التاريخ المحسوس لحضارة الإسلام وعصور اوروبا المظلمة من قصة الحضارة لديورانت أ. طارق منينة

فضل الاسلام على اليهود
حرية-كرامة-حركة ونشاط -علم
"ظل يهود العصور الوسطى وهم في غمار المشاغل التجارية، والفقر المذل، والازدراء القاتل، ظلوا ينتجون النحويين، وفقهاء الدين، والمتصوفة، والشعراء، والعلماء، والفلاسفة، ولم يضارعهم في آدابهم الواسعة وثرائهم العقلي إلا المسلمون فيما بين 1150 و1200(2). وكان مما يسر لهم أسباب هذا النبوغ أنهم يعيشون بين المسلمين أو على اتصال بهم، وإن كثيرين منهم كانوا يعرفون اللغة العربية، فكان عالم الثقافة الإسلامية الثري بأجمعه في العصور الوسطى مفتوحاً أمامهم يغترفون من بحره الطامي في العلوم والطب، والفلسفة، وبفضل وساطتهم أثاروا عقل العالم الغربي المسيحي بما بثوا فيه من تفكير المسلمين.
وكان اليهود في بلاد الإسلام يستخدمون اللغة العربية في حديثهم ونثرهم المكتوب، أما شعراؤهم فقد استمسكوا في شعرهم باللغة العبرية ولكنهم استخدموا فيه الأوزان العربية والصور الشعرية؛ وفي البلاد المسيحية كان اليهود يتحدثون بلغة الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، ويكتبون في آدابهم، ويعبدون يهوه بلسانهم القديم. وأخذ يهود أسبانيا بعد ابن ميمون يكتبون أدبهم باللغة العبرية بدل العربية بعد فرارهم من اضطهاد الموحدين. وقد استطاع اليهود بفضل جهود فقهاء لغتهم وإخلاصهم أن يحيوا اللغة العبرية من جديد؛ وكان قد تعذر عليهم فهم نصوص العهد القديم لعدم وجود الحركات المستقلة وعلامات الترقيم في اللغة العبرية، ولكن علماءهم استطاعوا بعد دراسة دامت ثلاثة قرون أن يضعوا النص المسورتي Masoretic (الذي قدسته التقاليد) وذلك بإضافة علامات للحركات، وإشارات للنبر، وعلامات للترقيم، وفواصل للشعر، وشروح الهوامش؛ وبفضل هذا العمل أصبح في مقدور كل يهودي بعد ذلك الوقت أن يقرأ كتبه الدينية.
قصة الحضارة ج14 ص95-96)
 
فضل الاسلام على اليهود(2)
رخاء يهود العصر الذهبي في أسبانيا المسلمة
"لقد بلغ رخاء يهود العصر الذهبي في أسبانيا مبلغاً يمنعهم أن يكونوا شديدي التمسك بالدين كما كان شعراؤهم في سني الاضمحلال، فقد كانوا يقرضون شعراً مطرباً، حسياً، رقيقاً، وينطقون بفلسفة توفق في ثقة بين الكتاب المقدس والتفكير اليوناني. ولقد ظل اليهود يزدادون رخاء حتى بعد أن طردهم الموحدون المتشددون في دينهم من بلاد الأندلس الإسلامية إلى أسبانيا المسيحية، وازدهرت المجامع العلمية اليهودية في ظل التسامح المسيحي في طليطلة وبرشلونة خلال القرن الثالث عشر. لكن اليهود لم يكن حظهم في فرنسا وألمانيا كما كان حظ يهود أسبانيا، فقد كانوا يزدحمون في أحيائهم الضيقة وهم جلون، ويبذلون خير مواهبهم في دراسة التلمود، ولم يكونوا يهتمون بتبرير عقائدهم للعالم غير المتدين، ولم يشكوا قط في أصوله، بل انهمكوا في دراسة الشريعة.
قصة الحضارة ج14 ص105)
 
فضل الاسلام على اليهود(3)
الحرية تؤدي الى يصيروتهم اطباء وفلكيين وغير ذلك فلولا الحرية المنصوص عليها اسلاميا لما كان ماكان
"تكاد العلوم الطبيعية والفلسفة عند اليهود أن تنحصر كلها في بلاد الإسلام، ذلك أن المقيمين في البلاد المسيحية في العصور الوسطى كانوا بمعزل عن جيرانهم معرضين للاحتقار وإن كانوا متأثرين بأولئك الجيران، ولهذا لجأوا إلى التصوف والخرافات وأخذوا يمنون أنفسهم بمجيء مسيح ينقذهم مما هم فيه. وتلك كلها ظروف هي أسوأ ظروف يمكن أن ينشأ فيها العلم. غير أن الدين اليهودي كان يشجع على دراسة الفلك، لأن تحديد أيام الأعياد تحديداً دقيقاً إنما يعتمد على هذه الدراسة. وبفضل هذه الدراسة استبدل علماء الهيئة اليهود في بابل في القرن السادس التقديرات الفلكية بالأرصاد المباشرة للقبة السماوية. وقد حسبوا السنة على أساس الحركة الظاهرية للشمس، والشهور على أوجه القمر، وسموا الشهور بأسماء بابلية، وجعلوا بعض الشهور "كاملة" عدة كل منها ثلاثون يوماً، وبعضها "ناقصة" عدة كل منها تسعة وعشرون، ثم وفقوا بين التقويمين القمري والشمسي بإضافة شهر ثالث عشر إلى كل سنة ثالثة، وسادسة، وثامنة، وحادية عشرة، ورابعة عشرة، وسابعة عشرة، وتاسعة عشرة في كل دورة مؤلفة من تسعة عشر عاماً. وكان يهود في الشرق يؤرخون الحوادث على أساس التقويم السلوقي الذي يبدأ في عام 312 ق. م. أما في أوربا فقد اتخذوا في القرن التاسع "التاريخ اليهودي" الحال المعروف باسم "سنة العالم Anno Mundi والذي يبدأ بتاريخ خلق الدنيا كما يظنون في عام 3761 ق. م. وبهذا كله أصبح التقويم اليهودي لا يقل سخفاً وقدسية عن تقويمنا نحن . وكان من أوائل علماء الهيئة اليهود في بلاد الإسلام العالم ما شاء الله (المتوفى حوالي عام 815). وقد ترجم جيرار القريموني Gerard of Cremona كتابه في الفلك من العربية إلى اللاتينية واستقبل أحسن استقبال في العالم المسيحي. ورسالته في الأثمان هي أقدم مؤلف علمي موجود الآن باللغة العربية. وكانت أعظم رسالة في العوم الرياضية في ذلك العصر(22) هي رسالة أبراهام بن حيا البرشلوني (1065-1136) في الجبر، والهندسة، وحساب المثلثات وهي المعروفة باسم هيورها مشيحه. وقد ألف أيضاً موسوعة مفقودة في علوم الرياضة، والهيئة، والبصريات، والموسيقى، كما ألف في التقويم أقدم رسالة باللغة العبرية باقية إلى الآن. ولم يجد أبراهام ابن عزرا، في الجيل التالي، تعارضاً بين كتابه الشعر، والتبحر في التحليل التركيبي. وكان أبراهام هذا وذاك أول من كتب من اليهود رسائل علمية باللغة العبرية لا العربية. وبفضل هذه الكتب، وفيض من الكتب الأخرى التي ترجمت من العربية إلى العبرية غزت العلوم والفلسفة الإسلامية المجتمعات اليهودية في أوربا ووسعت نطاق حياتها الذهنية إلى ما وراء المعارف الدينية الخالصة.
وأفاد يهود ذلك العهد إلى حد ما من علوم المسلمين الطبيعية، وإن كانوا قد عادوا أيضاً إلى تقاليدهم القديمة الخاصة بفن العلاج، فكتبوا عدة رسائل قيمة في الطب، وأصبحوا هم أعظم الأطباء إجلالاً في أوربا المسيحية. ولقد ذاعت شهرة اسحق إسرائيلي (855-955؟) في طب العيون بمصر ذيوعاً عين بسببه الطبيب الخاص للأغالبة في القيروان. وكانت مؤلفاته الطبية، بعد أن ترجمت من العربية غلى العبرية واللاتينية، تعد أهم المراجع الطبية في أوربا بأجمعها؛ وكانت تستعمل كتباً للدراسة في سالرنو، وباريس، ونقل عنها بيرتن Burton، بعد حياة دامت سبعمائة عام، فيما كتبه عن تشريح السوداء (1621). وتصف الروايات المتواترة اسحق بأنه لم يكن يأبه بالمال، وبأنه عازب عنيد في عزوبته، وبأنه عاش مائة عام كاملة. وأكبر الظن أنه كان من معاصريه آساف ها يهودي، وهو المؤلف الخامل الذكر لمخطوط كشف منذ وقت قريب، ويعد أقدم مؤلف طبي باللغة العبرية باق إلى الآن من الزمن القديم. ويشتهر هذا الكتاب بما جاء فيه من أن الدم يجري من الشرايين إلى الأوردة، ولو أنه طافت بعقله وظيفة القلب لاستبق بذلك هارفي Harvey(23) إلى كشف الدورة الدموية بأكملها.
وسيطر على فن الطب في مصر بعد قدوم ابن ميمون إليها (1165) الأطباء اليهود والمؤلفات اليهودية. فكتب أبو الفداء عن علماء القاهرة أهم رسالة في الرمد في القرن الثاني عشر، وألف الكوهين العطار (1275؟) كتاباً في الأقراباذين لا يزال يستعمل حتى الآن في العالم الإسلامي. وكان الأطباء اليهود في جنوبي إيطاليا وفي صقلية إحدى المسالك التي انتقل بها الطب العربي إلى سالرنو. ذلك أن شباتاي بن أبرهام (913-970) المعروف باسم ونولو والمولود في أترانتو وقع أسيراً في يد المسلمين، فدرس الطب العربي في بالرم، ثم عاد ليمارس مهنته في إيطاليا. ودرس بنفنوتس جراسس، أحد يهود أورشليم، في سالرنو، وأخذ يعلم فيها وفي منبلييه وكتب رسالة في طب العيون (1250؟) كان العالم الإسلامي والعالم المسيحي على السواء يريانها أهم رسالة في أمراض العين. وقد اختيرت هذه الرسالة بعد 224 عاماً من نشرها أول كتاب يطبع في موضوعها.
وكانت مدارس الأحبار اليهود وبخاصة في جنوبي فرنسا تدرس منهاجاً في الطب، وكان من بين الأغراض التي تبتغيها من هذه الدراسة أن تمكن رجال الدين من كسب المال من غير طريق الدين. وقد ساعد الأطباء اليهود الذين تدربوا في منبلييه على إقامة مدرسة منبلييه الطبية الشهيرة؛ ولما عين يهودي مديراً لتلك الكلية في عام 1300 جر ذلك على الشعب اليهودي حقد الأطباء في جامعة باريس، واضطرت جامعة منبلييه أن تغلق أبوابها في وجه اليهود (1301) ونفى الأطباء العبرانيون فيمن نفى من اليهود من فرنسا في عام 1306. غير أن الطب المسيحي كان في ذلك الوقت قد حدث به انقلاب عظيم بتأثير الأطباء اليهود والمسلمين وما ضربوه لغيرهم من مثل طيبة. ذلك أن الأطباء الساميين كانوا قد نبذوا من زمن بعيد النظرية التي تقول إن المرض ينشأ من حلول الشياطين بالجسم، وكان نجاح تشخيصهم للمرض تشخيصاً قائماً على العقل وعلاجهم إياه قد أضعف إيمان الناس بقوة مخلفات الأولياء والصالحين وغيرها من وسائل العلاج المبنية على خوارق الطبيعة.
وكان من أصعب الأشياء على الرهبان والقساوسة الذين تضم أديرتهم وكنائسهم تلك المخلفات والتي تجتذب إليها الحجاج أن يرضوا بهذا الانقلاب فحرمت الكنيسة استقبال الأطباء اليهود في داخل بيوت المسيحيين، فقد كانت ترتاب في أن طب هؤلاء الناس أقوى من عقيدتهم، وكانت تخشى تأثيرهم في العقول المريضة. وفي عام 1246 حرم مجلس بزيير على المسيحيين استخدام أطباء يهود، وفي عام 1267 حرم مجلس فينا على الأطباء اليهود أن يعالجوا مسيحيين، غير أن هذه الأوامر وأمثالها لم تمنع بعض كبار المسيحيين من الانتفاع بمهارة اليهود، مثال ذلك أن البابا بنيفاس Boniface الثامن حين مرض بعينيه استدعى لعلاجه اسحق بن مردخاي(24)، وكان ريمند للي Raymond Lullys يشكو من أن بكل دير طبيباً يهودياً، وهال مبعوث بابوي أن يجد أن هذه الحال أيضاً في كثير من أديرة النساء، وكذلك ظل ملوك أسبانيا المسيحيون يستمتعون بعناية الأطباء اليهود حتى أيام فرديناند وإزبلا، وكتب ششت بنفنيست Sheshet Benveniste البرشلوني طبيب جيمس الأول ملك أرغونة (1231-1276) أهم رسالة في أمراض النساء في زمانه، ولم يفقد اليهود زعامتهم الطيبة في البلاد المسيحية إلا بعد أن استخدمت الجامعات المسيحية في القرن الثالث عشر الأساليب الطيبة القائمة على العقل. ولم يفد علم الجغرافية إلا قليلاً من الشعب اليهودي
قصة الحضارة ج14 ص109-113)
 
من هو ابن ميمون1135-1204
" ولد أعظم عظماء اليهود في العصور الوسطى بمدينة قرطبة لأب من أكابر العلماء الممتازين هو الطبيب والقاضي ميمون بن يوسف. وسمي الغلام موسى، وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم: "لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلى موسى". وقد عرف بين الناس باسم موسى بن ميمون أو باسم أقصر من هذا وهو ميموني...برع موسى الثاني في آداب الدين وآداب الكتاب المقدس، والطب، والعلوم الرياضية والهيئة، والفلسفة. وكان ثاني اثنين هما أعلم أهل زمانه، ولم يكن يضارعه في علمه إلا ابن رشد. ومن أغرب الأشياء أن هذين المفكرين البارزين اللذين ولدا في مدينة واحدة ولم يكن بين مولدها إلا تسع سنين لم يجتمع أحدهما بالآخر كما يلوح. ويبدو أن بن ميمون لم يقرأ لابن رشد إلا حين بلغ هو سن الشيخوخة وبعد أن ألف كتبه
قصة الحضارة ج14 ص120)
 
صلاح الدين الايوبي واليهودي موسى بن ميمون وحرية ثمينة
كم انت عظيم ياصلاح الدين رغم انف العلمانيين ويوسف زيدان وابراهيم عيسى
وفترة من فترات قرطبة وليس كل فترات قرطبة -لم يتمتع فيها ابن ميمون بالحرية لكنه عند الايوبيين تمتع بها
"واستولى البربر على قرطبة في عام 1148 وهدموا الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، وخيروا المسيحيين واليهود بين الإسلام والنفي، فغادر ابن ميمون أسبانيا في عام 1159 هو وزوجته وأبناؤه، وأقاموا في فاس تسع سنين مدعين أنهم مسلمون(36)، لأن المسيحيين واليهود لم يكن يسمح لهم بالإقامة هناك أيضاً. وبرر ابن ميمون تظاهره بالإسلام بين اليهود المهددين بالخطر في مراكش بقوله إنهم لم يكن يطلب إليهم أن يؤدوا شعائر هذا الدين أداءً عملياً بل كل ما كان يطلب إليهم أن يتلوا صيغة لا يؤمنون بها، وإن المسلمين أنفسهم يعرفون أنهم غير مخلصين في النطق بها وإنما يفعلون ذلك ليخادعوا جماعة من المتعصبين(37). لكن كبير أحبار اليهود في فاس لم يوافقه على هذا القول، وكان جزاؤه أن قتل في 1165. وخشي ابن ميمون أن يلقى هذا المصير نفسه فسافر إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى الإسكندرية (1165) ومصر القديمة حيث عاش حتى وافته منيته. وسرعان ما عرف المصريون أنه من أعظم أطباء زمانه، فاختير طبيباً خاصاً لنور الدين على أكبر أبناء صلاح الدين، وللقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين. واستخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط السلطان لحماية يهود مصر، ولما فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد(38). وفي عام 1177 عين ابن ميمون نجيداً أو زعيماً لليهود في القاهرة، ثم أفهمه أحد الفقهاء المسلمين (1187) بأنه مرتد عن الإسلام وطالب بأن توقع عليه عقوبة القتل التي هي جزاء المرتدين. ولكن الوزير أنقذ ابن ميمون إذ قال إن الرجل لذي أرغم على اعتناق الإسلام لا يمكن أن يعد مسلماً بحق(39).
وفي سني العمل المتواصل التي أقامها بالقاهرة ألف معظم كتبه. ومن هذه المؤلفات عشرة كتب في الطب باللغة العربية نقل فيها آراء أبقراط، وجالينوس، وديسقوريدس، والرازي وابن سينا. وقد اختصر في كتاب الأمثال الطبية كتاب جالينوس إلى ألف وخمسمائة عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب، وترجم هذا الكتاب إلى اللغتين العبرية واللاتينية، وكثيراً ما كان ينقل عنه في أوربا ويصدر ما ينقل بتلك العبارة: "قال الحبر موسى". ووضع مقالة في تدبير الصحة للملك الأفضل على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ ومقالة أخرى في الجماع لسلطان حماة الملك المظفر تقي الدين أبي سعيد عمر ابن نور الدين تحدث فيها عن الجماع من الوجهة الصحية، وعن عجز القوة الجماعية، وعن الانتصاب الدائم، وعن الأدوية المقوية للباه.
وقد أضاف ابن ميمون إلى هذه الرسائل عدة مقالات كل منها في موضوع واحد منها مقالة في السموم والتحرز من الأدوية القتّالة ، ومقالة في الربو ، وأخرى في البواسير، ورابعة في السوداء-ومقالة جامعة في شرح العقار. وتحتوي هذه الكتب الطبية، كما تحتوي سائر الكتب، على أقوال لا تتفق مع عقائد هذا لزمان السريعة التبدل-المعصومة من الخطأ-كقوله إنه إذا كانت الخصية اليمنى أكبر من اليسرى كان المولود الأول ذكراً(41)؛ ولكنها تمتاز برغبة صادقة في مساعدة المرضى، ببحثها الذي يمتاز بالتسامح والمجاملة في الآراء المتعارضة، وبما يسري فيها من طابع الحكمة والاعتدال في النصح ووصف الدواء. ولم يكن ابن ميمون يصف العقاقير إذا ما أغنى عنها تنظيم الغذاء(42). وقد حذر الناس من كثرة الطعام بقوله إن المعدة يجب ألا تنتفخ كأنها خراج(43).
قصة الحضارة ج14 ص120-121)
 
موسى ابن ميمون اليهودي يعيش في ظل صلاح الدين ومن معه من افاضل الامة حرا مكرما ماجعله ينتج في الحضارة من ناحية الطب وغيره بفضل المناخ الاسلامي الغالب
ولانتكلم هنا عن جرأته على الاسلام انما عن حريته التي استغلها فيما بعد -نحن هنا اولا مع المناخ الاسلامي في التعايش
"فسافر إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى الإسكندرية (1165) ومصر القديمة حيث عاش حتى وافته منيته. وسرعان ما عرف المصريون أنه من أعظم أطباء زمانه، فاختير طبيباً خاصاً لنور الدين على أكبر أبناء صلاح الدين، وللقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين. واستخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط السلطان لحماية يهود مصر، ولما فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد(38). وفي عام 1177 عين ابن ميمون نجيداً أو زعيماً لليهود في القاهرة، ثم أفهمه أحد الفقهاء المسلمين (1187) بأنه مرتد عن الإسلام وطالب بأن توقع عليه عقوبة القتل التي هي جزاء المرتدين. ولكن الوزير أنقذ ابن ميمون إذ قال إن الرجل لذي أرغم على اعتناق الإسلام لا يمكن أن يعد مسلماً بحق(39).
وفي سني العمل المتواصل التي أقامها بالقاهرة ألف معظم كتبه. ومن هذه المؤلفات عشرة كتب في الطب باللغة العربية نقل فيها آراء أبقراط، وجالينوس، وديسقوريدس، والرازي وابن سينا. وقد اختصر في كتاب الأمثال الطبية كتاب جالينوس إلى ألف وخمسمائة عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب، وترجم هذا الكتاب إلى اللغتين العبرية واللاتينية، وكثيراً ما كان ينقل عنه في أوربا ويصدر ما ينقل بتلك العبارة: "قال الحبر موسى". ووضع مقالة في تدبير الصحة للملك الأفضل على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ ومقالة أخرى في الجماع لسلطان حماة الملك المظفر تقي الدين أبي سعيد عمر ابن نور الدين تحدث فيها عن الجماع من الوجهة الصحية، وعن عجز القوة الجماعية، وعن الانتصاب الدائم، وعن الأدوية المقوية للباه.
وقد أضاف ابن ميمون إلى هذه الرسائل عدة مقالات كل منها في موضوع واحد منها مقالة في السموم والتحرز من الأدوية القتّالة ، ومقالة في الربو ، وأخرى في البواسير، ورابعة في السوداء-ومقالة جامعة في شرح العقار. وتحتوي هذه الكتب الطبية، كما تحتوي سائر الكتب، على أقوال لا تتفق مع عقائد هذا لزمان السريعة التبدل-المعصومة من الخطأ-كقوله إنه إذا كانت الخصية اليمنى أكبر من اليسرى كان المولود الأول ذكراً(41)؛ ولكنها تمتاز برغبة صادقة في مساعدة المرضى، ببحثها الذي يمتاز بالتسامح والمجاملة في الآراء المتعارضة، وبما يسري فيها من طابع الحكمة والاعتدال في النصح ووصف الدواء. ولم يكن ابن ميمون يصف العقاقير إذا ما أغنى عنها تنظيم الغذاء(42). وقد حذر الناس من كثرة الطعام بقوله إن المعدة يجب ألا تنتفخ كأنها خراج(43). وكان يظن أن الخمر تفيد الصحة إذا شربت باعتدال(44)، ونصح بدرس الفلسفة لأنها تدرب على الاتزان العقلي والخلقي وعلى الهدوء وهما الصفتان اللتان تؤديان إلى صحة الجسم وطول العمر(45).
وبدأ ابن ميمون في الثالثة والعشرين من عمره شرحاً للمشنا، وظل يكدح في هذا العمل عشر سنين بين مشاغله التجارية، والطبية، والأسفار الخطرة براً وبحراً. ولما نشر هذا الشرح في القاهرة عام 1158 باسم كتاب السراج رفع ابن ميمون من فوره-وكان لا يزال شاباً لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره-إلى منزلة بين شراح التلمود عليها إلا منزلة راشي، وذلك بفضل ما يمتاز به من الوضوح، وغزارة المادة، وصدق الأحكام. وبعد عشرين سنة من ذلك الوقت نشر أعظم كتبه كلها باللغة العبرية الجديدة وسماه متحدياً مستشيراً مشنا التوراة، وقد رتب فيه نظام منطقي، وإيجاز واضح، كل ما حوته أسفار موسى الخمسة من القوانين وجميع قوانين المشنا والجمارا ما عدا النزر اليسير. ويقول في مقدمة الكتاب: "لقد سميت هذا الكتاب مشنا التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة المسطورة (الأسفار الخمسة) لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر"(46)، وقد أغفل فيه بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم، فكان ذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم(47). وقد قسم الأوامر الواردة في الشريعة والبالغ عددها 613 أربعة عشر قسماً وضع لكل واحد منها عنواناً وخص كل عنوان "بكتاب". ولم يكتف بشرح كل قانون بل أخذ على نفسه بيان ضرورته المنطقية أو التاريخية. ولم يترجم إلى الإنجليزية من هذه الكتب الأربعة عشر إلا كتاب واحد، وهو مجلد ضخم نستطيع به أن نتبين ضخامة الكتاب الأصلي كله.
ويتضح من هذا الكتاب ومن كتابه الآخر الذي صدر بعده وهو: دلالة الحائرين، أن ابن ميمون لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد. بل إنه قد حاول جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في الكتاب المقدس إلى علل طبيعية، ولكنه كان يدعو إلى الاعتقاد بأن كل لفظ في أسفار موسى الخمسة موحى به من الله، وإلى العقيدة الدينية القائلة بأن الشريعة الشفوية قد نقلها موسى إلى كبار رجال إسرائيل(48). ولعله كان يشعر بأن اليهود لا يستطيعون أن يكون اعتقادهم في الكتاب المقدس أقل شأناً من اعتقاد المسيحيين والمسلمين فيه، ولعله هو أيضاً كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل القانون الأخلاقي. وكان ابن ميمون وطنياً شديد الحب لوطنه لا يقبل في عقيدته جدلاً "يجب على جمع بني إسرائيل أن يتبعوا كل ما ورد في التلمود البابلي، وعلينا أن نرغم اليهود في جميع أنحاء الأرض على أن يستمسكوا بالعادات والأساليب التي قررها حكماء التلمود"(49). وكان أكثر حرية إلى حد ما من معظم المسلمين والمسيحيين في أيامه، فكان يعتقد أن غير اليهودي المتمسك بأهداب الفضيلة، المؤمن بوحدانية الله، يدخل الجنة، ولكنه لم يكن يقل قسوة على كفرة اليهود من سفر التثنية أو التركمادا، ويقول إن اليهود الذين ينبذون الشريعة اليهودية يجب أن يقتلوا، و "من رأيي أن جميع أفراد العشيرة اليهودية التي بلغت من القحة والجرأة ما جعلها تخالف أمراً من أوامر الله يجب أن يعدموا"(50). وقد استبق أكويناس في الدفاع عن القتل جزاء للإلحاد بحجة "أن القسوة على من يضلون الناس سعياً وراء الزهو والخيلاء إنما هي رحمة بالعالم"(51)، وارتضى دون عناء عقوبة الإعدام التي يفرضها الكتاب المقدس جزاء للسحر، والقتل، ومضاجعة المحارم، وعبادة الأوثان، والسرقة بالإكراه، وخطف الأشخاص، وعصيان الأبناء للآباء، وخرق حرمة السبت(52). ولعل أحوال اليهود حين هاجروا من مصر القديمة، وحاولوا أن يؤسسوا لهم دولة من جماعة معدمة لا وطن لها، تقول لعل أحوال هؤلاء اليهود كانت تبرر وضع هذه القوانين. ولقد كانت حالة اليهود المزعزعة المضطربة في أوربا المسيحية أو أفريقية المسلمة كانت تتطلب قانوناً صارماً يخلق فيهم النظام والوحدة، ولكن الآراء المسيحية، والعادات اليهودية أيضاً في أغلب الأحيان، كانت أرحم من القوانين اليهودية في هذه الأمور (قبل أيام محكمة التفتيش).
قصة الحضارة ج14 ص121-123)
 
موسى ابن ميمون اليهودي وعمله كطبيب عند صلاح الدين الايوبي ورعاية صلاح الدين الرحيمة له وبه
ابن ميمون يحكي يومياته
"عمله اليومي يجري على النحو الآتي: "فأنا أقيم في القسطاط بينما يقيم السلطان في القاهرة على بعد مسيرة يومي سبت (ميل واحد ونصف ميل). وواجباتي نحو نائب السلطان جد ثقيلة؛ فعليَّ أن أزوره في كل يوم في الصباح الباكر، وإذا ما كان هو، أو أحد أبنائه، أو أي فرد في داخل حريمه، منحرف المزاج، فلن أجرؤ على مغادرة القاهرة بل عليَّ أن أقيم معظم النهار في القصر... ولا أعود إلى الفسطاط إلى ما بعد الظهر... وأكون وقتئذ قد أوشكت أن أموت من الجوع. ولكني أجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالناس، من رجال الدين، وموظفي الدولة، والأصدقاء، والأعداء... فأنزل عن دابتي، وأغسل يدي، وأرجو مرضاي أن يصبروا عليَّ حتى أتناول بعض المرطبات-وتلك هي الوجبة الوحيدة التي أتناولها كل أربع وعشرين ساعة. ثم أستقبل مرضاي... وأظل كذلك إلى أن يحل الليل، وقد أستمر على ذلك في بعض الأحيان حتى تمضي من الليل ساعتان أو أكثر من ساعتين، فأصف لهم الدواء وأنا مستلق على ظهري من فرط التعب، حتى إذا جن الليل تكون قواي قد خارت حتى لا أستطيع الكلام. ولهذا لن يستطيع إسرائيل أن يجتمع بي على انفراد إلا في يوم السبت. ففي ذلك اليوم يقبل عليَّ جميع المصلين، أو الكثرة الغالبة منهم على أقل تقدير، بعد صلاة الصبح، ليتلقوا عليَّ بعض العلم... ونظل ندرس معاً حتى الظهر ثم نفترق(74).
وقد أنهك هذا الجهد قواه قبل الأوان. وقد طلب إليه رتشرد الأول ملك إنجلترا أن يكون طبيبه الخاص، ولكن ابن ميمون لم يستطع تلبية طلبه.
وأدرك وزير صلاح الدين ما حل به من الضعف فسمح له أن يعتزل منصب ورتب له معاشاً، ثم توفي عام 1204 في التاسعة والستين من عمره، ونقلت رفاقه إلى فلسطين ولا يزال قبره قائماً في طبرية.
قصة الحضارة ج14 ص130-1331)
تعليق على مايبدو فان كلام موسى ابن ميمون منقول من كتابه دلائل الحائرين وهو عندي كتاب ورقي لكن لم اقرأه كاملا
لكن ديورانت ينقل اغلب نصوصه عن ذلك الكتاب لابن ميمون
 
نصارى يهدمون التماثيل وفقأ عيون وسملها وخيانات وقتال!!
وهياج في الامبراطوريةوانقسام مسيحي -مسيحي
في النص التالي تجد كلام ديورانت مشابه تماما للرواية الاسلامية عن عبادة الصالحين في اصنام!
"وكانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا عن الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة. ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق الهلنستي، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم؛ فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور. ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب- حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة. وأطلق الشعب العنان لفطرته فحول الآثار، والصور، والتماثيل المقدسة، إلى معبودات، يسجد الناس لها، ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار، ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي. وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص، كانت ترى الصور المقدسة، في كل مكان- في الكنائس، والأديرة، والمنازل، والحوانيت-، وحتى أثاث المنازل، والحلي، والملابس نفسها لم تخل منها. وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء، أو المجاعة، أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين بدل أن تعتمد على الجهود البشرية للنجاة من هذه الكوارث؛ وكم من مرة نادى آباء الكنيسة، ونادت مجالسها، بأن الصور ليست آلهة، بل هي تذكير بها فحسب(4)، ولكن الشعب لم يكن يأبه بهذه التفرقة.
وغضب ليو الثالث من هذا الإفراط في التدين من جانب الشعب. وخيل إليه أن الوثنية أخذت تغزو المسيحية وتتغلب عليها من جديد بهذه الوسيلة، وحز في نفسه ما كان يوجهه المسلمون، واليهود، والشيع المسيحية المنشقة من المطاعن للخرافات السائدة عند جماهير المسيحيين المتمسكين بدينهم. وأراد أن يضعف من سلطان الأساقفة على الشعب والحكومة، ويضمن تأييد النساطرة، واليعاقبة،
فعقد مجلساً من الأساقفة، وأعضاء مجلس الشيوخ، وأذاع بموافقتهم في عام 726 مرسوماً يطلب فيه إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس، وحرم تصوير المسيح والعذراء، وأمر بأن يغطى بالجص ما على جدران الكنائس من صور. وأيد بعض كبار رجال الدين هذا المرسوم، ولكن الرهبان وصغار القساوسة احتجوا عليه، وثار عليه الشعب، وهاجم المصلون الجنود الذين حاولوا تنفيذ القانون بالقوة، لأنهم قد روعهم وأثار غضبهم هذا التدنيس المتعمد لأعز رموز دينهم. ونادت قوات الثوار في بلاد اليونان وخلقيدية بإمبراطور آخر، وسيرت أسطولاً ليستولي على العاصمة. ودمر ليو هذا الأسطول، وزج زعماء معارضيه في السجون. وفي إيطاليا، التي لم تنمح منها في يوم من الأيام أساليب العبادات الوثنية، أجمع الشعب كله تقريباً على معارضة المرسوم؛ وطردت مدائن البندقية، ورافنا، وروما عمال الإمبراطورية، واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا جريجوري الثاني وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل المقدسة دون أن يذكر اسم الإمبراطور. وانضم بطريق القسطنطينية إلى الثائرين، وحاول بانضمامه إليهم أن يعيد إلى الكنيسة الشرقية استقلالها عن الدولة؛ فما كان من ليو إلا أن خلعه من منصبه (730)، ولكنه لم يعتد عليه، وبلغ من رأفة الإمبراطور في تنفيذ المرسوم أن ظلت معظم الكنائس إلى يوم وفاته في عام 741 تحتفظ بمظلماتها وفسيفسائها سليمة.
وسارا ابن قسطنطين الخامس (741-775) على نهجه ولقبه المؤرخون المعادون له بذلك اللقب الظريف "كبرونيموس Copronymus" (المشتق من الدبال). وجمع الإمبراطور الجديد مجلساً من أساقفة الشرق في القسطنطينية (754)، حرم عبادة الصور والتماثيل، ووصفها بأنها عمل "ممقوت"، وقال إن "الشيطان قد أعاد عبادة الأوثان إلى سابق عهدها عن طريق عبادتها". ولعن "الفنان الجاهل الذي يشكل بيديه النجستين ما لا يصح أن يؤمن به الناس إلا بقلوبهم(5)، وأمر بأن يمحى ويدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل. ونفذ قسطنطين هذا القرار بلا كياسة أو اعتدال، فسجن من قاومه من الرهبان أو ساط عليهم ألوان العذاب، فسلمت الأعين، واقتلعت الألسنة، وجدعت الأنوف مرة أخرى، وعذب البطريق وقطع رأسه (767). وفعل قسطنطين الخامس ما فعله هنري الثامن فيما بعد، فأغلق أديرة الربان والراهبات، وصادر أموالها، وحول مبانيها إلى أغراض غير دينية، ووزع أرضها على محاسبيه. وجمع عامل الإمبراطورية في إفسوس، بموافقة الإمبراطور، رهبان الولاية وراهباتها، وأرغم الرهبان على أن يتزوجوا الراهبات وإلا قتلهم جميعاً(6). وظل هذا الاضطهاد يجري في مجراه خمس سنين (763-771).
وأرغم قسطنطين ابنه ليو الرابع (775-780) على أن يقسم بالجري على خطة تحطيم الصور والتماثيل السالفة الذكر. وفعل ليو ما مكنته من فعله بنيته الضعيفة؛ ولما حضرته الوفاة اختار ابنه قسطنطين السادس البالغ من العمر عشر سنين إمبراطوراً (780-797)، ورشح أرملته إيريني وصية على العرش حتى يبلغ ولده القاصر سن الرشد. وحكمت إيريني الإمبراطورية بمهارة وقوة مجردة من الضمير. وكانت تعطف على مشاعر الشعب الدينية وعلى بنات جنسها، فأنهت في هدوء عهد تنفيذ المرسوم الخاص بتحطيم الصور والأصنام، وسمحت للرهبان أن يعودوا إلى أديرتهم ومنابرهم، ودعت رجال الدين في العالم المسيحي إلى مجمع نيقية الثاني (787)، حيث أعاد 350 من الأساقفة، بزعامة مندوبي البابا، تعظيم الصور المقدسة-لا عبادتها-وقالوا إنها تعبير مشروع عن التقي والإيمان المسيحيين.
وبلغ قسطنطين السادس سن الرشد في عام 790؛ ولما رأى أن أمه لا ترغب في أن تتخلى له سلطانها خلعها ونفاها من البلاد وسرعان ما ندم هذا الشاب ظريف على فعلته، فأعادها إلى بلاطه، وأشركها معه في حكم الإمبراطورية (792)؛ فلما كان عام 797 عملت على سجنه وفقء عينيه، ثم حكمت الدولة بعدئذ بوصفها "إمبراطوراً" لا إمبراطورة. وظلت خمس سنين تصرف شئون الإمبراطورية بحكمة ودهاء، فخفضت الضرائب، ووزعت الهبات على الفقراء، وأنشأت المؤسسات الخيرية، وجملت العاصمة. وأحبها الشعب ورحب بها، ولكن الجيش قد ساءه أن تحكمه امرأة أقدر من معظم الرجال. وخرج عليها في عام 802 محطمو الصور والتماثيل، وخلعوها، ونادوا بنقفور وزير ماليتها إمبراطوراً. واستسلمت إيريني لمصيرها في هدوء، ولم تطلب إلى الإمبراطور أكثر من ملجأ أمين يليق بمقامها، فوعدها أن يجيب طابعها، ولكنه نفاها إلى لسبوس، وتركها تكسب قوتها القليل بالاشتغال بالخياطة حتى ماتت بعد تسعة أشهر من ذلك الوقت، لا تكاد تجد درهماً أو صديقاً. وعفا رجال الدين عن جرائمها لتقواها، ورفعتها الكنيسة إلى مقام القديسين.
قصة الحضارة ج14 ص157-161
 
قال ديورانت"
اضمحلال الغرب
566-1066
بينما كان الإسلام يشق طريقه في أنحاء العالم، وبينما كانت بيزنطية تفيق من الضربات التي بدت قاصمة لظهرها، كانت أوربا تكافح للخروج من دياجير "العصور المظلمة" وهذا تعبير غير دقيق في وسع كل إنسان أن يعرّفه كما يهوى، أما نحن فسنقصره تعسفاً منا على أوربا غير البيزنطية في الفترة الواقعة بين بؤيثيوس Boethlus عام 524 ومولد أبيلارد Abelard في عام 1079. وظلت الحضارة البيزنطية مزدهرة خلال هذه الفترة رغم ما خسرته الدولة من أملاكها ومهابتها، أما أوربا الغربية فكانت في القرن السادس الميلادي مسرحاً لفوضى الفتوح، والانحلال، والعودة إلى الهمجية نعم إن قسطاً كبيراً من الثقافة اليونانية والرومانية القديمة قد بقي فيها، وإن كان معظمه صامتاً مخبوءاً في عدد قليل من الأديرة والأسر، ولكن مصادر الأسس الجسمية والنفسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي كانت قد اضطربت اضطراباً لا تعود معه هذه الأسس إلى الاستقرار إلا بعد قرون طوال. ذلك أن الولع بالآداب، والإخلاص للفن، ووحدة الثقافة واتصالها، وتجاوب العقول بعضها مع بعض تجاوباً يشحذها ويخصبها، كل هذه الأسس قد انهارت أمام ضربات الحرب وويلاتها، وأخطار طرق النقل، والأساليب الاقتصادية في البيئات الفقيرة، ونشأة اللغات القومية، واختفاء اللغة اللاتينية من بلاد الشرق واللغة اليونانية من الغرب. وعجلت في القرنين التاسع والعاشر في سيطرة المسلمين على البحر المتوسط، وغارات النورمان،
قصة الحضارة ج14 ص206-207)
 
وأدخل جريرت Gerbert علوم المسلمين إلى بلاد المسيحية
"وكانت ألماني وأوربا الشرقية ملتقى تيارات متعارضة من الهجمات، واسكنديناوة معششاً للقراصنة، وبريطانيا تجتاحها قبائل الإنكليز، والسكسون، والجوت، والدنمرقيين، وغالة يهاجمها الفرنجة، والرومان، والبرغنديون، والقوط، وأسبانيا يتنازعها القوط الغربيون والمسلمون، وكانت إيطاليا قد حطمتها الحروب الطوال التي دارت رحاها بين القوط والبيزنطيين، وظلت البلاد التي وهبت نصف العالم الأمن والنظام تعاني خمسة قرون طوال مساوئ الانحلال في الأخلاق والاقتصاد، وأنظمة الحكم.
ومع هذا فإن شارلمان، وألفرد Alfred، وأتو الأول قد وهبوا فرنسا، وإنجلترا وألمانيا فترات من النظام، وكانوا حافزاً على لسير إلى الأمام، وأحيت إرجينا Erigena موت الفلسفة، وجدد ألكوين Alcuin وغيره نشاط التعليم، وأدخل جريرت Gerbert علوم المسلمين إلى بلاد المسيحية ...وبدأت أوربا في القرن الحادي عشر رقيها البطيء إلى ما وصلت إليه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي إلى أعظم ما بلغته في العصور الوسطى بأجمعها.
قصة الحضارة ج14 ص206-207)
 
اثناء عظمة المسلمين في الاندلس كانت اوروبا تعج بالحروب الداخلية
"وحسبنا أن نقول إن النورمان شرعوا في 1036 يفتحون إيطاليا الجنوبية وينتزعونها من الدولة البيزنطية. ذلك أنه كان من عادة أشراف نورمنديا أن يوزعوا أراضيهم على أبنائهم بالتساوي كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام، وكانت نتيجة هذا القانون في نورمنديا أن تجزأت أملاك الأسر في العصور الوسطى إلى ملكيات صغيرة على حين أن نتيجته في فرنسا هي وجود أسر صغيرة. ولم يكن النورمان راغبين في حياة الفقر الهادئة، وكانوا إلى هذا لا يزالون يذكرون ما طبع عليه آباؤهم أهل الشمال من حب المغامرة والسلب والنهب، ولهذا أجَّر بعض شداد النورمان أنفسهم إلى أدواق إيطاليا الجنوبية المتنافسين المتنازعين، وأظهروا ضروباً من البسالة في حروبهم إلى جانب بنفنتو، وسلرنو، ونابلي، وكبوا، وإلى جانب أعدائها، وأعطوا مدينة أفرسا Aversa جزاء لهم على أعمالهم وترامى إلى مسامع غيرهم من شباب النورمان المتحمسين أن الأراضي تكسب بضربة أو ضربتين من سواعدهم، فغادروا نورمنديا إلى إيطاليا. وسرعان ما أصبح من فيها من النورمان كثرة تستطيع أن تقاتل لحسابها، ولم يحل عام 1053 حتى أنشأ أجرأهم ربرت جوسكارد Robert Guiscard (أي العاقل أو الماكر) مملكة نورمندية في إيطاليا الجنوبية. وكان ربرت هذا يتصف بكل الصفات التي تخلعها الأساطير على الأبطال. وكان أطول من جميع جنوده، وكان قوي الساعدين، صلب الرأي، جميل المحيا، أشقر الشعر، أصهب اللحية، فخم الثياب، سخي اليد ينثر الذهب نثراً، قاسياً في بعض الأحيان، وباسلاً على الدوام.ولم يكن روبرت يعترف بغير قانون القوة والخداع، فاجتاح كلبريا Galabria واستولى على بنفنتو، وكاد يمشي إليها على جثة البابا ليو التاسع (1054)، وعقد حلفاً مع نقولا الثاني، تعهد فيه أن يكون خاضعاً له وأن يؤدي له الجزية، وأقطعه نقولا في نظير ذلك كلبريا، وأبوليا Apulia وصقلية (1059). وترك ربرت أخاه الأصغر روجر ليفتح صقلية، واستولى هو على باري Bari (1071) وطرد البيزنطيين من أبوليا. واغتاظ إذ وجد البحر الأدرياوي يعترض طريقه فأمل أن يعبره ليستولي على القسطنطينية، ويصبح أقوى ملوك أوربا جميعاً. وأنشأ من فوره عمارة بحرية، هزم بها الأسطول البيزنطي في واقعة بحرية بالقرب من درزو (1081)، واستغاثت بيزنطية بالبندقية، فخفت هذه المدينة لنجدتها لأنها لم تشأ إلا أن تكون ملكة البحر الأدرياوي، وأوقعت سفائنها الماهرة في ضروب القتال هزيمة منكرة بعمارة جوسكارد البحرية في عام 1082 على بعد قليل من موضع نصره الذي ناله من وقت قصير. ولكن ربرت استطاع بنشاطه الشبيه بنشاط يوليوس قيصر نقل جيشه إلى دورزو Durazzo وهزم عندها جيوش الكسيوس الأول الإمبراطور اليوناني، واخترق إبريوس وتساليا حتى كاد يصل إلى سلانيك. وبينما هو يوشك أن يحقق حلمه إذ تلقى دعوة حارة من البابا جريجوري السابع يستغيث به لينقذه من الإمبراطور هنري الرابع. فما كان من ربرت إلا أن ترك جيشه في تساليا، وعاد مسرعاً إلى إيطاليا، وحشد جيشاً من النورمان، والطليان، والمسلمين أنقذ به البابا، وانتزع روما من الألمان، وأخمد ثورة قام بها الشعب على جيشه، وترك هذا الجيش الحانق يحرق المدينة وينهبها ويخربها تخريباً لا يجاريه فيها تخريب الوندال أنفسهم لهذه المدينة (1084) وعاد في هذه الأثناء ابنه بوهمند Bohemond ليعترف بأن جيشه الذي كان في بلاد اليونان قد مزقه ألكسيوس شر ممزق. وأنشأ القرصان القديم أسطولاً ثالثاً هزم به أسطول البندقية بالقرب من جزيرة كورفو Gorfo (1084)، واستولى على جزيرة كفلونيا Cephalonia الأيونية، ثم مات فيها، بعدوى سرت إليه أو بالسم، في سن السبعين (1085). وكان هو أول القادة اللصوص في إيطاليا (الكندتيري Gonedottieri).
قصة الحضارة ج14 ص211-213)
 
ايطاليا وسلرنو تستفيد من علوم المسلمين والطب
وعمل قسطنطين "الأفريقي"في نقل العلم الاسلامي
"وظل الطب وحده يرفع رأسه عالياً تحتفظ منه الأديرة بما ورثته عن جالينوس. ولعل مدرسة طبية علمانية قد نشأت من دير للبندكتيين في سلرنو في القرن التاسع الميلادي، فكانت هي التي سدت الثغرة القائمة بين طب الأقدمين وطب العصور الوسطى، كما سدت إيطاليا الجنوبية الهنستية الثغرة التي قامت بين ثقافة هذه العصور وثقافة اليونان: وكانت سلرنو مصحة منذ أكثر من ألف عام، وقد وصفت الرواية المحلية المأثورة كلية أبقراط التي كانت بها؛ فقالت إنها تتألف من عشرة معلمين أطباء منهم واحد يوناني وآخر مسلم، وثالث يهودي(13). وجاء قسطنطين "الأفريقي" وهو مواطن يوناني درس الطب في مدارس المسلمين بأفريقية وبغداد-إلى مونتي كسينو Monte Gassino (التي أصبح فيها راهباً)، وإلى سلرنو القريبة منها، جاء إليهما ببضاعة عجيبة مثيرة من المعارف الطبية الإسلامية. وأسهمت تراجمه للكتب اليونانية والعربية في الطب وغيره من الميادين في إحياء العلم بإيطاليا، حتى كانت مدرسة سلرنو حين وفاته حاملة لواء العلوم الطبية في بلاد الغرب المسيحية.
قصة الحضارة ج14 ص219
 
مسيحيون اسبانيون يقتلون مسيحيين باكثر مما يقتلهم المسلمون
"أسبانيا المسيحية
711-1095
ليس تاريخ أسبانيا المسيحية في هذه الفترة إلا حرباً صليبية طويلة الأمد منشأها تصميمها المتزايد على إخراج المسلمين منها. وكان هؤلاء المسلمون قوماً أغنياء أقوياء، يمتلكون معظم الأراضي الخصبة، وتسيطر عليهم خير الحكومات؛ أما المسيحيون فكانوا فقراء ضعفاء، وتربة بلادهم ضنينة، وتفصلهم سلاسل الجبال عن سائر بلاد أوربا، وتقسمهم إلى ممالك صغيرة، وتشجع النعرة القومية الإقليمية، والتطاحن بين الأخوة، حتى لقد أريق من دماء المسيحيين على أيدي أهلها المسيحيين ذوي العواطف الثائرة أكثر مما أريق منها على أيدي المسلمين
قصة الحضارة ج14 ص222
 
حكمة عجيبة
ومع ذلك فغرضي من هذا النص بعيد المدى
ذلك ان ألفنسو السادس استفاد من علوم المسلمين بتواجد المسلمين وتشجيعهم وهذا يعني على كل حال ان المسلمون حتى في اذل حالاتهم نفعوا الغرب فتطور بهم!!
"ولم تستطع أسبانيا المسيحية، وهي على هذه الحال من الانقسام، أن تسترد البلاد من المسلمين إلا لأن أسبانيا الإسلامية قد فاقتها آخر الأمر في التمزق والفوضى. وكان سقوط خلافة قرطبة عام 1036 فرصة ثمينة اغتنمها ألفنسو السادس ملك قشتالة (الأذفنش)، فاستولى على طليطلة بمعونة المعتمد ملك أشبيلية (1085) واتخذها عاصمة لملكه وعامل المسلمين المغلوبين بما جبل عليه المسلمون من كرم، وشجع انتشار الثقافة الإسلامية في أسبانيا المسيحية.
قصة الحضارة ج14 ص226
 
شارلمان
ولد أعظم ملوك العصور الوسطى عام 742 في مكان غير معروف. وكان يجري في عروقه الدم الألماني وينطق باللسان الألماني
"فلما هزم السكسون خيرهم شارلمان بين التعميد والموت وأمر بضرب رقاب 4500 منهم في يوم واحد(21)، وسار بعد فعلته هذه إلى ثيونفيل ليحتفل بميلاد المسيح.
قصة الحضارة ج14 ص230)
 
يالخيبة العرب
"ولما كان شارلمان في بادربون Paderborn إذ استغاث به ابن العربي حاكم برشلونة المسلم في عام 777 لينصره على خليفة قرطبة. فما كان منه إلا أن سار على رأس جيش عبر به جبال البرانس، وحاصر مدينة بمبلونا المسيحية، وعامل البشكنس مسيحي أسبانيا الشمالية الذين لا يحصى عديدهم معاملة الأعداء، وواصل زحفه حتى وصل إلى سرقسطة نفسها. غير أن الفتن الإسلامية التي وعد ابن العربي بإثارتها على الخليفة والتي كانت جزءاً من الخطة الحربية المدبرة لم يظهر لها أثر، ورأى شارلمان أن جيوشه بمفردها لا تستطيع مقاومة جيوش قرطبة، وترامى إليه أن السكسون ثائرون عليه وأنهم يزحفون وهم غضاب على كولوني Cologce، فرأى من حسن السياسة أن يعود بجيشه إلى بلاده، واخترق بهم في وصف طويل رفيع ممرات جبال البرانس. وبينما كان يعبر أحد هذه الممرات عند رُنسفال Roncesvalles من أعمال نافاري إذا انقضت على مؤخرة الفرنجة قوة من البشكنس، ولم تكد تبقى على أحد منها (778)، وهناك مات هرودلاند Hruodland النبيل الذي أصبح بعد ثلاثة قرون بطل القصيدة الفرنسية الذائعة الصيت أغنية رولان Chancno de Roland. وسير شارلمان في عام 795 جيشاً آخر عبر جبال البرانس، واستولى به على شريط ضيق في شمالي أسبانيا الشرقي وضمه إلى فرنسيا Francia. واستسلمت له برشلونة، وأقرت أستراسيا ونبرة بستادة الفرنجة عليهما (806). وكان شارلمان في هذه الأثناء قد أخضع السكسون لسلطانه (785)، وصد الصقالبة الزاحفين على بلاده (789)، وهزم الآفار وشتت شملهم (790-805)، ثم أخلد في السنة الرابعة الثلاثين من حكمه والثالثة والستين من عمره إلى السلام.
والحق أنه كان على الدوام يحب شئون الإدارة والحكم أكثر مما يحب الحرب، ولم ينزل إلى ميدان القتال إلا ليفرض على أوربا الغربية، التي مزقتها منذ قرون طوال منازعات القبائل والعقائد، شيئاً من وحدة الحكم والعقيدة.
وكان في أثناء هذا الحكم قد أخضع لسلطانه جميع الشعوب الضاربة بين نهر الفستيولا Vistula والمحيط الأطلنطي، وبين البحر البلطي وجبال البرانس، وإيطاليا كلها تقريباً، والجزء الأكبر من بلاد البلقان. ترى كيف استطاع رجل واحد أن يحكم هذه المملكة المتباينة المترامية الأطراف؟ الجواب أنه قد وهب من قوة الجسم والأعصاب ما يستطيع به أن يأخذ على عاتقه مئات التبعات، والأخطار، والأزمات، وأن يتحمل ما هو أصعب على النفس من هذا كله وهو ائتمار أبنائه به ليقتلوه. وكان في دمائه دم أو تعاليم بيبين الثالث الحذر الحكيم، وشارل مارتل الذي لا يرحم ولايلين، وكان هو نفسه إلى حد ما مطرقة مثل مارتل. وقد وسع أملاكهما وحافظ عليها بما وضعه لها من نظام عسكري قوي الدعائم، وسندها بما أفاء عليها من ظل الدين وشعائره. وكان في وسعه أن يضع لنفسه الأهداف الكبار، وأن يهيئ الرسائل ويبتغي الغايات. وكان في مقدوره أن يقود الجيوش، ويقنع الجمعيات، ويشرح صدور الأعيان، ويسيطر على رجال الدين، ويكبح جماح الحريم.
قصة الحضارة ج14 ص230-231)
 
وتعد القوانين الست والخمسون الباقية من تشريعات شارلمان من أكثر المجموعات القانونية طرافة في العصور الوسطى. فهي لا تكون مجموعة منتظمة، بل هي توسيع القوانين "الهمجية" الأقدم منها عهداً وتطبيقاً على الظروف والمطالب الجديدة. ولقد كانت في بعض تفاصيلها أقل استنارة من قوانين ليوتبراند اللمباردي: فقد أبقت على عادات الكفارة عن الجرائم الكبرى، والتحكم الإلهي، والمحاكمة بالاقتتال، والعقاب ببتر الأعضاء(24)، وحكمت بالإعدام على من يرتد إلى الوثنية، أو من يأكل اللحم في أيام الصوم الكبير-وإن كان يسمح لرجال الدين أن يخففوا هذه العقوبة الأخيرة(25). ولم تكن هذه كلها قوانين، بل منها ما كان فتاوي، ومنها ما كان أسئلة موجهة من شارلمان إلى موظفيه، ومنها ما هو نصائح أخلاقية. وقد جاء في إحدى المواد: "يجب على كل إنسان أن يعمل بكل ما لديه من قوة وكفاية لخدمة الله وإتباع أوامره، لأن الإمبراطور لا يستطيع أن يراقب كل إنسان في أخلاقه الخاصة"(26). وحاولت بعض المواد أن تقيم العلاقات الجنسية والزوجية بين أفراد الشعب على قواعد أكثر نظاماً مما كانت قبل، على أن الناس لم يطيعوا هذه النصائح كلها؛ ولكن القوانين والنصائح في مجموعها تنم عن جهود صادقة لتحويل الهمجية إلى حضارة.
وشرع شارلمان للزراعة، والصناعة، والشئون المالية، والتعليم، والدين، كما شرع لشئون الحكم والأخلاق. وكان حكمه في فترة انحطت فيها الحالة الاقتصادية في جنوبي فرنسا وإيطاليا إلى الحضيض من جراء سيطرة المسلمين على البحر المتوسط. وفي هذا يقول ابن خلدون إن المسيحيين لم يكن في وسعهم أن يسيروا لوحاً فوق البحر
قصة الحضارة ج14 ص234-235)
 
من النص السابق
إن المسيحيين لم يكن في وسعهم أن يسيروا لوحاً فوق البحر
 
شارلمان يحاول ان يقلد العلم الاسلامي وينقله وهذا دليل ولو طفيف على انتقال العلم الاسلامي عبر الحروب الصليبية!
"وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و "الألسنة غير المهذبة" ويحث كل كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتعلم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعو فيها مديري هذه المدارس أن "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على أن أوامره لم تذهب أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف Theodulf أسقف أورليان مدارس في كل أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس أن يتناولوا أجوراً(33)، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير Auxer، وبافيا، وسانت جول St, Gall، وفلدا Fulda، وغنت Ghent وغيرها من المدن. وأراد شارلمان أن يوفر حاجة هذه المدارس إلى المعلمين، فاستقدم العلماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.
على أننا يجب أن لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم
قصة الحضارة ج14 ص238-239)
 
يقظة الاطفال بعلوم الاكابر
عهد شارلمان في عام 787
"فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم
قصة الحضارة ج14 ص239)
 






الامية في اوروبا ايام شارلمان حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين
"وامتدت جهود الملك وعنايته إلى كل ناحية من نواحي الحياة، فأسمى الرياح الأربع بأسمائها التي تعرف بها الآن؛ ووضع نظاماً إعانة الفقراء، وفرض على النبلاء ورجال الدين ما يلزمه من المال لهذا المشروع، ثم حرم التسول وجعله جريمة يعاقب عليها القانون(29). وهاله انتشار الأمية في أيامه حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين، كما هاله انعدام التعليم بين الطبقات الدنيا من هذه الطائفة، فاستدعى علماء من الأجانب لإعادة مدارس فرنسا إلى سابق عهدها؛ فأغرى بولس الشماس على أن يأتي إليه من منتي كسينو، وألكوين من يورك (782)، ليعلما في المدرسة التي أنشأها شارلمان في القصر الملكي بآخن. وكان ألكوين هذا (735-804) رجلاً سكسونياً، ولد بالقرب من مدينة يورك، وتعلم في مدرسة الكتدرائية وهي المدرسة التي أنشأها الأسقف إجبرت في تلك المدينة، وقد كانت بريطانيا وأيرلندة في القرن الثامن متقدمتين من الناحية الثقافية عن فرنسا. ولما بعث أفا Offa ملك مرسية Mercia ألكوين في بعثة إلى شارلمان ألح شارلمان على ألكوين أن يبقى عنده، وسر ألكوين أن يخرج من إنجلترا حين كان "الدنمرقيون يتلفون أرضها، ويدنسون الأديرة بما يرتكبونه فيها من الزنى"(30)، فآثر البقاء، وبعث إلى إنجلترا وغيرها من البلاد في طلب الكتب والمعلمين، وسرعان ما أضحت مدرسة القصر مركزاً نشيطاً من مراكز الدرس، ومراجعة المخطوطات ونسخها، كما أضحت مركزاً لإصلاح نظم التربية إصلاحاً عم جميع المملكة. وكان من بين طلابها شارلمان نفسه، وزوجته ليوتجارد Liutgard، وأولاده وابنته جزيلا Gisela، وأمين سره اجنهارد Eginhard، وإحدى الراهبات، وكثيرون غيرهم، وكان أكثرهم شغفاً بالتعليم؛ فكان يحرص على العلم حرصه على تملك البلاد، يدرس البلاغة وعلوم الكلام، والهيئة؛ ويقول إجنهارد إنه بذل جهوداً جبارة ليتعلم الكتابة "وكان من عادته أن يحتفظ بالألواح تحت وسادته، حتى يستطيع في أوقات فراغه أن يمرن يده على رسم الحروف؛ ولكن جهوده هذه لم تلق إلا قليلاً من النجاح لأنه بدأ هذه الجهود في سني حياته"(31). ودرس اللاتينية بنهم شديد، ولكنه ظل يتحدث بالألمانية مع أفراد حاشيته؛ وقد وضع كتاباً فينحو اللغة الألمانية وجمع نماذج من الشعر الألماني القديم.
قصة الحضارة ج14 ص236-237)
 
شالمان وتاريخ الدعارة بين الراهبات في الاديرة
"وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في أن يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أو الأخلاق...وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "الدعارة، والسكر، والشره" بين الراهبات"
قصة الحضارة ج14 ص240)
 
شارلمان امبراطورا
"وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى كل ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أقاليمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون أن تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعرف من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أو منذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعرفه أن ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه الخطوة الأولى، أو لعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تنفيذه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أو نقلها من شخص إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تترك أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير أن الأمر قد سيره بعض التيسير إن إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد قال البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين
قصة الحضارة ج14 ص241)
 
وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.
قصة الحضارة ج14 ص242)
 
شارلمان
كانت له عشيقات الا انه جعل بعد موته قديسا!
اختراع القديسين والإلهة بالطبع في عالم الغرب واليونان والرومان كما كان ايضا في مصر
"ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.
قصة الحضارة ج14 ص247
 
"وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله أن تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون أن سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على أن الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتو Otto الأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا Frederik Barbarossa لفظ مقدس sacrum إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.
قصة الحضارة ج14 ص243-244)
 
شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية
"وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلو عليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن كل توسع في حدود الإمبراطوريات أو العلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية أن تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير أن ألمانيا كان عليها في هذا الوقت أن تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصقالبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة Jutland قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا Frisia. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله أن يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا أن نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون.
ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير أن لويس رغم هذا قد رفع باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور
قصة الحضارة ج14 ص246-247)
 
الحروب المسيحية-المسيحية
"وفي خلال هذه الحروب الداخلية الكثيرة الأكلاف، والتي أضعفت الحكومة، وأنقصت السكان، والثروة، والروح المعنوية في أوربا الغربية، غزت القبائل الإسكنديناوية في سعيها إلى التوسع وبسط السلطان بلاد فرنسا فاكتسحتها بموجة همجية واصلت وأنمت الخراب والذعر اللذين جاءا في أعقاب الهجرات الألمانية قبل ذلك الوقت بثلاثة قرون. فبينما كان أهل السويد يتسربون إلى الروسيا والنرويجيون يضعون أقدامهم في أيرلندة، والدنمرقيون يفتحون إنجلترا، كان خليط من أهل إسكنديناوة، في وسعنا أن نسميهم الشماليين أو أهل الشمال، يغيرون على مدائن فرنسا القائمة على شواطئ البحار أو ضفاف الأنهار. واستحالت هذه الغارات بعد موت لويس التقي حملات قوية تقوم بها أساطيل مؤلفة من أكثر من مائة سفينة، يسيرها ملاحون محاربون. وقاست فرنسا في القرنين التاسع والعاشر سبعاً وأربعين من هذه الهجمات الشمالية؛ ونهب المغيرون في عام 840 مدينة رون Rouen، وبدءوا مائة عام من الهجمات على نورماندي، وفي عام 843 دخلوا مدينة نانت Nantes وذبحوا أسقفها وهو قائم للصلاة أمام مذبحه، وفي عام 844 صعدوا في نهر الجارون Garonne إلى طلوشة Tculcuse. وفي عام 845 صعدوا في نهر السين إلى باريس، ولكنهم تركوا المدينة وشأنها بعد أن أخذوا جزية مقدارها سبعة آلاف رطل من الفضة. وبينا كان المسلمون يهاجمون روما استولى أهل الشمال على فريزيا في عام 846 وأحرقوا دوردرخت Dordreeht، ونهبوا ليموج Limoges. ثم حاصروا بوردو Berdeaux في عام 847، ولكنهم ردوا عنها وأعادوا الكرة عليها في عام 848، واستولوا عليها في هذه المرة، ونهبوها، وقتلوا أهلها، وأحرقوها عن آخرها. وفي العالم الذي تلاه وجهوا مثل هذه الضربات إلى بوفيه Beauvais وبايو Bayeux، وسانت لو St, Lu، ومو Meaux، وإيفرو Evreux، وتور Tours وفي وسعنا أن نصور ما حل بهذه البلاد من رعب إذا قلنا أن تور نهبت في أعوام 853، و856، و862، 872، و886، و903، 919(45)، وإن باريس نهبت في عامي 856، و861، وأحرقت في عام 865. وجهز الأساقفة في أورليان وشارتر Chartres جيشين صدوا بهما المغيرين (855)؛ ولكن القراصنة الدنمرقيين خربوا أورليان في عام 856. وفي عام 859 اخترق أسطول شمال مضيق جبل طارق ودخل البحر المتوسط، ونهب المدن الواقعة على ضفاف الرون من مصبه حتى مدينة فالنس Valence شمالاً، ثم عبر خليج جنوا، ونهب بيزا وغيرها من المدن الإيطالية. ولما قاومتهم قلاع النبلاء الحصينة في أماكن متفرقة في طريقهم نهبوا أو أتلفوا كنوز الكنائس والأديرة غير المحمية، وكثيراً ما أحرقوها بما فيها من مكتبات، ولم ينج القساوسة والرهبان من القتل في بعض الأحيان. وكان الناس في تلك الأيام الحالكة يدعون ربهم في صلواتهم قائلين: "اللهم أنقذنا من شر أهل الشمال"(46)! وكأنما كان المسلمون على موعد مع الشماليين فاستولوا على قورسقة وسردينية في عام 810، ونهبوا ساحل الرفييرا الفرنسي في عام 820، وخربوا أرل Arles في 842، واستولوا على ساحل فرنسا الواقع على البحر المتوسط وبقى في أيديهم حتى عام 972.
ترى ماذا كان يفعل الملوك والأشراف خلال هذه الأعوام الخمسين الملية بالتدمير والتخريب؟ فأما الأشراف فقد كان لديهم من المشاغل ما يكفيهم، ولم يكونوا يرغبون في أن يخفوا لمساعدة أقاليمهم، ولم يستجيبوا إلا استجابات ضعيفة لما وجه إليهم من نداء للعمل الإجماعي. وأما الملوك فكانوا في شغل شاغل بحروبهم في سبيل التملك أو الاستيلاء على تاج الإمبراطورية، وكانوا أحياناً يشجعون الساحليين في غاراتهم على سواحل منافسيهم. وحدث في عام 859 أن اتهم هنكمار كبير أساقفة ريمس شارل الأصلع علناً بالإهمال في الدفاع عن فرنسا. وخلف شارل فيما بين 877 و888 ملوك أكثر منه ضعفاً-لويس الثالث، وكارلومان، وشارل البدين. وتعاونت أحداث الزمان والمنايا فتوحدت مملكة شارلمان مرة أخرى تحت حكم شارل البدين، وأتيحت للإمبراطورية المحتضرة فرصة أخرى للدفاع عن حياتها. ولكن أهل الشمال استولوا على نجمين Nmegen وأحرقوها في عام 880، واتخذوا من كورتراي Courtrai وغنت قلاعاً لهم حصينة، وفي عام 881 أحرقوا لياج Li(ge، وكولوني، وبن Bonn وبروم Prum، وآخن؛ وفي 882 استولوا على تريير Trier، وقتلوا كبير أساقفتها الذي قاد المدافعين عنها؛ وفي السنة نفسها استولوا على ريمس، وأرغموا هنكمار على أن يقاتل ويموت. وفي عام 883 استولوا على أمين Amiens، ولكنهم انسحبوا منها بعد أن أخذوا أثنى عشر ألف رطل من الفضة من كارلومان. وفي عام 885 استولوا على رون، وساروا في النهر صعداً إلى باريس في سبعمائة سفينة عليها ثلاثون ألف رجل. وقاد حاكم المدينة الكونت أودو Odo أو أود Eudes، وأسقفها جزلان Gozlin المدافعين عنها، وقاوموا المغيرين مقاومة باسلة. وظلت باريس مضروباً عليها الحصار ثلاثة عشر شهراً هاجم المدافعون عنها المحاصرين أثنى عشر مرة؛ وانتهى الأمر بأن أدى شارل البدين الشماليين 7000 رطل من الفضة بدل أن يخف لإنقاذ المدينة، وأذن لهم فوق ذلك أن يسيروا في نهر السين صعداً ويقضوا الشتاء في برغندية التي نهبوها نهباً ترتضيه نفوسهم.ثم خلع شارل وتوفي عام 888، وأختير أودو ملكاً على فرنسا، وصارت باريس بعد ثبت قيمتها من الوجهة الحربية الفنية مقر الحكومة.
وحمى شارل الساذج الذي خلف أودو على العرش (895-923) إقليم السين والساءون من المغيرين، ولكنه لم يرفع يده ضد غارات الشماليين على بقية فرنسا، ثم لم يكتف بهذا بل أسلم إلى رولف Rolf أو رلو Rollo أحد زعماء النورمان في عام 911 أقاليم رون، وليزيو Lisienx، وإفرو Evreux. وكان النورمان قد استولوا عليها من قبل. ووافق النورمان على أن يؤدوا عنها للملك ما يؤديه أمراء الإقطاع عن أملاكهم، ولكنهم كانوا يسخرون منه وهم يقومون بمراسم الولاء التقليدية. وارتضى ليو أن يُعَمَّد، وحذا رجاله حذوه، ثم استقروا على مهل وأصبحوا زراعاً ومتحضرين. وهكذا بدأت نورمنديا بأن كانت ولاية في فرنسا فتحها أهل الشمال.
ولقد وجد الملك الساذج حلاً لمشكلة باريس إن لم يكن لغيرها من المشاكل، ذلك أن النورمان أنفسهم سيصدون بعد ذلك الوقت من يحاولون دخول السين من المغيرين. أما في غير هذا الجزء من فرنسا فلم تنقطع غارات الشماليين، فنهبت تشارتر في عام 911، وأنجير Angers في عام 919، ونهبت أكتين Aquitaine وأوفرني في عام 923، كما نهبت آرتوا وإقليم بوفيه في عام 924. وفي هذا الوقت نفسه تقريباً دخل المجر برغندية في عام 917 بعد أن خربوا جنوبي ألمانيا، واجتازوا الحدود الفرنسية، ثم اجتازوها راجعين دون أن يلقوا مقاومة، ونهبوا الأديرة القريبة من ريمس وسان Sens وأحرقوها (937)، واخترقوا كأرجال الجراد الفتاك أكتين (951) وأحرقوا ضواحي كورتراي، وليون، وريمس (954)، ونهبوا برغندية على مهل. وأوشك صرح النظام الاجتماعي في فرنسا أن ينهار تحت هذه الضربات المتكررة التي كالها له الماليون والهون. وفي ذلك يقول أحد المجاميع الدينية المقدسة في عام 909. لقد أقفرت المدن من السكان، وخربت الأديرة وحرقت، وأضحت البلاد في عزلة... وكما كان الناس الأولون يعيشون بغير قانون... فكذلك يفعل الآن كل إنسان ما يبدو حسناً في نظره غير آبه بالشرائع البشرية والدينية... فالأقوياء يظلمون الضعفاء، والعالم مليء بالعنف والقسوة على الفقراء، وأملاك الكنائس تنهب... ويلتهم الناس بعضهم بعضاً كما يفعل السمك في البحر
قصة الحضارة ج14 ص251-255)
 
فرنسا حوالي 1006 م وسقراط المبجل وتوطين العلوم!
"وحتى في فرنسا الجريحة كانت مدارس الأديرة تضيء حلكة هذه العصور المظلمة. فقد افتتح ريمي الأوكسيري Remy of Auxerre مدرسة عامة في باريس عام 900، وأنشئت في القرن العاشر مدارس أخرى في أوكسير وكوربي، وريمس ولييج. وأسس الأسقف فلبير Fulbert (960-1028) بمدينة تشارتر حوالي 1006 مدرسة أصبحت أشهر مدارس فرنسا كلها قبل أيام أبلار، ففيها وضع سقراط المبجل-كما كان تلاميذه يسمونه-قواعد تدريس العلوم، والطب، والآداب القديمة، بالإضافة إلى علوم الدين، والكتاب المقدس، والطقوس الدينية. وكان فلبير هذا رجلاً كريم الطبع، عظيم الإخلاص صبوراً صبر أولى العزم من الرسل، محسناً متصدقاً إلى أقصى حد. ولقد تخرج في مدرسته-قبل ختام القرن الحادي عشر-علماء أمثال جون السلزبوري John of Salisbury، ووليم الكنشي William of Conches، وبرنجار التوري Berengar of Tours وجلبرت ده لابريه Gilbert de la Porr(a. وفي هذه الأثناء وصلت مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان أوج مجدها في كمبييني Compi(gne تارة وفي لأون تارة أخرى بفضل ما حباها به شارل الأصلع من عون وتشجيع.
وقد استدعى شارل إلى مدرسة القصر عام 843 علماء أيرلنديين وإنجليز في مختلف العلوم، كان من بينهم عالم من أعظم العقول المبتكرة وأعظمها جرأة في العصور الوسطى، رجل يبعث وجوده في ذلك الوقت الشك في صواب استبقاء اسم "العصور المظلمة" حتى على القرن التاسع نفسه، بَلْه غيره من القرون.
قصة الحضارة ج14 ص257
 
قوانين انجليزية في القرن 11 الميلادي"ونشأت الشرائع ببطء في هذه الحكومة المفككة. وقد وجدت في القانون الألماني القديم، بعد أن عدل لفظه وظروفه، كفيتها...وكان القانون الإنجليسكسوني يقضي بأن يغرم الإنسان شلناً أو شلنين إذا تسبب في جرح إنسان جرحاً يبلغ طوله بوصة واحدة، وثلاثين شلناً إذا قطع جزءاً من أذن؛ على أننا يجب أن نضيف هنا أن الشلن الواحد كان يكفي لابتياع خروف. وكان قانون إثلبرت يعاقب الزاني بأن يؤدي إلى زوج من زنى بها غرامة ويبتاع له زوجة أخرى(8). وكل من قاوم أمر محكمة من المحاكم نودي به "خارجاً على القانون" فتصادر أملاكه لصالح الملك، ويباح دمه. ولم يكن يسمح بالدية في بعض الحالات، وكانت توقع بدلاً منها عقوبات صارمة: الاسترقاق، والجَلد، والإخصاء، وبتر اليدين أو القدمين، أو الشفة العليا، أو جدع الأنف، أو صلم الأذن، أو إعدام المذنب بشنقه، أو قطع رأسه ، أو حرقه، أو رجمه، أو إغراقه في الماء، أو إلقائه في هوة سحيقة
قصة الحضارة ج14 ص275-276)
 
انجلترا -القرن الحادي عشر-وانحطاط المستوى الخلقي والثقافي
"ولم تكن العادات والأخلاق ظريفة متأنقة كما أضحت في بعض العصور المتأخرة من تاريخ إنجلترا، فنحن نسمع الشيء الكثير عن الخشونة والفظاظة، والوحشية، والكذب والغدر، والسرقة وغيرها من العادات المتأصلة، ويعترف القراصنة النورمان الذين أغاروا على إنجلترا في عام 1066، ومنهم من لم يكونوا أبناء شرعيين، بأنهم دهشوا من انحطاط المستوى الخلقي والثقافي عند ضحاياهم. وكان جو إنجلترا الرطب يغري الإنجليز- السكسون بالإفراط في الطعام والشراب، وكانت "حفلة الجعة" عندهم من مستلزمات المجتمعات والأعياد. ويصف القديس بنيفاس الإنجليز في القرن الثامن وصفاً بهيجاً لا يخلو من المغالاة فيقول "إن المسيحيين والوثنيين على السواء يأبون أن تكون لهم زوجات شرعيات، ولا يزالون يعيشون عيشة الدعارة والزنى كما تعيش الخيل الصاهقة والحمر الناهقة"(13) وكتب في عام 756 إلى الملك إثلبولد Ethelbald يقول:
"لو أن احتقارك للزواج المشروع كان يهدف إلى الطهارة لكان أمراً محموداً، أما وأنتم منغمسون في الترف، وترتكبون الزنى مع الراهبات أنفسهن، فإن ذلك الاحتقار أمر مرذول يسربلكم العار... ولقد سمعنا أن نبلاء مرسية كلهم تقريباً يحذون حذوكم، فيهجرون أزواجهم الشرعيات، ويرتكبون الفحشاء مع الزانيات والراهبات... خذوا حذركم من هذا... إذا كانت أمة الإنجليز... تحتقر الزواج المشروع، وتسارع إلى الزنى، فلا بد أن يؤدي هذا الاتصال إلى وجود شعب دنيء يحقر الله، وستجر الخراب والدمار على البلاد بهذا التهتك وهذه الأخلاق المرذولة".
وكان من حق الزوج في القرون الأولى من حكم الإنجليز- السكسون أن يطلق زوجته متى شاء وأن يتزوج غيرها. وقد ندد مجمع هرتفورد Hertford الديني (673) بهذه العادة، وعمل نفوذ الكنيسة بالتدريج على تثبيت قواعد العلاقة الزوجية، فارتفعت مكانة النساء ارتفاعاً عظيماً وإن لم يمنع هذا استرقاقهن في بعض الأحيان. ولم يكن النساء يتلقين إلا القليل من التعليم في الكتب، ولكن لم يجدن في ذلك ما يحول بينهن وبين تأثيرهن في الرجال واجتذابهم لهن. فكان الملوك يصبرون كثيراً على مغازلة النساء المتشامخات، ويستشيرون زوجاتهم في السياسة العامة(15).
قصة الحضارة ج14 ص277-278)
 
من هو او ما هو الشعب الإنجليزي؟
"وكان الغزو الدنمرقي حلقة في سلسلة الغزوات الأجنبية الطويلة وفي الامتزاج العنصري اللذين انتهيا بالفتح النورمندي وأنتجا آخر الأمر الشعب الإنجليزي. فقد امتزجت دماء الكلت والغاليين، والإنجليز والسكسون والجوت، والدنمرقيين والنورمان، بالزواج أو بغيره من الوسائل، فخلقت من البريطانيين أهل البلاد في زمن الرومان، وهم الذين ليست لهم ميزة ولا قدرة على الابتكار، خلقت منهم قراصنة عهد الملك إلزبث الصخابين، وفاتحي العالم الصامتين في القرون التالية. ولقد جاء الدنمرقيون إلى إنجلترا، كما جاء إليها الألمان وأهل الشمال، بحب للبحر يكاد يبلغ درجة الوجد والهيام، واستعداد لقبول دعوة البحر الغادرة إلى المغامرة والاتجار في أقاصي البلاد، أما من الجهة الثقافية فقد كانت غزوات الدنمرقيين كارثة على البلاد، وقف في أثنائها فن البناء فلم يخط خطوة إلى الأمام، وانحل فن الإنجليزي. فقد امتزجت دماء الكلت والغاليين، والإنجليز والسكسون والجوت، والدنمرقيين والنورمان، بالزواج أو بغيره من الوسائل، فخلقت من البريطانيين أهل البلاد في زمن الرومان، وهم الذين ليست لهم ميزة ولا قدرة على الابتكار، خلقت منهم قراصنة عهد الملك إلزبث الصخابين، وفاتحي العالم الصامتين في القرون التالية. ولقد جاء الدنمرقيون إلى إنجلترا، كما جاء إليها الألمان وأهل الشمال، بحب للبحر يكاد يبلغ درجة الوجد والهيام، واستعداد لقبول دعوة البحر الغادرة إلى المغامرة والاتجار في أقاصي البلاد، أما من الجهة الثقافية فقد كانت غزوات الدنمرقيين كارثة على البلاد، وقف في أثنائها فن البناء فلم يخط خطوة إلى الأمام، وانحل فن زخرفة الكتب فيما بين عامي 750، 950؛ كما وقفت النهضة العلمية والأدبية التي شجعها ألفرد، وفعلت غزوات الشماليين ما فعلته في غالة نفسها فأخذت تقضي على أعمال شارلمان المجيدة.
قصة الحضارة ج14 ص287-288
 
أيرلندة في المسيحية
"كانت أيرلندة في الفترة الواقعة بعد موت القديس بارتك والقرن الحادي عشر مقسمة إل سبع ممالك، منها ثلاث في ألصتر Ulster، أما الباقية فهي كنوت Connought، ولينستر Leinster، ومنشستر Munster؛ وميث Meath. وكانت هذه الممالك تحارب بعضها بعضاً في أغلب الأوقات لأنها لم تستطع الانتقال إلى آفاق من الحياة أوسع من آفاقها الضيقة؛ ولكننا نسمع من بداية القرن الثالث الميلادي من غارات يشنها الأيرلنديون على السواحل البريطانية الغربية، وعن محلات أيرلندية في هذه السواحل. ويسمي الإخباريون هؤلاء المغيرين بالاسكتلنديين Scots-ويبدو أن هذا اللفظ لفظ أيرلندي معناه الجوالون، وإذا ذكر هذا اللفظ متصلاً بهذه الفترة من الزمن فمعناه الأيرلنديون. ولم تنقطع الحروب في أثنائها؛ وظلت النساء حتى عام 590 يطلبن إلى الاشتراك في القتال، والرهبان والقساوسة يدعون إليه إلى جانب غيرهم ممن هم أكثر اعتياداً له، وكان ثمة قانون يماثل في جوهره قوانين "البرابرة" الذين يسكنون القارة الأوربية، ويشرف على تنفيذ البريهون Brehons-وهم قضاة من رجال القانون مدربون أحسن تدريب، كانوا منذ القرن الرابع يعلّمون في مدارس الحقوق ويؤلفون رسائل قانونية باللغة الجيلية Gaelic(33).
قصة الحضارة ج14 ص296
 
غزوات مسيحية على ايرلندة وذبح رجال الدين-اخوانهم
"وإذ كان هذا العصر الذهبي في أيرلندة نتيجة لسلامتها من الغزوات الألمانية التي أرجعت سائر أوربا مئات السنين إلى الوراء، فقد قضت عليه غزوات الشماليين التي قضت في فرنسا وإنجلترا خلال القرنين التاسع والعاشر على كل ما أحرزه هذا البلدان بفضل ما بذله شارلمان وألفرد من جهود جبارة. ولعله قد ترامى إلى أهل النرويج والدنمرقة-وكانوا لا يزالون وثنيين-أن الأديرة الأيرلندية غنية بالذهب، والفضة، والحلي، وأن انقسام البلاد السياسي يجعلها عاجزة عن مقاومة أعدائها متحدة. وحدثت غزوة تجريبية في عام 795 ولكنها لم تسبب للبلاد خسارة تذكر، غير أيدت ما كان يشاع من عدم قدرة هذه الفريسة على صد الغزاة؛ ثم أعقبتها غزوات أخرى أكثر منها في عام 823 نهب فيها الغزاة كورك Cork وكلوين Gloyne، وخربوا ديري بنجور Bangor وموفيل Moville وذبحوا رجال الدين. ولم تكد تخلو سنة واحدة بعد ذلك العام الأخير من غزوة أو غزوات، استطاعت جيوش صغيرة باسلة أن تصد فيها الغزاة من بعض الأحيان، ولكنهم كانوا يعيدون الكرّة وينهبون الأديرة أينما حلوا. واستقرت جماعات من الغزاة الشماليين قرب شاطئ البحر، وأنشئوا مدائن دبلن، ولمرك Limerick، ووترفورد Waterford وفرضوا الجزية على نصف الجزيرة الشمالي. واتخذ مليكهم ثورجست Thorgest أرماغ Armagh مدينة القديس بتريك عاصمة لملكه الوثني، وتوّج زوجه الوثنية على مذبح كنيسة القديس كيران St, Kieran في كلونماكنيوس(43). وحارب ملوك أيرلندة متفرقين غزاة بلادهم، ولكنهم كانوا في الوقت عينه يحارب بعضهم بعضاً.فقد قبض ملاخي Malachi ميث على ثورجست وأماته غرقاً (845)، ولكن أولاف الأبيض Olof the White أحد الأمراء النرويجيين أسس في عام 851 مملكة دبلن التي ظلت تابعة لأهل الشمال حتى القرن الثاني عشر. وقضت هذه الغزوات المتتابعة على عصر العلم والشعر، وأحلت محله عصر الحروب الطاحنة، وكان الجمود المسيحيون والوثنيون في خلاله ينهبون الأديرة ويحرقونها، ويتلفون المخطوطات القديمة ويشتتون ما تجمع من التحف الفنية خلال القرون الطوال، "ولم يمارس شاعر، أو فيلسوف، أو موسيقي فنه المعتاد في تلك البلاد" كما يقول مؤرخ أيرلندي قديم(44).
وظلت الحال كذلك حتى ظهر آخر الأمر رجل كان له من القوة ما أمكنه أن يجمع شتات هذه الممالك ويؤلف منها أمة واحدة. كان يريان بورمها أو بورو Brian Borumha or Boru (941-1094) أخاً لماهون ملك منستر King Mahon of Munster، وزعيم عمارة دلجاس Dalgas. وحارب الأخوان جيشاً دنمرقياً بالقرب من تبريري Tipperary (968) ومزقاه شر ممزق، ولم يرحما فلوله المنهزمة؛ ثم استوليا على لمرك، وقتلا كل من عثرا عليه فيها من الشماليين. ولكن اثنين من صغار الملوك-ملوي ملك دزمند Molloy of Desmond ودونافان ملك هاي كاربيري Donanvan of Hy Garbery-خشيا أن يستولي الأخوان الزاحفان على مملكتيهما فعقدا حلفاً مع المهاجرين الدنمرقيين، واختطفا ماهون وقتلاه (976). وأوقع بريان، وقد أصبح الآن ملكاً، هزيمة ثانية بالدنمرقيين، وقتل ملوي. وصمم على توحيد أيرلندة كلها، ولم يتردد في إتباع أية وسيلة توصله إلى هذه الغاية، فتحالف مع الدنمرقيين مالكي دبلن، وهزم بمعونتهم ملك ميث، وندى به ملكاً على أيرلندة كلها (1013). ولما استمتع بالسلم بعد حروب دامت أربعين عاماً، أخذ يعيد بناء الكنائس والأديرة، ويصلح الجسور والرق، وينشئ المدارس والكليات، ويقر النظام ويقضي على الجرائم. ولقد وصف الخلف ذوو الخيال الواسع ما ساد البلاد من أمن بفضل هذه "السلم الملكية" في قصة كثيراً ما نراها في غير هذه المناسبة، فقالوا إنه كان في مقدور الفتاة المثقلة بالحلي والجواهر أن تطوف في أنحاء البلاد بمفردها دون أن يتعرض لها أي أحد بأذى. وحشد أهل الشمال بأيرلندة في هذه الأحداث جيشاً آخر، زحفوا به على الملك الطاعن في السن، والتقى بهم الملك الإيرلندي عند كلنتارف Clontarf القريبة من دبلن في يوم الجمعة الحزينة في الثالث والعشرين من إبريل عام 1014 وهزمهم، ولكن ابنه مروغ Murrogh قتل في أثناء المعركة ثم ذبح بريان نفسه في خيمته.
وحلّت السلم- وهي الترف الذي لا يستمتع به إلا المحظوظون- في البلاد المنكوبة إلى حين، وانتعشت الفنون والآداب من جديد في القرن الحادي عشر
قصة الحضارة ج14 ص303-305)
 
اسكتلندة
"هاجرت في أوائل القرن الخامس قبيلة من الاسكتي Scotti الجبليين من شمالي أيرلندة إلى الجزء الجنوبي الغربي من اسكتلندة، وأطلقوا اسمهم على جزء من شبه الجزيرة ذي المناظر الجميلة الخلاّبة الواقع في شمال نهر التويد Tweed ثم على شبه الجزيرة كلها...وجمع دنكان الأول Duncan 1 (1034-1040) هذه الشعوب الأربعة كلها-البكت، والاسكت Scotts، والكلت البريطانيين، والأنجليسكسون-وكون منها مملكة واحدة هي مملكة اسكتلندة. ولما هزم الإنجليز دنكان عند درهام Durham مهدت هذه الهزيمة السبيل لقائده مكبث Macbeth، فطالب لنفسه بعرش البلاد لأن زوجته جروتش Gruoch كانت حفيدة كنث الثالث. واغتال مكبث دنكان (1040)، وحكم البلاد سبعة عشر عاماً قتله بعدها ملكولم الثالث ابن دنكان. واغتيل من الملوك السبعة عشر الذين حكموا اسكتلندة بين عامي 844 و1075 اثنا عشر لأن ذلك العصر كان مليئاً بأعمال العنف والنزاع المرير طلباً للغذاء والماء، والحرية والسلطان. ولم تجد اسكتلندة في تلك السنين المليئة بالأحداث الجسام متسعاً من الوقت تمارس فيه ترف الحضارة ونعمها؛ فقد اغتصب المغيرون الشماليون جزائر أوركني Orkney وفارو Faroes، وشتلندة Shetland، وهبريده Hebrides؛ وقضت إنجلترا حياتها كلها مهددة بغارات قراصنة الشمال (الفيكنج Vikings) الشداد الذين كانوا يبسطون سلطانهم وينشرون بني جنسهم في أنحاء العالم الغربي.
قصة الحضارة ج14 ص306-207)
 
السويد والنرويج
"وجعل الملك أولاف اسكتكوننجOlaf Skottconung (994- 1022) المسيحية دين السويد، ومدينةن أبسالا Uppsala عاصمة ملكة، وكانت بلاد النرويج في عام 800 مؤلفة إحدى وثلاثين إمارة، تفصلها بعضها عن بعض الجبال، والأنهار، والخلجان الطويلة الضيقة العميقة (الفيوردات)، ويحكم كلاً منها زعيم من المحاربين، وظلت كذلك حتى عام 850 حين زحف هلفدان الأسود Halfdan the Black أحد هؤلاء الزعماء من عاصمته ترندهيم Trondheim وأخضع لحكمه معظم الزعماء الآخرين، وصار أول ملوك النرويج. وخرج على ولده هارلد هارفاجر Harald Haarfager (860- 933) الزعماء المتمردون، ورفضت جيدا Gyda التي خطبها لنفسه الزواج به إلا بعد أن يفتح جميع بلاد النرويج، وأقسم ألا يقص شعره أو يمشطه حتى يتم هذا الفتح، وأتمه بالفعل في عشر سنين، وتزوج بعدها بجيدا وبتسع نساء غيرها. ثم قص شعره وسمى باسمه المميز له- "صاحب الشعر الأشقر"(46). وحكم هاكون الصالح Haakon the Good (935- 961) أحد أبنائه الكثيرين بلاد النرويج حكماً صالحاً دام سبعاً وعشرين سنة، قال فيها أحد قراصنة البلاد إن "السلم طالت حتى أصبحت أخشى أن توافيني منيتي في شيخوختي وأنا على فراشي في عقر داريوحكم هاكون آخر- الإيرل الأكبر The Great Earl النرويج حكماً حازماً دام ثلاثين عاماً (965- 995)، ولكنه أغضب الزراع الأحرار في شيخوخته باتخاذه بناتهم محظيات لهم ثم إعادتهن بعد أسبوع أو أسبوعين فاستقدم أولئك الزراع الأحرار أولاف ثرجفسون Olft Tryggvsson ونادوا به ملكاً عليهم.
وكان أولاف بن ترجف حفيد أحد أبناء هارلد ذا الشعر الأشقر. وكان "رجلاً شديد المرح والمجون"- كما يقول سنوري الأيسلندي Snori of Iceland- طروباً، أنيساً، محباً للاجتماع بالناس، جواداً كريماً، متأنقاً في لباسه... بديناً، قوياً، أجمل الناس خلقاً وأعظم براعة في الرياضة البدنية من كل من سمعنا به من أهل الشمال"(48). وكان في مقدوره أن يتنقل على المجاذيف خارج سفينته والرجال يجذفون، ويلعب بثلاثة خناجر حادة الأطراف، ويقذف بحربتين في وقت واحد، و "يستطيع أن يحسن القطع بكلتا يديه بدرجة واحدة"(49). وكان كثير المنازعات والمغامرات، وقد اعتنق المسيحية وهو في الجزائر البريطانية، وأصبح أعظم دعاتها قسوة، فلما جلس على عرش النرويج (995) هدم المعابد الوثنية، وشاد الكنائس المسيحية، وظل يعيش مع عدد من الزوجات. وقاوم الزراع الأحرار الدين الجديد أشد مقاومة، وأصروا على أن يقرّب أولاف القربان إلى ثور Thor كما تقضي بذلك الشعائر القديمة، وأجابهم أولاف إلى ما طلبوا ولكنه عرض أن يقرب إلى ثور خير قربان يرتضيه وهو الزراع الأحرار أنفسهم، فلم يكن منهم إزاء ذلك إلا أن اعتنقوا الدين المسيحي. ولما استمسك واحد منهم يدعى راند Rand بدينه الوثني، أمر أولاف بشد وثاقه ودفع ثعباناً في حلقه بأن كوى ذيل الثعبان بالنار، فاندفع الثعبان إلى بطن راند وجنبه. وقضى على حياته(50). وخطب أولاف لنفسه سجريد Sigrid ملكة السويد، فوافقت على الخطبة، ولكنها أبت أن تتخلى عن دينها الوثني، فما
كان من أولاف إلا أن ضربها بقفازة في وجهها وقال لها: "وما الذي يرغمني على أن أتخذك زوجة وأنت عجوز شمطاء، سليطة كافرة؟". فردت عليه سجفريد بقولها: "سيكون فعلك هذا سبباً في موتك يوماً من الأيام". وبعد سنتين من هذه الحادثة شن ملكا السويد والدنمرقة، إرك وإيرل النرويجي Eric Earg of Norway الحرب على أولاف، وهزماه في معركة حربية حامية الوطيس بالقرب من روجن R(gen، وألقى أولاف وهو بكامل عدته وسلاحه إلى اليم، ولم يظهر له أي أثر بعد (1000)، وقسمت بلاد النرويج على أثر ذلك بين الحليفين المنتصرين.
وأعاد أولاف آخر يدعى القديس بلاد النرويج إلى وحدتها (1016)، كما أعاد النظام، وعدل في قضائه، وأتم تحويل البلاد إلى الدين المسيحي. ويصفه اسنوري Snori بقوله إنه "كان رجلاً صالحاً دمث الأخلاق إلى حد بعيد، لا يتكلم إلا قليلاً، سخياً، ولكنه شره في جمع المال" مدمن بعض الإدمان على الاستمتاع بالسراري(51). ومن أعماله أنه قطع لسان أحد الزراع الأحرار لأنه فضل الوثنية على المسيحية، وسمل عيني زارع آخر(52). وإئتمر الزراع به مع كنوت ملك الدنمرقة وإنجلترا، فسيرا عليه خمسين سفينة وطردا أولاف من النرويج (1028)؛ ولكن أولاف عاد إليها بجيش، وحار لاسترجاع عرشه عند استكل ساند Sticklesand، فهزم ومات متأثراً بجراحه (1030). وشاد من جاء بعده من النرويجيين كنيسة في موضع المعركة تخليداً لذكره، واتخذوه القديس الشفيع للنرويج. واسترد ابنه ماجنس الصالح Magnus the Good (1035- 1047) مملكته، ووهبها قوانين عادلة وحكماً صالحاً. وحكم حفيده هارلد الصارم Harald the Stern (1047- 1066) حكماً عادلاً خالياً من الرحمة دام وليم النورمندي على إنجلترا.
وحدث في عام 860 أن أعاد جماعة من الشماليين قدموا من النرويج أو الدنمرقة كشف جزيرة أيسلندة، ولم يسوءهم كثيراً أن يجدوها شديدة الشبه ببلادهم في ضبابها وفي واردتها. وهاجرت جماعات من النرويجيين إلى الجزيرة في عام 874 فراراً مما كانوا يعانونه من استبداد هارلد هارفاجر، ولم يحل عام 934 حتى بلغ سكانها من الكثرة درجة لم تزد عليها في جميع تاريخها حتى الحرب العالمية الثانية. "
قصة الحضارة ج14 ص309-312)
 
أيسلندة
"وما لبثوا أن جددوا في أيسلندة المنازعات التي جعلت بلاد النرويج شوكة في جانب ملوكها. وجعل الثنج العام (Alltging) المسيحية الدين الرسمي للبلاد في عام 1000. ولكن الملاك أولاف القديس ساءه أشد الاستياء ما سمعه من أن أهل أيسلندة لا يزالون يأكلون لحم الخيل ويئدون أطفالهم ولعل طول ليالي الشتاء وشدة بردها كانا السبب في نشأة أدب قوامه أساطير وأقاصيص لعلها تفوق من حيث الكم والكيف مثيلاتها من القصص والأساطير التي تروى في أرض الشماليين.
قصة الحضارة ج14 ص312
 
حياة اهل الشمال الاوروبي وطريقة اختراع الآلهة
"وقد عاون الدين القانون والأسرة على جعل أولئك الحيوانات مواطنين صالحين. ولم تكن الآلهة التيوتونية مجرد أساطير لأهل الشمال، بل كانت أرباباً حقيقية تهاب وتحب، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالآدميين بآلاف المعجزات وحوادث الغرام. ذلك أن النفوس البدائية في دهشتها ورعبها قد خولت جميع قوى الطبيعة ومجسماتها الكبرى إلى أرباب شخصية، يتطلب أقواهم أن يسترضي على الدوام استرضاء لا يقل أحياناً عن التضحية بالآدميين أنفسهم. وكان مجمع الآلهة مزدحماً بهم: كان فيه اثنا عشر إلهاً ذكراً، واثنتا عشرة إلهة أنثى؛ وكثير من مختلف المردة (الجوتون Jotun) وأرباب الأقدار (نورن Norn)، ورسل الآلهة والساقون (الفلكيري Valkyries)، وبينهم عدد من العرّافات، وصغار العفاريت، والساحرات. فأما الآلهة فلم يكونوا أكثر من آدميين مبكرين، يولدون مثلهم، ويجوعون، وينامون، ويمرضون، وينفعلون، ويحزنون ويموتون؛ ولا يفوقون الآدميين إلا في أحجامهم، وطول أعمارهم، وعظيم قواهم. ومن هؤلاء أودين Odin (وودن Woden الألماني) أبو الآلهة كلهم، الذي كان يسكن بجوار بحر آزوف (آزاق) Azof في أيم قيصر، وهناك أنشأ أسجارد Asgard أو حديقة الأرباب لأسرته ومستشاريه واشتدت إليه الرغبة في تملك الأرضين ففتح بلاد أوربا الشمالية. على أنه لم يسلم من التحدي ولم يكن قادراً على كل شيء، فقد عنفه لوكي Loki أشد التعنيف(64)، وتجاهله ثور Thor ولم يعبأ به. فأخذ يزرع الأرض في طلب الحكمة، واشترى بأحد عينيه جرعة من ينبوع الحكمة. بم اخترع الحروف الهجائية، وعلم خلقة الكتابة، والشعر، والفنون، ووضع القوانين. وقبل أن تنتهي حياته على ظهر الأرض عقد جمعية من السويديين والقوط، وجرح نفسه في تسعة أماكن من جسمه، فمات ورجع أسجارد ليعيش فيها إلهاً.
وكان ثور في أيسلندة أعظم من أودين، فقد كان فيه إله الرعد، والحرب، والعمل، والقانون، وكلت السحب السوداء حاجبيه السوداوين، وكان الرعد صوته، والبرق مطرقته يلقي بها من السماء. وكان للشعراء الشماليين معه كثير من المزاح، كما يمزح اليونان مع هيفستوس Hephaestus وهرقل، ولعلهم قد أخذوا منذ ذلك الوقت البعيد يتشككون في آلهتهم تشكك هومر في آلهته، وكانوا يتمثلونه في جميع أنواع المآزق والأعمال الشاقة المضنية، ومع هذا فقد بلغ من حب الأيسلنديين له أن واحداً من كل خمسة منهم تقريباً كان يغتصب اسمه-ثورلف Throlf، ثورولد Thorwald، ثورشتين Thorstien...
وكان بلدور Baldur بن أودين عظيماً في القصص وأقل مقاماً من أودين وثور فيما يلقاه من العبادة. كان "ذا بهاء في صورته وملامحه... وكان أرق الآلهة، وأكثرهم حكمة، وأفصحهم لساناً(65)؛ وكادت هذه الصفات تغري المبشرين الأولين بأن يقولوا إنه هو المسيح عينه، ويقال إنه رأى حلماً مزعجاً ينبئه باقتراب منيته، ولما قص هذا الحلم على الآلهة طلبت الإلهة فرجا Frigga إلى جميع أنواع الجماد، والحيوان، والنبات، أن تقسم أغلظ الإيمان ألا يمسه أحدها بسوء، فكان جسده الفخم المجيد بعد هذا القسم يطرد جميع الأجسام المؤذية، وكان الآلهة يسلون أنفسهم بأن يقذفوه بالحجارة والسهام، والفؤوس والسيوف، فكانت هذه الأسلحة كلها ترتد عنه، ولا تترك في جسده أثراً. غير أن فرجا قد فاتها أن تأخذ عهداً على "شجيرة صغيرة تدعى المقاس" ألا تمسه بسوء لأنها ظنتها أضعف من أن تؤذي إنساناً ما. فما كان من لكي الوقح المحب للوقيعة بين الآلهة إلا أن قطع منها عسلوجاً، وأقنع إلهاً كفيفاً أن يلقيه على بلدور، ونفذ العسلوج في جسده فقضى عليه، ثم ماتت زوجته نب Nep من فرط حزنها عليه، وحرقت جثتها مع بلدور وجواده المطهم على كومة واحدة(66).
وكان الفلكبري-الذين يختارون القتلى-هم الذين يحق لهم أن يحددوا أجل كل نفس. وكان الذين يموتون ميتة دنيئة يلفون في ممالك هل Hel، إلهة الموتى، أما الذين يموتون في ميدان القتال فيأخذهم الفلكيري إلى فلهلا Valhalla- "بهو الصفوة"، حيث يصبحون أبناء أدوين فيعودون مرة أخرى ذوي قوة وجمال، يقضون نهارهم في حروب البسالة وليلهم في شرب الجعة. ثم أتى حين من الدهر (كما تقول الأساطير الشمالية المتأخرة) أعلنت فيه الجوتون-شياطين الاضطراب والدمار الرهيبة-الحرب على الآلهة، وقاتلها قتالاً ملكت فيه هذه وتلك عن آخرها. وفي هذا العصر، عصر غسق الآلهة، تهدم الكون كله: ولم يقتصر هذا الدمار على الشمس، والكواكب، والنجوم، بل شمل في النهاية الفلهلا نفسها وجميع من فيها من المحاربين والأرباب، ولم يبق إلا الأمل وحده-الأمل في أن مر الوقت البطيء سوف تنشأ منه أرض جديدة، وسماء جديدة، وعدالة خير من العدالة السابقة، وآلهة أعظم من أودين وثور. ولعل هذه القصة العظيمة ترمز إلى انتصار المسيحية، وإلى الضربات الشديدة التي كالها المليكان أولاف Olafs من أجل المسيح، أو لعل شعراء الفيكنج قد أخذوا يشكون في آلهتهم ويوارونهم التراب.
تلك أساطير عجيبة لا تفوقها في جمالها وفتنتها إلا أساطير اليونان
قصة الحضارة ج14 ص317-320)
 
المانيا لم تكن المانيا ولو تتذكرون فيما قدمت من نصوص سيرة البرابرة الالمان!
:"ولم تكن في أوربا بلاد تسمى ألمانيا، بل كل ما كان فيها من قبائل ألمانية، وقد وهبها شارلمان وقتاً ما وحدة منشؤها، الفتح، ومستلزمات النظام المشترك، ولكن انهيار الإمبراطورية الكارولنجية فكك هذه الروابط، وظل الوعي القبلي والنزعة المحلية يمنعان كل عامل يؤدي إلى المركزية حتى أيام بسمارك، ويضعفان قوة ذلك الشعب الذي يعاني الأمرين من جرّاء انحصاره بين أعدائه من جهة وبين جبال الألب والبحر من جهة أخرى. وأقامت معاهدة فردون (843) في واقع الأمر لويس أولدفج Ludwgi حفيد شارلمان أول ملك على ألمانيا، وأضافت معاهدة مرسن Mersen (870) إلى أملاكه بلاداً جديدة، وحددت ألمانيا بأنها الأرض المحصورة بين نهري الرين والإلب، تضاف إليها أجزاء من اللورين Lorrafne، وأسقفيات مينز، وورمز، واسبير Speyer. وكان لويس حاكماً وسياسياً من الطراز الأول، غير أنه له ثلاثة أولاد، قسمت مملكته بينهم جميعاً بعد وفاته، وضربت الفوضى أطنابها في أنحاء البلاد عشر سنين أغار فيها الشماليون على مدائن الرين، واختير بعدها آرنلف Arnulf، وابن غير شرعي لكارلومان Carloman ابن لويس، ملكاً على "فرنسيا الشرقية Wast Francia" (887) ورد الغزاة على أعقابهم. ولكن لويس "الطفل" (899- 911) الذي خلفه على العرش كان أصغر وأضعف من أن يصد المجر الذين اجتاحوا بافاريا (900) وكارنثيا (901)، وسكسونيا (906)، وثورنجيا (908)، وأليمانيا Alemannia (909)؛ وعجزت الحكومة المركزية عن حماية هذه الولايات، فكان على كل واحدة منها أن تدافع عن نفسها. وجهز أدواق الولايات ما يحتاجونه من الجيوش بأن أقطعوا أتباعهم الأرض نظير قيامهم بالخدمة العسكرية، ونال الأدواق بفضل الجيوش المؤلفة على هذا النحو استقلالهم الفعلي عن التاج، وأنشئوا ألمانيا الإقطاعية. ولما مات لويس رفع الأعيان وكبار رجال الدين كنراد الأول دوق فرنكونيا (911- 918) على عرش البلاد، وكانوا قد نجحوا في أن يكون لهم هم حق اختيار الملك. وأنهك كنراد قواه في النزاع مع هنري دوق سكسونيا، ولكنه بلغ من الحصافة أن أوصي باختيار هنري ليخلفه على العرش. وصد هنري الأول، المسمى "بالصائد" لشغفه بصيد الطير، قبائل الوند الصقلية إلى نهر الأودر Oder وحصن ألمانيا لتقوى على صد المجر، وهزمهم في عام 933 ومهد بجهوده السبيل إلى أعمال ابنه المجيدة.
وكان أتو الأول الأكبر (936- 973) شارلمان ألمانيا. ولم يكن سنه حين جلس على العرش قد تجاوزت الرابعة والعشرين، ولكنه كان في هذه السن الصغيرة مليكاً بحق في مظهره ومخبره، وأحس بما للمراسم والرموز من عظيم الشأن فأقنع أدواق لورين، وفرنكونيا، وسوابيا، وبافاريا، بأن يؤلفوا حاشيته في حفل تتويجه الفخم في آخن على يد هيلدبرت Hildebert كبير الأساقفة، ولكن الأدواق ثاروا فيما بعد على سلطته المطردة النماء، وأغروا هنري أخاه الأصغر بأن يشترك معهم في مؤامرة تعمل لخلعه. وكشف أتو هذه المؤامرة، وقضى عليها، وعفا عن هنري، ثم ائتمر هنري بهد مرة أخرى، وعفا عنه للمرة الثانية؛ وأقطع المليك الداهية دوقيات جديدة لأصدقائه وأقاربه، وأخضع الأدواق لسلطانه شيئاً فشيئاً. ولم يرث من جاء بعده من الملوك ما كان له من دهاء وعزيمة ماضية فاحترقت ألمانيا في العصور الوسطى بنار النزاع بين الإقطاع، والملكية. وانحاز الأساقفة الألمان إلى جانب الملك في هذا النزاع، فأصبحوا بذلك مساعديه ومستشاريه في الشئون الإدارية، بل كان منهم في بعض الأحيان قواد جنده. وكان الملك يعين الأساقفة والرؤساء الأساقفة كما كان يعين غيرهم من موظفي الحكومة، فأصبحت الكنيسة الألمانية بهذه الوسيلة نظاماً قومياً بحتاً لا ترتبط بالبابوية إلا بأوهن الروابط. واتخذ أتو الدين المسيحي قوة لتوحيد البلاد فصهر به القبائل الألمانية وخلق منها دولة قوية. وهاجم أتو الوند استجابة لرغبة أساقفته، وحاول أن يرغمهم بالسيف على اعتناق المسيحية. وأرغم ملك الدنمرقة ودوق بولندة وبوهيميا على أن يعترفوا به سيدهم الإقطاعي. وكان يطمع في أن يتولى عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولهذا رحب بالدعوة التي وجهتها إليه أدليد الحسناء أرملة لوثير ملك إيطاليا لينقذها مما لحق بها من الإهانة على يدي برنجار الثاني المليك الجديد. وخلط أتو بمهارته بين السياسة والغرام، فغزا إيطاليا وتزوج بأدليد، وسمح لبرنجار أن يحتفظ بمملكته على أن تكون إقطاعاً له من التاج الأماني (951). وأبى الأشراف الإيطاليون أن يعترفوا بألماني إمبراطوراً لأن هذا يستلزم أن يكون هذا الإمبراطور سيداً لإيطاليا، وبدأ وقتئذ بين الطرفين نزاع دام ثلاثة قرون. وخرج على كنراد وهو غائب عن ألمانيا ابنه لودلف وزوج ابنته كنراد فعاد أتو إلى ألمانيا لكيلا ينشأ عن محاولته أن يكون إمبراطوراً ألا يظل ملكاً. ولما أن غزا المجر ألمانيا مرة أخرى (954) رحب بهم لودلف وكنراد وأمدهم بمن يرشدهم في غزوهم. وقطع أتو دابر الفتنة، وعفا عن لودلف، وأعاد تنظيم جيشه، وأوقع بالمجر عند لخفلد Lechfeld القريبة من أجزبرج Augsburg هزيمة منكرة (955)، أفاءت على ألمانيا فترة طويلة من الأمن والسلام. وصرف أتو بعدئذ جهوده إلى شئون البلاد الداخلية- فأعاد النظام إلى نصابه، وقضى على الجرائم، وأعاد ألمانيا المتحدة إلى الوجود، وجعلها أعظم دولة رخاء في تلك الأيام.
وسنحت له الفرصة مرة أخرى لإنشاء الإمبراطورية حين استعانا البابا يوحنا الثاني عشر على برنجار (959). فغزا أتو إيطاليا على رأس قوة كبيرة، ودخل روما من غير قتال، وتوجه يوحنا الثاني عشر إمبراطوراً رومانياً على الغرب في عام 962. ثم ندم البابا على فعلته، وأخذ يشكو من أن أتو لم يوف بما وعده به من إعادة إكسرخسية برافنا إلى البابوية. واتخذ أتو الخطوة المتطرفة الجريئة فزحف على روما، وعقد مجلساً دينياً من الأساقفة، وأقنعه بوجوب خلع يوحنا وتنصيب رجل من غير رجال الدين بابا مكانه باسم ليو الثامن (963).واقتصرت أملاك البابلي وقتئذ على دوقية روما وإقليم سابينا، واندمجت بقية إيطاليا الوسطى والشمالية في إمبراطورية رومانية مقدسة أضحت إقطاعية من إقطاعيات التاج الألماني. وكان ملوك ألمانيا يتخذون من هذه الحوادث حجة يبنون عليها ادعاءهم أن إيطاليا جزء من ميراثهم، أما البابوات فكانوا يتذرعون بها للقول بأن أحداً لا يستطيع أن يكون إمبراطوراً رومانياً في الغرب إلا إذا توجه البابا.
ولما أحس أتو بقرب منيته أراد أن يتقي ما عسى أن يعقب موته من الفوضى فحمل البابا يوحنا الثالث عشر على أن يتوج ابنه أتو الثاني إمبراطوراً معه (967)، وزوج ابنه هذا بثيوفانو ابنة رومانوس Romanus الثاني إمبراطور بيزنطية (972)، وتحقق بذلك إلى وقت قصير ما كان يحلم به شارلمان من توحيد الإمبراطوريتين بطريق الزواج، ثم توفي أتو ولما يتجاوز الستين من عمره، ولكنه قام في هذه السنين القلائل بما لم يقم به ذوو الأعمار الطوال (973)، وحزنت عليه ألمانيا كلها وعدته أعظم ملوكها. وصرف أتو الثاني (973- 983) جهوده في ضم إيطاليا الجنوبية إلى دولته ومات في هذه المحاولة منهوك القوى قبل الأوان. وكان أتو الثالث (983- 1002) وقتئذ طفلاً في الثالثة من عمره، فحكمت البلاد أمه وجدته أدليد نائبتين عنه مدة ثمان سنين، وأدخلت ثيافانو في أثناء نفوذها الذي دام ثمانية عشر عاماً بعض مظاهر الرقة البيزنطية إلى البلاط الألماني، وبث روح النهضة التي بدأها أتو في الآداب والفنون. ولما بلغ أتو السادسة عشرة من عمره (996) شرع يحكم البلاد بنفسه. وأثر فيه جربرت وغيره من رجال الين، فعرض أن يتخذ روما عاصمة لملكه، ويجمع البلاد المسيحية كلها تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية بعد أن يعيدها إلى الوجود ويشترك في حكمها الإمبراطور والبابا. وفسر أعيان روما ولمباردية وسوقتها هذا العمل بأنه مؤامرة ترمي إلى إقامة حكم بيزنطي ألماني في إيطاليا، ولهذا وقفوا في وجه أتو، وأقاموا في البلاد "جمهورية رومانية" وقلم أتو أظفار الفتنة، وأعدم كرسنتيوس Crescentius زعيمها، ثم عين جربرت بابا في عام 999؛ ولكن حياة أتو التي لم تزد على اثنتين وعشرين سنة، وبابوية جربرت التي دامت أربع سنين، كانتا أقصر من أن تمكناه من تنفيذ سياسته بحذافيرها؛ يضاف إلى هذا أن أتو، وهو نصف قديس ولكنه رجل إلى حد ما، قد وقع فيحب استفانيا Stephania أرملة كرسنتيوس، ورضيت أن تكون عشيقته وسجينته، ولما أحس المليك الشاب أن الموت يسري في عروقه أخذ يبكي ويندم، حتى قضى نحبه في فيتربو Viterbo ولما يتجاوز الثانية والعشرين من عمره(83).
وبذل هنري الثاني (1002- 1024) آخر ملوك ألمانيا السكسون جهد ليعيد إلى الملك قوته في إيطاليا وألمانيا، حيث قوى الحكم الغلامين الصغيرين سلطان الأدواق وجرأ عليهما الدول المجاورة لهما. وبدأ بنكراد الثاني (1024- 1039) حكم الأسرة الفرنكنونية أو السالية من الأباطرة وقد أعاد السلام إلى إيطاليا وضم إلى ألمانيا مملكة برغندية أو آرليس Aales. ودفعته حاجة إلى المال إلى أن يبيع مناصب الأساقفة بأثمان عالية أنبه عليها ضميره، فأقسم ألا يعود إلى بيع المناصب الدينية بالمال و "كاد يفلح في أن يبر بقسمه"(84). وبلغت الإمبراطورية في عهد ابنه هنري الثالث (1039- 1056) ذروة مجدها وقد عرض في "يوم الغفران" من عام 1043 في كنستانس Constance أن يعفو عن كل من أساء إليه، وحض رعاياه أن يطهروا صدورهم من كل حقد ورغبة في الانتقام. وقد أفلح بفضل مواعظه وقدوته الحسنة- وبفضل سلطانه في أغلب الظن- في أن يقضي على كثير من منازعات الأدواق، وتعاون مع "الهدنة الإلهية" في نشر ظل عهد ذهبي قصير الأجل على أوربا الوسطى. وقد ناصر العلوم، وأنشأ المدارس، وأتم كنائس اسبير، ومينز، وورمز. ولكنه لم يكن قديساً عمل للسلام الدائم، فقد ظل يحارب المجر حتى اعترفت له بالسيادة الإقطاعية عليها، وخلع ثلاثة من المتنافسين على البابوية، وعين اثنين من البابوات واحداً بعد الآخر، ولم يكن في أوربا كلها من يماثلها في سلطانه، ولكنه اندفع بسلطانه في آخر الأمر إلى الحد الأقصى فأثار بذلك مقاومة الأساقفة والأدواق جميعاً. غير أنه مات قبل أن تهب العاصفة، وخلف لهنري الرابع بابوية معادية، ومملكة مضطربة.
وكان هنري في الرابعة من عمره حين توج ملكاً في آخن وفي السادسة حين توفي أبوه وحكمت أمه واثنان من الأساقفة بالنيابة عنه حتى عام 1065 حين أعلن أن الغلام وهو في الخامسة عشرة قد بلغ سن الرشد، فوجد نفسه وقد آلت إليه سلطة إمبراطورية كفيلة بلا ريب أن تذهب بعقل أس شاب، وأصبح بطبيعة الحال يؤمن بالسلطة المطلقة، ويسعى لأن يحكم البلاد على هذا الأساس. وسرعان ما وجد نفسه في خصام أو حرب مع هذا أو ذاك من النبلاء الذين كادوا لعجزه أن يقطعوا أوصال دولته. ذلك أن السكسون قد أغضبتهم الضرائب المفروضة عليهم، وأبوا أن يردوا أراضي التاج التي يدعيها لنفسه، وظل يحاربهم حرباً منقطعة دامت خمسة عشر عاماً (1072- 1088)؛ ولما أن هزمهم في عام 1075 أرغم قوتهم الكبرى ومن فيها من أشم النبلاء أنوفاً وكبار الأساقفة الحربيين أن يمشوا حفاة مجردين من السلاح بين صفين من جنده، ويقدموا مراسم الاستسلام عند قدميه وفي تلك السنة نفسها أصدر البابا جريجوري السابع مرسوماً يعارض به حق غير رجال الدين في تعيين الأساقفة أو رؤساء الأديرة، واستمسك هنري بالسوابق المتبعة منذ مائة عام، ولم يشك مطلقاً في أن تعيين هؤلاء وأولئك من حقه، وظل عشر سنين يحارب جريجوري حرباً دبلوماسية وعسكرية، لم تنته إلا بموته، وكانت من أشد الحروب هو لا في تاريخ العصور الوسطى. وانتهز نبلاء ألمانيا المتمردون المشاكسون هذا النزاع ليزيدوا سلطتهم الإقطاعية، وعاد السكسون الذين استذلهم الملوك إلى ثورتهم. وانضم أبناء هنري إلى معارضيه وظل النزاع قائماً حتى نادى مجلس مينز بهنري الخامس ملكاً في عام 1098، وأسر الابن أباه وأرغمه على النزول عن العرش (1105) ثم فر الأب وخذ يحشد جيشاً جديداً، ولكنه مات في ليبيج في السنة السابعة والخمسين من عمره (1106)، ولم يجد البابا باسكال Paschal الثاني من حقه أن يمنح رجلاً محروماً مات دون أن يتوب دفنة مسيحية، ولكن أهل ليبيج تحدوا البابا والملك وشيعوا جنازة هنري الرابع في موكب ملكي فخم وواروه التراب في كنيستهم الكبرى.
قصة الحضارة ج14 ص325-332)
 
المانيا
"566 - 1066
واستطاعت جهود الرجال والنساء الذين يفلحون الأرض وينشئون الأطفال أن تفتح ألمانيا وتهيئتها للحضارة...والتجارة تنمو ويطرد نشاطها في الأنهار وتنساب إلى البحرين الأسود والبلطي. وكسب السكان المعركة العظيمة آخر الأمر؛ نعم إن الهمجية ظلت كامنة في شرائع البلاد وفي دماء الأهلين. ولكن الثغرة التي كانت قائمة بين فوضى القرن الخامس القبيلة ونهضة القرن العاشر التي بعثها أتو اجتيزت آخر الأمر، وصارت ألمانيا فيما بين 955 و1075 أكثر بلاد أوربا رخاء، لا يضارعها في هذه الناحية إلا شمالي إيطاليا التي أخذت القانون والنظام عن الملوك الألمان. وواصلت المدن الرومانية القديمة أمثال تريير، ومينز، وكولوني تقدمها، ونشأت مدن جديدة حول مراكز الأساقفة في اسبير، ومجدبرج، وورمز، وبدأنا حوالي عام 1050 نسمع عن مدينة نورمبرج.
قصة الحضارة ج14 ص332)
 
هرقل ومحاولته (التعديل على التعديل!) في عقيدة المسيح عند مختلف النصارى المؤلهين للمسيح!!
"وكان الإمبراطور هرقل Heraclius يتوق إلى توحيد إمبراطوريته التي أنقذها من أعداء الفرس، فسعى إلى التوفيق بين الشرق ذي المذهب اليعقوبي-القائل بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة،-وبين الغرب المتمسك بمبادئ الكثلكة الأساسية والقائل بأن للمسيح طبيعتين. ومن أجل هذا أصدر في عام 638 منشوراً يعرض فيه التوفيق بين المذهبين بالاعتقاد أن للمسيح مشيئة واحدة وطبيعة واحدة. ووافق البابا هونوريوس Honorius الأول على هذا الاقتراح وأضاف إلى ذلك قوله إن مسألة الإرادة الواحدة أو الإرادتين "مسألة اتركها للنحويين لأنها من المسائل القليلة الخطر"(24). ولكن رجال الدين في الغرب نددوا بموقفه هذا؛ ولما أصدر الإمبراطور كنستانس Constans الثاني منشوراً (648) يبدي فيه ميله إلى هذا المذهب رفضه البابا مارتن Martin الأول. فأمر الإمبراطور حاكم رافنا أن يقبض على البابا ويأتي به إلى القسطنطينية، ولما لم يذعن البابا لرغبة الإمبراطور نفي إلى شبه جزيرة القرم، وبقي فيها إلى أن مات في عام 655. ورفض المجلس المسكوني السادس الذي اجتمع في القسطنطينية عام 680 المذهب الجديد وحكم على البابا هونوريوس بأنه يحابي الخارجين على الدين(25)، ووافقت الكنيسة الشرقية التي آلمها استيلاء المسلمين على بلاد الشام
ومصر التي تدين بمذهب اليعقوبيين، على هذا الحكم، وخفقت راية السلام الدينية لحظة وجيزة في سماء الشرق والغرب جميعاً.
قصة الحضارة ج14 ص352)
 
الاسلام ينتصر وينتشر كما وعد الله وانتزاع اعظم ولايات الامبراطورية
وكلمات ديورانت التي تعبر عن ألم المسيحية
ونص عن التسامح
:"لم يكن أجل الحوادث في التاريخ الديني لهذه العصور وأعظمها خطراً هو النزاع بين الكنيستين اليونانية واللاتينية، بل كان هو ظهور الإسلام وتحديه للمسيحية في الشرق والغرب على السواء. ذلك أنه لم يكد دين المسيح ثمار انتصاراته على الإمبراطورية الوثنية وعلى الشيع المسيحية الملحدة حتى انتزعت منه أعظم ولاياته عزة على الدين واستمساكاً به، انتزعها منه في يسر مروع دين يحتقر فلسفة الإلهيات المسيحية والمبادئ الأخلاقية المسيحية . نعم إن البطارقة ظلوا في كراسيهم بإنطاكية، وبيت المقدس، والإسكندرية بفضل تسامح المسلمين، ولكن مجد المسيحية قد زال من تلك الأقاليم، وكانت المسيحية الباقية فيها مسيحية مارقة قومية فقد قامت أرمينية، والشام، ومصر وسلطات كهنوتية مستقلة تمام الاستقلال عن القسطنطينية وروما. واحتفظت بلاد اليونان بدينها المسيحي لأن الرهبان قد انتصروا فيها على الفلاسفة
قصة الحضارة ج14 ص363)
 
وأوشكت إيطاليا أن تقع في أيدي المسلمين
قصة الحضارة ج14 ص364
تكملة النص
"وأوشكت إيطاليا أن تقع في أيدي المسلمين، ولكنها بعد أن أفلتت منهم انقسمت بين المذهبين المسيحيين اليوناني واللاتيني
 
فرنسا عند الفتح الاسلامي كانت فقيرة من القراءة والكتابة
"وكان رجال الدين أعظم العناصر قدرة في غالة، وأحسنهم تعليماً، وأقلهم فساداً في الأخلاق. وكادت معرفة القراءة والكتابة أن تكون محصورة فيهم وحدهم، وكانت الكثرة الغالبة منهم تجد صادقة مخلصة في تعليم الشعب الذي كان يعاني الأمرين من شره كبرائه وملوكه، وفي تقييم أخلاقه، وإن كانت من بينهم أقلية صغيرة انغمست في الرذيلة. وكان للأساقفة القسط الأكبر من السلطة الزمنية والدينية في أبرشياتهم، وكانت محاكمهم الملجأ المفضل للمتقاضين في الشئون الدينية وغير الدينية أيضاً
قصة الحضارة ج14 ص365)
 
انظر طريقة رهبانية من الداخل التي حرمها الاسلام وارسل الآيات لفضح تعسفها وقسوتها وظلمها للانسان ولغايته في الكون-لاحظ تاريخ تلك الرهبانية وتاريخ مجئ الاسلام
ومبشر مسيحي إيرلندي يقوم بمعارك يقتل في احداها 5000 مسيحي ويضع نظاما للرهبان فيه عقوبات لهم اذا نسوا شئ من النظام منها الضرب بالسوط
"وكان أعظم أولئك المبشرين هو سانت كولمبا St. Columba، نحن نعرف الشيء الكثير عنه من سيرته التي كتبها له (حوالي عام 976) أدمنان Adamnan أحد خلفائه في أيونا Iona. وقد ولد كولمبا في دنجال Donegal عام 521، وكان يجري في عروقه دم الملوك؛ وكان ما كان بوذا قديساً في وسعه أن يكون ملكاً. وبدا عليه وهو طالب في مدرسة موفيل Moville من الورع ما جعله معلمه يلقبه كولمبكيل Columbkille أي عماد الكنيسة. وأنشأ مذ كان في الخامسة والعشرين من عمره عدداً من الكنائس والأديرة أشهرها كلها ما كان منها في دري Derry، ودرو Durrow، وكلز Kells ولكنه لم يكن قديساً فحسب، بل كان فوق ذلك مكافحاً "قوي البنية. جهوي الصوت"(31)، سبب له تهوره كثيراً من النزاع ثم إلى الحرب مع الملك ديرمويد Diarmuid؛ ودارت بينهما آخر الأمر معركة قتل فيها، على حد قولهم، 5000 رجل. وانتصر فيها كولمبا ولكنه رغم انتصاره فر من أيرلندة (563)، وهو مصمم على أن يهدي إلى المسيحية من الأرواح بقدر من قتل في معركة كولدرفنا Cooldrevna. وأنشأ وقتئذ في جزيرة أيونا القريبة من شاطئ اسكتلندة الغربي ديراً من أعظم أديرة العصور الوسطى وأوسعها شهرة. ومن هذا الدير نشر هو ومريدوه الإنجيل في جزيرة هبريده Hebrides، واسكتلندة، وشمالي إنجلترا. وبعد أن هدى آلافاً من الوثنيين إلى الدين المسيحي وزخرف ثلاثمائة "كتاب نبيل" مات وهو يصلي عند المذبح في الثامنة والسبعين من عمره. وشبيه به في روحه واسمه سانت كولمبان St. Columban المولود في لينستر Leinster حوالي عام 543. ولسنا نعلم عنه شيء حتى نجده وهو في الثانية والثلاثين من عمره يؤسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا. وكان من تعاليمه للمبتدئين من أتباعه في لكسويل Luxeuil:
يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم، وتقرأ كل يوم؛ وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد، وفي مجتمع يتألف في كثير من الإخوان، حتى يتعلم التواضع من أحدهم والصبر من آخر والصمت من ثالث ودماثة الأخلاق من رابع... ويجب أن يأوى إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق(23).
وكانت العقوبات صارمة، أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني؛ وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب التأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة(23). ولم يكن الناس يحجمون عن دخول الدير رغم هذا الحكم الإرهابي
قصة الحضارة ج14 ص367-368)
 
شجرة بلوط يعبدها الناس في الغرب بعد ظهور الاسلام ،واما المدعو "ونفريد" (نبيلاً إنجليزياً وراهباً بندكتياً منحه البابا جريجوري الثاني اسم بنيفاس) ففي عام 716. ينقل الناس من عبادة شجرة البلوط لعبادة المسيح!
"وقد وجد ونفريد هذا بالقرب من فرتزلار Fritzlar في هس Hesse شجرة بلوط يعبدها الناس على أنها موطن لإله من الآلهة، فما كان منه إلا أن قطع الشجرة، ودهش الناس حين رأوا أنه ظل حياً فهرعوا إليه يطلبون التعميد.
قصة الحضارة ج14 ص372
 
اكابر رجال الكنيسة قبل الاسلام ينشرون عقيدة قرب نهاية العالم واستحالة العلم في الكون
الاسلام جاء من مكة بالتغيير الاكبر ففتح العالم ومد الأمل فيه وثور العلم بآيات عن الكون ووضع الانسان في العمران وهو يتوق للآخرة ويعمل لها
من رجال الكنيسة الكبار هؤلاء كان جريجوري الأكبر (540-604 )
قال ديل ديورانت عن جريجوري الأكبر (540-604 ) الذي ولد في رومة والذي –يقول ديورانت:" وقد اعترف بفضله وقدسه من جاء بعده من البابوات ولقبه الخلف المعجب به "جريجوري العظيم"(قصة الحضارة ج14 ص351).:"وقبل للكنيسة الأراضي التي كان يهبها لها الأشراف الذي أقضت مضاجعهم مواعظه عن اقتراب نهاية العالم"(قصة الحضارة ج14 ص345) "لقد كان جريجوري المسيطر على أواخر القرن السادس، كما كان جستنيان المسيطر على بدايته وكان له في هذه الحقبة أثر في الدين لا يعلو عنه إلا أثر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)... أما من حيث الناحية العقلية فقد كان أول من تمثلت فيها عقلية العصور الوسطى أصدق تمثيل(23)، فبينما كانت يده تدير شئون إمبراطورية مشتتة، كان تفكيره منصرفاً إلى فساد الطبيعة البشرية وغواية الشياطين التي لا يخلو منها مكان على ظهر الأرض، وإلى نهاية العالم القريبة "(قصة الحضارة ج14 ص350)" وكان العلم في رأيه مستحيل الوجود في الكون، وكان الدين الرهيب هو وحده الذي بقي فيه. وقد ارتضت القرون السبعة التي جاءت بعد هذه النظرية"(قصة الحضارة ج14 ص350)
:" وقد أسعده أن يوجه عنايته فيما أتيح له من سني الهدوء القلائل إلى نشر الإنجيل في أوربا، وأخضع لسلطانه أساقفة لمبارديا المتمردين، وأعاد المذهب الكاثوليكي السليم إلى أفريقية، وتلقى تحويل أسبانيا الأريوسية إلى المذهب الكاثوليكي، وكسب إنجلترا لهذا المذهب دون أن يكلفه ذلك أكثر من أربعين راهباً بعث بهم إليها... أن جريجوري استأذن البابا بلاجيوس الثاني أن يذهب على رأس جماعة من المبشرين إلى إنجلترا، فلما أذن له البابا بذلك بدأ رحلته"(قصة الحضارة ج14 ص346)
 
صدق الله
الاديرة بعد ظهور الاسلام وانحطاط اخلاقي عند الرهبان والراهبات
:"وليس أدل على هذا الانحطاط من قول سانت أدو رئيس دير كلوني (المتوفى عام 942) "إن بعض رجال الدين في الأديرة وخارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التي أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى"
قصة الحضارة ج14 ص375-376)
 
من عجائب النصارى خلينا نقول المسيحيين بدل كلمة النصارى
"وفي عام 897 أمر البابا السادس بأن تخرج جثة البابا فورموسوس Formosus، (891-896) من قبرها، وترتدي الملابس الأرجوانية، وتحاكم أمام مجلس كنسي بتهمة مخالفتها بعض قوانين الكنيسة، ثم يحكم بإدانتها، وتجرد من ثيابها الكهنوتية، وتبتر على أعضائها وتلقى في نهر التيبر
قصة الحضارة ج14 ص377-378)
وقال بعدها "وظل كرسي البابوية عدة سنين بعد ذلك الوقت لا ينال إلا بالرشا أو القتل، أو رغبات النساء ذوات القوام السامي والخلق الدنيء، وبقيت أسرة ثيوفيلاكت Theophylact، أحد كبار الموظفين في قصر البابا، ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها. واستطاعت ابنته مروزيا Marozia أن تنح في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية (904-911)(48)، كما أفلحت زوجته ثيودورا في تنصيب البابا يوحنا العاشر (914-928). وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا، ولكن هذا الاتهام لا يقوم عليه دليل قاطع(49)، وما من شك في أنه كان زعيماً ممتازاً في الشئون الزمنية، لأنه هو الذي عقد الحلف الذي رد زحف المسلمين على روما في عام 916. وظلت مريوزا تستمتع بعدد من العشاق واحداً بعد واحد حتى تزوجت جويدو Guido دوق تسكانيا؛ وأخذا يأتمران لخلع يوحنا، وعملا على قتل أخيه بطرس أمام عينيه، ثم زج البابا في السجن حيث مات بعد أشهر قليلة ميتة لا تُعلم أسبابها، ثم رفعت مريوزا في عام 931 يوحنا الحادي عشر (931-935) إلى كرسي البابوية، وكان الشائع على الألسنة أن يوحنا هذا ابن لها غير شرعي من سرجيوس الثالث(50). وفي عام 923 سَجَن ابنها ألبريك Alberic يوحنا هذا في قلعة سان أنجيلوا Sant' Angelo، ولكنه سمح له أن يصرف من سجنه شئون البابوية الروحية، وظل ألبريك يحكم روما اثنتين وعشرين سنة، كان فيها الطاغية المسيطر "على جمهورية رومانية". وأوصى وهو على فراش الموت بأن يخلفه من بعده ابنه أكتافيان Octavian وحمل رجال الدين والشعب على أن يعدوه باختيار أكتافيان باباً بعد موت أجابتوس Agapetus الثاني. وتم له ما أراد، فأصبح حفيد مروزيا هو البابا يوحنا الثاني عشر، وامتازت مدة ولايته بضروب من التهتك والدعارة في قصر لاتيران Lateran،(51).
وعرف أتو الأول إمبراطور ألمانيا عن قرب ما وصلت إليه البابوية من انحطاط بعد أن توجه يوحنا الثاني عشر إمبراطوراً في عام 962. فلما عاد إلى روما في عام 963 بتأييد رجال الدين فيما وراء رجال الألب دعا يوحنا إلى المحاكمة أمام مجلس كنسي. واتهم الكرادلة يوحنا بأنه حصل على رشا نظير تنصيب الأساقفة، وأنه عين غلاماً في العاشرة من عمره أسقفاً، وأنه زنى بخليلة أبيه، وضاجع أرملته، وابنه أختها، وأنه حول قصر البابا إلى ماخور للدعارة. ورفض يوحنا أن يحضر أمام المجلس، أو أن يجيب عن هذه التهم، وخرج للصيد، فقرر المجلس خلعه، واختار بالإجماع مرشح أتو لكرسي البابوية، وكان هذا المرشح الذي أصبح البابا ليو الثامن (963-965) من غير رجال الدين. ولما عاد أتو إلى ألمانيا قبض يوحنا على زعماء الحزب الإمبراطوري في روما وبتر أعضائهم، وعمل على أن يعود إلى كرسي البابوية بقرار من مجلس خاضع لأمره (964)(52) ولما مات يوحنا (964) اختار الرومان بندكت الخامس لكرسي البابوية، وأغفلوا شأن ليو. فعاد أتو من ألمانيا، وخلع بندكت، وأعاد ليو، بهذا اعترف ليو رسمياً بحق أتو وخلفائه الأباطرة في أن يلغوا إذا شاءوا اختيار أي بابا في المستقبل . ولما مات ليو عمل أتو على اختيار يوحنا الثالث عشر خليف له (965-972). ثم سجن أحد أشراف الرومان بندكت السادس (973-974)، وقتله خنقاً، وفر بنيفازيو فرنكون Bonifazio Francone، وكان قد نصب نفسه بابا شهراً من الزمان، إلى القسطنطينية وحمل معه من كنوز البابوية كل ما استطاع أن يحمله. ثم عاد بعد تسع سنين من فراره، وقتل البابا يوحنا الثالث عشر (983-984)؛ وجلس على كرسي البابوية مرة أخرى، ومات ميتة هادئة في فراشه (985) ورفعت الجمهورية الرومانية رأسها من جديد، وأمسكت بزمام السلطة، واختارت كرسنتيوس Crescentius قنصلاً. فانقض أتو الثالث على روما بجيش قوي لا تستطيع مقاومته، وبتفويض من رجال الدين الألمان، ليقضي على الفوضى بتنصيب راعي كنيسته الخاصة بابا باسم جريجوري الخامس (996-999). وقضى الإمبراطور الشاب على الجمهورية، وعفا عن كرسنتيوس، وعاد إلى ألمانيا. وما كاد يعود حتى أعاد كرسنتيوس الجمهورية، وخلع جريجوري (997). فما كان من جريجوري إلا أن أصدر قراراً بحرمانه، ولكن كرسنتيوس سخر منه، وعمل على أن يختار يوحنا السادس عشر بابا. فعاد أتو مرة أخرى، وخلع يوحنا، وسمل عينيه، وقطع لسانه، وجدع أنفه، أمر أن يطاف به في شوارع روما على ظهر حمار ووجهه نحو ذنبه. ثم قطعت رؤوس كرسنتيوس واثني عشر من الزعماء الجمهوريين، وعلقت أجسادهم على أسوار سانت أنجليو (998)(53). وعاد جريجوري إلى كرسي البابوية، وظل جالساً عليه حتى مات مسموماً، في أغلب الظن، عام 998. وأجلس أتو في مكانه رجلاً أصبح من أنبه البابوات جميعاً.
 
الباباوية برطل من ذهب يامين يشتري!
"وعادت البابوية سيرتها الأولى من الضعف والانحلال بعد موت جربرت، فأخذ أعيان تسكيولوم Tusculum متحالفين مع الأباطرة الألمان يشترون مناصب الأساقفة، ويبيعون البابوية، وقلّما كانوا يحاولون التستر على عملهم هذا. وكان بندكت الثامن (1012-1024) الذي رشحوه لهذا المنصب الأخير رجلاً ذكياً قوياً؛ ولكن بندكت (1032-1045) الذي عين بابا في الثانية عشرة من عمره دنس منصبه بحياة الفحش(59)، إلى حد جعل الشعب يثور عليه ويخرجه من روما. غير أنه عاد مرة أخرى بتأييد تسكيولوم، فلما أتعبه منصب البابوية باعها إلى جريجوري السادس (1045-1046) بألف (أو ألفي) رطل من الذهب.
قصة الحضارة ج14 ص382)
 
عودة
أعلى