قوله تعالى: { قُبُلاً }: قرأ نافع وابن عامر " قِبَلاً " هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون. وقرأ أُبَيّ والأعمش " قبيلاً " بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة. وقرأ طلحة بن مصرف " قَبْلا " بفتح القاف وسكون الباء.
فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان،
أحدهما: أنها بمعنى مُقَابلة أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتصابه على هذا على الحال، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال: " لَقِيته قِبَلاً " أي عِياناً. وقال ابن الأنباري: " قال أبو ذر: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنبيَّاً كان آدم؟ فقال: نعم كان نبياً، كلَّمه الله قِبَلاً " وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم.
والثاني: أنها بمعنى ناحية وجهه، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم: لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ، وما قِبَلك حق. ويقال: لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّه بمعنى واحد، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً.
وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه
أحدها: أن يكون " قُبُلاً " جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب. وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج: " جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفيلاً بصدق محمد عليه السلام " ، ويُقال: قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي: تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة. وقال الفراء في سورة الأنعام: " قُبُلاً " جمع " قبيل " وهو الكفيل
". قال: " وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم
{ أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً }
[الإِسراء: 92] يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات.
الثالث: أن يكون " قُبْلاً " بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي: مواجهةً ومعاينةً، ومنه " آتيك قُبُلاً لا دُبُراً " أي: آتيك من قِبَل وجهك، وقال تعالى:
{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ }
[يوسف: 26]
قوله تعالى: { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي لم يقرؤوا في كتاب أوتُوه بطلانَ ما جئتَ به، ولا سمعوه من رسول بُعث إليهم، كما قال:
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ }
[الزخرف: 21]
قال الشافعي رحمه الله تعالى: هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب، ويدل عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية. وثانيها: قوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ } وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة، روي أن ناساً من المشركين قالوا للمسلمين: ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه، وما يقتله الله فلا تأكلونه. وعن ابن عباس أنهم قالوا: تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله، فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة، وثالثها: قوله تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب، يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان، فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك. قال الشافعي رحمه الله تعالى: فأول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة، إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص، ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فقد صار هذا النهي مخصوصاً بما إذا كان هذا الأمر فسقاً، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقاً؟ فرأينا هذا الفسق مفسراً في آية أخرى، وهو قوله:
{ قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لغير الله به }
[الأنعام: 145] فصار الفسق في هذه الآية مفسراً بما أهل به لغير الله، وإذا كان كذلك كان قوله: { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } مخصوصاً بما أهل به لغير الله.....
وقال ٱبن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوماً، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السَّفَرة الكاتبين، فنجّمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزله على الأحداث من أمته؛ حكاه الماوردي عن ٱبن عباس والسّدي. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجّاج بن المِنهال حدثنا همّام عن الكلبي عن أبي صالح عن ٱبن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرض نجوماً، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }.
{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ }
قال ابن كثير فى تفسيره:
وروى الأعمش عن مجاهد في قوله تعالى: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } يعني: القرآن إذا نزل، وهذه الآية كقوله تعالى:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَـٰبٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[الواقعة: 75 ــــ 80]
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } يعني: ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمئة جناح { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله:
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }
[النجم: 5 ــــ 10] كما تقدم تفسير ذلك وتقريره، والدليل عليه أن المراد بذلك جبريل عليه السلام، والظاهر والله أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية، وهي الأولى، وأما الثانية، وهي المذكورة في قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }
[النجم: 13 ــــ 16] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
قال القرطبي فى تفسيره:
ومن أحسن ما قيل في تأويل { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } أي لأصدّنّهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } حسب ما تقدم. وروىٰ سفيان عن منصور عن الحكم بن عُتَيْبَة قال: «مِنْ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ» من دنياهم. «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من آخرتهم. «وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ» يعني حسناتهم. «وَعَنْ شَمَائِلِهمْ» يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنىٰ «ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ» من دنياهم، حتى يكذِّبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من آخرتهم حتي يكذِّبوا بها. «وَعَنْ أَيْمَانِهِم» من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله:
{ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ }
[الصافات: 28]. «وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات؛ لأنه يزينها لهم. { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } أي موحِّدين طائعين مظهرين الشكر.
وقال بعضهم: بل الكلـمات التـي ابتلـي بهن عشر خلال بعضهنّ فـي تطهير الـجسد، وبعضهنّ فـي مناسك الـحجّ. .....
وقال آخرون: بل ذلك: إنـي جاعلك للناس إماماً فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عتن أبـي صالـح فـي قوله: { وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبُّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنَّ } فمنهن: { إنِّـي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً } وآيات النسك.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح مولـى أم هانىء فـي قوله: { وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبُّهُ بِكَلِـمَاتٍ } قال منهن: { إنـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً } ومنهن آيات النسك:
{ وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ }
.....
حدثنا سفـيان، قال: حدثنـي أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فأتَـمّهُنَّ } قال: ابتلـي بـالآيات التـي بعدها: { إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً قال وَمِنْ ذُرّيَّتِـي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ }.
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَإذْ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُن } فـالكلـمات: { إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً } وقوله:
{ وَإذ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثابَةً للنّاسِ }
وقوله:
{ وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيـمَ مُصَلّـى }
وقوله:
{ وَعَهِدْنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ }
الآية، وقوله: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمَ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ الآية قال: فذلك كلـمة من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم.
حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: { وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنَّ } فمنهنّ: { إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماماً } ومنهن:
{ وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ }
ومنهن الآيات فـي شأن النسك، والـمقام الذي جعل لإبراهيـم، والرزق الذي رزق ساكنوا البـيت ومـحمد صلى الله عليه وسلم فـي ذرّيتهما علـيهما السلام....
وقال آخرون بـما:
حدثنا به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي:الكلـمات التـي ابتلـى بهنّ إبراهيـم ربه:
{ رَبّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَـيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوَّابُ الرَّحِيـمُ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ }
قال الرازى فى تفسيره
الصفة الثانية: قوله: { وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } وفيه قولان:
الأول: قال أبو بكر الأصم: المراد بالأغلال: كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام، ونظيره قوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً }
[يس: 8] قال الشاعر:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل: هذا غل في عنقك للعمل الرديء معناه: أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب. قال القاضي: هذا وإن كان محتملاً إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى، وأقول: يمكن نصرة قول الأصم بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه، فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا.
والقول الثاني: المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، والدليل عليه قوله تعالى:
{ إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِى ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ }
[غافر: 71، 72].
وقال الكلبي: { يَمْحُو ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، فقيل له: من حدثك بهذا؟ فقال: أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية، فقال: يكتب القول كله، حتى إذ كان يوم الخميس، طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت، ودخلت وخرجت، ونحو ذلك من الكلام، وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب، وقال عكرمة عن ابن عباس: الكتاب كتابان، فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } يقول: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله، فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله، وقد كان سبق له خير، حتى يموت وهو في طاعة الله، وهو الذي يثبت، وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى
{ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[البقرة: 284]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } يقول: يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب، وقال قتادة في قوله: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } كقوله:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا }
[البقرة:106] الآية....
وقال آخرون: عنى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجبوا الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه.........
والقول بوجوب الوضوء من المس، هو قول الشافعي وأصحابه، ومالك، والمشهور عن أحمد بن حنبل رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة: قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد، قال تعالى:
أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف، ومنه قول الشاعر: [السريع]
إن عادت العقرب عدنا لها وكانت النعل لها حاضرة
ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا ليت أيام الشباب جديدُ وعصراً تولّى يا بثين يعودُ
ومنه قوله تعالى:
{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا }
[الأنعام:28] ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فإن تكن الأيام أحسن مرة إليّ فقد عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة. ومن هذه قول الشاعر: [البسيط]
تلك المكارم لاقعبان من لبن شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر: [الرجز]
وعاد رأسي كالثغامة
ومنه قوله تعالى:
{ حتى عاد كالعرجون القديم }
[يس:39] على أن هذه محتملة،
فقوله في الآية أو { لتعودن } و { شعيب } عليه السلام لم يكن قط كافراً يقتضي أنها بمعنى صار، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه " شعيب " إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث،
وقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ } روي عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وخيثمة والضحاك وغيرهم: يعني: منتصباً، زاد ابن عباس في رواية عنه: منتصباً في بطن أمه، والكبد: الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول: لقد خلقناه سوياً مستقيماً؛ كقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِىۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }
الانفطار: 6 ــــ 8] وكقوله تعالى:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِىۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }
[التين: 4] وقال ابن أبي نجيح وجريج وعطاء عن ابن عباس: في كبد، قال: في شدة خلق، ألم تر إليه، وذكر مولده ونبات أسنانه؟ وقال مجاهد: { فِى كَبَدٍ } نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، يتكبد في الخلق، قال مجاهد: وهو كقوله تعالى:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً }
[الأحقاف: 15] وأرضعته كرهاً، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك...
الأول: الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي: يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفياً، والحفي الكلام واللقاء الحسن، ومنه قوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } أي باراً لطيفاً يجيب دعائي إذا دعوته، فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي، ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشاً قالت لمحمد عليه السلام: إن بيننا وبينك قرابة، فاذكر لنا متى الساعة. فقال تعالى: { يَسْـئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌ عَنْهَا } أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم.
والقول الثاني: { حَفِىٌّ عَنْهَا } أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها، وعلى هذا القول { حَفِىٌّ } فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال، ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه، قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة، أي استقصى. فقوله: { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها. قال صاحب «الكشاف»: هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب، وإحفاء البقل استئصاله، وأحفى في المسألة إذا ألحف، وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به، وعلى هذا التقدير: فالقولان الأولان متقاربان....
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت. وقوله: { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } فيه أقوال:
القول الأول: المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده. ونظيره قوله تعالى:
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ }
[الأنبياء: 44] وقوله:
{ سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلآفَاقِ }
[فصلت: 53].
والقول الثاني: وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } المراد: موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار، وقال الواحدي: وهذا القول، وإن احتمله اللفظ، إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول. ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع، وتقريره أن يقال: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله، وقيل: { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟
والقول الرابع: أن السبع المثاني هوالقرآن كله، وهو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات، وقول طاوس قالوا: ودليل هذا القول قوله تعالى:
{ كتاباً متشابهاً مثاني }
[الزمر 23] فوصف كل القرآن بكون مثاني ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع، وما المراد بالمثاني؟ أما السبع فذكر فيه وجوهاً: أحدها: أن القرآن سبعة أسباع. وثانيها: أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم. التوحيد، والنبوة والمعاد، والقضاء، والقدر، وأحوال العالم، والقصص، والتكاليف. وثالثها: أنه مشتمل على الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والنداء، والقسم، والأمثال. وأما وصف كل القرآن بالمثاني، فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف، وهذا القول ضعيف أيضاً، لأنه لو كان المراد بالسبع المثاني القرآن، لكان قوله: { والقرآن العظيم } عطفاً على نفسه، وذلك غير جائز
وأجيب عنه بأنه إنما حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وأعلم أن هذا وإن كان جائزاً لأجل وروده في هذا البيت، إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.
والمنافع الذي ذكر هو ما فسّر في آية أخرى؛ وهو قوله:
{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ... }
الآية [النحل: 80] جعل الله - عز وجل - الأنعام وما ذكر وقاية لجميع أنواع الأذى من السماوي وغيره؛ مما يهيج من الأنفس من الحرّ، والبرد، والجوع، وغير ذلك مما يكثر عدها، ويطول ذكرها، وجعل فيها منافع كثيرة: من الركوب، والشرب، والأكل؛ كما قال:
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ }
[يس: 73] وقال:
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ }
[المؤمنون: 21]
قال الرازى فى تفسيره
وفي تفسير هذا التقلب وجوه: الأول: أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم، فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا، وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى:
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ }
[آل عمران: 196]....
وثالثها: أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسراً كما قال:
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصّرٰطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ }
[يس: 66] وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله:
{ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأمُورَ }
[التوبة: 48] فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى: { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } وفي تفسير التخوف قولان:
القول الأول: التخوف تفعل من الخوف، يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً بل يخيفهم أولاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذاً ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زماناً طويلاً في الخوف والوحشة.
والقول الثاني: أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال: تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته، وعن عمر أنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم. قال شاعرنا وأنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى:
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }
[الأنبياء: 44] والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلاً قليلاً حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة، والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها، أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم
{ ويجعلون } أي على سبيل التكرير { لما لا يعلمون } مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى
{ أم تنبئونه بما لا يعلم }
[الرعد:33]
وقال الماتريدى فى تفسيره:
ويحتمل قوله: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } أي: يعلمون أن ليس لها نصيب في ذلك، ولكن يجعلون ذلك لها على علم منهم أن لا نصيب للأوثان في ذلك، وهو كقوله:
{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ }
[يونس: 18] أي: أتنبئون الله بما يعلم أنه ليس ونحوه، أي: يعلم غير الذي تنبئون
و ـ الأمد ـ غاية الشيء ومنتهاه... والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ـ ولعله الأظهر ـ، فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى:
{ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ }
[الزخرف: 38]
أي: لا سواء بين من آمن منهم - يعني: من أهل الكتاب - ومن لم يؤمن منهم؛ لأن منهم من قد آمن؛ فصاروا أمّة قائمة؛ قيل: عادلة، كقوله:
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
[الأعراف: 159].
وقيل: أمة قائمة على حدود الله، وفرائضه، وطاعته، وكتابه؛ لم يحرفوه.
وقال قوم: { ضَآلاًّ } لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى قوله تعالى:
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ }
[الشورى: 52]...
المسألة الثانية: في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن يتكون صفات ثلاثة لموصوف واحد، ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة، أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول: أنها صفات الملائكة، وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفاً. إما في السموات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا:
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّافُّونَ }
[الصافات: 165] وقيل إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم، ويحتمل أيضاً أن يقال معنى كونهم صفوفاً أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف...إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول: قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني: المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجراً الثالث: لعل الملائكة أيضاً يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء..
قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة، والجواب من وجهين الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني: أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي، أما التأنيث في اللفظ فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا
الوجه الثاني: في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله: { وَٱلصَّـٰفَّـٰتِ صَفَّا } الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى والمراد من قوله: { فَٱلزجِرٰتِ زَجْراً } اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات، والمراد من قوله تعالى: { فَٱلتَّـٰلِيَـٰتِ ذِكْراً } اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله
الوجه الثالث: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله: { وَٱلصَّـٰفَّـٰتِ صَفَّا } المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى:{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً }
[الصف: 4] وأما (الزاجرات زجراً) فالزجرة والصيحة سواء، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل، وأما (التاليات ذكراً) فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس
الوجه الرابع: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله: (والصافات صفاً) المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائل النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة، وهذه الآيات مرتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصاً واقفين في صفوف معينة قولوه: { فَٱلزجِرٰتِ زَجْراً } المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله: { فَٱلتَّـٰلِيَـٰتِ ذِكْراً } المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر..
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل المراد بقوله: { وَٱلصَّـٰفَّـٰتِ صَفَّا } الطير من قوله تعالى:
{ وَٱلطَّيْرُ صَافَّـٰتٍ }
[النور: 41] (والزاجرات) كل ما زجر عن معاصي الله (والتاليات) كل ما يتلى من كتاب الله...
وأصل معنى الفرض القطع وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، والظاهر أن هذا القول وقع نطقاً من اللعين، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده، وقال ذلك ظناً، وأيد بقوله تعالى:
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ }
[سبأ: 20]، وقيل: إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }
[البقرة: 30]
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { وَمَعِينٍ } قال: الـمَعِين: الـماء الـجاري، وهو النهر الذي قال الله:
{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَـحْتَكِ سَرِيًّا }
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت خالد بن عُرْعُرة، قال: سمعت عليًّا يقول: والسقف المرفوع: هو السماء، قال:
{ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحفُوظاً وهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُونَ }...
وقوله: { وَالبَحْرِ المَسْجُورِ } اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور، فقال بعضهم: الموقد. وتأوّل ذلك: والبحر الموقد المحمّى. ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقاً، { والبَحْرِ المَسْجورِ }
{ وَإذَا البِحارِ سُجِرَتْ }
مخففة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حُمَيد، عن شمر بن عطية، في قوله: { وَالبَحْرِ المَسْجُورِ } قال: بمنزلة التنُّور المسجور.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد { وَالبَحْرِ المَسْجُورِ } قال: الموقَد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: { وَالبَحْرِ المَسْجُورِ } قال: الموقد، وقرأ قول الله تعالى:
{ وَإذَا البِحارُ سُجِّرَتْ }
قال: أوقدت.
وقال القرطبي فى تفسيره
{ وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } قال مجاهد: الموقَد؛ وقد جاء في الخبر: «إن البحر يُسجَر يوم القيامة فيكون ناراً». وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنَّمِر بن تَوْلَب:
إذا شاء طالعَ مَسْجورةً تَرَى حَولَها النَّبْعَ السَّاسَمَا
يريد وَعْلاً يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء ناراً فيكون كالقول المتقدّم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه المَوْقِد المحميّ بمنزلة التَّنُّور المسجور. ومنه قيل: للمِسْعَر مِسْجَر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
{ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ }
[التكوير: 6] أي أوقدت؛ سَجَرت التَّنُّور أسجره سجراً أي أحميته. وقال سعيد بن المسيِّب: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أُرَاك إلا صادقاً، وتلا: «والْبَحْرِ الْمَسْجُورِ». { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } مخففة. وقال عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يُسجَر البحر غداً فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ٱبن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرُّمَّة الشاعر عن ٱبن عباس قال: خرجت أَمَة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ، قال ٱبن أبي داود: ليس لذي الرُّمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله:
{ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ }
[الانفطار: 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء
قوله تعالى: { وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ } أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }
[الواقعة: 77 - 78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رَقّ ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم.
وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره:
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }
[الإسراء: 13] وقوله:
{ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ }
[التكوير: 10]. وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه:
{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }
[المجادلة: 22].
قوله تعالى: { وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ } أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }
[الواقعة: 77 - 78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رَقّ ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم.
وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره:
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }
[الإسراء: 13] وقوله:
{ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ }
[التكوير: 10]. وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه:
{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }
[المجادلة: 22].
أحدهما: أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة، والمراد بها هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه قراءته. وهذا مناسبٌ لقوله:
{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }
[فصلت: 26]/.
وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قولُه تعالى:
{ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ }
[الزخرف: 57] في قراءة مَنْ كسر الصاد أي: يضجُّون ويَلْغَطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: " إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من المضعَّف "؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال: " قد ثبت أنَّ يَصُدُّون مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه، وتَصْدِية تَفْعِلَة " ، ثم ذكر كلاماً كثيراً.
والثاني: أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل: تَصْدِدَة بدالين أيضاً، فأُبْدِلت ثانيتهما ياءً. ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ " يَصُدُّون " بالضم أي: يمنعون.
قال الامام ابو حيان فى البحر المحيط بعد ان ذكر خمسة عشر قولا من اقوال المفسرين فى معنى كما اخرجك
ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلّب في إنشاء أفانينه وزاول الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئاً من هذه الأقوال وإن كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يحتط بلفظ الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرّف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز.
وقبل تسطير هذه الأقوال هنا وقعت على جملة منها فلم يلق لخاطري منها شيء فرأيت في النوم أنني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } فقلت له ما مرّ بي شيء مشكل مثل هذا ولعل ثم محذوفاً يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شيء طائل
ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره، والتقدير فكأنه قيل { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } أي بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم لخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } الآيات،
ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيها معنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى:
{ واذكروه كما هداكم }
[البقرة: 198] وأنشدوا:لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع الله يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك الله يدخلك الجنة فكان المعنى إن خرجت لإعزاز دين الله وقتل أعدائه نصرك الله وأمدّك بالملائكة
ملحوظة
ذكر السمين الحلبى فى الدر المصون فى القول العاشر من اقوال المفسرين فى كما اخرجك
أن الكاف بمعنى واو القسم و " ما " بمعنى الذي، واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله:
{ وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا }
[الشمس: 5]
{ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ }
[الليل: 3] والتقدير: والذي أخرجك،
فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة.
الأول: قال المفسرون: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام:
{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }
[يوسف: 33] وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته:
{ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَـٰهِلُونَ }
[يوسف: 89] وقال تعالى:
{ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }
[هود: 46] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }
[البقرة: 67] وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: ياجاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك.
والوجه الثاني: في تفسير الجهالة: أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الانسان اذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فانه يصح أن يقال على سبيل المجاز: انه جاهل بفعله.
والوجه الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية، فانه على هذا التقدير يستحق العقاب، ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب، وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية، إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب، ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي، فانه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا، وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز، وفي هذا الوجه على الحقيقة، إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه، أما المتعمد فانه لا يكون داخلا تحت الآية، وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى، فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة،