وقوله - عز وجل -: { قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ }.
قال بعضهم: أباطيل أحلام كاذبة وقال بعضهم: أخلاط أحلام؛ مثل أضغاث النبات تجمع فيكون فيها ضروب مختلفة، وهو كما قيل في قوله:
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ }
[ص: 44] أي: جماعة من أغصان الشجر.
وقال بعضهم: { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ }: الضغث، والأضغاث: ما لا يكون له تأويل، ويقال لنوع من الكلأ: ضغث وهو الحلفا؛ يشبه البردي وغيره.
وقيل: إن الضغث والأحلام: هما اسمان لشيء لا معنى له، ولا تأويل، وهما واحد، وأصل الأحلام: كأن مخرجه من وجهين:
والثاني: من الاحتلام، وهو [ما ذكرنا] من الحلم؛ كقوله:
{ وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ... }
[النور: 59]: الآية فيشبه أن يكون يخرج على هذا؛ لأن الصبي ما لم يعقل لا يلعب به الشيطان، ولا يحتلم؛ لأن الاحتلام هو من لعب الشيطان به، فسمى الرؤيا الباطلة الكاذبة أحلاماً؛ لأنها من لعب الشيطان به، كما سمى احتلام الصبي حلماً؛ لأنه إذا بلغ العقل لعب به الشيطان.
قال الالوسي فى تفسيره:
{ إِلاَّ وَارِدُهَا } أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قول تعالى:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }
[الأنبياء: 98]. وقوله تعالى في فرعون:
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ }
[هود: 98]. واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضاً فيدخلها المؤمن إلا أنها لا تضره على ما قيل، فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن أبـي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال آخر: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى / عنه فذكرت له فقال: وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبق بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا " ، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في «تفسيره» فليراجع.
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن: الورود المرور عليها من غير دخول، وروي ذلك أيضاً عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال: بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى ابن أمية عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبـي " لجواز أن لا يكون متذكراً هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن لا يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم:
" الحمى من فيح جهنم " ولا يخفى خفاء الاستدلال به على المطلوب. واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبـي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحابه وعك وأنا معه فقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة "وفيه خفاء أيضاً؛ والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى:
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ }
[القصص: 23] واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى:
{ أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }
[الأنبياء: 101] لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريباً منها.
قال ابو حيان فى البحر:
وقال ابن مسعود { ما ظهر منها } هو الثياب، ونص على ذلك أحمد قال: الزينة الظاهرة الثياب، وقال تعالى
{ خذوا زينتكم عند كل مسجد }
[الأعراف: 31] وفسرت الزينة بالثياب وقال ابن عباس: الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة: الوجه والكفان
والمريد والمارد والمتمرد: العاتي الخارج عن الطاعة، وأصل مادة ـ م رد ـ للملامسة والتجرد، ومنه
{ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ }
[النمل: 44] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء.
أما قوله { وَرُوحٌ مّنْهُ } ففيه وجوه: الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح، والمراد من قوله { مِنْه } التشريف والتفضيل كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة.
الثاني: أنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح. قال تعالى في صفة القرآن
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا }
[الشورى: 52]
الثالث: روح منه أي رحمة منه، قيل في تفسير قوله تعالى:
{ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ }
[المجادلة: 22] أي برحمة منه، وقال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنا رحمة مهداة " فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه.
الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله: { مِنْهُ } يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا }
[الأنبياء: 91]
المسألة الأولى: الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها: أن النون هو السمكة، ومنه في ذكر يونس
{ وَذَا ٱلنُّونِ }
[الأنبياء: 87] وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه
والقيلولة: الراحةُ والدَّعَةُ في الحر وسط النهار وإن لم يكن معها نوم. وقال الليث: هي نَوْمَةُ نصف النهار. قال الأزهري: " القيلولة: الراحة وإن لم يكن فيها نوم، بدليل قوله تعالى:
{ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }
[الفرقان: 24] والجنةُ لا نومَ فيها " قلت: ولا دليلَ فيما ذكر لأنَّ المقيل هنا خرج عن موضوعه الأصلي إلى مجرد الإِقامة بدليل أنه لا يُراد أيضاً الاستراحة في نصف النهار في الحر، فقد خَرَجَ عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرته لك. والقيلولة مصدرٌ ومثلها: الثائلة و القَيْل والمَقيل.
{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِي إِسْرٰءيلَ } كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش، وتحقيقه بناءاً على أنه كان صادراً من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله، والالتفات في قوله تعالى: { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً } للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، و ـ النقيب ـ قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقاً من النقب بمعنى التفتيش، ومنه
{ فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ }
[قٰ: 36] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم، وتفتيش على أحوالهم. قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب: للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلاً عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق، / واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراماً عظاماً وبأساً شديداً فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام:
{ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ }
[المائدة: 24].
ولا يجوز أن تكون الحسنة هٰهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدّمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله:
{ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا }
[الأنعام: 160] وأما في هذه الآية فهي كما تقدّم شَرْحُنا له من الخِصب والجَدْب والرخاء والشدّة على نحو ما جاء في آية «الأعراف» وهي قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
[الأعراف: 130]. { بِٱلسِّنِينَ } بالجدب سنةً بعد سَنَة؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم.
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ }
[الأعراف: 131] أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل ٱتباعنا لك وطاعتنا إياك؛ فردّ الله عليهم بقوله:
{ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ }
[الأعراف: 131] يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضرّ من الله تعالى لا صُنع فيه لمخلوق؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } كما قال:
{ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّه }
[الأعراف: 131] وكما قال تعالى:
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }
[آل عمران: 166] أي بقضاء الله وقَدَره وعلمه، وآياتُ الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته؛ كما قال تعالى:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً }
[الأنبياء: 35] وقال تعالى:
{ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }
[الرعد: 11].
مسألة ـ وقد تجاذب بعض جهال أهلِ السنة هذه الآية واحتجّ بها؛ كما تجاذبها القَدرية واحتجوا بها، ووجه ٱحتجاجهم بها أن القَدرية يقولون: إن الحسنة هٰهنا الطاعة، والسيئة المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } إلى الإنسان دون الله تعالى؛ فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلّق الآخرين منها قوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعاً؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي من طاعة { فَمِنَ ٱللَّهِ } فليس هذا اعتقادَهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء.
وأيضاً فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نصّ على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيبُ بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغَلاصم في إفحام المخاصم.
ويجوز أن يكون المراد بــــ { العماد } الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى:
{ أتبنُون بكل رِيعٍ آيةً تعبثون }
[الشعراء: 128]....
ومعنى { جابوا }: قطعوا، أي نَحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتاً كما قال تعالى:
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً }
[الشعراء: 149] وقد قيل: إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ }:
اختلف فيه؛ قال بعضهم: { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [أنه] على الابتداء؛ يبعثهم الله ثم إليه يرجعون. وقال قائلون: أراد بالموتى الكفار، سمي الكافر ميتاً والمؤمن حيّاً في غير موضع من القرآن؛ كقوله:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ }
[الأنعام: 122]
قوله تعالى: { ما فرَّطنا في الكتاب من شيء } في الكتاب قولان.
أحدهما: أنه اللوح المحفوظ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد.
والثاني: أنه القرآن، روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم. فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى:
{ ونزلنا عليك الكتاب تِبياناً لكل شيء }
[النحل: 89] أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
وقال ابن كثير فى تفسيره:
وقوله: { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَـٰبِ مِن شَيْءٍ } أي: الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان برياً أو بحرياً؛ كقوله:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
[هود: 6] أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، وقال تعالى:
{ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }
[العنكبوت: 60
وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال: { وَلَيالٍ عَشْرٍ } أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدّيّ والكلبيّ في قوله: «وليالٍ عشْرٍ» هو عشر ذي الحِجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام
{ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ }
[الأعراف: 142]
والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النفر الأخير، قاله عبد الله ابن الزبير، واستدل بقوله تعالى:
{ فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه }
[البقرة:203]....
والثاني عشر: أن الشفع: هو الله، لقوله تعالى:
{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }
[المجادلة:7] والوتر: هو الله، لقوله تعالى: { قل هو الله أحد } ، قاله سفيان بن عيينة.
وقال ابن كثير فى تفسيره
(قول خامس) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد: { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قال: الشفع: الزوج، والوتر: الله عز وجل. وقال أبو عبد الله عن مجاهد: الله الوتر، وخلقه الشفع؛ الذكر والأنثى. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } كل شيء خلقه الله شفع؛ السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا، ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى:
{ وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
[الذاريات: 49] أي: لتعلموا أن خالق الأزواج واحد
وقال الرازى فى تفسيره
الثالث عشر: الشفع العيون الإثنتا عشرة، التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام والوتر الآيات التسع التي أوتى موسى في قوله:
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءَايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ }
[الإسراء: 101]، الرابع عشر: الشفع أيام عاد والوتر لياليهم لقوله تعالى:
{ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً }
[الحاقة: 7] الخامس عشر: الشفع البروج الإثنا عشر لقوله تعالى:
{ جَعَلَ فِي ٱلسَّمَاء بُرُوجاً }
[الفرقان: 61] والوتر الكواكب السبعة السادس عشر: الشفع الشهر الذي يتم ثلاثين يوماً، والوتر الشهر الذي يتم تسعة وعشرين يوماً السابع عشر: الشفع الأعضاء والوتر القلب، قال تعالى:
{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }
[الأحزاب: 4]، الثامن عشر: الشفع الشفتان والوتر اللسان قال تعالى:
{ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ }
[البلد: 9] التاسع عشر: الشفع السجدتان والوتر الركوع العشرون: الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة
وقوله تعالى: { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } قال مجاهد: سلام هي من كل أمر، وقال سعيد بن منصور: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش عن مجاهد في قوله: { سَلَـٰمٌ هِىَ } قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً، أو يعمل فيها أذى، وقال قتادة وغيره: تقضى فيها الأمور، وتقدر الآجال والأرزاق؛ كما قال تعالى:
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }
[الدخان: 4]
وقال العوفي عن ابن عباس: { ٱلْفَلَقِ } الصبح. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن محمد بن عقيل والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي، وابن زيد ومالك عن زيد بن أسلم مثل هذا، قال القرظي وابن زيد وابن جرير: وهي كقوله تعالى:
{ فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ }
[الأنعام: 96]
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير
وفي «الفلق» ستة أقوال.
أحدها: أنه الصبح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والقرظي، وابن زيد، واللغويون قالوا: ويقال: هذا أبين من فَلَق الصبح وَفَرَقَ الصبح.
والثاني: أنه الخَلْق، رواه الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الضحاك: الفَلَق: الخَلْق كلُّه.
والثالث: سِجْن في جهنم، روي عن ابن عباس أيضاً.
وقال وهب والسدي: جُبٌّ في جهنم. وقال ابن السائب: وادٍ في جهنم.
والرابع: شجرة في النار، قاله عبد الله بن عمرو.
والخامس: أنه كُلُّ ما انفلق عن شيء كالصبح، والحَبُّ، والنَّوى، وغير ذلك. قاله الحسن. قال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بَانَ لك أن أكثره عن انفلاق، كالأرض بالنبات، والسحاب بالمطر
والسادس: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي.
أحدهما: أن يكون قوله: { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } ، وهو الشرك والكفر، { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } من الأمور التي كانوا يتعاطون من قطع الطريق، والسرق، والظلم، وأنواع أعمال السوء التي يتعاطونها، ذلك هو سبب شركهم وكفرهم بالله، وبذلك كان شركهم وكفرهم ذلك كان يغطي قلوبهم؛ حتى لا تتجلى قلوبهم للإيمان؛ كقوله:
{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
[المطففين: 14]، وكقوله:
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ... }
الآية [التوبة: 77] ونحوه؛ فإن كان هذا فهو على حقيقة تقديم الأيدي والكسب.
والثاني: أن يكون { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق، وقوله: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } هو شركهم وكفرهم وتعاطيهم ما لا يحل، أي: ذلك القحط والضيق وقلة الأنزال والشدائد لهم؛ لشركهم وكفرهم وأعمالهم التي اختاروها، ويكون ذكر كسب الأيدي على المجاز لا على الحقيقة؛ ولكن لما باليد يكتسب وباليد يقدم، ذكر اليد؛ كقوله:
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ }
[الحج: 10]، ولعله لم يقدم شيئاً، لكنه ذكر أنه ظهر الشرك والكفر بحقيقة كسب الأيدي من أعمال السوء التي ذكرنا، ذلك كان يمنعهم عن الإيمان وكشف الغطاء عن قلوبهم.
وفي التأويل الآخر: الفساد الذي ظهر هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق؛ { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ }: هو الشرك والكفر وتعاطي ما لا يحل، لا على حقيقة كسب الأيدي؛ ولكن لما ذكرنا.
ثم اختلف في قوله: { فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ }: قال بعضهم: البر: هو المفاوز التي لا ماء فيها، والبحر: القرى والأمصار.
وقال بعضهم: أما البر فأهل العمود، والبحر: هم أهل القرى والريف.
وقال بعضهم: البر: قتل ابن آدم وأخاه، والبحر:
{ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }
[الكهف: 79].
وجائز أن يكون لا على حقيقة إرادة البر والبحر؛ ولكن على إرادة الأحوال نفسها، على ما ذكرنا من القحط والضيق وقلة الأنزال؛ بما كسبت أيدي الناس من الشرك والكفر.
ـ قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } ٱختلف فيه؛ فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث؛ قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب؛ وعنه أيضاً: من إتيان النساء في أدبارهنّ. ٱبن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط:
{ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }
[الأعراف: 82].
وأصله ما ذكر في قوله:
{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ }
[الزمر: 71]،
{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ }
[الزمر: 73]، ذكر السوق في الفريقين، وذكر في الكفرة:
{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ }
[الصافات: 22]، وقال - عز وجل -:
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ }
[فصلت: 19]، فالسائق: هو ملك يسوق إلى ما أمر من الجنة أو النار، والشهيد هم الملائكة الذين يكتبون علينا الأعمال، فيشهدون في الآخرة: إن كان شرّاً فشرّ، وإن كان خيراً فخير، والله أعلم بحقيقة ما أراد، وإن كان ما قالوا فمحتمل، والله أعلم.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: ثنا ابن فضيـل، قال: ثنا فضيـل بن مرزوق، عن عطية { وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ } قال: هو قوله:
{ فـاذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ }
وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال الالوسي فى تفسيره
وقيل: المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى:
{ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ }
[الجمعة: 9] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات
وقال آخرون: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة. ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن عليّ بن زيد، عن يوسف المكيّ، عن ابن عباس قال: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ
{ ذَلكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ }
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، قال: سأل رجل الحسن بن عليّ، عن { وشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال: سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا: يوم الذبح ويوم الجمعة قال: لا، ولكن الشاهد: محمد، ثم قرأ:
{ فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيداً }
والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ:
{ ذَلك يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ }
وقال الماتريدى فى تفسيره
ثم نرجع إلى قوله - تعالى -: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }.
فقال بعضهم: هي البروج المعروفة، وهي أطراف البناء، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج؛ ليشدد بناؤه به.
ومنهم من قال: البروج: القصور.
ومنهم من قال: البروج: النجوم؛ لقوله:
{ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ }
[الحجر: 16]، وزينة السماء هي الكواكب بقوله:
{ بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ }
[الصافات: 6-7].
ومنهم من قال: هي مجاري الشمس والقمر والكواكب، فمنازلها هي البروج.
ثم ذكر السماء بالبروج؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع؛ فيعرفوا بها حدثها؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره، والمقدور محدث، وهم لم يشهدوا بدأها؛ ليعرفوا به حدثها، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية؛ ليعلموا بها حدثها؛ ألا ترى إن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع، ولا بكونها محدودة في نفسها؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير.
وقوله: { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } قيل: هو يوم القيامة؛ فسمي: موعودا؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له؛ لما قرره عليهم بالحجج، وألزمهم القول به.
وقيل: اليوم الموعود، هو كل يوم يأتي، فيأتي بما وعد فيه من الرزق وغيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف في تأويله:
فمنهم من قال: الشاهد هو الله تعالى، والمشهود هوالخلق، واستدل على ذلك بقوله:
{ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
[المائدة: 117].
وقيل: الشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهود أمته؛ قال الله - تعالى -:
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ }
[النحل: 89].
ومنهم من يقول: الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه.
ومنهم من يقول: الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه؛ أي: جعل عليه من نفسه شهودا بقوله:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
[النور: 24].
وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى: { عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ } كما قلنا في المثال حيث يقول القائل: علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير، قال تعالى:{ هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ }
[آل عمران: 138]
وأولى القولين فـي ذلك عندي بـالصواب القول الذي قاله مـجاهد، وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناء، كما قال جلّ ثناؤهِ:
{ وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ }
وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع فـي البـيوت والأبنـية.
إذا عرفت هذا فنقول: كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال: فالأول: وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال كريب: كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم قرأ:{ وَنُقِرُّ فِى ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَاء }
[الحج: 5]
ومما يدل أيضاً على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى.
اختلف فيه: قال بعضهم: تعاون بعضنا ببعض في معصية الله ومخالفة أمره: هؤلاء بالدعاء وأولئك بالإجابة.
وقال قائلون: ربنا استمتع بعضنا ببعض أي: انتفع بعضنا ببعض بأنواع المنافع: ما ذكر - في بعض القصة - أن الرجل من الإنس إذا سافر فأدركه المساء بأرض القفر خاف؛ فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه؛ فيأمن في ذلك بالتعوذ إلى سيدهم؛ فذلك استمتاع الإنس بالجن؛ فذلك [قوله]:
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ }
الآية [الجن: 6].
وأمّا استمتاع الجن بالإنس [فهو] ما يزداد لهم الذكر والشرف في قومهم، يقولون: لقد سودتنا الإنس. ويحتمل استمتاع الجن بالإنس ما ذكر - إن ثبت - أنه جعل طعامهم العظام التي يستعملها الإنسان، ويكون ذلك غذاءهم، وعلف دوابهم أرواث دواب الإنس.
وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس، فعلمت ذكر جواب الإنس لهم، ولم يذكر جواب الجن لهم.
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } قد مضى في «البقرة» معنى الخدع. والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياؤه ورسله. قال الحسن: يُعْطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا؛ فإذا جاءوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق، فذلك قولهم:
{ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }
[الحديد: 13].
أما قوله:
{ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَـٰفِلِينَ }
[المؤمنون: 17] ففيه وجوه: أحدها: ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ }[فاطر: 41]
وثانيها: إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن
وثالثها: أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله:
{ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَـٰفِلِينَ }
[المؤمنون: 17] يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر
ورابعها: وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى:
{ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ }
[الملك: 3].
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } وقرأ:
{ ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقًّا فَأنْبَتْنا فِيه حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً }
إلى آخر الآية، قال: صدعها للحرث.
اختلف المفسرون في قوله: { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم. الثاني: أن المراد بالسمي النظير كما في قوله:
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }
[مريم: 65] واختلفوا في ذلك على وجوه. أحدها: أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله:
{ وَٱجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً }
[مريم: 6] فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين، ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا. وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق. وثانيها: أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالظاهر من الإثم والباطن منه في هذا الموضع، فقال بعضهم: الظاهر منه: ما حرّم جلّ ثناؤه بقوله:
{*وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ*}
قوله:
{*حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ...*}
الآية، والباطن منه الزنا. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، في قوله: { وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ } قال: الظاهر منه:
{*لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ*}
والأمهات، والبنات والأخوات. والباطن: الزنا.
وقال آخرون: الظاهر: أولات الرايات من الزواني. والباطن: ذوات الأخدان.
قال القرطبي في تفسيره
قوله تعالىظ°: { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } بل إضراب عن تَمنّيهم وادّعائهم الإيمان لو رُدّوا. واختلفوا في معنى { بَدَا لَهُمْ } على أقوال بعد تعيين مَن المراد؛ فقيل: المراد المنافقون لأن اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين؛ قال النحاس: وهذا من الكلام العَذْب الفصيح. وقيل: المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبيّ صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يَفْطَن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة؛ ولهذا قال الحسن: «بَدَا لَهُمْ» أي بدا لبعضهم ما كان يُخفيه عن بعض. وقيل: بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشِّرك فيقولون: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ» فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين «بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ». قاله أبو رَوْق. وقيل: «بَدَا لَهُمْ» ما كانوا يكتمونه من الكفر؛ أي بدت أعمالهم السيئة كما قال:
{ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }
[الزمر: 47]. قال المبردّ: بدا لَهُم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه. وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغُواة ما كان الغُواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة؛ لأن بعده { وَقَالُوغ¤اْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ*
وقال الالوسي في نفسيره
وقيل: المراد بما كانوا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم:
{ وَظ±للَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
[الأنعام: 23]، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.
قوله تعالىظ°: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي { إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } تبرءوا من الشِّرك وانتفَوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالىظ° لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك؛ قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشِّرك فتعالَوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين؛ فقال الله تعالي°: أما إذْ كتموا الشِّرك فاختموا على أفواهِهم، فيختم على أَفواهِهِم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يُكتَم حديثاً؛ فذلك قوله:
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى° بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }
[النساء: 42]
وأخرج عبد بن حميد في الابانة ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير عن قتادة { قل هو نبأ عظيم } قال: إنكم تراجعون نبأ عظيماً فأعقلوه عن الله { ما كان لي من علم بالملإِ الأعلى إذ يختصمون } قال: هم الملائكة عليهم السلام كانت خصومتهم في شأن آدم عليه السلام
{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }
[البقرة: 30] إلى قوله
{ إني خالق بشراً من طين فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين }
[البقرة: 30] ففي هذا اختصم الملأ الأعلى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { ما كان لي من علم بالملإِ الأعلى } قال: الملائكة حين شووروا في خلق آدم عليه السلام فاختصموا فيه: قالوا أتجعل في الأرض خليفة.
وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { ما كان لي من علم بالملإِ الأعلى إذ يختصمون } قال: هي الخصومة في شأن آدم { أتجعل فيها من يفسد فيها
المسألة الثانية: الهمز الكسر قال تعالى:
{ هَمَّازٍ مَّشَّاء }
[القلم:11] واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم، قال تعالى:
{ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ }
[الحجرات:11] وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة، وقرىء: { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظاً أحدها: قال ابن عباس: الهمزة المغتاب، واللمزة العياب وثانيها: قال أبو زيد: الهمزة باليد واللمزة باللسان ....
قوله تعالى: { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } فيه أربعة أقوال.
أحدها: أن الأولى قوله
{*ما علمت لكم من إله غيري*}
[القصص: 38] والآخرة قوله «أنا ربكم الأعلى»، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى.
والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذَّبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة. وقال الربيع بن أنس: عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق، وفي آخره بالنَّار.
والثالث: أن الأولى: تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله: «أنا ربكم الأعلى»، قاله أبو رزين.
والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد. قال الزجاج: النكال: منصوب مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { هُوَ سَمَّـا°كُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } يعني: إبراهيم، وذلك لقوله:
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }
[البقرة: 128] قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: { هُوَ سَمَّـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذ°ا } قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي الذكر، { وَفِى هَـظ°ذَا } يعني: القرآن، وكذا قال غيره.
{ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء } أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت { وَيُثَبّتُ } بدله ما فيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما يشاء إثباته مطلقاً أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء،
وقال عكرمة: يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى:
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـالِحاً فَأُوْلَـظ°ئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ }
[الفرقان: 70]
وقال ابن جبير: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره، وقال: يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى:
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القُرُونِ }
[يس: 31] ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه:
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ }
[المؤمنون: 42]
وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها الله تعالى إليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه، بيانه قوله تعالى:
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا }
[الزمر: 42] الآية،
وعن ابن عباس والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة، وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها، وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقال الحسن وفرقة: ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر، وقيل: في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناساً من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الأموات،
وقال السدي: يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى:
{ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً }
[الإسراء: 12] وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمحو الله تعالى ما يشاء من أمور عباده ويثبت إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنها لا محو فيها، ورواه عنه مرفوعاً ابن مردويه.
وقيل: هو عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ونسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء.
قوله*تعالى: { وَإِنَّهُ عَلَی ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } قال قتادة وسفيان الثوري: وإن الله على ذلك لشهيد. ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان، قاله محمد بن كعب القرظي، فيكون تقديره: وإن الإنسان على كونه كنوداً لشهيد، أي: بلسان حاله، أي: ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله؛ كما قال تعالى:
{*مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـهِدِينَ عَلَىظ° أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ*}
[التوبة: 17].
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال: هو شاهد على نفسه، وقرأ:
{ اقْرأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }
وقال القرطبي
قوله تعالى: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ٱبن عباس: «بَصِيرَةٌ» أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفرّاء:
كأنّ على ذي العقلِ عَيْناً بصيرةً بمعقِده أو مَنْظَرٍ هو ناظِرُهُ
يُحاذِرْ حتى يَحسِبَ الناسَ كلَّهمْ من الخوفِ لا تَخْفَى عليهم سَرَائِرُهُ
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
[النور: 24].
وقال تعالى ههنا: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } قرأ أبو عمرو بن العلاء: (برق) بكسر الراء، أي: حار، وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى:
{ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ }
[إبراهيم: 43] أي: بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب، وقرأ آخرون (برق) بالفتح، وهو قريب في المعنى من الأول، والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة، وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. وقوله تعالى: { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } أي: ذهب ضوءُه { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } قال مجاهد: كورا، وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية:
{ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ }
[التكوير: 1 ــــ 2] وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: { وَجُمِعَ بين الشَّمْسُ والقَمَرُ }. وقوله تعالى: { يَقُولُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } أي: إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة، حينئذ يريد أن يفر، ويقول: أين المفر؟ أي: هل من ملجأ أو موئل؟ قال الله تعالى: { كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: أي: لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى:
{ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ }
[الشورى: 47] أي: ليس لكم مكان تتنكرون فيه، وكذا قال ههنا: { لاَ وَزَرَ } أي: ليس لكم مكان تعتصمون فيه، ولهذا قال: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } أي: المرجع والمصير.
ومعنى «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» أي يقول: الله يعلم أني أقول حقّاً. وقرأ ابن محيصن «وَيَشْهَد اللَّهُ عَلَىظ° مَا فِى قَلْبِهِ» بفتح الياء والهاء في «يشهد» «اللهُ» بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال. دليله قوله:
{*وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*}
[المنافقون: 1]
. وقراءة ابن عباس { وَاللَّهُ يَشْهَدُعَلَىظ° مَا فِى قَلْبِهِ }. وقراءة الجماعة أبلغ في الذم؛ لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه. وقرأ أُبَيّ وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قلبه» وهي حجة لقراءة الجماعة.
قال الشيخ الحافظ ابن كثير في تفسيره :
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي، حدثنا أبو حيوة، يعني: شريح بن يزيد المقري، حدثنا سعيد بن سنان، عن ابن عريب، يعني: يزيد بن عبد الله بن عريب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله تعالى: { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } قال: هم الجن، ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم، عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان، عن يزيد بن عبد الله بن عريب به، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " ، وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه،
وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون، وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى:
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَـظ°فِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { لأَوَّلِ الحَشْرِ } قال: الشام حين ردّهم إلى الشام، وقرأ قول الله عزّ وجلّ:
{ يا أيُّها الَّذِينَ أوتُوا الكِتابَ آمَنُوا بِمَا نَزَّلْنا مَصَدَّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنرُدَّها على أدْبارِها }
قال: من حيث جاءت، أدبارها أن رجعت إلى الشام، من حيث جاءت ردّوا إليه.
أحدها: قال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهو كقوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }
[الذاريات: 56، 57]......
قوله تعالى: { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي لم يقرؤوا في كتاب أوتُوه بطلانَ ما جئتَ به، ولا سمعوه من رسول بُعث إليهم، كما قال:
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }
[الزخرف: 21]
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
قال ابن كثير
وقوله تعالى:**لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ فِى كَبَدٍ*روي عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وخيثمة والضحاك وغيرهم: يعني: منتصباً، زاد ابن عباس في رواية عنه: منتصباً في بطن أمه، والكبد: الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول: لقد خلقناه سوياً مستقيماً؛ كقوله تعالى:
*ياأَيُّهَا الإِنسَـا°نُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ*
الانفطار: 6 ــــ 8] وكقوله تعالى:
*لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـظ°نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*
[التين: 4] وقال ابن أبي نجيح وجريج وعطاء عن ابن عباس: في كبد، قال: في شدة خلق، ألم تر إليه، وذكر مولده ونبات أسنانه؟ وقال مجاهد:**فِى كَبَدٍ**نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، يتكبد في الخلق، قال مجاهد: وهو كقوله تعالى:
*حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً*
[الأحقاف: 15] وأرضعته كرهاً، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك...
قال الكلبي: لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، كادت السموات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية فيه؛ وهو كقوله تعالى:
{ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ }
[مريم: 89 ـ 90] الآية.