يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام: أنه قال لقومه: { لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ }؟ أي: لم توصلون الأذى إلي، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال: " رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر...
وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِى إِسْرَٰءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } يعني: التوراة، قد بشرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لي أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب " ورواه مسلم من حديث الزهري، به نحوه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، منها ما حفظنا، فقال: " أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفى، ونبي الرحمة والتوبة والملحمة
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " وهذا إسناد جيد. وروي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين " وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة: { وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سُئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي، ثم قال: " لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال ــــ أو رجل ــــ من هؤلاء...
. ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس؛ لأنه فسر قوله تعالى: { وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ } بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم إلى الله عز وجل، وإلى اتباع ما جاء به، ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى: { وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال: هم الأعاجم، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب " ثم قرأ: { وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } يعني: بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ } يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي الحالقة. وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة " الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام أن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة قتات " رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن إبراهيم به، وحدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري عن منصور عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة قتات " يعني: نماماً
. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم " خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت
وقوله تعالى: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل، فهو الفظّ الغليظ الصحيح الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر " وقال وكيع: " كل جواظ جعظري مستكبر " أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة، إلا أبا داود، من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن سعيد بن خالد به. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قال: سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: " كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع " تفرّد به أحمد.
قال أهل اللغة: الجعظري: الفظ الغليظ. والجواظ: الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم، فقال: " هو الشديد الخلق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، رحيب الجوف "وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري العتل الزنيم " وقد أرسله أيضاً غير واحد من التابعين. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مقضماً، فكان للناس ظلوماً ــــ قال ــــ فذلك العتل الزنيم "
والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالباً يكون دعياً ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره؛ كما جاء في الحديث: " لا يدخل الجنّة ولد زنا " وفي الحديث الآخر: " ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه
وقد قال ابن أبي حاتم في سورة:
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ }
[النبأ: 1]: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني خالد بن سعيد عن عبد الملك بن عبد الله، عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن العبد يكتب مؤمناً أحقاباً ثم أحقاباً، ثم يموت والله عليه ساخط، وإن العبد يكتب كافراً أحقاباً ثم أحقاباً، ثم يموت والله عليه راضٍ، ومن مات همازاً لمازاً ملقباً للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين ".
ثبت في " صحيح البخاري " من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى:
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1] كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى. قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } قلت يقولون:
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً ــــ قال ــــ فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ــــ قال ــــ فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } " هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: " فبينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } ــــ إلى ــــ ــــ قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان ــــ ثم حمي الوحي وتتابع " هذا لفظ البخاري، وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا؛ لقوله: " فإذا الملك الذي جاءني بحراء " وهو جبريل حين أتاه بقوله:
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }
[العلق: 1 ــــ 5] ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا.
ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة؛ كما قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثنا عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } ثم حمي الوحي وتتابع
. وقوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد: { ٱلنَّاقُورِ }: الصور، قال مجاهد: وهو كهيئة القرن. وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد عن مطرف عن عطية العوفي عن ابن عباس: { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ } فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ " فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: " قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا "
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو عليه شاق، له أجران " أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نوقش الحساب، عذب " قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً }؟ قال:" ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة، عذب " وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به...
. وقال أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: " اللهم حاسبني حساباً يسيراً " فلما انصرف، قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: " أن ينظر في كتابه، فيتجاوز له عنه، إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ، هلك "صحيح على شرط مسلم.
قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري، عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة، مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه، فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها، فأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي، فيقول الله عز وجل: صدق، ثم أشفع، قأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ــــ قال ــــ وهو المقام المحمود
{ فَمُلَـٰقِيهِ } ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أوشر. ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه
قال البخاري: أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشر عن مجاهد قال: قال ابن عباس: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ. وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: نبيكم، مرفوعاً على الفاعلية من قال، وهو الأظهر، والله أعلم؛ كما قال أنس: لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون المراد { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال، قال: هذا يعني: المراد بهذا: نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعاً على أن هذا، ونبيكم، يكونان مبتدأ وخبراً، والله أعلم، ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة؛ كما قال أبو داود الطيالسي وغندر: حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال: محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا المعنى قراءة عمر وابن مسعود وابن عباس وعامة أهل مكة والكوفة: (لتركبن) بفتح التاء والباء.
وقال السدي نفسه: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } أعمال من قبلكم منزلاً بعد منزل (قلت): كأنه أراد معنى الحديث الصحيح: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه " قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ " وهذا محتمل.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الله بن زاهر: حدثني أبي عن عمرو بن شمر عن جابر، هو الجعفي، عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ابن آدم لفي غفلة مما خلق له، إن الله تعالى إذا أراد خلقه، قال للملك اكتب رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقياً أو سعيداً، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله إليه ملكاً آخر، فيحفظه حتى يدرك، ثم يرتفع ذلك الملك، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا حضره الموت، ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت، فقبض روحه، فإذا دخل قبره، رد الروح في جسده، ثم ارتفع ملك الموت، وجاء ملكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة، انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فانتشطا كتاباً معقوداً في عنقه، ثم حضرا معه؛ واحداً سائقاً، وآخر شهيداً، ثم قال الله تعالى: { لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } " [ق: 22] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال: " حالاً بعد حال " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن قدّامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه، فاستعينوا بالله العظيم " هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم، { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلب، أحزبنا أو حزبه؟.
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة، لأطأن على عنقه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لئن فعل، لأخذته الملائكة " ثم قال: تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله، يعني: ابن عمرو، عن عبد الكريم. وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق به. وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو به، وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير، وهذا لفظه، من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فمر به أبو جهل بن هشام، فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } وقال ابن عباس: لو دعا ناديه، لأخذته ملائكة العذاب من ساعته.
قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو يزيد، حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة، لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال: " لو فعل، لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً "
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر عن أبيه، حدثنا نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك، لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه، إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأجنحة، قال: فقال رسول الله: " لو دنا مني، لاختطفته الملائكة عضواً عضواً
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه أنزلت علي آنفاً سورة " فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّآ أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } حتى ختمها فقال: " هل تدرون ما الكوثر؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي، وهذا السياق عن محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك.
وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة: أنه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر، وأن آنيته عدد نجوم السماء، وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي من طريق علي بن مسهر ومحمد بن فضيل، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس، ولفظ مسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: " لقد أنزلت علي آنفاً سورة " فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّآ أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } ثم قال: " أتدرون ما هو الكوثر؟ "قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه، ورواه أيضاً من حديث هشيم عن أبي بشر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر: الخير الكثير. وقال الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكوثر: الخير الكثير، وهذا التفسير يعم النهر وغيره؛ لأن الكوثر من الكثرة، وهو الخير الكثير، ومن ذلك النهر؛ كما قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن بن أبي الحسن البصري، حتى قال مجاهد: هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة،
وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً منكراً جداً فقال: حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي سنة خمس وخمسين ومئتين، حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي، حدثنا مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّآ أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا جبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ " فقال: ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، ارفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت؛ فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع، وإن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك من حديث إسرائيل بن حاتم به، وعن عطاء الخراساني: { وَٱنْحَرْ } أي: ارفع صلبك بعد الركوع، واعتدل، وأبرز نحرك، يعني به: الاعتدال، رواه ابن أبي حاتم. وكل هذه الأقوال غريبة جداً، والصحيح القول الأول: أن المراد بالنحر: ذبح المناسك، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه ويقول: " من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة، فلا نسك له " فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم. قال: "شاتك شاة لحم
وقال الإمام أحمد: حدثنامحمد بن فضيل، حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعيت إلي نفسي " فإنه مقبوض في تلك السنة، تفرد به أحمدـ وروى العوفي عن ابن عباس مثله، وهكذا قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد: إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه. وقال ابن جرير: حدثني إسماعيل بن موسى، حدثنا الحسن بن عيسى الحنفي، عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: " الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح جاء أهل اليمن ــــ قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: ــــ قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية " ثم رواه ابن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن عكرمة مرسلاً.
