أحدهما لغويّ، والآخر شرعيّ، فأمّا اللّغوي فيتبيّن من معرفة معاني الكاف التي عقدها ابن مالك في (ألفيته) بقوله:
شبّه بكافٍ وبها التّعليل قد... يُعنى وزائد التوكيد ورَدْ
واستعمل اسمًا.. أهـ. فأمّا التشبيه فمعلومٌ، وأمّا التعليلُ، فنحو: «كما صليتَ على إبراهيم» وأمّا الزّائدة فيمثلون له بقوله تعالى: {ليس كمثله شيءٌ}، وأمّا اسميتها فاستدلّ له بشواهد كثيرة لا سيما في الشعر. والزائدة في الآية وفي غيرها من الشواهد النثرية والشعرية التي وجدتها في المطولات كلها صالح للتشبيه أو غيره، وليست زائدة ومنها الآية. وقد بحثتُ في صحف الأولين فلم أجد لهم كلامًا في مثل هذه العبارة، وأمّا المعاصرون فقد أقرّها المجمع القاهريّ عن بحث للأستاذ عبد الله كنون، وآخر للدكتور محمد رفعت فتح الله، ونازعهم في ذلك الأستاذ سعيد الأفغانيّ، وقال: إننا منذ ثلاثين سنة نسمّي هذه الكاف الكاف الفرنسية، وبنحوه قال الدكتور عثمان أمين، وقال الأستاذ: محمد بهجة الأثري: لسنا مكلفين بتخريج كلام عاميّ يشيع على الألسنة. قيل لهم: فما البديل؟ قالوا: البديل أن يقول: أنا باعتباري باحثًا، أو بوصفي باحثًا، بدل قوله: أنا كباحث، وكذلك المثال المسئول عنه، تقول فيه: نحن باعتبارنا مسلمين.
وخرّج المجمع الجواز على أن الكاف للتشبيه أو زائدة. والقول بالزيادة أضعف من خصر شادن على حِقْف، والتشبيه فيه ما فيه، وقولهم: إنّ الكاف داخلة على موصوف محذوف، أي: أنا كرجل باحث، لا يغني شيئًا. وفي الأسلوب ركاكة، ولا مُلجئ لذلك، وقول الأفغانيّ وأخويه: الصواب أن نقول: بوصفي أو اعتباري باحثًا لا يخلو من ركاكة أيضًا، وفصيح الكلام مفصح عن نفرته منه. ولو قالوا: الصّواب أن يقال: أنا لأني باحث، ونحن لأنا مسلمون لكان أولى وأقوم.
فالحكم في هذا اللفظ وأمثاله الكراهة، يضاف إليه ما يُعقبه النظر الآخر وهو الشرعي وهو خاصّ بنحو: أنا كمسلم، ونحن كمسلمين، وأنا كرجل، كل هذا قبيحُ الوجه ولن تحسّنه تمحّلات البلاغة، فاجتمعت كراهتان شرعية ولغوية، والصبر على سماع هذه العبارة والنطق بها من الصّبر على المكاره، وهو صبرٌ لا يؤجر من ابتلي بأسبابه، ولو عضّ عليه بنواجذه ونابه، كلّ خاملٍ ونابِهْ.
 
السائل (حسام.. مصر): فأمّا اللّغوي فيتبيّن من معرفة معاني الكاف التي عقدها ابن مالك في (ألفيته) بقوله:
شبّه بكافٍ وبها التّعليل قد... يُعنى وزائد التوكيد ورَدْ
واستعمل اسمًا.. أهـ.
هكذا سياق البيت في مقال الشيخ الحربي -حفظه الله-، ولعله سبق قلم، أو خطأ طابع، ففي الألفية: وزائداً لتوكيد، والله أعلم.
 
السائل (أبو يوسف الهلالي): إذ أزف لشخصكم الكريم، ولأمة الضاد المباركة،تهنئة عاطرة عبقة، بالتقدير هطولة غدقة؛ كفاء تأسيسكم (مجمع اللغة العربية) ـ العبقري الرائد ـ لأرجو المولى ـ سبحانه ـ أن يجعلكم كصوب الغمام، أينما وقع، أصاب ونفع، آمين.كما أزجي لكم الشكر المزيد، حيال ساحرات الأحداق، وهاتيك النفائس الأعلاق (لحن القول)، و(خاطرات)، و(فتاوى لغوية)، في هذا الملحق الفارع. وأسئلتي: 1- هل يصح قولنا: كرَّس حياته في الدعوة، وقولنا: فعلك هذا تكريس للعصبية؟ 2- وهل يصح قولنا: لعب القضاء دورًا مهمًا في العدل؟ أنهلنا الله من علومكم أصنافًا، ورزقكم من بديع الجواب أصدافًا.
الفتوى 35 : التهنئة منك ليست لي وحدي بل هي لي وللمجمعيّين، وأهل اللّغة ومحبيها، ولقد حظي المجمَعُ - بلا تزيّد ولا مبالغة - بمباركات وتهاني، ما لم تبلغه الخواطر والأماني. ذلك بأن شبكة العنكبوت في كل بيت، وأنأى عن كل (لوٍّ) وليتْ، وإنها لأكثر قبيلا، وأهدى سبيلا، وأحسن عملا، وأقرب أملا.
وإن بلادنا (المملكة العربية السعودية) لهي أملَكُ به وأسعد، وأعلى بشأنه وأصعد، وأشكر لك ثناءك المطابق لاعتقادك الطاهر، وأسأل الله أن يكون مطابقًا للواقع في الباطن والظاهر، ولا تؤاخذني بتركه، والإقبال إلى ما هو أجدر، وهو ما سألتَ عنه وجوابه.
أما قولهم: كرَّس حياته، فإنّ منهجي عدم التحريج والتحجير في كلّ لفظة استعملت على نحو من التَّوسّع بشروط ثلاثة، أحدها: أن يكون أصل المادّة مسموعًا عن العرب. ثانيها: أن تكون صيغة الاستعمال صحيحة. ثالثها: أن يكون بين اللّفظ المستعمل وبين أصل المادّة جامع في المعنى، بحيث يصحّ ربطه به. والمعاجم تقول: كرَّس فلان البناء: أسَّسه، وكرَّس الشيء: ضمّ بعضه إلى بعض. فأيُّ رأي يضيق بعد هذا عن قبول قولهم: كرَّس حياته؟ فمن ضاق صدره عن هذا فنرجو الله أن يوسِّعه. ونحن إن بقينا على ما نطقت به العرب ولم نتجاوزه قتلنا طموحنا وإبداعنا وأذواقنا بلا ذنب! ونحن بهذا نظلم لغتنا من حيث نزعم أننا حرّاسها وحماتها. من الذي سوَّغ لهم أن يتوسعوا ولا نتوسّع، ويطوِّروا ولا نطوّر؟ سبحان ربي الأعلى وبحمده!
الفتوى 36 : وأمّا قولهم: لعب القضاء دورًا .. فإني أحيلك إلى كتابي (لحن القول) ص 39، ففيه تفصيل يضيق به حيّزنا هذا ذرعًا، ولكنني أمُدّ لك منه فرعًا. وهو أن رأي الأكثرين من شيوخ المجمع القاهري أن يقال: أدّى دورًا، بدل لعب دورًا، وأنا أختار الجواز إلا أن يكون المخبر عنه أمر دينيّ أو جدّ خالص، ومن ذلك ما مثلتَ به في سؤالك، فإن التعبير عنه باللّعب منكرٌ ولعبٌ، والمجاز لا يحتمله إلا بذوقٍ سمج. ودمت على خير، وبه.
 
السائل (؟): هل الفنجان والبيالة من الكلمات العربية؛ لأنها تطلق كثيرًا، لا سيما البيالة في نجد؟ أرجو أن تجيبوني بأسرع وقتٍ ممكن، ولكم الشكر.
الفتوى 37 : الشكر لك أيضًا، وللسائل حقّ ولو برشفة (فنجان)، أو (بيالة).
المعاجم الجامعة لا سيما المتأخرة، كالبستان ومحيط المحيط تقول: (الفنجان: قَدَحٌ صغيرٌ من الخزف ونحوه، تشرب فيه القهوة ونحوها). وجمعه فناجين، ويقال: فنجانة، كما يقال:فنجال وفناجيل. وكل ذلك مُعَرَّبٌ، وقيل: مُولّد، ومن قال مُعَرّب، قال: أصله:بنكان.
وإن ترد زيادة على ذلك فانظر إلى ما كتبه الشيخ أحمد رضا في كتابه (قاموس ردّ العاميّ إلى الفصيح)، وهو كتاب حسنٌ في بابه، ولكن تشوبه شائبة التكلف في بعض الألفاظ وردّها بقوة إلى أصول بعيدة، وفي كتاب (تكملة المعاجم) إطلاقات أخرى للفنجان، وهذا الكتاب يجمع ما هبّ ودبّ ودرج، وما على الجامع من حرج.
فإن قلت: فما الاسم الذي أطلقته العرب على ما كان مثل الفنجان، قلنا: في لغة العرب ألفاظ لآنية مقاربَةٍ من ذلك (السَّومَلة، والطّرْجهارة)، ولم يكن لدى العرب ترفٌ في الصّناعة يجعلها تصنع آنية كالفناجين الصغار، وإنما هي آنية مقاربة أظنها أكبر منها، والكرم العربيّ فيما يناسب أشربتهم يومئذ يطلب أكوابًا وأباريق وكئوسًا وصِحافًا، ولم يكن ثمَّتَ قهوة بُنٍّ ترشف رشفًا.
وأمّا (البيالة) فلا وجود لها بهذا المعنى، ولا بذلك اللّفظ، وأمّا البالَة فلفظة محدثة، وتطلق على الوعاء الضخم، ومن العسر عليَّ أن أردّ اللّفظ إلى اللّفظ والمعنى إلى المعنى، لا سيما أنّ الأصل محدث. ثم وجدت في المستدرك على القاموس من كتاب (التاج): (والبِيلة بالكسر: وعاء المسك، لغة في البالة، نقله السّكريّ)، وكان قد فسّر البالة بالرائحة والشّمَّة، ولم يذكر وعاء المسك، فمن أراد أن يرُدّ البِيالة إلى البالة مع التعريف بما حصل فيها من تحريف؛ فلا لوم عليه ولا حيف، لا سيما إذا اعتبر ما تشتمل عليه قهوة البُنّ من رائحة زكية
.
 
السائلة (ش. العُمر): لِمَ سُمِّيت اللّغة العربية لغة الضّاد؟
الفتوى 38: الضّاد أحد الحروف الهجائية التي يتألّف منها كلام العرب، وهو حرفٌ عزيز الوجود في اللّغات الأخرى، وما وُجد منه فيها لا يُنطق كما تُنطق الضّاد العربية، ذات الجهر والرّخاوة والاستعلاء والانطباق والإصمات والاستطالة، والضاد أصعب الحروف العربية نطقًا، ولأهل اللّغة والقراءة أقوال في تعيين مخرجها، وبينهم اختلافٌ عريضٌ في محلّ إخراجها، لا سيّما في أيّامنا هذه.
ومن القراء مَن لا يصلّي خلف مَن يخالفه في رأيه إلاَّ كَرهًا، وذلك من الحرص المذموم الذي لبّس به الشيطان على طائفة منهم. والمسألة أهون من ذلك، وأقلّ من أن تكون سببًا للفُرقة وترك الجماعات، وتأليف المصنّفات، فإن لهجات العرب مختلفة، والدليل على ذلك نقل القرّاء وتفاوتهم في ذلك، واختلاف لهجات القبائل الذين لا يعرف اختلاطهم بالعجم، وهم أهل البادية في جنوب الجزيرة وشرقها وشمالها، وقد وجدنا فيهم مَن يخرجها من طرف اللّسان مع طرف الحنك الأعلى، ومنهم مَن يخرجها من إحدى حافتي اللّسان مع الأضراس، ومنهم مَن يخرجها من حافة اللّسان إلى طرفه وما وليها من الأضراس، وهو شاهدٌ معتبر، إن لم يقبل دليلاً.
وكان الخليل بن أحمد شيخ سيبويه يقول: (الضّاد شجرية من مخرج الجيم والشين). وكلام سيبويه يدل على أنّ الضّاد تخرج من الجانبين. نقل ذلك عنهما السيوطيّ في (همع الهوامع)، وقراء الشّام أسعد بضعف النزاع، وقوة الاختيار، وتوسط الأداء، والبُعد عن التكلّف. والقصد أن تسمية اللّغة العربية لغة الضّاد هو لما امتاز به هذا الحرف، أعني الظاهرة الصّوتية التي اختصّ بها مع قلّة وجوده في اللّغات الأخرى، والحرف الفرد الذي لا وجود له في غير اللّغة العربية هو حرف الحاء، ولكنه حرفٌ ضعيفٌ مسكينٌ لا يُجهر به ولا يُستعلى، ونطق الأعجميّ به أعسر من نطق الضّاد. والإطلاق المذكور هو من باب إطلاق الجزء على الكلّ، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } [التوبة: 11].
 
السائل (حسين باقر): شيخنا، أحسن الله إليك، المشهور تعدية (أحسن) بـ (إلى)، فهل هذا من باب التناوب أم التضمين؟ وإن كان الثاني فـ(أحسن) تتضمن بماذا؟
الفتوى 39: سؤالك قريبٌ وليس بغريب، لأنّ الله قال في آية القصص: {كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}، لأنّ الأصل في تعدية (أحسن) أن يكون بـ(إلى)، وسيتضح لك الفرق بين الآيتين، ولأي معنًى عُدّي الفعل في آية القصص بـ(إلى)، وفي آية يوسف بالباء إذا عرفت معنى التضمين المعروف في اللّغة، وهو أن يضمّن فعل أو ما في معناه معنى فعل آخر، فيشتمل الفعل على معنيين، وهو من البلاغة بمحلّ، ولا يكون ذلك إلا لنكتة، وقد أجبتك حين إرسالك جوّاليًّا بأن (أحسن) ضمّن معنى (لَطَف)، أي: لطف بي، أي: أحسن في اللطف بي، ولأن السؤال نافعٌ إذا فُصِّل الجواب فيه أحببتُ أن يعمّ نفعه بذكر نظائر في كتاب الله تؤيّد هذا المذهب المُذهب المقدّم على قول مَن يقول: حروف الجرّ بعضها ينوب عن بعض، فإنّ هذا القول لا يريح إلاَّ الأذهان الكسلى التي لا تريد النظر ولا تجيده، ومن أمثلة التضمين في القرآن: قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، أي: يخرجون عن أمره بالمخالفة، وقوله: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25]، أي: يَهُمّ فيه بإفساد عظيم يريد به انشقاقًا كاللّحد؛ لأنّ فعل الإرادة يتعدّى بنفسه.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} [الفرقان: 40]، أي: مرّوا عليها؛ لأنّ (أتى) يتعدّى بنفسه، وكذلك قوله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، أي: يسقى بها. ومن يقول: الحروف ينوب بعضها عن بعض يقول: المعنى: يشرب منها، الباء نابت عن (من)، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36]، أي: يعرض، والأمثلة كثيرة. ومن أهل العلم من يقول في الآية المسؤول عنها، معناها: أحسن صنعه بي، ومن يقول بالنيابة يقول: معناه: أحسن إليَّ، وهو ضعيفٌ كما تقدّم، وممّا ذكر تعلم الفرق بين هذه الآية وآية القصص، وهو أنّ الله لطف بيوسفَ، ولم يلطف بقارون، فضمن الأول معنى اللّطف، والثاني ترك إلى الإحسان المجرّد، ونظير آية يوسف قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، لما يطلبه الإحسان إليهما من اللّطف، ولا ننس أن آية يوسف خُتمت بقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لمَا يَشَاء} [يوسف: 100]، وشكرًا على هذا السؤال الحسن، يا حسين!
 
السائل (أبو سفيان - مكة): شيخنا -أحسن الله إليكم، ورفع ذِكركم- وجدتُ الجوهريّ في (الصحاح)، يقول: قال أبو سعيدٍ، وقد حاولتُ أن أقف على ترجمة أبي سعيدٍ هذا، فلم أقوَ على تمييزه بين أئمة اللّغة، فمن هو؟ وجزاكم الله خيرًا.
الفتوى 40: الأقرب أن يكون أبا سعيدٍ السَّيرافيّ، لأنّه كان أحد شيخين كبيرين، أخذ عنهما الجوهريُّ روايةً ودرايةً، والثاني هو أبو عليّ الفارسيّ (ت 356هـ)، وأمّا أبو سعيد السَّيرافي فهو شارح الكتاب، كتاب سيبويه، وكان بارعًا في النحو منقطع النّظير، وهو الذي هجاه أبو الفرج صاحب كتاب الأغاني، فقال فيه:
لستَ صدْرًا ولا قرأتَ على صَدْ
رٍ، ولا علمكَ البكيُّ بشاف
لعن اللهُ كلّ شعرٍ ونحوٍ
وعروضٍ يجيء من سيرافِ
وكان للسّيرافي ولدٌ اسمه يوسف، له مشاركة في النحو واللّغة، وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل، يريد أنه سهَّله حتى صار على قارعة الطّريق، وله ترجمة وافية كافية في معجم الأدباء (ت 368هـ).
كما ينقل الجوهريّ أيضًا عن أبي سعيد الضّريرِ (ت: 282هـ)، غير أنّه ليس من شيوخه، لأنه لم يدركه، والجوهريّ مات عام (390هـ) تقريبًا. واشتباه الأسماء والكنى على أهل العلم لا سيّما في هذه الأزمان كثير، ولم يزل المحققون يشكون منه ومن أهل زمانهم، وقد نقل السيوطيّ في (المزهر) عن أبي الطيّب اللّغويّ فصلًا حسنًا يشكو فيه كثيرًا من أهل دهره، لا يميّزون بين أبي سعيد الأصمعيّ وأبي سعيد السكّري، وأبي سعيد الضّرير. ولا يفصلون بين أبي عُمَر الثقفي، وبين أبي عُمَر الجرْمي، ويقولون: قال الأخفش، ولا يدرون من هو، قال: ولقد رأيتُ نسخةً من كتاب (الغريب المصنّف) وعلى ترجمته: تأليف أبي عبيد القاسم بن سلاّم الجُمحي، وليس أبو عبيد بجمحيّ ولا عربي، وإنما الجُمحي مؤلف كتاب (طبقات الشعراء).
قال أبو محمد: وأنا قد رأيتُ نسخًا من ألفية ابن مالك، وبعضًا من شروحها مكتوبًا في التعريف بها وبمن شرحها، فيذكرون منهم: القاسم بن فِيرُّه الشّاطبيّ، وابن مالك لم يره ولم يدركه، فابن مالكٍ وُلِد (598هـ)، والشّاطبيّ المذكور (ت 590هـ)، وإنما خلطوا بينه وبين أبي إسحاق الشّاطبيّ (ت 790هـ)، صاحب (المقاصد الشّافية في شرح خلاصة الكافية)
.
 
السائلة (همس المشاعر): أحتاج إلى الإجابة عن أسئلتي عاجلاً.
أولاً: ما الفرق بين الخطأ الإملائي والنحوي واللّغوي؟ هل صحيحٌ أن الخطأ الإملائي في حروف الكلمة، وأن النحوي في الحركات والإعراب أو موقع الكلمة، واللّغوي في معنى الكلمة ؟
وثانيًا: عندما نقول: إن كتابة كلمة (أنْتِي، ولَكِي، وجزاكي) هل لأنه لا يجتمع ضميران لهما نفس المعنى في كلمة واحدة
الفتوى41 : أعتذر عن تأخر الإجابة لتزاحم الأسئلة على المَورد العذب.. وأجيب بإيجاز عن سؤاليكِ، فأقول: الخطأ الإملائي يكون في رسم الكلمة ككتابة ألف الوصل بهمزة قطع، أو رسم الهمزة في غير موضعها وهيئتها، أو كتابة الكلمة الواوية بياء، ولا علاقة للإملاء بالنطق ولا بالمعنى، وعلاقته برسم القلم. والخطأ النحوي: ما كان في إعراب الكلمة نطقًا أو ضبطًا، والإعراب في أواخر الكلم، ويدخل في بطون النحو مسائل أخرى كالجمل التي لها محلّ أو لا محلّ لها من الإعراب، وكفتح همز (إنّ) وكسرها والتقديم والتأخير. كما يشمل النحو أيضًا مسائل الصرف، ومن يجعل الصرف قسيمًا للنحو أدخله في كنف اللّغة. والخطأ اللّغوي يشمل الخطأ في بنية الكلمة أو حركتها في أيّ موضع منها وفي صيغتها واستعمالها ودلالتها وموضعها، كضمّهم لام (لجنة) والصحيح فتحها، وكجمع (مُدير) على مُدَراء، والصواب: مديرون، والخطأ في التصريف والإعراب هو خطأ لغويّ أيضًا.
وأمّا كتابة (أنتِ)، و(لكِ)، و(جزاكِ) بياء بعد التاء والكاف، فليست هذه الياء ضميرًا آخر، بل هي ياء متولِّدة من إشباع الحركة، ولا تعرف في فصيح الكلام، بل هي عامِّيّة شائعة، والنطق بها في فصيح الكلام وصحيحه بكسرٍ غير مشبع حال الوصل، وبالسكون عند الوقف، ولا يكون إشباعها إلاّ إذا كانت في حرف الرَّويِّ، كقول الشاعر:
تعاللتِ كي أشجى وما بكِ علَّةٌ
تريدينَ قتلي قد ظفرتِ بذلكِ
 
السائل (مصطفى البشير): هل هذا أسلوبٌ صحيحٌ؟ هذا الأمرُ يقع فيه حتّى الخيِّرون منهم، وهذا الأمر يعرفه حتى الأطفال.
الفتوى 42: يكثر السّؤال عن (حتى)، وكيف لا يكثر وهي التي حيّرت كثيرًا من النحاة واللّغويين، وشغلت بعضهم في آخر يومٍ من أيّام دنياه، فقال أحدهم حين حضره الموت: (أموتُ وفي نفسي شيءٌ من حتى)، لأنها ترفع، وتخفض، وتنصب، ولا تنصب، وتدخل على الاسم والفعل والحرف مضمرًا، وربّما دخلت على المضمر، واختلجت حيرة أحدهم إلى الإشفاق، فألبسها ثوبًا من الاشتقاق، وقال: إنها مشتقة من الحَتّ، وهي على وزن فعْلى كشتّى.
قال الأزهريّ: وليس هذا القول ممّا يعرَّج عليه، ولو كانت من الحتّ لجاز إمالتها، ولكنها حرف أداة، وليست باسم ولا فعل.
وفي (همع الهوامع) ما يفيد أنّ بعض القبائل اليمنية تميلُها، فإن لم يكن للأزهريّ في نفي الاشتقاق إلاّ ما ذكر، فهو مردود بما ثبت من الإمالة. وليس في اللّغة ما يمنع من إمالة الحروف كما أميلت (بلى).
ولعلّك أيّها السائل الفاضل قد طرق سمعك، أو مرّ بناظريك قولهم: (أكلتُ السّمكة حتّى رأسها)، وجوابك كامن في هذا المثال السّائر؛ لأن (رأسها) يجوز فيه الجرّ، والنّصب، والرفع، وما سألتَ عنه شبيهٌ بحالة الرفع في المثال المذكور، لأنها في هذه الحال ابتدائية، وليست للغاية.
وفي المثال من فقه النحو لطائف، منها أن السّمكة تؤكل من ذيلها لا من رأسها، وهو أفضل ما فيها بخلاف الشّاة فإن أفضلها أعلاها. ومنها: أنّ رأسها لا يؤكل لأنّ ما بعد (حتى) غير داخل فيما قبلها، وهذا على وجه الخفض، وهو كذلك على وجه النصب والرفع، فإنّ فيهما ما يفيد أنّ الرأس لا يؤكل عادة، وإنما كان أكله حاجة أو ضرورة، وهو شبيهٌ بمثالك الذي ذكرت في سؤالك: هذا الأمر يعرفه حتى الأطفال.
ولنا مع (حتّى) كلامٌ آخر، وما أجدرها بمؤتمر يضمّ نشرها، ويلمّ شعثها، ويبدّد حيرة المحتار
.
 
السائل (عمر عيسى): فضيلة الشيخ: أرسلتُ لكَ رسائلَ فيها أسئلةٌ عن بعضِ الألفاظِ الشّائعة، ولكنْ لمْ تُجِبْ عنها، ويا حبّذا لو أجبتني عنها على الإيميل، إذا لم يكن الجواب مناسبًا في هذا الملحق، وسؤالي اليوم أظنّه مناسبًا، وهو: يشيع في اللّهجة العاميّة قول الناس عن الأولاد: بزورة، وعن الواحد بزر، فهل هذا صحيحٌ؟ وهل له أصلٌ؟
الفتوى 43 : للسّائل حقٌّ لا يُضيَّع، وحقُّه الجواب، وقد يُؤخّر إلى حين، وأسئلتك التي ذكرت فيها شيءٌ ممّا يُعنى به مقامنا هذا، وسأبسط لك البذل بوعدٍ منجز حيث أردت، فابسط العذرَ كما بسطنا، وأمّا سؤالك هذا فهو من صميم ما يشمله فتاوى اللّغة. إن إطلاق (البَزْر) على الولد إطلاق شائع في الجزيرة، في نجد، والحجاز، وغيرهما، وهو إطلاقٌ صحيحٌ، وتسمية يصدِّقها النقلُ، ففي (اللّسان): (المبزور: الرّجل الكثير الولد، يُقال: ما أكثر بَزرَه، أي: ولده. والبزراء: المرأة الكثيرة الولد، والبزر: الأولاد). وفي (القاموس): (البَزر: الولد).
والذي يظهر لي أنّ إطلاق البَزْر على الولد من نوع التوسُّع، والأصل فيه إطلاقه على الحبِّ كبذر الكَتَّان ونحوه، وكلّ حبّ يبذر للنبات يُقال له: بَزْرٌ، والجمع البُزور، والإنسان نابتٌ كما ينبت النبات من الأرض التي ألقي فيها البَزْر، وفي الذّكر الحكيم: (والله أنبتكم من الأرض نباتًا)، وابن فارس في (مقاييسه) لم يورد المعنى المذكور، بل نقل عن ابن دُريد أنّ تسمية الحبِّ بالبَزر خطأ، والصّواب البَذر. فإن صحّ ما قاله ابن دريد، فالولد أيضًا بذرٌ لا بَزر، إذا كانت تسمية الولد فرعًا عنه، وأمّا جمع البزر على (بُزورة) فلا يصحّ سماعًا، ولا قياسًا. والجمع الصّحيح: بزور، ويصحّ جمعه قياسًا على (بِزْران) وهو لغة الناس اليوم، كتيجان، وخِيلان، ونيران. ومن أهل اللّغة مَن يقول: البِزر للحبّ بكسر الباء، ويجوز الفتح، والمشهور هو ما مَرَّ، يا أخانا عُمَرْ
.
 
يشهد الذين شهدوا مؤتمر اللغة ومواكبة العصر بالجامعة الإسلامية أنّها الجامعة الأولى حِراكًا ونشاطًا في هذا الباب، وهي شهادة صادقة مصدَّقة، وأجيب هنا عن مسألة أثيرت في يوم الختام، وهي: هل اللّغة العربية لغة أهل الجنّة؟
الفتوى 44 : الجواب عن ذلك يتَّضح من وجوه، أحدها: ليس بشرط أن لا تكون اللّغة العربية عظيمة إلاّ إذا كانت لغة أهل الجنّة، وإنّما عظمتها في دنيانا هذه على حسب معرفتنا، ولعظمتها بين اللّغات منها عليها شواهد كافية وافية.
الثاني: أهل العلم بالأثر لا يصحّحون من ذلك شيئًا.
الثالث: في الجنّة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، وقد يمنّ الله على عباده بلسان آخر هو أمتع وأرقّ وأعذب.
الرابع: لا يصحّ الاستدلال بنحو قوله سبحانه (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) [الأحزاب: 44]، وقوله (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [يونس: 10]؛ لأنّ هذا إخبارٌ لنا بما يقولون، والله يخبرنا عمّا كان ويكون باللّسان العربي، كإخباره بأقوال الأمم السَّابقة وبكلام الهدهد والنَّمل.
الخامس: يلزم من استدلّ بذلك أن تكون لغة النّارِ هي العربية أيضًا؛ لأنّ الله أخبرنا عن تخاصمهم، وأنّ بعضهم يقول لبعض (لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ) [ص: 60]. فما فضل العربية إذن إن كانت لغة أصحاب النّار.
السادس: إذا كانت نصوص الوحيين لا تدلّ بمنطوقها ولا بمفهومها على أنّها لغة أهل الجنّة، ولا يصحّ في ذلك خبرٌ، فالجزم في ذلك بشيء نوعٌ من القول بغير علم، ويزيده جهلاً إذا كان تعصبًا للعربيّة. وما أشبهه بتعصّب من قال: إنّ سؤال الملَكين في القبر يكون باللّغة السِّريانيَّة.فإن قيل: فهل يتخاطب أهل الجنّة والنّار بلغة واحدة؟ قلنا: يمكن ذلك ولا يستعذبها أهل النّار، لِما هم فيه من العذاب الأليم، لأنّ ما يمتع الأسماع وتلذّ به الأعين لا يمتع المعذَّب، كما لا يمتع الغريق أن تُسْمِعَه أحلى صَوتٍ، وأعذبَ إيقاع.
وهَنيئًا للعالَم كلِّه بالجامعة الإسلامية، وهنيئًا للجامعة والوطن بـ (محمَّد العَقلا)
.
 
كتب إليَّ الأستاذ: حسين حمزة السُّليمانيّ مسرورًا بمجمع اللّغة الشَّبكيّ، مُهديًا إليه وإليَّ كتابًا كريمًا داعيًا فيه إلى البرِّ بلغة القرآن، ساعيًا إلى المشاركة في ذلك بما آتاه الله من قُدرة، ناعيًا فيه على من أعرض عنها ونسي ما تعلَّم.
وفي خطابه وكتابه سؤال كامن: ما سبب الجفوة الحاصلة بين اللّغة العربية وأهلها
؟
الفتوى45: سبب تلك الجَفوة غفوة قوم ظلموا أنفسهم، اغترّوا بحضارة آخرين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا، وملكوا مفاتيح زخرفها، ولمّا كانت اللّغات وسيلة تعايش بين الخلق وكانت مقوّمات العيش في كمالياته وبعض ضرورياته بيد القويّ قويت لغته، وقدّم لنا حضارته وما نحتاج إليه من صنعته وعلمه بلسانه، وحُقَّ له أن يفخر ويشمخ. ونحن لم نقصِّر - ولا نظلم أنفسنا - في المفاخرة بلغتنا، ولنا في ذلك حداء ونداء ودعاوى، وفينا من يفاخر بأنّ العربيَّة لغة أهل الجنّة، هذا ما نجيده نحن العرب أحسن إجادة، ولنا من دون ذلك مؤتمرات وندوات وصرخات صدّاحة، غير أنّها لا تتجاوز ساعتها ساحتها.
ولستُ بميّال إلى المبالغة في اللّوم وعذل الذّات، ولكنها الحقيقة المُرَّة بالمَرَّة. وما كان لأبناء أمِّ العلوم وسيَّدة اللّغات أن يخدع بصائرهم ما خدع أبصارهم، وأن يعقدوا خيوطًا من إيجاد تلازم بين شرف اللّغة والقُوَّة العارضة، فقد كُنَّا أقومَ قيلاً وأقوى قبيلاً، وأشدَّ بأسًا وأشدَّ تنكيلاً. ولقد عهدنا إلى أنفسنا في مجمع اللّغة الذي أُسس على الشبكة أن نجمع ما أوصت به المؤتمرات ونعمد إلى أهمِّ ذلك، وندعو إليه دعوة عمل ونصح وتوجيه وتطبيق وإصلاح وترغيب.
ولك يا حُسينُ شُكري الحسَن.
 
السائلة (أنشودة المطر): أيّها المجمعيُّون أفيدوني، يتردّد على مسامعي كلمات أردتُ أن أستوضح إذا ما كانت فصيحة، مثل: (يندب بمعنى: يُرسل)، و(تونِس بمعنى: تشعر)، و(أضنت بمعنى: ولدت)، و(أبَتْ بمعنى: رفضت)، و(كُبَّه بمعنى: اتركه)، و(قامت بقعة، بمعنى: أثار مشكلة)، و(عرب فلان بمعنى: زوجته) ؟
الفتوى 46 : ليس في هذا الألفاظ السَّبعة ما ليس بعربي، بل كل ذلك صحيح. ومنها ما جاء في الكلام الفصيح، وأول ذلك (أبى) على المعنى المذكور، وهو لفظ قرآني، قال تعالى: (إلاّ إبليس أبى)، وقال: (فأبوا أن يضيفوهما). وأمّا (ندب يندب) فلغة حديثية وردت في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معاني (ندب) بعث وأرسل، على المعنى المذكور أيضًا، وقال الزّبيديُّ في (التاج): (والمندوب: الرسول بلغة أهل مكة).
وأمّا (كبَّه) بمعنى: تركه، فصحيحة أيضًا، وأصل معنى (كبّ) كفأ وقلب. وفي (تكملة المعاجم): (كبَّ: صبّ، وسكب، وأراق. وكبّ القدح: أفرغ ما فيه).
وأمّا قولهم: (قامت بقعة)، فلعل أصلها: باقِعَة، والباقعة: هي المصيبة والدّاهية، ويكثر في اللّهجات العامية تسكين ما بعد الألف، ثم حذف الألف بعد ذلك لالتقاء الساكنين. وأمّا (أضنت) بمعنى: ولدت: فصحيحٌ أيضًا، وكتب المعاجم تثبت ذلك بمعان قريبة، ومنها: أضنت المرأة: كثر ولدها، والضُّنى: الولد.
وأمّا قولهم: (عرب فلان) بمعنى: زوجته، فهي كناية من الكنايات التي لا يجوز لأحد رفضها، وطالما أكثر العرب لا سيما أهل البادية من الكناية عن المرأة، لأنّ حالها لديهم مبني على الجهالة، ألا ترى أنهم وضعوا للواحدة المشار إليها (ذي، وذه، وتي، وته ...)، ولم يضعوا للمذكر سوى (هذا). ولهم اليوم كنايات عن المرأة، منها: الجماعة، والوزارة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما جاء في قوله تعالى: (عُربًا أترابًا)، لا سيما على قراءة إسكان الرّاء، وهي قراءة سبعية، وعُرب جمع عروب، وهي المرأة المتحببة إلى زوجها. والمعنى الأول أولى وأطهر.
وأمّا (تونس) فأصلها: تؤنس، وأبدلت الهمزة واوًا، وهي: من آنس يؤنس كآمن يؤمن، بمعنى: أحسّ به، وله معان أخرى قريبة من المعنى المصدَّر في السؤال، وهذا جوابه.
 
السائل (إحسان): ما الفرق بين الإيضاح والتوضيح؟
الفتوى 47: يرى طائفة من اللّغويين أنه لا فرق بين صيغتي (الإفعال والتفعيل)، كالإنزال والتنزيل، والإيضاح والتوضيح، والإفراح والتفريح. وأنّ كلاًّ منهما مصدر لفعله المعدّى بالهمز أو التضعيف، فمن أدخلت عليه ما يفرحه، فقد فرَّحته أو أفرحته، والمصدر تبعٌ لصيغة فعلهِ.
والمحققون يقولون بالتّفريق بينهما، وأنّ صيغة التَّفعيل كالتوضيح فيها معنًى زائد، لا يوجد في الإيضاح، وذلك المعنى الزائد يختلف باختلاف المقام والسياق، ومن تلك المعاني تحقُّقُ الفعل على أكمل أحواله، والتفريق، والتدرّج. والمحسوس يوضح ذلك أكثر من غيره، كالتغليق والإغلاق، فالإغلاق يصدق على مطلق غلق الباب، والتغليق غلق في إحكام، وقد يفيد التكثير أيضًا، وتأمّل قوله تعالى في (سورة يوسف): (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)، فهذا تغليق وليس بإغلاق، ولو قال: (وأغلقت) لنقص المعنى، أو لم يفد ما أفاده التغليق.
والمفسرون كثير منهم يفرِّقون بين الإنزال والتنزيل، لتفريق القرآن بينهما في مواضع، منها: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل)، ويقولون: إنزال التوراة والإنجيل لم يكن كتنزيل القرآن؛ لأنّ نزوله كان مفرّقًا. وحين يأتي في الكتاب العزيز (وأنْزَل) مرادًا به إنزال القرآن فالمراد منه بعض أحوال نزوله، ومن ذلك نزوله جملة واحدة إلى سماء الدّنيا. ويزيد هذا إيضاحًا قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ)، ففرَّق بين مرادهم وبين تحقيق مرادهم، وقد كشف ههنا بعض المفسرين معنًى حاصله: أنّ المنافقين يقدمون نصحهم باقتراحهم لِثقال الأمور وكثيرها، ليظهروا عنايتهم بأمر الإسلام، فإذا أُمِروا بما اقترحوه دفعة واحدة تحاشوا عنه، فهم يقترحون الكثير ويتحاشون القليل. وهذا التفسير على قول من قال: المراد بالذين آمنوا هنا هم المؤمنون بأفواههم. هذا ما ظهر لي من غير تعمّق، ولعل لبعض إخواننا من الباحثين بحثًا أوسع من ذلك يتحف به المجمع توضيحًا وإيضاحًا، يكشف فيه الفروق الدقيقة بين الصيغتين من خلال النصوص، وإنّ في ذلك لذخرًا له وللعربية وأهلها
.
 
السائل (توفيق عبيد): أشكل عليّ في بحثي مسألة اختلف فيها النحويون، وهي وصف جمع المذكر السالم بوصف يدل على الكثرة، والنحويون يقولون: جمع المذكر السالم من نوع جموع القلّة، فما رأيكم في هذه المسألة؟
الفتوى 48: مسألة الجموع من عويص مسائل اللّغة، القياس فيها كثير، والسماع كثير، والإحاطة بها متعذّرة، فكيف الإحاطة باللّغة العربية؟ ومن أكبر أسباب اضطراب صيغ الجمع تعدّد الواضع، والمتكلّم قد يضطر إلى إفهام المخاطب ولا يكون في ذهنه صيغة حاضرة مسموعة فيفزع بذوقه إلى القياس، والقياس منه صحيح وفاسد. وسمعتُ بعض الصبيان يجمع قرآنًا على قرائين، كبرهان وبراهين، ولو قاسه على فُرقان لم يجمعه.
وسؤالك مبنيّ على التأصيل الوضعي للجمع السالم بنوعيه، وسيبويه ومن تبعه يجعلون السالم من جمع القلّة وضعًا، وقد يقع للكثرة، كما أن صيغ جموع التكسير التي للقلّة تكون للكثرة، وما للكثرة للقلّة، والحجّة التي يستدل بها سيبويه ومن معه اعتراض النابغة على حسان في قوله:
لنا الجَفَنات الغرُّ يلمعْن بالضُّحى
وأسيافنا يَقطرْنَ من نجدةٍ دَما
قال له النابغة: لقد قلَّلْتَ جفانك وأسيافك! فقال له حسان: إنّ من كلامنا وضعَ القليل موضع الكثير.
وأنا في شكٍّ من صحة هذه الحكاية! وادّعاء أنهما للقلّة في أصل الوضع لا برهان عليه، فإنّ أكثر ألفاظ الجمع السالم في القرآن يراد بها الكثرة، كقوله سبحانه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...)، ففي هذه الآية عشرون جمعًا كلّها للكثرة، وما أحسن ما استدلّ به بعض النحويين على غلط من ادّعى أنهما للقلّة، وهو قوله سبحانه: (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)،فإذا كانت كلمات الله لا منتهى لها وسمّاها كلمات، ولم يُسمِّها كَلِمًا، فكيف يسوغ بعد هذا ذلك القول المنسوب إلى إمام النحو؟!
وهذا التحقيق على وجازته يخفف عنك الهمَّ في هذه المسألة، وبه تعلم أن الأمر لا قيد فيه، فلك أن تقول: الزيدون ظرفاء، وظريفون، وفي القرآن: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ)، وصف الكثرة بما يُدَّعى أنه للقلّة، وقال ابن مالك في الألفية: (والله يقضي بهباتٍ وافرة)، والأصل عندهم أن يقول: بهباتٍ وافرات .. ولِما سألتَ عنه فرعٌ طويلٌ يا أخانا توفيق .. وبالله التوفيق
.
 
السائلة (شريفة): قولهم: "في قديم الأزل" هل هي عبارة صحيحة؟
الفتوى 49 : "قديم الأزل" لفظة شائعة على ألسنة الخاصّة والعامّة، ومعناها التركيبي: الأزل القديم؛ لأنه من باب إضافة الصِّفة إلى الموصوف، نحو: كبار القوم، وصغائر الذّنوب، أي: الذّنوب الصغائر، والقوم الكبار، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِين) [الواقعة: 95]، أي: اليقين الحقّ. وقد يضاف الموصوف إلى الصّفة أيضًا، كقولهم: المسجد الجامع، وكقول الله سبحانه: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) [فاطر: 43]، وقوله: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) [القصص: 44]، أي: بالجانب الغربيّ، وبحث هذه المسألة مذكور في مبسوطات اللغة وشروح الألفية عند قول ابن مالك:
ولا يضاف اسمٌ لما به اتحدْ
معنًى وأوّل مُوهما إذا وَرَدْ
والبيت في باب الإضافة، وهو في تقرير مسألة إضافة الموصوف إلى الصفة، وللشراح استطراد بعد ذلك في إضافة الصّفة.
هذا هو شرح التركيب من جهة اللّغة، وأمّا من جهة الدّلالة: فالقديم يطلق ويراد به البالي، وما ليس بجديد، وما مضى عليه زمن طويل، وبه يفسّر قوله سبحانه: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم) [يس: 39]، وكذلك الأقدم في قوله: (أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون) [الشعراء: 76]، ويعرّف (الأزل) بأنه ما لا أوّل لوجوده، وبما استمرّ وجوده مع ما مضى من أزمنة لا أوّل لها. وفي (التاج) للزّبيديّ: "والموجود ثلاثة أقسام لها رابع لها: أزليّ أبديّ، وهو الحقّ سبحانه، ولا أزليّ ولا أبديّ وهو الدّنيا، وأبديّ غير أزليّ وهو الآخرة".
وإنّما صحت الإضافة في (قديم الأزل) لتناسب بينهما، فالقديم يطلق على ما تقادم عهده مطلقًا، وأما الأزل فزمانه الماضي غير متناهٍ، فما مضى من معنى الأزلي، وقدم عهده فهو قديم ولو عرف عهده، وما من مضى من الزمان الذي لا يحدّ أوله هو أيضًا قديم، وهذا أيضًا أحد معنيي (الأزليّ).
والمعنى الثاني: الوجود المستمرّ كما تقدّم، فقول الناس: في قديم الأزل، كقولهم: في قديم الزمان، وفي الأزل، ما هو مستمرّ الوجود، وما هو ماض لا يُدرك له ابتداء، وفي بعض أجزائه ما تقادم عهده، فإذا قصد هذا المعنى الأخير قيل: قديم الأزل. وهذا معنى صحيح، ولا جناح علينا في إطلاقه، ولم يزل العلماء يقولونه من غير نكير
.
 
السائل (أحمد عبدالله - الطائف): عندي أسئلة أحبّ أن أجمعها وأبعثها إليك فضيلة الشيخ، ثم ذكر سؤالاً في اللغة وهو: هل جملة (خَلَفَ الله عليك) عبارة صحيحة؛ لأن المعروف في اللغة (أخلف) بالفعل الرباعي؟
الفتوى 50: سؤال مليح، والجملة المذكورة شائعة على الألسنة، من أدعية الأضياف لمن أطعمهم، وتقال أيضًا في غير هذا الموضع، والذي جاء في القرآن بنحو هذا المعنى قوله سبحانه: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين) [سبأ:23]، وهو من (أخلف) الرُّباعي، وقد نقلت المعاجم العبارتين(أخلف الله عليك)، و(خلف الله عليك)، ولكنَّ بينهما فرقًا في المعنى، ففي أوهام الخواص للحريري: (الفرق بينهما أن لفظة (خلف الله عليك) تقال لمن هلك له من لا يستعيضه، ويكون المعنى: كان الله لك خليفة منه، ولفظة (أخلف الله عليك) تستعمل فيما يرجى اعتياضه ويؤمّل استخلافه). وأصل هذا التفريق لابن فارس صاحب (المقاييس)، وهذا أيضًا في (صحاح) الجوهري . وفي (التاج): (ويقال : خلف الله لك خَلَفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا، أي: أبدلك بما ذهب منك وعوضك عنه). وظاهره العموم وأن ذلك يقال فيما يستعاض كالمال والطعام، وفيما لا يستعاض كالأب والأم، ومن غرائب هذا الفعل أن يجوز فيه فتح عين مضارعه، فيقال: خلَف يخْلَف، كفَتَح يفتَح، وهو نادر، كما نصّ عليه الأئمة، واللّغة الفصحى بالضم من باب نصَر ينصُر، وللعدناني صاحب (معجم الأغلاط) تفصيل حسن؛ ولكنه لم ينته إلى شيء فيه سوى الجمع بما يفيد أنه لا فرق بينهما، والظاهر لي أن التفريق بينهما متعيّن في اللّغة، وأن لكل منهما معناه الذي نقلناه، ولا يجوز وضع أحدهما مكان الآخر إلا أن يكون ذلك على وجه المجاز والتوسع، فهذا أمرٌ لا يستطيع أحد منعه، مادام التجوّز قائمًا على أصله، وللحس العامّي في مثل هذا أثر لا يخفض من شأنه، ولهذا كان أصدق التراجم وأقربها للأسماء الأعجمية كالآلات ونحوها من المصطلحات التي يحتاجها الناس كانت ترجمتهم هي الأصدق والأوفق، وعليها تعتمد مجامع اللّغة في فريق كبير منها، وهل التسمية بالجوال والمحمول والخلوي إلا من تراجم العامّة واختيارهم؟ وهل هو إلا ممّا أخلفوهُ من خير؟
 
السائل (أبو سعيد): أنا مواظب على قراءة فتاويكم، وأتحرّاها بالشوق في كلّ جمعة في (ملحق الرّسالة)، وأنا مدرِّس لغة بالمرحلة الثانوية، وأحرص كلّ الحرص على تعليم الطلاب وتحبيبهم في مادة القواعد، ولكن أحسّ من نفسي تقصيرًا في توصيل المعلومة.. فبماذا تنصحني شيخنا الكريم؟
الفتوى 51: إنّ استنصاحك يا أبا سعيد دليل صلاح وآية فلاح، وإنّ شعورك بالتقصير منبئ عن حياة الضّمير، والله أسأل أن يكثر من أمثالك، ويبارك في أعمالك، وليت إخوانك الّذين يعملون عملك ينهجون نهجك، ويقصّون أثرك. إنّ تعليم اللغّة العربية وغيرها فنٌ وقوده الأول حصيلة المعلم، وقائده الرّغبة والصدق والإخلاص، وجناحاه أسلوب المعلم وطريقة تدريسه وعرضه. وأمّا نصيحتي فإني أقدِّمها لك قواعد على هذا النحو:
أولاً: إذا أردتَ أن تخفّ نفسك لأيّ عمل تقدمه للناس، فتعاهد نفسك ونيّتك في احتساب الأجر، فإنه يخفّ عليك مهما عظُم، ويلذّ لك من حيث لا يلذ لغيرك.
ثانيًا: عليك بالتيسير في شرحك وخطابك واختبارك وتصحيحك وتنجيحك، فالتيسير هو مراد الله الدّيني، بل الدّين كلّه مبنيٌ على اليسر، ولا تقع فيما وقع فيه طوائف من المدرّسين الذين حُرموا هذه الخصلة المباركة، وظنّوا أن مصلحة الطلاب في التشديد عليهم، وأنه إن لم ينفعهم اليوم فسينفعهم غدًا، ولا ينجح من تلاميذهم إلاّ قليل، ويفعلون كما يفعل بعض الآباء الذين كدحوا في نشأتهم ورزقهم الله مالاً وولدًا، فبخلوا في الإنفاق على أولادهم، وكنزوا أموالهم، وقالوا: لا نريد أن نعينهم، ولا نوسِّع عليهم كي يتعبوا ويجهدوا كما تعبنا وجهدنا، ويعرفوا قيمة (القرْش!!)، ذلك هو الضلال البعيد.
ثالثًا: إذا شرحت درسك فتوقّ فيه من التفريعات التي لا تعود إلى أصل الموضوع، والاستطراد المشتت.
رابعًا: اجتهد في أن تسلك طرائق في أسلوبك وعرضك، وانظر أقربها إلى أفهامهم، وأحبّها لقلوبهم.
خامسًا: لا تملّ من تكرار درسك ما وجدتَ إلى ذلك سبيلاً، فالتكرار يمنع من الفرار.
سادسًا: لا تجاوز درسًا لم يفهمه تلاميذك، فإن كررته ولم يفهمه أحدٌ منهم، فاعلم أنك لم تفهم.
سابعًا: عليك بإيقاظ أذهانهم بالمساءلة.
ثامنًا: اعرف قوّة استعداد كلّ واحد منهم، واجعل ذلك في نفسك.
تاسعًا: أوقِدْ فتيل التنافس بينهم بالقدر الذي ينفعهم.
عاشرًا: احملهم على محبتك بتواضعك ورفقك، لا سيما حين يلقونك في غير مواطن التدريس، فإن أحبّوك فاعلم أن مادة (القواعد) البائسة سوف تبقى في قلوبهم غرَّاءَ إلى يوم يلقونه.
 
من الأسئلة المدوّنة بمنتدى مجمع اللّغة العربية على الشبكة سؤال السّائل (ابن قتيبة): شيخنا الكريم: أتمنى أن تتحفنا بحياتك مع الألفيّة.
الفتوى 52: لألفيّة ابن مالك - رحمه الله - بين مصنّفات النّحو مكان عريض، وزاده بسطة وسعة ما صنّف حولها من شروح مطوّلات ومختصرات، ولعلّ ما تفرّع منها وعنها ولها من تصانيف يبلغ ربع ما صُنّف في النحو؛ إذ كانت مبتغى أهل العلم من طالبي النحو في المشارق والمغارب، وهي أشهر ألفيّة على الإطلاق، ولو قيل: هي أشهر نظم لما كان ذلك بعيدًا عن الحقّ .. وأمّا تجربتي مع الألفيّة فلا أعدّها تجربة فريدة، ولكني أذكرها فلعلّ فيها نفعًا للسّائل ولغيره، وسوف أذكر أشياء ولا أذكر أشياء، وممّا أذكره أنني حفظتها منافسة لواحد من رفاقي - أحسن الله ذِكره - وكان يشربها شرب الماء، وحفظي لأبياتها متفاوت كسائر محفوظي، ولا أدري ما علّة ذلك، وأقدِّر أن يكون للقلب حضور في بعض الأوقات دون بعض، فيحصل حين حضوره من انطباع ما يحفظ ما لا يكون حين انشغاله وتشتته، أو انصرافه أو للتشويش عليه، ومن أعوان حضور القلب قوة الرّغبة. وللحافظة وذاكرتها والفكر أعاجيب في الفرد الواحد من الناس، فكيف بالعدد الكثير ؟ وفي الناس من يعرف نفسه من نفسه، وفيهم من يقرأها في أشباهه وأضداده لا سيما إن كان من ذوي الفضول واستظهار المخبوء.
وقد قرأتها وسمعت شرحها لدى طائفة من أهل العلم في مقعد الدّراسة في الجامعة بالمدينة، ولدى شيخ النحو أحمد الموريتاني وغيرهم، رحم الله الجميع، ولم يشف نهمتي من الشروح سوى شرح أبي إسحاق الشّاطبيّ، طالعته مخطوطًا ومطبوعًا، وربما لا أجد فيه في بعض المواطن ما يُشبع، فأفزع إلى حاشية ابن الحاج، أو الصبّان، وقد نظمت مقاصدها في زبدة الألفيّة بذيل كتابي (ما هبّ ودبّ) قبل عشرين عامًّا، ووضعتُ لها أعني الألفيّة شرحًا لطيفًا ميسّرًا، وأكبرُ ما ثبَّت لفظها ومعانيها تدريسي وإقرائي لطلبة العلم أفراد وجماعات، وآخر الدّروس فيها ما بدأنا به قبل شهرين مع درس في الشمائل المحمدية بعد مغرب كلّ جمعة بجامع الزّايدي بمكة، وهو موجود بالشبكة العالمية، وسيكون في موقع المجمع، وأنا أوصي من كان من أهل الحفظ أن لا يفوّت على نفسه ما تُقرِّبه إليه ملكته، فإن لم يسهل عليه حفظها، فإنه يكفيه فهمها أو فهم النحو من أي كتاب يعجبه، وإنّ من أظلم الظّلم أن يقهر المرء نفسه على حفظ ما لا يشتهيه، فإن أبت نفسه إلاّ الصدود من كل شيء، فليحتل عليها بما يرغبها، فإنما النفس طفلٌ مدلّلٌ.
 
أُلقيَ إلى المجمع سؤالٌ عن اسم التلفاز من السائل (الهاشميّ)، قال فيه: قرأتُ في كتابكم البديع [لحن القول] تعليقكم على تغيير أسماء المخترعات كالتلفزيون، وخلاصته في الحقيقة منطقية من حيث العدل والعقل، لكن قرأت في أحد كتب أبي تراب الظاهريّ - أظنه (المخزون والموزون) - أنه يسمّي التِلفاز بالمرناء، ويسمّيه الأستاذ علي الطنطاويّ بالرّائيّ، وسؤالي: ما وجه تسميته بالمرناء والرّائي، مع أن المتبادر للذهن - أولاً - تسميته بالمرئيّ ؟
الفتوى 53: أؤكد ما قلته ثَمَّ، وأنّ صاحب الصّنعةِ أحقّ بتسميتها، وأنّه لا جناح علينا في إطلاق تسميته وتصديقها على ما هي عليه، أو صوغها على وزن من أوزان العربية، فيقال: تِلفاز على وزن تِمثال، ولا تثريب أيضًا على من وضع له لفظًا آخر صادقًا على معناه أو مقارِبًا له، إنّما التثريب على الذين يستنكفون من النطق بتسمية صانعه ويرون وجوبَ تغييره، والتثريب أيضًا على مَن علم الألفاظ العربية، ثم يصرّ مستكبرًا كأن لم يسمعها، ويعتاض عنها بألفاظ أعجمية في معانٍ معلومة في الخطاب العربيّ، ومن ذلك: استبدال ألفاظ الشّكر والاعتذار والتوديع والتحية والإيجاب والقبول، يقولها العربيّ للعربيّ من غير حاجة. وأمّا ما ذكرته من تسمية الشيخين (الطنطاوي وأبي تراب) بالرّائي والمرناء، فإطلاق صحيح لفظًا ومعنًى؛ لأنّ (الرّائيّ) اسم فاعل من (رأى)، وهو من المجاز العقليّ، ويقال له: الحكميّ والإسناديّ، والرّائيّ بمعنى المرئيّ، كقول الله تعالى: (فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) [الحاقة: 21]، أي: مرضيّة. وأمّا تسميته بـ (المرناء)؛ فالوجه فيه واضح؛ لأنّ مطلقه أراد أن يوجد صيغة من صيغ أسماء الآلات كمنظار ومفتاح وميزان، وكلّ ذلك على وزن (مِفْعال)، فصاغ له هذا اللّفظ لأنه آلة، والمِرْناء من (رَنا يرنو)، والرُّنو: هو إدامة النظر بسكون الطّرف، ولهوٌ مع شَغْل قلب وبصر، وغلبة هوى، وما يُرمى إليه لحُسنه.
هذا حاصل ما قاله المجد في (القاموس)، وما أصدق هذا الاسم على ذلك المعنى، وما أدقّ نظر ذلك الظّاهريّ اللّماح، ولو قال: الرَّاني، لكان أظرف وأوفق.
وأمّا أنا فسمّيت المذياع (الشّاهد)، والتِلفاز (المشهود)، وأنشأت فيهما مقامة مفردة، وعقدتُ بينهما مجلس مناظرة، فإذا اطّلعتَ فرأيتها، فاحكم بينهما بالحقّ أيّها الهاشميّ السَّؤول
.
 
السائل (منصور الحربي): في حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- والذي فيه: (أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّر عَليهِ أَرْبَعًا)..
وجدتُ بعض الشُّراح يقرر أنَّ معنى (على قبر) أي على صاحب قبر. وهذا ابتداءً لا إشكال به، ولكن حول قوله: (بَعْدَ مَا دُفِنَ) يقرِّر أن معناه: (بعد ما دفن صاحبه)، ففي (دُفِنَ) ضميرٌ يعود على المضاف المقدَّر؛ إذ لا يجوز أن يُقَدَّر ظاهرًا؛ لأنّ المفعول القائم مقام الفاعل كالفاعل في أنَّه لا يحذف. والسؤال: هل يمتنع تقدير نائب الفاعل في الحديث غير ضمير يعود على المضاف المحذوف قبله؟ أم يجوز تقديره ضميرًا أو اسمًا ظاهرًا محذوفًا أي (صاحبه، أو صاحب القبر، أو الميت، أو المقبور) ونحو ذلك؟ ولكم وافر الشكر
.
الفتوى 54: لا يمتنع تقدير نائب الفاعل في الحديث الذي ذكر، ويجوز ذكره ظاهرًا وتقديره، مضمرًا، والكلام المنقول غير صحيح، ونودّ منك أن تعزوه لنعود إليه، ونعرف قائله، ونصَّه ونزِنَه. وليس في الحديث إشكالٌ، ولا لبسٌ، فليس في اللّغة ما يمنع من عَود الضمير إلى القبر نفسه، ويحمل على أحد وجهين، كلاهما صحيح: الأول: أن يكون المرادُ القبَر ؛ لأن الدّفن تغطية، كما يقال: دفنت الحفرة، وكما يقال للبئر إذا ملئت بالتراب: دفينة، أي مدفونة. الثاني: أن يكون من باب التوسع في اللغة، أطلق المحلّ، وأريد من حلّ به، ولهذا نظائر كثيرة، ويسمّى بالمجاز المرسل.
وفي هذين الوجهين لا يقدّر الحذف.. ويحتمل وجهًا ثالثًا، وهو: أن يكون المراد: بعد ما دُفِنَ صاحبُه، وينشقّ عنه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدّر حذف المضاف في الجملة الأولى (صلَّى على قبر) أي: صاحب القبر. الثاني: أن لا يقدّر أصلاً، كما تقول: دخلتُ المسجد بعد ما سلَّم، أي: الإمام. عاد الضمير إلى ما هو معروفٌ من الأفهام، معهودٌ في الأذهان، كقول الرَّحيم الرحمن في سورة الرحمن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} [الرحمن: ٢٦]، أي: على الأرض، ولم تذكر في السياق القريب. الوجه الثالث -وهو استطراديّ-: يجوز في الكلام أن يقال: صلَّى على قبر بعد ما دُفن صاحبُه، سواء قدِّر في الجملة الأولى مضاف، أي: صاحب قبرٍ، أم لم يقدّر .. ويبقى في هذه المسألة فرع آخر، وهو: هل يجوز أن يقال: صلَّى على صاحب قبر بعد ما دُفن صاحبه؟ والجواب: نعم، ولا يكون بليغًا إلاَّ إذا كان لمعنى كامنٍ، وأذكر له ثلاثة أمثلة من القرآن أشكلت على كثير من المفسرين: الأول: قوله تعالى: (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) [البقرة: ٢٨٢]. الثاني: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ) [يوسف: ٧٦ ]. والثالث: (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) [الكهف: ٧٧ ]، ولي فيه بحثٌ طويل
.
 
السائلة (تألق): هل (أل) في قوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) تدلّ على العهد؟ فيكون المقصود الصحابة -رضي الله عنهم- أم تدلّ على الاستغراق فيدخل الصحابة -رضي الله عنهم- من باب أولى؟
الفتوى 55: (أل) الدّاخلة على الجمع، مثل (أل) الداخلة على المفرد، في العهد، والحقيقة، والاستغراق، وفي كونها موصولة إلاّ في فروق يسيرة، وبين النحاة نزاع عريض في بعض أنواعها، فمنها ما لا يراد به العموم، ولا الحقيقة، ولا فرد بعينه، بل يراد به فرد واحد غير معين، كقوله سبحانه (وأخاف أن يأكله الذئب) [يوسف: 13].
و(أل) في قوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) [النساء: 115]، يصح أن تكون موصولة، أو معرِّفة عهدية جنسية، أو استغراقية؛ لأن سبيلهم واحد، وأيًّا ما كانت فلا ثمرة للخلاف فيها فيما أرى؛ لأنّ الله جل وعلا لم يقل: (ويتبع غير المؤمنين)، بل قال: (ويتبع غير سبيل المؤمنين)، وسبيل المؤمنين هو الإسلام، وهو الصراط المستقيم، وهو الهدى الذي قال الله فيه: (فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى) [طه: 123]، فيصير معناه: ويتبع غير الإسلام، أو: ويتبع غير الهدى، وأضيف إلى المؤمنين؛ لأنه طريقهم، ويشمل كل مؤمن، سواءٌ كان من الصحابة أو من بعدهم، ومن أخطأ منهم لم يخرج عن مسمّى الإيمان ولكنه ضل السَّبيل، وغيره مأمور باتباع السبيل، واتباع من سار عليه، إذ من شأن السائر عليه أن لا يضل، ومن ثم كان الاستدلال بهذه الآية على الإجماع ضعيفًا لدى كثير من المحققين، ولكنهم لم يذكروا -فيما أعلم- هذا القادح، وذكروا شيئًا آخر في الآية، وهو اقتران اتباع غير سبيل المؤمنين بمشاققة الله ورسوله، فالوعيد في الأصل هو على مَن نازع الله ورسوله، واتباع سبيل المجرمين من المشاققة، وعطف عليه كما يعطف البعض على الكل، والخاص على العام، كقوله تعالى: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحًا) [التغابن: 9]، والعمل الصالح إيمان تطبيقيّ .. ولنعد إلى (أل) في (المؤمنين)، فنقول: القرآن حمّال أوجه، والاحتمالات كلّها مقبولة تبعًا لصحة المعنى، إذ يمكن أن يكون المراد كلَّ المؤمنين، أو حقيقتهم، أو المعهودين حضورًا، أو علمًا، فتكون للاستغراق، أو للجنس، أو للعهد الحضوري، أو الذهني، ولا أثر لذلك كما تقدم، والذي منع الأثر كونه مضافًا إليه، ومعمول الاتباع هو المضاف، وليس فيه مفهوم مخالفة إذا لم نقل بالاستغراق ؛ لأن السبيل واحد، وسبيل أبي بكر هو سبيل عمر، وصالح المؤمنين .. وشرح ذلك يطول
.
 
السائل (عبدالمجيد - الرياض) لماذا خصَّ الله الرجل باللّعنة، والمرأة بالغضب في آية الملاعنة في سورة النور؟
الفتوى 56: إذا رمى الرَّجل زوجته بالزّنا، وليس له شاهد سوى نفسه يحلف بالله أربعًا على صدقه، ثم يقول: لعنة الله عليّ إن كنتُ من الكاذبين، فإن أنكرتِ المرأةُ حلفت أربعًا على كذبه عليها، ثم تقول: غضبُ الله عليّ إن كان من الصادقين.
هذا مجمل آيات اللّعان التي أشرتُ إليها، وفي بعض كتب التفسير، كتفسير البقاعي والآلوسي إشارة خاطفةٌ إلى وجه التفريق بينهما، حاصلهُ: أن الغضب أبلغ من اللعن، وغُلِّظ عليها لتعترف بالحق، ولأنها مادة الفساد، وهاتكة الحجاب، وخالطة الأنساب. وبيان ذلك: أن اللّعن طردٌ، والغضب إسقاط بالكلِّية، قال سبحانه: (وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [ النساء: ٥٢]، وفرق بين من تطرده من نعمتك، ومن تخرجه منها وتحلّ به عقابك، وقد جاء في القرآن اللّعن وحده، ومقرونًا بالغضب أو غيره، وجاء الغضب وحده، ومقرونًا باللّعن وغيره، وإذا قرن اللّعن بالغضب، فإمّا أن يتقدم أو يتأخر كقوله تعالى في سورة النساء: (فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) قدَّم الأثقل فما دونه، وفي سورة المائدة: (مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) ذكر الغضب بعد اللّعن، ثم ذكر عاقبة الغضب وهي عقوبة عاجلة ظاهرة.
ويأتي اللّعن في القرآن مقرونًا بالكذب والظلم، كقوله تعالى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِين) [هود: ١٨]، وقوله: (فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِين) [آل عمران: ٦١]. وبعض المصنفين والواعظين يظن أن في القرآن (ألا لعنة الله على الكاذبين)، وقد صدّر بها صاحب (الكبائر) الذهبي أو غيره باب كبيرة الكذب؛ سهوًا، أو وَهْمًا، ولم يأتِ في القرآن هذا اللفظ. والمقصود: أن الظلم والكذب يستحقان اللّعن، والزوج إن كان كاذبًا فقد كذب وظلم. وأمّا هي فإنها إن صدق فيما رماها به، فقد فعلت فاحشة الزنا، وكَذبَت، وكُذِّبت، وكانت السّبب في الفضيحة وإشاعة الفاحشة في مجتمع الإيمان، وقد رُوعي معنى التكذيب الذي هو أكبر جُرمًا من الكذب في هذا المقام، ولهذا لم يقل: (أنّ غضب الله عليها إن كانت من الكاذبين)، ولعله لو قال ذلك لناسب اقترانه باللّعن لا بالغضب، ولكنه قال: (إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِين) [النور: ٩] فهي مكذِّبة، ومن كذَّب الصادق الذي يُعلم صِدقُه فقد كَذَب وكُذّبْ .. وتبارك الذي نزل الفرقان، ما أعظم كلامه وما أجلّه
.
 
السائل (عبدالرحمن أحمد): أحب اللّغة العربية، ولكن لم أجد مَن يحببني فيها، وتأليفاتك الميسّرة وجدت فيها ما يقرّبني لها، وأريد منك فضيلة الشيخ أن توجّهني إلى تفسيرٍ ينفعني في معاني القرآن، ويقوّي ملكتي في اللغة.
الفتوى 57: في الرسالة المطوّلة التي أرسلتها ما يدل على ملكة قادرة على التمكّن من محبوبتك (اللّغة العربية)، وأنك قريب منها، وأنّ ظلالها دانية عليك، وقطوفها مُذلّلة، والعلاقة أولى منازل المحبة، وما يدريك لعلك تبلغ فيها إلى أن تتخلل مسالك الرّوح منك؟ غير أن الحب وحده لا يكفي، فلابدّ من تجييش جيوش الغرام، وتجنيد أجناد الهوى، وذلك بتعلم النحو والتصريف، وبدراسة علم المعاني والبيان، وشيء من فقه اللغة، وقراءة الشعر قراءة صحيحة، ويكفيك في هذا -إن كنت متجردًا له- عام واحد، وهذا يهيئك بعد ذلك لفهم الكتب المتوسطة التي تُعنى بدلالات الألفاظ والتراكيب، والبناء والتعاريب، التي تعدِّك وتقدّمك للتفاسير الكبرى الغواصة في أعماق اللّغة، ومن الكتب المعينة لك على ذلك: كتاب (الدر المصون) للسمين الحلبي، وكتاب (المفردات) للراغب الأصفهاني، وكتاب (إملاء ما منَّ به الرحمن في إعراب القرآن) للعكبري، ترجع إليه عند الحاجة.
وعليك بعد ذلك أن تُعْمِل فكرك في فهم كلام الله، فإنك أنت وكلّ مَن له عقل داخل في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب) [ص: ٢٩] فمَن قال إنه لا يفهم القرآن إلاَّ بتفسير يسمعه، أو يقرأه فقد أخرج نفسه من أولي الألباب، نعم هنالك آيات وجمل في القرآن موقوف فهمها على أدوات أخرى للمفسر، كالعلم بالخاص والعام، وأسباب النزول، ولكن هذا في مواضع قليلة، ومعظم القرآن يفهمه العامّة، فكيف بك إذا صرت من الخاصة .. والقصد أن اللّغة والتدبر هما وسيلتك لفهم القرآن، وإيّاك أن تصدق قطاع الطرق الذين يخيّلون إليك أنّ طريق العلم طريق طويل، وأنك تحتاج إلى عشرين سنة لتكون حاذقًا باللغة، ولعلك بعد ذلك الحذق تكون مهيّأً لفهم القرآن.
أولئك هم أصحاب الأبواب الموصدة، والقلوب المقفلة .. وللجواب تتمة لعلهُ يستغرق جمعات هذا الشهر
.
 
السائل (عبدالرحمن أحمد) : أحب اللّغة العربية ولكن لم أجد من يحببني فيها، وتأليفاتك الميسّرة وجدت فيها ما يقربني لها، وأريد منك فضيلة الشيخ أن توجهني إلى تفسير ينفعني في معاني القرآن ويقوي ملكتي في اللغة .
الفتوى 58 : ذكرت لك في صَدر الفتيا أنّ تدبّر القرآن يملك مفاتحه كلّ من كان له قلبٌ، فالله قد يسّره للناس تلاوة وحفظا وفهمًا، وهذه الثلاثة (التلاوة والحفظ والفهم) يشملها قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر) [القمر: ١٧]، والواقع شاهد على ذلك، أما تلاوته فالكون كله يشهد كيف يسّره الله على ألسن الصِّغار والكبار، وكيف يقرأه صاحب اللّسان الأعجميّ ويقيمه كما يقامُ القِدحُ، وهو لا يعرف معنى كلمة واحدة من كلمه .. وأما حِفظه فسبحان من يسَّر نقله من السطور إلى الصُّدور، فلا يوجد كتاب في العالم من كتب السماء ولا من كتب الأرض حفظ في الصدور كما حفظ القرآن .. و أما فهمُه فإنه ما تأمّله صاحب حسّ وفهم – وإن كان عامّيا أمّيًّا أو غير أميٍّ – إلا خرج منه بفائدة، وربّما سبق بفهمه إلى ما لم يُسبق إليه .. حدثني الوالد، رحمه الله ورضي عنه، قال : أخبرني أحد أشياخنا أنّ رجلاً من عامّة الناس من أصحاب الحرف سأله وهو يفسّر قوله تعالى: (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير) [ التحريم: ٤ ] ما سرّ هذا الوعيد الذي توعّد فيه المولى امرأتين ضعيفتين بذاته المقدسة وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة، ولم يقل ذلك في أعدائه الذين هم ألوا بأس ولهم شوكة ؟ .. قال الشيخ المسئول، فوقفت حيران، لا أدري أأعجب من السائل أم من السؤال ؟ قال الوالد : فأخبرنا الشيخ بعد ذلك أنه وجد في بعض مطولات التفسير أو الحواشي أن ذلك من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو الذي انقدح في ذهني أوّل مرّة، ثم عثرت بعد وفاة الوالد على كتاب مخطوط لابن عبيد الله السقاف، واسمه (بلابل التغريد) ذكر هذه المسألة بعينها، وذكر أنه لم يجد جوابًا في كل ما طالته يده من التفاسير سوى تفسير الآلوسي، وقال : إنه مجْمَجَ الكَلام ولم يأت بطائل، ثم ذكر جوابًا سوف أذكر مختصره والفحوى في الجزء الثالث من الفتوى.
 
السائل (عبدالرحمن أحمد): أحبُّ اللّغةَ العربيةَ، ولكن لم أجدْ مَن يحببني فيها، وتأليفاتُك الميسّرة وجدتُ فيها ما يقرّبني لها، وأريدُ منك فضيلة الشيخ أن توجّهني إلى تفسيرٍ ينفعني في معاني القرآن، ويقوّي ملكتي في اللغة.
الفتوى 59: بيّنت لك -يا أخي عبدالرحمن- فيما خلا: أنَّ كلَّ مَن يفهم الخطابَ العربيَّ مأمورٌ بتدبّر كتاب الله، لا يجوز لأحدٍ أن يحرِّج في فهمه، وفي تدبّره، وأنه لا فرق في ذلك بين عامِّيٍّ وعالمٍ، والعامّيُّ بتدبّره سائرٌ في طريق العلم، سالكٌ سبيل العلماء، والبرهانُ على ما قلناه: أنَّ اللهَ نعى على المشركين، الذين عموا وصمّوا عن تدبّر القرآن وفهمه، وحثّهم على ذلك، ودعاهم إليه، ولم يكن لديهم من وسائل العلوم شيء، فقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: ٢٤]، وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون: ٦٨]. والتدَبُّرُ: النظرُ فيما تُدْبِره الألفاظ من المعاني؛ لأن الألفاظ إذا خرجت منها المعاني صارت الألفاظ خلفها.. والمسألة أيضًا ليست خاصّةً بالعربيِّ، بل كلّ مَن حذِق العربيَّة قادرٌ على ما يقدر عليه أقحاحُ العرب، من الاستنباط والفهم، مادامت آلته الأولى صحيحة صريحة -أعني العقل- ويزيد فهمه وينقص بحسب ما آتاه الله من مادّة الفهم، وما وفّق إليه من النظر، وما يسِّر له من الاجتهاد، وأكثر المفسرين كانوا من الموالي كالحسن البصري، وقتادة، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد بن جَبر، وكذلك علماء اللغة، وأوّلهم سيبويه صاحب (الكتاب) الذي صار قانونًا بعد ذلك، ومنهجًا للناس كافّة، وصار به إمامًا للنحاة، يَصِلُون تصانيفهم بتصانيفه، وقواعدهم بقواعده، ثم سلَّط الله على مدرسة سيبويه بالبصرة مدرسة الكوفة، فصار النحو أذكى وأنقى، وتبيّن منافع الاختلاف، وازداد نضج النحو، وتعدّدت مشاربه ومساربه، وظهرت به عبقرية العربية، وكثرت المصنفات، والأقاويل، والردود، والشروح، والحواشي، وأصبح الناس يشكون من كثرتها، واتّسعت الدائرة، فخيّل للطالب أن علم النحو بتلك السَّعة، وأنه لا يحاط به، ولم يدر أنه بُحيرة وسَّعها الخلاف وكثرة الأقوال، وإدخال مسائل في النحو لا حاجة إليها؛ لهذا كان التيسير والتقريب هما أول مظاهر التجديد في التصنيف في هذا العصر.. وأردت أن أذكر ما وعدت به من نقل فحوى جواب ابن عبيدالله عن الإشكال في آية (التحريم)، ولكن لم يبقَ حيّز، وسأذكره -بعون الله- في الجمعة الرابعة.
 
السائل (عبدالرحمن أحمد): أحبُّ اللّغةَ العربيةَ، ولكن لم أجدْ مَن يحببني فيها، وتأليفاتك الميسّرة وجدتُ فيها ما يقرّبني لها، وأريدُ منك فضيلة الشيخ أن توجّهني إلى تفسيرٍ ينفعني في معاني القرآن، ويقوّي مَلكتي في اللغة.
الفتوى 60: أختمُ الجوابَ عن سؤالك الكبير بوصايا تنفعك بعون الله وتوفيقه.
أولها: احرص على أن تكون قراءتك لكلِّ نصٍّ تقرأه صحيحة، فإن حرصك على ذلك ينبّه الفكر إلى أسباب الخطأ، ومعرفة الصّواب، ويفتحُ لك أبوابًا من الفهم.
الثاني: تخيّر من الكتب في اللّغة والتفسير أقربها إلى نفسك، وتدرّج في ذلك، ولا تحمل نفسك على ما تكره، فإن ذلك ظلم، ووضع للشيء فيما لا يقبله.
الثالث: اعلم أن النفس كالطفل، تحتاج إلى تربية ورفق، ولو زيّنت لها ما تكره، وخادعتها بالمشوّقات والآمال المرغبة، والأماني المحببة لدانت لما أريد لها، وأذنت له وحُقّت.
الرابع: اقترب من أهل العلم، وارحل إليهم، وانتفع بتجاربهم، ولازم إن استطعت مَن ترى أنك تنتفع بعلمه أكثر من غيره، فليس أهل العلم سواءً، منهم مَن يدلّك على الطريق، ومنهم مَن يتبعك خلفه، ومنهم مَن يوقفك، ومنهم مَن يقطع عليك الطريق، ومنهم مَن يردّك إلى وراء؛ لأن منهم الميسّر، ومنهم المعسّر، ومنهم المحسّر، ومنهم المخسّر، ومنهم المكسّر.
الخامس: عليك أن تؤمن إيمانًا كاملاً لاريب فيه أن القرآن مفتاح العلم، وأن اللغة أم العلوم.
هذه وصايا مجملات.. وأمّا ما وعدتُ به من بيان الكشف عن الإشكال في آية التحريم، وجواب ابن عبيد الله السَّقاف فأذكره لك بلفظ موجز، ووعدٍ منجز. وقد صال في الجواب وجال وأطال، وقال: إنّ الله ادّخره له، وحاصله: أنه جرى على ما كانت العرب تبسط ألسنتها بالتشادق به والتفاخر بين الناس، إذ كانوا يفتخرون إلى نسائهم بجاههم وشوكتهم، كما أنهم لم يكونوا يتقدمون للطعان، ومنازلة الأقران، إلاَّ طمعًا في الشهرة بينهن، ولا يصبرون في المعترك، إلاَّ خوف المعرّة منهن.. وأورد في ذلك طائفة من شعر عنترة، والسموأل، وأبي محجن، وغيرهم من الفوارس، كقول السموأل:
سلي إن جهلتِ الناسَ عنّي وعنهمُ
فليس سواءً عالمٌ وجهولُ
ولم يكن لسيد المتواضعين أن يفخر بمثل هذا، وتولّى مولاه التنويه بفخره وبيان قدره
.
 
السّائل (ع . م): أشكو من ضعف في فهم اللّغة، خاصة النحو، فبمَ تنصحني؟
الفتوى 61: الذي أعتقده أنَّ كلَّ مَن كانَ له قلبٌ حاضرٌ حين تعلّمه وتفهّمه لا بدَّ أن يفهمَ ما يقرأ، أو يسمع؛ بشرط سلامة الكلام من الخللِ، والتعقيدِ، والإبهامِ، وصلاح المتلقي لما يُلقى إليه، وإنّما يتفاوت الناسُ في ذلك في سرعة الفهم والحفظ، بحسب تيقظهم، وملكات استعدادهم، وجمعية القلب، وأمّا أن يكون الكلام صحيحًا، والقلب شاهدًا ثم لا يفهمه صاحب العقل السليم فذلك ممتنع، ويصعب تصديقه، نعم يقع ذلك -وهو كثير- للمرّة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة؛ لخفاء معنى مفردة، أو اصطلاح، أو تركيب، ثم لا يلبث صاحبه أن يفهم، ولو بعد مرّات؛ فالقلب يحتاج إلى جلاءٍ وتصفيةٍ، وتكرار ذلك ينفعه ويصقله كما تصقل المرآة، وعلى هذا كان دأب أولي العلم، وما من أحدٍ من العلماء إلاَّ عَسُر عليه معنى آية، أو حديث، أو كلام من الشعراء، أو النثر، أو عَسُر عليه علمٌ بأسره، وقد شكا الحافظ السيوطيّ من علم الحساب، وقال: إنه لم يفتح له فيه، وفتح فيه على مَن هو أقلّ منه حفظًا وعلمًا وفهمًا.
ولكنَّ طالبَ العلم الذي اعتاد أن تفتح له أبواب العلوم بسهولة ويُسر يشقّ عليه الصبر، ويظن أنه أغلق عليه قياسًا على ما فتح عليه فيه.
ولو قرأتَ تراجمَ أهل العلم لأدركتَ أنهم اعتاصت عليهم علوم، أو مسائل، ثم فُتِحت لهم أبوابها بمفاتيح الصَّبر، واهتزت لهم بعد أن كانت كالأرض الجرز، وفيها (سورة الجرُز) يقول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا). [السجدة: ٢٤]. وانظر في ترجمة ابن سيناء، وأبي حامد الغزالي، وابن تيمية وغيرهم، فإنه مَن يتفهّم يفهّمْه الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (ومَن يتصبَّر يصبّره الله). وإن كثيرًا من الشجعان لم تكن غلبتهم لأقرانهم الذين يستوون معهم في الشجاعة والقوة، أو يزيدون، لم تكن غلبتهم إلاَّ بصبر ساعة، كما قال عنترة عن نفسه، فلا تظلم نفسك -أيُّها الأخ- بأوهام كاذبة خاطئة، وتقطع الطريق على نفسك، واجمع همّك وأردْ ما يكون يكن -بعون الله- ما تريد، وقد ذكرت بعض النصائح النافعة في فتاوى سابقة
.
 
السائل(أحمد): ما يقال عنه: ضرورة في اللّغة .. هل له حدٌّ وضابطٌ أم الضّرورة تقدّر بقدرها، كما نقول في قواعد الفقه ؟
الفتوى 62 : هذا سؤال من الأسئلة الملقاة إليّ مشافهة، ومنها ما هو بالإجابة جدير، وأضِنّ به أن يُهمل، لهذا صرتُ أدوّن ما شرُف من ذلك، وقد لا أذكر اسم السّائل كلَّه، لأنه لم يقدّم سؤاله محررًا، أو حفظًا لمقامه؛ لما يظنه العامّة أن المسؤول أعلم من السّائل بكل شيء، وما نحن إلا طلبة علم، بعضنا يذاكر بعضًا، وفي الإجابة المحررة عن أناة وفكر ما ليس في المرتجل منها، ومنها ما يوقظ الذِّكر، ويوقد الفكر، ولا يحين إناه (أي نضجه) في ساعته .. والجواب المحرَّر المختصر في هذه المسألة ذو ثلاث شعب:
الأولى:ما يسمّيه اللّغويون ضرورة، يريدون به ما لجأ إليه الشاعر في شعره من تسكين أو تحريك أو نقص أو تقديم أو تأخير أو زيادة من أجل الوزن، لو قاله في الاختيار وهو النثر لرُفِض، كصرف الممنوع من الصرف لغير تناسب، وكمدّ المقصور، وكقطع همزة الوصل في الوصل، فهذا ونحوه ممّا اتفق على جعله من الضّرورات الشّعرية.
الثانية: لا يوجد - على الحقيقة - في الكلام شعرًا أو نثرًا ما هو من قبيل الضّرورة التي لا معدِل للشّاعر عن ارتكابها، ففي الكلام تصاريف كثيرة يستطيع الشّاعر أن يصرّف فيها الألفاظ على نحوٍ يخرجه من الوقوع في الضّرورة، ولهذا يختلف الشعراء في ارتكابهم للضّرورات، فمنهم مهتدٍ إلى الكلمات المناسبة بلا ضرورة، وكثير منهم لا يهدي إليها، وقد استطاع بعض الفصحاء اجتناب الرّاء في الكلام، وربع الكلام العربي أو أكثر لا يخلو من الرّاء، يُنقل ذلك عن واصل بن عطاء الغزال، واشتهر به .. وكأن اللّغويين يقدّرون ضيق الفرصة لدى الشّاعِر، كأنما يقول شعره ارتجالاً بلا مُهلة، فسمّي لذلك ما يقع فيه من مخالفة لقوانين العربية ضرورة، وأمّا من يكتب شعره في بيته وقلمُه بيده وبساط الزمن ممدود بين عينيه؛ فهذا كيف يقال عن عدوله عن سنن الكلام: إنه ضرورة، بل هذا من الباب الذي يسمّى لدى الفقهاء: بالحاجيات.
الثالثة: في كلام الشعراء ما هو من قبيل اختلافات اللغات، ويسمّيه بعض الّلغويين ضرورةً تساهلاً، كقصر ممدود .. وفي هذه اللّمحة كفاية
.
 
السائل (حسن مقبول أو مقبل): ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدِّين)؟
الفتوى 63: السؤال الذي يحسن أن يوجّه إلى الخاطب: اُذكر لي ما تعرفه من عيوبك، وابدأ بأكبرها.. فإن قال: ليس لي عيوب؛ كشف عن نفسه، وأراحك من الحيرة والسّؤال، والأمل في إصلاحه غير كبير، وإن قال: لا أعرف، وبدا لك أنه صادق في نفي معرفته، مع إقراره بعيوب لا يعرفها، فاعلم أنه من الغافلين، وامضِ معه إلى الكلام عمّا يكره من النّاس، فإن كان يعلم من عيوب الناس ما يكره، وخفيت عليه عيوبه، فاعلم أن غفلته مركبة. وقد يكون إيقاظه ممكنًا، وغالب هذا النوع من الغفلة من ضعف الهمَّة.
وأمّا إن ذكر عيوبه عن صدق ومعرفة، كان ذلك أوّل إشارة على العقل، فإن كان منها ما سعى في إصلاحه وأفلح فيه قدّم حجة له على نور بصيرته، فإن كان لم يصلح منها شيئًا، ولم يعزم على إصلاح شيء منها؛ دلّ ذلك على عدم مبالاته بالآخر؛ لأن غالب العيوب يتعدّى شرّها إلى مَن حوله.. وكلّ عيب يُقدّر أن يُستصلح إلاّ ما كان عن خلل في العقل، أو شذوذ في النفس، ومن خلل العقل الحمق، وأصنافه أكثر من أصناف التّمر، كما قال ابن حزم.
ومن عيوب النفس الوسواس، والشكّ، وأصنافهما كأصناف سمك البحر. وهناك عيبان كبيران يشبه أن يكونا متضادّين، أحدهما البخل، ومداواته عَسِرَة، والآخر الغضب المفرط، وأعني منه ما يعبر عنه (بالتعصيب أو العصبيّة)، ومداواته دون مداواة البخل في العسر، وإنما جعلتهما شبهَ متضادَّين؛ لأن البخيل يفكّر ويخطّط وينظر إلى مصلحة نفسه، وقد عوّد نفسه ترك العجلة، وأكثر مَن (يُعصِّب) كثيرو العجلة.. وأمّا عيوب الدِّين فيسير إصلاحها إذا كان أصل الإيمان موجودًا.. ولقد كنتُ أقول لمن استنصحني في الصفات التي يطلبها في عِرسِه، فأقول له: إن كنت تريد الجمال فابتغِ معه العفاف، وأمّا التدّين فيكفيك منها الإسلام، لأنّ كلّ شيء يمكن تغييره وتحسينه إلاّ الخَلْق، وأمّا العفاف فجرحٌ غائرٌ إذا خُدِش .. وأمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدِّين) فمعناه الإسلام، و(ال) فيه للعهد، وليس معناه: أنّ مَن تقوم اللّيل، وتصوم النهار تقدّم على غيرها. هذا ما أفهمه
-والله أعلم- ونسأله حسن القبول.
 
السَّائل (سعيد الزهراني): ما أصل كلمة (متحف) وكيف تنطق، وهل معناها المشهور اليوم كان معروفًا منذ القدم؟
الفتوى 64 : هذه اللفظة أهملها بل أهمل مادّتها ابن فارس في كتابه (المقاييس) وذكرها في كتابه (مجمل اللغة)، وقال: (التُّحَفُ: البِرّ واللّطف)، ونقل عن الخليل (وهو من زهران يا أخانا سعيد): أنّ تاءه مبدلة من الواو، وحقّها حينئذ أن تكون في مادة (وَحَف). ومعناها أيضًا كما ذكر الزّبيدي: الطُّرفة من الفاكهة وغيرها من الرَّياحين .. هذا هو أصل معناها، و به يتضح أنها لا تطلق على ما له شأن وبقاء، وإنما هو شيء يسرُّ به من أُتحف به في وقتها . ثم تُوسّع في معناها على ما هو معروف اليوم، وهو مكان يشتمل على قطع من الآثار، وبقايا مما ترك الأولون، أو إبداعات وفنون تعرض لتبقى وتكون مقصدا للسائحين، وهي من المباحات أو المندوبات التي هي من نوع النظر في الملكوت وما خلق الله من شيء، فإن وضعت لقصد ديني أو قصدت لغرض تعبُّديّ أو كانت ذريعة إلى ذلك مُنِعت .. وأما صيغة نُطقها فعلى زنة "مَفعل" كمصنَع ومَرْقد، واختلف المعاصرون، في هذه النازلة اللّغوية، فمنهم من يقول بالفتح، ومنهم من يمنعه؛ لأنه لم يرد في اللّغة (تَحف) الثلاثي، والوارد (أتحف) الرّباعي، واسم المفعول منه (مُتحف) والذي يمنعه يقول : لا أخالف في أن (أتحف) قد ورد في اللّغة ولكن (أتحف) بمعنى أعطى، فلو كان كلُّ من زاره يُعطى تحفة منه لم يبق فيه شيء .. ومن اللّغويين من منعهما، وهو مصطفى جواد، وقال : الصواب أن يقال : (مَتْحَفة) كمأسدة لمكان السلاح، ومَسْبَعة لمكان السّباع . ومنهم من أجاز الصيغتين، كمجمع اللّغة القاهري في دورته الرابعة والثلاثين عام 1387هـ .. والذي أختاره فيما يخشى عليه من ذريعة التعلق والبدع أن يعدل عنه إلى التسمية بـ (المعرِض الدَّائم) ونحو ذلك، لأن لإيحاءات الأسماء المصطلح عليها أثرًا بحسب دلالاتها العرفية، وأما الصيغة : فالفتح هو الأقرب في اللّغة والدلالة والنطق.
 
السَّائل (طلال أحمد): ما مقدار حاجة الفقيه للّغة العربية؟
الفتوى 65: سؤالٌ عريضٌ، ويكفي في هذا المقام الذي هو مقام الإيجاز أن أذكرَ لك لمحةً دالَّةً.. اعلم أن العلماءَ متفقون على أنّ الإلمامَ باللّغة العربية شرطٌ من شروط المجتهد، وأنّ التوسعَ فيها غيرُ مذمومٍ، ولا حدَّ له، والمقصود بالتّوسّع فيها فيما كان عونًا للفقيه والمفسّر، كمعرفة المعاني، ودلالات الألفاظ، والفروق الدقيقة بين الألفاظ، ودراسة كلام البلغاء من الشّعراء وغيرهم، وليس المراد ضياع العمر في تحقيق الخلافات النَّحوية، وتنقيح العلل الصَّرفية، وما خرج به بعض الشّارحين في البلاغة إلى المنطق والفلسفة، كلا، ولكن المراد ما ذَكرت.. والإحاطة باللّغة متعذرة، ومن عوّد نفسه على ضبط وفهم ما يقرأ من نصوص الوحيين، مع علمه بقوانين النحو التي يعرف بها الإعراب، حصل له نفعٌ كبيرٌ، واللُّغةُ لا تنطبعُ جمالاً ورونقًا إلاّ على القلوب الرّقيقة الطّباع، والآذان المرهفة السَّماع، ومن ثم كان الناسُ مختلفين في ذلك، وإذا أردت معرفة آثار اختلاف الفقهاء في ذلك، فانظر إلى أثره في فقه الشّافعيّ، وابن حزم، والشّاطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وفي القرآن أحكام كثيرة مبنية على تحقيق المعنى اللّغوي تصحيحًا أو ترجيحًا، ولو ذكرت لك ما في سورة البقرة من ذلك لكان منه شيء كثير، كتحقيق معنى القروءِ للمطلقات، ومعنى النكاح في قوله تعالى: (حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة:230]، وكذلك المراد بـ(المحيض)، ومعنى الإطاقة في الصيام، والتقدير في قوله سبحانه: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]، وسرّ التكرار في شهادة النساء في قوله تعالى: (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) [البقرة:282]، ولم يقل : فتذكرها الأخرى، وأثر اختلاف القراءة في آية الوصية للأزواج (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم) [البقرة:240] برفع (وصيّة) ونصبها، وآية التعجُّل والتأخر في الأيام المعدودات (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى). [البقرة:203].
 
السَّائل (عبدالرحمن نور الدين): هل الوقوع في اللّحن في الدّعاء محرّم وله أثر على الإجابة ؟
الفتوى 66 : لقد أحسنت - يا عبدالرحمن - في السّؤال، وأرجو أن أحسن في الإجابة والنّوال .. وأبيّن أوّلا ما في سؤالك من إجمال، وهو أن اللّحن له معانٍ، منها: الخطأ في قراءة اللّفظ، ومنها: التطريب في الصّوت، وأظنك تعني المعنى الأوّل، وهو اللّحن في النّطق والإعراب. وأجتهد فيه رأيي، فأقول: اللّحن الذي هو الخطأ إما أن يكون عن قصد، وإما أن يكون عن غير قصد، فأما ما كان عن غير عمد فمعفوّ عنه في الدّعاء وفي غيره، لأن الله أخبرنا أنه لا يؤاخذنا إلا بما تعمدت قلوبنا، وفي خبر الذي ضلت راحلته فوجدها أنه قال: (اللّهم أنت عبدي وأنا ربّك) أخطأ من شدّة الفرح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤاخذ بهذا، والخطأ فيه أكبر من الخطأ في الإعراب وفي ضبط الألفاظ، ويروى أنّ امرأة قالت للشافعي تدعو له بالشفاء، وكان مِمْراضا: الله يُشفيك (بضم الياء) فقال الإمام: اللّهم بقلبها لا بلسانها، لأن معنى (أشفى) أزال شفاءَه، والهمزة للإزالة. ولو يؤاخذ الله الناس بما يطرأ على ألسنتهم من اللّحن لكان في ذلك حرج عظيم، واستمع إلى ما يلهج به الطائفون بالبيت العتيق وما يقع لهم من فنون اللّحن والخطأ تجد من ذلك شيئا كثيرًا، وقد سمعت وسمع غيري من يقول: (لاتدع لنا ذَنبا) بفتح النون، ومن الأخطاء الشائعة أن يقول الدّاعي: اللّهم صلِّ على محمد، بياء بعد اللام (صلّي) وهو لحن قبيح؛ لأنه خطاب للأنثى، فهذا ومثله منكر من القول يجب تغييره باليد واللّسان والقلب.
وأما ما كان من اللّحن عمدًا فصاحبه ملوم لا سيما إذا كان يحيل المعنى أو يبطله. ولا يفعل ذلك إلا عابث، فإذا كان عابثًا في دعائه فأنّى يستجاب له ؟ والله الموفق إلى كل قول سديد.
 
السائل (مصطفى - القاهرة): شيخنا: هل لمعرفة اللغة، والتوسع في معرفة معاني الألفاظ أثر في تفسير الأحلام؟ وهل مؤوِّل الأحلام يحتاج إلى المعرفة باللغة؟
الفتوى: تأويل الرؤيا وأحاديثها ليس مكتسبًا، بل هو موهبة يهبها الله مَن يشاء من عباده، ورؤيا الصادق أصدق، ويُقال: لا يعلم التأويل مَن لم يصرف السوء والفحشاء، وقد يكون العالم بتأويل الرؤيا عاميًّا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ثم إن الناس يتفاتون بعد هذا، وغير لازم أن يكون العالم بالتأويل لا يخطئ في بعض ما يعبّره من الرّؤى في مجملها أو مفصّلها.. هذه مقدمة بين يدي تفصيل الجواب الذي قدمته إجمالاً، الذي أخبرتك فيه أن علم تأويل الأحاديث طبعيّ لا سمعيّ، ولكن المطبوع لا ينفع إذا لم يصقل بالمسموع، فالإنسان ابن بيئته مدني بالطبع، بل المنامات لا تكون إلاّ في أشياء مدركة في اليقظة أو مشابهة لها، ولا يقع أن يرى النائم ما لم ير مثله من قبل، أو ما يشبهه، فلا ريب حينئذٍ أن مُدرَكات المعبر كلما اتسعت دائرتها كان ذلك أوفق لتعبيره ومعرفته، ومن ذلك اللغة والتفسير وسائر العلوم، لاسيما في هذا العصر، فالمعبّر البدوي الذي لا تتجاوز ثقافته بيئته لا يقدر على تأويل ما خرج عن ذلك ممّا يجهله، ومن كان لا يحفظ سورة الرحمن، أو لا يدري ما موضوعها لم يدر ما يقول لمن قال له: رأيت في المنام أني أقرأ سورة الرحمن، وكذلك إذا رأى النائم مَن يقول له: هذا الفاسق، أو ناداه منادٍ في المنام: يا جحجاح، واسمه أحمد، وأخبرنا الشيخ جبران صالح عام 1408هـ بمسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة أنه عاد مريضًا أصيب بكسر بالغ في يديه أو رجليه، فقال أحد الزائرين يخاطب المريض: رأيتك في المنام مع الشيخ جبران، فبادر رجل كان بالحضرة وقال: هو جبر صالح لكسرك، وكان كما قال، وأحسن من هذا، وأبلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأنّا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت أن لنا الرفعة في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب).
والحاصل أن المعرفة باللغة، وسائر العلوم والمعارف مزودة لخدمة ملكة التعبير، ممدّة لها بدءًا وختامًا.
 
السائل ( أبو عبد الله ) هل الدعوة لتصحيح العاميَّة ودراستها والعناية بذلك على حساب جوانب أخرى في اللغة .. مهم وضروري ؟
الفتوى : كَلَّا .. كَلا .. إن أهمّ ما يحتاج إليه أبناء العربية هو الحفاظ على ما حفظته المعاجم ونقلته ، ونُطقه كما ثبت عن العرب من غير تحريف ولا تصحيف سليمَ الإعراب ، مما اشتمل عليه كلام الله وكلام رسوله وكلام البلغاء من الشعراء وغيرهم وكلام الأعراب المحفوظ في المعاجم .. هذا هو الواجب الذي جمعنا عزائمنا عليه وأنشأنا له مجمعا لغويا شبكيًّا .. وفي الأصول قاعدة حسنة صحيحة : (( درء المفسدة أولى من جلب المصلحة )) والمفسدة التي ندعو من تسلَّح بسلاح اللغة وفقهها إلى جرِّها من سوقها وأعناقها وجزّها هي اللحن والتحريف ؛ فإن حماية لفظ واحد ودرء مفسدة الغلط الشائع فيه خير من تصحيح مئة لفظة نجهد أنفسنا لتصحيحها وتأصيلها ، وما مثَلُ من يُعنَى بدراسة العامية ويجعلها شغله الشاغل ويُخيِّل إلى الناس أن ذلك هو الأهم إلا مَثَلُ من يدعُ ولده الذي هو من صلبه نهبة للناهبين ، ويشتغل بتصحيح أنساب اللقطاء النابهين ؛ لعله يجد فيهم من ينتسب إلى قومِه ، أو كمثل من كان له صفائح من ذهب فغفل عنها ليحرس قطعا من النحاس .. ولا يزعمنَّ زاعمٌ أننا نرى إهمال دراسة الألفاظ التي تلهج بها العامة ، بل هذا من غرضنا ومن أهداف ما أسس عليه مجمعنا ، ولكننا نتكلم في أي الأمرين أولَى ، وندعو من صرف جهده وشغل غيره عمّا هو أنفع إلى أن يجمع همّته إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ، فقد يكون الفارق بين المفضول والفاضل كالفارق بين وجود الشيء وعدمه ، فيصير ما كان نفعه يسيرا كلا شيء بالنسبة لما به نفع أكبر ، ومن شغل نفسه وشغل الناس بما يضر أو بما لا ينفع أو بغير الأولى فهو ضال عن سبيل الهداية مُضِلّ عنها ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
 
السَّائل (توفيق أحمد): كيف حصل اللّحنُ في لغةِ العربِ؟
الفتوى 69: كانت الأمةُ العربيةُ أمّةً واحدةً لا تعرفُ غيرَ نفسها، إلاّ ما كانَ من بعضِ أفرادها الذين يضربون في الأرض، يبتغون من فضل الله، ولم يكن معهم في بلادهم مَن يخالطهم من ذوي اللسانِ الأعجميِّ إلاّ أفراد من الموالي ونحوهم، وحصل من جرّاء ذلك أن تلقّفوا ألفاظًا سمعوها، ولاكتها ألسنتهم، منها ما كانوا يحتاجون إليه، أو يضطرّون إليه اضطرارًا كأسماء ما جلب إليهم من غير العرب كالإستبرق، والنردشير، ولكنها كانت ألفاظًا قليلةً محفوظةً لا تخفى على العربيِّ، وأمّا اللّحنُ في الإعرابِ فلم يكن شائعًا؛ إذ هم أهلُ الصنعةِ، والملَكةِ، والإعرابِ، فلمّا جاء الإسلامُ واتّسعت رقعتُه بفتوحِ البلدان، وصارَ الناسُ في ميزانِ العدلِ الإسلاميِّ سواسيةً، واحتاج بعضُ العربِ أن يرطنَ باللسانِ الأعجميِّ، وأحبّ العجميُّ أن يفصحَ باللّسانِ العربيِّ لم يبقَ للحفاظِ على لسانِ العرب الصحيح، إلاّ أن يمنع النقل والاستشهاد بعد العصر الأول للإسلام، على اختلاف بين علماء اللغة في الوقت الذي ينتهي فيه الاستشهاد.
فسببُ فسادِ اللّغةِ هو اختلاطُ العربِ بغيرهم، كالذين اختلطوا بأولاد حام من السودان، والحبشة، لمّا خالطهم بعضُ أهل همدان، وخولان، وحمير، والأزد بسبب المجاورة، وكذلك الذين جاوروا الرّوم من أبناء تغلب، ومثلهم الذين جاوروا الأقباطَ بمصر، والنصارى بالشام، وهم جذام، وغسّان، ولخم، وفسدت لغةُ تميم لمّا جاوروا فارس، وكذلك عبد قيس جاوروا أهل فارس، وبنو حنيفة، وبكر بن وائل جاوروا الأنباط بالعراق، والطائيون جاوروا أهل الروم بالشام، كما ذكر ذلك ابن فلاح اليمني في أول كتابه "المغني"، وقد تكون المخالطة بما هو أكبر من البيع والشراء والمجاورة، كالمخالطة بالزواج، وأضربُ لذلك مثلاً، وهو أنّي لقيتُ رجلاً من أبٍ حضرميٍّ وأمّه من سومطرا بإندونيسيا، وُلد فيها، وبها نشأ، ويتكلّم بالعربية على الطريقة الإندونيسية، فسألته عن قريب له أعرفه: كيف حاله؟ فقال بلسانٍ عربيٍّ غير مبين: قَدُوْ مُرطَاحْ، أي: قد هو مرتاح، ومزج الحاء بهاء في نطقه، ولكنني لا أستطيعُ كتابةَ ذلك، وبالله التوفيق
.
 
السَّائل (رياض الغامدي): قاعدة ((العطف يقتضي المغايرة))، هل هي محلُّ اتفاق عند علماء اللغة أو لا، وإن كان هناك خلاف فمن قال به، و ما وجهه، وفي أي الكتب، وما هي المراجع التي تحدثت باستفاضة عن هذه القاعدة من كتب اللغة ؟
الفتوى 70 : مسألة اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين أو أكثر مسألة مشهورة جارية على ألسنة العلماء وأقلامهم، ومواضع بحثها وورودها كتب النحو، في الكلام عن تعدّد الخبر، وفي بابي العطف، والنّعت، وكذلك كتب التفسير، لا سيما في أول سورة البقرة في ذكر صفات المتقين، الذين وصفهم الله بصفات، أولها : الإيمان بالغيب، ثم عطف على ذلك الإيمان بالكتب وإقامة الصلاة ... إلخ، وهم ذات واحدة، وكذلك في عطف العمل على الإيمان، والعمل من الإيمان، والتحقيق : أنّ هذا لا يخرج عن القاعدة (العطف يقتضي المغايرة)؛ لأنه في المثال الأول عطف صفة على صفة، والصِّفة الثانية غير الأولى، وفي المثال الثاني عطف جزءٍ على كلّ، فالإيمان اعتقاد وعمل، والعمل (فعل وقول) وهو جزء من الإيمان، والعمل غير الاعتقاد ويشبهه ما كان من باب عطف الخاصّ على العامّ كقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ) [القدر: ٤] وهذا في رأيي يدخل في القاعدة المذكورة ولا يَنِدّ عنها، يوضّحه نكتة بلاغية، وهي الإشارة إلى أنّ الرّوح، وهو جبريل اختص بما لم يتصف به سائر الملائكة، فاستحق التنويه به وإفراده بذلك.. ومما يزيد المسألة وضوحا في تعدّد الصفات، قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) [الأعلى: ١ - ٤] فهذا كله من باب تعدّد الصفات.
وأما تعدّد الذوات مما ليس من باب عطف الخاص على العام، ولا الجزء على الكلّ، فلا أظنه يقبل الخلاف أصلاً .. والله أعلم.
 
السَّائل (رياض الغامدي): قال السيوطي - رحمه الله- في (الإكليل 2/895) عند قوله تعالى: (إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِين. إِلاَّ امْرَأَتَهُ...) الآية: (فيه دليل على أن الاستثناء إذا تكرر فكل لما يليه).
والسؤال: هل هذه القاعدة محل اتّفاق عند النحويين؟ وما هي المصادر التي ذكرت المسألة؟ وهل كلام الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على الآية في (تفسيره الأضواء 2/284) حين قال: (في الآية دليل على جواز الاستثناء من الاستثناء) بتصرف.
هل هذه المسألة هي نفس المسألة التي ذكرها السُّيوطي أم بينهما فرق؟ وإن وُجِد فما هو؟

الفتوى 71 : تكرّر الاستثناء يكون على صور، منها: أن يكون الثاني هو الأول، نحو: لم يحضر إلاّ امرؤٌ إلاّ عليَّ. فهذا اتّحدّ فيه الذات والحكم، وهو من باب الإبدال والبيان.
أن يتكرر الاستثناء والحكم واحد، والثاني غير الأول، نحو: عندي له عشرة كتب إلا ثلاثة، إلا كتابًا. فهذا الاستثناء الثاني يضمّ إلى حكم الأول، كأنه قال: عندي أحد عشر كتابا إلا ثلاثة، ونحوه إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين, إلا واحدة، كأنه قال لها: أنت طالق اثنتين. أو أربعا إلا اثنتين.
أن يتكرر الاستثناء والحكم مختلف، نحو: قرأت سبعة كتب إلا ثلاثة بعتها، إلا واحدا. فمن العلماء من يدخل هذا ونحوه في باب الاستثناء من الاستثناء، ومنهم من لا يدخله، ومثاله في القرآن: (إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِين. إِلاَّ امْرَأَتَهُ) [الحجر: ٥٩ - ٦٠]، أي: أهلكنا قوم لوط إلا آله إلا امرأته. فمن قال: هو من باب الاستثناء من الاستثناء قدّره هذا التقدير، ومن قال: أنه ليس من هذا الباب قال: استثنيت المرأة من الناجين، وأصل الكلام: أهلكنا قوم لوط إلا آل لوط نجيناهم إلا امرأته، فهي مستثناة من الضمير في (منجوهم) وليست مستثناة من (آل لوط) وهو الذي اختاره الزمخشري، ولم يجرؤ أبو حيان على مخالفته على كثرتها.
ومن أمثلة الاستثناء من الاستثناء قول الشاطبي في (حرز الأمانيّ):
ولم يَر فصلا ساكنًا بعــــــد كسرةٍ سوى حرفِ الاستعلا سوى الخا فكمَّلا
 
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا؟
الفتوى 72: أجدتَ في سؤالك المطوّل، وقد اختصرته على نحو ما رأيت، وهو سؤال يدور على ألسنة الغيارى، يعتلج في صدورهم، وسأجيب عنه بتوسّع، وأضع في الإجابة الدّاء والدّواء، والمشكلة والحلّ، بحسب ما أفهم، وعلى قدر ملكتي، وغاية علمي.
إنّ شكوى أبنائنا وبناتنا بلسان حالهم وقالهم من صعوبة مقرّرات النّحو، أو من ضعف أساتذتها، أو من سوء طريقتهم في تدريسهم، أو من جفائهم في تعاملهم، أو قلّة اعتنائهم بها وبطالبيها، أو الجهل بأسرار جمالها ومخبوء محاسنها، أو كلّ ذلك، أو جلّه، أو غيره .. إن شكواهم من ذلك كلّه قائمة مرفوعة في ديوان جليل، في محكمة سيبويه والخليل، ولقد أذكرني سؤالك هذا بسؤال سَألتُه منذ سنين وطرحته مرات، وهو: ما بالنا نعلِّم أبناءنا مادة النحو من السنة الرابعة الابتدائية إلى آخر سني تعليمه، ولا يخرج منها بشيء، أو لا يخرج منها إلاَّ بتحصيل قليل لا يوصله إلى مرتبة نصف نحويّ (ونصف نحويّ يفسد اللّسان) كما قيل، وربّما خرج حانقًا عليها، أو وصمها بالعقم؟! وقلت لأحد الطلبة: أيُّما أيسر لديك، تعلّم اللّغة العربية أم تعلّم لغة أخرى؟ فبادرني بالجواب ولم يتلكَّأ، قائلاً: إنّ تعلّم لغة، بل لغتين أجنبيَّين أيسر عليَّ وأنفع.
وبالأمس القريب سألتُ طالبًا عربيًّا ممّن كان أجداده يستشهد بكلامهم، قلت له: كيف علمك باللّغة؟! قال لي: أيّ لغة؟ قلتُ: العربية.
خطر بباله لغة أخرى؛ لأن العربية صارت بعيدة عن الأذهان، لا تتبادر إليها إلاّ بقرينة، أو وصف، ولا ينصرف إليها عند الإطلاق، ونحن لا نعيب على مَن تعلّم أيَّ لغة من اللغات الأخرى إذا كان في تعلّمه ما ينفعه في دينه أو دنياه، فاللّغات كلها من خلق الله، واختلاف الألسنة من آياته، وإنّما نصبّ أنواع العتاب على مَن زهد في لغته، ولغة دينه، وكتاب ربّه الذي يزداد معرفة به، وإيمانًا حين ينوخ ببابها، ويغوص في لجج بحارها وعُبابِها، ويذوق حلوَ فراتها وعِذابِها، ويرشف من ماء ظَلْمها ورضابها، ولهذه المسألة تتمة جواب، من ثمانية أبواب.
 
السائل (عبد العزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا؟ ا.هـ (مختصرًا)
الفتوى 73: لمّا كان السّؤال كبيرًا، احتاج إلى جواب كبير، وقد وصفنا في جزء الجواب الأول حال أبنائنا مع النحو والصرف، وكيف صُرفت أبصارهم وبصائرهم عن وجهها النَّاضِر، وجمالها الباهر.. وتشخيص الدّاء هنا في ثلاثة مواطن: (الطالب، والمعلم، والمنهج)، فأمّا المنهج فقد اجتهد مَن وضعه، وحاول التيسير فيما وضع، ولكنّه حين وضعه لم ينظر إلى المنهج في جميع المراحل بتدرّج دقيق، والواضع في المراحل الأولى غير الواضع في المرحلة المتوسطة وما بعدها، فاجتهدوا مأجورين في شرح المسائل وبسطها بتغيير في الأمثلة، وشيء من البسط في الشّرح، واعتنوا بتلوين الكلمات إلى خضراء، أو حمراء، أو زرقاء، وبأساليب مختلفة، وصُرفت الأذهان جملةً وتفصيلاً عن تصانيف النحو القديمة، فلمّا ارتقى الطالب إلى مرحلة الجامعة نظر إلى ما حصّله في دراسته فيما مضى فلم يجده شيئًا، ووجد شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك في النحو والصرف، لم يسمع به من قبل، أو سمعه ولم يقرأه، ولم يعتد على قرءاة النظم وأسلوب المتقدِّمين، وأبصر فجوة واسعة بينه وبين ما بين يديه من هذه الكتب التي يقول له مَن يدرِّسها: لا بدّ أيضًا من الرّجوع إلى هذه الكتب، كتاب كذا لابن خروف، وكتاب كذا لابن عصفور، وكتاب ابن جنّي، وكتاب ثعلب، وربّما كلَّفه ببحث، أو بحثين في فصل دراسيّ يذهب ربعه في حذف وإضافة، وربعه في تحضير، وتغييب، وتقريع، وتوبيخ، وربعه في اختبارات لا داعي لها، وقد يذهب ربعه الباقي في تأخر الأستاذِ وغيابه بعذر أو بغير عذر، وربما كان عدد الطلبة في قاعة الدّرس سبعين أو ثمانين أو أكثر، ولدى الطالب البائس عشر موادّ أخرى، يروح من أجلها ويجي، ويستجيش ويلتجي، فإذا جاء موعد الاختبار -ويكون غالبًا مصاحبًا لمباراة في كرة القدم عالمية، أو محلية، أو إقليمية- عمد إلى الكتاب المقرر فنزعه من جلده، وانتزع أوراقه التي قيل له: هي المطلوبة في الامتحان، فذهب -إن كان من الجادّين- يعكف عليها يتجرّعها ولا يكاد يسيغها.. وللجواب تتمة.
 
أخونا الشيخ الفاضل: ضيف الله؛؛؛؛ بارك الله فيك على جمع هذه الفوائد النفسية في مكانٍ واحدٍ، وكنت أقترح أن تضع ما جمعته في ملف بي دي إف إن أمكنك ذلك...
 
نعم تستحق الجمع و هل من مزيد؟
بارك الله فيكم و في الشيخ؛ بارك الله له في علمه و أسأل الله الكريم أن ييسر له إصدار المزيد من الكتب فهو مفيد في اللّغة و علوم القرآن.
 
أخونا الشيخ الفاضل: ضيف الله؛؛؛؛ بارك الله فيك على جمع هذه الفوائد النفسية في مكانٍ واحدٍ، وكنت أقترح أن تضع ما جمعته في ملف بي دي إف إن أمكنك ذلك...
أشكرك على المتابعة، وأبشر بإذن الله بعد اكتمالها.
نعم تستحق الجمع و هل من مزيد؟
بارك الله فيكم و في الشيخ؛ بارك الله له في علمه و أسأل الله الكريم أن ييسر له إصدار المزيد من الكتب فهو مفيد في اللّغة و علوم القرآن.
أشكرك على المتابعة، وتقبل الله دعاءك.
 
السائل (عبدالعزيز حسن): لماذا لا نستفيد من مقرّرات اللّغة العربيَّة في مدارسنا وجامعاتنا؟ أ.هـ. (مختصرًا).
الفتوى 74: إنّ ذلك الذي دَرَس النحو والصَّرف على نحو ما ذكرته في الحلقة الثانية، ونجح بالمذاكرة الجاهدة، أو الفطنة إلى ما نبّه عليه مدرِّس المادة، أو بالحظّ، أو بإعادة المادة.. إنه هو الذي أصبح مدرِّسًا، احتاج إلى الوظيفة، ووسيلته لأكل العيش شهادته في تخصّصه الذي قد يكون ملجأ إليه، ولسان حاله يقول وهو يدخل إلى كليته {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِين}[الأعراف:88]، وهم يقولون له: (ادخلنّ مع الداخلين) ألم تعلم -يا عبدالعزيز بن حسن- أن في بعض جامعاتنا يُزَجُّ بالطالبِ الذي يعشق التاريخ إلى قسم التربية، ويُحشر محبّ اللغة مع طالبي التاريخ، ويُزجُّ بطالبِ الشريعة إلى قسم التربية الفنية؟ وربما قِيل للطالب: ليس أمامك إلاَّ قسم القراءات، فانظر في أمرك.. هكذا تُقتل المواهب، ويُقضى على الملَكات، وتُصفع الوجوه، وبعبارة مختصرة: سياسة تلك الجامعات هي النظر إلى حاجة القسم، لا إلى حاجة الطالب ورغبته، فما كان من الأقسام فارغًا، أو ناقصًا قُذف بالطالب، أو الطالبة فيه، فيخرج بذهن فارغ، وعلم ناقص، وإخواننا التربويّون -عفا الله عنّا وعنهم- لم نجد من كثير منهم إلاَّ كثرة الكلام في غير فائدة، ولم نجد منهم عملاً يفرض الخطط بقوة جدواه، وصدق دعواه، لاسيما ما كان عن تجربة منقولة عن غيرنا، فمنهج التربية والتعليم في بريطانيا -مثلاً- يراقب فيه الطالب منذ أن يكون في الروضة إلى المرحلة التي بعدها، يتابع الموجّهون والمربّون ملكات الطفل ويقرأون مواهبه، وتُرفع التقارير عنه إلى مرحلة التخصص، ثم يضع نفسه في المكان المناسب، فإذا رأى المربّون أنه لا يصلح للتحصيل، وأنه يصلح للعمل المِهْني نصحوه به، ووجهوه إليه، فأعطى هذا ممّا عرف، وأعطى ذاك ممّا غرف، وانتفع البلاد والعباد، فلا ترى إلاّ مصانع تصنع، ومطابع تدفع، والحكيم الخبير أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فمَن اهتدى إلى الأسباب، وعبر بها إلى درْبه، ظفر بإرْبِهْ، ومَن تركها، أو وضعها في غير موضعها تعس وانتكس، وكان من الخاسرين.. وللجواب تتمة.
 
عودة
أعلى