التاريخ المحسوس لحضارة الإسلام وعصور اوروبا المظلمة من قصة الحضارة لديورانت أ. طارق منينة

"ومنح لويس السابع مدينة سان Sens عهداً بحريتها في عام 1146، ولكنه ألغي هذا العهد بعد ثلاث سنين بناء على طلب من رئيس الدير الذي كانت تلك البلدة ضمن أملاكه؛ ثم قتل أهل المدينة رئيس الدير وابن أخيه، ولكنهم عجزوا عن إعادة الحكومة المحلية. وواصل أسقف تورناي الحرب الأهلية ست سنين (1190-1196) ليقضي على حكومتها المحلية، وأصدر البابا قرار بحرمان جميع أهل المدينة من الكنيسة؛ وثار أهل رون في يوم أحد الفصح من عام 1194 ونهبوا بيوت قساوسة كنيستها الكبرى، وفي عام 1207 أصدر البابا قراراً الحرمان على المدينة. وفي عام 1235 استولى العامة على الحجارة التي جيء بها إلى المدينة لبناء كنيستها، واتخذوها قذائف ومتاريس في الثورة التي قاوما بها على أكبر رئيس ديني في غالة، وولى هو ومن معه من رجال الدين الأدبار، ولم يعودوا إلا بعد عامين من ذلك الوقت، لما أن حمل البابا لويس السابع على إلغاء الحكومة المحلية. وعجزت كثير من مدن فرنسا على نيل حريتها إلى أن قامت الثورة الكبرى، ولكن الكثرة الغالبة من المدن الفرنسية نالت حريتها بين عامي 1080و1200، وبدأت أزهى عصورها بفضل ما بعثته فيها الحرية من روح دافعة قوية. وكانت الحكومات المحلية هي التي أنشأت الكنائس القوطية الكبرى.
قصة الحضارة ج15 ص125 ومابعدها
 
ريتشارد قلب الاسد المحارب لصلاح الدين (كيفية موته وشئ من سيرته)
"لقد ورث ريتشارد الأول الملقب بلقب الأسد عرش أبيه دون أن ينازعه منازع...وولد رتشرد في أكسفورد 1157 وانتدبته أمه ليصرف شئون أملاكها في أكتين، وفيها أشربت نفسه بثقافة بروفانس المتشككة...وقد قضي الخمسة الشهور الأولى من حكمه في جمع المال اللازم لحرب صليبية...ولم يمض على اعتلائه العرش نصف عام حتى أبحر إلى فلسطين، ولم يكن حرصه على سلامته أكثر من حرصه على حقوق غيره؛ وقد أثقل كاهل البلاد بالضرائب إلى أقصى طاقتها، وبدد ما جمعه من المال في الترف، والولائم، والمظاهر الكاذبة، واندفع في العمل خلال العقد الأخير من القرن الثاني عشر بجرأة وتهور جعلا زملاءه الشعراء يضعونه في صف الإسكندر، وآرثر، وشارلمان.
وحارب صلاح الدين وأحبه، وعجز عن هزيمته وأقسم أن يهزمه، وقفل
راجعاً إلى بلاده وأسره في طريق عودته (1192) ليوبولد دوق النمسا، وكان قد أساء إليه في آسيا، وأسلمه ليوبولد في بدء عام 1193 إلى الإمبراطور هنري السادس. وكان لهنري هذا ثأر قديم عند هنري الثاني ورتشرد، واحتفظ هنري السادس بملك إنجلترا سجيناً في حصن ببلدة درنشتين Dürnstein على نهر الدانوب على الرغم من القانون الذي كان معترفاً به في أوربا بوجه عام والذي يحرم اعتقال رجال الحروب الصليبية؛ وطلب إلى إنجلترا فدية قدرها 150.000 مارك (15.000.000 دولار أمريكي) أي نصف الإيراد السنوي لأملاك التاج البريطاني. وكان جون أخو رتشرد وقتئذ يحاول اغتصاب العرش، فلما لقي مقاومة فر إلى فرنسا وانضم إلى فليب أغسطس في هجومه على إنجلترا. ونكث فليب بعهد قطعه على نفسه بالمحافظة على السلم، فهاجم الأملاك الإنجليزية في فرنسا واستولى عليها، وعرض رشا كبيرة على هنري السادس ليبقى رتشرد أسيراً. وضاقت نفس رتشرد بسجنه المريح، وكتب قصيدة من الشعر الممتاز(38)، يطلب فيها إلى بلاده أن تفتديه من الأسر. وكانت إليانور في أثناء هذه الأحداث المضطربة تحكم البلاد حكماً ناجحاً بوصفها نائبة عن الملك معتمدة على النصائح الحكيمة التي يقدمها لها القاضي الأكبر هيوبرت ولتر Hubert Walter كبير أساقفة كنتربري، ولكنهما وجدا من العسير عليهما جمع الفدية المطلوبة. ولما أطلق سراح رتشرد آخر الأمر (1194) أسرع إلى إنجلترا، وجبى الضرائب وجمع الجند وقاد بنفسه جيشاً عبر به القناة الإنجليزية ليثأر لنفسه ولإنجلترا من فليب. . وتقول الرواية المأثورة إنه ظل عدة سنين يرفض القداس لئلا يطلب إليه أن يصفح عن عدوه الغادر. فلما تم له استعادة جميع الأملاك التي استولى عليها فليب ركن إلى السلم التي أمكنت فليب من أن يعيش. وتنازع في هذه الأثناء مع أحد أتباعه الإقطاعيين وهو أدهمار Adhemar فيكونت مدينة ليموج Limoges، وكان قد وجد كنزاً من الذهب مخبوءاً في أرضه، وعرض على رتشرد جزءاً منه، لكن رتشرد أبى إلا أن يأخذه كله، وحاصر أدهمار. وأصاب رتشرد سهم منطلق من قصر أدهمار الحصين فمات رتشرد "قلب الأسد" في الثالثة والأربعين من عمره إثر نزاع قام على كومة من الذهب.
قصة الحضارة ج15 ص193-195)
 
اوساخ انجلترا في عصر مسيحيتها كانت الطبقات العليا تلقى من النوافذ
"كانت تسعة أعشار إنجلترا في عام 1300 ريفاً، وكان بها مائة بلدة تعد في نظر المدائن التي خلفتها في هذه الأيام قرى صغيرة، وكان بها مدينة واحدة هي لندن تزهو على غيرها بسكانها البالغين أربعين ألفاً(49)- أي أربعة أضعاف أية مدينة أخرى في ذلك الوقت، ولكنها أقل كثيراً في ثروتها وجمالها من باريس، أو بروج، أو البندقية، أو ميلان، دع عنك القسطنطينية أو بالرم، أو روما. وكانت بيوتها من الخشب، تعلو طبقتين أو ثلاث طبقات، ذات سقف هرمية، وكثيراً ما كانت الطبقات العليا تبرز عن الطبقات التي تحتها. وكانت قوانين المدن تحرم إلقاء فضلات المطابخ، أو حجر النوم، أو الحمامات من النوافذ، ولكن سكان الطبقات العليا كثيراً ما كانوا يلجئون إلى هذه الوسيلة الهينة للتخلص من فضلاتهم. وكانت مياه المنازل القذرة تتخذ طريقها إلى مياه المطر التي تجري عند حافة الإفريز، وكان إلقاء البراز في هذه المياه الجارية محرماً أما البول فكان إلقاؤه فيه مسموحاً به (50). وكانت المجالس البلدية تبذل جهدها لتحسين وسائل الصحة العامة- فكانت تأمر أهل المدن بتنظيف الشوارع أمام بيوتهم، وتفرض الغرامات على من يهملون منهم أمرها هذا، وتستأجر عمالاً يجمعون الفضلات والأقذار ويحملونها في عربات إلى قوارب الفضلات في نهر التاميز. وكان كثيرون من السكان يربون
قصة الحضارة ج15 ص208)
 
عاصمة فرنسا قذرة
في ظل المسيحيين وقادة الحروب الصليبية
:"وكانت باريس عاصمة الملك في عام 1180 مدينة ذات مبان من الخشب، وشوارع كثيرة الأوحال، وكان معنى لوتيتيا Lutetia اسمها الروماني "بلدة الوحل"، واشمأزت نفس فليب أغسطس من الروائح الكريهة المنبعثة من الشوارع المارة بجوار نهر السين، فأمر أن ترصف شوارع باريس كلها بالحجارة الصلدة(59).
وكان فليب أول ملوك ثلاثة رفعوا فرنسا في ذلك الوقت إلى مكان الزعامة الذهنية، والأدبية، والسياسية في أوربا، ولكن ملوكاً أقوياء قد سبقوه في فرنسا، منهم فليب الأول (1060-1108) الذي خلد اسمه في التاريخ بأنه طلق امرأته وهو في سن الأربعين وأرغم فولك Fulk كونت أنجو بأن يسلم له الكونتة برتراد Bertrade. ووجد القس الذي يبارك هذا الزنى ويعده زواجاً، ولكن إربان الثاني حين جاء إلى فرنسا داعياً إلى الحرب الصليبية الأولى حرم الملك. وأصر فليب على إثمه اثنتي عشرة سنة، ثم طرد بعدها برتراد ورفع عنه الحرمان، ولكنه لم يلبث أن تاب من توبته، واسترد ملكته، وسافرت معه إلى أنجو، وعلمت زوجيها أن يتصافيا، ويخيل إلينا أنها متعت كل منهما بكل ما فيها من مفاتن
قصة الحضارة ج15 ص224)
 
هولندا كيف كانت ارض أهلها أرقاء في ظل المسيحية القديمة
"وظلت البلاد المعروفة لنا الآن باسم هولندة جزءاً من مملكة الفرنجة من القرن الثالث حتى التاسع؛ ثم أصبحت في عام 843 هي الطرف الشمالي لدولة لورين الحاجزة التي أنشأتها معاهدة فردون Verdun. وقسمت تلك البلاد في القرنين التاسع والعاشر إقطاعيات كي تستطيع صد غارات الشماليين. وقطع الألمان الأشجار من الإقليم الكثيف الغابات الواقع في شمال نهر الرين، واستقروا فيه، وأطلقوا عليه اسم هولندة، أي أرض الغابات. وكان معظم أهله أرقاء أرض، منهمكين في كدحهم لانتزاع القوت من أرضين لابد لهم أن يقيموا الحواجز حولها لوقايتها من ماء البحر أو لتجفيفها بعد أن تطغى المياه عليها. غير أنها كانت تضم أيضاً مدناً ليست كالمدن الفلمنكية ثروة أو اضطراباً، بل تعتمد اعتماداً سليماً على الصناعة المستقرة والتجارة المنتظمة. وكانت دوردرخت Dordrecht أكثر هذه المدن رخاء؛ كما كانت أوترخت Utrecht مركزاً للعلوم، وهارلم مقر كونت هولندة؛ وأضحت دلفت Delft عاصمة البلاد إلى حين، ثم انتقلت العاصمة حوالي عام 1250 إلى لاهاي The Hague . وكان أول ظهور أمستردام في عام 1204 حين شاد أحد الأعيان الإقطاعيين قصراً حصيناً عند مصب نهر أمستل Amstel؛ واجتذب هذا الموقع الأمين على الزيدرزي Zuider Zee والقنوات الكثيرة التي تخترقه في كل مكان- اجتذب هذا الموقع التجارة، ثم جعلت المدينة في عام 1297 ثغراً حراً تفرغ فيه المتاجر ويعاد شحنها دون أن تؤدي ضرائب جمركية؛ وأضحى لهولندة الصغيرة من ذلك الحين شأن عظيم في شئون العالم الاقتصادية، وفيها غذت التجارة الثقافة كما يحدث في غيرها من البلدان، فنحن نسمع في القرن الثالث عشر عن شاعر هولندي مارلانت Maerlant، يهجو حياة رجال الدين المترفين هجاء لاذعاً. وبدأ الفن الهولندي حياته الفذة العجيبة في الأديرة، وكان يشمل النحت، وصناعة الخزف، والتصوير، وتزيين الكتب.
وكانت دوقية برابانت تقوم إلى جنوب هولندة، وكانت تشمل وقتئذ مدائن أنفرس Antwerp، وبركسل ولوفن Louvain. أما لييج فكان يحكمها أساقفتها حكماً مستقلاً، وكانوا يتركون لها قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي...
قصة الحضارة ج15 ص218-220)
 
الملك الفرنسي الذي تم أسره في المنصورة في الحرب الصليبية
"ولما أن قبل آسروه المسلمون خطأ منهم عشرة آلاف جنيه فرنسي (أي نحو 2.800.000 ريال أمريكي) أقل من الفدية المتفق عليها، أرسل لويس بعد أن أطلق سراحه جميع القدر الناقص من مال الفداء، وأغضب بذلك مستشاريه...وكان شديد التحمس لخرافات أهل زمانه ويشاركهم فيها. من ذلك أن دير القديس دنيس كان يدعي أن لديه مسماراً من الصليب الحق، وحدث أن وضع المسمار في غير موضعه بعد احتفال عرض فيه على الشعب؛ فثارت لهذا الحادث ضجة كبيرة، ثم وجد المسمار وارتاح الملك كثيراً لوجوده، حتى قال: "لقد كان خيراً لي من هذا أن تبتلع الأرض أحسن مدينة في ملكي"(78). وفي عام 1236 احتاج بولدون الثاني إمبراطور القسطنطينية إلى المال لينقذ دولته المتداعية، فباع للويس تاج الأشواك الذي لبسه المسيح في آلامه بأحد عشر ألف جنيه فرنسي (2.200.000 ريال أمريكي). واشترى لويس من الدلال نفسه بعد خمس سنين من ذلك الوقت قطعة من الصليب الحقيقي، ولربما كان المقصود بهذا الشراء وذاك أن يكون المال هبة من لويس لدولة مسيحية تفرج به أزمتها... ولقد حافظ على جلال الملك حتى ساعة أن ظهر واقفاً على قدميه، ومرتدياً ثياب الحاج، وبيده عصا الحاج ليبدأ حربه الصليبية الأولى (1248). ...وأسر لويس في مصر، وظل في الأسر حتى افتدي بمبلغ من المال جمعته بلانش بعد عناء كبير، ولكنه لما عاد إلى فرنسا مهزوماً ذليلاً وجد أن أمه قد توفيت. ثم أقدم في عام 1270 رغم ضعفه ومرضه على حرب صليبية أخرى ونزل هذه المرة في تونس. ولم تكن هذه مغامرة جنونية سخيفة كما بدت للناس بسبب خيبتها. ذلك أن لويس قد سمح لأخيه شارل دوق أنجو أن يقود جيشاً فرنسياً إلى إيطاليا، وكان يبغي من وراء هذا أن يضعف سيطرة الألمان عليها، ويرجو أن يتخذ صقلية قاعدة تغزو بها فرنسا بلاد تونس، وبعد أن وصل المحارب العظيم المحطم الجسم الصغير السن إلى أرض تونس، مات بزحار البطن. ...
وسلكته الكنيسة بعد سبع وعشرين سنة من موته في عداد القديسين. وظل الناس بعد وفاته أجيالاً وقروناً يرون أن حكمه هو العصر الذهبي في تاريخ فرنسا
قصة الحضارة ج15 ص228-236)
 
العلم الاسلامي بعد هزيمة المسلمين في حرب صليبية
بعد هزيمة المسلمين في الاندلس ومجئ حكم فرنندو الثالث Fernando III (1217-1252) يقول ديورانت عنه وعن ابنه
:"وكان ابنه ألفنسو (الأذفنش) العاشر (1252-1284) عالماً ممتازاً، ضعيف العزيمة؛ وأعجب الأذفنش الحكيم (el Sabio) بما وجده في إشبيلية من علوم المسلمين، فتحدى المتعصبين من أهل ملته باستخدام العلماء من العرب واليهود والمسيحيين على السواء لترجمة كتب المسلمين إلى اللغة اللاتينية كي تستطيع أوربا أن تفيد من هذه العلوم. وقد أنشأ هذا الملك مدرسة لعلم الهيئة هي صاحبة "الأزياج الأذفنشية" الخاصة بالأجرام السماوية وحركاتها التي أضحت المرجع الذي يعتمد عليه علماء الهيئة المسيحيون. ونظم هذا الملك هيئة من المؤرخين، وضعت كتاباً سمته باسمه جمعت فيه تاريخ أسبانيا، وتاريخاً عاماً واسعاً للعالم كله، ونظم نحو 450 قصيدة، بعضها بلغة قشتالة، وبعضها باللغة الجليقية- البرتغالية؛ ولُحن الكثير منها، ولا تزال هذه القصائد باقية حتى اليوم، أثراً خالداً لأغلبية العصور الوسطى. وفاضت حماسته الأدبية في عدة كتب ألفها هو أو أمر بتأليفها، في ألعاب الدراما، والشطرنج، والنرد، والموسيقى، والملاحة، والكيمياء، والفلسفة. ولعله أيضاً قد أمر بترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبرية إلى القشتالية مباشرة. وقد رفع اللغة القشتالية إلى المرتبة العليا التي أمكنتها من أن تسيطر من ذلك الوقت إلى يومنا هذا على الحياة الأدبية في أسبانيا؛ ولقد كان هو في واقع المر منشئ الأدب الأسباني والبرتغالي، وعلم التاريخ الأسباني، والمصطلحات العلمية الأسبانية. ولكنه لوث تاريخه الوضاء بما حاكه من الدسائس للاستيلاء على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأنفق في هذه المحاولة كثيراً من أموال أسبانيا، وعمل على ملء خزائنه بزيادة الضرائب وتخفيض قيمة النقد، ثم خلع ورفع ابنه إلى العرش، وعاش بعد سقوطه عامين، ثم مات محطماً كسير القلب
قصة الحضارة ج15 ص243-244)
 
وكان امتزاج الدم الأوربي بالدم الأفريقي والسامي، والثقافة الغربية بالثقافة الشرقية، والأساليب السورية والفارسية بأصول الفن القوطي، والخشونة الرومانية بالعواطف الشرقية؛ كان هذا الامتزاج هو الذي تولد منه الخلق الأسباني، والذي جعل الحضارة الأسبانية في القرن الثالث عشر عنصراً فذاً بارزاً في موكب الحياة الأوربية.
قصة الحضارة ج15 ص249
 
أسبانيا المسيحية
"وكانت كثرة الصناع إما من اليهود أو المسلمين المقيمين في أسبانيا المسيحية. فأما اليهود فقد أثروا في أرغونة، وقشتالة؛ وأسهموا بحظ موفور في حياة المملكتين العقلية؛ وكان عدد كبير منهم تجاراً أغنياء، ولكن قيوداً متزايدة في شدتها فرضت عليهم في نهاية هذه الفترة. وأما المسلمون المقيمون في أسبانيا المسيحية فقد ترك لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وقسط كبير من الاستقلال بحكم أنفسهم؛ وكان منهم أيضاً تجار أغنياء، ودخل عدد قليل منهم في بلاط الملوك، كما كان لأرباب الحرف منهم أثر قوي في العمارة الأسبانية، وأعمال التجارة الدقيقة، وأشغال المعادن، ونتج من أثرهم هذا طراز أسباني إسلامي أدى إلى استخدام الموضوعات والأشكال الإسلامية في الفن المسيحي. وقد سمي ألفنسو السادس نفسه في إحدى نشواته الدينية "إمبراطور العقيدتين Emperador de Ios Dos Cultos"(92). ولكن المسلمين في أسبانيا المسيحية كانوا يرغمون في العادة على لبس زي خاص، وعلى أن تكون منازلهم في كل مدينة في حي منعزل عن سائر أحيائها، وكانت تفرض عليهم ضريبة فادحة أكثر مما تفرض على غيرهم؛ وأخيراً أشعلت الثروة التي جمعوها بفضل مهارتهم في الأعمال الصناعية والتجارية نار الحسد في قلوب الأغلبية المسيحية؛ فأصدر جيمس الأول عام 1247 أمراً بطردهم من أرغونة، فغادرها أكثر من مائة ألف يحملون معهم حذقهم الفني، وتدهورت الصناعة في أرغونة من ذلك الحين.
قصة الحضارة ج15 ص248
 
اسبانيا متأثرة بجزء غير قليل من الثقافة الإسلامية،
"وبعث امتزاج الحضارة الأسبانية بجزء غير قليل من الثقافة الإسلامية، والقوة الناشئة من الانتصار على عدو قديم، وتقدم الصناعة وازدياد الثروة، وارتقاء العادات والأذواق، بعث هذا كله في الحياة العقلية بأسبانيا نشاطاً عظيماً
قصة الحضارة ج15 ص 248
 
ماهي الفروسية
"وجاء الفرسان الفرنسيون الذين أقبلوا على أسبانيا ليساعدوا أهلها في حروبهم مع المسلمين، جاءوا معهم في الوقت عينه بمبادئ الفروسية واحتفالاتها، فأصبح احترام النساء، أو احترام ملكية الرجل دون غيره لامرأة بعينها من مسائل الشرف لا تقل في هذا عن افتخار الرجل بشجاعته أو استقامته، وأضحت المبارزة للاحتفاظ بالشرف عاملاً أساسياً في الحياة الأسبانية
قصة الحضارة ج15 ص 249
تعليق
احتفظوا بمعنى الفروسية في هذا النص لانه نافع في تأثير الفروسية الإسلامية على الغرب كله من هذه الجهة اي جهة وصفها.
مبادئ الفروسية
فأصبح احترام النساء، أو احترام ملكية الرجل دون غيره لامرأة بعينها من مسائل الشرف لا تقل في هذا عن افتخار الرجل بشجاعته أو استقامته
 
صقلية متأثرة
صقلية في عهد النورمان 1057- 1308
"وصقلية التي ورثوها عن المسلمين"(قصة الحضارة ص15 ص253)
لاشك أن تأثير العلاقات التجارية جلب الثقافة لإيطاليا ومن إيطاليا إلى أوروبا كما من أسبانياإلى أوروبا
التأثير من كل جهة
الإسلام يغزو العقل الغربي ويغيره حتى في العقيدة فيعدل النصارى من عاداتهم وعقائدهم ومواقفهم من الكنيسة بل سيخوضون حروبا داخلية لقرون من اجل انتصار عقيدة معدلة على عقيدة تعدلت فيما مضى وهكذا دواليك
:"(1011) كانت "الصقليتان"- الجزيرة وجنوبي إيطاليا- قد أصبحتا ذواتي شأن في السياسة الأوربية. وكانت سيطرة مضيق مسينا والخمسين ميلاً الفاصلة وأفريقية، قد أكسبت النورمان ميزات تجارية وحربية عظيمة، وأضحت مدائن أملفي، وسلرنو، وبالرم مراكز للتجارة الناشطة مع ثغور البحر المتوسط بما فيها مراكز التجارة الإسلامية في بلاد تونس وأسبانيا. وأضحت صقلية وقتئذ إقطاعية بابوية فحولت المساجد الإسلامية كنائس فخمة زاهية
قصة الحضارة ص15 ص253-254)
 
تأثير الإسلام على بعض الحكام في اوروبا من نواح اخلاقية وعلمية
:"روجر الثاني (1101-1154)لبس الثياب الإسلامية التي يلبسها رجال الدين
واتخذ روجر الثاني (1101-1154) مدينة بالرم عاصمة لملكه ووسع أملاكه في إيطاليا حتى ضمت نابلي وكبوا، ورفع لقبه في عام 1130 من كونت إلى ملك. وكان له من الطموح والشجاعة، والدهاء وسعة الحيلة ما لعمه روبرت جسكارد؛ فقد كان نابها يقظاً في تفكيره، نشيطاً في عمله إلى حد جعل الإدريسي المسلم كاتب سيرته يقول عنه إنه قد أنجز وهو نائم ما لم ينجزه غيره من الرجالوهم أيقاظ. وكان يقاومه البابوات لأنهم يخشون اعتداءه على الولايات البابوية، ويقاومه الأباطرة الألمان الذين ساءهم استيلاءه على أبرزي Abruzzi، والبيزنطيون الذين كانوا يحملون باسترجاع إيطاليا الجنوبية، ومسلمو أفريقيا الذين كانوا يتوقون إلى استرجاع صقلية. وقد حارب هؤلاء جميعاً، وكان في بعض الأحيان يحارب عدة طوائف منهم في وقت واحد، وخرج من حربهم ومملكته أعظم مما كانت حين جلس على عرشها، وقد ضم إليها أملاكاً جديدة هي مدائن تونس، وصفاقس، ووهران، وطرابلس. واستعان بمن في صقلية من النابهين المسلمين، واليونان، واليهود، لتنظيم أداة حكومية مدنية وبيروقراطية إدارية أفضل مما كان لأية أمة أخرى في أوربا وقتئذ. وأبقي على نظام الزراعة الإقطاعي في صقلية، ولكنه كبح جماح البارونات بفضل المحكمة الملكية التي كانت قوانينها تفرض على جميع الطبقات. وقد أصلح نظام صقلية الاقتصادي بأن جاء إليها بناسجي الحرير من بلاد اليونان، ووسع نطاق التجارة بتأمين الناس على حياتهم في حلهم وترحالهم وعلى أملاكهم. ومنح المسلمين واليهود، واليونان، والكاثوليك حريتهم الدينية واستقلالهم الثقافي، وفتح أبواب المناصب العليا لذوي المواهب على اختلاف أديانهم وطبقاتهم، ولبس هو الثياب الإسلامية التي يلبسها رجال الدين المسلمون، وعاش معيشة ملك لاتيني في بلاط شرقي. وظلت مملكته جيلاً من الزمان "أغنى دول أوربا وأعظمها حضارة"(2)، وكان هو أكثر ملوك زمانه استنارة(3)، ولولاه لما وجد فردريك الثاني، وهو ملك أعظم منه"
قصة الحضارة ج15 ص 254)
ومات رجار (روجر) في عام 1154 وهو في التاسعة والثلاثين من عمره(ص258)
هذه الجملة الأخيرة من كلام ديورانت(ولولاه لما وجد فردريك الثاني، وهو ملك أعظم منه) هي بمثابة المفتاح للغز التأثير الثقافي والعلمي العميق على الغرب حتى على ملوكه وحكامه حتى إنك لتجد العالم الغربي أو الحاكم الغربي وهو في حكمه وبلده يلبس ملابس المسلمين اما تلبسه بعلومهم فهو الأمر الأعمق والأخطر في التاريخ
أما تأثير الإسلام على فردريك الثاني والثالث والرابع فتأثير أفزع البابوات لكن من ناحية أدخل العلم الإسلامي للغرب فكلمة ديورانت هنا لها دلالة مهمة عن هذه المؤثرات كما سيأتي من كلامه بالتفصيل. .
 
يتبع النص الفائت(ص256-257)
:"وخيل إلى الإدريسي أن بالرم "هي المدينة السنية العظمى والمحلة البهية الكبرى، والمنبر الأعلى في بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهائية القصوى ذات المحاسن الشرائف ودار الملك في الزمان المؤتنف والسالف" وقال عنها "ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسن في بناءاتها، ودقائق صناعاتها، وبدائع مخترعاتها" وقال عن شارعها الأوسط: "فالسماط الأوسط يشتمل على قصور منفية، ومنازل شامخة شريفة، (وكثير من المساجد) والفنادق، والحمامات، وحوانيت التجار الكبار... وشيدت بنيانها ونمقت بأعجب المغتربات، وأودعت بدائع الصفات، فشهد لها بالفضل المسافرون، وعلى في وصفها المتجولون، وقطعوا قطعاً ألا مباني أشرف من مغانيها، وأن قصورها مشارف القصور، وأن دورها مفازة الدور". "ومبانيها ومتنزهاتها حسنة تعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين" .
ولما شاهد ابن جبير الرحالة المسلم مدينة بالرمة في عام 1184 صاح قائلاً: إنها أم الحضارة والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة... تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشأن... قد زخرفت فيها لملكها دنياه. تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب" .
وكان من يزورون بالرم يدهشون من كثرة اللغات المختلفة التي يتكلمها أهلها، ومن اختلاط الأجناس والأديان اختلاطاً لا يعكر صفوه ما بينهم من اختلاف، ومن تجاور الكنائس المسيحية، والمعابد الإسرائيلية، والمساجد الإسلامية واختلاطها بعضها ببعض، من ثياب أهلها الرشيقة، وشوارعها الكثيرة النشاط والحركة، وحدائقها الهادئة، وبيوتها المريحة.
 
فردريك الاول(احتفظ بالتعريف به)
"وكان هنري السادس إمبراطور ألمانيا قد تزوج في هذه الأثناء من كنستانس Constance ابنة عمه وليم الثاني. وكان يتوق إلى توحيد إيطاليا كلها تحت تاج الإمبراطور، فطالب بعرش الصقليتين؛ وعقد حلفاً مع بيزا وجنوى اللتين كانت تجارتهما ترزح تحت سيطرة النورمان على وسط البحر المتوسط؛ وفي عام 1194 وقف أمام بالرم بقوة عظيمة لا تقهر، وأقنع أهلها بأن يفتحوا له أبوابها، وتوج فيها ملكاً على صقلية. ولما مات (1197) ترك عروشه لابنه فردريك البالغ من العمر ثلاث سنين، والذي صار فيما بعد أقوى الملوك المستبدين وأعظمهم استنارة في القرن الثالث عشر الغني بملوكه الأقوياء.
قصة الحضارة ج15 ص259)
 
مدينة البندقية 1096- 1311 في ايطاليا
والتجارة مع الاسكندرية والعرب والصلات المختلفة (وفي هذا العصر بالذات عظمت قوة البندقية) كما يقول ديورانت ولاشك انه عن طريقها ايضا انتقلت الكتب والمخطوطات الإسلامية
"وكانت سفائن جمالية المنظر عالية الجؤجؤ، منقوشة الأشرعة، في بعضها مائة وثمانون مجذافاً تربط البندقية بالقسطنطينية، وصور، والإسكندرية، ولشبونة، ولندن، وعشرات من المدن الأخرى بسلسلة ذهبية من المرافئ والمتاجر...ولم تكن ثروة شمالي أوربا تضارع غناء هذه المدينة التي يرتبط كل شيء فيها بعجلة التجارة والمال، والتي كانت السفينة الواحدة من سفنها التي ترسل إلى الإسكندرية تعود منها بربح يعادل ألفاً في المائة من المال المستثمر في بضائعها- إذا لم تلاق عدواً، أو قرصاناً، أو عاصفة مدمرة(11). وقصارى القول أن البندقية كانت أغنى المدن الأوربية في العصور الوسطى، ولعلها لم يكن يضارعها في ثرائها إلا المدائن الصينية التي وصفها ماركو بولو ابن البندقية وصفاً لا نستطيع تصديقه.
إلا أن العقيدة تضمحل كلما زادت الثرة. ولقد كان البنادقة يكثرون من استخدام الدين في الحكم، ويواسون من لا أصوات لهم في إدارة الشؤون العامة بالمواكب ويمنونهم بجنة النعيم؛ غير أن الطبقات الحاكمة قلما كانت تسمح للمسيحية أو للحرمان من حظيرة الكنيسة بأن يعترض سبيل الحرب أو الأعمال المالية، فقد كان شعارها "نحن بنادقة، ونحن بعد ذلك مسيحيون Siamo Veneziani poi Cristiani"(12)، وتطبيقاً لهذا الشعار لم يكن لرجال الدين نصيب ما في الحكم(13)، وكان التجار البنادقة يبيعون السلاح والرقيق، ويمدون المسلمين الذين يقاتلون المسيحيين بالمعلومات الحربية(14). وكان شيء من التسامح يصحب هذا الحرص على الكسب المتميز بسعة الأفق؛ فقد كان في وسع المسلمين أن يأتوا إلى البندقية وهم آمنون، وكان اليهود- وخاصة في الجيودكا Giudecca جزيرة أسبنالنجا Spinalunga يقيمون شعائر دينهم في معابدهم وهم آمنون. وقد ندد دانتي بـ"فجور البنادقة الطليق"...ولم يكن البنادقة يميلون في هذا الوقت إلى الثقافة. نعم إنهم كانت لهم مكتبة عامة طيبة...وكانت المدارس كثيرة عندهم في القرن الثالث عشر، ولدينا ما يدل على أنهم كانوا يعطون الطلاب الفقراء منحاً تمكنهم من مواصلة الدرس، ولكننا نعرف أنه كان لديهم في القرن الرابع عشر قضاة لا يعرفون القراءة...وليس من حقنا أن نصور البندقية في ذلك العصر بتلك الصورة الجميلة التي وجدها عليها فاجنر Wagner أو نتشه في القرن التاسع عشر. فقد كانت بيوتها مقامة من الخشب، وشوارعها من الأرض العادية؛ وإن كان طريق سان ماركو قد رصف بالآجر في عام 1172؛ وكان الحمام موجوداً في المدينة منذ عام 1256.
قصة الحضارة ج15 ص268-269)
"ثم انقلب مانيول Manuel إمبراطور الروم فجأة على البنادقة المقيمين في عاصمته، وألقي القبض على عدد كبير منهم، وأمر بان تصادر بضائعهم كلها (1171)، وكان أهل جنوى هم الذين حرضوه على هذا العمل غيرة منهم وحسداً. وأعلنت البندقية الحرب، وأخذ أهلها يعملون ليلاً ونهاراً لإنشاء أسطول، فلما كان عام 1171 قاد الدوج فيتالي الثاني Doge Vitale Michieli II عمارة بحرية مؤلفة من 130 سفينة لقتال جزيرة عوبية Euboea ليتخذوها قاعدة بحرية لأعماله المقبلة ضد المضيقين. ولكن جنوده أصيبوا وهم على سواحل عوبية بمرض يقال إن سببه تسميم اليونان موارد الماء في الجزيرة! وهلك منهم آلاف مؤلفة بلغ من كثرتها أن السفن لم تجد بعد ذلك من يحاربون على ظهرها. وقاد الدوج عمارته عائداً إلى البندقية، وفشا الطاعون فيها وأهلك عدداً كبيراً من أهلها؛ ولما أن اجتمعت الجمعية وجهت اللوم إلى الدوج على هذه الكوارث، وأصيب بطعنة قاتلة (1172)(7). ومن واجبنا ألا نغفل عن هذه الكوارث حين ندرس ما حدث في الحملة الصليبية الرابعة، والثورة الألجركية التي غيرت دستور البندقية.
قصة الحضارة ج15 ص265)
سبب الثورة الألجركية
"وخشي كبار التجار أن تنهار إمبراطوريتهم التجارية إذا دامت هذه الهزائم، فعقدوا النية على أن ينتزعوا من الجمعية العمومية حق انتخاب الدوج، وأن ينشئوا مجلساً من صفوة الأهلين يكون أقدر على بحث شؤون الدولة وتصريفها، وعلى الوقوف في وجه أهواء الشعب واستبداد الدوج، ثم أقنعوا أكابر قضاة الجمهورية الثلاثة بأن يعينوا لجنة تضع للبلاد دستوراً جديداً. وأوصت هذه اللجنة في تقريرها أن يختار كل حي من أحياء دولة المدينة الستة اثنين من كبار الأهلين يختار كل منهم أربعين من خيرة الرجال، وأن يتألف من الأربعمائة والثمانين عضواً الذين يختارون على هذا النحو مجلس أعظم Maggior Conscglio يكون هو الهيئة التشريعية العامة للأمة ثم يختار المجلس الأعظم ستين عضواً من أعضائه يكونون مجلس الشيوخ الذي يشرف على الشؤون التجارية والمالية والعلاقات الخارجية. وكان من هذه التوصيات ألا تجتمع الأرنجو Arrengo أي الجمعية الشعبية إلا للتصديق على اقتراحات الحرب والسلم أو رفضها، وأن يختار رجل من كل حي من الأحياء الستة يتألف منهم جميعاً مجلس خاص يحكم الدولة إذا ما أصبح عرش الدوج شاغراً، وكان لابد من أن يقر هذا المجلس كل عمل حكومي يقوم به الدوج لكي يصبح هذا العمل مشروعاً. واختار أول مجلس أعظم انتخب بالطريقة السالفة الذكر أربعة وثلاثين من أعضائه، اختاروا من بينهم أحد عشر عضواً، عقدوا اجتماعاً علنياً في كنيسة سان ماركو اختاروا فيه الدوج (1173). ورفع الشعب عقيرته باحتجاج لحرمانه من حق اختيار رئيس الدولة، ولكن الدوج الجديد وجه الاضطراب وجهة أخرى بأن نثر النقود على الجموع المحتشدة(8)، ولما اختار المجلس
الأعظم أنريكو دنوولو Enrico Dandolo دوجاً في عام 1192 طلب إليه أن يقسم في
يمين تتويجه أن يطيع جميع قوانين الدولة، وبهذا أضحت ألجركية التجارة صاحبة
السلطة العليا في البلادوأثبت دندولو، وكان وقت اختياره في الرابعة والثمانين من
عمره، أنه من أقدر الزعماء في تاريخ البندقية؛ فقد استطاعت البندقية في أيامه،
وبفضل سياسته المكيفلية، وبسالته الشخصية، أن تثأر لنفسها من الكارثة التي
حلت بها عام 1171، فتستولي على القسطنطينية وتنهبها في عام 1204، وبهذا
أصبحت البندقية القوة المسيطرة على الجزء الشرقي من البحر المتوسط، والبحر
الأسود؛ وانتقلت الزعامة التجارية في أوربا من بيزنطية إلى إيطاليا. وساعد أهل جنوى
في عام 1261 اليونان على استعادة القسطنطينية، وكوفئوا على عملهم هذا بأن
منحوا فيها ميزات تجارية؛ ولكن أسطول البندقية هزم أسطول جنوى بالقرب من
صقلية بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت، وأرغم إمبراطور الروم على أن يرد إلى البندقية
مركزها الممتاز في عاصمة ملكه.
وتوجت الألجركية الظافرة هذه الانتصارات الخارجية بضربة دستورية جديدة. فقد عرض
الدوج بيترو جرادنجو Pietro Gradenigo في عام 1297 على المجلس الأعظم اقتراحاً، حمله على الموافقة عليه، يقضي بألا يختار لعضوية هذا المجلس إلا من كان من أعضائه منذ عام 1293 أو كان من أبنائهم الذكور(9). وكان من أثر "إغلاق المجلس" في وجه المواطنين أن حرمت الكثرة الغالبة من الشعب من الوظائف العامة، وأن وجدت طبقة مغلقة لا يستطيع الانتماء إليها إلا أبناء أعضائها. وأنشئ "كتاب ذهبي" Libro d'oro لتسجيل عقود الزواج والوفيات بين أفراد هذه الطبقة
الأرستقراطية ليضمن به نقاءها واحتكارها للسلطان، وبهذا جعلت الألجركية التجارية نفسها ألجركية المولد. ولما أن دبر الشعب ثورة على هذا الدستور الجديد، سمح لزعمائه بأن يدخلوا قاعة المجلس ثم شنقوا من فورهم...
ص266-268)
"وفي العمل على استقرار القانون وبسط سلطانه، تفضل غيرها من المجتمعات الإيطالية في العصور الوسطى. وسبقت القوانين التي سنتها البندقية لتنظيم أعمال الأطباء والصيادلة أمثالها في فلورنس بنصف قرن من الزمان؛ وحرمت القوانين في عام 1301 قيام الصناعات المضرة بالصحة بين المساكن، وأخرجت من البندقية جميع الصناعات التي تنفث الدخان المؤذي في الهواء. وكانت قوانين الملاحة شديدة مفصلة، كما كانت جميع الواردات والصادرات خاضعة لرقابة الدولة وسيطرتها، وكانت التقارير الدبلوماسية تعني بأحوال التجارة أكثر من عنايتها بالشؤون السياسية، وأصبحت الإحصاءات الاقتصادية للمرة الأولى جزءاً من الحكم في هذه المدينة"
 
فرسان المعبد في الحروب الداخلية-مسيحية-مسيحية
:"ولما علم أهل لوكا وفلورنس الأخبار بالكارثة التي حلت ببيزا وفلورنس ظنوا أنهم قد لاحت لهم أحسن فرصة لإرسال حملة لقتال تلك المدينة البائسة، ولكن البابا الرابع أمرهم أن يكفوا عن القتال، واندفع أهل جنوى في هذه الأثناء نحو الشرق وتضاربت مصالحهم مع مصالح البنادقة، فنشأت بينهم أشد الأحقاد، وتنازع أهل المدينتين في عام 1255 على امتلاك عكا، وانحاز فرسان المستشفى في المعركة إلى جانب أهل جنوى، كما انضم فرسان المعبد إلى البنادقة؛ وسقط في هذه المعركة وحدها عشرون ألف رجل(23)، وكانت سبباً في تحطم وحدة
المسيحيين في بلاد الشام ولعلها هي التي قررت إخفاق الحروب الصليبية. وظل النزاع قائماً بين جنوى والبندقية حتى عام 1379، حين منيت جنوى بهزيمة ساحقة لا تقل في ذلك عما لحق ببيزا على يديها قبل ذلك بمائة عام.
قصة الحضارة ج15 ص275)
تدمير المدن من المسيحيين للمسيحيين كان امرا سهلا
:"وظل النزاع قائماً بين جنوى والبندقية حتى عام 1379، حين منيت جنوى بهزيمة ساحقة لا تقل في ذلك عما لحق ببيزا على يديها قبل ذلك بمائة عام.
وكانت ميلان أغنى مدائن لمباردية وأقواها؛ وكانت من قبل إحدى العواصم الرومانية، ولهذا كانت تفخر بقدم عهدها وتقاليدها. ذلك أن قناصل جمهوريتها قد تحدوا الأباطرة، وأساقفتها تحدوا البابوات، وآوى أهلُها الملحدين الذين تحدوا المسيحية نفسها أو اشتركوا معهم في إلحادهم. وكان فيها في القرن الثالث عشر مائة ألف من الأهلين، وثلاثة عشر ألف بيت وألف حانة(24). وكانت هي مولعة بالحرية حريصة عليها، فلم تتخل عنها راضية إلى غيرها، وكان جنودها يطوفون بالطرق ليرغموا القوافل، أياً كانت وجهتها، على أن تعرج على ميلان أولاً. وقد دمرت كومو ولودي Lodi، وحاولت أن تخضع بيزا، وكرمونا، وبافيا، ولم تركن إلى السكون حتى سيطرت على جميع تجارة نهر البو(25). ووقف رجلان من أهل لودي أمام كنستانس عام 1154 وتوسلوا إلى فردريك بربروسه أن يحمي مدينتهم؛ وبعث الإمبراطور إلى ميلان يحذرها من مواصلة العدوان على لودي؛ فرفضت المدينة رسالته في سخرية ووطئتها بالأقدام. واغتنم فردريك هذه الفرصة ليحقق رغبته التي طالما تاقت نفسه إليها وهي تدمير ميلان (1162)، ولم تمض خمس سنين على هذا التدمير حتى أعاد الباقون من أهلها هم وأصدقاؤهم بناء المدينة، وابتهجت لمباردية جميعها ببعثها، ورأت فيه رمزاً لتصميم إيطاليا علة ألا يحكمها قط ملك ألماني. وخضع فردريك، ولكنه قبل أن يموت زوج ابنه هنري السادس من كنستانس ابنة روجر الثاني ملك صقلية؛ ووجدت العصبة اللمباردية في ابن هنري رجلاً أشد رهبة من فردريك.
ص276
 
المنشور التالي (ساكتبه بعد قليل)-وهو مهم -جعلني ابتسم مرات ومرات من دهاء فرديرك
تكلمنا عن ابيه من قبل اليس كذلك
قد تتفق معي او تختلف لكن غرضي من هذا المنشور هو عرض الواقع كما هو وليس الحكم عليه
واهم مايشد انتباهي من حياة فيردريك -ابن فيردريك!-هو تعلمه العربية والعلوم الاسلامية وادخال العلم الاسلامي الى المانيا وايطاليا وفي نفس الوقت فهو وابنه من بعده وابوه من قبله حاربوا الكنيسة والباباوية وحاربته حتى كأنك تتخيل فيردريك حاكما مسلما يحارب الكنيسة من داخل اوروبا-لاتقل لي الان والان على وجه الخصوص انه اشترك في الحروب الصليبية فهذا امر اخر وليس هو موضع حديثنا و وهو ليس غرضي من عرض مختصر لقصة الحضارة لديورانت
اما غرضي فهو اثبات آثار العلم الإسلامي المدني والطبيعي والفلكي والطبي والعقلي في العقل الغربي بل في تغيير وجهة اوروبا العقلية والعلمية بالكامل بحيث صارت بالعلم الاسلامي الذي كان يهاجر اليها ويتوطن-في مملكة فردريك على سبيل المثال- عن طرق مختلفة كالحروب الصليبية والتجارة والتأثير المباشر من اسبانيا وغير ذلك من الطرق المؤرخة او غير المؤرخة!، صارت بهذا العلم اكثر انسانية وولجت به عوالم المدنية والحضارة فتعلمت الطب والفلك والصيدلة وادخلت المختبرات والمخترعات والعلم التجريبية بعد ان كانت تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض
ان فريدريك هذا اثار بارتباطه بالعلم الاسلامي حنق الكنيسة والباباوية ولذلك اطلقوا عليه الاشاعات
لق كان رجلا ماكرا حاذقا عالما وضعه الاسلام في مواجهة جهل الباباوية وجعلته علوم المسلمين ينفر من جهل اوروبا حتى وهو يخوض معها-طوعا وكرها-الحروب ضد الملمين
لقد كتبت عنه زيغريد هونكه وعن ابيه وابنه كتابات مهمة فإن تيسر لنا الوقت فسنعرضه لانه مهم خصوصا وانها مؤرخة المانية وقد كتبت عنه في كتابيها شمس الله تشرق على الغرب وإل على بلاط قيصر وتقصد بالقيصر فريدريك لكن هل هو فرريدرك الثاني ام الثالث؟
اترك لكم البحث ههه
لكن النص التالي قد يدير رأسك من تناقضاته وليس هذا غرضنا وانما التقاط الخط العلمي منه ومصدره
ياسادة الاسلام كان يزحف بطرق شتى لطيفة ودقيقة ومن البر والبحر والسلم والحرب ومن خارج اوروبا وداخلها
 
خاطرة اخرى قبل ان اعرض نصوص ديورانت عن فرردريك وهي ان ماسيقوله ديورانت عن فيردريك رجل النهضة من تأثيره هو وجهة نظرة اوافق على بعضها ولا اوافق على بعضها الاخر فلاشك ان تأثير العلم الإسلامي على فيردريك كان هو الأقوى ومن ثم على النهضة الاوروبية والعلم السبب او الكوني في اوروبا فيما بعد
 
نفتح شهيتكم بالنص الاهم!
فردريك الثاني
1194 - 1250
"وكان فردريك كلما تقدمت به السن يوجه قسطاً متزايداً من اهتمامه إلى العلوم والفلسفة. وكان أكبر ما يبعث فيه هذه الرغبة العلمية هو التراث الذي خلفه المسلمون في صقلية. وقد قرأ بنفسه كثيراً من روائع الكتب العربية الخالدة، واستدعى إلى بلاطه كثيرين من العلماء والفلاسفة المسلمين واليهود، وأجاز العلماء على ترجمة المراجع الهامة اليونانية والإسلامية إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ولعه بالعلوم الرياضية أن أقنع سلطان مصر بأن يبعث له بأحد الرياضيين الذائعي الصيت، كما كان على صلة ودية وثيقة بليوناردو فيبوناتشي Leonards Fibonacci أعظم علماء الرياضة المسيحيين في أيامه. لكنه كان يشارك أهل زمانه في بعض خرافاتهم، وأشتغل بالتنجيم والكيمياء الكاذبة، وأغرى ميخائيل اسكت Michael Scot الذي كان واسع المعرفة في علوم مختلفة بأن يجيء إلى بلاطه، وأخذ يدرس معه بعض العلوم الخفية بالإضافة إلى الكيمياء، والتعدين، والفلسفة. وكان شغوفاً بالإطلاع في جميع العلوم، فكان يبعث بالأسئلة العلمية والفلسفية إلى العلماء المقيمين في بلاطه وإلى غيرهم في البلاد النائية كمصر، وبلاد العرب، والشام والعراق. وكانت لديه حديقة للحيوان يتخذها للدرس لا للهو، ونظم تجارب علمية في تربية الدجاج، والحمام، والخيل، والجمال، والكلاب، ووضع قوانين لتحريم الصيد في مواسم معينة قائمة على أساس سجلات دقيقة خاصة بمواسم الزواج والتوالد عند الحيوان حتى قيل إن حيوانات أبوليا كتبت إليه تشكره على حسن صنيعه. وقد تضمنت شرائعه تنظيماً مستنيراً لمهنة الطب، والجراحات الطبية وبيع العقار. ولم يكن يرى حرجاً في تشريح جثث الموتى، وكان الأطباء المسلمون يعجبون من سعة علمه بالتشريح. أما الفلسفة فحسبنا دليلاً على واسع علمه بها أنه طلب إلى بعض علماء المسلمين أن يفسروا ما بين آراء أرسطو والإسكندر الأفروديسي من تناقض في خلود العالم. ولقد حياه ميخائيل اسكت بقوله: "أيها العاهل المحظوظ، إني لقوي الاعتقاد بأنه لو كان في مقدور رجل ما أن يفر من الموت بعلمه لكنت أنت ذلك الرجل(38)".
وكان فردريك يخشى أن تضيع بحوث العلماء الذين جمعهم عنده بعد موتهم، فأنشأ في عام 1224 جامعة نابلي - وهي أنموذج نادر من جامعات العصور الوسطى، أقيمت من غير حاجة إلى موافقة السلطات الدينية على إنشائها. وقد استدعي إليها علماء متبحرين في جميع الفنون والعلوم، ومنحهم مرتبات عالية، ورتَّب إعانات مالية ليمكن النابهين من الطلاب الفقراء من الدرس. وحرَّم على شباب مملكته أن يخرجوا منها في طلب التعليم العالي؛ وكان يأمل أن تنافس نابلي بعد وقت قصير مدينة بولونيا فتصبح مدرسة كبرى للقانون وتدرّب الناس على أعمال الإدارة العامة.
قصة الحضارة ج15 ص278-288)
 
افتتح ديورانت الفصل عن فريدريك بعنوان
(الصليبي المحروم)
ويعني بكلمة محروم ان الكنيسة والباباوية -التي هيجت على الحرب على الاسلام واهله-حرمته من بركاتها بل وحاربته بالسلاح!
اما انه صليبي فمعلوم لانه اشترك في الحرب على ديار الاسلام
لكن الرجل كان على الرغم من ذلك متذبذب منبهر بالاسلام وعلومه وعلماءه
النص الفائت يغني عن كلامي!
 
المقطع-1- من قصة فريدريك الثاني
"وخضع فردريك، (يقصد ديورانت :الأول)ولكنه قبل أن يموت زوج ابنه هنري السادس من كنستانس ابنة روجر الثاني ملك صقلية؛ ووجدت العصبة اللمباردية في ابن هنري رجلاً أشد رهبة من فردريك"
:".الصليبي المحروم
كانت كنستانس في سن الثلاثين حين تزوجت هنري، وكانت في الثانية والأربعين حين ولدت ابنها الوحيد. وخشيت أن يرتاب الناس في حملها وفي شرعية طفلها فأمرت بأن تنصب خيمة في السوق العامة. أييزي Iesi (القريبة من أنكونا)؛ وفيها وعلى مرأى من الحاضرين جميعاً ولدت الغلام الذي أصبح فيما بعد أكثر الناس فتنة في القرن الأخير من العصور الوسطى. وكان يجري في عروق الوليد دم ملوك النورمان الإيطاليين ممتزجاً بدماء أباطرة هوهنستاوفن الألمان.
وكان في الرابعة من عمره حين توج في بالرم ملكاً على صقلية (1198) ؛ وذلك لأن والده مات قبل عام من ذلك الوقت ثم ماتت والدته بعد عام من تتويجه. وأوصت قبل موتها أن يكون البابا وصياً على ابنها ؛ وذلك لأن والده مات قبل عام من ذلك الوقت ثم ماتت والدته بعد عام من تتويجه. وأوصت قبل موتها أن يكون البابا وصياً على ابنها ، وأن يتولى تعليمه وحمايته السياسية ، وعرضت عليه في نظير ذلك راتباً مجزياً ، وأن ينوب عنه في الحكم، وأن تعاد له السيادة على صقلية. وقبل البابا هذا العرض مسروراً ، واستخدم مركزه في إنهاء ذلك الاتحاد بين صقلية وألمانيا الذي أقامه والد فردريك؛ ذلك أن البابوات كانوا يخشون بحق قيام دولة كبرى تحيط بولايات البابا من جميع الجهات ، وتكون فيالواقع سجناً للبابوية وصاحبة السلطان عليها. وأعد إنوسنت العدة لتعليم فردريك، ولكنه أيد أتو الرابع في أن يتولى عرش ألمانيا. وشب فردريك محوطاً بالإهمال وبالفقر في بعض الأحيان، حتى كان ذوو القلوب الرحيمة من أهل بالرم يأتون الطعام لهذا الغلام الملكي البائس(26). وكان يسمح له بأن يجري في شوارع العاصمة المتعددة الأجناس واللغات وفي أسواقها كما يشاء، وأن يختار أصدقاءه كما يشتهي. ولم يتلق الغلام تعليماً منتظماً، ولكن عقله المتعطش للمعرفة كان يتعلم من كل ما يرى ويسمع، حتى لقد دهش العالم فيما بعد من اتساع معلوماته ودقتها. فقد تعلم في تلك الأيام وبالطريقة السالفة الذكر اللغتين العربية واليونانية، وبعض معارف اليهود، وعرف في أيام شبابه خلقاً من شعوب مختلفة، ذوي ملابس، وعادات، وعقائد متباينة، ولم يتخل قط عن عادة التسامح التي ألفها في صغر سنه. وقرأ كثيراً من كتب التاريخ، وأصبح كاتباً بليغاً ومثاقفاً ماهراً، ومغرماً بالخيل والصيد. وكان قصير القامة، قوي البنية، "ذا وجه جميل جذاب"(27)، وشعر ملو أحمر طويل، نشيطاً، فخوراً، سريع البت في الأمور. ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، فصل الرجل الذي انتدبه البابا لينوب عنه في الوصاية عليه وتولى زمام الأمور بنفسه. وبلغ الحلم في الرابعة عشرة وتزوج في الخامسة عشرة من كنستانس الأرغونية Constance of Aragon، وشرع يعمل ليسترد عرش الإمبراطورية.
وواتاه الحظ فنال بغيته، ولكن ذلك لم يكن من غير ثمن. وتفصيل ذلك أن أتو الرابع نقض العهد الذي قطعه على نفسه بأن يحترم سيادة البابا في الولايات البابوية، فحرمه البابا من الكنيسة، وأمر بارونات الإمبراطورية وأساقفتها أن يختاروا لعرشها فردريك الشاب الذي تحت وصايته "لأن له حكمة الشيوخ وإن كان لايزال في سن الشباب"(28). ولكن إنوسنت، وقد مال فجأة إلى فردريك، ولم يتحول عن غرضه الأول وهو حماية البابوية من كل عدوان عليها. ولهذا طلب إلى فردريك نظير تأييده إياه (1212) أن يتعهد له أن تظل صقلية إقطاعية للبابوات تؤدي لهم الجزية، وأن يحمي الولايات البابوية من كل عدوان؛ وأن تظل "الصقليتان"- وهما إيطاليا الجنوبية النورمانية والجزيرة- منفصلتين انفصالاً دائماً عن الإمبراطورية؛ وأن يقيم في ألمانيا بوصفه إمبراطوراً عليها، ويترك الصقليتين لابنه الطفل هنري ليكون ملكاً على صقلية، وأن ينوب عنه في حكمها نائب يعينه إنوسنت؛ وتعهد فردريك فضلاً عن هذا كله أن يحافظ على جميع حقوق رجال الدين وسلطانهم في دولته، وأن يعاقب المارقين، وأن يحمل الصليب ويخرج إلى الحرب الصليبية. ودخل فردريك ألمانيا بعد أن أمده البابا بالمال اللازم لرحلته ورحلة حاشيته. وكانت لاتزال تحت سلطان جيوش أتو. لكن هذه الجيوش منيت بالهزيمة في بوفين على يدي فيليب أغسطس؛ فانهارت مقاومة أتو، وتوج فردريك إمبراطوراً باحتفال فخم مهيب في آخن (1215). وفيها جدد الوعد الذي قطعه على نفسه من قبل بأن يشن حرباً صليبية. وتأثر كثير من الأمراء بحماسة النصر الذي ناله الشاب فأقسموا يميناً مثل يمينه. وخيل إلى ألمانيا حيناً من الدهر أنه داود ثان بعثه الله لينقذ أورشليم بلد داود من ورثة صلاح الدين. لكن الأمور لم تسر بالسرعة المطلوبة، فقد حشد هنري أخو أتو جيشاً ليخلع به فردريك، ووافق هونوريوس الثالث Honorius III البابا الجديد على أن يدافع الإمبراطور الشاب عن عرشه. وانتصر فردريك على هنري، ولكنه تورط وقتئذ في الشؤون السياسية للإمبراطورية، ويلوح أنه كان يحن إلى موطنه الأول في إيطاليا، فقد كان دم الجنوب وحرارة الجنوب ممتزجين بطبعه، وكانت ألمانيا تضايقه. وقد أعطى البارونات سلطات إقطاعية واسعة، ومنح عدداً من المدن عهوداً بالحكم الذاتي، وعهد بحكم ألمانيا إلى إنجلبرت كبير أساقفة كولوني، وهرمان السالزي Herman of Salza الرجل الحازم القدير كبير الفرسان التيوتون. وتمتعت ألمانيا بالسلم والرخاء في السنين الخمس والثلاثين التي تولى فيها العرش على الرغم من إهماله الظاهري لشؤونها. وبلغ من رضاء البارونات والأساقفة عن سيدهم الغائب أن توجوا مرضاه له ابنه هنري البالغ من العمر سبع سنين "ملكاً على الرومان" - أي وارثاً لعرش الإمبراطورية (1220). وعين فردريك نفسه في الوقت عينه نائباً في صقلية عن هنري الذي بقى وقتئذ في ألمانيا. وبدل هذا العمل خطط إنوسنت تبديلاً تاماً، ولكن إنوسنت كان قد فارق هذا العالم. وخضع هونوريوس للأمر الواقع، ولك يكتف بالخضوع له بل توج فردريك إمبراطوراً في روما، لأنه كان شديد الرغبة في أن يرحل فردريك من فوره لإنقاذ الصليبيين في مصر. لكن بارونات إيطاليا الجنوبية ومسلمي صقلية خرجوا عليه وقتئذ، وقال فردريك إنه لابد له أن يعيد النظام في مملكته الإيطالية قبل أن يخاطر بالغياب عنها زمناً طويلاً. يضاف إلى هذا أن زوجته ماتت في ذلك الوقت (1222). وأراد هونوريوس أن يغريه بأن يبرّ بقسمه فأقنعه بأن يتزوج إزابلا Isabella، وارثة عرش أورشليم الضائعة، ووافق فردريك على هذا الزواج وأضاف لقب "ملك أورشليم" إلى لقبيه الآخرين وهما ملك صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. ثم أخرت سفره مرة أخرى متاعب قامت في المدن اللمباردية. ومات هونوريوس في عام 1227 واعتلى عرش البابوية جريجوري التاسع الرجل الصارم القوي الشكيمة. وأخذ فردريك وقتئذ يعد العدة في جد، فأنشأ أسطولاً عظيماً، وحشد أربعين ألفاً من المحاربين الصليبيين في برنديزي، لكن وباء مروعاً فشا في جيشه، مات منه آلاف، وفرَّت منه آلاف أكثر منها. وأصيب بهذا الوباء الإمبراطور نفسه، وكبير قوَّاده لويس الثورنجيائي Louis of Thuringia. ومع هذا فقد أصدر فردريك أمره بالرحيل، ومات لويس، وساءت حال فردريك، وأشار عليه أطباؤه ومن كان معه من كبار رجال الدين بأن يعود إلى إيطاليا، فعمل بمشورتهم، وطلب العلاج من مرضه في بزيولي Pozzuoli. ونعد صبر البابا جريجوري؛ فلم يستمع إلى أقوال رسل فردريك وأعلن في العالم حرمان الإمبراطور.
قصة الحضارة ج15 ص277-280)
 
المقطع-2- من قصة فريدريك الثاني
:"وبعد سبعة اشهر من ذلك الوقت أبحر فردريك إلى فلسطين (1228) وهو لا يزال مطروداً من حظيرة الدين. فلما سمع جريجوري بوصوله بلاد الشام أحل رعايا فردريك وابنه هنري من يميني الولاء لهما، وأخذ يعمل لخلع الإمبراطور. وعد نائب فردريك في إيطاليا هذه الأعمال إعلاناً للحرب من جانب البابا، فهاجم الولايات البابوية. ورد جريجوري على هذا العمل بأن أرسل جيشاً لغزو صقلية، وأشاع الرهبان أن فردريك قد مات؛ وما لبث جزء كبير من صقلية وإيطاليا الجنوبية أن سقط في يدي البابا. ووصل مندوبان عن البابا من رهبان الفرنسسكان مدينة عكا بعد أن وصلها فردريك بزمن قليل، وحرما على كل رجل في صفوف المسيحيين أن يطيع أمر الرجل الطريد. ودهش الكامل قائد جيوش المسلمين إذ وجد حاكماً أوربياً يعرف اللغة العربية، ويقدر الآداب والعلوم والفلسفة العربية أعظم التقدير، فعقد صلحاً مواتياً مع فردريك، دخل على أثره الإمبراطور بيت المقدس فاتحاً دون أن يريق في هذا الفتح قطرة دماء. ولم يجد فردريك من رجال الدين من يرضى بتتويجه ملكاً على بيت المقدس فما كان منه إلا أن توج نفسه كنيسة الضريح المقدس. وأعلن أساقفة قيصرية أن وجود فردريك في الضريح والمدينة قد دنسهما، فحرما إقامة الخدمات الدينية في بيت المقدس وعكا. وترامى إلى بعض فرسان المعبد أن فردريك يعتزم زيارة المكان الذي يقال إن المسيح قد عمد فيه في نهر الأردن؛ فبعث برسالة سرية إلى الكامل يقول فيها إن الفرصة قد واتته لأسر فردريك. فما كان من القائد المسلم إلا أن بعث بالرسالة إلى فردريك. وأراد الإمبراطور أن ترفع اللعنة عن بيت المقدس فغادرها في اليوم الثالث بعد التتويج وسافر إلى عكا، وفيها أخذ عامة المسيحيين يلقون عليها الأقذار وهو خارج منها إلى سفينته(29).
ولما وصل فردريك برنديزي جيش فيها من فوره جيشاً جديداً. وزحف به ليسترد المدن التي استسلمت للبابا. وفر جيش البابا أمامه وفتحت له المدن أبوابها، ولم يقاوم منها إلا سورا Sora فضرب عليها الحصار حتى استولى عليها عنوة وأشعل فيها النار فدمرتها تدميراً. ووقف فردريك عند حدود الولايات البابوية، وأرسل إلى البابا يدعوه إلى الصلح، فأجاب البابا دعوته ووقعا معاهدة سان جرمانو San Germano (1230)، وألغى قرار الحرمان ورفرف لواء السلم إلى حين.
قصة الحضارة ج15 ص281
 
المقطع-3- من قصة فريدريك الثاني بدئه ديورانت بعنوان غريب(- أعجوبة العالم )
"واستطاع أن يؤلف بين عواطف الصقليين المتعددة وينشئ منها صرحاً من النظام والرخاء يعيد إلى الأذهان مجدها في أيام روجر الثاني. فقد ألقى القبض على المسلمين الثائرين المعتصمين بالجبال، ونقلهم إلى إيطاليا، ودربهم ليجعل منهم جنوداً مرتزقة، فأصبحوا خير من يعتمد عليهم في جيش فردريك. وفي وسعنا أن نتصور غضب البابوات حين يرون الجنود المسلمين يقودهم الإمبراطور ويحارب بهم جنده. وظلت بالرم حتى ذلك الوقت عاصمة الصقليتين من الوجهة القانونية، ولكن فجيا كانت هي العاصمة الحقيقية. وكان فردريك يحب إيطاليا حباً لا يعادله حب معظم الإيطاليين، وكان يعجب كيف يقدر يهود فلسطين هذا التقدير العظيم وإيطاليا على ظهر الأرض؛ وكان يسمى إيطاليا الجنوبية "قرة عينه وملجأ وسط السيول، وجنة وسط برية من الأشواك"...وإذ كان فردريك قد نشأ في عصر الفوضى، وتشبع بالآراء الشرقية، فإنه لم يخطر بباله قط أن النظام المعروف باسم الدولة يستطاع المحافظة عليه بغير سلطان الملوك
قصة الحضارة ج15 ص282-283)
". ومن بين الأعمال التي تعلي من قدر فردريك أنه وضع نظاماً سليماً للنقد روعيت فيه واجبات الشرف والأمانة.
وكان فردريك وحده سيد هذه الدولة والمدير لجميع شؤونها، وأراد أن يجعلها ذات جلال وقداسة دون أن يعتمد على المسيحية التي كانت في العادة مغاضبة له، فبذل غاية في جهده في أن يخلع على نفسه كل ما كان يحيط بالإمبراطور الروماني من رهبة وجلال. فلم يطبع على نقوده الجميلة الشكل شعاراً أو لفظاً مسيحياً، بل طبع حول أحد وجهيها تلك الأقصوصة Aug Cesar Rom Imp (الإمبراطور الروماني قيصر أغسطس) وطبع على الوجه الآخر النسر الروماني يحيط به اسم Fredericus (فردريكوس). ولقن الناس أن الإمبراطور كان بمعنى ما ابن الله، وأن شرائعه هي العدالة الإلهية مقننة، وكانوا يشيرون إليه بلفظ Iustitia وهي كلمة تكاد تكون صيغة الغائب الثالوث جديد. وكان فردريك يحرص على أن يوضع إلى جانب أباطرة الرومان في التاريخ ومعارض الفن، فأمر المثالين بأن ينحتوا له تماثيل من الحجارة، وزينت رأس قنطرة في فلتورنو Volturno، وفتحة باب في كيوا، بنقوش من الطراز القديم تمثله هو وأعوانه؛ ولم يبق من هذا كله إلا رأس أنثى ذو جمال بارع(35). لكن هذه المحاولة التي بذلت قبل عصر النهضة لإحياء الفن القديم أخفقت لأن تيار الفن القوطي قد اكتسحها أمامه.
واستطاع فردريك، رغم اقترابه من الألوهية، وجده المتواصل في شؤون الملك أن يستمتع بالحياة بمختلف نواحيها في بلاط بفجيا. فقد كان لديه جيش من الأرقاء، كثرتهم من المسلمين، يقومون على خدمته، ويشرفون على دولاب حكومته وموظفيه. ولما توفيت زوجته الثانية تزوج بإزبلا الإنجليزية عام 1235؛ ولكن إزبلا الإنجليزية لم يكن في مقدورها أن تفهم عقليته أو أخلاقه، فآثرت الانزواء وتركت فردريك يستمتع بعشيقاته حتى ولد له ابن غير شرعي. وكان أعداؤه يتهمونه بأنه أنشأ لنفسه "حريماً"، كما اتهمه جريجوري التاسع باللواط(36)؛ ورد فردريك على ذلك بقوله إنه يحتفظ بجميع أولئك النساء البيض والسود، والغلمان لبراعتهم في الغناء، والرقص، والألعاب البهلوانية، أو غيرها من ضروب التسلية المعتادة في بلاط الملوك. وكان يحتفظ فضلاً عن هذا كله بحديقة للحيوان البري، وكان يسافر أحياناً وفي صحبته عدد من الفهود، والوشق، والآساد، والنمورة الرقطاء، والقردة، والدببة، مسلوكة في السلاسل يقودها عبيد من المسلمين. وكان فردريك مولعاً باقتناص الحيوان وصيد الحيوان بالصقورة، وجمع الطيور الغريبة، وقد كتب لابنه مانفرد Manfred رسالة علمية في الصيد بالبزاة جديرة بالإعجاب.
وكان أعظم ما يستمتع به بعد الصيد هو الحديث الظريف المهذب - delico parlare، فكان يفضل التقاء العقول الحصيفة على المبارزة بالسلاح، وكان هو نفسه أعظم المحدثين ثقافة في أيامه، وقد اشتهر بفكاهته وسرعة بديهيته، وكان هو فلتير نفسه(37).وكان يتحدث بتسع لغات ويكتب سبعاً منها، ويراسل الكامل باللغة العربية، ...وكان فردريك نفسه شاعراً، أثنى دانتي على شعره اللاتيني، وقد أدخل غزل بروفانس والشعراء المسلمين الغزلين في بلاطه، وتعلق به، وقلده النبلاء الشبان الذين كانوا في خدمة المليك. وكان الإمبراطور نفسه يحب أن يستريح من العناء بعد أن يقضي يوماً من تصريف شؤون الملك أو الصيد أو الحرب ومن حوله النساء الحسان والشعراء يتغنون بأمجاده ومفاتن نسائه، كما كان يفعل بعض الأمراء في بغداد.
وكان فردريك كلما تقدمت به السن يوجه قسطاً متزايداً من اهتمامه إلى العلوم والفلسفة. وكان أكبر ما يبعث فيه هذه الرغبة العلمية هو التراث الذي خلفه المسلمون في صقلية. وقد قرأ بنفسه كثيراً من روائع الكتب العربية الخالدة، واستدعى إلى بلاطه كثيرين من العلماء والفلاسفة المسلمين واليهود، وأجاز العلماء على ترجمة المراجع الهامة اليونانية والإسلامية إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ولعه بالعلوم الرياضية أن أقنع سلطان مصر بأن يبعث له بأحد الرياضيين الذائعي الصيت، كما كان على صلة ودية وثيقة بليوناردو فيبوناتشي Leonards Fibonacci أعظم علماء الرياضة المسيحيين في أيامه. لكنه كان يشارك أهل زمانه في بعض خرافاتهم، وأشتغل بالتنجيم والكيمياء الكاذبة، وأغرى ميخائيل اسكت Michael Scot الذي كان واسع المعرفة في علوم مختلفة بأن يجيء إلى بلاطه، وأخذ يدرس معه بعض العلوم الخفية بالإضافة إلى الكيمياء، والتعدين، والفلسفة. وكان شغوفاً بالإطلاع في جميع العلوم، فكان يبعث بالأسئلة العلمية والفلسفية إلى العلماء المقيمين في بلاطه وإلى غيرهم في البلاد النائية كمصر، وبلاد العرب، والشام والعراق. وكانت لديه حديقة للحيوان يتخذها للدرس لا للهو، ونظم تجارب علمية في تربية الدجاج، والحمام، والخيل، والجمال، والكلاب، ووضع قوانين لتحريم الصيد في مواسم معينة قائمة على أساس سجلات دقيقة خاصة بمواسم الزواج والتوالد عند الحيوان حتى قيل إن حيوانات أبوليا كتبت إليه تشكره على حسن صنيعه. وقد تضمنت شرائعه تنظيماً مستنيراً لمهنة الطب، والجراحات الطبية وبيع العقار. ولم يكن يرى حرجاً في تشريح جثث الموتى، وكان الأطباء المسلمون يعجبون من سعة علمه بالتشريح. أما الفلسفة فحسبنا دليلاً على واسع علمه بها أنه طلب إلى بعض علماء المسلمين أن يفسروا ما بين آراء أرسطو والإسكندر الأفروديسي من تناقض في خلود العالم. ولقد حياه ميخائيل اسكت بقوله: "أيها العاهل المحظوظ، إني لقوي الاعتقاد بأنه لو كان في مقدور رجل ما أن يفر من الموت بعلمه لكنت أنت ذلك الرجل(38)".
وكان فردريك يخشى أن تضيع بحوث العلماء الذين جمعهم عنده بعد موتهم، فأنشأ في عام 1224 جامعة نابلي - وهي أنموذج نادر من جامعات العصور الوسطى، أقيمت من غير حاجة إلى موافقة السلطات الدينية على إنشائها. وقد استدعي إليها علماء متبحرين في جميع الفنون والعلوم، ومنحهم مرتبات عالية، ورتَّب إعانات مالية ليمكن النابهين من الطلاب الفقراء من الدرس. وحرَّم على شباب مملكته أن يخرجوا منها في طلب التعليم العالي؛ وكان يأمل أن تنافس نابلي بعد وقت قصير مدينة بولونيا فتصبح مدرسة كبرى للقانون وتدرّب الناس على أعمال الإدارة العامة.
وبعد فهل كان فردريك ممن ينكرون وجود الله ؟ لقد كان في شبابه من الأتقياء الصالحين، ولعله ظل مستمسكاً بالعقائد الأساسية في الديانة المسيحية إلى أيام حربه الصليبية. ثم يبدو أن اتصاله الوثيق بزعماء المسلمين ومفكريهم قضي على عقيدته المسيحية. وقد افتتن بعلوم المسلمين ورآها أسمى قدراً من أفكار المسيحيين ومعارفهم أيامه. ومما يدل على ذلك أنه لما عقد مجمع الأمراء الألمان في فريولي Friuli، (1232) استقبل وفداً من المسلمين أحسن استقبال، ثم اشترك على مرأى من الأساقفة والأمراء مع هؤلاء المسلمين في وليمة أقيمت للاحتفال بأحد الأعياد الدينية الإسلامية(39). ويقول عنه ماثيوباريس Matthew Paris: "ويقول أعداء الإمبراطور إنه يوافق على شريعة محمد ويؤمن بها أكثر من إيمانه بشريعة المسيح عيسى ... وإن صداقته للمسلمين أقوى من صداقته للمسيحيين"(40). وشاعت عنه شائعة صدقها جريجوري التاسع تتهمه بأن قال إن "ثلاثة من المشعوذين ساقوا بدهائهم أهل زمانهم ليسودوا بهم العالم - موسى، وعيسى، ومحمداً !". ودوي هذا السباب والكفران في جميع أنحاء أوروبا، وأنكر فردريك التهمة، ولكنها ساعدت على نفور الرأي العام منه في آخر أزمات حياته. وما من شك في أنه كان حر الفكر إلى حد ما، فقد كانت لديه شكوكه في العقيدة القائلة بأن العالم خلق دفعة واحدة في زمن معين، وفي خلود الفرد، وفي ولادة العذراء، وفي أمثالها من العقائد الواردة في الدين المسيحي(42). وقال حين رفض مبدأ التحكيم الإلهي: "منذا الذي يصدق أن الحرارة الطبيعية الكامنة في الحديد المتوهج تبرد من غير سبب كاف، أو أن عنصر الماء يرفض قبول (غمر) المتهم لأنه ميت الضمير"(43). ولم ينشئ في حياته كلها إلا كنيسة واحدة.
وقد منح جميع أصحاب العقائد المختلفة في مملكته حرية العبادة ببعض القيود، فقد كان الروم الكائوليك، والمسلمون، واليهود يمارسون شعائر دينهم دون أن يصيبهم أذى، ولكنهم لم يكن في مقدورهم (إلا في حالة واحدة) أن يدرسوا في الجامعة، أو أن يرقوا إلى منصب رسمي في الدولة. وكان يحتم على جميع المسلمين والعبرانيين أن يرتدوا ثياباً تميزهم عن المسيحيين، وألزم المسلمين واليهود بأن يؤدوا نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية ضريبة الفرضة التي كان الحكام المسلمون يفرضونها على المسيحيين واليهود. وكانت شرائع فردريك تعاقب من يعتنق الدين اليهودي أو الإسلامي من المسيحيين أشد العقاب، غير أنه لما اتهم يهود فلدا Fulda في عام 1235 بأنهم يقتلون طفلاً مسيحياً ليستخدموا دمه في عيد فصحهم هب فردريك لإنقاذهم، وكذب القصة وقال إنها خرافة اخترعها غلاظ القلوب، وكان عنده في بلاطه عدد من العلماء اليهود وأشد ما يلاحظ من تناقض في حكم هذا الملك الذي يجري على سنن العقل هو اضطهاده الإلحاد والملحدين. ذلك أن فردريك لم يكن يسمح في بلاده بحرية التفكير أو القول لإنسان ما حتى أساتذة جامعته، بل اختص نفسه ورفاقه دون غيرهم بهذه الميزة، فقد كان كمعظم الحكام يرى أن الدين ضروري لا غنى عنه للنظام الاجتماعي، ولم يكن يقبل أن يقوض علماؤه دعائمه؛ يضاف إلى هذا أن القضاء على الإلحاد ييسر قيام السلام المتقطع مع البابوات؛ وجرياً على هذه السياسة أيد فردريك محكمة التفتيش كل التأييد على حين أن بعض الملوك في القرن الثالث عشر ترددوا في معاونتها، وبذلك اتفق البابوات هم وعدوهم الألد في هذه المسألة وحدها.
قصة الحضارة ج15 ص285-290)
 
المقطع-4- من قصة فريدريك الثاني
"النزاع بين الإمبراطورية والبابوية
وأخذت أهداف فردريك البعدية الواسعة المدى تزداد وضوحاً كلما تقادم حكمه في فوجيا: كان يبغي أن يبسط سلطانه على إيطاليا بأجمعها؛ وأن يوحد إيطاليا وألمانيا تحت سلطان الإمبراطورية الرومانية بعد أن يعيدها إلى الوجود، ولعله كان يبغي أيضاً أن يجعل روما كما كانت قبل عاصمة العالم الغربي السياسية والدينية معاً. ولما أن دعا الأعيان الإيطاليين والمدن الإيطالية إلى مجمع في كرمونا Cremona عام 1226 كشف عن أغراضه بأن أرسل الدعوة أيضاً إلى دوقية اسبليتو، وكانت وقتئذ ولاية بابوية، وبأن سير جنوده في أراضي البابوات. وأمر البابا أعيان اسبليتو ألا يحضروا الاجتماع. وارتابت مدن لمباردية في الدعوة فرأت فيها وسيلة يبغي بها فردريك أن يخضعها للإمبراطور خضوعاً حقيقياً لا خضوعاً اسمياً فحسب، فأبت أن ترسل مندوبين عنها إلى الاجتماع...وخرج هنري على أبيه فردريك في عام 1234، وتحالف مع العصبة اللمباردية، فركب فردريك من جنوبي إيطاليا إلى رمز Worms وليس معه جنود، بل كان معه بدلاً منهم مال كثير؛ وخمدت الفتنة حين ترامت إلى القائمين بها أخبار قدومه أو حين مست أيديهم ذهبه؛ وزج هنري في السجن، وظل يكتوي بناره سبع سنين؛ وبينما كان ينتقل إلى مكان آخر يحبس فيه، عدا بجواده فوق جرف عال وهوى إلى أسفله جثة هامدة. وواصل فردريك سيره إلى مينز، ورأس فيها مجمعاً، أقنع فيه كثيرين من النبلاء الحاضرين أن ينضموا إليه في حملة يعيد بها سلطة الإمبراطورية على لمباردية. واستطاع بفضل هذه المعونة أن يهزم جيش العصبة اللمباردية (1237)؛ واستسلمت له جميع مدنها ما عدا ميلان وبريشيا، وعرض جريجوري التاسع وساطته بين الطرفين، غير أنه لم يكن من المستطاع التوفيق بين آمال فردريك في الوحدة وحب الإيطاليين الحرية.
وقرر جريجوري في هذه الساعة الفاصلة أن ينضم إلى جانب العصبة، وأن يجعل مصير سلطة البابوات الزمنية موقوفة على نتيجة هذه الحرب، مع أنه كان وقتئذ رجلاً مريضاً في سن التسعين. ولم يكن جريجوري مولعاً بحب المدن اللمباردية، فقد كان مثل فردريك يرى أن حريتها هي الطريق المؤدي إلى النزاع والفوضى، ويعرف أنها تأوي الملحدين الذين يعارضون جهرة في ثروة الكنيسة وسلطته الزمنية. وفي هذا الوقت بالذات كان الملحدون من أهل ميلان المحاصرة يدنسون مذابح الكنائس ويقلبون الصلبان التي تحمل صورة المسيح(45). ولكن جريجوري كان يعتقد أنه إذا تغلب فردريك على هذه المدن، ابتلعت إيطاليا الموحدة الولايات البابوية، وتألفت منها كلها إمبراطورية موحدة يسيطر عليها عدو للمسيحية وللكنيسة. ولهذا أقنع جريجوري مدينتي البندقية وجنوى بالانضمام إليه هو والعصبة في حرب يشنها على فردريك؛ ثم اصدر منشوراً عاماً شديد اللهجة، اتهم فيه فردريك بالكفر، والتجديف، والاستبداد، وبالرغبة في القضاء على سلطة الكنيسة، ثم حرمه في عام 1239، وأمر كل مطران من مطارنة الروم الكاثوليك أن يعلن أنه خارج على القانون، وأعفي رعاياه من يمين الولاء التي اقسموها له. ورد فردريك على هذا برسالة دورية بعث بها إلى ملوك أوروبا ينفي فيها تهمة الكفر، ويتهم البابا بأنه يريد أن يخضع جميع الملوك لسلطان البابوية، وأخذ النزاع الأخير بين الإمبراطورية والبابوية يجري في مجراه.
وأظهر ملوك أوروبا عطفهم على فردريك، ولكنهم لم يهتموا بما طلبه إليهم من معونة. كذلك انحاز أعيان ألمانيا وإيطاليا إلى جانبه، لأنهم كانوا يرجون أن يعيدوا مدنهما إلى طاعتهم الإقطاعية؛ أما في المدن نفسها فقد انحازت الطبقتان الوسطى والدنيا بوجه عام إلى جانب البابا، وعادت إلى الوجود عبارتا ويبلنج وولف Waibling and Welf بعد أن تحولتا إلى لفظي جبلين وجلف Ghibelline and Gulf ليدل أول اللفظين على أنصار الإمبراطورية، والثاني على المؤيدين للبابوية. ولم تخل روما نفسها من هذا الانقسام، فقد كان فيها كثيرون من المؤيدين لفردريك؛ ولما أن اقترب من روما بجيش صغير أخذت المدن واحدة بعد واحدة تفتح له أبوابها لأنها رأت فيه قيصراً ثانياً. وتوقع فردريك أن يلقي القبض عليه، فاخترق العاصمة على رأس موكب حزين من رجال الدين. وتأثرت قلوب الرومان بشجاعة البابا الشيخ وضعفه، وعمد الكثيرون منهم إلى أسلحتهم للدفاع عنه. ولم يشأ فردريك أن يحسم الموقف في ذلك الوقت فمر بروما جون أن يعرج عليها وقضى الشتاء في فجيا.
وكان قبل ذلك قد أقنع الأمراء الألمان بأن يتوجوا ابنه كنراد ملك الرومان (1237)، ووضع زوج ابنته على رأس حكومة فيسنزا، وبدوا، وتريفيزو، كما وضع على رأس حكومة المدن الأخرى التي استسلمت له إنزيو أحب أبنائه إليه وهو "صورة منا في وجهه وقوامه"، فقد كان وسيماً، فخوراً، مرحاً، شجاعاً في الحرب، بارعاً في قول الشعر. واستولى الإمبراطور على رافنا وفائنزا في عام 1240، وخرب في عام 1241 بنفنتو مركز القوات البابوية. واعترض أسطوله قافلة بحرية من جنوى تنقل إلى روما طائفة من الكرادلة، والمطارنة، ورؤساء الأديرة، والقساوسة الفرنسيين والأسبان والإيطاليين، وحجزهم فردريك في إبوليا ليتخذهم رهائن يساوم بهم؛ وما لبث أن أطلق الفرنسيين منهم، ولكنه أطال احتجاز الباقين، ومات عدد منهم في السجن، فارتاعت أوروبا التي طالما رأت أن رجال الدين محصنون يجب ألا يعتدي عليهم، وكثر وقتئذ عدد الذين يعتقدون أن فردريك هو المسيح الدجال الذي تنبأ بظهوره يواقيم الفلوري Joochim of Flora الصوفي منذ بضع سنين. وعرض فردريك أن يطلق رجال الدين إذا رضي جريجوري أن يعقد معه الصلح ولكن البابا لم يتزحزح عن موقفه إلى يوم مماته (1241).
وكان إنوسنت الرابع أكثر مسالمة من سلفه، فقد وافق بتحريض القديس لويس على شروط الصلح (1244)، ولكن مدن لمبارديا امتنعت عن التصديق على الاتفاق، وذكرت إنوسنت بأن جريجوري قد تعهد بألا تعقد البابوية صلحاً منفرداً مع فردريك. وغادر إنوسنت روما سراً، وهرب إلى ليون Lyons، وواصل فردريك الحرب، وبدا أن ليس ثمة قوة تستطيع منعه من فتح الولايات البابوية وضمها إلى دولته وإقامة سلطانه في روما. ودعا إنوسنت رجال الدين إلى مجلس عقد في ليون، وكرر هذا المجلس حرمان الإمبراطور وخلعه لأنه رجل فاسد الأخلاق، عاق، وتابع عديم الولاء لسيده البابا الذي يقر بسيادته عليه (1245). واختار النبلاء الألمان، بتحريض البابا، هنري رابس Henry Rapse إمبراطوراً بدل فردريك، فلما مات نادوا بوليم الهولندي William of Holland
خلفاً له. وأصدر البابا قراراً بحرمان كل من يساعد فردريك، وحرمت الخدمات الدينية في كل الأقاليم الموالية له؛ وأعلنت عليه هو وإنزيو حرباً صليبية، ومنح الذين حملوا الصليب للقتال في فلسطين إذا اشتركوا في قتال الإمبراطور الكافر جميع المزايا التي تمنح الصليبيين.
وأطلق فردريك العنان لحقده وشهوة انتقامه، وأقدم على أعمال قطعت عليه خط الرجعة. فأصدر "منشوراً للإصلاح" يعلن فيه أن رجال الدين "عبيد للدنيا منهمكون في ملذاتهم، لم تبق ثروتهم المتزايدة على شيء من تقواهم"(46). ثم صادر ما للكنيسة من أملاك في الصقليتين ليستخدم ثمنها في حربه، ولما أن تزعمت بلدة في أبوليا مؤامرة للقبض عليه، أمر برؤساء المتآمرين فاقتلعت عيونهم وبترت أعضاءهم ثم قتلوا. ولما أن استنجد به ابنه كنراد، اتخذ سبيله إلى ألمانيا، ولكنه علم وهو في تورين أن بارما قد انتقصت على حاميته التي بها، وأن الخطر محدق بإنزيو، وأن الثروة قد اندلع لهيبها في إيطاليا الشمالية كلها وصقلية نفسها، فأخذ يقلم أظفار فتنة بعد فتنة في مدينة تلو مدينة، ويأخذ الرهائن من كل واحدة منها، ويقتل أولئك الرهائن حين تثور عليه مدنهم. وإذا وجد في الأسرى رسلاً للبابا أمر بقطع أيديهم وأرجلهم(47).
وبينما كان الحصار مضروباً على بارما سئم فردريك طول البطالة فخرج هو وإنزيو وخمسين من الفرسان لصيد طيور الماء في المستنقعات المجاورة للمدينة. وبينما هم في صيدهم خرج رجال بارما ونساؤها على المحاصرين وهجموا عليهم هجوم اليائيسين، فتغلبوا على قوات الإمبراطور المختلة النظام المعدومة القيادة، واستولوا على أموال الإمبراطور وحريمه ووحوشه، فما كان منه إلا أن فرض ضرائب فادحة، وجهز جيشاً جديداً، وواصل القتال. وجاءته الأنباء بأن بيرو دلي فجني وزيره الأول وموضع ثقته قد غدر به وأخذ يدبر المؤامرات ضده؛ فأمر بالقبض عليه وفقء عينيه، فما كان من بيرو بعد أن فعل به هذا إلا أن أخذ يضرب برأسه جدران سجنه حتى مات (1249). وجاءته الأنباء في تلك السنة نفسها أن سكان بولونيا قد أسروا إنزيو في المعركة التي قامت عند لافسالتا La Fossaalta، وحدث في الوقت عينه أن حاول طبيب فردريك أن يقتله بالسم؛ وحطمت هذه الضربات المتوالية السريعة روح الإمبراطور، فارتد إلى أبوليا ولم يشترك بعدئذ في الحرب القائمة. وانتصر قواده في عدة معارك عام 1250، ولاح أن الحظ قد عاد يواتيه. فقد طلب القديس لويس وهو في أسر المسلمين في مصر إلى إنوسنت الرابع أن يضع حداً للقتال حتى يستطيع فردريك أن يخف لنجدة الصليبيين. ولكن صحة الإمبراطور أخذت في الوهن ولم تفدها هذه الآمال المنعشة، فقد حطم الزحار - وهو البلية التي طالما أذلت ملوك العصور الوسطى -، جسم الإمبراطور المتغطرس. وطلب أن تغفر له ذنوبه، فأجيب إلى طلبه، ولبس الإمبراطور الملحد مسوح الرهبان السسترسيين، ومات في فلورنتينو في الثالث عشر من ديسمبر سنة 1250. وتهامس الناس بأن روحه قد حملتها الشياطين واخترقت بها فوهة بركان إتنا إلى الجحيم.
ولم يظهر بعد موته ما له من نفوذ، فسرعان ما انهارت إمبراطوريته، وتفشت فيها الفوضى أشد مما كانت عليه حين جلس على عرشها. واختفت الوحدة التي قضي حياته يحارب من أجلها حتى من ألمانيا نفسها، وسارت المدن الإيطالية في ركب الحرية وقوتها الناشطة المبدعة، وسلكت طريق الفوضى، فأدى بها إلى استبداد الأدواق والزعماء اللصوص الذين ورثوا، وهم لايكادون يدركون، فساد فردريك الخلقي، وحريته الفكرية، ومناصرته الآداب والفنون. والحق أن ما كان يتصف به طغاة عصر النهضة من ذكاء قوى مجرد من الضمير كان صدى لخلق فردريك وعقله خالياً من ظرفه وفتنته. وإنا لنستبين في تفكير فردريك وفي حاشيته حلول الكتب اليونانية والرومانية القديمة محل الكتاب المقدس، والعقل محل الإيمان، والطبيعة محل الله، والضرورة محل العناية الإلهية، ثم استولت هذه النزعة بعد فترة من الاستمساك بالدين على عقول فلاسفة النهضة وكتابها الإنسانيين. وملاك القول أن فردريك كان "رجل النهضة" قبل أن يحل عهد النهضة بمائة عام. نعم إن مكيفلي كان يتحدث في كتاب الأمير وفي عقله سيزاري بورجيا Coesar Borgis ولكن فردريك هو الذي مهد السبيل لفلسفة كتاب الأمير. وكذلك كان نتشة ينظر بعين فكره إلى بسمارك ونابليون، ولكنه لم يكن ينكر أثر فردريك - "أول من يوافق هواي من الأوروبيين"(48). وقد ارتاعت الأجيال التي جاءت بعده بأخلاقه، وافتتنت بعقله، وقدرت بعض التقدير عظمة مطامعه الإمبراطورية، فوصفته المرة بعد المرة بالصفات التي ابتدعها ماثيو باريس حين قال عنه إنه الرجل "العجيب الذي بدل العالم وأثار عجبه Super mundi et immutator mirabilis"...أوصي فردريك لابنه كنراد بعرش الإمبراطورية، وعين مانفرد Manfred ابنه غير شرعي نائباً عن الإمبراطور في إيطاليا، وشبت نار الفتنه في كل مكان تقريباً في إيطاليا، وخضعت نابلي، واسبليتو، وأنكونا، وفلورنس لمبعوثي البابا، ونادى إنوسنت الرابع: "فلتبتهج السماء ولتفرح الأرض !" وعاد البابا منتصراً إلى إيطاليا، واتخذ نابلي مقر قيادته الحربية، وزحف منها ليضم الصقليتيين إلى الولايات البابوية، ووضع الخطط ليفرض على مدن إيطاليا سيادة اقل سفوراً من سيادته على تلك الولايات. ولكن هذه المدن عقدت العزم على أن تحمي استقلالها من البابوات والأباطرة على السواء، وإن رضيت أن تشترك مع البابا في الصلوات.
قصة الحضارة ج290-297)
 
مع اني اختلف مع تقييم ديورانت لما حمله عقل فردريك الا اني اتفق معه ان فيردريك فتن من بعده بما حمله ومااسسه ومافعله ضد الباباوية
لكن لحد الآن لم اجد كلاما لديورانت عن ان العلم الاسلامي هو الذي حرره واثر فيه ماجعله يتشكك في الكنيسة والباباوية فالرجل كما اورد ديورانت كان مفتونا بالعلم الاسلامي والنصوص قدمناها في ذلك كما انه حارب الملاحدة فكيف يكون هو ملحدا علمانيا
او هو بداية العلمانية!
انه بداية الخيط السلطوي الذي مكن للعلم الاسلامية واحياه حتى اثناء الحروب الصليبية
عموما اختلف مع التقييم التالي لديورانت
"وإنا لنستبين في تفكير فردريك وفي حاشيته حلول الكتب اليونانية والرومانية القديمة محل الكتاب المقدس، والعقل محل الإيمان، والطبيعة محل الله، والضرورة محل العناية الإلهية، ثم استولت هذه النزعة بعد فترة من الاستمساك بالدين على عقول فلاسفة النهضة وكتابها الإنسانيين. وملاك القول أن فردريك كان "رجل النهضة" قبل أن يحل عهد النهضة بمائة عام. نعم إن مكيفلي كان يتحدث في كتاب الأمير وفي عقله سيزاري بورجيا Coesar Borgis ولكن فردريك هو الذي مهد السبيل لفلسفة كتاب الأمير. وكذلك كان نتشة ينظر بعين فكره إلى بسمارك ونابليون، ولكنه لم يكن ينكر أثر فردريك - "أول من يوافق هواي من الأوروبيين"
قصة الحضارة ج296
تعليقي على النص بكلمة واحدة
اين الكلام عن تأثير العلم الإسلامي على الرجل والنهضة؟
لايوجد في هذا النص تحديدا مع انه قد يوجد في نص آخر بعيد عن النزعة المركزية الأوروبية لديورانت حتى وهو يحاول التخفف منها
ان النص اوروبي بإمتياز
 
وكذلك كان نتشة ينظر بعين فكره إلى بسمارك ونابليون، ولكنه لم يكن ينكر أثر فردريك - "أول من يوافق هواي من الأوروبيين"
قصة الحضارة ج296
لي تعليق مهم على تأثر نيتشه بفردريك
 
قال نيتشه ان حضارة الاندلس أو(العالم الغرائبي لحضارة العرب في اسبانيا)اقرب الينا من اليونان والرومان والتي تتناسب مع شعورنا وذوقنا ، واضاف ان "الكنيسة حرمتنا من ثمار حضارة الاسلام" (كتابه بعنوان عدو المسيح ص179) وهو من قال ان المسلمين هم من علموا اوروبا النظافة كما مدح قرطبة الغنية بالعلم والسماحة، والنظافة والفنون (نفس الكتاب ص65) وذكر كيف ان الكنيسة كانت تقاوم حتى النظافة ومن ذلك اغلاقها حمامات قرطبة بعد طرد المسلمين ,ويقول ان الإسلام لدى احتقاره للمسيحية يمتلك الف حق ! (انظر كتابه عدو المسيح ص 65)
 
مسيحية الانتقام وشق الارحام واختها تفعل اعظم من ذلك
حرب مسيحية مسيحية داخل صقلية بعد موت فردريك الثاني بفترة "كانت تدفع رجالهم لأن يشقوا بسيوفهم أرحام النساء اللاتي حملن من الجنود أو الموظفين الفرنسيين ثم يطأون الأجنة الأجنبية حتى تموت تحت أقدامهم"
:"أوصي فردريك لابنه كنراد بعرش الإمبراطورية، وعين مانفرد Manfred ابنه غير شرعي نائباً عن الإمبراطور في إيطاليا، وشبت نار الفتنه في كل مكان تقريباً في إيطاليا، وخضعت نابلي، واسبليتو، وأنكونا، وفلورنس لمبعوثي البابا، ونادى إنوسنت الرابع: "فلتبتهج السماء ولتفرح الأرض !" وعاد البابا منتصراً إلى إيطاليا، واتخذ نابلي مقر قيادته الحربية، وزحف منها ليضم الصقليتيين إلى الولايات البابوية، ووضع الخطط ليفرض على مدن إيطاليا سيادة اقل سفوراً من سيادته على تلك الولايات. ولكن هذه المدن عقدت العزم على أن تحمي استقلالها من البابوات والأباطرة على السواء، وإن رضيت أن تشترك مع البابا في الصلوات. وكان إزلينو Ezzlino وابرتر بلافيسينو Uberto Pallavicino يسيطران على عدد من المدن ويدينا فيها بالولاء لنكراد. ولم يكن في قلب كلا الرجلين شيء من الاحترام للدين؛ فنشأ الإلحاد في أيامهما، وكان يخشى أن تفقد الكنيسة شمالي إيطاليا كله. وهبط كنراد الشاب فجاءة بجيش جديد من جبال الألب، وأعاد فتح البلدان الإيطالية المتذمرة، ودخل مملكة الصقليتين منتصراً، ولكنه لم يدخلها إلا ليموت بالملاريا (مايو سنة 1254). وتولى مانفرد قيادة قوات الإمبراطور، وبدد شمل جيش بابوي بالقرب من فجيا (2 ديسمبر). وبلغت هذه الهزيمة مسامع البابا وهو على فراش الموت فمات بائساً مغموماً (7 ديسمبر) يقول بصوت خافت : "رباه لقد أفسدت الإنسان عقاباً له على ظلمه".
أما ما بقي من القصة فهو الفوضى السافرة، فقد شن البابا إسكندر الرابع (1254-1256) حرباً صليبية على إزلينو، جرح فيها هذا الطاغية ووقع في السر، وأبى أن يعوده الأطباء أو القساوسة أو أن يتناول الطعام، وأمات نفسه جوعاً، دون أن يتوب أو يقبل منه الاعتراف (1259). وأسر أيضاً أخوه ألبريجو Alberigo، وكان مثله في وحشيته وجرائمه، وأرغم على أن يشهد بعينيه تعذيب أسرته؛ ثم انتزع لحمه من جسمه بالكلاليب، وشد وهو لا يزال حياً إلى جواد؛ وجر على الأرض حتى مات(49). واندفع المسيحيون والكافرون وقتئذ في الأعمال الوحشية ما خلا مانفرد المرح النَّغل، وبقي مانفرد طوال الست السنين التالية سيد إيطاليا الجنوبية بعد أن أوقع بالجيوش البابوية هزيمة أخرى عند منتابرتو Montaperto (1260). وكان يجد متسعاً من الوقت للغناء وكتابة الشعر "ولم يكن له مثيل على ظهر الأرض" على حد قول دانتي "في العزف على الآلات الوترية"(50).
ولما يئس إربان الرابع (1261-1264) من أن يجد في إيطاليا من يرد مانفرد عن غيره، وأدرك أن البابوية يجب أن تعتمد من ذلك الوقت على حماية فرنسا إياها، طلب إلى لويس التاسع أن يقبل ملك الصقليتين إقطاعية من البابا. ورفض لويس هذا العرض، ولكنه أجاز لأخيه شارل دوق أنجو أن يقبل من إربان "مملكة نابلي وصقلية" (1264). واخترق شارل إيطاليا على رأس ثلاثين ألفاً من الجنود الفرنسيين وبدد شمل جيش مانفرد الذي كان أقل من جيشه عدداً. وقفز مانفرد في وسط أعدائه ومات ميتة أشرف من ميتة أبيه. ونزل في العام الثاني صبي في الخامسة عشرة من عمره وهو كنرادين Conradin من ألمانيا ليتحدى شارل، ولكنه هزم عند تجلياكزو Tagliacozzo وضرب رأسه علناً في ميدان السوق بنابلي عام 1268. وانتهى بمقتله وموت إنزيو الذي طال سجنه بعد أربع سنين من ذلك الحين أجل بيت هوهنسناوفن نهاية محزنه، وأصبحت الدولة الرومانية المقدسة شيئاً لا وجود له إلا في المظاهر والحفلات، وانتقلت زعامة أوروبا إلى فرنسا.
واتخذ شارل نابلي عاصمة له، وأوجد في الصقليتين أرستقراطية وبيرقراطية فرنسيتين، وأقام فيها جيشاً فرنسياً، ورهباناً وقساوسة فرنسيين، وحكم البلاد وجني الضرائب بوسائل استبدادية جعلت أهلها يتمنون لو يعث فردريك حياً، كما جعلت البابا كلمنت الرابع يتمنى لو أن البابوية لم تنتصر...
وبينما كان شارل يستعد لقيادة أسطوله لفتح القسطنطينية إذ ثار العامة في بالرم يوم الاثنين التالي لعيد القيامة من عام 1282 بعد أن انطلق حقدهم الكامن في صدورهم لأن جندياً فرنسياً أساء الأدب مع عروس صقلية، وقتل الغوغاء كل فرنسي في المدينة. وليس أدل على الحقد الدفين الذي كان يغلي في صدور الصقليتين من الوحشية التي كانت تدفع رجالهم لأن يشقوا بسيوفهم أرحام النساء اللاتي حملن من الجنود أو الموظفين الفرنسيين ثم يطأون الأجنة الأجنبية حتى تموت تحت أقدامهم(51). وحذت مدن أخرى حذو بالرم حتى قتل ثلاثة آلاف من الفرنسيين في مذبحة تعرف باسم "مذبحة صلاة المساء" لأنها بدأت في ساعة تلك الصلاة. ولم ينج من القتل رجال الدين في الجزيرة؛ فقد هاجم الصقليون المعروفون بالتقي والصلاح الكنائسي والأديرة وذبحوا الرهبان والقساوسة دون أن يعبأوا بكرامة رجال الدين. وأقسم شارل دوق أنجو أن ينتقم من الجزيرة انتقاماً لا تنمحي آثاره مدى ألف عام، وتوعدها بأن يتركها "صخرة صماء جرداء خالية من السكان"(52). وحرم البابا مارتن Martin الرابع العصاة من حظيرة الدين وأعلن حرباً صليبية على صقلية. ولما عجز الصقليون عن حماية أنفسهم عرضوا الجزيرة على بدرو الثالث صاحب أرغونة. وجاء بدرو إلى الجزيرة بجيش وأسطول وثبت أسرة أرغونة ملوكاً على صقلية (1282). وبذل شارل كل ما في وسعه ليسترد الجزيرة ولكن جهوده ذهبت أدراج الرياح، فقد دمر أسطوله، ومات وهو منهوك القوى مغموماً حزيناً في فجيا (1285). واكتفى خلفاؤه بعد سبعة عشر عاماً من الكفاح غير المجدي بمملكة نابلي.
قصة الحضارة ج15 ص297-300)
 
فلورنسيا والمصريين هل من شبه!
"وجرى الأهلون من ذلك الوقت عقب كل انتصار في حروب الطبقات والأحزاب على أن يحتفلوا بالنصر بنفي زعماء الطبقة المغلوبة ومصادرة أملاكهم أو تخريبها
قصة الحضارة ج15 ص306
وسياق النص
"وعجزت بعض الحكومات عن الوفاء بالتزاماتها المالية، ثم سقط بنيفاس الثامن وانتقل مقر البابوية إلى أفنيون (1307) فأدى هذا إلى إفلاس عدد من المصارف في إيطاليا والى حلول كساد عام وحرب عوان بين الطبقات.
وكانت ثلاث طبقات تقتسم الحياة المدنية غير الدينية في فلورنس: "الشعب الصغير popolo minuto- ويشمل أصحاب الحوانيت، والشعب السمين popolo grasso ويشمل أصحاب الأعمال ورجال الصناعة والتجارة، والعظماء grandi أي النبلاء. وكان الصناع يؤلفون النقابات ويستغلهم في الأعمال السياسية أصحاب الأعمال والتجار ورجال المال الذين يملئون النقابات الطائفية الكبرى. وكان "الشعب الصغير" و"الشعب السمين" يأتلفان وقتاً ما للوقوف في وجه الأعيان في التنافس القائم للسيطرة على الحكومة. وكان هؤلاء الأعيان يطالبون لأنفسهم بمكوس إقطاعية من المدينة، وقد أيدوا في أول الأمر الأباطرة ثم أيدوا البابوات ضد حركات المدينة. ونظمت هاتان الطبقتان
المؤلفتان جيشاً إقليمياً كان على جميع الصحيحي الأجسام من أهل المدينة أن ينظموا إليه وأن يتعلموا فيه فنون الحرب. فلما تهيأت أسباب القوة بهذا الاستعداد استولوا على قصور الأشراف الحصينة القائمة في الريف، ودمروها وأرغموا أصحابها على السكنى داخل أسوار المدينة والخضوع للقوانين البلدية. وكان النبلاء لا يزالون أغنياء بما يحصلون عليه من ريع أملاكهم في الريف، فشادوا لهم قصوراً حصينة في المدن، وانقسموا أحزاباً، وأخذوا يتقاتلون في الشوارع، ويتنافسون ليروا أي حزب يسبق الآخر لقلب الديمقراطية الضيقة المدى القائمة في فلورنس وإحلال دستور أرستقراطي محلها. وتزعم حزب الأوبرتي Uberti ثورة قام بها الغبليون ليقيموا في فلورنس حكومة موالية لفردريك، واستبسلت الطبقتان المؤتلفتان في المقاومة، ولكن كتيبة من الفرسان الألمان أوقعت بهما هزيمة ساحقة، وسقطت الديمقراطية الفلورنسية، وفر زعماء الجلف من المدينة، وهدمت بيوتهم انتقاماً لما قاموا به من تدمير قصور رجال الإقطاع منذ مائة عام؛ وجرى الأهلون من ذلك الوقت عقب كل انتصار في حروب الطبقات والأحزاب على أن يحتفلوا بالنصر بنفي زعماء الطبقة المغلوبة ومصادرة أملاكهم أو تخريبها(57). وظل أشراف الغبليين ثلاث سنين يحكمون المدينة تؤيدهم حامية من جنود الألمان، فلما مات فردريك قامت ثورة جلفية من الطبقتين الوسطى والدنيا واستولى الثوار على زمام الحكم (1250) وعينوا زعيماً للشعب ليراقب أعمال البودستا كما كان التربيونون في روما القديمة يراقبون أعمال القناصل. واستدعى زعماء الجلف المنفيون، وأيدت الطبقات الوسطى المنتصرة ما نالته من نصر داخلي بحروب شنتها على بيزا وسينا للسيطرة على طريق تجارة فلورنس إلى البحر والى روما، وأصبح أغنى التجار نبلاء جدداً، وعملوا على احتكار وظائف الدولة لأنفسهم.
ولما هزم مانفرد وسينا مدينة فلورنس في منتابرتو أعقب ذلك فرار زعماء الجلف مرة أخرى، وظلت فلورنس بعد فرارهم ست سنين يحكمها مندوبون عن مانفرد. فلما خسرت الإمبراطورية قضيتها في عام 1268 عادت السلطة مرة أخرى إلى أيدي الجلف الخاضعين خضوعاً اسمياً لشارل دوق أنجو. وأرادوا أن يقيدوا سلطان البودستا المعين من قبل شارل فأقاموا إلى جانبه هيئة مؤلفة من اثني عشر من الأنزياني anziani (أي "الأقدمين" أو الكبراء) ليسدوا النصح إلى ذلك الموظف، ومجلساً مكوناً من مائة عضو "لا ينفذ عمل من الأعمال الهامة ولا ينفق أي اعتماد مالي إلا إذا وافق عليه أولاً"(58). واغتنمت الطبقات الوسطى الرأسمالية فرصة انشغال شارل "بالمذبحة المسائية" فقاموا في عام 1282 بانقلاب دستوري أصبحت بمقتضاه هيئة مؤلفة من الرؤساء ومختارة من النقابات الطائفية الكبرى هي المسيطرة بالفعل على حكومة المدينة، وظل منصب البورستا باقياً في خلال هذه التقلبات، ولكنه كان مجرداً من السلطان، لأن السلطة العليا انتقلت إلى أيدي التجار وأصحاب المصارف...وهاجمت جماعة من النبلاء المسلحين من حزب دوناتي عدداً من كبار رجال النقابات، فقررت هيئة المندوبين السالفي الذكر، وكان دانتي وقتئذ من أعضائها، نفي عدد من النبلاء متحدية بذلك البابا (يونية 1300). واستنجد بنيفياس بشارل دوق فالوا Valois وطلب إليه أن يدخل إيطاليا، ويخضع فلورنس، ويسترد صقلية من أرغونة.
ووصل شارل فلورنس في نوفمبر من عام 1310، وأعلن أنه لم يأت إليها إلا لإعادة النظام والسلم في ربوعها، ولكن كرسو دوناتي دخل المدينة بعد قليل من ذلك الوقت على رأس جماعة مسلحة، ونهب بيوت المندوبين الذين نفوه، وفتح أبواب السجون، ولم يطلق أصدقاءه وحدهم، بل أطلق كل من أراد الخروج منها. وساد الهرج والمرج المدينة، واشترك النبلاء والمجرمون ف السرقة، وخطف الآدميين، وقتلهم؛ ونهبت مخازن التجارة، وأرغمت الوارثات على الزواج من خطاب مفاجئين، واضطر الآباء إلى إمضاء وثائق ببائنات كبيرة. وأخرج كرسو آخر الأمر هيئة مندوبي النقابات والبودستا من وظائفهم، واختار السود، وظل كرسو سبع سنين حاكماً يأمره لا معقب لحكمه في فلورنس. وحوكم المندوبون المعزولون وأدينوا، وحكم عليهم بالنفي ومنهم دانتي نفسه (1302)، وحكم على 359 من البيض بالإعدام، ولكن أجيز لمعظمهم النجاة من الموت بالنفي من البلاد.. وقبل شارل فالوا هذه الحوادث راضياً، وقبل معها 44.000 فلورين (4.800.000 ريال أمريكي) مكافأة له على ما عانى من مشقة، وغادر فلورنس إلى الجنوب. وفي عام 1304 أحرق السود الذين أفلت زمامهم بيوت أعدائهم، فدمر في هذه الحرائق 1400 بيت، وأصبح وسط فلورنس رماداً وخرائب. ثم تفرق السود أحزاباً جدداً، وحدثت أعمال من العنف لا حصر لها طعن فيها دوناتي طعنة أردته قتيلاً (1305).
وبعد فإن علينا أن نذكر مرة أخرى أن المؤرخ كالصحفي ينزع على الدوام إلى أن يضحي بما هو طبيعي وعادي في سبيل ما هو مسرحي مثير؛ وأنه لا يرسم أبداً صورة وافية لأي عصر من العصور. لكن من واجبنا أن نسجل في ختام هذا الفصل أن إيطاليا كانت تستند في أثناء هذا النزاع بين البابوات والأباطرة، وبين الحلف والغبليين، وبين السود والبيض، إلى الفلاحين الكادحين...وكان المدرسون في أماكن متفرقة من هذا البحر العجاج يجاهدون صابرين ليلقنوا المعارف إلى السباب المحجم عن معارفهم، والعاهرات يخففن من شبق الرجال الواسعي الخيال؛ والشعراء يستعيضون عن آمالهم الخائبة بقرض الشعر، والفنانون يعيشون على الطوى وهم يسعون وراء الكمال، والقسيسون ينهمكون في السياسة ويواسون الفقراء والمنكوبين، والفلاسفة يجاهدون ليخرجوا من متاهة الأساطير إلى سراب الحقيقة البراق. وكان في هذا المجتمع دوافع للعمل، وأسباب لإثارة النفوس، وللتنافس، تقوي أذهان الرجال وألسنتهم، وتستثير ما لديهم من قوى مختزنة لم يكن أحد يتوقع وجودها فيهم، وتغريهم بتمهيد السبيل للنهضة وتهيئة أسبابها. وهكذا جاء البعث الجديد بعد أن عانت المجتمعات في أوربا كثيراً من الآلام، وأريقت في سبيله أنهار من الدماء.
 
عقيدة القديس اوغسطين في الاطفال
:"وكان كثيرون من رجال الدين المسيحيين يؤمنون بحرفية القول المعزو إلى المسيح : "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مرقس إصحاح 16 الآية 16). ووصل القديس أوغسطين على الرغم منه إلى النتيجة القائلة إن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار(14)، وكان القديس آنسلم يظن أن ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين (الآثمين لأن آدم وحواء قد ارتكبوا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرق على أبناء الأرقاء- وهو لا يرى أن في هذا بعداً ما عن المعقول(15). وقد خففت الكنيسة من هول هذه العقيدة بأن علمت الناس أن الأطفال غير المعمدين لا يلقون في الجحيم بل يلقون في يمبوس Infernus puerorum حيث لا يكون عذابهم إلا ما يشعرون به من ألم لأنهم حرموا من الجنة"
قصة الحضارة ج16 ص5-6)
 
قرب نهاية العالم في عصور اوروبا المسيحية
اما عقيدة الأوروبيين في العصور الوسطى فيقول عنها ديورانت
"وبقى الاعتقاد بعودة المسيح إلى الأرض، ونهاية العالم لتكون هذه العودة وتلك النهاية تمهيداً ليوم الحساب الأخير، بقى هذا الاعتقاد بعد هبوط مسعى الرسل، ومرور العام المتمم للألف بعد المسيح، ومخاوف أربعين قرناً وآمالها. نعم إن هذا الاعتقاد أضحى أقل وضوحاً وأضيق انتشاراً مما كان قبل، ولكنه لم يمنح من النفوس، فقد قال روجر بيكن Roger Bacon في عام 1271 : إن "العقلاء من الناس" يرون أن نهاية العالم قد قربت(1)، وكان كل وباء شامل، وكل كارثة مدلهمة، وكل زلزال مروع، وكل مذنب يظهر في السماء، وكل حادثة غير عادية، كان كل شيء من هذا القبيل يعد نذيراً بنهاية العالم"(قصة الحضارة ج16 ص2)
 
"وترجع قوة الدين المسيحي إلى أنه يعرض على الناس الإيمان لا المعرفة، والفن لا العلم، والجمال لا الحقيقة"
قصة الحضارة ج16 ص12
تعليق
الاسلام دين الايمان ودين العقل ودين المعرفة ودين الحقيقة ودين الاجتهاد في العلم والدولة والتجريب
وهو ماغير وجه العالم فيما بقيت الكنسية تتملى خرافاتها الايماني
 
"الأسرار المقدسة كانت القوة الثانية من قوى الكنيسة التي تلي تحديد الدين هي عملها في أداء الأسرار المقدسة- أي الشعائر التي ترمز إلى منح البركة الإلهية... ...ويكاد اللفظ اللاتيني الذي يعبر عن هذه الأسرار المقدسة وهو لفظ Sacramentum ينطبق في القرن الرابع الميلادي على كل شيء مقدس- على التعميد، وعلى الصليب، والصلاة، وأطلقه أوغسطين في القرن الخامس على الاحتفال بعيد القيامة، ثم قصره إزدور الأشبيلي Isidore of Seville القرن السابع على التعميد وتثبيت العماد، والقربان المقدس. فلما كان الثاني عشر حددت الأسرار المقدسة بسبعة أسرار: التعميد، وتثبيت العماد، والكفارة، والقربان المقدس، والزواج، ورتبة الكهنوت، والمسح بالزيت قبيل الوفاة. أما الشعائر الصغرى التي تمنح البركة الإلهية كالرش بالماء المقدس أو علامة الصليب- فلم تكن من هذه الأسرار وسميت sacramentals أي المتعلقة بتلك الأسرار تمييزاً لها عن الأسرار الأصيلة.
وكان التعميد أهم تلك الأسرار كلها
قصة الحضارة ج16 ص14
 
قتلوه ثم أكلوه..إله النصارى
"وكان العشاء الرباني أهم الأسرار المقدسة بعد التعميد. ذلك أن الكنيسة تمسكت بحرفية العبارة المعزوة إلى المسيح وقت تناول العشاء الأخير، والقائلة أن الخبز هو جسمه وإن النبيذ دمه. وأهم ما تقوم عليه شعيرة العشاء الرباني هو تحول رغيف الخبز وكأس النبيذ إلى جسم المسيح ودمه بقدرة القسيس المعجزة، وكان الغرض الأول من القداس هو أن يسمح للمؤمنين أن يشتركوا في "جسم" الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي "دمه، وروحه، وألوهيته"، وذلك بأكل القربان المقدس، وشرب النبيذ المقدس. وإذا كان شرب هذا النبيذ يعرض دم المسيح للانسكاب على الأرض فقد نشأت في القرن الثاني عشر عادة الاكتفاء بتناول العشاء الرباني بالخبز وحده، ولما أن طالب بعض المحافظين (الذين أخذ عنهم الهوسيون البوهيميون (Hussistes of Bohemia) أراءهم فيما بعد أن يتناولوا القربان بصور نيه ليتأكدوا من أنهم حصلوا على دم المسيح وجسمه، قال لهم علماء الدين إن دم المسيح "ملازم" لجسمه في الخبز، وإن جسمه "ملازم" لدمه في النبيذ(64). وانتشرت ألف قصة وقصة عن مقدرة الخبز المقدس على إخراج الشياطين، ومداواة الأمراض، وإطفاء النيران، والكشف عن الكذب باختناق الكاذبين(65). وكان يطلب إلى كل مسيحي أن يتناول العشاء الرباني مرة في العام على الأقل، وكان تناول الشاب المسيحي لأول مرة فرصة لإقامة المهرجانات الفخمة والحفلات السارة.
ونشأت عقيدة حضور المسيح في أثناء العشاء الرباني نشأة بطيئة. وكانت الصياغة الرسمية الأولى لهذه العقيدة هي التي أذاعها مجلس نيقية في عام 787. ثم قام راهب بندكتي فرنسي يدعى رتراموس Ratramus عام 855 وقال إن الخبز والخمر المقدسين لم يكونا جسم المسيح ودمه إلا بطريقة روحية لا جسدية. وقام برنجار Berenegar رئيس شمامسة تور حوالي عام 1054 وجهر بارتيابه في تحول الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه، فكان جزاؤه الحرمان من الدين، وكذب لافرانك Lafrance رئيس دير بك Bec رداً عليه (1063)
يقرر فيه العقيدة الدينية الصحيحة قال فيه:
إنا لنعتقد أن المادة الأرضية.... تستحيل بتأثير القوة السماوية التي لا يستطيع أحد وصفها.... أو إدراك كنهها إلى جوهر جسم المسيح، على حين أن مظهره، وبعض صفاته الأخرى المتصلة بهذه الحقائق نفسها، تبقى خافية حتى ينجو الناس من هول رؤية الأشياء النيئة المخضبة بالدماء، وحتى ينال المؤمنون الجزاءالكامل لإيمانهم. ومع هذا كله فإن جسم المسيح ذاته يبقى في الوقت عينه في السماء... مصونا كاملاً، لا يمسه أذى أو دنس(66).
وأعلن مجلس لاتران في عام 1215 أن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية في الدين المسيحي، وأضاف مجلس ترنت Trent إلى هذا القول في عام 1260 أن كل جزيء من الخبز المقدس مهما كسر يحتوي جسم عيسى المسيح كله، ودمه، وروحه، وبهذه الطريقة تعظم الحضارة الأوروبية والأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان البدائية ـ وهي أكل الإله.
قصة الحضارة ج16 ص18-20
ومعلوم ان المخيال النصراني قتل إلهه ورضي في الذهنية والوجدان عن قتله لانه بزعمهم لابد ان يموت ويقتل من اجلهم ثم الهوه وهو خيال اهل الباطل
 
صكوك الغفران!
"ولم يكن صك الغفران رخصة بإرتكاب الإثم، بل كان إعفاءاً جزئياً أو كلياً من بعض العقاب الذي يستحقه الإنسان جزاءاً له على آثامه الدنيوية، أو من هذا العقاب كله، وهذا الإعفاء تمنحه إياه الكنيسة. وكان الغفران الذي يمنح عند الاعتراف بمحو الخطيئة التي لولاه لأدت بكاسبها إلى الجحيم، ولكنه لم يكن يعفيه من العقاب "الزمني" المترتب على إثمه. وكانت أقلية صغرى من المسيحيين هي التي تكفر عن ذنوبها في هذا العالم تكفيراً تاماً، أما ما بقى من هذا التكفير فيحدث في المطهر. وكانت الكنيسة تدعى لنفسها حق التجاوز عن هذا العقاب، وذلك بأن تنقل إلى أي تائب مسيحي يقوم بأعمال معينة من التقى أو التصدق قسما صغيراً عن كنوز البركة التي تجمعت من تعذيب المسيح وموته، ومن أعمال القديسين الأبرار الذين تزيد حسناتهم عن سيئاتهم. وقد منحت صكوك الغفران منذ القرن التاسع، وأعطى بعضها في القرن الحادي عشر للحجاج الذين يزورون الأضرحة المقدسة، وكان أول صك بالغفران الكلي هو الذي عرضه إريان الثاني في عام 1095 على من يشتركون في الحرب الصليبية الأولى. ونشأت من هذه العادات سنة منح صكوك الغفران لمن يتلون أدعية معينة أو يؤدون خدمات دينية خاصة، أو ينشئون القناطر، أو الطرق؛ أو الكنائس أو المستشفيات، أو يقطعون الغابات، أو يجففون المستنقعات، أو يتبرعون بالمال لحرب صليبية أو لهيئة كهنوتية أو لعيد كنسي، أو حرب مسيحية.
واستخدمت هذه السنة في كثير من الأغراض الصالحة، ولكنها فتحت الأبواب للمطامع البشرية، فقد بعثت الكنيسة ببعض رجال الدين، وكانوا في العادة من الرهبان ليجمعوا المال بأن يعوضوا على الراغبين صكوك الغفران نظير هبات يقدمها الطالبون، أو توبة من الذنوب، أو صلوات يؤدونها. وقد نشأ من هذه العروض التي يسميها الإنجليز "غافرات Pardoners" تنافس شديد جلل بالعار كثيراً من المسيحيين، فكانوا يتظاهرون بتعظيم بعض الآثار الدينية المزورة ليحملوا الناس على التبرع بالمال؛ وكانوا يحتفظون لأنفسهم من هذه الأموال بقسط قليل أو كثير. وبذلت الكنيسة عدة محاولات لتقليل هذه المساوئ، من ذلك أن مجلس لاتران الرابع أمر المطارنة أن ينهوا المؤمنين إلى ما هنالك من الآثار الدينية الكاذبة والشهادات المزورة، وحرمت رؤساء الأديرة من حق إصدار صكوك الغفران، وفرضت بعض القيود على حق المطارنة في إصدارها، وحث جميع رجال الدين على أن يراعوا جانب الاعتدال في تحمسهم لهذه الوسيلة الجديدة. وندد مجلس مينز الديني في عام 1261 بكثير من موزعي هذه الصكوك، ووصفهم بأنهم كاذبون أشرار يعرضون ما يعثرون عليه من عظام الناس أو الحيوان على أنها عظام أولياء صالحين، مرنوا على البكاء حين يشاءون، يساومون على التطهير من الذنوب بأكبر ما يستطيعون الحصول عليه من المال وبأقل ما يقدمونه من الأدعية والصلوات(62). وشهرت بها مجالس كنيسة أخرى مثل هذا التشهير كمجلس فين Vienne (1311) ومجلس رافنا (1317)(63)، لكن هذه المساوئ لم تنقطع.
قصة الحضارة ج16 ص17
 
عبادة مريم في المسيحية
يقول ديورانت عن مريم
"والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد"
في النص التالي
"ووجدت الكنيسة أن معتنقي المسيحية من أهل الريف لا يزالون يعظمون بعض العيون، والآبار، والأشجار، والحجارة، فرأت أن من الحكمة أن تخلع البركة على هذه الأشياء، وأن يستخدمها المسيحيون بدل أن تقضي قضاء مفاجئاً سريعاً على عادات شديدة الارتباط بعواطف الخلق. واتباعاً لهذا دشنت مجموعة من الحجارة في صورة مائدة في بلواريه plouaret على أنها مصلي القديسين السبعة، وحللت عبادة شجرة البلوط بأن علقت على الأشجار صور القديسين المسيحيين(90): وعادت الاحتفالات الوثنية العزيزة على الشعوب أو التي لابد منها لكي تبيح للناس الخروج على قواعد الأخلاق وأضحت أعياداً مسيحية، واستحالت الطقوس الوثنية النباتية طقوساً كنسية مسيحية وظل الناس كما كانوا من قبل يوقدون النيران في منتصف الصيف عشية عيد القديس يوحنا ، وسمي عيد قيام المسيح (عيد القيامة) بالاسم الوثني القديم Eostre وهو اسم إلهة الربيع التبوتونية القديمة ؛ وحل تقويم القديسين المسيحي محل التقويم الروماني، وأجازت الكنيسة أن تبقى الأرباب القديمة العزيزة على الناس وأن تحمل أسماء قديسين مسيحين، فأضحت إلهة النصر Dea Victovria إلهة إقليم الألب الأدنى هي القديسة فكتوار St. Victoire، كما ولد كاستر وبلكس Castor and Pollux من جديد وأصبحا هما القديسين كزماس Cosmas ودميان Damian.
وكان أعظم ما ظفرت به هذه الروح، روح التكيف المتسامحة، من نصر هو السمو بعبادة الإلهة الأم الوثنية واستحالتها إلى عبادة مريم أم المسيح وهنا أيضاً كان الشعب هو البادئ بهذا التسامي. ذلك أن سيريل Cyril كبير أساقفة الإسكندرية وصف، في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس Ephesus عام 431، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها "إلهتهم الكبرى" أرتميس - ديانا Artimis Diana دلالة على حبهم إياها واعتزازهم بها، ووافق مجلس إفسس في تلك السنة على أن تلقب مريم "أم الإله" وعلى الرغم من احتجاج نسطوريوس Nestorius وما لبثت أرق صفات عشتروت، وسيبيل، وأرتميس، وديانا، وإيزيس أن جمعت كلها في عبادة مريم ثم قررت الكنيسة في القرن السادس إقامة الاحتفال بعيد صعود العذراء إلى السماء، وحددته باليوم الثالث عشر من شهر أغسطس، وهو تاريخ عيدين لإيزيس وأرتميس(91). وأضحت مريم القديسة الشفيعة للقسطنطينية وللأسرة الإمبراطورية، وكانت صورتها تحمل في مقدمة كل موكب عظيم، وكانت (ولا تزال) تعلق في كل كنيسة وبيت في العالم المسيحي اليوناني. وأكبر الظن أن الصليبيين هم الذين جاءوا من الشرق إلى الغرب بعبادة العذراء عبادة قوية بمظاهرات ذات جمال وروعة(92).
ولم تشع الكنيسة نفسها عبادة مريم، نعم إن آباء الكنيسة كانوا قد كرموا مريم وفضلوها عن حواء، ولكن عداءهم للمرأة بوجه عام، ووصفهم إياها بأنها "الوعاء الضعيف"، ومصدر كل غواية بارتكاب الإثم، وخوف الرهبان من النساء وفرارهم منهن، وحملة الوعاظ على مفاتن النساء ونقائصهن- هذا كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى عبادة مريم هذه العبادة القوية الشاملة. وكان الشعب وحده هو الذي ابتدع أجمل زهرة في العالم الروحي أثناء العصور الوسطى وجعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله. ذلك أن سكان أوروبا المستفيقة من رقدتها لم يعودوا يقبلون تلك الصورة الصارمة لإله يعاقب الكثرة الغالبة من خلقه بإلقائهم في نار جهنم، فخففوا من تلقاء أنفسهم الأهوال التي يحدثهم عنها علماء الدين بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان، وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى - وهو لا يزال عندهم أسمى وأعدل من أن يتصلوا به مباشرة- عن طريق أمه التي لا ترد سائلاً، والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة. وحسبنا دليلاً على رأي الناس في مريم القصة التي يرويها قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach، (1230) وهي أن شاباً أغواه الشيطان بإنكار المسيح نظير ثروة طائلة وعدها إياه، ولكنه لم يفلح في أن يغريه بإنكار مريم، فلما تاب الشاب استطاعت مريم أن تقنع المسيح بالعفو عنه. ويحدثنا الراهب نفسه عن أخ له سترسي من غير رجال الدين سمعه يناجي المسيح بقوله: "رباه! إن لم تنقذني من هذه الغواية فسأشكوك إلى أمك"(93). وقد بلغت صلوات الناس لها من الكثرة حداً جعل خيال العامة يصور عيسى في صورة من يغار منها، فيقولون إن شخصاً ملأ السموات بصلاة العذراء "السلام لك يامريم" فظهر له المسيح، كما تقول القصة الطريفة، وأنبه أشد التأنيب وقال له : "إن أمي لتشكر لك كثيراً ما قدمت لها من أدعية وصلوات، ولكن عليك مع ذلك ألا تغفل إلى رحمة مريم لتخفيفها، كما كانت صرامة يهوه في حاجة إلى المسيح. والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد، يشترك كل إنسان في حبها والثناء عليها، فالعصاة أمثال أبلار ينحنون لها إجلالاً وتكريماً، والهجاءون أمثال روتبوف Rutrbeuf، والمتشككون الصخابون أمثال المدرسين الجوالين لم يكونوا يجرءون على النطق بكلمة نابية عنها، وكان الفرسان ينذرون أنفسهم لخدمتها، والمدن تقدم لها مفاتيحها، والطبقات الوسطى الرأسمالية الناشئة ترى فيها الرمز الطاهر للأمومة والأسرة، والجفاة للغلاظ من رجال النقابات الطائفية - وحتى أبطال الثكنات وميادين القتال الذين لا يتورعون عن النطق بأقبح الألفاظ فيما هو مقدس - يتبارون مع الفتيات القرويات والأمهات الثاكلات في توجيه صلواتهم إليها ووضع هداياهم تحت قدميها(95). وكان أقوى أسفار العصور الوسطى عاطفة هو ذلك الورد الذي يعلن في حماسة متأججة متزايدة مجدها ويطلب معونتها. ولم يكن مكان ما يخلو من صورة لها، بل لم تخل منها منحنيات الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.
وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها"(96). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن إنساناً ما لم يلاحظ غيابها(97). ولك يكن في مقدور الكنيسة أن ترتضي هذه القصص كلها، ولكنها كانت تقيم احتفالات عظيمة في ذكرى الحوادث البارزة في حياة مريم- كالبشارة، والزيارة ، والتطهير (عيد تطهير العذراء ودخول المسيح إلى الهيكل)، والصعود، ثم خضعت الكنيسة آخر الأمر إلى إلحاح أجيال من غير رجال الدين ومن الرهبان الفرنسسكان فأجازت للمؤمنين أن يعتقدوا، ثم أمرتهم في عام 1854 أن يعتقدوا، بالحمل بلا دنس- أي أن مريم قد حملت مبرأة من أثر الخطيئة الأولى التي تلطخ، حسب قول الكنيسة، كل طفل يولد من رجل وامرأة من عهد آدم وحواء.
واستحالت الكثلكة بفضل عبادة مريم من دين رهبة- لعلها كانت ضرورية في العصور الوسطى- إلى دين رحمة وحب، وإن نصف ما في العبادات الكاثوليكية من جمال، وكثيرا مما في الفن الكاثوليكي والغناء الكاثوليكي من روعة وجلال، لمن خلق هذا الإيمان السامي الذي يتجلى في وفاء امرأة ورقتها، بل وفي جمال جسمها ورشاقتها. لقد دخلت بنات حواء الهيكل وبدلت روحه، وكانـت هــذه الكثلكة الجــديدة من الأسباب التي طهـرت الإقـطاع فـاستحال فـروسية، ورفعت من شأن المرأة إلى حد ما في عالم من صنع الرجال، وبفضله وهب النحت والتصوير في العصور الوسطى فن تلك العصور عمقاً ورقة قلما كان اليونان يعرفونهما في عهدهم. وفي وسع الإنسان أن يعفو عن كثير مما في دينٍ وفي عصرٍ أوجدا مريم وكنائسها الكبرى.
قصة الحضارة ج16 ص27)
 
وفي إنجلترا كان الإنجليز يحجون إلى قبر القديس كثيرت Cuthpret في درهام، وإلى قبر القديس إدوارد المعترف Edward the Confessor في وستمنستر، وإلى قبر القديس إدمند St. Edmund في بيوري Bury، أو إلى الكنيسة التي أنشأها كما يقولون يوسف الأرمائي Joseph of Aremathnea في جلاستنبري Glastonbury وكان أهم من هذه الأماكن كلها في نظر الإنجليز ضريح تومس أبكت في كنتر بري. وكانت فرنسا تجتذب الحجاج إلى قبر القديس مارتن في ثور وإلى نتردام في تشارتر، ونتردام في له- بوي- أن- فلاي Lebuyen Velay وفي إيطاليا كنيسة القديس فوانسس وعظامه في أسسي Assisi، وفيها أيضاً سانتا، كاسا Santa Casa أو البيت المقدس في لوريتو Loreto ويعتقد المتقون أنه هو البيت الذي سكنت فيه مريم مع عيسى في الناصرة، وأن الملائكة حملت هذا الكوخ من فلسطين حين طرد الأتراك آخر الصليبيين منها، وطارت به في الهواء ثم أنزلته في دلماشيا (1291)، ثم طارت فوق البحر الأدرياوي إلى غابات أنكونا (اللورتوم Louretum) التي اشتق منها اسم هذه القرية المكرمة.
وآخر ما نذكره في هذا المقام أن كل طرق العالم المسيحي كله كانت تؤدي بالحجاج إلى رومة، ليشاهدوا قبري بطرس وبولس، ولينالوا الغفران بزيارة المنازل المقدسة، أو الكنائس القائمة في تلك المدينة ؛ أو للاحتفال بعيد من الأعياد، أو ذكرى سارة في التاريخ المسيحي. وحدث في عام 1299 أن أعلن البابا بنيفاس الثامن أن سيقام عيد كبير في عام 1300، وعرض أن يغفر جميع ذنوب من يأتون للتعبد في كنيسة القديس بطرس في ذلك العام. ويقال إن عدد من دخل أبواب روما من الغرباء في كل يوم من أيام هذه الشهور الإثنى عشر لم يكن يقل عن مائتي ألف، وإن مليوني زائر مع كل منهم نذر يناسبه وضعوا ما معهم من الكنوز أمام قبر القديس بطرس، وقد بلغت هذه الكنوز من الكثرة حداً شغل قسيسين ظلا يعملان بالمجارف ليلاً ونهاراً لجمع النقود
قصة الحضارة ج16 ص42
 
جاهلية كنيسة العصور الوسطى
"وكانت الكنيسة قبل عهد محاكم التفتيش تعتمد على وسائل الإرهاب الروحي، فكان الحرمان الأصغر Minor excommunication يمنع المسيحي من الاشتراك في العشاء الرباني وفي طقوس الكنيسة، وكان من حق كل رجل من رجال الدين أن يصدر هذه العقوبة، وكان معناها عند المؤمنين العذاب الدائم في نار الجحيم إذا مات الآثم قبل العفو عنه. أما الحرمان الأكبر Maior excommunication (وهو الحرمان الوحيد الذي تستخدمه الكنيسة في هذه الأيام) فلا يصدره إلا مجلس ديني أو مطارنة أعلى مرتبة من القساوسة كما أنه لا يصدر إلا على أشخاص داخل دائرة هذه المجالس أو أولئك المطارنة. فإذا صدر أبعد المحروم من كل اتصال قانوني أو روحي بالمجتمع المسيحي: فلا يستطيع أن يقاضي، أو يرث، أو يعقد عقداً صحيحاً من الوجهة القانونية، ولكنه يجوز لغيره أن يقاضيه، ويحرم على أي مسيحي أن يؤاكله أو يكلمه وإلا حق عليه الحرمان الأصغر. ولما أن صدر قرار الحرمان على ربرت ملك فرنسا (998) لزواجه من ابنة عمه، تركه جميع رجال حاشيته وجميع خدمه تقريباً، وكان الخادمان اللذان بقيا عنده يلقيان في النار ما يتبقى من طعامه بعد كل وجبة من وجباته، حتى لا تدنسهما هذه البقايا. وكانت الكنيسة في الحالات القصوى تضيف إلى الحرمان عقوبة اللعنة Anathema ، وهي عقوبة ذكر فيها بعناية وبأقوى عبارة. وبكل ما تحتويه العبارات القانونية من لغو، كل ما يتصل بهذه العقوبة. وكان آخر ملجأ للكنيسة هو حق البابا في أن يصدر قرار تحريم (Interdict) على أية بقعة من العالم المسيحي- أي أن يمنع إلى أجل جميع الخدمات الدينية أو الكثرة الغالبة منها. وإذا كان الناس في تلك الأيام يشعرون بحاجتهم إلى العشاء الرباني، ويخشون أن توافيهم المنية قبل أن يعفى عن خطاياهم، فقد كان المحروم يضطر عاجلاً أو آجلاً إلى مصالحة الكنيسة. وقد صدرت قرارات بالحرمان من هذا النوع على فرنسا في عام 998، وعلى ألمانيا في عام 1102، وعلى إنجلترا في عام 1208، وعلى روما نفسها في عام 1155. وكانت كثرة ما صدر من قرارات الحرمان والتحريم سبباً في ضعف أثرهما في القرن الحادي عشر(105). فقد كان البابوات يصدرون بين الفنية والفنية قرارات لأغراض سياسية، كما حدث حين هدد إنوسنت الثاني مدينة بيزا بإصدار قرار التحريم عليها إذا لم تنضم إلى الجامعة التسكانية(106). وبلغت قرارات الحرمان بالجملة- للغش في أموال الزكاة التي كانت الكنيسة تتقاضاها من الأهلين- من الكثرة أن أضحت أقسام كثيرة من المجتمع المسيحي محرومة كلها في وقت واحد، ومنها ما لم تكن تعرف أنها محرومة، كما أن منها ما أغفل قرار الحرمان أو سخر منه(107) ولم يعبأ به. من ذلك أن قرار الحرمان بالجملة صدر على ميلان وبولونيا وفلورنس ثلاث مرات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وظلت ميلان اثنين وعشرين عاماً تتجاهل القرار الثالث. ويحدثنا الأسقف جوليوم له مير Maire في عام 1391 عن هذه القرارات فيقول : "لقد رأيت بعيني في بعض الأحيان أربعمائة محروم في أسقفية واحدة بل رأيت سبعمائة منهم... يزدرون سلطة المفاتيح ويوجهون ألفاظ التجديف والسباب للكنيسة ورجالها(108) ولم يعبأ فليب أغسطس وفليب الجميل بقرارات الحرمان التي صدرت عليهما.
وكان ما يحدث آنا بعد آن من تجاهل لهذه القرارات بدياة اضمحلال سلطان القانون الكنسي على غير رجال الدين في أوروبا. وكانت الكنيسة قد أخضعت لسلطانها طائفة كبيرة من شؤون الحياة البشرية حين تضعضعت السلطات الدينية في الألف السنة الأولى من التاريخ المسيحي، فلما أن قويت الحكومة المدنية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر استرد القانون المدني من القانون الكنسي طائفة بعد طائفة من الشؤون البشرية. نعم إن الكنيسة قد نالت مكاسب جديدة في التعيين في الوظائف الدينية، أما في الميادين الأخرى فقد أخذ سلطانها يضمحل في شؤون التعليم، والزواج، والأخلاق، والاقتصاد، والحرب فقد أعلنت الدول التي نمت وترعرعت في ظل النظام الاجتماعي. الذي أوجدته هي والذي أجاز لها أن تنمو وتترعرع، أعلنت هذه الدول أنها شبت عن الطوق وبدأت تلك العملية الطويلة- عملية التحرر من السلطة الدينية- التي بلغت غايتها في هذه الأيام. ولكن جهود واضعي القانون الكنسي لم تذهب هباء، كما لا تذهب هباء معظم الجهود المبدعة الخلاقة في هذا العالم، فهي التي أعدت ودربت أعظم من أخرجتهم من الحكام، وأسهمت في نقل القانون الروماني إلى العالم الحديث، وأيدت الحقوق القانونية للأرامل والأطفال، ووضعت في القانون المدني المعمول به في أوروبا الغربية المبدأ الذي يجعل للزوجة في حياتها نصيباً من مال زوجهاوكان له نصيب في صياغة الفلسفة المدرسية ووضع مصطلحاتها. وملاك القول أن الشريعة الكنسية كانت من أعظم الأعمال التي تمخض عنها العقل البشري العصور الوسطى.
قصة الحضارة ج16 ص47)
 
البابا
"وكان البابا يحكم دولة روحية بلغت في القرن الثالث عشر ذروة مجدها ويساعده في حكمها أولئك الرجال وطائفة كبيرة من رجال الكنيسة وغيرهم من الموظفين يؤلفون جميعاً "الكوريا" Curia أو المحكمة التنفيذية والقضائية. وكان من حقه وحده أن يدعو للانعقاد مجلساً عاماً من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة ؛ وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا التي تستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات، وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصاً في زمرة القديسين. وكان على جميع القساوسة بعد عام 1059 أن يقسموا يمين الطاعة له، وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا على شؤونهم. وكانت جزائر مثل سردينيا وصقلية، وأمم كالإنجليز، والمجر، وأسبان تعترف بأنه سيدها الإقطاعي وترسل إليه الجزية، وكان في وسعه أن يرقب بعينية ويحرك بيديه كل جزء من أجزاء مملكته عن طريق الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكونون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها في أية دولة من الدول. وهكذا عاد إلى روما شيئاً فشيئاً، بدهاء بابواتها، ما كان لها من سلطان على أوروبا معتمدة على ما كان لكلمة الدين من قوة عجيبة.
قصة الحضارة ج16 ص57
 
شغل باباوات
"وقضى إنوسنت الرابع (1243-1254) على فردريك الثاني، وأقر استخدام محكمة التفتيش للتعذيب(133). وكان نصيراً صادقاً للفلسفة، مساعداً للجامعات، مؤسساً لمدارس القانون. وكان اسكندر الرابع (1254-1261) محباً للسلم، رحيماً، شفيقاً عادلاً "أدهش العالم بعده على الاستبداد"(134) ومعارضته لصفات أسلافه العسكرية"(135)، بفضل التقى عن السياسة، وقد مات "كسير القلب" كما يقول مؤرخ فرنسسكاني "ولم ينقطع يوماً عن التفكير فيما بين المسيحيين من نزاع متزايد رهيب"(136)، وعاد كلمنت الرابع (1265-1268) إلى امتشاق الحسام، ودبر هزيمة مانفرد Manfred، وقضى على أسرة هو هنستاوفن وعلى ألمانيا الإمبراطورية. ولما استعاد اليونان مدينة القسطنطينية تعرض الاتفاق القائم بين الكنيسة اليونانية والرومانية لخطر الزوال، ولكن جريجوري العاشر (1271-1276) استحق جمد ميخائيل بليجوس Miehael Palealogus بمقاومته مطامع شارل دوق أنجو في الاستيلاء على القسطنطينية، فلما عاد إمبراطور الروم إلى ملكه أخضع الكنيسة اليونانية إلى روما، وعادت البابوية إلى ما كانت عليه من تفوق.
قصة الحضارة ج16 ص67)
 
المسيحية تنهار فماذا كان دور الاسلام في ذلك
لاشك انه كان هائيلا والامر يحتاج باحثين جادين للحصول على ادلة محسوسة وهاانا اضع لكم بعض الخطوط العريضة
تأثيرات كثيرة عملت على انهيار الكنيسة ولاشك ان الاسلام له تأثير عريق وعميق
:"وصارت الحملة على رجال الدين سيلاً جارفاً في آخر القرن الثاني عشر ...وجاءت من بلاد الإسلام كراهية الصور والاشمئزاز من القساوسة، وأعقب الحروب الصليبية واخفاقها شك خفي فيما يعزي إلى الكنيسة المسيحية من أصل قدسي ومعونة إلهية. وجاء البوليسيون paulicians إلى إيطاليا وبروفانس عن طريق بلاد البلقان فارين نحو الغرب من وجه الاضطهاد البيزنطي، يحملون معهم سخريتهم من الصور المقدسة والعشاء الرباني، ورجال الدين، وقسّموا إلى عالم روحي...وتكونت طائفة البجوميل bogomiles (أي أصدقاء الله) في بلغارية، وتسّموا فيها بهذا الاسم، وانتشروا في البوسنة بنوع خاص، وهو حموا بالسيف والنار في أوقات مختلفة في القرن الثالث عشر، واستماتوا في الدفاع عن أنفسهم، ثم استسلموا آخر الأمر (1463) للإسلام لا للمسيحية...وظهرت في عام 1000 شيعة في طولوز (طلوشة) وأورليان، تنكر المعجزات وقدرة التعميد على غسل الذنوب ووجود المسيح في القربان المقدس، وتأثير الصلوات للقديسين. وأغفل أمرهم على إلى حين، ثم حوربوا، وأحرق ثلاثة عشر منهم أحياء في عام 1023. ونشأت شيع ملحدة أخرى شبيهة بهم، وأعقبت نشأتهم اضطرابات في كمبريه، ولينج (1025)، وجسلارGoslar (1052) وسواسون Soissons (1114)، وكولوني (1146)، وغيرها من المدن، أحصى منها برثلد الرجنزبرجي Bcrthold of regensburg مائة وخمسين شيعة في القرن الثالث عشر...ونادت طائفة أخرى بأن الكنيسة هي المرأة الحمراء المذكورة في سفر الرؤيا (5). وصدر في عام 1148 قرار بحل هذه الجماعة، وقبل إنوسنت الثالث في الكنيسة عام 1206 فئة منها هي فئة "الكاثوليك الفقراء"، أما كثرتها الغالبة فقد أصرت على آرائها الخارجة على الدين، وانتشرت من فرنسا إلى أسبانيا وألمانيا. وأصدر مجلس عقد في طولوز عام 1229، ليقاوم في أغلب الظن انتشار هذه الشيعة، قراراً يقضي بألا يمتلك شخص من غير رجال الدين كتباً مقدسة عدا كتب التراتيل والأدعية (ومعظمها مزامير )، وحرم عليهم أن يقرءوا هذه الكتب بغير اللغة اللاتينية، لأن الكنيسة لم تكن حتى ذلك الوقت قد بحثت أية ترجمة إلى اللغات القومية وأيدت صحتها (6). ولما قاومت حركة القضاء على الألبجنسيين حرق آلاف من أتباع ولدو؛ ومات بطرس نفسه في بوهيميا في عام 1217، ويبدو أنه مات ميتة طبيعية.
وقبل أن ينتصف القرن الثاني عشر كانت بلدان أوربا الغربية معششاً للشيع الملحدة، حتى قال أحد الأساقفة في عام 1190 إن "المدن ملآى بأولئك الأنبياء الكاذبين"(7)، وكان في ميلان وحدها سبعة عشر ديناً جديداً، وكان أهم الشيع الملحدة فيها شيعة البتريائيين Pararines - ويبدو أن اسمهم مشتق من بتاريا Pataria أحد الأحياء الفقيرة في البلدة. ويلوح أن هذه الحركة بدأت احتجاجاً على الأغنياء، ثم استحالت حركة ضد رجال الدين، وأخذت تندد بالرشا وبيع المناصب الكهنوتية، وثراء رجال الدين وزواجهم، وانتشار التسري بينهم، واقترحت كما قال أحد زعمائها "أن تصادر أموال رجال الدين، وأتباع أملاكهم بالمزاد، فإذا قاوموا فلتبح بيوتهم للنهب، "وليطردوا هم وأبناؤهم غير الشرعيين من المدينة"(8). ونشأت شيع مثلها ضد رجال الدين في فيتربو Viterbo، وأرفيتوOrvieto وفيرونا Verona ، وفرارا Ferrara وبارما parma وبياسنزا Piacenza، وريميني Rimini ...(9)، وكانت هذه الشيع في بعض الأوقات هي المسيطرة على الجمعيات الشعبية، والمستولية على زمام الحكم ، وبلغ من سلطانها أن فرضت الضرائب على رجال الدين لتمويل المشروعات المدنية(10). وأمر إنوسنت الثالث مندوبه في لميارديا أن يستقسم جميع موظفي البلديات ألا يعينوا أحداً من الملاحدة في أية وظيفة أو أن يوافقوا على أي تعيين من هذا القبيل. وثار الغوغاء في مدينة ميلان عام 1273 وأخذوا "يجهرون بأقوال التجديف والسباب"، ودنسوا عدة كنائس "بالأقذار التي نستنكف عن ذكرها"(11).
وكانت أسماء مختلفة تطلق على الشيع الملحدة كلها، فكانت تسمى شيعة الكاثارى، وهذا اللفظ مشتق من كلمة يونانية معناها "الطاهر". أو البلغاري نسبة إلى أصلهم (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة "بجر Bugger" للسباب)، والألبجنستين نسبة إلى بلدة ألبي Albi التي كانوا يكثرون فيها بنوع خاص. وكانت مدائن منبليه، ونربونه ومرسيليا المراكز الفرنسية للشيع الملحدة، ولعل منشأ هذا هو اتصالها بالمسلمين واليهود، وتردد التجار من مراكز الإلحاد في البوسنة، وبلغاريا، وإيطاليا. ونشر التجار حركة الإلحاد في طولوز، وأرليان، وسواسون، وأراس، وريمس، ولكن لانجويدك Languedoc وبروفانس بقيتا حصتها الحصين. وكانت حضارة العصور الوسطى الفرنسية قد بلغت ذروتها في هاتين المقاطعتين، فكان أتباع الأديان الكبرى يختلفون فيهما متحابين كما يتحاب أهل الحضر المهذبون.
وكانت حساناً مزهوات، والأخلاق طليقة من القيود، وكان الشعراء الغزليون ينشرون الأفكار المرحة، وكان عصر النهضة وشيك البدء فيهما كما كان وشيك البدء في إيطاليا أيام فردريك. وكانت فرنسا الجنوبية تتألف وقتئذ (1200) من إمارات تكاد تستقل كل منها بشئونها لا يربطها بالولاء إلى ملك فرنسا إلا رباطٍ واه. وكان نبلاء طولوز هم أعظم السادة في ذلك الإقليم، فقد كانوا يملكون من الأراضي أكثر من أملاك الملك الخاصة. وكانت عقائد الكاثارى وشعائرهم من ناحية عودة إلى العقائد والأساليب المسيحية الأولى، وكانت ناحية أخرى ذكرى غامضة للإلحاد الأريوسي الذي انتشر في فرنسا الجنوبية في عهد القوط الغربيين، ومن ناحية ثالثة نتيجة للآراء المانوية وغيرها من الآراء الشرقية...ويتقسم فلسفة الكاثارى الدينية الكون كما يقسمه المانوية إلى الخير: اللّه والروح، والسماء، والشر، الشيطان،والمادة ، والعالم المادي. وتقول إن الشيطان لا اللّه هو الذي خلق العالم المرئي. وهي تعد المادة كلها شرا بما فيها الصليب الذي مات عليه المسيح والقربان المقدس، وتقول إن المسيح لم يكن يتحدث إلا مجازاً حين قال عن الخبز : "هذا جسمي"(13). وإذا كانت الأجسام كلها من المادة فإن كل اتصال بها يدنس المتصل، وكل الاتصال الجنسي إثم،وكان الجماع هو خطيئة آدم وحواء(14). ويصف أعداء الألبجنسيين أولئك القوم بأنهم يرفضون العشاء الربا،والقداس، وتعظيم الصور المقدسة، والتثليث، ولا يؤمنون بأن المسيح ولد من عذراء، وعندهم أن المسيح من الملائكة، ولكنه ليس هو اللّه. ويقال عنهم إنهم ينكرون الملكية الخاصة، ويأملون أن تقسم الطيبات بين الناس بالتساوي (15). وقد اتخذوا "عظة الجيل" أساساً لمبادئهم الأخلاقية ؛ وكانوا يعملون أن يحبوا اعداءهم، وأن يعنوا بالمرضى والفقراء، وألا يقسموا قط، وأن يستمسكوا على الدوام بالسلم ؛ وكان يقال لهم إن العنف يتنافى مع الخلق الكريم،ولو كان موجهاً للكفار، وإن عقوبة الإعدام من أكبر الجرائم، وإن على الإنسان أن يوقن وهو مطمئن أن اللّه سينتصر آخر الأمر على الشر من غير أن يستخدم وسائل شريرة(16). ولم يكن في هذه الفلسفة الدينية نار ولا مطهر، بل إن كل نفس ستنجو بعد أن تتقلب في عدة أدوار من التناسخ تطهرها من آثامها. ولا بد للإنسان أن يموت وهو طاهر لكي يصل إلى السماء؛ ولهذا كان عليه أن يتلقى من قس مسيحي القداس الأخير الذي يتم تطهير الروح من آثامها. وكان الكثاريون المؤمنون يؤجلون هذا القداس (كما كان بعض المسيحيين الأولين يؤجلون التعميد) إلى مرضهم الأخير في ظنهم ، وكان الذين يشفون من هذا المرض يتعرضون لخطو الدنس من جديد، وللموت دون أن يقوموا بمراسيم القداس الأخير، ولهذا كان من أكبر البلايا أن يشفى الشخص من مرضه بعد أن يقوم بمراسيمه. وكان القساوسة الألبجنسيون يتهمون بأنهم يعملون لمنع هذه الكارثة بإقناع الكثيرين من المرضى الذين يشفون بأن يميتوا أنفسهم جوعاً ليرقوا إلى السماء. ويؤكد لنا أعداؤهم أنهم كانوا في بعض الأحيان يميتون المريض خنقاً برضاه حتى لا يكون ثمة مجال لاحتمال شفائه من مرضه الأخير(17).
ولقد كان يسع الكنيسة أن تترك شيعة الكاثارى تقضى بنفسها على نفسها، لولا أن هذه الطائفة أخذت توجه سهام النقد إلى الكنيسة. فقد أنكرت أن الكنيسة كنيسة المسيح. وقالت إن القديس بطرس لم يأت قط إلى رومة، ولم يؤسس
البابوية، وإن البابوات خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل، وإن المسيح لم يجد له مكاناً يضع فيه رأسه، أما البابا فيسكن قصراً منفياً، وإن المسيح لم يكن له ملك ولا مال ولكن كبار رجال الدين المسيحيين من ذوي الثراء العريض، وما من شك - كما يقول الكاثارى - في أن رؤساء الأساقفة، والأساقفة، ذوي الأملاك الواسعة، والقساوسة الدنيويين، والرهبان قسمان؛ هم الفريسيون Pharisees (الزنادقة)الأقدمون عادوا إلى الحياة من جديد ! ولم يكونوا يشكون في أن الكنيسة الرومانية هي "زانية بابل"، وأن رجال الدين هم زمرة الشيطان، وأن البابا هو المسيح الدجال(18). وكانوا ينددون بالداعين إلى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتله(19)، وكان الكثيرين منهم يستهزئون بصكوك الغفران والمخلفات المقدسة. ويقال إن جماعة منهم صوروا العذراء في صورة قبيحة، عوراء، مشوهة الجسم، وادعوا أنهم يفعلون بهذه الصورة المعجزات ، وإن كثيرين من الناس آمنوا بقوة هذه الصور ة الزائفة، ثم كشفوا هم أنفسهم آخر الأمر عن سخريتهم(20). ونشرت كثير من آراء الكاثارى عن طريق الأغاني التي يذيعها شعراء الفروسية الغزلون، ولم يكن هؤلاء ممن تعجبهم تعاليم المسيح الأخلاقية وإن لم يعتنقوا آراء الشيعة الجديدة . غير أن جميع زعماء هذه الطائفة من الشعراء كانوا يعدون من أنصار الألبجنسيين، فقد كانوا يسخرون من الحج، والاعتراف، والماء المقدس، والصليب، وكانوا يسمون الكنائس "معششات اللصوص"، كما القساوسة الكاثوليك في رأيهم "خونة، كاذبين، منافقين"(21).
وظل رجال الدين والسلطة الزمنية في فرنسا الجنوبية حيناً من الدهر يبدون الكثير من التسامح مع طائفة الكاثارى، ويلوح أنهم أجازوا الجمهرة الشعب أن تختار بملء حريتها بين الدينين القديم والجديد(22). وعقدت مجالس عامة تتنافس فيها فقهاء الكاثارى والكاثوليك ، منها واحد عقد في كاركسون Carcassonne حضرة مندوب من قبل البابا وآخر من قبل بجر والثاني ملك أرغونة (1204). وكذلك عقدت عدة فروع مختلفة من الكاثارى مجلساً من رجال دينها في عام 1176، وحضرة ممثلون لهذه الفروع من بلاد مختلفة. وتباحث المجتمعون في عقائد هذه الشيعة ؛ ونظمها؛ وشئونها الإدارية، ووضعت قواعد تسير بمقتضاها، وانفض المجتمعون دون أن يتعرض لهم أحد(23). وفوق هذا فإن الأشراف رأوا أن من الخير لهم أن يضعفوا سلطات الكنيسة في لانجويدك، ذلك أن هذه الكنيسة كانت واسعة الثراء تمتلك الكثير من الأرض، على حين الأشراف كانوا إذا قيسوا إليها فقراء، ولهذا شرعوا ينتزعون بعض أراضيها. وحدث في عام 1171 أن هاجم فيكونت بيزيير Beziers ديراً من الأديرة، وزج أسقف ألبى Albi في السجن ، وعين أحد الخارجين على الدين لحراسته. ولما أن اختار رهبان آلية Allet رئيساً عليهم ممن لا يرضى عنهم الفيكونت أحرق الدير وزج بالرئيس في السجن. فلما مات السجين نصب الفيكونت المرح جثته في المنبر، وأرغم الرهبان على أن يختاروا في مكانه رئيساً يرتضيه. كذلك طرد ريمند روجر Raymond Roger كونت فوا foix رئيس دير باميير Pamiers ورهبانه من ديرهم ، وأطعم خيله الشوفان من فوق من فوق المذبح، وأستخدم جنوده أذرع الصلبان التي عليها صورة المسيح مصلوباً وأرجلها مدقات لطحن الحبوب، واتخذوا صورة المسيح هدفاً للتدريب على الرماية. وهدم ريمند كونت طولوز عدداً من الكنائس، واضطهد رهبان مواساك Moissac، وطرد من حظيرة الدين (1196)، ولكن الحرمان الديني كان وقتئذ أمراً لا قيمة له في نظر الأشراف المقيمين في فرنسا الجنوبية، واعتنق الكثيرون منهم آراء الكاثارى الإلحادية، أو بسطوا على معتنقيها حمايتهم(24).
ولما جلس إنوسنت الثالث على كرسي البابوية في عام 1198 رأى في هذه التطورات خطراً محدقاً بالكنيسة والدولة جميعاً. لقد كان يرى بعض العذر فيما يوجه إلى الكنيسة من نقد، ولكنه كان يحس بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين ، يرى هذا الصرح الديني العظيم الذي وضع له أكبر الخطط، وعقد عليه أنبل الآمال، والذي بدا له أقوى عاصم من العنف البشرى، والفوضى الاجتماعية، ومن ظلم الملوك-، يرى هذا الصرح يهاجم منأساسه، وتغتصب ممتلكاته، وتهان كرامته، ويتعرض لضرب السخرية والتجديف. لقد ارتكبت الدولة هي أيضا كثيراً من الذنوب، واحتضنت الفساد والموظفين الفاسدين، ولكن البلهاء وحدهم هم الذين يرغبون في القضاء عليها. وهل يستطاع إقامة نظام اجتماعي دائم على المبادئ التي تنهى عن الأبوة، وتدعو إلى الانتحار وهل يفلح نظام اقتصادي يمجد الفقر ويخلو من كل ما في الملكية من حافز إلى السعي والعمل؟ وهل يستطاع إنقاذ العلاقات الجنسية بين النساء والرجال. وتنشئة الأطفال، من الفوضى الوحشية إلا بنظام كنظام الزواج. وقد بدأت عقائد الكاثارى لإنوسنت كأنها خليط من السخف، نفشت فيها سذاجة الجماهير سما زعافاً؟ وما فائدة حرب صليبية توجه إلى المسلمين في فلسطين إذا ظل هؤلاء الألبجنسيون يتضاعفون في قلب العالم المسيحي نفسه؟
وكتب إنوسنت بعد شهرين من توليته إلى رئيس أساقفة أوتش Auch في غسقونية يقول :
إن قارب القديس بطرس الصغير تتلقفه العواصف وتتقاذفه أمواج البحر، ولكن أشد ما يحزنني ويقض مضجعي... أن قامت في هذه الأيام فئة لم نر لها فيما مضى مثيلا في تحررها من جميع القيود وفي شدة أذاها، قد ارتكبت أخطاء لا يرتكبها إلا الشياطين ، وأخذت توقع نفوس السذج من الناس في حبائلها، وتفسد بخرافاتها وبدعها الكاذبة معاني الكتاب المقدس ، وتحاول أن تهدم وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وإذ كان... هذا الوباء قد أخذ ينتشر في غسقونية والأقاليم المجاورة لها، فإنا ندعوكم أنتم والأساقفة زملاءكم إلى مقاومته بكل ما أوتيتم من قوة... وقد أصدرنا إليكم هذا الأمر القوي النافذ أن تقضوا على هذه الفئات الملحدة بكل ما تستطيعون من الوسائل، وأن تخرجوا من
أسقفيتكم كل من أصابهم دنسها... وفي وسعكم إذا اضطررتم أن تجعلوا الأمراء والشعب يقضون عليهم بحد السيف ويبدو أن رئيس أساقفة أوتش - وهو رجل متسامح مع غيره كما هو متسامح مع نفسه - لم يقم بالعمل الذي تدعوه هذه الرسالة إلى القيام به، أما رئيس أساقفة تربونة وأسقف بيزيير فقد قاوما المندوبين اللذين عينهما إنوسنت لينفذا أوامرهم وحدث حوالي ذلك الوقت أن اعتنقت ست سيدات تتزعمهن أخت كونت فواه مبادئ الكاثارييين، وكان ذلك في احتفال عام شهده كثير من النبلاء، فما كان من إنوسنت إلا أن استبدل بمندوبيه المحققين مندوباً آخر أشد منهم بطشاً وأمضى عزيمة ، وكان هذا المندوب هو أرنود Arnaud رئيس الرهبان السسترسيين (1204) ومنحه قوات غير عادية تجيز له أن يفحص ويحقق في جميع أنحاء فرنسا. وأمره أن يعرض على ملك فرنسا وأشرافها عفواً شاملا لكي يساعدوه في القضاء على شيعة الكاثارى الملحدة، ثم عرض البابا على فليب أغسطس فضلا عن هذا أن يمنحه نظير هذه المساعدة جميع الأراضي التي يمتلكها من يأبون الانضمام إلى حملة صليبية ضد الألبجنسين(26). لكن فليب تردد في قبول هذا العرض لأنه كان قد أتم قبيل ذلك الوقت فتح نور مندية، وكان في حاجة إلى متسع من الوقت يهضم فيه هذا الكسب الجديد. ووافق ريمند السادس صاحب طولوز أن يستخدم طريقة الإقناع مع الملحدين، ولكنه أبى أن يشترك في تشن عليهم، فما كان من إنوسنت إلا أن أصدر عليه قرار الحرمان، فلما وعد ريمند بأن يجيب البابا، عاد إلى التباطؤ والإهمال، وقال أحد الفرسان الذين أمرهم مندوب الباب بطرد الكاثارى من أرضه، "كيف نفعل هذا وقد نشأنا مع هؤلاء القوم ومنهم بعض أهلينا، ونراهم يعيشون بيننا معيشة الصالحين؟"(27). وأقبل على القوم القديس دمينك من أسبانيا، وأخذ يخطب داعياً إلى مسالمة الزنادقة، وعاد بعضهم إلى الدين القويم متأثرين بتقواه وصلاحه(28). ولعل المشكلة كانت بهذه الطريقة يصاحبها إصلاح شأن رجال الدين لو لم يقتل بيير ده كاستلنو Pierre de Castelnau أحد مندوبي البابا بيد فارس بسط عليه ريمند بعدئذ حمايته(29). وكان إنوسنت قد رأى جهوده التي بذلها نحو عشر سنين طوال ضد هذه الطائفة الملحدة تبوء بالخيبة، فلجأ إلى أساليب العنف الشديد، وحرم ريمند ومحرضيه من الكنيسة، وأصدر قرار التحريم ضد الأراضي الخاضعة لهم ، وعرض هذه الأراضي على كل مسيحي يستطيع القبض عليهم، ودعا المسيحيين في جميع أقطار العالم إلى حرب صليبية ضد الألبجنسيين ومن يحمونهم. وأجاز فليب أغسطس لكثيرين من بارونات مملكته أن يتطوعوا في هذه الحرب، وجاءت فصائل من ألمانيا وإيطاليا. ووعدت جميع من يشتركون في هذه الحرب بالغفران الشامل الذي وعد به من يحملون الصليب للقتال في فلسطين. وطلب ريمند المغفرة، وكفر عن ذنبه علنا (ضرب بالسوط وهو نصف عار في كنيسة القديس جيل St. Gills) ونال المغفرة للمرة الثانية واشترك في الحرب المقدسة (1209).
وقاوم معظم سكان لانجويدك، خاصتهم وعامتهم على السواء، أولئك الصليبيين، لأنهم رأوا في هجوم أشراف الشمال وجنوده المغامرين محاولة تبغي الاستيلاء على أرضهم تحت ستار الغيرة الدينية، بل إن المسيحيين الصادقين من أهل الجنوب قاوموا غارات أهل الشمال(30). ولما اقترب الصليبيون من بيزيير عرضوا عليها أن يجنبوها ويلات الحرب إذا ما سلمت إليهم جميع الملحدين الذين دون أسقفها أسماءهم، ولكن زعماء المدينة رفضوا هذا العرض وقالوا إنهم يفضلون أن يضرب عليهم الحصار حتى يضطروا إلى أكل أطفالهم فما كان من الصليبيين إلا أن تسلقوا أسوار المدينة، واستولوا عليها، وقتلوا من أهلها عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز بينهم، وحتى الذين احتموا منهم بالكنيسة لم ينجو من القتل
قصة الحضارة ج16 ص75-87)
 
الامبراطوريات المسيحية تحرق المعارضين ومن قبلهم فعل الهمج
ثم تداعت الامور حتى نشأة محاكم التفتيش
"وكان الشعب نفسه، إلا في جنوبي فرنسا وإيطاليا، أشد الناس حماسة في اضطهاد المخالفين، وقد يكون هذا لأن الشعب نفسه يعتنق آراء رجال الدين السالفة الذكر دون أن تكون دون لها في ذهنه صورة واضحة لها، أو لأن النفوس الساذجة تخشى بفطرتها كل مخالف وغريب، أو لأن الناس يسرهم أن يطلقوا في غمار الجماهير المجتمعة المجهولة العنان لغرائزهم المكبوتة بسبب ما عليهم من التبعات بوصفهم أفراداً. وأيا كان السبب فإن "الغوغاء أنفسهم قد عاقبوا الضالين قبل أن تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل"(41) بل لقد كان الأهلون المتدينون يشكون لين الكنيسة المفرط مع الضالين(42)، وكانوا في بعض الأحيان "يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم"(43)، وشاهد ذلك ما كتبه قس من فرنسا الشمالية إلى إنوسنت الثالث يقول: "لقد بلغ من تقوى الناس هذه البلاد أنك لا تراهم على استعداد لأن يبعثوا إلى موضع الحرق بمن ثبت ضلالتهم فحسب، إنهم ليبعثون إليه فوق ذلك بكل من يظنونه ضالا"(44)، وحدث في عام 1114 أن زج أسقف سواسون ببعض الضالين في سجن، لكن العامة انتهزوا فرصة غيابهم "خافوا أن يصطنع رجال الدين معهم "فهجموا على السجن وجردوا الضالين منه وحرقوهم أحياء(45). وأصر العامة في ليبج عام 1144 على أن يحرق بعض الضالين الذين كان الأسقف أدلبرو Adlbero لا يزال يأمل في هدايتهم(46). ولما قال بيير ده بروي Birre de Bruys "إن القساوسة يكذبون حين يدعون أنهم يصنعون جسم المسيح" (وهم يصنعون القربان المقدس) وأحرق كومة من الصلبان في يوم الجمعة الحزينة، قتله العامة في مكانه وأحرقوه لساعته
...كان الرأي العام بين الطبقات العليا - مع استثناء لانجو يدك مرة أخرى - يطلب إلى الدولة أن تقضي على الضلال مهما كفها ذلك...أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا (1194) أن ينزل بالضالين أشد أنواع العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر أتو الرابع (1210)، ولويس الثامن ملك فرنسا (1226)، وأصدرت مدينتا فورنس (1227) وميلان (1228)، مراسيم شبيه بمرسوم هنري. وكان أشد قوانين والاضطهاد هو القانون الذي سنه فردريك الثاني فيما بين عامي 1220 و 1239 وقضى بأن يسلم الضالون الذين تحكم عليهم الكنيسة إلى " اليد الزمنية - أي إلى ولاة الأمور المحليين - وأن يحرقوا أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من حق الاختبار إلى أي منصب ذي دخل أو كرامة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين . وقضى القانون بأن تحرق بيوت الضالين ولا يعاد بناؤها قط(51). وأضاف لويس التاسع الرقيق الظريف أحكاماً شبيهة بهذه الأحكام إلى قوانين فرنسا والحق أن الملوك هم الذين كانوا ينازعون الشعب فضل البداية في اضطهاد الضالين. وحسبنا أن نذكر غير ما سبق أن روبرت ملك فرنسا أمر بإحراق ثلاثة عشر ضالاً في أورليان عام 1022؛ وكان هذا أول حادث معروف من حوادث إعدام الضالين بعد إعدام برسليان priscilian بأيدي السلطات الزمنية في عام 385. وبعد ذلك شنق هنري الثالث إمبراطور ألمانيا عدداً من المانويين أو الكاثاريين في جسلار غير عابئ باحتجاج وازو Wazo أسقف ليبج وقوله إن في الحرمان من الدين عقاباً كافياً للضالين(52). وفي عام 1183 "بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هو ورئيس أساقفة ريمس "عدداً كبيراً من النبلاء، ورجال الدين، والفرسان ، والفلاحين، والفتيات، والنساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أحرقوا وهم أحياء بعد أن صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما".
وكان البحث عن الضالين قبل القرن الثالث عشر يترك في الأحوال العادية للأساقفة. وإنا ليصعب علينا أن نسمي هؤلاء الأساقفة باحثين، لأنهم كانوا ينتظرون الشائعات العامة أو الضجيج الذي يدلهم على الضالين، فيستدعونهم ولكنهم يصعب عليهم أن يحملوهم بطريق التحقيق على الاعتراف بذنوبهم. ولم يكونوا يرتضون أن يلجئوا إلى التعذيب، فكانوا لذلك يعمدون إلى طريق التحكيم الإلهي، وهم مخلصون في ظاهر الأمر في اعتقادهم أن اللّه سيرسل المعجزات لحماية البريئين. وأيد القديس برنار هذه الوسيلة ووصفها مجلس من الأساقفة عقد في ريمس (1257) بأنها إجراء عادي في محاكمة الضالين، ولكن إنوسنت الثالث حرمها. وساء البابا لوسيوس الثالث إهمال الأساقفة في محاربة الضلال، بأن يزوروا أسقفياتهم مرة في كل عام على الأقل، وأن يقبضوا على كل من تحوم حولهم الشبهات وأن يسلكوا كل من لا يقسم يمين الولاء التام للكنيسة في زمرة الضالين (وقد رفض الكاثاري أن يقسموا هذا القسم)، ثم عليهم بعد ذلك أن يسلموا هؤلاء العصاة إلى ولاة الأمور المحليين. وخول مندوبو البابا حق خلع الأساقفة الذين يتوانون في القضاء على الضلال(54). وطلب إنوسنت الثالث في عام 1215 إلى جميع ولاة الأمور المدنيين أن يقسموا علماً بأن "يبيدوا من الأراضي الخاضعة لطاعتهم جميع الضالين الذين عينتهم الكنيسة ليلقوا ما يستحقون من العقاب" فإذا لم يفعلوا هذا كانوا هم أنفسهم ضالين. وكل أمير يهمل في أداء هذا الواجب يخلع ويعفي البابا رعاياه من طاعته(55) ولم يكن " العقاب الذي يستحقونه" حتى ذلك الوقت يزيد على النفي ومصادرة الأملاك(56).
ولما ارتقى جريجوري التاسع عرش البابوية (1227) وجد أن الضلال آخذ في الازدياد رغم المحاكمات الشعبية، والحكومية، والأسقفية. فقد كانت جميع بلاد البلقان، وكان الجزء الأكبر من إيطاليا، وغير قليل من فرنسا، كانت هذه البلاد مرتعاً للزيغ والضلال، حتى لقد أضحت الكنيسة، ولما يمض على سلطات إنوسنت الرائع إلا زمن وجيز، يتهددها خطر الانقسام والتفكك. وكانت المسألة، كما يراها الحبر الطاعن في السن، أن الكنيسة وهي تقاتل فردريك والضلال في وقت واحد، إنما تقاتل في سبيل المحافظة على حياتها، وأنها يحق لها من أجل المبادئ الأخلاقية والأساليب التي تحتمها حالة الحرب. وروع جريجوري أن عرف أن الأسقف فلبو باترنون Fillippo Paterrenon الذي تمتد أسقفيته من بيزا إلى أرزو قد اعتنق مذهب الكاثاري، فعين لجنة للتحقيق يرأسها راهب من الدمنيك تعقد جلساتها في فلورنس وتقدم الضالين إلى المحاكمة (1227). وكانت هذه اللجنة في واقع الأمر بداية محكمة التحقيق البابوية، وإن كان المحققون فيها خاضعين من الوجهة الرسمية لسلطات الأسقف المحلى . فلما كان عام 1231 أدخل جريجوري في قانون الكنيسة الشرائع التي سنها فرردريك في عام 1224، وبذلك اتفقت الكنيسة والدولة من ذلك الوقت على أن الضالين الذين لا يتوبون عن ضلالهم خونة يجب أن يعاقبوا بالإعدام، وبهذا أنشئت محكمة (التفتيش) رسميا تحت سلطات البابوات.
قصة الحضارة ج16 ص92-96)
 
مرسوم كنسي بالارهاب
"وخير ما يوضح لنا الغرض من إنشاء محكمة التحقيق ودائرة اختصاصها مرسوم بابوي أصدره نقولاس الثالث (1280).
نعلن بهذا حرمان جميع الضالين ونصب عليهم اللعنة - الكاثارى، والبتارين، ورجال ليون الفقراء. ..وكل من عداهم أياً كان الاسم الذي يسمون به. فإذا أدانتهم الكنيسة وجب إسلامهم إلى القاضي الزمني لمعاقبتهم.... وإذا ما ندم واحد منهم بعد اعتقاله وأراد أن يكفر عن ذنبه، وجب سجنه مدى الحياة... وكل من يأوي الضالين، أو يحميهم، أو يساعدهم، يحرم من الدين، وإذا لم يستطع المتهمون بالضلال أن يثبتوا براءتهم، طردوا من حظيرة الدين، فإذا بقوا محرومين عاماً كاملا حكم عليهم بما يحكم على الضالين. وليس لهؤلاء حق استئناف الحكم... وكل من يمنحهم دفنة مسيحية يحكم عليه بالحرمان ويظل كذلك حتى يعمل ما يستوجب الرضا عنه.. فلا يغفر له ذنبه حتى يخرج بيده جثث المحرومين ويطرحها في العراء. ونحن نحرم على غير رجال الدين جميعهم أن يناقشوا في مسائل الدين الكاثوليكي، ومن يفعل هذا يحرم من الدين، وعلى كل من يعرف أحداً من الضالين، أو ممن يعقدون اجتماعات سرية، أو ممن لا يؤمنون بعقائد الدين القويم أياً كانت، أن يبلغ ذلك إلى من يفضي إليه باعترافه، أو إلى شخص آخر يبلغه إلى الأسقف أو المحقق، فإذا لم يفعل هذا حرم من الدين. والضالون، وكل من يأوونهم، أو يؤيدونهم، أو يساعدونهم، وكذلك أبناؤهم حتى الجيل الثاني - هؤلاء لا يسمح لهم بتولي المناصب الكنسية.. وهانحن أولاء نحرمهم جميعاً وأمثالهم من دخلهم إلى أبد الدهر
قصة الحضارة ج16 ص98)
 
اعتراف بوحشية لامثيل لها- محاكم التفتيش المسيحية ضد اهلها!
:"النتائج
لقد حققت محاكم التحقيق في العصور الوسطى أغراضها العاجلة، فقد قضت على الكثارية. فرنسا، ولم تبق من الولدنسيين إلا عدداً قليلا من المتحمسين المتفرقين في أماكن مختلفة، وأعادت جنوبي إيطاليا إلى الدين القويم، وأجلت تمزق المسيحية الغربية مدى ثلاثة قرون. وبها انتقلت زعامة أوربا الثقافية من فرنسا إلى إيطاليا، ولكن الملكية الفرنسية المطلقة، بعد أن قويت باستيلائها على لانجويدك، بلغت من السلطان مبلغاً استطاعت به أن تخضع البابوية لأمرها في أيام بنيفاس الثامن، وأن تزجها في السجن في عهد كلمنت الخامس. في عام 1268، وبهذا كان انتصار الكنيسة في إيطاليا نصراً حاسماً في ظاهر الأمر.
ولم تثبت محكمة التحقيق قدمها في إنجلترا. نعم إن هنري الثاني حرص على إثبات تمسكه بدينه في أثناء نزاعه مع بكت بأن جلد واحداً وعشرين من الضالين وكواهم بالنار في أكسفورد عام 1266 (84). ولكننا لا نكاد نسمع عن ضلالة في إنجلترا قبل أيام ويكلف Wycalf. وفي ألمانيا ترعرعت محكمة التحقيق وأقدمت على أعمال جنونية زمناً قصيراً، ثم ماتت. فقد حدث في عام 1212 أن أحرق هنري أسقف أسترسبرج ثمانين ضالاً في يوم واحد، وكان معظمهم ولديين،وأعلن زعيمهم القس يوحنا عدم إيمانه بالغفران، وبالمطهر، وببقاء رجال الدين بلا زواج، وقال إن رجال الدين يجب إلا تكون لهم أملاك. وفي عام 1227 عين جريجوري التاسع كنراد Gonard قس ماربرج Marburg رئيساً لمحاكم التحقيق في ألمانيا وأمره ألا يكتفي بالقضاء على الضلال ، بل أن يصلح أحوال رجال الدين بعد أن وصمهم البابا بالفساد، وقال إن فسادهم هو أهم أسباب ضعف الإيمان بين الناس. واضطلع كنراد بكلا الواجبين بمنتهى القسوة، وخير كل من اتهموا بالضلال بين واحدة من اثنتين: إما الاعتراف فالعقاب، أو الإنكار فالموت حرقاً. ولما أن سار في إصلاح رجال الدين على هذا النحو من الجد، انضم المتمسكون بدينهم والضالون بعضهم إلى بعض في مقاومته، وانتهى الأمر بأن قتله أصدقاء ضحاياه (1233)، وتولى الأساقفة الألمان أعمال محاكم التحقيق، وخففوا من غلوائها، وجعلوا إجراءاتها أقرب إلى العدالة من ذي قبل. وبقيت بعض الشيع الدينية، بعضها شيع ضالة وبعضها صوفية، بوهيميا وألمانيا، ومهدت السبيل إلى هوس Huss ولوثرLuther.
وبعد فإنا حين نصدر حكماً على محاكم التحقيق يجب أن ننظر إليها على ضوء عصر اعتاد الوحشية، ولعل عصرنا الحاضر الذي قتل في الحروب وأزهق من الأرواح البريئة دون أية محاكمة، أكثر من أمثالهم بين أيام قيصر ونابليون، أقدر من غيره على فهم هذه المحاكم. إن التعصب يلازم الإيمان القوي على الدوام، والتسامح لا ينشأ إلا حين يفقد الإيمان يقينه، أما اليقين فسيف بتار. ولقد أقر أفلاطون التعصب في "قوانينه"، وأقره المصلحون في القرن السادس عشر، وإن بعض من ينتقدون محكمة التحقيق ليدافعون عن أساليبها إذا جرت عليها الدول الحديثة. ولقد تضمنت قوانين كثير من الحكومات الأساليب التي سارت عليها محاكم التحقيق، ولعل ما يحدث من تعذيب المشتبه فيهم سراً في هذه الأيام يسير على نمط محاكم التحقيق أكثر مما يسير على نمط القانون الروماني. وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من 1227 إلى 1492، وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة القرون الأولى بعد المسيح، حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذاك. وإذا ما أسقطنا من حسابنا كل ما يطلب إلى المؤرخ من اعتدال في حكمه، وما يسمح به للمسيحي من تمسك بدينه. إذا أسقطنا من حسابنا هذا وذاك، فلا بد لنا أن نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لا نعرف لها نضيراً عند أي وحش من الوحوش.
قصة الحضارة ج16 ص104-106)
 
ثراء مالي للرهبان في العصور الاوروبية الوسطى المظلمة!
"وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان سخاء الشعب مصدراً لما كان ينغمس فيه الرهبان أحياناً من ترف. ولنضرب لذلك مثلا دير القديس ركوبيه St. Riquier، ولم يكن من أغنى الأديرة ولكنه كان له 117 تابعاً يملكون 2500 بيت في البلدة التي كان قائماً فيها، ويحصل من مستأجريها على العشرة آلاف دجاجة وعشرة آلاف ديك مخصى مسمن، وخمسة وسبعين ألف بيضة، وعلى نقدي معتدل لكل فرد ولكنه في مجموعة كبيرة(8). وثمة أديرة من هذا الدير ثراءاً وهي أديرة مونتي كسينو Monte Cassino، وكلوني Cluny وفلدا Fulda، والقديس جول St. Gall، والقديس دنيس St. Denis. وكان رؤساء الأديرة أمثال سوجر Suger رئيس القديس دنيس، وبطرس المبجل رئيس دير كلوني، وحتى سامسون
Samson رئيس دير القديس إدمند في بيوري، كان هؤلاء الرؤساء سادة أقوياء عظماء أصحاب ثروات مادية طائلة وسلطان سياسي واجتماعي عظيم
قصة الحضارة ج16 ص109
واضاف
:"إن الأخلاق تفسد كلما زاد الثراء، وفطرة الإنسان تظهر كلما أمكنتها موارده من الظهور، وفي كل جماعة كبيرة أيا كان نوعها يوجد أفراد هم أقوى من إيمانهم. ولقد ظلت كثرة الرهبان مستمسكة بالقواعد التي ارتبطت بها وفيه لها، ولكن أقلية منهم أخذت تنظر إلى العالم وإلى شئون الجسم نظرة أكثر ليناً. وكان رئيس الدير في كثير من الأحيان يعينه سيد إقطاعي أو ملك ويختاره من طبقة تعودت الراحة، ولم يكن هؤلاء الرهبان يتقيدون بقيود الأديرة، فكانوا يستمتعون بالصيد، والقنص، وألعاب الفروسية، وينغمسون في السياسة، وسرت عدواهم إلى الرهبان أنفسهم. وها هو ذا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis يصور لنا حياة رئيس دير إفشام Evesham بصورة مروعة فيقول: "لم يكن أحد بمنجاة من فجوره"، وكان، جيرانه يخصون له ثمانية عشر ولداً، وكان لا بد من خلعه آخر الأمر(11). وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان، الأغنياء، الأقوياء، هدفاً لسخرية الشعب وتشهير الأدباء
 
الدومينيكان واشتراك في محاكم التفتيش او مقدماتها في التحقيق
القديس دمنيك ولد في قشتالة (1170)
أصبح قساً أغسطينياً نظامياً في كنيسة أسما Osma، وصحب أسقفها في عام 1201 في بعثة تبشيرية إلى طولوز
مات في بولونيا عام 1220
:"وانتشر الدمنيكيون...واضطلعوا في أعمال محاكم التحقيق بدور نشيط لم يكن على الدوام مشوباً برقة القلب، وعينهم البابوات في مناصب رفيعة وأرسلوهم في بعثات دبلوماسية خطيرة
قصة الحضارة ج16 ص143)
 
غواية راهبات!
"ولقد رأى ثيودور رئيس أساقفة كنتربي وإجبرت أسقف يورك من الواجب عليهما أن يحرما على رؤساء الأديرة، والقساوسة، والأساقفة غواية الراهبات(80). وكتب إيفيو Ivo أسقف تشارتر (1035-1115) يقول إن بعض راهبات دير القديسة فارا Fara يحترفن الدعارة، ويرسم أبلارا (1079-1142) صورة شبيهة بهذه الصورة لبعض الأديرة الفرنسية القائمة في أيامه، ووصف إنوسنت الثالث دير أجاثا Agatha بأنه ماخور انتشرت عدوى فساد الحياة فيه وسوء سمعته في جميع أنحاء الإقليم المجاور له(81). ويرسم ريجو Rigaud أسقف رون (1249) صورة طيبة بوجه عام للطوائف الدينية المنتشرة في أسقفيته، ولكنه يتحدث عن دير من أديرة النساء فيه ثلاث وثلاثون راهبة وثلاث أخوات من غير الراهبات وجدت منهن ثمان يحترفن الفسق أو يشتبه في إنهن يحترفنه، "ولا تكاد رئيسة الدير تبتعد عن الخمر ليلة واحدة"(82). وحاول بنيفاس الثامن (1300) أن يرقى بقواعد الآداب التقليدية في الأديرة فأمر بالتشديد في عزلة الراهبات عن العالم، ولمن أمره هذا لم يكن في الإمكان تنفيذه(83)، ولما جاء الأسقف ليودع هذا القرار في أحد أديرة النساء في أسقفية لنكلن Lincolin قذفت الراهبات به رأسه، وأقسمن أنهن لن يطعنه قط(84)، أكبر الظن ان هذه العزلة لم تكن مما نص عليه في قسمهن، ولم يكن لرئيسة الدير الواردة في أقاصيص تشوسر عمل تقوم به لأن الكنيسة حرمت على الراهبات أن يخرجن حتى للحج...ولقد كانت دساتير الأديرة في كثير من الحالات قاسية قسوة تخرجها عن طاقة البشر، وكانت خليقة بالخروج عليها. من ذلك أنه يتطلب إلى الراهبات الكرثوزيات، والسترسيات إن يلتزمن الصمت فلا يتكلمن إلا إذا لم يكن من الكلام بد - وذلك قيد شديد على الجنس اللطيف.
قصة الحضارة ج16 ص149-150)
 
البابا الفاسد الخلق والمتغطرس
البابا بنيفاس الثامن
اطلق عليه ديورانت لقب البابا المنكود (ص159)
:"فإنه لما أختير بنيفاس الثامن بابا في عام 1294 كانت البابوية لا تزال أقوى الحكومات الأوربية، وأحسنها تنظيماً، وخيرها إدارة، وأنماها موارد. وكان من سوء حظ الكنيسة، في هذا الوقت العصيب الذي أوشك أن يختم به قرن من القوة والتقدم، أن جلس على أقوى العروش في العالم المسيحي رجل كان له من فساد الخلق، والغطرسة الشخصية والحرص على السلطان حرصاُ خالياً من الكياسة، بقدر ما كان له من حب الكنيسة، وإخلاص في المقصد. ولم يكن هذا الرجل خلوا من الفضائل الفاتنة: فقد كان محباً للعلوم، يضارع إنوسنت الثالث في تجاربه القانونية، وثقافته الواسعة، أنشأ جامعة روما، وأعاد مكتبة الفاتيكان ووسع نطاقها... وكان مما زاد طبع البابا الجديد حدة أصيب بسلسلة متتابعة الحلقات من الهزائم الدبلوماسية والانتصارات الكثيرة الأكلاف. فقد حاول أن يثني فردريك صاحب أرغونة عن قبول عرش صقلية، ولما أصر فردريك على قبوله حرمة بنيفاس، وأصدر قرار التحريم على الجزيرة(1296). ولم يبال الملك ولا الشعب بهذا العقاب(96) واضطر بنيفاس في آخر الأمر أن يعترف بفردريك. وأعد العدة لحرب صليبية بان أمر البندقية وجنوى بعقد هدنة، ولكنهما رفضتا توسطه في الصلح وواصلتا الحرب ثلاث سنين أخرى، ولما عجز عن أن يقيم في فلورنس نظاماً يوافق مصالحه أصدر قراراً بحرمان المدينة، ودعا شارل صاحب فالوا أن يدخل إيطاليا ويهدئها (1100). ولم يفلح شارل إلا في كسب حقد الفلورنسيين عليه وعلى البابا. وأراد بنيفاس أن يبسط رأيه السلم في ولاياته البابوية فحاول أن يفض النزاع القائم بين أعضاء أسرة كولنا Colonna القوية، ولكن بيتر Pietro وجاكوبو Jacobo، وكلاهما كردينال، رفضاً عروضه ففصلهما، وحرمهما من الدين(1297)، فما كان من الكردينالين المتمردين إلا أن علقا على أبواب الكنائس الرومانية، ووضعا على مذبح القديس بطرس، منشوراً يطلبان فيه إلى البابا أن يدعو مجلساً كنسياً عاماً. وكرر بنيفاس قرار الحرمان؛ وضم فيه إليهما خمسة آخرين من الخارجين عليه، وأمر بمصادرة أملاكهما، وغزا أملاك أسره كولنا بالجيوش البابوية، واستولى على حصونها، ودك أبنية بالستينا Palestina، وأمر بنثر الملح فوق خرباتها. واستسلم العصاة، وعفا عنهم، ثم ثاروا مرة أخرى وهزمتهم جيوش البابا للمرة الثانية، وفروا من الولايات البابوية، وأخذوا يدبرون خطط الانتقام.
وبينما كان بنيفاس يلاقي هذه المحن في إيطاليا إذ واجهته على حين غفلة أزمة شديدة في فرنسا. فقد اعتزم فليب الرابع أن يوحد مملكته، فاستولى على ولاية غسقونية الإنجليزية، وأعلن إدوارد الأول عليه الحرب (1294)، وأراد كلا الملكين أن يجمع المال الذي يستعين به على قتال عدوه، فقررا أن يفرضا الضرائب على أملاك الكنيسة ورجالها. وكان البابوات قد أذنوا بفرض هذه الضرائب للاستعانة بها في الحروب الصليبية، ولكنهم لم يأذنوا قط لإنفاقهافي حرب زمنية خالصة. كذلك كان رجال الدين الفرنسيون قد اعترفوا بأن من واجبهم أن يشتركوا بالمال في الدفاع عن الدولة التي تحمي أملاكهم، ولكنهم كانوا يخشون أنه أطلق حق الدواة في فرض الضرائب من كل قيد، أصبح ذلك قوة في يدها تستخدمه للهدم. وكان فليب قد أضعف مكانة من قبل رجال الدين في فرنسا، فقد أخرجهم من المحاكم الإقطاعية والملكية، ومن مناصبهم القديمة في الإدارة الحكومية وفي مجلس الملك. وأزعج هذا الاتجاه الرهبان السسترسيين فمنعوا عن فليب خمس إيرادهم الذي طلبه ليستعين به في حرب إنجلترا، وبعث رئيس الجماعة يستنجد بالبابا. وكان لا بد لبنيفاس أن يسير بحذر لأن فرنسا كانت من زمن بعيد أقوى عماد للبابوية في كفاحها مع ألمانيا والإمبراطورية، ولكنه أحس بأن الأساس الاقتصادي لسلطان الكنيسة وحريتها لن يلبث أن ينهار إذ ما انتزع منها إيرادها بفرض ضرائب من قبل الدولة على أملاك الكنيسة دون موافقة البابا... أما فيليب فكان قوى الاعتقاد بأن ما للكنيسة في فرنسا من ثروة عظيمة يجب أن تتحمل نصيبها في نفقات الدولة، ولهذا عارض مرسوم البابا بأن حرم تصدير الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والطعام، وبأن حرم التجار أو المبعوثين الأجانب البقاء في فرنسا. وحالت هذه الإجراءات دون وصول المال إلى البابوية من أهم مصادر إيرادها، وأخرجت من فرنسا عمال البابا الذين كانوا يجمعون المال لحرب صليبية في الشرق. ولهذا نكص بنيفاس في مرسومه Ineffabirlis Amor (سبتمبر عام 1296)، ووافق على تبرع رجال الدين بالمال مختارين سبيل الدفاع الضروري عن الدولة، واعترف بحق الملك في أن يقرر هو هذه الضرورة. وألغى فيليب أوامره الانتقامية، وارتضى هو وإدوارد أن يكون بنيفاس - لا بوصفه بابا، بل بوصفه شخصاً عادياً - حكما في النزاع القائم بينهما. وحكم بنيفاس لصالح فيليب في معظم أوجه النزاع، وخضعت إنجلترا لحكمه إلى حين، واستمتع المحاربون الثلاثة بفترة قصيرة من السلم.
وقرر بنيفاس أن تكون سنة 1300 سنة عيد، ولعله أراد بذلك أن يملأ الخزانة البابوية، بعد أن نقضت إيراداتها من إنجلترا وفرنسا، أو لعله أراد أن يجمع المال اللازم لحرب يستعيد بها صقالبة بوصفها إقطاعية بابوية، ولحرب أخرى يوسع بها الولايات البابوية حتى تشمل تسكانيا(98). ونجح في هذه الخطة نجاحاً تاماً، فلم تشهد روما من قبل جموعاً كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وفرضت حينئذ، ولعلها فرضت للمرة الأولى، قواعد المرور للإشراف على حركات الناس(99). وأحسن بنيفاس ومساعدوه إدارة شئون المدينة فجلبوا إليها الطعام موفورا وبيع فيها بأثمان معتدلة تحت إشراف البابا ورجاله. وكان من المزايا التي استمتع بها البابا أن الأموال الكثيرة التي جمعت بهذه الطريقة لم تكن مخصصة لغرض بالذات، بل كان وسعه أن يستخدمها كما يشاء. وبلغ بنيفاس وقتئذ ذروة مجده رغم ما ناله من أنصاف الانتصارات وما أحاق به من الهزائم المنكرة. لكن المنفيين من آل كولنا كانوا في هذا الوقت عينه يسلون فليب بقصص عن شره البابا وظلمه، وضلالاته الشخصية الخفية. ثم حدث نزاع بين أعوام فليب وبرنارد سيسر Birnard Saissir المندوب البابوي. وقبض على المندوب لاتهامه بأنه يحرض على الفتنة، وقدم للمحكمة الملكية، وأدين، ووضع نحت حراسة رئيس أساقفة نربونة (1301). وارتاع بنيفاس للسرعة التي حوكم بها مندوبه، فطلب أن يطلق سراح سيسر على الفور، وأمر رجال الدين الفرنسيين أن يمتنعوا عن تسليم الإيرادات الكنسية للدولة، ثم طلب إلى فيلب في مرسومه المسمى "استمع يا ولدي" Ausculta fili (ديسمبر سنة 1301) أن يستمع في خشوع إلى خليفة المسيح يوصفه الملك الروحي على جميع ملوك الأرض، واحتج على محاكمة رجل من رجال الدين أمام محكمة مدنية، وعلى الاستمرار في استخدام أموال الكنيسة في الأغراض غير الدينية، وأعلن أنه سيدعو أساقفة ورؤساء الأديرة في فرنسا ليتخذوا الإجراءات "الكفيلة بالمحافظة على حريات الكنيسة وبإصلاح المملكة وتقويم الملك"(100). وحينما عرض المرسوم على فليب، اختطفه كونت أرتوا Artois من يدي رسول البابا وألقاه في النار، وصودرت نسخة منه كانت معدة لأن ينشرها رجال الدين الفرنسيون. وثارت ثائرة الطرفين حين نشرت وثيقتان زائفتان قيل إن إحداهما صادرة من بنيفاس إلى فليب تطلب إليه أن يطيعه في كل الشئون حتى الزمنية منها، والأخرى من فليب إلى بنيفاس تبلغ "حماقتك العظيمة أننا لا نخضع لإنسان ما في الشئون الزمنية" وسرعان ما ساد الاعتقاد بأن هاتين الوثيقتين المزورتين صحيحتان(101).
وفي اليوم الحادي عشر من فبراير سنة 1302 حرق مرسوم "استمع يا ولدي" رسميا في باريس في حضرة الملك وجمهور كبير. وأراد فليب أن يستبق المجلس الكنسي الذي يريد بنيفاس عقده فدعا الطبقات الثلاث في مملكته إلى الاجتماع في باريس في شهر إبريل. وكتبت طل طبقة بمفردها من طبقات الأمة الثلاث - الأشراف، ورجال الدين، والعامة - في هذا المجلس، مجلس الطبقات، الأول من نوعه في تاريخ فرنسا، كتبت كل طبقة إلى روما تدافع عن الملك وعن سلطته الزمنية، وحضر نحو أربعة وخمسين من المطارنة الفرنسيين مجلس روما الذي عقد في شهر أكتوبر من المجلس القرار المسمى Uuamsanctum الذي حدد فيه مطالب البابوية تحديداً صريحاً تلفت الأنظار. وجاء في هذا المرسوم أنه لا توجد إلا كنيسة واحدة لا نجاة لأحد في خارجها، وأن ليس للمسيح إلا جسد واحد له رأس واحد لا رأسان، وأن هذا الرأس هو المسيح وممثلة البابا الروماني، وأن هناك سيفين أي قوتين القوة الروحية والقوة الزمنية، الأول تحمله الكنيسة، والثاني يحمله الملك نائباً عن الكنيسة، ولكنه يحمله تبعاً لإرادة القس وبإذن منه. والسلطة الروحية فوق السلطة الزمنية، ومن حقها أن ترشدها إلى أسمى غاياتها، وأن تحاكمها إذا ارتكبت إثماً. واختتم المرسوم بالعبارة الآتية: "ونعلن،ونحدد، وننطق بأن من الضروري للنجاة أن يخضع الناس جميعاً للرئيس الديني الروماني"(102).
وكان رد فيليب أن دعا جمعيتين إلى الانعقاد(في شهري مارس ويونية من عام 1303) وأن أصدرت الجمعيتان وثيقة اتهم فيها بنيفاس رسميا بأنه ظالم، وساحر، وكافر(103)، وطلبت أن يخلعه مجلس عام بالكنيسة. وبعث الملك وليم نوجارت William Nogarot كبير رجال القانون عنده إلى روما ليبلغ البابا ما يطلبه الملك من دعوة مجلس عام. وكان البابا وقتئذ في القصر البابوي بأنانيAnagni فأعلن البابا وحده هو الذي يحق له أن يدعو مجلساً عاماً، وأعد مرسوماً يحرم فليب ويصب اللعنة على فرنسا. وقبل أن يصدره سار وليم نوجارت وسيارا كولنا Siarra Colonna على رأس ألفين من الجنود المرتزقة
واقتحما القصر، وقدما إلى البابا رسالة فيليب، وطلبا إليه أن يوقعها (7 سبتمبر سنة 1303)، فرفض بنيفاس هذا الطلب. وتقول رواية "موثوق بصحتها أعظم الثقة"(104) إن سياراً لطم الحبر الأعظم على وجهه وإنه كاد يقتله لولا تدخل نوجات. وكان بنيفاس وقتئذ الخامسة والسبعين من عمره، ضعيف الجسم،ولكنه ظل يتحدى خصومه. وبقي ثلاثة أياماً سجيناً في قصره والجنود المرتزقة ينهبونه. ولكن أهل أناني يؤيدهم أربعمائة فارس من عشيرة أورسيني Orsini فرقوا الجنود المرتزقين وأعادوا إلى البابا حريته. ويلوح أن سجانيه لم يقدموا له طعاماً مدى الثلاثة الأيام السابقة على تحريره، لأنه وهو واقف في السوق سأل: إن كانت هناك امرأة صالحة ترضى أن تقدم لي صدقة من النبيذ والخبز، فإني أمنحها بركة اللّه وبركتي". وقاده فرسان الأورسيني إلى روما وإلى الفاتيكان، وهناك انتابته حمى، شديدة مات منها بعد أيام قليلة (في الحادي عشر من شهر أكتوبر سنة 1303)
قصة الحضارة ج16 ص159-166)
وقد اتى هذا البابا بعد بابا اخر متعصب
يقول ديورانت:"لما ارتقى جريجوري الثاني عرش البابوية في عام 1271 كانت الكنيسة مرة أخرى في عنفوان قوتها. ولم يكن جريجوري بابا فحسب، بل كان إلى هذا مسيحياً متمسكاً بآداب المسيحية. كان رجل سلام ومحبة، ينشد العدالة لا النصر. وكان يأمل أن يسترد فلسطين بجهد واحد جامح، فأقنع البندقية، وجنوى، وبولونيا بأن تضع حداً للحروب القائمة بينها، وعمل على أن يختار رودلف هيسبرج Rudolf of Hapsburg إمبراطوراً، ولكنه خفف بلطفه ورقته غضب المهزومين من المطالبين بالعرش، ووفق بين طائفتي الجلف Guelf والجبلينGhibeline في فلورنس وسيينا المنقسمتين على نفسيهما، وقال لمؤيدين من الجلف "إن أعدائكم جبلينيون ولكنهم مع ذلك رجال، ومواطنون، ومسيحيون"(93). ودعا أحبار الكنيسة إلى مجلس يعقد في ليون (1274)، وجاءه في عام 1570 زعماء الكنيسة وأرسلت كل دولة عظمى ممثلاً لها، وبعث إمبراطور الروم برؤساء الكنيسة اليونانية ليؤكد من جديد خضوعها للكرسي البابوي في روما وأنشد رجال الدين اللاتين واليونان معاً نشيد الفرح والغبطة. ودعا الأساقفة أن يتقدموا بما في الكنيسة من عيوب تحتاج إلى الإصلاح، فلبوا الدعوة في صراحة منقطعة النظير(94)، وسنت القوانين التي أريد بها تخفيف حدة هذه الشرور واتحدت أوربا كلها اتحاداً رائعاً لتقوم بمجهود ضد المسلمين. ولكن جريجوري مات وهو عائد إلى روما (1276) وشغلت السياسة الإيطالية خلفاءه فلم يستطيعوا تنفيذ ما وضعه من خطط.
ومه هذا فإنه لما أختير بنيفاس الثامن بابا في عام 1294 كانت البابويةلا تزال أقوى الحكومات الأوربية، وأحسنها تنظيماً، وخيرها إدارة، وأنماها موارد. وكان من سوء حظ الكنيسة، في هذا الوقت العصيب الذي أوشك أن يختم به قرن من القوة والتقدم، أن جلس على أقوى العروش في العالم المسيحي رجل كان له من فساد الخلق، والغطرسة الشخصية والحرص على السلطان حرصاُ خالياً من الكياسة
 
لقد تسلل العلم الاسلامي الى مدائن اوروبا غير المسلمة وتعمل بكل صور السلم والحرب على الحفاظ على النموذج والحضارة والعلم ومن ثم ضخ العلم وتحديث الغرب -بعلوم الاسلام المادية والعقلية ومنتجاتهما الحسوسة في كافة المجالات وبتنوع منتجاته ومختبراته و مراصده ومثاله ونموذجه النظري والعملي -وذلك عن طريق عدة طرق منها اسبانيا وصقلية وغيرها من حواضر الاسلام في الغرب نفسه ومنها الحروب الصليبية واكتشاف العلم من هناك ايضا ومنها غرام امبراطور الماني(فرديرك الثاني كمثال) -او اكثر-بذلك العلم وهو فرديرك الثاني هذا غير ذهاب الطلبة من كل مكان من اوروبا الى حواضر الاسلام فيها لنقل العلوم وفهم طريقة التفكير الحديثة!
وهو ماعمل خللا بطيئا ونزاعا هائلا في المسيحية على مر الوقت وعمل مع غيره من العوامل (الأوروبية الداخلية) على تصديع الباباوية ونزع املاكها منها بل فض العلاقة بينها وبين السياسة الامبراطورية كما وادانة القساوسة كما ورد في نص سبق ان عرضناه من كلام ديورانت
لكن عندنا الآن نص جديد يبدو ان له صلة بالصراع بين الباباوية البابا بنيفاس ومن قبله مع فرديرك الثاني وماحمله من الاسلام من اغراء العلم والعقل وانجاز المنهج والمختبر والآلات الحديثة(يومذاك) فبعد أن وضع ديورانت عنوان للفصل الثامن هو (عود على بدء) قال :"تدل الصفعة - المادية أو السياسية - التي وجهت إلى بنيفاس في أناني بمعنى من معانيها على بداية "العصر الحديث": فقد كانت انتصاراً للقومية على ما فوق القومية، وللدولة على الكنيسة، ولقوة السيف على سحر الكلام. ذلك أن كفاح الكنيسة ضد آل أهوهنستوفن وإخفاق كانت مناصرة الشعب لفليب الرابع على بنيفاس الثامن دليلا على غضب هذا الشعب من غلو محاكم التحقيق والحملة الصليبية الألبجنسية، فقد قيل إن محاكم التحقيق حرقت بعض آباء نوجارت(108)، ولم يكن بنيفاس يدرك، وهو يتورد في هذه المنازعات الكثيرة، أن أسلحة البابوية قد تثلمت من الإفراط في استخدامها، ثم إن الصناعة والتجارة قد أنشأتا طبقة من الناس أقل تقوى من طبقة الزراع، وأن الحياة والتفكير قد نزعا نزعة غير دينية،وأخذت الطبقات العلمانية تدرك أهميتها، وقبل أن تمضي سبعون سنة كانت الدولة قد طوت الكنيسة تحت جناحيها.
قصة الحضارة ج16 ص169)
 
عودة
أعلى