وقال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن. وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث منصور به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: " سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه " وقال: " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده، وأستغفره إنه كان تواباً، فقد رأيتها: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَٰجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوِٰبَا } "
ملحوظة
جاء فی الحديث
إنَّ الناسَ دخلوا في دينِ اللهِ أفواجًا ، وسَيَخْرُجُونَ منه أفواجًا
فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله بعد خوفها أمناً، في عز وجاه ورزق دارّ. ولهذا جاء في الحديث: " مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى؛ ترضع ولدها، وتأخذ أجرها "
ملحوظة
جاءت عدة روايات فى الحديث منها
( مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم ؛ كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها )
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن السري الذي قال الله لمريم { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } نهر أخرجه الله لتشرب منه " وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحلبي، قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر، وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر
وقوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال ابن عباس: من إِيمانهم أنهم إِذا قيل لهم: من خلق السموات، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وفي الصحيحين: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم: أنهم كانوا إِذا قالوا: لبيك لا شريك لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قد " أي: حسب حسب، لا تزيدوا على هذا. وقال الله تعالى:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان: 13] وهذا هو الشرك الأعظم، يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " وقال الحسن البصري في قوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال: ذلك المنافق يعمل إِذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك، يعني: قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }
[النساء: 142]
وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالباً فاعله؛ كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيراً، فقطعه - أو انتزعه - ثم قال: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }. وفي الحديث: " من حلف بغير الله، فقد أشرك " رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر، وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " ، وفي لفظ لهما: " الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل...
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق تميمة فقد أشرك " ، وفي رواية: " من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق وَدَعة، فلا وَدَعَ الله له " ، وعن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه " رواه مسلم.
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " رواه الإمام أحمد. وقال أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد، يعني: ابن الهاد، عن عمرو، عن محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟ "
. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، أنبأنا ابن لهيعة، أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك " قالوا: يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: " أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إِلا خيرك، ولا طير إِلا طيرك، ولا إِله غيرك " وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي عن أبي علي - رجل من بني كاهل - قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام عبد الله بن حرب، وقيس بن المضارب، فقالا: والله لتخرجن مما قلت، أو لنأتين عمر مأذوناً لنا أو غير مأذون. قال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل " فقال له من شاء الله أن يقول: فكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه " وقد روي من وجه آخر، وفيه: أن السائل في ذلك هو الصديق؛ كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن معقل بن يسار، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل " ، فقال أبو بكر: وهل الشرك إِلا من دعا مع الله إِلهاً آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " ثم قال: " ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره؟ قل: اللهم إِني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم " وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ، عن يحيى بن كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا " قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ فقال:" ألا أخبرك بشيء إِذا قلته برئت من قليله وكثيره، وصغيره وكبيره؟ " قال: بلى يا رسول الله قال: " قل: اللهم إِني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة، بهذه الآية، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه " السنن " حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه: حدثنا محمد بن المصفي الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة ابن المنذر السلمي يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم، حتى إذا بلغ قصة موسى، قال:" إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين، على عفة فرجه، وطعام بطنه " وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف؛ لأن مسلمة بن علي، وهو الخشني الدمشقي البلاطي، ضعيف الرواية عند الأئمة، ولكن قد روي من وجه آخر، وفيه نظر أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي ابن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندّر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه، وطعمة بطنه "
ملحوظة
جاء فى الحديث الصحيح
إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج
وقال السيوطی فی دره المنثور
وأخرج ابن ماجة والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عقبة بن المنذر السلمي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { طسۤ } حتى بلغ قصة موسى عليه السلام قال: " إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه، وطعام بطنه، فلما وفى الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه قالب لون من ذلك العام، وكانت غنمه سوداء حسناء، فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى بازاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال: فأنمت وأثلثت ووضعت كلها قوالب الوان. إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا غزور، ولا ثفول، ولا كمشة تفوت الكف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم. وهي السامرية "
{ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىۤ } قيل: معناه: صَلِّ لتذكرني، وقيل: معناه: وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري " ، وفي " الصحيحين " عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك "
وقال القرطبي فى تفسيره:
: قوله تعالى: { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجُبّةُ صوفٍ وكُمَّة صوف وسراويلُ صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت " قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج (حميد ـ هو ابن علي الكوفي ـ) منكر الحديث، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة؛
وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور لو رفع الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره " ثم قرأ أبو عبيدة { أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين }.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا: حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسىٰ، ثم قرأ: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ } الآية، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه، وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة، عن أبي سعيد موقوفاً، ثم رواه عن نصر بن علي عن عبد الأعلى عن عوف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى " ثم قرأ: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلاُْولَىٰ } الآية
قال ابن كثير فى تفسيره:
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن موسى الشيباني، حدثنا حماد بن خالد، حدثنا ابن معاذ، أحسبه الصائغ، عن الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أخذتم، يعني: الساحر فاقتلوه، ثم قرأ: { وَلاَ يُفْلِحُ السَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } قال: لا يؤمن به حيث وجد " وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً
وقال ابن جرير: حدثنا ابن هشام الرفاعي، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن ميناء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطوفان: الموت " وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن يمان به، وهو حديث غريب،
وروى أبو داود عن محمد بن الفرج عن محمد بن زبرقان الأهوازي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد، فقال: " أكثر جنود الله، لا آكله، ولا أحرمه
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليزني، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي زهير النميري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقاتلوا الجراد؛ فإنه جند الله الأعظم " غريب جداً
فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء، وفيها للمفسرين أربعة أقوال:
أحدها: أنه عند نفخة الفزع ينادي الناسُ بعضهم بعضاً. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يأمرُ اللهُ عز وجل إِسرافيلَ بالنَّفخة الأولى فيقول: انفُخْ نفخةَ الفزع، فيفزَعُ أهلُ السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، فتُسيَّر الجبالُ، وتُرَجُّ الأرض. وتَذْهَلُ المراضعُ، وتضع الحواملُ، ويولِّي الناس مُدْبِرين ينادي بعضهم بعضاً وهو قوله: { يوم التناد } "
والثاني: أنه نداء أهل الجنة والنار بعضهم بعضاً كما ذكر في [الأعراف:44ـ50]، وهذا قول قتادة.
والثالث: أنه قولهم: يا حسرتنا يا ويلتنا قاله ابن جريج.
والرابع: أنه ينادى فيه كلُّ أُناس بإمامهم بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء
وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: " ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } وآل فرعون كالإبل المسومة، يخبطون الحجارة والشجر، ولا يعقلون "
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا زيد بن أخرم، حدثنا عامر بن مدرك الحارثي، حدثنا عتبة ــــ يعني: ابن يقظان ــــ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحسن محسن من مسلم أو كافر، إلا أثابه الله تعالى " قال: قلنا: يا رسول الله، ما إثابة الله الكافر؟ فقال: " إن كان قد وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة، وأشباه ذلك " قلنا: فما إثابته في الآخرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: " عذاباً دون العذاب " وقرأ: { أَدْخِلُوۤاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم،
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق، حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
. فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد ههنا، وهي المعنية في قوله تعالى:
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ }
إلى قوله
{ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
[النمل: 10 ـ 12] فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبين الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة، منها ضربة الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فقال: لا تقل له: نبي، فإنه لو سمعك، لصارت له أربع أعين، فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو قال: لا تفروا من الزحف، شعبة الشاك - وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت "فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي. قال: " فما يمنعكما أن تتبعاني؟ " قالا: لأن دواد عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات؛ فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم،
قال ابن كثير فى تفسيره:
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له " ثم تلا صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ
وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام، وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك، إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي، فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعاهدنا " فأتاه الأعرابي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما حاجتك؟ " قال: ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي، فقال: " أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟ " فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال: " إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل، أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة، أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف، فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، فقال لها: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها ــــ قال ــــ فانطلقت معهم إلى بحيرة ــــ مستنقع ماء ــــ فقالت لهم: انضبوا هذا الماء، فلما أنضبوه قالت: احفروا، فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار " وهذا حديث غريب جداً، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم،
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما قال فرعون: آمنت أنه لا إِله إِلا الذي آمنت به بنو إِسرائيل، - قال - قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر، فدسسته في فيه؛ مخافة أن تناله الرحمة " ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت، وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون؛ مخافة أن تدركه الرحمة " وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضاً، وابن جرير أيضاً من غير وجه عن شعبة به، فذكر مثله، وقال الترمذي: حسن غريب صحيح، ووقع في رواية عند ابن جرير: عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن عطاء وعدي عن سعيد عن ابن عباس، رفعه أحدهما، فكأن الآخر لم يرفع، فالله أعلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه، ورفع صوته: { ءَامَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَٰءِيلَ } قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه، فيضرب به وجهه، فيرمسه، وكذا رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبي خالد به موقوفاً، وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً، فقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حكام عن عنبسة، هو ابن أبي سعيد، عن كثير بن زاذان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه؛ مخافة أن تدركه رحمة الله، فيغفر له " يعني: فرعون. كثير بن زاذان هذا قال ابن معين: لا أعرفه، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: مجهول. وباقي رجاله ثقات.
ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيـي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلهاً يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم، وأياً ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نحو ذلك فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبـي واقد الليثي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله» وفي رواية «الله أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138] والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم " وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده " قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنيناً حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف / عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها السنن قلتم ـ والذي نفس محمد بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138] "وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافراً وإلا لأمره صلى الله عليه وسلم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئاً كثيراً لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد القهار.
} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي، حدثنا جندب، هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته، فأطلق عقالها ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقولون هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟ " قالوا: بلى، قال: " لقد حظرت رحمة واسعة، إن الله عز وجل خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق؛ جنها وإنسها وبهائمها، وأخر عنده تسعاً وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " رواه أحمد وأبو داود، عن علي بن نصر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به،
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان، عن أبي عثمان، عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إِلى يوم القيامة " تفرد بإِخراجه مسلم، فرواه من حديث سليمان، هو ابن طرخان، وداود بن أبي هند، كلاهما عن أبي عثمان، واسمه عبد الرحمن بن مِلّ، عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم به،
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِن لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس، وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة، ضمها إِليه " تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله مائة رحمة، فقسم منها جزءاً واحداً بين الخلق به يتراحم الناس والوحش والطير "
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن صلة بن زفر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الفاجر في دينه، الأحمق في معيشته، والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الذي قد محشته النار بذنبه، والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إِبليس رجاء أن تصيبه "هذا حديث غريب جداً
وفي مُصَنّف أبي داود عن أبي ذرٍّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: " إذا غَضِب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فلْيضطجع " وروي أيضاً عن أبي وائل القاصّ قال: دخلنا على عروة بن محمد السّعدِيّ فكلمه رجل فأغضبه؛ فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدّثني أبي عن جدّي عطيّة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ الغضب من الشيطان وإنّ الشيطان خُلق من النار وإنما تُطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ
وقال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا، شدد الله عليهم، وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن بكر عن الصلت بن بهرام، حدثنا الحسن، حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد: أن حذيفة، يعني: ابن اليمان رضي الله عنه، حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام، اعتراه إلى ، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك " قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك، المرمي أو الرامي؟ قال: " بل الرامي " إسناد جيد، والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته؛ رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله تعالى، فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه؛ رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي، رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت "ثم قال: " ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل ــــ ثم قرأ ــــ: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } حتى بلغ { مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ــــ ثم قال ــــ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ ــــ فقلت: بلى يارسول الله فقال: ــــ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ــــ ثم قال ــــ: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " فقلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه ثم قال " كف عليك هذا " فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم ــــ أو قال: على مناخرهم ــــ إلا حصائد السنتهم؟ " ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن النزال يحدث عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام العبد في جوف الليل " وتلا هذه الآية: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال: " إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } الآية، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } ــــ الآية ــــ فيقومون، وهم قليل ".
ملحوظة
جاء فی الحديث
رحم اللهُ رجلًا قام من الليلِ فصلَّى وأيقظ امرأتَه فإن أبَتْ نضح في وجهِها الماءَ رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماءَ
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى بن مريم؛ بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: { كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي: كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ،
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا: فجالسوهم في مجالسهم "قال يزيد: وأحسبه قال: " وأسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً، فجلس فقال: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً ". وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض - ثم قال -: { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } إلى قوله: { فَـٰسِقُونَ } - ثم قال -: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً " ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من طريق علي بن بذيمة به، وقال الترمذي: حسن غريب، ثم رواه هو وابن ماجه عن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وهارون بن إسحاق الهمداني، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب، نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان من الغد، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه " وفي حديث هارون: " وشريبه " ، ثم اتفقا في المتن: " فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم " والسياق لأبي سعيد، كذا قال في رواية هذا الحديث، وقد رواه أبو داود أيضاً عن خلف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم، وهو ابن عجلان الأفطس، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ثم قال أبو داود: كذا رواه خالد عن العلاء، عن عمرو بن مرة به، ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة عن عبد الله. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب،عن عمرو بن مرة، عن أبي موسى.
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام: قد تقدم حديث جابر عند قوله: { لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } وسيأتي عند قوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ }
[المائدة: 105] حديث أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخشني، فقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " ، ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به، وقال: هذا حديث حسن. وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد، عن عمرو بن عثمان، عن عاصم بن عمر بن عثمان، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم "وفي الصحيح من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه، عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا سيف، هو ابن أبي سليمان، سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال: حدثني مولى لنا: أنه سمع جدي، يعني: عدي بن عميرة رضي الله عنه، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك، عذب الله الخاصة والعامة " ، ثم رواه أحمد عن أحمد بن الحجاج، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، عن عدي بن عدي الكندي، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره، هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو بكر، حدثنا المغيرة بن زياد الموصلي عن عدي بن عدي، عن العرس، يعني: ابن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها، - وقال مرة: فأنكرها - كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها " تفرد به أبو داود، ثم رواه عن أحمد بن يونس، عن ابن شهاب، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي مرسلاً. وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر، قالا: حدثنا شعبة، وهذا لفظه، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لن يهلك الناس حتى يعذروا، أو يعذروا من أنفسهم " وقال ابن ماجه: حدثنا عمران بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام خطيباً، فكان فيما قال: " ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه " قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا.
وفي حديث إسرائيل عن محمد بن جحادة عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " و رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال ابن ماجه: حدثنا راشد بن سعيد الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي غالب، عن أبي أمامة: قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز ليركب، قال: " أين السائل؟ " قال: أنا يا رسول الله، قال: " كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر " تفرد به. وقال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحقر أحدكم نفسه " قالوا يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: " يرى أمر الله فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى " تفرد به، وقال أيضاً: حدثنا علي بن محمد، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله ابن عبدالرحمن أبو طوالة، حدثنا نهار العبدي: أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك، وفرقت الناس " تفرد به أيضاً ابن ماجه، وإسناده لا بأس به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن جندب، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه " قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: " يتعرض من البلاء لما لا يطيق " ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعاً عن محمد بن بشار، عن عمرو بن عاصم به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى ابن عبيد الخزاعي، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا أبو معبد حفص بن غيلان الرعيني عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: " إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم "قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: " الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم "قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " والعلم في رذالكم " إذا كان العلم في الفساق، تفرد به ابن ماجة، وسيأتي في حديث أبي ثعلبة عند قوله:
{ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ }
[المائدة: 105] شاهد لهذا، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقوله تعالى: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ } أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين لكم { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } ، ثم قال: { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } أي: عما كان منكم قبل ذلك { وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }. وقيل: المراد بقوله: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ } أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: " أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته "ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة، فسألتم عن بيانها، تبيت لكم حينئذ؛ لاحتياجكم إليها، { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } أي: ما لم يذكره في كتابه، فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "
وفي الحديث الصحيح أيضاً: " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها
هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: سورة المائدة، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين،...
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير " ...
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم؛ إجابة من الله لدعوته، كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } الآية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل، فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله: { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } ، قال: هو مثل ضربه الله، ولم ينزل شيء، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا القاسم هو ابن سلام، حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم، وقال أيضاً: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة: إنها لم تنزل. وحدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل، وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى، وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت، لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم،ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى: { إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم
وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني، حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: " أربع خصال واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك علي، فما عملت من خير جزيتك به، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء، وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين عبادي، فارض لهم ما ترضى لنفسك " وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: { ٱدْعُونِىۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَٰخِرِينَ } وهكذا رواه أصحاب السنن: الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الأعمش به
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثني أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح، وقال مرة: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع الله عز وجل، غضب الله عليه "
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا مروان الفزاري، حدثنا صبيح أبو المليح، سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يسأله يغضب عليه "قال ابن معين: أبو المليح هذا، اسمه صبيح، كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد، وأما أبو صالح هذا، فهو الخوزي، سكن شعب الخوز، قاله البزار في مسنده، وكذا وقع في روايته: أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يسأل الله يغضب عليه "وقال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي: حدثنا همام، حدثنا إبراهيم عن الحسن، حدثنا نائل ابن نجيح، حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات، فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة، فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً " وقوله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } أي: عن دعائي وتوحيدي { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } ، أي: صاغرين حقيرين؛ كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار "
فالإجابة كانت حاصلة لا محالَة عند وجود الدعوة؛ لأن أجيب وأستجب خبر لا يُنسخ فيصير المخبر كذاباً. يدلّ على هذا التأويل ما روَى ٱبن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " من فُتح له في الدعاء فُتحت له أبواب الإجابة " وأوحى الله تعالى إلى داود: أنْ قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوْجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن الله يجيب كلّ الدعاء؛ فإمّا أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإمّا أن يكفّر عنه، وإمّا أن يدّخر له في الآخرة؛ لما رواه أبو سعيد الخُدْرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رَحِم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إمّا أن يُعجّل له دعوته وإمّا أن يدّخر له وإمّا أن يكفّ عنه من السوء بمثلها " قالوا: إذن نُكثر؟ قال: «الله أكثر». خرّجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطّأ منقطع السّند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى
{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ }
[غافر: 60] فهذا كله من الإجابة.
} قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي " أخرجاه في الصحيحين، وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج، عن أبي هريرة، وكذا رواه الليث وغيره عن محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق، أخرج كتاباً من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين، فيخرج من النار خلقاً لم يعملوا خيراً، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله "
وقد روى ابن مردويه بسند: عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه وُيَردّ إليه، فإن أذن الله في قبض روحه، قبضه، وإلا رد إليه " فذلك قوله: { وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ }.
ملحوظة
انظر كيف ذكر الله فى الاية الاولي النوم ثم فى الثانية الموت ومن هنا افهم الحديث الصحيح
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي والنسائي ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: " لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك { أو من تحت أرجلكم } قال: أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال: هذا أهون أو أيسر ".
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: " لما نزلت { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك { أو يلبسكم شيعاً } قال: هذا أيسر ولو استعاذه لأعاذه ".
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه ونعيم بن حماد في الفتن وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: " " في هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر } قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم قال " اللهم لا ترسل على أمتي عذاباً من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعاً، ولا تذق بعضهم بأس بعض، فأتاه جبريل فقال: إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم " ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوت ربي أن يدفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الرجم والغرق، وأبى أن يرفع القتل والهرج ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن خزيمة وابن حبان عن سعد بن أبي وقاص " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ".
وأخرج ابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تحدثون من آخركم وفاة؟ قلنا: أجل. قال: فإني من أوّلكم وفاة وتتبعوني أفناداً يهلك بعضكم بعضاً، ثم نزع هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } حتى بلغ { لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون } " ".
وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار وابن حبان والحاكم وصححه واللفظ له وابن مردويه عن ثوبان " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن ربي روي لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليها عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها، وقال: يا محمد إني إذاً قضيت قضاء لم يرد، إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة، ولا أظهر عليهم عدواً من غيرهم فيستبيحهم بعامة، ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضاً وبعضهم هو يسبي بعضاً، وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، وأنه قال: كلها يوجد في مائة سنة، وسيخرج في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي الله، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي، ولن يزال في أمتي طائفة يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله. قال وزعم أنه لا ينزع رجل من أهل الجنة شيئاً من ثمرها إلا أخلف الله مكانها مثلها، وأنه قال: ليس دينار ينفقه رجل بأعظم أجراً من دينار ينفقه على عياله، ثم دينار ينفقه على فرسه في سبيل الله، ثم دينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله. قال: وزعم أن نبي الله عظم شأن المسألة وأنه إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً ولم يأتنا امر. فيقول: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم. فيأخذ مواثيقهم على ذلك فيأمرهم أن يعمدوا لجهنم فيدخلونها، فينطلقون حتى إذا جاءوها رأوا لها تغيظاً وزفيراً فهابوا، فرجعوا إلى ربهم فقالوا: ربنا فرقنا منها. فيقول: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعن، اعمدوا إليها فادخلوا. فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا، فيقول: ادخلوها داخرين. قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لو دخلوها أوّل مرة كان عليهم برداً وسلاماً ".
وأخرج أحمد والطبراني وابن مردويه عن أبي نضرة الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. " سألت ربي أربعاً فأعطاني ثلاثاً ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها ".
وأخرج أحمد والنسائي وابن مردويه عن أنس قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، فلما انصرف قال " إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته أن لا يظهر عليها عدوهم ففعل، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى عليّ " ".
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن حذيفة بن اليمان قال " خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية، واتبعث أثره حتى ظهر عليها فصلى الضحى ثمان ركعات، فأطال فيهن ثم التفت إلي فقال: إني سألت الله ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوّاً من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يهلكهم بغرق فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سألت ربي ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنين ففعل، وسألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدواً لها ففعل، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بعضها ببعض فمنعنيها ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صليت صلاة رغباً ورهباً ودعوت دعاء رغباً ورهباً حتى فرج لي عن الجنة، فرأيت عناقيدها فهويت أن أتناول منها شيئاً فخوفت بالنار، فسألت ربي ثلاثاً فأعطاني إثنتين وكف عني الثالثة، سألته أن لا يظهر على أمتي عدوها ففعل، وسألته أن لا يهلكها بالسنين ففعل، وسألته أن لا يلبسها شيعاً ولا يذيق بعضها بأس بعض فكفها عني ".
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن شداد قال: " فقد معاذ بن جبل أو سعد بن معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده قائماً يصلي في الحرة، فأتاه فتنحنح، فلما انصرف قال: يا رسول الله رأيتك صليت صلاة لم تصل مثلها؟ قال " صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي فيها ثلاثاً فأعطاني إثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي جوعاً ففعل، ثم قرأ { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين... } [الأعراف: 130] الآية. وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم ففعل، ثم قرأ { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [الفتح: 28] إلى آخر الآية، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، ثم قرأ { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } إلى آخر الآية، ثم قال: لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناوأهم " ".
وأخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن عن ضرار بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في قوله { أو يلبسكم شيعاً } قال: أربع فتن: تأتي فتنة الأولى يستحل فيها الدماء، والثانية يستحل فيها الدماء والأموال، والثالثة يستحل فيها الدماء والأموال والفروج، والرابعة عمياء مظلمة تمور مور البحر، تنتشر حتى لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ".
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة، وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض. فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً ، وبعضهم يسبي بعضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ".
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال " لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذاباً من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل، فهبط إليه جبريل فقال: يا محمد إنك سألت ربك أربعاً فأعطاك إثنتين ومنعك إثنتين، لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها، ولكنهم يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض وهذان عذابان لأهل الإِقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء ولكن يعذبون بذنوبهم، وأوحى الله إليه { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } [الزخرف: 41] يقول: من أمتك، أو نرينك الذي وعدناهم من العذاب وأنت حي فإنا عليهم مقتدرون.
فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه فقال: أي مصيبة أشد من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضاً، وأوحى إليه { آلمَ، أحسب الناس أن يتركوا } [العنكبوت: 1-2] الآيتين. فأعلمه أن أمته لم تخص دون الأمم بالفتن، وأنها ستبتلى كما ابتليت الأمم، ثم أنزل عليه { قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } [المؤمنون: 93] فتعوذ نبي الله فأعاذه الله لم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة، ثم أنزل عليه آية حذر فيها أصحاب الفتنة، فأخبره أنه إنما يخص بنها ناس منهم من دون ناس فقال { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25] فخص بها أقواماً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وعصم بها أقواماً ".
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:" لما نزلت { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً } الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف، فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله؟ قال: نعم. فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبداً، فأنزل الله { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون، وكذب به قومك وهو الحق } إلى قوله { وسوف تعلمون
واختلف المفسرون في قوله: { يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّوَرِ } فقال بعضهم: المراد بالصور هنا، جمع صورة، أي: يوم ينفخ فيها، فتحيا. قال ابن جرير: كما يقال: سور لسور البلد، وهو جمع سورة، والصحيح أن المراد بالصور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، قال ابن جرير: والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ " رواه مسلم في صحيحه، وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان التيمي، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: " قرن ينفخ فيه "
وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني، في كتابه الطوالات، قال: حدثنا أحمد بن الحسن المقري الأيلي، حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه، فقال:" إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخصاً بصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر " قلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال: " القرن " قلت: كيف هو؟ قال: " عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض، ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ، فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر، وهي كقول الله: { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } فيسير الجبال، فتمر مَرَّ السحاب، فتكون سراباً، ثم ترتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة المرمية في البحر، تضربها الأمواج، تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح، وهو الذي يقول: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } فيميد الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ما لهم من أمر الله من عاصم، ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله تعالى: { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمهل، ثم انشقت السماء، فانتثرت نجومها، وانخسفت شمسها وقمرها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " قال أبو هريرة: يا رسول الله من استثنى الله عز وجل حين يقول:
{ فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ }
[النمل: 87]؟ قال: " أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه - قال - وهو الذي يقول الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } فيكونون في ذلك العذاب ، إلا أنه يطول، ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبار عز وجل، فيقول: يا رب قد مات أهل السموات والأرض، إلا من شئت، فيقول الله، وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش، فيقول: يا رب يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول: اسكت؛ فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار، فيقول: يا رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول الله، وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة عرشك، وبقيت أنا، فيقول الله: لتمت حملة العرش، فتموت، ويأمر الله العرش، فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك، فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت، فيموت، فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، كان آخراً كما كان أولاً، طوى السموات والأرض طي السجل للكتب، ثم دحاهما، ثم يلقفهما ثلاث مرات، ثم يقول: أنا الجبار، أنا الجبار، أنا الجبار، ثلاثاً، ثم هتف بصوته: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } ثلاث مرات، فلا يجيبه أحد، ثم يقول لنفسه: { للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } يقول الله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَـٰوَٰتُ } فيبسطهما ويسطحهما، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يوماً، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعاً، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت، فتنبت كنبات الطراثيث، أو كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، فكانت كما كانت، قال الله عز وجل: ليحيَ حملة عرشي، فيحيون، ويأمر الله إسرافيل، فيأخذ الصور، فيضعه على فيه، ثم يقول: ليحي جبريل وميكائيل، فيحييان، ثم يدعو الله بالأرواح، فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نوراً، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقبضها جميعاً، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد؛ كما يمشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم، وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون سراعاً إلى ربكم تنسلون، { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } حفاة عراة غلفا غرلاً، فتقفون موقفاً واحداً مقداره سبعون عاماً، لا ينظر إليكم، ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً، وتعرقون حتى يلجمكم العرق، أو يبلغ الأذقان، وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم؛ خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه، فيأبى، ويقول: ما أنا بصاحب ذلك: فيستقرئون الأنبياء نبياً نبياً، كلما جاؤوا نبياً، أبى عليهم "
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حتى يأتوني، فأنطلق إلى الفحص، فأخرّ ساجداً " قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الفحص؟ قال: " قدام العرش، حتى يبعث الله إليّ ملكاً، فيأخذ بعضدي ويرفعني، فيقول لي: يا محمد فأقول: نعم يا رب فيقول الله عز وجل: ما شأنك؟ - وهو أعلم - فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال الله: قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذ سمعنا من السماء حساً شديداً، فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وهو آت، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف، حتى ينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه يومئذ، ثمانية - وهم اليوم أربعة - أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم، ولهم زجل في تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي العرش والجبروت، وسبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق، ولا يموت، سبوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلي؛ فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أو: بها تكذبون شك أبو عاصم { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } فيميّز الله الناس وتجثو الأمم، يقول الله تعالى: { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَـٰبِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيقضي الله عز وجل بين خلقه، إلا الثقلين: الجن والإنس، فيقضي بين الوحوش والبهائم، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن، فإذا فرغ من ذلك، فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى، قال الله لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: { يَـٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } ثم يقضي الله بين العباد، فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كل قتيل في سبيل الله، ويأمر الله عز وجل كل من قتل، فيحمل رأسه تشخب أوداجه، فيقول: يارب فيم قتلني هذا؟ فيقول وهو أعلم فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزة لك، فيقول الله له: صدقت، فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة، ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه، فيقول: يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول: وهو أعلم لم قتلتهم؟ فيقول: يا رب قتلتهم لتكون العزة لي، فيقول: تعست، ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها، وكان في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه، ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء، فإذا فرغ الله من ذلك، نادى مناد يسمع الخلائق كلهم: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد عبد من دون الله، إلا مثلت له آلهته بين يديه، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم، ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار، وهو الذي يقول: { لَوْ كَانَ هَـٰؤُلاۤءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، جاءهم الله فيما شاء من هيئته، فقال: يا أيها الناس ذهب الناس، فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم، وهو الله الذي يأتيهم، فيمكث أن يمكث، ثم يأتيهم، فيقول: يا أيها الناس ذهب الناس، فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساقه، ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم، فيخرون للأذقان سجداً على وجوههم، ويخر كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر، ثم يأذن الله لهم فيرفعون، ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم، كحد الشفرة أو كحد السيف، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان، دونه جسر دحض مزلة، فيمرون كطرف العين، أو كلمح البرق، أو كمر الريح، أو كجياد الخيل، أو كجياد الركاب، أو كجياد الرجال، فناج سالم، وناج مخدوش، ومكردس على وجهه في جهنم، فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة، قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا، فندخل الجنة؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فيأتون آدم، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بنوح؛ فإنه أول رسل الله، فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول: عليكم بإِبراهيم؛ فإِن الله اتخذه خليلاً، فيؤتى إبراهيم، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنباً، ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول: عليكم بموسى؛ فإن الله قربه نجياً، وكلمه، وأنزل عليه التوراة، فيؤتى موسى، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنباً ويقول: لست بصاحب ذلك، ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى بن مريم، فيؤتى عيسى ابن مريم، فيطلب ذلك إليه، فيقول: ما أنا بصاحبكم، ولكن عليكم بمحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيأتوني، ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن، فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب فأستفتح، فيفتح لي، فأحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة، فنظرت إلى ربي، خررت ساجداً، فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، يقول الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة، فيدخلون الجنة، فيقول الله: قد شفعتك، وقد أذنت لهم في دخول الجنة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والذي نفسي بيده ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم، من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشىء الله عز وجل، وثنتين آدميتين من ولد آدم، لهما فضل على من أنشأ الله؛ لعبادتهما الله في الدنيا، فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجاً من سندس وإستبرق، ثم إنه يضع يده بين كتفيها، ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبدها له مرآة، وكبده لها مرآة. فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره، وما تشتكي قبلها، فبينا هو كذلك، إذ نودي: إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل، إلا أنه لا مني ولا منية، إلا أن لك أزواجاً غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة، كلما أتى واحدة قالت له: والله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك، ولا في الجنة شيء أحب إلي منك. وإذا وقع أهل النار في النار، وقع فيها خلق من خلق ربك، أوبقتهم أعمالهم، فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذ جسده كله إلا وجهه، حرم الله صورته عليها "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأقول: يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي، فيقول: أخرجوا من عرفتم، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع، فيقول الله: أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيماناً، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد. ثم يشفع الله فيقول: أخرجوا من في قلبه إيماناً ثلثي دينار، ثم يقول: ثلث دينار، ثم يقول: ربع دينار، ثم يقول: قيراطاً، ثم يقول: حبة من خردل، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيراً قط، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع، حتى إن إبليس يتطاول؛ مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له. ثم يقول: بقيتَ وأنا أرحم الراحمين، فيدخل يده في جهنم، فيخرج منها ما لا يحصيه غيره، كأنهم حمم، فيلقون على نهر، يقال له: نهر الحيوان، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فما يلي الشمس منها أخيضر، وما يلي الظل منها أصيفر، فينبتون كنبات الطراثيث، حتى يكونوا أمثال الذر، مكتوب في رقابهم: الجهنميون، عتقاء الرحمن، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب، وما عملوا خيراً لله قط، فيمكثون في الجنة ، وذلك الكتاب في رقابهم، ثم يقولون: ربنا امح عنا هذا الكتاب، فيمحوه الله عز وجل عنهم " ثم ذكره بطوله، ثم قال: هذا حديث مشهور، وهو غريب جداً، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة، تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل؛ وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء، قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جداً، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقاً واحداً، فأنكر عليه بسبب ذلك، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفاً قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم.
وقوله تعالى: { ثَيِّبَـٰتٍ وَأَبْكَاراً } أي منهن ثيبات، ومنهن أبكاراً ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوع يبسط النفس، ولهذا قال: { ثَيِّبَـٰتٍ وَأَبْكَاراً } وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أبو بكر بن صدقة، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثنا عبد القدوس عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه: { ثَيِّبَـٰتٍ وَأَبْكَاراً } قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوّجه، فالثيب آسية امرأة فرعون، وبالأبكار مريم بنت عمران.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عليها السلام من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر عن الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة، فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنّة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب، من لؤلؤة جوفاء، بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم.
ومن حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة، وهي في الموت، فقال: " يا خديجة إذا لقيت ضرائرك، فأقرئيهن مني السلام " ، فقالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال: " لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى " ضعيف أيضاً، وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يوسف بن شعيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعلمت أن الله زوّجني في الجنّة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ " فقلت: هنيئاً لك يا رسول الله وهذا أيضاً ضعيف، وروي مرسلاً عن ابن أبي داود.
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، فالنوع المتقدم كان مأخوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان، والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية، وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية، وتقرير الحجة من وجوه: الأول: أن نقول: الصبح صبحان.
فالصبح الأول: هو الصبح المستطيل كذنب السرحان، ثم تعقبه ظلمة خالصة، ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق
ملحوظة
جاء فى الاحاديث الصحيحة
الفجر فجران : فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يُحل الصلاة ولا يُحرم الطعام ، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يُحل الصلاة ويُحرم الطعام
وجاء
الفجر فجران ، فجر يقال له : ذنب السرحان ، وهو الكاذب يذهب طولا ، ولا يذهب عرضا ، والفجر الآخر يذهب عرضا ، ولا يذهب طولا
قوله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } السيما العلامة؛ وفيها لغتان: المد والقصر؛ أي لاحت علامات التهجُّد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجه قال: حدّثنا إسماعيل بن محمد الطلخي قال حدّثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار...
وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضاً، ورواه العَوْفي عن ابن عباس، قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وفيه: " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار مَن كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إلٰه إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود "...
الخامسة ـ روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } حتى بلغ { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ }. فقال مالك: مَن أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر.
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رَبِّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } الآية. وقال:
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ }
[الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادةَ لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى:
{ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }
[الأحزاب:3 2]. وقال:
{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً ـ إلى قوله ـ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }
[الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل:
{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ـ إلى قوله ـ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }
[الحشر: 9]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ الناسِ قَرْنِي ثم الذين يلونهم " وقال: " لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه " خرجهما البخاري. وفي حديث آخر: " فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مُدّ أحدهم ولا نَصيفه " قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال لللعُشْر عَشِير، وللخُمس خميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث. وفي البَزّار عن جابر مرفوعاً صحيحاً: " إن الله ٱختار أصحابي على العالمين سِوى النبيّين والمرسلين وٱختار لي من أصحابي أربعة ـ يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ـ فجعلهم أصحابي "وقال: " في أصحابي كلِّهم خير " وروى عُوَيم بن ساعدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزّ وجل ٱختارني وٱختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختاناً وأصهاراً فمن سَبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناسِ أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً " والأحاديث بهذا المعنى كثيرة،
ملحوظة
ذكرنا الاية فى جوهرة سابقة وذكرنا حديث ان امتى يدعون يوم القيامة غرا محجلين من اثار الوضوء فی شرح سيماهم
أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإِنس. قال: يا نبي الله وهل للإِنس شياطين؟ قال: نعم { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً }؟ ".
وأخرج أحمد وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " تعوذ شياطين الانس والجن. قلت: يا رسول الله وللانس شياطين؟ قال: نعم ".
وقال القرطبي فى تفسيره:
{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسُمِّيَ وَحْياً لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفاً لتزيينهم إياه؛ ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسَن مُمَوّه فهو زُخْرُف. والمزخرَف المزيّن. وزخارف الماء طرائقه. و«غُرُوراً» نصب على المصدر، لأن معنى «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» يغرونهم بذلك غروراً. ويجوز أن يكون في موضع الحال. والغرور الباطل. قال النحاس: ورُوي عن ٱبن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسيّ شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك والسُّدِّي والكَلْبي. قال النحاس: والقول الأوّل يدل عليه
{ وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }
[الأنعام: 121]؛ فهذا يبيّن معنى ذلك.
قلت: ويدُلّ عليه من صحيح السنة قوله عليه السلام: " «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قَرِينُه من الجن» قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» " روى «فأسلم» برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: «ما منكم من أحد» ولم يقل ولا من الشياطين؛ إلا أنه يحتمل أن يكون نبّه على أحد الجنسين بالآخر؛ فيكون من باب «سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ» وفيه بُعْدٌ، والله أعلم. وروى عَوف بن مالك عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «يا أبا ذَرّ هل تعوّذت بالله من شرّ شياطين الإنس والجن»؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: «نعم هم شرٌ من شياطين الجن» " وقال مالك بن دِينار: إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوّذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عِياناً
وأخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال " دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه، فنجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره، كلما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجاً من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } ".
وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك " عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } قال " لا إله إلا الله " ".
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذُ الحسن والحسين رضي الله عنهما: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم إبراهيم يعوّذ بها إسمعيل وإسحق ".
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن خولة بنت حكيم " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ".
وأخرج مسلم والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ قال: أما إنك لو قلت حيث أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك " ".
وأخرج أبو داود والنسائي وابن أبي الدنيا والبيهقي عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه " اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك ".
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن محمد بن يحيى بن حبان " ان الوليد بن الوليد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرق ـ حديث النفس بالليل ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لن يضرك وحريٌّ أن لا يقربك ".
وقال الرازى فى تفسيره:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } وفي تفسير هذا التمام وجوه:
الأول: ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام،
والثاني: أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملاً وعلماً،
والثالث: أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل، ولا يحدث بعد ذلك شيء، فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام، والزيادة عليه ممتنعة، وهذا الوجه هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة "
. وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيت ليلة أسرِي بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مَثَلٌ لقوم من أُمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ـ ثم تلا ـ { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } الآية "
ملحوظة
الحديث ضعيف وقد يكون ضعيف جدا والله اعلم
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }
جاء فى حديث الاسراء
فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط به حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال: " عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة " قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس، فقال وهو في مكانه: " يا رب خفف عنا؛ فإن أمتي لا تستطيع هذا " فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يرده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: " يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنا " فقال الجبار تبارك وتعالى: يا محمد قال: " لبيك وسعديك " قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال:" خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها " قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل؛ مما أختلف إليه " قال: فاهبط باسم الله.
ملحوظة
اول امر امرالله به محمد لما كلمه الصلاة كما اوردت وكذلك
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيبانيّ، قال: ثنا زِرّ بن حُبيش، قال: قال عبد الله في هذه الآية { فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيْتُ جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِئَةِ جَناحٍ ".
وقال آخرون: بل كان الذي كان قاب قوسين أو أدنى: محمد من ربه. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن موسى بن عبيد الحميري، عن محمد بن كعب القرظي، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قلنا يا نبيّ الله: هل رأيت ربك؟ قال: " لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي، ورأيتُهُ بفُؤَادِي مَرَّتَيْن " ثُمَّ: تَلا: { ثُمَّ دَنى فَتَدَلَّى }.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر، أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثيّ، عن كثير، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا عُرِجَ بِي، مَضَى جِبْرِيلُ حتى جاءَ الجَنَّةَ، قالَ: فَدَخَلْتُ فأُعْطِيتُ الكَوْثَرَ، ثُمَّ مَضَى حتى جاءَ السِّدْرَةَ المُنْتَهَى، فَدَنا رَبُّكَ فَتَدَلَّى، { فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى، فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى } ".
حدثنا أحمد بن عيسى التميمي، قال: ثنا سليمان بن عمرو بن سيار، قال: ثني أبي، عن سعيد بن زربي عن عمرو بن سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأَيْتُ رَبِي فِي أحْسَنَ صُورَةٍ " فَقالَ لِي: يا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصمُ المَلأُ الأَعْلَى؟ فَقُلْتُ " لا يا رَبّ فَوَضَعَ يَدَهُ بَينَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْتُ بَرْدَها بَينَ ثَدْييَّ فَعَلِمْت ما في السَّماءِ والأرْضِ " فَقُلْتُ: " يا رَبّ فِي الدَّرَجاَتِ والكَفَّارَاتِ وَنَقْلِ الأقْدَام إلى الجُمُعاتِ، وَانْتِظارِ الصَّلاةِ بَعْد الصَّلاةِ " فَقُلْتُ: " يا رَبّ إنَّكَ اتَّخَذْتَ إبْرَاهِيمِ خَلِيلاً، وكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ؟ " فَقال: ألمْ أشْرَحْ لَكَ صَدْرَكْ؟ ألمْ أضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ ألمْ أفْعَلْ بِكَ؟ ألْم أفْعَلْ. قال: " فأفْضَى إليَّ بأشْياءَ لَمْ يُؤْذَنْ لي أنْ أُحَدّثْكُمُوها " قال: " فَذلكَ قَوْلُهُ فِي كِتابِهِ يُحُدّثْكُمُوهُ " ثُمَّ دَنا فَتَدلى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى، فأوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى. ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رأَى، " فَجَعَلَ نُورَ بَصَرِي فِي فُؤَادِي، فَنَظَرْت إلَيْهِ بِفُؤَادِي "
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ، قال: ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم عن رزّ، عن عبد الله، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " رأيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى، لَهُ سِتُّ مِئَةِ جَناح، يَنْفُضُ مِنْ رِيشِهِ التَّهاوِيلَ الدُّرَّ والياقُوتَ ".
حدثنا أبو هشام الرفاعي، وإبراهيم بن يعقوب، قالا: ثنا زيد بن الحباب، أن الحسين بن واقد، حدثه قال: حدثني عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى لَهُ سِتّ مِئَةِ جَناحٍ " زاد الرفاعيّ في حديثه، فسألت عاصماً عن الأجنحة، فلم يخبرني، فسألت أصحابي، فقالوا: كلّ جناح ما بين المشرق والمغرب.
وقال ابن كثير فى تفسيره:
وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد عليهم الصلاة والسلام؟ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: " نور أنى أراه " ؟ وفي رواية:" رأيت نوراً " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال: قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: " رأيته بفؤادي مرتين " ثم قرأ: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } ورواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: " لم أره بعيني، ورأيته بفؤادي مرتين " ثم تلا: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ }.
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت ليلة الإسراء.
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة سبحان بما أغنى عن إعادته ههنا، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء، ويستشهد بهذه الآية، وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم،
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية: { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت " وهذا إسناد جيد قوي
. وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم. إسناده حسن أيضاً.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال: كنت عند عائشة، فقلت: أليس الله يقول:
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ }
[التكوير: 23] { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: " إنما ذاك جبريل " لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض، أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى، وهي قوله: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية؛ كما قال الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله: حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا الجعد أبو عثمان، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " إن ربكم عز وجل رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له واحدة، أو يمحوها الله عز وجل، ولا يهلك على الله إلا هالك " ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به.
وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله عز جل: من عمل حسنة، فله عشر أمثالها وأزيد، ومن عمل سيئة، فجزاؤها مثلها أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة، ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً، جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبراً، اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة " ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به، ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من هم بحسنة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم يكتب عليه شيء، فإن عملها، كتبت عليه سيئة واحدة " واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة؛ كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: " فإنما تركها من جرائي " أي: من أجلي، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم ينو خيراً، ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار " قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " وقال الإمام أبو يعلى الموصلي: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا علي، وحدثنا الحسن بن الصباح وابن خيثمة، قالا: حدثنا إسحاق بن سليمان، كلاهما عن موسى بن عبيدة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس، عن جده أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هم بحسنة، كتب الله له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها، كتبت عليه سيئة، فإن تركها، كتبت له حسنة، يقول الله تعالى: إنما تركها من مخافتي " ، هذا لفظ حديث مجاهد، يعني: ابن موسى، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة، عن خريم بن فاتك الأسدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس موسع له في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف، فالموجبتان، من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة، ومن مات كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها، كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها، كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة، كانت عليه بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عز وجل، كانت بسبعمائة ضعف " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها بلغو، فهو حظه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، فإن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام " ، وذلك لأن الله عز وجل يقول: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن مرثد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله تعالى قال: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } " وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام ثلاثة أيام من كل شهر، فقد صام الدهر كله " رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي، وزاد: " فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } اليوم بعشرة أيام " ثم قال: هذا حديث حسن. وقال ابن مسعود: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }: من جاء بلا إله إلا الله، { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ } ، يقول: بالشرك، وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجمعين، وقد ورد فيه حديث مرفوع الله أعلم بصحته، لكني لم أروه من وجه يثبت، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً وفيما ذكر كفاية إن شاء الله، وبه الثقة.
(فصل) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال، وإن كانت أعراضاً، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً، قال البغوي: يروى نحو هذا عن ابن عباس؛ كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف. ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: " فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح " ، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق، وقيل: يوزن كتاب الأعمال؛ كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به، ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: لا إله إلا الله، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي بنحو من هذا، وصححه، وقيل: يوزن صاحب العمل؛ كما في الحديث: " يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة " ثم قرأ:
{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً }
[الكهف: 105]، وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد " وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.
وقال السيوطى فى الدر المنثور:
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } قال: للنبي صلى الله عليه وسلم بعض أهله: يا رسول الله هل يذكر الناس أهليهم يوم القيامة؟ قال " أما في ثلاث مواطن فلا: عند الميزان، وعند تطاير الصحف في الأيدي، وعند الصراط
وأخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والآجري في الشريعة والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن عائشة. أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مالك..؟! قالت: ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحداً حيث توضع الميزان حتى يعلم اتخف ميزانه أم تثقل، وعند تطاير الكتب حين يقال { هاؤم اقرأوا كتابيه } [الحاقة: 19] حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أو من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حافتاه كلاليب كثيرة وحسك كثير يحبس الله بها من شاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ".
وأخرج الحاكم وصححه عن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك...! ما عبدناك حق عبادتك، ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تنحى على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك...! ما عبدناك حق عبادتك ".
وأخرج ابن مردويه عن عائشة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خلق الله كفتي الميزان مثل السماء والأرض. فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت. وخلق الله الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت
وأخرج الترمذي وحسنه والبيهقي في البعث عن أنس قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال " أنا فاعل. قلت: يا رسول الله أين أطلبك؟ قال: أطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطىء هذه الثلاثة مواطن
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في البعث عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذراً وحسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، وأنه لا أظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء ".
وأخرج أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم " توضع الموازين يوم القيامة فيؤتي بالرجل فيوضع في كفه ويوضع ما أحصى عليه فتمايل به الميزان فيبعث به إلى النار فإذا أدبر به، صائح يصيح عند الرحمن: لا تعجلوا لا تعجلوا فإنه قد بقي له. فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله. فتوضع مع الرجل في كفة حتى تميل به الميزان ".
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر عن النبي صى الله عليه وسلم قال " أول ما يوضع في ميزان العبد نفقته على أهله ".
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة واللالكائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ".
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرض ومن فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن ".
وأخرج ابن أبي الدنيا والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي بسند جيد عن أنس قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال " ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله. قال عليك بحسن الخُلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما ".
وأخرج ابن أبي شيبة عن ميمون بن مهران قال: قلت لأم الدرداء: أما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قالت: نعم، دخلت عليه فسمعته يقول " أول ما يوضع في الميزان الخُلق الحسن ".
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان واللالكائي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خُلق حسن ".
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب قال: أعطيت ناقة في سبيل الله، فأردت أن أشتري من نسلها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " دعها تأتي يوم القيامة هي وأولادها جميعاً في ميزانك ".
وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت ".
وأخرج الطبراني في الأوسط عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بخ بخ خمس ما أثقلهن في الميزان. سبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، والله أكبر، وفرط صالح يفرطه المسلم ".
وأخرج أبو يعلى وابن حبان عن عمرو بن حريث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أنفقت عن خادمك من عمله كان لك أجره في موازينك
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
قال ابن كثير فى تفسيره:
قال ابن جرير: الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك، (قلت): لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عقيل، يعني: الثقفي عبد الله بن عقيل، حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجعد، عن سبرة بن أبي الفاكه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ قال: فعصاه وأسلم " قال: " قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتُنكَح المرأة، ويقسم المال؟ قال فعصاه وجاهد " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة "
يقول تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعني: كلام الناس { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } أي: إلا نجوى من قال ذلك؛ كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس، قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي، فقال له سفيان الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح، ردِّده علي، فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر " فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }؟ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول:
{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }
[النبأ: 38] فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه:
{ وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ }
[العصر: 1 ـ 2] إلخ؟ فهو هذا بعينه، وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان به، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي: حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث ابن خُنَيس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كيسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب: أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره: أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً، أو يقول خيراً " ، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها، قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن الزهري به نحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مُرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال:" إصلاح ذات البين " ، قال: " وفساد ذات البين هي الحالقة " ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي: حسن صحيح
. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، حدثنا أبي عن حميد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: " ألا أدلك على تجارة؟ " قال: بلى يا رسول الله. قال: " تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار: وعبد الرحمن بن عبد الله العمري لين، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ولهذا قال: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَآءَ مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ } أي: مخلصاً في ذلك، محتسباً ثواب ذلك عند الله عز وجل، { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي: ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.
وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي وفّقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده والثناء عليه تعالى، وقيل: الهداية هنا هو الإرشاد إلى طريق الجنة ومنازلهم فيها وفي الحديث " أنّ أحدهم أهدى إلى منزله في الجنة من منزله في الدنيا " ، وقيل: الإشارة بهذا إلى العمل الصالح الذي هذا جزاؤه، وقيل إلى الإيمان الذي تأهّلوا به لهذا النعيم المقيم، وقال الزمخشري: أي وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح انتهى، وفي لفظه واجب والعمل الصالح دسيسة الاعتزال، وقال أبو عبد الله الرازي معنى { هدانا } الله أعطانا القدرة وضمّ إليها الدّاعية الجازمة، وصير مجموعهما لحصول تلك الفضيلة وقالت المعتزلة التّحميد إنما وقع على أنه تعالى خلق العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع انتهى، وفي صحيح مسلم " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وأنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وأنّ لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً " فلذلك { قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا }.
وقال الطبري فى تفسيره:
{ وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ } يقول: وما كنا لنرشد لذلك لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنه وطَوْله. كما:
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ أهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ لَوْ هَدَانا اللّهُ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً. وكُلُّ أهْلِ الجَنَّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُونَ لَولا أنْ هَدَانا اللّهُ. فَهَذَا شُكْرُهُمْ
وقال ابن كثير فى تفسيره:
{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي: من حسد وبغض؛ كما جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا "
إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }
قال ابن الجوزى فى زاد المسير:
قوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه يوم السبت. روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الاربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر [من] يوم الجمعة [في] آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " وهذا اختيار محمد بن إسحاق. قال ابن الانباري: وهذا إجماع أهل العلم.
والثاني: يوم الأحد، قاله عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة.
والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل
وقال ابن كثير فى تفسيره:
يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام؛ كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة؛ وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام، هل كل يوم منها كهذه الأيام؛ كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة؛ كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت، فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة، آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن حجاج، وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعاً، والله أعلم.
{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قيل: معناه: تذللاً واستكانة، وخفية؛ كقوله:
{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ }
[الأعراف: 205] الآية. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب " الحديث
ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } في الدعاء، ولا في غيره. وقال أبو مجلز: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة، عن مولى لسعد: أن سعداً سمع ابناً له يدعو، وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها، وإستبرقها، ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وفي لفظ يعتدون في الطهور والدعاء وقرأ هذه الآية: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا } الآية وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل " ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد، فذكره، والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا الجريري عن أبي نعامة: أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة، وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور " وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان، به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجُريْري عن أبي نعامة، واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري، وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.
وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
قال ابن كثير فى تفسيره
يقول تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ } أي: بعض الأمم { أُمَّةً } قائمة بالحق قولاً وعملاً { يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } يقولونه، ويدعون إليه { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعملون ويقضون، وقد جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية هي هذه الأمة المحمدية، قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: " هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } "[الأعراف: 159]. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل " وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة " وفي رواية: " حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك " وفي رواية: " وهم بالشام "
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن إبراهيم بن أدهم قال: لما أنزل الله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس ".
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي قال: " لما أنزل الله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم...! فذهب ثم رجع فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " ".
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: " لما نزلت هذه الآية { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال: حتى أسأل. فصعد ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا ادلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " ".
وأخرج ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة قال: " لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال " والله لأمثلن بسبعين منهم. فجاءه جبريل بهذه الآية { خذ الغفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري...! ثم عاد فقال: إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك " ".
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي من طريقه عن معمر عن أبي إسحق الهمداني عن ابن أبي حسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، قال البيهقي: هذا مرسل حسن ".
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لن ينال عبد صريح الإِيمان حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه ".
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ".
قال ابن كثير فى تفسيره:
. وقوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } ، قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً، وقال: صحيح، ولم يخرجاه، ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً، ولا يصح؛ لضعف إسناده، والموقوف أصح، وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي، وفي رواية عن مجاهد في قوله: { يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } أي: حتى يتركه لا يعقل، وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وقال قتادة: هو كقوله:
{ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ }
[ق: 16] وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها "وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش، واسمه سليمان بن مهران، عن أبي سفيان، واسمه طلحة بن نافع، عن أنس، ثم قال: حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش، ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال، رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " هذا حديث جيد الإسناد، إلا أن فيه انقطاعاً، وهو مع ذلك على شرط أهل السنن، ولم يخرجوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت ابن جابر يقول: حدثني بشر بن عبد الله الحضرمي: أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " وكان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال: «والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه " وهكذا رواه النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن: أن عائشة قالت: دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء، فقال: " إن قلب الآدمي بين أصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه " (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول: " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: فقلت: يا رسول الله أوَإِنَّ القلوب لتقلب؟ قال: " نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم، إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب "قالت: فقلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: " بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني " (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، أخبرني أبو هانىء: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي، أنه سمع عبد الله بن عمرو: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف شاء " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري به.
قال ابن كثير فى تفسيره:
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر؛ لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجتنبوا السبع الموبقات " قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وله شواهد من وجوه أخر،....
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر، حدثنا يزيد بن ربيعة، حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف...
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قال ابن كثير فى تفسيره
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله " أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن شقيق، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود،
قال ابن كثير فى تفسيره:
.
وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد، في قوله: { إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ } يوم بدر، وقال وكيع: عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد، وعن شعبة عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، يضربون وجوههم وأدبارهم، قال: وأستاههم، ولكن الله يَكْني، وكذا قال عمر مولى غُفْرَة. وعن الحسن البصري قال: قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك، قال: " ذاك ضرب الملائكة " رواه ابن جرير، وهو مرسل، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ } وفي سورة القتال مثلها، وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى:
{ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنفُسَكُمُ }
[الأنعام: 93] أي: باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم، إذ استصعبت أنفسهم، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله؛ كما في حديث البراء: أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة، يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده، كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب، ولهذا أخبر تعالى: أن الملائكة تقول لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وقوله تعالى: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي: هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا، جازاكم الله بها هذا الجزاء، { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي: لا يظلم أحداً من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، تبارك وتعالى، وتقدس وتنزه، الغني الحميد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، عند مسلم رحمه الله، من رواية أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه
قال ابن كثير فى تفسيره:
وقال مالك بن أنس: عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما رُئي إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر " قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال: " أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة " وهذا مرسل من هذا الوجه.
(الحديث الأول) قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا شعبة عن سليمان، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ الآيتين " وحدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، كفتاه " وقد أخرجه بقية الجماعة عن طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله، وهو في الصحيحين من طريق الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن عنه به، وهو في الصحيحين أيضاً عن عبد الرحمن، عن علقمة، عن أبي مسعود، قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به، وهكذا رواه أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن علقمة، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه ". (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي، عن خرشة بن الحر، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي " وقد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي، عن الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن زيد بن ظبيان، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ". (الحديث الثالث) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا مالك بن مغول (ح) وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب، جميعاً عن عبد الله بن نمير، وألفاظهم متقاربة، قال ابن نمير: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن مغول عن الزبير بن عدي، عن طلحة، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها، قال:
{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }
[النجم: 16] قال: فراش من ذهب، قال: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات.
(الحديث الرابع) قال أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة؛ فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش " هذا إسناد حسن، ولم يخرجوه في كتبهم.
(الحديث الخامس) قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، أخبرنا مسدّد، أخبرنا أبو عوانة عن أبي مالك، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث: أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش، لم يعطها أحد قبلي، ولا يعطاها أحد بعدي " ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هند عن ربعي عن حذيفة بنحوه.
(الحديث السابع) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بندار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن أشعث بن عبد الرحمن الحرمي، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان " ثم قال: هذا حديث غريب، وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
(الحديث الثامن) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد ابن مدين، أخبرنا الحسن بن الجهم، أخبرنا إسماعيل بن عمرو، أخبرنا ابن أبي مريم، حدثني يوسف بن أبي الحجاج، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ سورة البقرة وآية الكرسي ضحك، وقال: " إنهما من كنز الرحمن تحت العرش " وإذا قرأ:
{ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }
[النساء: 123]
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ }
[النجم: 39 - 41] استرجع، واستكان.
(الحديث التاسع) قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي، حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله: " أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، والمفصل نافلة ". (الحديث العاشر) قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته. رواه مسلم والنسائي، وهذا لفظه.
فقوله { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت عليه هذه الآية: " ويحق له أن يؤمن " وقد روى الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو النضر الفقيه، حدثنا معاذ بن نجدة القرشي، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا أبو عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حق له أن يؤمن " ، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه...
وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } أي: إن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا، أي: الصواب في العمل؛ جهلاً منا بوجهه الشرعي. وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال: " قال الله: نعم " ولحديث ابن عباس، قال الله: " قد فعلت " وروى ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي، عن عطاء؛ قال ابن ماجه في روايته: عن ابن عباس، وقال الطبراني وابن حبان: عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقد روي من طريق آخر، وأعله أحمد وأبو حاتم، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن شهر، عن أم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان، والاستكراه " قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآناً: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا }.
وأخرج سفيان وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن المنذر عن أبي هريرة" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم وتعمل به ".
(بيان أن المراد بالسياحة الصيام) قال سفيان الثوري: عن عاصم عن زِرّ عن عبد الله بن مسعود قال: { ٱلسَّـٰئِحُونَ } الصائمون، وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون، وكذا قال الضحاك رحمه الله، وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم: أن المراد بالسائحين الصائمون، وقال الحسن البصري: { ٱلسَّـٰئِحُونَ }: الصائمون شهر رمضان، وقال أبو عمرو العبدي: { ٱلسَّـٰئِحُونَ } الذين يديمون الصيام من المؤمنين، وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا حكيم بن حزام، حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السائحون هم الصائمون " وهذا الموقوف أصح، وقال أيضاً: حدثني يونس عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين، فقال: " هم الصائمون " وهذا مرسل جيد، وهذا أصح الأقوال وأشهرها.
وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله "
وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة، أخبرني عمارة بن غزية: أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف " وعن عكرمة أنه قال: هم طلبة العلم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المهاجرون، رواهما ابن أبي حاتم، وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين؛ كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن "