هل تفسر آيات خلق السماوات والأرض بنظرية "الانفجار العظيم" ؟

إنضم
05/07/2004
المشاركات
103
مستوى التفاعل
2
النقاط
18
بسم الله الرحمن الرحيم​


جاء بعض الفلكيين الغربيين بنظرية "الانفجار العظيم" تفسيرًا متوقعًا لبدء الكون، وتلقفها بعض أهل الإعجاز العلمي بالتسليم، وراحوا يستدلون لها بآيات القرآن العظيم كقوله جل جلاله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30]، وقوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات:47]. وربما بالغ بعضهم فرأى أن الآيات لا تفسر إلا بها !!!
وقد رأيت في هذا الملتقى من كتب عنها مسلمًا، وقد رجعت إلى هذه النظرية، وإلى ما قيل في تفسير الآيات، وكتبت هذه المقالة، وأعرضها لكم، لعل فيها ما يفيد، ولعلكم تسددونها وتقومونها، نفع الله بكم.
***​
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
أما بعد:
فالاعتماد على نظرية "الانفجار العظيم" في تفسير بدء الكون فيه نظر؛ لأن هذه النظرية اتكأت على توقع بشري مادي لخلق الكون، من خلال رصد بعض الظواهر المشاهدة فيه.
وهذه النظرية انطلقت من تمدد الكون واتساعه بين المجرات فتتباعد؛ مما يعني أن الكون ما دام في حالة تمدد مستمر فإنه قد بدأ من نقطة قريبة من الصفر، وانفجر عنها قبل خمسة عشر بليون عام كما يقولون، واستمر في التمدد والاتساع حتى بلغ هذا الحجم العظيم، ولم يكن قبل هذا الانفجار مكان ولا زمان، وإنما تولدا مع الانفجار، ولم يكن قبل ذلك إلا العدم.
ويتصل بهذه النظرية عدة توقعات متعلقة بمادة الكون وحرارته، وإلى أي مدى سيتمدد؟ هل سيستمر في التمدد إلى ما لا نهاية، أو يقف عند حد معين؟ وهل سينكمش؟ وغير ذلك.
وأثير على هذه النظرية إشكالات عدة من بعض علماء الفلك، مما جعل بعضهم يرفض هذه النظرية.
كما فسر نشوء الكون بنظريات أخرى غير هذه النظرية.
ومع أن هذه النظرية فيها بعض الحقائق، كما أن فيها بعض الإيجابيات كدلالتها على الخالق سبحانه وتعالى، وإبطال أزلية الكون، إلا أن فيها ما ينافي الشرع كالصدفة في الخلق، ونفي المكان والزمان قبل الانفجار، ونفي أن يكون ثمة خلق لله عز وجل قبل خلق السماء والأرض، وحصول الخلق بالانفجار مع أن الله جل جلاله بيّن خلقه بخلاف ذلك كما قال سبحانه: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)، وقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)، وقال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
ومع ما يحيط بهذه النظرية من الإشكالات الشرعية فإنها تبقى نظرية لا حقيقة مطلقة، والخلق لم يطلعوا على كل ما في الكون وأنّى يكون لهم ذلك، والله عز وجل قد قال: (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ)، وقال: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ). ولهذا لا يصح أن تفسر آيات القرآن الكريم بمثل هذه النظريات التي لا تعد يقينيات، أو أن تسقط الآيات عليها.
* * *​

والخير كل الخير والسلامة كل السلامة أن نستخدم ما ورد في نصوص القرآن والسنة من أخبار وألفاظ ولا نعدوها إلى غيرها إلا عن يقين، ولا يقين إلا بهما في الخبر عن خلق الكون الذي لم يشهده أحد من الخلق، ولم يشرك فيه أحدًا.
* * *​

وأما قول الله عز وجل: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30].
فإن الرَّتْق في كلام العرب: السد والالتئام والانضمام.
وأما الفَتْق فهو: الشق والفتح والفصل والاتساع والانفراج.
ويطلق على الخصب وانشقاق الأرض بالنبات، وانفلاق الصبح، وانشقاق العصا ووقوع الحرب بين الجماعة، وتصدُّع الكلمة، ونقض العهد...
وللعلماء أقوال في تفسير رتق السماوات والأرض وفتقهما:
الأول: أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين، فرفع الله السماء عن الأرض، وفصل بينهما بالهواء.
وهو مروي عن ابن عباس وقتادة والحسن وسعيد بن جبير.
ويدل على هذا التفسير أمور:
أحدهما: إفراد "رَتْقا"، وهو بمعنى اسم المفعول "المرتوق"، وظاهر الإفراد يدل على أن السماء والأرض كانتا مرتوقتين ملتئمتين كالجرم الواحد ففصل بينهما، قال البقاعي: ((لما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم)).
وثانيها: ما ذكره الله جل جلاله بعد ذكر الفتق من جعل الحياة بالماء وجعل الجبال والفجاج، وجعل السماء سقفًا محفوظًا، وخلق الليل والنهار والشمس والقمر. وكأن هذا تفصيل لما جعله الله جل جلاله وخلقه في السماوات والأرض بعد فتقهما.
وثالثها: قوله: "وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً" قد يكون فيه إشارة إلى الالتئام السابق، بأن الله عز وجل رفعها وصيرها سقفًا بعد أن لم تكن، ولما صيرها كذلك جعلها بقدرته محفوظة من السقوط كما قال الله تعالى: (ويُمْسِكُ السَّماءَ أن تَقَع على الأرْضِ إلاّ بإذْنِه)، كما أنها محفوظة من الشياطين في قوله سبحانه: (وحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانِ رَجيم).
الثاني: أن الفتق حصل بجعل السماء سبع سماوات طباقًا بعضها فوق بعض، وجعل الأرض سبع أرضين بعضها تحت بعض.
وهو مروي عن مجاهد، والسدي، وأبو صالح الحنفي.
ويدل على هذا التفسير أمران:
أحدهما: جمع "السماوات" كما قال مكي بن أبي طالب: ((وقوله: "إن السماوات" تدل على قول مجاهد)).
ثانيهما: قول الله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت:9-12].
الثالث: أن فتق السماء بالمطر بعد أن كانت رتقًا لا تمطر، وفتق الأرض بالنبات بعد أن كانت رتقًا لا تنبت.
وهو مروي عن ابن عباس، وابن عمر، وعكرمة، وعطية العوفي، وابن زيد، ومجاهد. ونسبه ابن عادل في اللباب إلى أكثر المفسرين. ورجحه الطبري وابن عطية.
ويدل عليه ما يأتي:
أولاً: قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا) يدل على أنهم يرونه عيانًا، والظاهر تفسير الرؤية بالبصرية -وليس ثمة ما يمنع من تفسيرها بالعلمية على القولين الآخرين- وهم لم يروا إلا إنزال المطر من السماء بعد أن لم يكن، وانشقاق الأرض عن النبات بعد أن كانت هامدة.
ثانيًا: التعقيب بقوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ)، والأصل أن يكون متصلاً بما قبله، أي: من الماء الذي ينزل من السماء بعد فتقها وتختزنه الأرض ثم تنبت به بعد فتقها، قال الطبري: ((إنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه)). وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: ((وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بيّن، ويناسب قوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي: من الماء الذي أوجده الفتق، فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار)).
ثالثًا: جاء هذا المعنى في آيات أخر، منها قول الله عز وجل: (وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ)، وقوله: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً).
رابعًا: قال الشنقيطي: ((ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى، وعظم منته على خلقه، وقدرته على البعث)).
ويرى بعض المفسرين أن الأقوال كلها محتملة، كما قال ابن كثير: ((كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصقًا متراكمًا بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السموات سبعًا، والأرض سبعًا، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض)). وقال ابن عاشور: ((والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً)).
على أن القولين الثاني والثالث تدل الآيات الأخرى على صحة إطلاق الفتق عليهما، أما القول الأول فليس ثمة دليل صريح يؤكده بحيث يصح إطلاق الفتق عليه.
ولعل مجيء الرتق مفردًا، والسماوات مجموعًا، مع سياق القول الثالث؛ لإرادة المعاني الصحيحة المحتملة كلها، ويُدل على كل واحد منها بسياق، والله أعلم.
وثمة أقوال أخرى ككون الفتق بالنور بعد الظلمة، أو بالإيجاد بعد العدم، قال الشنقيطي في أضواء البيان: ((وهو أبعدها لظهور سقوطه)).
وعلى ما سبق من أقوال فإن الفتق بعد الرتق في الآية لا يلتئم معه التفسير بـ"الانفجار العظيم"، لا من حيث اللغة، ولا من حيث النصوص الشرعية. ثم إن الآية تتناول السماوات والأرض فحسب، لا غيرهما، والله أعلم.
* * *​

وأما قوله جل جلاله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات:47].
فإن معنى "موسعون" من الوسع وهو القدرة والإطاقة، أي: قادرون.
أو من سعة الغنى والرزق، أي: موسعون الرزق على خلقنا.
أو من سعة المكان، أي: وسعنا أرجاءها.
وبما سبق قال المفسرون.
وهل ما قيل من التمدد بين المجرات يصح أن يكون من تفسير الآية؟
ولو احتمل ذلك فلا يقيد به، ولا يصحِح نظرية "الانفجار العظيم"، وإن كانت تتفق مع الآية في جزء منها، والله أعلم.
* * *​
وما قيل في "الانفجار العظيم" يقال في نظرية "الانسحاق الشديد" الذي به ينتهي الكون، وتفترض النظرية أن التوسع الحاصل للكون بسبب طاقة الانفجار العظيم ستتبدد وتنتهي بعد مدة من الزمان، وستبدأ طاقة الجذب المركزية في لملمة أطراف الكون إلى أن يعود كتلة واحدة صغيرة في الحجم عالية الكثافة والكتلة.
ويستدل لها البعض بقول الله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
وما هذه النظرية إلا توقعات بشرية مادية لا تسعفها النصوص الشرعية، ولا يصح أن تفسر بها، وتسقط عليها.
والخير كل الخير والسلامة كل السلامة الاعتماد على ما ورد في النصوص الشرعية معنى ولفظًا.
* * *​

وأما قول الله سبحانه وتعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) فإن في تعلق "يوم نطوي السماء" قولين:
الأول: أنه متعلق بالآية التي قبلها: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) الآية، أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب. ثم استؤنف معنى آخر: كما بدأنا أول خلق نعيده. قال الطبري: وعند قوله: (كطي السجل) انقضاء الخبر عن صلة قوله: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره: (كما بدأنا أول خلق نعيده).
الثاني: أنه متعلق بقوله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) من باب التقديم والتأخير، أي: كما بدأنا أول خلق نعيده يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب.
وعلى كلا القولين فليس المقصود السماوات والأرض، وإنما هو البعث بعد الموت، كما جاء في آيات أخر: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
وهذا هو تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)".
* * *
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.​
 
السلام عليكم ورحمة الله

يمكن تقسيم الموضوع إلى ثلاث مسائل حسب ترتيب الأدلة، والحكم على كل مسألة على حدى:

1- اتساع السماء بما تحويه من مجرات: ربما يكون لهذا المعنى علاقة قوية بقول الله تعالى "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"(الذاريات:47)، حتى ولو تهاوى الدليل الفيزيائي. أي أن المعنى مقبول ويصل إلى درجة الرجحان ولكن دون اليقين. كما أن تفسير آية (الذاريات:47) باتساع السماء جائز حتى ولو لم تكن هناك نظرية علمية تقول به.

2- الانفجار العظيم Big Bang: والذي بدأ من نقطة متفردة، ليس إلا استدلال تابع لظاهرة اتساع السماء، والمستندة إلى ظاهرة دوبلر Doppler effect في الضوء، والتي تسمى الانزياح ناحية الأحمر red shift ، وليس له دليل غيرها أقوى منها. كما أنه ليس ضرورياً ضرورة طبيعية وحتمياً عن الاتساع، حتى على المستوى العلمي الفيزيائي الكوسمولوجي. ولا أراه متفقاً مع قول الله تعالى "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا"(الأنبياء:30) لأسباب عديدة. بل إنه هذا التصور الرتيب للاتساع والذي يؤول - بالرجوع في الزمن - إلى نقطة أولى، يحوطه الكثير من المشاكل الفيزيائية، أهمها عندي أن قانون حفظ الطاقة لا بد أن ينكسر، وهذه المسألة يتجاوزها الفيزيائيون وأصحاب الكوسمولوجي ويتغاضون عنها! رغم أنها في رأيي يجب أن تطيح بكامل تصور الانفجار العظيم. أي أن المسألة بها ضعف شديد، وارتباطها بتفسير الآية (الأنبياء:30) غير يسير لغوياً، ... ومن ثم يجب تضعيف علاقتها بالآية، وعدم تأييدها على مستوى التفسير العلمي، ناهيك عن الإعجاز العلمي.

3- مسألة الانسحاق العظيم Big Crunch: والمستدل عليه من ظاهرة الاتساع أيضاً، تم تضعيفها علمياً بعد اكتشاف أن الكون يتسارع في اتساعه، ومن ثم لم يعد لها أي دعم علمي يبقيها لتنافس تبرد الكون وتفككه الناتج عن دوام الاتساع المتسارع. أما عن ربط الانسحاق العظيم بقول الله تعالى "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ"(الأنبياء:104) فغير ضروري، ولا راجح، بل هو أبعد عن القبول بعد الضعف الذي وصلت إليه النظرية. إلا إذا ظهرت أدلة جديدة، مثل اكتشاف تلك المادة التي سُميَّت بالمادة المظلمة Darl Matter، وعندها لكل حادث حديث.

هذا والله تعالى أعلم.
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة
أرى والله أعلم أن (الأنفجار العظيم )الذي حدث في ذرة أو أصغر منها أقرب ماعُبرَ عنه في القرآن الكريم هو في كلمة (خلق)
قال تعالى( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾الآية 1 سورة الأنعام وغيرها من الآيات التي جاء فيها ذكر الخلق .
فلو رجعنا للتركيب اللفظي لكلمة (خلق) نجد أنها مركبة من ثلاث مصادر (خل و لق وخق )ولكل مصدر معنى ودور في الكلمة
فالمصدر (خل) جاء عنه أنه يشير للتفريج والفرجة بين الشيئين المتلاصقين في بعضهما البعض
والمصدر (لق) جاء عنه أنه يشير بالفتح الصدع , واللقلقة شدة الصوت , واللقلاق واللقلقة شدة الصوت في حركة واضطراب والقلقلة شدة اضطراب الشيء .
والمصدر (خق) وجاء عنه أنه يشير لإتساع الشيء مع إحداث صوت أثناء الإتساع .
(المرجع لسان العرب)
لذلك أجد أن التركيب اللفظي لكلمة (خلق) يدور حول الدخول في شيء ملتصق بعضه ببعض وتوسعته وينتج عن الاتساع صدع واضطراب وصوت شديد , وهذا قريب من عملية(الانفجار)
قال تعالى (﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾) الاية 4 سورة النحل
هذا الإنسان خلق من (نطفة) وهي قريب من الذرة فحدث في هذه النطفة اتساع وتصدع وربما صوت كذلك والله أعلم , ولكن أشير لها في القرآن لأن البشر يرونها , في حين أن الإشارة لخلق السماوات والارض أنها بدأت من ذرة أو أصغر أعتقد أنها لم ترد والله أعلم
أخيراً من وجهة نظري أرى أن قضية الخلق أقرب للإنفجار وأدق وأصدق إن شاء الله من قضية الرتق والفتق والله أعلم.
 
اتفق معك يا دكتور يوسف فيما ذكرت .
بغض النظر عن صدق نظرية الانفجار العظيم، حملُ بعض آيات القرآن الكريم على أنها إشارة إليه فيه تعسُّف وتكلف ظاهر، ينبغي أن يتورَّع عنه المسلم.
 
الأخ عز الدين
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وشكر الله لك هذه المداخلة المفيدة.

الأخ فواز
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا أدري ماذا أقول عن مداخلتك؟!
وأي عبقرية تفتقت عن هذا التفكيك لكلمة "خلق" التي تستدل بها على "الانفجار العظيم" !!!
ثم تقول قولاً عظيمًا: ((قضية الخلق أقرب للانفجار وأدق وأصدق إن شاء الله من قضية الرتق والفتق))؟؟؟!!!
لقد اقشعر جلدي وأنا أقرأ هذه المقولة!!!
أيمكن أن يكون ما قاله الخلق أصدق مما قاله الله جل جلاله؟!
حاشاك أن تقصد هذا، وإنما هو سوء تعبير!
لقد كنت أتساءل: هل كنت تكتب وأنت في سنة أو في نوم ؟!
وأرجو أن أكون مخطئًا في فهمي..

الدكتور إبراهيم
شكر الله لك مداخلتك، وموافقتك جعلتني أطمئن إلى ما كتبته، بصرنا الله بالحق ورزقنا اتباعه.
 
الأخ يوسف حفظه الله
طبعاً لا أقصد أن قول الخلق أصدق من قول الخالق
ولكن أقول أن كلمة (الانفجار)تتلائم مع كلمة (الخلق) أو تعود لها
فلا نقول أن الانسان المخلوق من نطفة أنه منفجر , ولكن نقول كما تعلمون أنه مخلوق
فيجوز أو يستحسن أن نعيد صياغة المصطلح فنقول بدلاً من( الانفجار العظيم) أن نقول (الخلق) فهذا الذي ذكره الله في القرآن
ولحق القرآن الأولية والأقدمية في الإشارة لذلك
أما تفتق العبقرية التي ذكرت
لا يا أخي فلا نبخس الناس أشياءهم فالسلف من علماء الأمة رحمهم الله بعبقريتهم وقربهم من العصر الذهبي للغة العربية
هم من أتى بذكر التركيب اللفظي واستعملوه مع مفردات القرآن الكريم لمعرفة بيان مفرداته وأنتم خير من يعلم ذلك
ونحن نسير على أثرهم بإذن الله
وأيضاً أود أن أشير لأن هناك فرقاً كبيرا بين مفردات مثل ( خلق وفتق ورتق) فلا تحل كلمة محل أخرى
فقضية الخلق قضية مستقله عن قضية فتق الرتق الذي كان بين السماء والأرض
هذا ولكم اطيب الأمنيات
 
الأخ فواز
أشكر لك لطفك..
قلت بارك الله فيك: (يستحسن أن نعيد صياغة المصطلح فنقول بدلاً من "الانفجار العظيم" أن نقول :"الخلق"؛ فهذا الذي ذكره الله في القرآن، ولحق القرآن الأولية والأقدمية في الإشارة لذلك).
وهذا قول حق تشكر عليه، على أن حقيقة "الخلق" هو بما ذكره الله عز وجل في كتابه أو ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وليس ما جاء من نظريات غير يقينية مبنية على تصور مادي.
أما التوصل إلى العلاقة بين مادة "خلق" و"الانفجار" بتفكيك لفظة "خلق" إلى "خل، لق، خق" فهذا منهج لا أدري أين هو عند السلف كما أشرت إليه؟
المشكلة أحيانًا أن نبالغ في إثبات النظريات العلمية الحادثة من خلال القرآن الكريم! ثم نجعلها معيارًا في تفسير الآيات!
وحينما تثبت نظرية ما وتكون حقيقة لا إشكال عليها فلا حرج في ذلك ونسلم بها، ولا حرج أن يسبقنا الغرب أو الشرق في ذلك، لكن لا يلزم من ذلك إقحامها في القرآن والبحث عن أي تخريج تتفق معها، مما يخالف تفسير السلف، ولا تسعفه اللغة، ثم نرجع على تفسير السلف بالبطلان!

ثم قلتَ بارك الله فيك: (قضية "الخلق" قضية مستقلة عن قضية "فتق الرتق" الذي كان بين السماء والأرض).
إن كان المقصود أن الفتق جاء بعد بدء الخلق فنعم، وإن كان المقصود أن الخلق مستقل تمامًا عن الفتق فلا، فإن الفتق من أطوار خلق السماوات والأرض، سواء كان الفتق بما ذكرته أو بغيره مما ذكره السلف وأثبته في المقالة السابقة. والله أعلم.
أكرر شكري لك..
وأسأل الله أن يريني وإياكم الحق حقًا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل.
 
أسعد الله مساك يادكتور يوسف
نعم أقصد أن الفتق جاء بعد بدء الخلق فالخلق أولا ثم مرحلة تتلو مرحلة
وأنا بارك الله فيك لم ابالغ في اثبات هذه النظرية التي طرحتموها للمناقشة ولكن وددت إبداء جهة نظر كما طلبتم ومشاركة فقط
وقضية تفكيك المفردة الى مصادر فقد دار في ذلك نقاشات بين البصريين والكوفيين حول كلمة ( هلم ) وغيرها كما هو مبين في الرابط المرفق
http://dorar.net/article/221
واللغة العربية كغيرها من اللغات تتركب من حروف ومصادر والغرض الاختصار
وجاء في القرآن قضية خلق الانسان من نطفة وخلقه من علق وخلق عيسى للطير من الطين كهئية الطير فيكون طيرا بإذن الله
وهذه الأشياء التي كان منها بدء خلق الانسان والطير وهي (نطفة وعلقة وهيئة الطير)
هي أشياء ضغيرة فأتيان واقتران كلمة (خلق) معها يؤيد أن كلمة خلق مرتبطه بتوسيع الشيء الصغير الملتصق بعضه ببعض وانفصاله ليتطور لمرحلة اخرى

هذا ولكم تحياتي
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأقول إني أتفق مع الأخ الفاضل صاحب الموضوع فيما قرره – وفقه الله – من فساد مساعي بعض المفتونين بنظريات الطبيعيين في تلبيس القرءان لبوس تلك النظريات بتأويلات متنطعة ما أنزل الله بها من سلطان! وأنا في الحقيقة كنت وما زلت في عجب من الأصل الكلي الذي يستند إليه الإعجازيون في تناول نصوص القرءان عندما يرجح الواحد منهم قولا من أقوال المفسرين لا على مستند إلا ما يظهر له من موافقة أو مقاربة المعنى المختار لهذه النظرية أو تلك! حتى لو سلمنا بأن الانفجار هذا قد ثبت ثبوتا قطعيا لا مطعن عليه ولا تردد فيه، فكيف يكون ذلك الثبوت في مجرده مستندا في ترجيح أحد أقوال المفسرين المتقدمين في آية الفتق أو آية الأيد أو غيرهما؟ المفسر ليس همه وغايته أن يتحرى أقرب الاحتمالات اللغوية موافقة لحقيقة علمية تجريبية معينة! وإنما مهمته أن يتحرى أقرب الاحتمالات اللغوية لأن يكون هو مراد رب العاليمن من كلامه، بصرف النظر عما ثبت أو لم يثبت عند التجريبيين! نعم قد يتصور – من جهة العقل المجرد – أن يثبت العلم التجريبي أن قولا من الأقوال الخلافية في تاويل آية من الآيات لا يمكن أن يصح، لأنه قد ثبت بالمشاهدة القطعية المباشرة خلافه، فيضطر من كان يرجح ذلك القول المصادم للواقع إلى الزوال عنه وإعادة النظر فيما سواه من أقوال المفسرين في التأويل. أقول قد يتصور (نظريا) لأني لم أقف على حالة كهذه قطّ في الحقيقة، ولكن المقام مقام تأصيل. أما أن يقف المفسر على قولين أو ثلاثة أو أكثر للمفسرين في تأويل النص القرءاني، فيترك سائر المرجحات التي استعملها المفسرون من قبل، ويضع لنفسه قاعدة مفادها صحة القول الأوفق لهذه النظرية الطبيعية أو تلك، أو لهذه المشاهدة التجريبية أو تلك، فهذا ما لا أرى له مخرجا في العقل السوي على الإطلاق! والمشكلة أن أكثر الإعجازيين يعتمدون تلك الطريقة الملتوية في التعامل مع تلك النصوص التي يسمونها بالآيات "الكونية"! يأتي الواحد منهم على أقوال المفسرين فينتخب منها ما يراه أقرب للدعوى التجريبية التي جاء بها يريد أن يجعلها دليلا على الإعجاز أو على صدق النبوة! ثم لا يدري صاحب تلك الطريقة هل ما جاء به يعد "تفسيرا علميا" (ولست أرى أساسا معقولا للتفسير العلمي من الناحية المنهجية كما تقدم، وبسطت القول في بيانه في كتابي "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين") أم يعد "دليلا على صدق النبوة"! الآية اختلف المفسرون في تأويلها، وهذا يأتي لينتخب من أقوالهم قولا يراه هو الأوفق، ثم يقول هذا دليل على أن القرءان نزل من عند الله لأن النبي ما كان له أن يعرف تلك "الحقيقة" منفردا! كيف صار دليلا وأنت اتخذت مطلق الموافقة المزعومة طريقا لمعرفة المراد من الآية، فلا تقف على أي مرجح في التأويل سوى تلك الموافقة نفسها؟ هذا دور منطقي واضح! إلا إن قيل إن ثمة احتمالا لأن يكون هذا القول الموافق (أو الذي يزعم الإعجازي موافقته) هو مراد الله تعالى من الآية، ومن ثمّ فهي دلالة احتمالية أو ظنية على صدق النبوة، تتفاوت قوة الظن فيها بقدر قوة هذا الاحتمال (أي احتمال صحة القول الموافق) عند من ينظر في أقوال المفسرين. هذا إن سلمنا بأن الحقيقة العلمية التي قيل بموافقتها = حقيقة علمية بالفعل (والنظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا، كما بينت وجهه فلسفيا في الكتاب المذكور آنفا)، وإن سلمنا بأن القول الذي تظهر موافقته، يوافق تلك الحقيقة بالفعل لا بلي العنق والاعتساف في التأويل كما هي الحال هنا!
وأزيد من الشعر بيتا، فأقول إن خلق السماوات والأرض من القضايا المغيبة تغييبا مطلقا، بدلالة العقل والنقل جميعا. فأما العقل فلأن أحداث خلق السماوات والأرض لا يمكن أن تكون من جنس ما نراه ونشهده في عالمنا هذا من أحداث، فلا يصح أن تستعمل الطريقة الطبيعية Scientific Method للوصول إلى معرفة شيء من تلك الأحداث التي جعلها الله سببا في خلق الكون نفسه بما فيه من قوانين وسنن سببية وما فيه من جسيمات وتراكيب وعلاقات! والمسألة في الحقيقة لها أصول تحتاج إلى نظر في فلسفة العلم الطبيعي وفي بعض المقدمات الميتافزيقية الكلية التي يتبناها الطبيعيون والدهريون القدماء والمعاصرون وعلى أساسها جاز لديهم استعمال طرائق العلم الطبيعي في طلب المعرفة بأحداث نشأة السماوات والأرض! فلا نظرية الانفجار ولا غيرها من نماذج طبيعية في تصور أصل الكون يصح أن تقبل عندنا، أيا ما كان مضمونها ومهما ظهر فيها من موافقة لما جاء في نصوصنا، بالنظر إلى ذلك الخلل المنهجي الفلسفي الذي بينته بتفصيل في الكتاب المشار إليه آنفا، وأوجزته في هذا المقال لمن أراد الزيادة:
فتح القدير في التحذير من قبول نموذج الانفجار الكبير
وأما من جهة النقل فالله تعالى يقول: ((مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف : 51]، فلو كان من الجائز عقلا أن يوصل إلى معرفة شيء من أحداث خلق السماوات والأرض من طريق المشاهدة المباشرة أو غير المباشرة، لما صح هذا النص على ما فيه من عموم المعنى! ولا شك أننا نجد إجماعا عمليا معقودا عبر قرون الأمة على أن أحداث خلق السماوات والأرض غيب مطلق لا يعرف إلا من طريق الكتاب والسنة وحسب، إذ لم يظهر بين المسلمين من يروم تحصيل المعرفة بشيء من أحداث خلق السماوات والأرض من أي طريق أخرى بخلاف الوحي إلا في زماننا هذا، على أثر تلك النظريات الدهرية المادية المعاصرة، والله المستعان لا رب سواه.
 
الأخ العزيز / أبو الفداء
الأخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله


أختلف مع ما قرأته أعلى في مداخلة # 9، وأضع لذلك تمهيد وتأصيل:
التمهيد:
إذا كان المقصود من (نظريات الطبيعيين) : [الفيزياء المعاصرة، وما يلحق بها، ونظرتها إلى الكون]،
فأرى أن تسفيه هذه العلوم هكذا على الإجمال، .. يطيح بالحق مع الباطل ... جملة واحدة.
وهذا يخالف المنطق الإسلامي من وجوب التفريق بين الحق والباطل، ومن ثم إثبات الحق خالصاً، ونبذ الباطل مدحوضاَ.
وفي كل (نظرية طبيعية)، نرى تداخلاً بين الحق والباطل. فيزيد الحق في بعضها، حتى أن الناظر لا يجد فيها باطلا، وقد يزيد الباطل في غيرها حتى لا يُرى معه حقاً، وبين هذين القُطبين تتوزع أغلب النظريات في تداخل الحق والباطل.

ومن أمثلة النظريات التي أصبحت حقاً خالصاً:
1- أن الأرض تدور حول محورٍ لها: ودليل ذلك القطعي تصويرها من الفضاء البعيد (بين الكواكب)..
أنظر شكل (1) في مقال: "الفصل (ب4) – محمد بن صالح العثيمين - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه"

2- أن الكواكب لا يمكن أن تتناثر وتقع على الأرض: (وهو قولٌ جاء في "مفاتح الغيب" للفخر الرازي، كالآتي: "وإذا الكواكب انتثرت فالمعنى ظاهر لأن عند انتقاض تركيب السماء لا بد من انتثار الكواكب على الأرض." ) - (علماً بأن الكواكب معناها عند العرب أوسع من معناها الاصطلاحي)
ودليل ذلك: (جملة من المعلومات الفيزيائية والكونية عن النجوم والكواكب والأرض)

ومن أمثلة النظريات التي ما زالت باطلاً خالصا:
- نظرية الأوتار الفائقة، حيث لا يوجد دليلاً تجريبيا واحداً يؤيدها، ومقامها مقام النظريات الفلسفية القديمة التي لا ضرر من إهمالها.

ومن أمثلة النظريات التي يتداخل فيها الحق والباطل: (نظريات: النسبية الخاصة والعامة، النظرية الكمومية، ...)

التأصيل:
لا ينبغي الطعن في كل النظريات، لأن ذلك معناه احتمال نبذ حق. وإنما تُنظر مسألة مسألة:
فإن وقف الناظر عند الباطل بعينه، يخلصه من أي حق، ويقول: هذا باطل لعلة كذا وكذا، ومن ثمَّ: لا يُستشهد به لفهم كلام الله.
وإن كان من عدم خلوص الباطل، فيُشار إلى أنه مُحتمل البطلان، ومن ثم لا يجوز استثماره في الإعجاز العلمي للقرآن.
وإن كان من عدم خلوص الحق، فيُشار إلى أنه محتمل الصدق، ويقيد استثماره في التفسير – دون الإعجاز- العلمي لآيات القرآن بقيد الصدق،

وبناءا على ما سبق من تمهيد وتأصيل، فالعبارات المُقتبسة الآتية فيها نظر:
1- فساد مساعي بعض المفتونين بنظريات الطبيعيين في تلبيس القرءان لبوس تلك النظريات (نظريات الطبيعيين) بتأويلات متنطعة ما أنزل الله بها من سلطان!
والرد على ذلك: أن التنطع يقال فقط إذا لم يصاحب العمل تحقيق علمي رصين، يتميز به قوة النظرية من ضعفها، وحقها من باطلها.

2- أن يقف المفسر على قولين أو ثلاثة أو أكثر للمفسرين في تأويل النص القرءاني، فيترك سائر المرجحات التي استعملها المفسرون من قبل، ويضع لنفسه قاعدة مفادها صحة القول الأوفق .. لهذه المشاهدة التجريبية أو تلك، فهذا ما لا أرى له مخرجا في العقل السوي على الإطلاق!
والرد على ذلك: أن المشاهدة التجريبية الخالصة المحققة، تنطق بالحق، ومن ثم يجب اعتمادها (مصدر علم) معتبر في الإسلام. وقد استشهد القرآن بالسموات والأرض، وما فيهما من آيات، وما يُستشهد به لا بد حتماً وأن يكون صادق فيما يُخبر به، شريطة تمييز قوله الخالص عن فاسد التأويلات البشرية.

3- لست أرى أساسا معقولا للتفسير العلمي من الناحية المنهجية.
والرد على ذلك: التمهيد والتأصيل الواردين أعلى.

4- النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا.
والرد على ذلك: يصح إطلاق "الحقيقة العلمية" على ما تنطق به التجريبيات الخالصة، وما يتبعها من استدلالات صادقة بالتحقيق العلمي.

5- إن خلق السماوات والأرض من القضايا المغيبة تغييبا مطلقا، بدلالة العقل والنقل جميعا.
6- أما العقل فلأن أحداث خلق السماوات والأرض لا يمكن أن تكون من جنس ما نراه ونشهده في عالمنا هذا من أحداث، فلا يصح أن تستعمل الطريقة الطبيعية Scientific Method للوصول إلى معرفة شيء من تلك الأحداث التي جعلها الله سببا في خلق الكون نفسه بما فيه من قوانين وسنن سببية وما فيه من جسيمات وتراكيب وعلاقات!
والرد على ذلك: أن أحداث خلق السماوات والأرض لها سنن يمكن العلم بها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال تعالى " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ "

7- أما من جهة النقل فالله تعالى يقول: ((مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف : 51]، فلو كان من الجائز عقلا أن يوصل إلى معرفة شيء من أحداث خلق السماوات والأرض من طريق المشاهدة المباشرة أو غير المباشرة، لما صح هذا النص على ما فيه من عموم المعنى!
والرد على ذلك: أن الشهادة غير الاستدلال. وما نفته الآية كان الشهادة، ونفي الشهادة نفي قيمة رأي المُستشْهَد وإقراره من عدم إقراره، وذلك لا يشمل بالضرورة نفي قدرته على الاستدلال، ولو كان النفي في آية (الكهف:51) للاستدلال، لسقط معنى " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ " الذي يؤيد قيمة الاستدلال الإنساني على معرفة كيف بدأ الخلق.

8- ولا شك أننا نجد إجماعا عمليا معقودا عبر قرون الأمة على أن أحداث خلق السماوات والأرض غيب مطلق لا يعرف إلا من
طريق الكتاب والسنة وحسب، إذ لم يظهر بين المسلمين من يروم تحصيل المعرفة بشيء من أحداث خلق السماوات والأرض من أي طريق أخرى بخلاف الوحي إلا في زماننا هذا، على أثر تلك النظريات الدهرية المادية المعاصرة.
والرد على ذلك: أنه إجماع سكوتي مجمل، فيه حق، وفيه (غير ذلك). ومن أمثلة (غير ذلك): القول بأن هناك إجماع على المستحيلات في نظر السابقين، مثل: انتقال الناس بين بلد وأخرى بركوب الهواء، ومحادثة ورؤية بعضهم بعضا في نفس الوقت أينما كانوا على الأرض أو في أجوائها، وأمثال ذلك مما كان موهوما أنه مستحيلات. ومن أمثلة ما كان مستحيلاً ولم يعد كذلك أيضا، التركيب الكيميائي للنجوم المرصودة من الأرض، ومنها نجم الشمس، وعمره، واحتمالات مآله، ونسبة عمره إلى عمر غيره من النجوم .. والمسافات السماوية بين الأجرام، والسنن التي تتحكم في حركتها ... وكيف كانت الأرض والكون قبل كذا من السنين ...إلخ ... ولا يمتنع أن تطّرد المعلومات التي تدلل على بعضها بعضاً في الماضي، ما دام أن العامل الفاعل هو السنن المصدقة بتصديق القرآن لها.

المنهج:
أما عن المنهج الذي أقتفي أثره، في إبطال الباطل وإحقاق الحق في التفسير العلمي والإعجازي، فقد وضعت بعض أمثلته على مدونة – القرآن والعلم. وميزت فيه بين ثلاثة فئات:
1 - ما يُستشهد به على أنه حق وهو باطل، .... تحت عنوان: " أطروحات متهافتة في التفسير العلمي ".
2- ما يستشهد به على أنه باطل، رغم أن فيه حق كثيرـ .... تحت عنوان "براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه"، وتنتمي إلى هذا النوع المداخلة التي ننتقد محتواها أعلى.
3- تفسيرات علمية نفترضها، لم نعلم لها ما يبطلها حتى الآن - ... تحت عنوان "أطروحات جديدة في التفسير العلمي".
وهذا المنهج الذي أتَّبعُه هو أحسن ما استطعت الاستدلال عليه، ويمكنني أن أتراجع عنه إذا وجدت ما هو أفضل منه.

هذا والله تعالى أعلم، ... ولا علم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ربنا افتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين.
أولا، جزاك الله خيرا أخي الكريم على ما تفضلت به. ولكن يبدو لي أنك لم تقرأ المقال الذي أحلت إليه في معرض كلامي عن حدود العلم الطبيعي وعن اعتراضي الفلسفي على إدخال العلم الطبيعي وطرائقه في دراسة الكيفية التي خلقت بها السماوات والأرض، فأرجو أن تتكرم بمطالعته بارك الله فيك.
إذا كان المقصود من (نظريات الطبيعيين) : [الفيزياء المعاصرة، وما يلحق بها، ونظرتها إلى الكون]،
فأرى أن تسفيه هذه العلوم هكذا على الإجمال، .. يطيح بالحق مع الباطل ... جملة واحدة.
وهذا يخالف المنطق الإسلامي من وجوب التفريق بين الحق والباطل، ومن ثم إثبات الحق خالصاً، ونبذ الباطل مدحوضاَ.
وفي كل (نظرية طبيعية)، نرى تداخلاً بين الحق والباطل. فيزيد الحق في بعضها، حتى أن الناظر لا يجد فيها باطلا، وقد يزيد الباطل في غيرها حتى لا يُرى معه حقاً، وبين هذين القُطبين تتوزع أغلب النظريات في تداخل الحق والباطل
قطعا ليس هذا ما قصدته بكلامي، عفا الله عنك! أنت ترد على من يسفه "العلوم الطبيعية" هكذا بإجمال، وليس هذا ما قررته أنا ولله الحمد، ولو أنك أطلت التأمل في البحث الفلسفي الذي تقدم ذكره، لأدركت أن القضية تدخل في إطار ما يسميه فلاسفة العلوم الطبيعية بالتحديد Demarcation وليس "التسفيه".
والإجمال في الحقيقة أنت من وقع فيه إذ تقول "في كل نظرية طبيعية حق وباطل"! فلو قلت "في كل صناعة من صناعات العلم الطبيعي" Discipline مثلا، لقارب قولك أن يكون صوابا، وإن كنت لا أسلم لك به، حتى نتفق على المقصود بالصناعة العلمية الطبيعية أو المجال الأكاديمي الطبيعي أولا، وإلا فثمة فروع علمية كاملة تنبثق عن نظرية داروين مثلا، أظن أنك لو أدركت الرابط الفلسفي بينها وبين النظرية، لشهدت بأنه يجب عليك أنت كمسلم أن تسقطها جملة واحدة (كتخصصات علمية)، على اعتبار أن الأصل إذا سقط، سقطت معه جميع فروعه! فالروية الروية يا أخي الكريم!
سأتجاوز الأمثلة التي ضربتها عن "الحق الخالص" و"الباطل الخالص" على حد وصفك، لأن ما تراه أنت حقا خالصا لا يلزم أن يكون كذلك في نفس الأمر، والعكس صحيح. فمسألة دوران الأرض وثباتها (بالنسبة لحدود الكون) مسألة ترتبط بنسبية المرجع القياسي الجاسئ المختار لدراسة الحركة، والكلام فيها لا يتسع له هذا المقام، فدعنا نتجاوز الأمثلة مع الاتفاق على أن بعض الدعاوى التي كان يعتقدها بعض الناس قديما قد ثبت بطلانها اليوم بالقطع واليقين، كدعوى أن الأرض مسطحة غير كروية (مثلا). هذا هو القدر المتفق عليه بيننا (تأصيليا) لا غير. وأزيدك من التأصيل ما أرجو أن توافقني عليه: أن النظرية الطبيعية إن بطل الأصل الفلسفي الميتافزيقي الذي تقوم عليه (كمقدمة فلسفية مبطنة Implicit Premise) بطلت كلها مهما كثرت تأويلات المشاهدات المبذولة لدعمها إمبريقيا.
وعليه فأنت تعاني من إجمال قاتل في تأصيلك هذا:
لا ينبغي الطعن في كل النظريات، لأن ذلك معناه احتمال نبذ حق. وإنما تُنظر مسألة مسألة:
وذلك للتأصيل الذي أوردته عليك آنفا.
والرد على ذلك: أن التنطع يقال فقط إذا لم يصاحب العمل تحقيق علمي رصين، يتميز به قوة النظرية من ضعفها، وحقها من باطلها
والرد على ذلك: قد أحلت القارئ - ولله الحمد - على مقال، ومن قبله على كتاب كامل، قد فصلت فيه الأمر بما أرجو أن فيه الكفاية لمن طالعه.
والرد على ذلك: أن المشاهدة التجريبية الخالصة المحققة، تنطق بالحق، ومن ثم يجب اعتمادها (مصدر علم) معتبر في الإسلام. وقد استشهد القرآن بالسموات والأرض، وما فيهما من آيات، وما يُستشهد به لا بد حتماً وأن يكون صادق فيما يُخبر به، شريطة تمييز قوله الخالص عن فاسد التأويلات البشرية.
المشاهدة الصادقة تنطق بالحق نعم، ولكن ما الدليل على أن هذا الحق الذي نطقت به في وصف الواقع، هو مراد رب العالمين من كلامه في النص القرءاني؟ هذه حيدة عن محل النزاع في أصل ما يسمى بالتفسير العلمي! تأمل جيدا في الكلام بارك الله فيك، وأرجو أن نحصر فيه دائرة النقاش هنا بيني بينك، بالنظر إلى طبيعة تخصص المنتدى على الأقل، هذا إن أردنا الخروج من نقاشنا هذا بثمرة.
أنا أقول: عندك آية اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال (تبعا لدلائل اللغة والأثر وغير ذلك من مرجحات مجمع عليها منهجيا بين المفسرين): القول (أ) والقول (ب) والقول (ج). الآن عندما يأتي أحد الباحثين بمشاهدة طبيعية قطعية (إن سلمنا تنزلا بقطعيتها، وهذا لا يقع في النظريات الطبيعية المعاصرة أصلا لقيامها كلها على مناهج تأويلية في الاستعانة بالمدخلات الحسية والتجريب والمشاهدة بعموم)، ثم يجعل قاعدته في الترجيح بين تلك الأقوال الثلاثة أن يختار أكثرها موافقة لتلك المشاهدة، كيف يكون هذا منهجا صحيحا في ترجيح مراد رب العالمين بكلامه، وعلى أي أصل كلي يمكن أن نؤسسه؟ سلمنا بأن المشاهدة حق، وسلمنا بأن أحد الأقول المختلف عليها بين المفسرين يوافقها دون تنطع ولا تعسف في التأويل، فكيف تكون تلك الموافقة في مجردها دليلا على أن القول (أ) بالتحديد هو المقصود من كلام الله المراد تفسيره، وليس (ب) أو (ج)؟ المشكلة الأكبر من هذا، أن القوم يتجاوزون حد الترجيح إلى ادعاء أن الخلاف في التأويل قد انحسم وأن اليقين قد تحقق بأن هذا هو مراد الله تعالى، وهو مقتضى زعمهم أن في المسألة إعجازا، وسعيهم - من ثم - في استعمالها دعويا واتخاذها طريقا مضمونا لإقناع المشركين بصحة الإسلام، مع ما في ذلك من تدليس لا يخفى!
فالحاصل أني أقول: نعم المشاهدة المحققة (بل والتأويل المستساغ للمشاهدة أو للمعادلة الرياضية، كما في عامة نظريات الطبيعيات) مصدر علم ولا شك، ولكنها ليست مستندا للترجيح عند اختلاف المفسرين، وما زلت أطالبك بالدليل الكلي على صحة اتخاذها مستندا!
والرد على ذلك: يصح إطلاق "الحقيقة العلمية" على ما تنطق به التجريبيات الخالصة، وما يتبعها من استدلالات صادقة بالتحقيق العلمي
مقصودي بإطلاق عبارة "الحقيقة العلمية" = اعتقاد أنها قضية قطعية محسومة كالمشاهدة المباشرة مثلا، وهذا ما لا أجد متسعا في هذا المقام لشرح ما يتعلق به من إشكالات فلسفية كلية، فأحيلك - من جديد - للنظر في الكتاب المذكور في مشاركتي المتقدمة.
والرد على ذلك: أن أحداث خلق السماوات والأرض لها سنن يمكن العلم بها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال تعالى " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ "
هذا إجمال لا أسلم لك به! فقوله تعالى "كيف بدأ الخلق" قد يطلق ويراد به كيف خلق الله السماوات والأرض في الأيام الستة، وقد يطلق ويراد به ما هو مشاهد كل يوم من خلق جديد يخرج من بطون الأمهات ومن بطن الأرض في الثمر والنبات ونحو ذلك. وهذا الأخير هو الأقرب إلى الذهن، والأنسب لأن يكون مخاطبا به جميع البشر عربهم وعجمهم، بصرف النظر عن مقدار علمهم الطبيعي والتجريبي، كما هي عادة القرءان! أما أن يقال إن المقصود هنا أن نمشي في الأرض لننظر (وتأمل: في الأرض) كيف جرت أحداث خلق السماوات والأرض وما فيهما في أيام الخلق الستة، فهذا تأويل شديد التكلف، ولو سلمنا لك بفهمك إياه لأسقطنا حجيته على الصحابة أنفسهم لأنهم لم يسمعوا بنظرية الانفجار الكبير!! لو أكملت قراءة الآية بتمامها لتبين لك أن مقصودها محاججة من يزعمون أن الله لا ينشئ النشأة الآخرة، ولا يبعث من يموت، بدعوتهم للنظر في النشأة الأولى، أنه إذا كان الله تعالى يخرج الحي من بطن أمه، فهو كذلك قادر على أن يخرج الميت من بطن الأرض! هكذا تقوم الحجة على من يسمع ويعقل أيا ما كان مقدار علمه وعقله! فأي شيء أبعد عن طريقة السلف وفقههم مما سلكه بعض إخواننا من تحويل الآية إلى تكليف شرعي بالبحث في علم الكوزمولوجيا ودراسة نظرية الانفجار الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
والرد على ذلك: أن الشهادة غير الاستدلال. وما نفته الآية كان الشهادة، ونفي الشهادة نفي قيمة رأي المُستشْهَد وإقراره من عدم إقراره، وذلك لا يشمل بالضرورة نفي قدرته على الاستدلال، ولو كان النفي في آية (الكهف:51) للاستدلال، لسقط معنى " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ " الذي يؤيد قيمة الاستدلال الإنساني على معرفة كيف بدأ الخلق.
يا أخي الفاضل من سلفك من الأئمة في مشروعية الاستدلال بالحس والمشاهدة على أحداث خلق السماوات والأرض؟ لن تجد في قرون المسلمين من استعان بغير النص الثابت الصحيح في تحصيل المعرفة بتلك الأحداث!
والرد على ذلك: أنه إجماع سكوتي مجمل، فيه حق، وفيه (غير ذلك). ومن أمثلة (غير ذلك): القول بأن هناك إجماع على المستحيلات في نظر السابقين، مثل: انتقال الناس بين بلد وأخرى بركوب الهواء، ومحادثة ورؤية بعضهم بعضا في نفس الوقت أينما كانوا على الأرض أو في أجوائها، وأمثال ذلك مما كان موهوما أنه مستحيلات. ومن أمثلة ما كان مستحيلاً ولم يعد كذلك أيضا، التركيب الكيميائي للنجوم المرصودة من الأرض، ومنها نجم الشمس، وعمره، واحتمالات مآله، ونسبة عمره إلى عمر غيره من النجوم .. والمسافات السماوية بين الأجرام، والسنن التي تتحكم في حركتها ... وكيف كانت الأرض والكون قبل كذا من السنين ...إلخ ... ولا يمتنع أن تطّرد المعلومات التي تدلل على بعضها بعضاً في الماضي، ما دام أن العامل الفاعل هو السنن المصدقة بتصديق القرآن لها.
هنا عدة نقاط.
أولا: الإجماع السكوتي هو كل قول قديم لم يرد في مخالفته أي أثر، مع ظهور الداعي لنقله إن وجد، والصورة هنا ليست كذلك. ثم ما وجه الإجمال فيما أزعم أنا أنه إجماع منهجي واضح؟ إن أردت أن تبطل دعوى الإجماع فعليك الإتيان بأثر عن واحد من الصحابة أو السلف، تكلم عن شيء من أحداث خلق السماوات والأرض تأسيسا على مصدر آخر بخلاف النص، فضلا عن أن يكون أحدهم قد فهم آية "فانظروا كيف بدأ الخلق" على أن المقصود بها الحث على استعمال المشاهدات في تحصيل المعرفة التجريبية بتلك الأحداث! هذه المسألة كانت ولم تزل قضية غيب مطلق لا يوصل إلى معرفته إلا بخبر الوحي.
ثانيا: ما ذكرته من "مستحيلات" لا علاقة له بما نحن فيه، والإجماع المزعوم فيها إنما هو ظن فردي في مسائل كانت ممتنعة بحكم العادة لا بحكم العقل أو النقل (وهو نفس الخلل الذي من أجله أقول إن المعاصرين من الطبيعيين مهما أجمعوا اليوم على شيء يتعلق بالعادة وما في حكمها، فلا عبرة بإجماعهم، فتأمل)!
ثالثا: قولك "ولا يمتنع أن تطّرد المعلومات التي تدلل على بعضها بعضاً في الماضي، ما دام أن العامل الفاعل هو السنن المصدقة بتصديق القرآن" قلت: بل يمتنع الاطراد إلى ما وراء نقطة بداية عمل تلك السنن نفسها، لأن دلالتها محصورة فيما يدخل تحتها من أحداث! والمنطق المجرد يقضي بأن السنن الكونية الجارية التي كان خلقها وابتداؤها تبعا للحدث (أ)، لا يجوز أن تطرد في جهة الماضي حتى تكون طريقا للمعرفة بتفاصيل هذا الحدث (أ) نفسه! نعم يجوز طردها في الماضي والمستقبل ولا شك، ولكن يجب أن نقف بها عند ما بعد أحداث خلق السماوات والأرض، لا قبل ذلك كما هي نحلة الدهرية المعاصرين! وأكرر الرجاء بأن تقرأ البحث الفلسفي المحال إليه في هذه القضية وأن تتأمل فيه مليا قبل أن ترد على هذه الجزئية، عفا الله عنك.
رابعا: قولك "المصدقة بتصديق القرءان" لا يلزمني، لأني لا أرى وجها لتلك التأويلات كما تقدم.
ويمكنني أن أتراجع عنه إذا وجدت ما هو أفضل منه.
هذا مما يشكر لك، وفقني الله وإياك لحسن النظر والفهم، وألهمني وإياك سبيل الرشاد.
 
حول مقالة: [فتح القدير في التحذير من قبول نموذج الانفجار الكبير]

حول مقالة: [فتح القدير في التحذير من قبول نموذج الانفجار الكبير]

بسم الله الرحمن الرحيم
حول مقالة: [فتح القدير في التحذير من قبول نموذج الانفجار الكبير]

أخي العزيز:
لا أختلف مع مقالك هذا في جملته، لأني لا أتبنى مفردة singularity ما يُسمّى بالانفجار العظيم Big Bang، بل أراها لغواً لا دليل عليه، وقد أكدت ذلك للدكتور زغلول النجار قبل حوالي 20 عام في جلسة بمنزله بمدينة الظهران، وقت أن كان يعمل بجامعة الملك فهد. وحاججته بأن هذا المُسمَّى بالإنفجار العظيم ليس إلا استطرادا بعيدا Far Extrapolation لا دليل عليه كي يحظى بأي قدر من الثقة العلمية، بمعنى أنه ليس ضرورياً بأدلة الفيزياء وآلياتها، وقد أقر معي بذلك وقتها، ولا أدري لِمَاذا سعى بعد ذلك إلى تبنيه؟! .. فالأصل أن السببية المادية مُعتمدة في إطار الاطراد البيني Interpolation، والاطراد الخارجي القريب Near Extrapolation. أما البعيد، ناهيك عن السحيق، فجهلنا بجملة الأسباب، وتمام الاستقراء، يمنعنا من الاستطراد فيه، والذي يصبح احتمال الوهم فيه عندئذ أضعاف احتمال الصدق. ثم أنه ليس بصادق في حال المفردة الكونية المزعومة، لانتفاء التوافق في شأنها مع معطيات نصوص الوحي، عندنا نحن المسلمين.

أما اتساع المسافات بين النجوم، على ما يُستدل به عليه، فلا أرى أن به بأساً للدلالة السببية الواضحة، ما لم تنخدش، وأعتبرها نتيجة راجحة للمشاهدات التجريبية حتى الآن. وأُنكر بشدة على من ينكر الأسباب المادية في ذلك، وبقدرها.

وبصفتي فيزيائي مسلم يتداول التفسير العلمي المنضبط، فأؤمن بالخلق الإرادي والفعلي من الله تعالى جل شأنه. وأؤمن أيضاً بالأسباب التي سنها الله في عموم الخلق وبثها في ثناياه. أما منطقة التماس التي يمكن تعقُّب الأسباب المادية إليها إلى الماضي، فهي غير معلومة الموضع، ومن ثم فللإنسان أن يتعقب الأسباب في كلا اتجاهي الزمن ماضياً ومستقبلاً بما تُرجحه الأسباب المادية واطرادها القريب، لا البعيد. وبافتراض عدم التدخل الإرادي الذي يكسر تلك السنن في أي لحظة من لحظات الزمن (مثل معجزات الأنبياء). وهي قيود صريحة بين الفيزيقا، والميتافيزيقا. بمعنى أن نطاق عمل الفيزيقي هو ما تُصرّح به الأسباب نفسها، ما لم تنكسر، وفي نطاق محدود في الزمان له بداية وله نهاية فيما نعلمه، ولنا فيه سلطان من الله تعالى على تسخير تلك الأسباب، فإن انكسرت لإرادة إلهيةٍ ما، بخبر من الوحي، وجب تنحي أصحاب الأسباب عن الفتوى، مثلما أن البرنامج الحاسوبي إذا لم يستجب كالعادة، تنحّى مُستخدموه، وعُلم أن أسبابه تقع فقط في يد مَنْ بَرمجه وهيَّأه، ولا غرابة، يُعطله متى شاء، ويُجريه متى شاء. وفي إطار هذا القيد يمكن أن يعمل الفيزيائي المسلم في نطاق الأسباب الكونية دون ما وراءها، ولا أرى أن عليه في ذلك حرج. بل عليه أن يُصدق بالأسباب في إطارها المادي، ويعمل بها ويوظفها، وإن لم يفعل! أو لم يصدق بها، يكون قد نفى حقاً من الله، خلقه لحكمة، ويجب أن يؤدي دوره، ومن هذا الدور أن الأسباب مسخرة للإنسان نفسه، ليقوم بأمر الله بتوظيفها، ويفهم بها كل شيء تطاله التسمية كما قال سبحانه "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"(البقرة:31)

والخلاصة:
آمل ألا يكون النفور من فلسفات الغربيين مانعاً من اعتماد الأسباب المادية التي وظفوها لخدمة إلحادهم، في توظيفها لخدمة ما جاء به الوحي الأخير والباقي. وإذا كانت الأسباب الموضوعية من الله سبحانه، والوحي منه تعالى وجل شأنه، فائتلافهما لا شك فيه، كما أن تنافر هذه الأسباب عينها مع الإلحاد أيضاً لا شك فيه. لذلك، فنحن أولى بها إن صدقت.

ومن أمثلة هذا الإتلاف بين الأسباب المادية والوحي، ما أراه أرجح التصورات في إعادة ترتيب آيام خلق السموات والأرض الستة، ومزيد من البيان في تكشُّف هذه الأحداث الكونية، ويمكن تتبع ذلك على هذا الرابط:
خلق السماوات والأرض في ستة أيام - تأويل جديد

يتابع ... (بتعليقات على مداخلة # 11)
 
آمل ألا يكون النفور من فلسفات الغربيين مانعاً من اعتماد الأسباب المادية التي وظفوها لخدمة إلحادهم، في توظيفها لخدمة ما جاء به الوحي الأخير والباقي
لفظة "الأسباب المادية" لفظة مجملة، وكذلك قولك "خدمة ما جاء به الوحي"، وأمثال هذه الإجمالات يا أخي الكريم هي مورد كثير من الغلط عند أصحاب أبحاث الإعجاز العلمي، والله المستعان. القضية ليست قضية "أسباب مادية" وإنما قضية تأويلات نظرية للمشاهدات الحسية والمعادلات الرياضية، يجب أن يكون الفيزيائي المسلم على دراية وافية بأصولها الفلسفية، وبحدودها المعرفية كذلك، حتى يضع التنظير الطبيعي في موضعه الصحيح. يعني كلامك الآنف حول الاطراد القريب والبعيد كلام مجمل لا يبدو لي أنك تضبطه بضابط محكم، فمما يسعدني حقا أن يكون سبب رفضك نموذج الانفجار الكبير أنك تراه من الاطراد البعيد للغاية الذي لا تجيزه المشاهدة بمجردها. صحيح ولا شك. ولكن ما الذي أجازه عند الطبيعيين، بارك الله فيك؟ إنها فلسفتهم الدهرية التي لا تعرف للسببية المادية حدا في الزمان ولا في المكان.
ولهذا فمع كوني أوافقك إجمالا في أن الاطراد كلما بعُد في جهة الماضي ضعفت احتمالية صحته، إلا أني أرسم حدا ميتافزيقيا صارما لذلك الاطراد، لا ينغي أن يجاوزه عندي بحال من الأحوال، ولا يبدو لي أنك تقول به، ألا وهو نقطة ما بعد أيام الخلق الستة مباشرة في تاريخ الكون، بعد الاستواء على العرش، الذي كان إيذانا بتمام الخلق والتقدير وإعمال نواميس الكون كلها على صورة لا نملك مانعا معرفيا من التوصل إلى معرفتها (ظنيا) من طريق الحس والمشاهدة، لأن القياس إذن يكون مستساغا وإن كان التعويل عليه ضعيفا من جهة الاحتمال لبعد الاطراد كما قررت أنت. يعني أبعد نقطة يمكن أن يوصل إليها بالاطراد القياسي المادي في جهة الماضي (على ضعفه الشديد عندها)، هي آخر نقطة في أحداث خلق السماوات والأرض، قد ابتدأ من بعدها تشغيلهما بأمر الله تعالى على وجه التمام، كما في قوله تعالى: ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) [فصلت : 12]
وهو ما يعني - وتأمل رجاءً - امتناع النظر في ترتيب أيام الخلق التي جاء بها النص، أو تفصيل ما كان فيها من أحداث جاء النص بذكر بعضها، باستعمال الاطراد أو التنظير الفيزيائي أو أي طريقة من طرائق العلم الطبيعي، لأن القانون الطبيعي لم يكن له عمل ولا جريان قبل أن قضى الله في كل سماء أمرها، وهو ما لابد وأنه جاء بعد خلق الأجرام والمجرات وما فيها وما بينها على وجه التمام، والله أعلم. فلا يستساغ - بالعقل ولا بالنقل - أن ننظر في ترتيب أيام الخلق تبعا لمعطيات العلم التجريبي، لأنه لا ينبغي أن يكون له دخول في مجرياتها أصلا.
بل لو اكتفينا بما قررته أنت من سبب رفضك نموذج الانفجار الكبير، للزمك الامتناع عن هذا المسلك في تناول نصوص الوحي فيما يتعلق بأيام الخلق، لأنه إذن يكون اطرادا بعيدا للغاية! فكيف ترفض فردية الانفجار لقيامها على إجراء الأقيسة الطبيعية حيث لا ينبغي أن تجرى، ثم أنت تستعمل تلك الأقيسة (نوعا) في إعادة تأويل نصوص الخلق؟ أليس هذا من التناقض؟
وكيفما كان الحال، فالذي أرجوه ألا يكون "تأويلك الجديد" المذكور في عنوان المقال، لا أثر له عند الأولين، وإلا كان ذلك تجهيلا لقرون المسلمين بمراد ربهم من بعض النصوص، وهو ما يرجع على الوحي نفسه بالنقص عن تمام المطلوب من الهداية والإرشاد، فانتبه بارك الله فيك.
 
أخي العزيز

كنت آمل أن تمهلني لمتابعة التعليقات على مداخلة # 11
ومع ذلك سأرد سريعاً على مداخلة # 12

قولك:
لفظة "الأسباب المادية" لفظة مجملة
غير صحيح .. فالكتلة - مثلاً - سبب مادي للتجاذب المادي، وهذا يكفي لمرادي هنا.

قولك :
خدمة ما جاء به الوحي .. مجمل
غير صحيح، لأنها تكفي لبيان غرضي منها هنا من دعم لمصداقية الوحي .. حتى ولو لم يستسغ خصمي كلامي

قولك:
هي مورد كثير من الغلط عند أصحاب أبحاث الإعجاز العلمي
لا يعنيني، لأني أهاجم أخطاءهم، ولكني أقبل قليل صوابهم، وأرشدهم إلى منهج أصوب.

قولك:
يجب أن يكون الفيزيائي المسلم على دراية وافية بأصولها الفلسفية
ستجد ردي عليه في تعليقات مداخلة #11 ، وخلاصته أن خطأ الأصول الفلسفية لا يبرر رد المقبول من نتائج تجريبية، حتى ولو ربطوا بين هذا وذاك كذباً وتلفيقا.

قولك:
كلامك الآنف حول الاطراد القريب والبعيد كلام مجمل لا يبدو لي أنك تضبطه بضابط محكم
..
لا يمثل لي إلا تشويشاً لمرادي .. فإن ذهبت أنا أفصّل الغامض أو المجمل عليك سأكتب مئات الصفحات ... لذا آمل عدم تهوين كلامي بالانتقاص منه. وإن أردت توضيحاً سلني أجيبك.

حول قولك:
ما الذي أجازه عند الطبيعيين، بارك الله فيك؟ إنها فلسفتهم الدهرية التي لا تعرف للسببية المادية حدا في الزمان ولا في المكان.
،
أقول: ليقولوا ما شاءوا .. تفاهاتهم لا تعني لي شيئاً، ومن قلدهم من المسلمين في غير السببية الصريحة، فضحت تقليده الأعمى، ولا أتحرج.

قولك:
أرسم حدا ميتافزيقيا صارما لذلك الاطراد، لا ينبغي أن يجاوزه عندي بحال من الأحوال، ولا يبدو لي أنك تقول به، ألا وهو نقطة ما بعد أيام الخلق الستة مباشرة في تاريخ الكون، بعد الاستواء على العرش، الذي كان إيذانا بتمام الخلق والتقدير وإعمال نواميس الكون كلها على صورة لا نملك مانعا معرفيا من التوصل إلى معرفتها (ظنيا) من طريق الحس والمشاهدة، لأن القياس إذن يكون مستساغا وإن كان التعويل عليه ضعيفا من جهة الاحتمال لبعد الاطراد كما قررت أنت. يعني أبعد نقطة يمكن أن يوصل إليها بالاطراد القياسي المادي في جهة الماضي (على ضعفه الشديد عندها)، هي آخر نقطة في أحداث خلق السماوات والأرض، قد ابتدأ من بعدها تشغيلهما بأمر الله تعالى على وجه التمام.

أقول: ما وصلت إليه أنا بتحليلاتي التي أشرت إلى روابطها يذهب بما تقوله هنا أدراج الرياح
وخلاصته:
أننا في هذه الأثناء، ما زلنا في اللحظات الأخيرة من اليوم السادس!
نعم أخي العزيز .. الأيام الستة ما زالت تنصرم حتى اللحظة. ولهذا الأمر متابعة لو رغبت أنت. ويمكنك أن تجد تفصيل ذلك فيما وراء هذه الرابطة (خلق السماوات والأرض في ستة أيام - تأويل جديد)

وبافتراض صحة استدلالاتي أننا ما زلنا في اليوم السادس
يسقط استنتاجك الأتي بأني متناقض:
وهو ما يعني - وتأمل رجاءً - امتناع النظر في ترتيب أيام الخلق التي جاء بها النص، باستعمال الاطراد أو التنظير الفيزيائي أو أي طريقة من طرائق العلم الطبيعي. وعليه فلا يستساغ أن ننظر في ترتيب أيام الخلق تبعا لمعطيات العلم التجريبي، لأنه لا ينبغي أن يكون له دخول فيها أصلا! بل لو اكتفينا بما قررته أنت من سبب رفضك نموذج الانفجار الكبير، للزمك الامتناع عن هذا المسلك في تناول نصوص الوحي فيما يتعلق بأيام الخلق، لأنه إذن يكون اطرادا بعيدا للغاية! فكيف ترفض فردية الانفجار لقيامها عليه، ثم تستعمله هو نفسه في إعادة تأويل نصوص الخلق؟ أليس هذا من التناقض؟
ويصبح كلامي متسقا

أما عن كلامك الآتي:
وكيفما كان الحال، فالذي أرجوه ألا يكون "تأويلك الجديد" المذكور في عنوان المقال، لا أثر له عند الأولين، وإلا كان ذلك تجهيلا لقرون المسلمين بمراد ربهم من بعض النصوص، وهو ما يرجع على الوحي نفسه بالنقص عن تمام المطلوب من الهداية والإرشاد، فانتبه بارك الله فيك.
فأطمئنك أن تأويلي الجديد لا يؤثر إلا على ما كان مفهوماً خطأً عند من فهمه كذلك. أما من لم يفهمه خطأ فلن يؤثر عليه. ثم أنه لم يكن تجهيلاً للقرون، بل تبيينا لما كان مشتبها. وقد صرح القرآن بوجود المتشابه، والتشابه لا يعني التجهيل. كما أنه لا يعني نقص الوحي عن تمام المطلوب من الهداية والإرشاد .. لأن أمد البيان مازال منفتحاً .. والخطأ على من أغلقه .. وليس على غيره.

ومرة أخرى .. أمهلني حتى أتم باقي ردودي .. وأقول: قد فرغت
مع شكري وامتناني
 
غير صحيح .. فالكتلة - مثلاً - سبب مادي للتجاذب المادي، وهذا يكفي لمرادي هنا.
كلا لا يكفي، ولو كان يكفي ما وصفت كلامك بالإجمال. نحن جدالنا فلسفي وأصولي صرف كما ترى، وكلامنا في المجمل يدور حول مشاهدات تأولها أصحاب العلوم الكونية على نحو مرفوض منهجيا لتناوله أحداثا ماورائية محضة (فيما أراه أنا على الأقل)، وأنت ما زلت تتكلم عما تسميه "بالسببية الصريحة"، وتضرب مثالا كلاسيكيا أنت تعلم كما أعلم أن بين منطق الاستدلال فيه والاستدلال فيما نحن بصدده كما بين المشرق والمغرب، وهذا يعرفه من كانت له دراسة في فلسفة العلم الطبيعي!
فإن كنت تصبر على الجدال الفلسفي يا أخي الكريم، فلنحرص على اجتناب المجملات والمتشابهات ما أمكن، وإلا فلا أظنك تحب أن أضيع وقتك أو تضيع أنت وقتي، وفقك الله.
. فإن ذهبت أنا أفصّل الغامض أو المجمل عليك سأكتب مئات الصفحات ... لذا آمل عدم تهوين كلامي بالانتقاص منه. وإن أردت توضيحاً سلني أجيبك
وبوسعي أن أقابلك بالمثل، وأقول "لا تطالبني بتفصيل ما أجمل عليك، وإلا كتبت لك مئات الصفحات"، فهل تحسبني تلميذا من تلامذتك أكتفي منك بالمجملات والمختصرات ثم أذهب أنا لأذاكر في كتبك ومقالاتك لعلي أفهم؟ ما هكذا يكون تناظر الأقران يا أخي الفاضل! ثم متى كانت المطالبة بالتفصيل واجتناب الإجمال في تلك القضايا المنهجية الدقيقة تنقصا أو تهوينا، يرحمك الله؟
تقول:
ما وصلت إليه أنا بتحليلاتي التي أشرت إلى روابطها يذهب بما تقوله هنا أدراج الرياح
فما أسهل أن أقول: "وما وصلت إليه أنا في كتبي ومقالاتي التي ذكرتها في معرض كلامي وغيرها يذهب بما تقوله أنت في تحليلاتك أدراج الرياح"، فهل هذا مسلك من يرجو خيرا من مناظرة خصمه؟
أننا في هذه الأثناء، ما زلنا في اللحظات الأخيرة من اليوم السادس!
نعم أخي العزيز .. الأيام الستة ما زالت تنصرم حتى اللحظة. ولهذا الأمر متابعة لو رغبت أنت. ويمكنك أن تجد تفصيل ذلك فيما وراء هذه الرابطة
هذا الكلام مصادم للنص الصريح! والله تعالى يقول في محكم التنزيل: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الأعراف : 54] وقد رأيت لك تأويلا متعسفا لمدلول التعقيب "ثم" في نحو هذا السياق ترجو به دعم نظريتك المصادمة لما انعقد عليه إجماع المسلمين في فهم كلام ربهم في هذه المسألة! فكأنك حتى تقبل ما تريد قبوله من نظريات الكونيين والفيزيائيين، لم تجد لنفسك مخرجا إلا سلوك ما لم يسبقك إليه أحد من المسالك في تأويل محكمات النص المنزل، فإن سألوك قلت كما تقول الآن "قد صرح القرءان بوجود المتشابه، والتشابه لا يعني التجهيل"! فمن سلفك في اعتبار حقيقة تمام أيام الخلق الستة بالاستواء على العرش من مواضع الاشتباه في القرءان، إن كنت لا تجهِّل قرون الأئمة والعلماء من السابقين؟ بل نظريات الطبيعيين هي المتشابهة، والاشتباه فيها طبقات بعضها فوق بعض، ويرجع (كما حاولت أن أبين لك، فعارضتني بالعلاقة بين الكتلة والجاذبية!) إلى طبيعة المناهج والمسالك الفلسفية المستعملة في بناء الدلالة على المشاهدة والتجريب، في جملة النماذج النظرية السائدة حاليا في توصيف تاريخ الكون!
فقولك هذا:
أننا في هذه الأثناء، ما زلنا في اللحظات الأخيرة من اليوم السادس
الذي أطلقته حتى تفتح به بابا لمطلق الاستعانة بالتنظير الطبيعي في تتبع أصل الكون،
يلزم منه أن الله لم يستو على العرش إلى الآن لأن اليوم السادس لما ينصرم بعد، فتأمل يرحمك الله!
وحتى وإن لم يصح هذا الإلزام، فاسمح لي أن أقرر من البداية (وحتى لا يتشعب بنا الجدال بعيدا، وأجدني أكرر مناقشتك فيما جادلك فيه غيري من قبل بلا ثمرة) أن مسألة انتهاء أيام الخلق الستة وتمامها بالاستواء على العرش (قبل زمان سحيق) هي عندي محل إجماع وقطع لا أقبل فيه جدالا ولا مناظرة، مع احترامي لشخصك الكريم!
لأن أمد البيان مازال منفتحاً .. والخطأ على من أغلقه
يا أخي الفاضل عندما تنسحب دعوى التشابه على قضية لم يسبق أن عدها من المتشابهات أحد من الأولين قطّ، ثم يقال "أمد البيان ما زال مفتوحا"، فأي بيان وأي انفتاح هذا الذي ترجو من خصمك أن يوافقك على إجمال الكلام فيه؟

ومرة أخرى .. أمهلني حتى أتم باقي ردودي .. وأقول: قد فرغت
شرطك هذا لا يلزمني، بارك الله فيك.
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

السلام عليكم ورحمة الله
أخي العزيز

1- عندما تقول:
النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا

فهذا محو لأي قيمة علمية – أي مفيدة للعلم بالشيء على ما هو عليه - من كل النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية بلا استثناء. وحيث أن العلوم الطبيعية ليست إلا جملة من النظريات، منها الدامغ في صدق معانيه، ومنها الراجح، ومنها الشاطح، فلا أرى إلاّ أن تلك العبارة تسفيه للعلوم الطبيعية برمتها. سواء وافق أو لم يوافق كاتب هذه العبارة على هذا المعنى. إذ أن خروج العبارة منه جعلته في عهدة كلامه. .. وإن افترقت عبارته عن نيته، لم يعد بإمكانه إنكار معناها المقيد بنصها، فعندئذ لا يتبقى له إلا طلب محوها وكأنها لم تكن.

وهذا هو ما قصدته أنا عندما قلت:
أرى أن تسفيه هذه العلوم هكذا على الإجمال، .. يطيح بالحق مع الباطل ... جملة واحدة.
وأستغرب من ردك على ذلك بالقول:

قطعا ليس هذا ما قصدته بكلامي، عفا الله عنك! أنت ترد على من يسفه "العلوم الطبيعية" هكذا بإجمال، وليس هذا ما قررته أنا ولله الحمد

لأن ما يخلو من حقيقة علمية يصبح ساقط من القول، أو عبث، أو عديم القيمة أو ما شاكل ذلك من أوصاف!

ثم رأيتك تقرن بين كلامك الذي أؤآخذك عليه، ومسألة من مسائل فلسفة العلوم التي تتناول التمييز بين العلم واللاعلم demarcation، والتي ترجمتها بـ (التحديد). وكأنك تبرر مقولتك باعتبارها جاءت في سياق هذا (التحديد).

ولكني لا أراها من التحديد demarcation – الذي يقصده أصحاب فلسفة العلوم - في شيء. لأنهم يقصدون تمييز ما كان يستند إلى "حقيقة علمية" في العلم مما سواه، في وقت تنفي أنت وجود "الحقيقة العلمية" في ذلك العلم من حيث المبدأ!

إلا إذا كان هذا (التحديد) عندك هو التمييز بين (العلم) الذي هو مقيد (بحسم) بما قاله السلف – بعد القرآن والسنة طبعاً –، و(الاعلم) والذي يشمل أي زعم علمي طبيعي وراء ما قاله السلف، مهما كانت أدلته!.

وإذا كان ذلك كذلك، فالعلوم الطبيعية عندك من (اللاعلم)، ومن ثم يصبح (تحديدك your demarcation) تسفيه العلوم الطبيعية جملة واحدة، والذي وصفته أعلى بخلوه من أي "حقيقة علمية". ... والخلاصة أن عبارتك تؤول بالفعل إلى (تسفيه العلم الحديث جملة واحدة) .. حتى ولو اعترضت شخصياً. !!! .. وبعبارة أخرى ... أي قارئ لكلامك – وخاصة الشباب – سيفهم هذا، ويكون ذلك فتنة لهم، تصدهم عن الثقة بالعلم، مهما قامت عليه الأدلة!!! .. وبدلاً من أن يقتحم لجة العلم، ويتأهل للتحدي، ينزوي في مسجد يحفظ المتون، وينتظر ملائكة السماء تأتي لنصرته!!!

ولا أرى لك مهرب إلا أن تسحب صياغاتك المقتبسة أعلى التي أدت إلى ذلك، وتعيد كتابتها بما ينزع عنها تلك الفتنة.

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

2- وحول قولك:
الإجمال في الحقيقة أنت من وقع فيه إذ تقول "في كل نظرية طبيعية حق وباطل"! فلو قلت "في كل صناعة من صناعات العلم الطبيعي" Discipline مثلا، لقارب قولك أن يكون صوابا، وإن كنت لا أسلم لك به، حتى نتفق على المقصود بالصناعة العلمية الطبيعية أو المجال الأكاديمي الطبيعي أولا، ..

فأستغرب لكلامك!!! ... لأن قولي:
في كل نظرية طبيعية حق وباطل

كلام مقصود لمعناه، لأني أعني هنا بكلمة "نظرية" كل تنظير، سواء امتد ليشمل صناعة علمية (باصطلاحك) discipline أو ذرياً ليقتصر على فكرة صغيرة ضمن نظرية أكبر. بمعنى أن أتعمد الإجمال، لأني أضع قاعدة عامة وهي وجود الحق والباطل من حيث المبدأ في كل فكر إنساني (تنظيري). وما يؤكد كلامي أني أتيت بأمثلة تنظيرية ذرية (أن الأرض تدور حول محورٍ لها)، و(أن الكواكب لا يمكن أن تتناثر وتقع على الأرض). إذا أن الصنعة العلمية discipline نظامٌ معقد من تنظيرات ذرية. والحكم الواحد المجمل على صناعة علميةٍ ما، يجب أن يمر أولاً على دقائقها التنظيرية الذرية (أقصد مقولاتها) لا أن يتجاوزها ليصدر حكماً مُجملاً يطيح بالحق في دقائقها، إذا أراد نسف الصنعة، أو يثبت الباطل إذا أراد نصرة الصنعة. .. ومن ثم .. لا ينبغي الاحتجاج على مرادي الاحتجاجي لأنه مقصود، ويؤدي الغرض المفهومي الذي صيغ من أجله.

فإن قلت: التنظيرات الذرية (أقصد التي لا تتفكك لما دونها من تنظيرات) لا تحتمل إلا حق أو باطل، ولا تداخل فيها بينهما.

قلت لا: فـ [القول بأن العبارة (النجوم لا تسقط على الأرض) باطل ولا حق فيها] غير صحيح بالضرورة، إلا إذا اقترنت هذه العبارة بمعرفتنا بالوجه الذي يريده قائلها. فإن كان قائلها من زمن السلف أو زمن الفخر الرازي، عَلِمْنا يقينا أنها باطل، لأنه لن يريد من قولها إلا أن النجوم ستتساقط على الأرض كما تتساقط الشهب. أما إن كان قائلها في زمننا، فقد يكون في كلامه حق، إن قصد أن ما يسقط من نيازك على الأرض إنما طُبخت مادتها في قلوب النجوم. ومن ثم يكون [تساقط النجوم على الأرض شظايا] حق، ويكون [تساقطها جملة واحدة] باطل. ..

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

3- وأستغرب منك أيضاً قولك:

سأتجاوز الأمثلة التي ضربتها عن "الحق الخالص" و"الباطل الخالص" على حد وصفك، لأن ما تراه أنت حقا خالصا لا يلزم أن يكون كذلك في نفس الأمر، والعكس صحيح. فمسألة دوران الأرض وثباتها (بالنسبة لحدود الكون) مسألة ترتبط بنسبية المرجع القياسي الجاسئ المختار لدراسة الحركة، والكلام فيها لا يتسع له هذا المقام، فدعنا نتجاوز الأمثلة مع الاتفاق على أن بعض الدعاوى التي كان يعتقدها بعض الناس قديما قد ثبت بطلانها اليوم بالقطع واليقين، كدعوى أن الأرض مسطحة غير كروية (مثلا). هذا هو القدر المتفق عليه بيننا (تأصيليا) لا غير.

ويرجع استغرابي لعدة أسباب:

الأول أني أتيت بهذه الأمثلة أرد بها على قولك في مداخلة # 9:

في الحقيقة كنت وما زلت في عجب من الأصل الكلي الذي يستند إليه الإعجازيون في تناول نصوص القرءان عندما يرجح الواحد منهم قولا من أقوال المفسرين لا على مستند إلا ما يظهر له من موافقة أو مقاربة المعنى المختار لهذه النظرية أو تلك! ....... المفسر ليس همه وغايته أن يتحرى أقرب الاحتمالات اللغوية موافقة لحقيقة علمية تجريبية معينة! وإنما مهمته أن يتحرى أقرب الاحتمالات اللغوية لأن يكون هو مراد رب العاليمن من كلامه، بصرف النظر عما ثبت أو لم يثبت عند التجريبيين! نعم قد يتصور – من جهة العقل المجرد – أن يثبت العلم التجريبي أن قولا من الأقوال الخلافية في تاويل آية من الآيات لا يمكن أن يصح، لأنه قد ثبت بالمشاهدة القطعية المباشرة خلافه، فيضطر من كان يرجح ذلك القول المصادم للواقع إلى الزوال عنه وإعادة النظر فيما سواه من أقوال المفسرين في التأويل. أقول قد يتصور (نظريا) لأني لم أقف على حالة كهذه قطّ في الحقيقة، ولكن المقام مقام تأصيل. أما أن يقف المفسر على قولين أو ثلاثة أو أكثر للمفسرين في تأويل النص القرءاني، فيترك سائر المرجحات التي استعملها المفسرون من قبل، ويضع لنفسه قاعدة مفادها صحة القول الأوفق لهذه النظرية الطبيعية أو تلك، أو لهذه المشاهدة التجريبية أو تلك، فهذا ما لا أرى له مخرجا في العقل السوي على الإطلاق

وفي هذا النص رأيتك تستغرب من تحكيم العلوم التجريبية في أقوال التفسير بما يُقدم هذا وينصره، ويؤخر هذا ويستبعده. فوددت أن أؤكد لك صحة هذا المنهج الذي تستنكره، وتقول أنك تؤيده نظرياً ثم تعدمه عمليا. وأتيتك بمثالين لا ريب فيهما؛ الأول فيه تصوير دوران الأرض حول نفسها، بما ينفي ظن المفسرين الذين توهموا وقوفها، وما زالوا معاندين، والثاني ينفي القول التفسيري الذي يقول بتساقط النجوم على الأرض. ... وأستغرب بشدة كيف تتجاوز عن أدلة حاسمة بهذه الدرجة من الحسم، بل إنك تُهون من تصوير دوران الأرض الحقيقي، وتشكك فيه وتقول:

مسألة دوران الأرض وثباتها (بالنسبة لحدود الكون) مسألة ترتبط بنسبية المرجع القياسي الجاسئ المختار لدراسة الحركة

رغم أن الفيدو الذي أدرجت رابطته يقطع بأن الأرض تدور حول نفسها دورة تامة في 24 ساعة، وليس أمام المنكر لذلك إلا أن يفترض أن الكون بتمامه من نجوم ومجرات ومعه المركبة الفضائية الحاملة لكاميرا التصوير هو الذي يدور حول الأرض دورة تامة في نفس الزمن، وهو قول لا يجرؤ عاقل على التفوه به، لأن مثله مثل القول بأن الأرجوحة الدوارة يجوز فيه وصف دوران الأرجوحة وثبات كل شيء حولها، أو دوران الكون بتمامه حول الأرجوحة واعتبارها ساكنة!!! ... ويصبح المخرج الوحيد للمنكر العاقل لمثال (فيديو دوران الأرض) إن أراد تعنتاً أن يقول: ربما أن هذا الفيلم مزور! .. ولقطع هذا الطريق أتيت بالفيديو المصور، بمصدره المعتمد. كما أني لم أحتج بالاحتجاجات الفلكية المألوفة لأقطع الطريق أيضاً على احتمالات التشكيك المألوفة، لكني رأيتك تعود لنفس الاعتراضات المألوفة على مثل هذه الاحتجاجات الفلكية ... فماذ بعد الرؤية لفيلم حقيقي لدوران الأرض من دليل؟! ، وعلى أن الأدلة التجريبية حق يجب الأخذ به في تنقية التفاسير الموهومة؟!!!!

فهذا التجاوز للأدلة أمر لا أصدق أن أسمعه منك .. وأنا أعرف جنوحك ناحية تصديق الأدلة، ونصرة الحق عند ظهوره.
___​

أما السبب الثاني لاستغرابي، فهو قولك:

دعنا نتجاوز الأمثلة مع الاتفاق على أن بعض الدعاوى التي كان يعتقدها بعض الناس قديما قد ثبت بطلانها اليوم بالقطع واليقين، كدعوى أن الأرض مسطحة غير كروية (مثلا). هذا هو القدر المتفق عليه بيننا (تأصيليا) لا غير.

يستبدل (الناس) بـ (السلف) ... رغم أن مدار الحديث عن تصورات، هي بالأساس محل نظر في تفسيرات (السلف). فهل هذا إقرار منك بأن شأن (السلف) شأن عموم الناس في تبنّي تصورات زمنية خاطئة ولا حرج عليهم! .. أم أنك حملت الصفة على (الناس) لتصرف الأفهام عن (السلف) رغم أنهم هم المقصودون؟! .. فيضيع الاحتجاج باستبدال الألفاظ .. على غفلة من القارئ .... أعذرني في الاستيضاح ...لأن صياغاتك تضطرني لطرح هذه الأسئلة المبررة بصوت مسموع، فلا أترك مجالاً إلا لفهم مرادك على أتم بيان، ودفعك لتعديل ما تكتبه إن لزم الأمر، للوفاء بالمعاني الجلية.

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

4- أما قولك:

أزيدك من التأصيل ما أرجو أن توافقني عليه: أن النظرية الطبيعية إن بطل الأصل الفلسفي الميتافزيقي الذي تقوم عليه (كمقدمة فلسفية مبطنة Implicit Premise بطلت كلها مهما كثرت تأويلات المشاهدات المبذولة لدعمها إمبريقيا.
فلا أوافقك عليه أبداً !!!

بل إن هذا الكلام منك يؤكد ما قلته أنا أعلى من أن أي نظرية طبيعية فيها حق وباطل. ... وبتطبيق ذلك على كلامك، فيكون بطلان الأصل الفلسفي من الباطل، ويكون صدق المشاهدات التجريبية من الحق. وتكون النظرية قد جمعت بين الحق والباطل. وهنا يجب تمييز هذا من هذا، لا الحكم على جملتها (معطياتها ومخرجاتها) بالفساد، رغم صدق بعضه. .. وأقصد أن تصديق المشاهدات التجريبية فيما تخبر به شيء، وتكذيب أن تؤدي هذه المشاهدات إلى تلك المزاعم الفلسفية الفاسدة شيء آخر!

ومثال ذلك ما جاء في كتاب الله تعالى "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ"(المنافقون:1)، حيث استشهد المنافقون بالحق على باطل، فأقر الله تعالى الحق حقاً (اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وأثبت الباطل باطلا (اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).

وكذلك في مثالك: ..وعليه، يجب تصديق المشاهدات التجريبية في ذاتها، وتكذيب ما يُدّعى أنه أصل فلسفي لها... ومن يذهب بالحق لأنه ناتج – حسب صياغات الكافرين - عن باطل (بقوله: بطلت كلها) ، فقد حرم حلالا، وألبس حقاً في باطل، وبدد نافعاً، وفتن للعلم طالباً!

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

5- أما النتيجة التالية التي خرجت بها وقلت عني فيها:

وعليه فأنت تعاني من إجمال قاتل في تأصيلك هذا: [وأنت تقصد قولي: لا ينبغي الطعن في كل النظريات، لأن ذلك معناه احتمال نبذ حق. وإنما تُنظر مسألة مسألة:] وذلك للتأصيل الذي أوردته عليك آنفا.

فأراه تجريحا ضبابياً لمنطقي دون بيان علته (أقصد تعيين موضع الإجمال الذي تقصده وما ينبغي فيه من تفصيل) .. لذا أراه تجريح غير مبني على شيء إلا إيهام القارئ بشيء غير موجود .. وأتجاوز عنه لأن أهتمامي بعدم التجريح العلمي لمعاني القرآن والعلم الصادق، أكبر من الدفاع عن نفسي.

وربما يكون السبب أنك تتناول المسائل من زاوية فلسفة العلوم، فتتلون كل مفردة بالعديد من الألوان عند المتفلسفة، أما أنا فأتناولها من زاوية النظر العلمية، وأقصد من اصطلاحاتي ومفرداتي الشائع من المعانى العلمية دون الفلسفي الشامل ربما لمبهمات من المعاني تذهب إليها أذهان المتفلسفة.

لذا ، إذا أردت أن تفهم كلامي، فأسقطه على المعاني العلمية الصريحة، ولا تذهب به بعيداً ، لأن منطقي الكلامي فيزيائي رياضي بحكم الخبرة، وربما تستطيع أن تحول عباراتي إلى معادلات رياضية لو شئت.


تابع المداخلة التالية ...

 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

6- وأما وصفك (تأويلات متنطعة) في عبارتك:

[ فساد مساعي بعض المفتونين بنظريات الطبيعيين في تلبيس القرءان لبوس تلك النظريات بتأويلات متنطعة ]

وردي عليها:
[التنطع يقال فقط إذا لم يصاحب العمل تحقيق علمي رصين، يتميز به قوة النظرية من ضعفها، وحقها من باطلها]

ثم ردك على ردي:
[والرد على ذلك: قد أحلت القارئ - ولله الحمد - على مقال، ومن قبله على كتاب كامل، قد فصلت فيه الأمر بما أرجو أن فيه الكفاية لمن طالعه.]

فغير مقبول: لأني لم أجد في المقال ما يبرر سب الناس بالتنطع إن هم قاموا بتحقيق علمي رصين. وهذا السب ينالني شخصياً. وإن كان من تشكيك في عملي الذي أصفه بالرصانة، فليكن منك تفنيده تفنيداً رصيناً أيضاً، لا سب صاحبه!

أما الإحالة إلى كتاب من مئات الصفحات لغرض إقامة حجة من عدة أسطر، فلا أراه أمراً مقبولا.
وإن كان ولا بد، فأرسل لي منه نسخة إلكترونية. وأعدك بقراءته، إن وعدتني بأن يتسع صدرك لتحمل تبعات القراءة!!!


تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

7- وأما قولك:

المشاهدة الصادقة تنطق بالحق نعم، ولكن ما الدليل على أن هذا الحق الذي نطقت به في وصف الواقع، هو مراد رب العالمين من كلامه في النص القرءاني؟ هذه حيدة عن محل النزاع في أصل ما يسمى بالتفسير العلمي! تأمل جيدا في الكلام بارك الله فيك، وأرجو أن نحصر فيه دائرة النقاش هنا بيني بينك، بالنظر إلى طبيعة تخصص المنتدى على الأقل، هذا إن أردنا الخروج من نقاشنا هذا بثمرة.

فأستغربه أيضاً!!!

وأتساءل: وأي قيمة معرفية تلك التي وضعها الله تعالى في آدم عليه السلام (الإنسان) إن نفينا عنه قدرته عن التعبير عن فعل الأشياء، تعبيراً صادقاً، ... إن سعى هو (وأبناؤه) إلى ذلك ما يتطلبه السعي بأسبابه؟ .. أوليس هذا مما يلحق بقول الله تعالى " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ... قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "

لا تقل لي إن هذا غير هذا، .. أو أن هذا النزال العلمي – بين آدم والملائكة - قد اختص به آدم وحده ... لا يا أخي العزيز ... هذا هو التميز الذي أهّل الله تعالى به آدم وبنيه لما خُلقوا له من مهام عملية .. فالخليفة " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " ليس آدم وحده، بل الإنسان.

___​
- ثم إن هذا الاستنكار الذي تسوقه لي:

(ما الدليل على أن هذا الحق الذي نطقت به في وصف الواقع، هو مراد رب العالمين من كلامه في النص القرءاني؟)

هو نفسه الاستنكار الذي يمكن أن ينطق به ناطق، ويقول:
ما الدليل على أن المعنى كيت وكيت هو مراد رب العالمين من كلامه في النص القرءاني؟

إذا استنكر على تفسيرٍ ما للقرآن، يريد إسقاطه.

ومثلما يُرد على الثاني بما تعلم من أصول التفسير، يرد على الأول بآليات الصياغة الوصفية والرياضية والتحقق والتنقيح المتتابع حتى يستوي الوصف على عوده. ولكل مقامٍ مقال.
___​
- ثم أستغرب أيضاً قولك:

هذه حيدة عن محل النزاع في أصل ما يسمى بالتفسير العلمي! تأمل جيدا في الكلام بارك الله فيك، وأرجو أن نحصر فيه دائرة النقاش هنا بيني بينك، بالنظر إلى طبيعة تخصص المنتدى على الأقل، هذا إن أردنا الخروج من نقاشنا هذا بثمرة.

في نفس الفقرة ... لأن محل النزاع هو التفسير العلمي بصحبة التجريبيات واستنكارك لها، وتفنيدي لهذا الاستنكار، بالدفاع عن صدق التجريبيات المحققة، ..... فكيف يكون فيه حيدة ؟! ...

ثم كيف يكون هذا خارج طبيعة تخصص المنتدى، ونحن نتكلم في منتدى مخصص لتفسير القرآن ؟!!

ثم ما الذي يمنعنا من الخروج بثمرة من هذا النقاش، طالما أن المبدأ أن يجد كل منّا حجج الآخر صحيحة ويقر بها، أو يُظهر ضعف ضعيفها وينبه الآخر عليها...؟!

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

8 - وحول قولك:

أنا أقول: عندك آية اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال (تبعا لدلائل اللغة والأثر وغير ذلك من مرجحات مجمع عليها منهجيا بين المفسرين): القول (أ) والقول (ب) والقول (ج). الآن عندما يأتي أحد الباحثين بمشاهدة طبيعية قطعية (إن سلمنا تنزلا بقطعيتها، وهذا لا يقع في النظريات الطبيعية المعاصرة أصلا لقيامها كلها على مناهج تأويلية في الاستعانة بالمدخلات الحسية والتجريب والمشاهدة بعموم)، ثم يجعل قاعدته في الترجيح بين تلك الأقوال الثلاثة أن يختار أكثرها موافقة لتلك المشاهدة، كيف يكون هذا منهجا صحيحا في ترجيح مراد رب العالمين بكلامه، وعلى أي أصل كلي يمكن أن نؤسسه؟ سلمنا بأن المشاهدة حق، وسلمنا بأن أحد الأقول المختلف عليها بين المفسرين يوافقها دون تنطع ولا تعسف في التأويل، فكيف تكون تلك الموافقة في مجردها دليلا على أن القول (أ) بالتحديد هو المقصود من كلام الله المراد تفسيره، وليس (ب) أو (ج)؟ المشكلة الأكبر من هذا، أن القوم يتجاوزون حد الترجيح إلى ادعاء أن الخلاف في التأويل قد انحسم وأن اليقين قد تحقق بأن هذا هو مراد الله تعالى، وهو مقتضى زعمهم أن في المسألة إعجازا، وسعيهم - من ثم - في استعمالها دعويا واتخاذها طريقا مضمونا لإقناع المشركين بصحة الإسلام، مع ما في ذلك من تدليس لا يخفى!

فأراك قد خلطت بين (مبدأ شهادة التجريبيات على ترجيح أقوال التفسير) وبين (تدليس صاحب الشهادة)، فجعلت احتمال التدليس مبدد للمبدأ. وهذا خطأ.

لأن المسألة ليس محض أقوال، بل تجريبيات مستقلة عن تدليس البشر. مطردة النتائج، تنطق لكل من استنطقها. ويمكنها أن تشهد في كل مرة تُستشهد فيها.

والصحيح الواجب اتباعه هو في تحقيق المسألة، فإن عثر على تدليس فالشهادة باطلة والأصل: أن (مبدأ شهادة التجريبيات على ترجيح أقوال التفسير) صحيح.

وهذا ما أفعله بالفعل في تحقيق مزاعم الإعجاز العلمي (" أطروحات متهافتة في التفسير العلمي ") وأثبتّ فيها بالفعل تدليسا، وأفنده وأنفيه، وأُطهر منه كلامَ الله تعالى، وأبقي في نفس الوقت على صحة المبدأ. ... ولو مُنع التطبيب لأن بعض الأطباء يُخطئون، أو يُدَلِّسون على الناس بمعرفة الطب، لمات الناس من انعدام التداوي.

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

9 - أما قولك:

الحاصل أني أقول: نعم المشاهدة المحققة (بل والتأويل المستساغ للمشاهدة أو للمعادلة الرياضية، كما في عامة نظريات الطبيعيات) مصدر علم ولا شك، ولكنها ليست مستندا للترجيح عند اختلاف المفسرين، وما زلت أطالبك بالدليل الكلي على صحة اتخاذها مستندا!

فأقول أن التناقض ظاهر فيه! ... كيف تقر بعلمية مصدر ما، وهو الإقرار الذي يرفع من قيمته كمصدر علم معتبر، ثم تستنكر اعتباره مستند لترجيح اختلاف المفسرين في نفس موضوعه؟! ... إن موضوعية العالم ألا يتحيز أمام مصادر العلم، فينتقي منها ما شاء ويدع ما شاء. وقتما شاء ... وإذا أقر المجتهد بالثقة في علم ما، أصبح ملزماً بنتائجه، ولو لم يكن الأمر كذلك، لسقطت المصداقية، ولسقطت قيمة الاحتجاج بين المتحاجّين على حجج لا توظّف!!! .. بل، ربما أنه يُدخل صاحبه في مقت الله تعالى حين قال سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"(الصف)

وكان يمكن أن أسمع منك أنه مصدر متفاوت الدرجة في قيمته الحجاجية، بين يقين المشاهدة، واعتبارية التأويل المستساغ، .. وحتى لو كان، فهذه القيمة ترتفع وتنخفض، ولا مانع من حيث المبدأ أن ترتفع للدرجة التي تطغى بها على قولٍ ما من أقوال المفسرين حتى تضعفه أو تمحوه.

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

10 - أما قولك:

إطلاق عبارة "الحقيقة العلمية" = اعتقاد أنها قضية قطعية محسومة كالمشاهدة المباشرة مثلا، وهذا ما لا أجد متسعا في هذا المقام لشرح ما يتعلق به من إشكالات فلسفية كلية

فهو دعوة إلى إهمال (قيمة الاستدلال العلمي الرصين) بالتشكيك في كونه "حقيقة علمية" .. بدعوى "إشكالات فلسفية" .. ولكنك تعلم أن هذا الذي يسميه فلاسفة العلوم "إشكالات فلسفية" يطال كل شيء بما فيه الإقرار بالخالق .. ولو ذهبنا وراء كل "إشكالات فلسفية" لسقطت كل بدهيات العقول، ناهيك عن الإيمان بالخالق جل وعلا. .. والخلاصة أن عبارة "إشكالات فلسفية" مطية كل مُشكك، ... حتى أنها أصبحت دلالة على فراغ جعبة المشكك من أي حجة إلاّ محض التشكيك.

أما الأهم من ذلك أننا إذا افترضنا معك أن "الحقيقة العلمية" لا ترتقي بالفعل إلى مستوى (قضية قطعية محسومة كالمشاهدة المباشرة) .. فكيف تبرر إنكارك أو تجاوزك لـ (مشاهدة الأرض تدور في الفيديو الذي أدرجت رابطته من قبل) أوليست هذه مشاهدة مباشرة .. أوليست قطعية .. أوليست محسومة .. ؟

إن إهمال هذا الدليل يُلزم صاحبه بالوقوع في حبائل بديل واحد مستحيل، وهو دوران الكون بتماماه وعلى هيئته كما هو، دورة كاملة كل 24 ساعة، حول أرض جامدة. فهل هذا إشكال فلسفي؟ ... أم أن وصفه الصحيح هو (إنكار فلسفي)!


تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

11 - أما قولك:

قوله تعالى "كيف بدأ الخلق" قد يطلق ويراد به كيف خلق الله السماوات والأرض في الأيام الستة، وقد يطلق ويراد به ما هو مشاهد كل يوم من خلق جديد يخرج من بطون الأمهات ومن بطن الأرض في الثمر والنبات ونحو ذلك. وهذا الأخير هو الأقرب إلى الذهن، والأنسب لأن يكون مخاطبا به جميع البشر عربهم وعجمهم، بصرف النظر عن مقدار علمهم الطبيعي والتجريبي، كما هي عادة القرءان! أما أن يقال إن المقصود هنا أن نمشي في الأرض لننظر (وتأمل: في الأرض) كيف جرت أحداث خلق السماوات والأرض وما فيهما في أيام الخلق الستة، فهذا تأويل شديد التكلف، ولو سلمنا لك بفهمك إياه لأسقطنا حجيته على الصحابة أنفسهم لأنهم لم يسمعوا بنظرية الانفجار الكبير!! لو أكملت قراءة الآية بتمامها لتبين لك أن مقصودها محاججة من يزعمون أن الله لا ينشئ النشأة الآخرة، ولا يبعث من يموت، بدعوتهم للنظر في النشأة الأولى، أنه إذا كان الله تعالى يخرج الحي من بطن أمه، فهو كذلك قادر على أن يخرج الميت من بطن الأرض! هكذا تقوم الحجة على من يسمع ويعقل أيا ما كان مقدار علمه وعقله! فأي شيء أبعد عن طريقة السلف وفقههم مما سلكه بعض إخواننا من تحويل الآية إلى تكليف شرعي بالبحث في علم الكوزمولوجيا ودراسة نظرية الانفجار الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فأقول: في كلامك هنا دلالات استنكارية (ولا حول ولا قوة إلا بالله! ) وتبريرية بما لا يوجبه تبرير(فأي شيء أبعد عن طريقة السلف وفقههم)، وإقصائية (تكليف شرعي بالبحث في علم الكوزمولوجيا) ... وتخصيص العام بلا مُخصص (ما هو مشاهد كل يوم من خلق جديد يخرج من بطون الأمهات ومن بطن الأرض في الثمر والنبات ونحو ذلك) ... وهذا الذي ذكرت لا يتطلب السير في الأرض. بل كل إنسان في محله يعلم ما تخرجه بطون الأمهات، وما تنبه الأرض من مزروعات. أي أنه الآية بتمامها "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" صريحة ومستساغة بشدة في حثها على الجمع بين السير والنظر البحثي (كيف) .. وهذا لا يكون إلا بالتنقيب في الأرض على علامات بدأ الخلق، وقد جاء عن قتادة أن (الخلق) في هذه الآية هو [خلق السموات والأرض]، وأراها مستساغة أكثر ما تكون في النظر الكيفي في بيئات الأرض وطبقاتها وأغوارها، وطبائع المخلوقات وهيئاتها، ... ويوازيها – لأن الآية كانت مثال واحد من مثلها – " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ، و " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) " .. وهل هذا إلا بحث شرعي في البيولوجي والكوزمولوجي والجيولوجي والطبوجرافي على التوالي ... أم أن هذه المباحث أصبحت كافرة لأن روادها كذلك ؟؟؟ .. فأصبحت عند الموحدين طاهري الدين مما يُستنكر البحث فيه ؟!

وأكثر ما أستغرب له أن يُستشهد بنفي فعل [الأمر، الصحيح لُغة، الصريح معنىً، على وجوب فعل مع حلول أسبابه] لأن بعض المأمورين بعمومه [لم يفعلوه لعدم قدرتهم على فعله، وربما لغموض أسبابه عليهم، وعدم استطاعتهم إن ظهر لبعضهم].

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

12 - أما تساؤلك الاستنكاري:

يا أخي الفاضل من سلفك من الأئمة في مشروعية الاستدلال بالحس والمشاهدة على أحداث خلق السماوات والأرض؟ لن تجد في قرون المسلمين من استعان بغير النص الثابت الصحيح في تحصيل المعرفة بتلك الأحداث!

فأجيب عنه: سلفي (بمعنى مرجعي) في ذلك هو القرآن:

"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)" .....

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
[ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها]
وعلى كل مسلم أن يتفكر فيها بقدر ما علم منها رأي العين (الحس والشهادة) والاستدلال .. أليس كذلك؟!

ولا تقل لي يتفكر فيها بضع دقائق فقط ويذهب للنوم!! .. بل يتفكر تفكُّر العلماء، ليعتبر بالحق على الحق؛ يتآزران، فيفهم هذا بهذا، وهذا بهذا .. لأن كلٌّ من الله ... الخلق والوحي .. أليس كذلك؟!
(مع ملاحظة أني لا أؤمن بما يُسمى بنظرية الانفجار العظيم، غير أن الاستدلال الفيزيائي عدّل تصوري لأيام الخلق الستة كما أوضحته في المشاركة السابقة وما فيه من رابطة خلق السماوات والأرض في ستة أيام - تأويل جديد وما وراءها من روابط)

وجدير بالذكر هنا أيضاً أن أوضح أن منهجي كالآتي: (على الترتيب الداخلي)

في (العقائد والوصايا والرقائق): [القرآن والسنة والسلف والإجماع]
وفي (الأحكام الشرعية): [القرآن والسنة والقياس والإجماع وقول الصحابي]
وفي (الآيات الكونية): [القرآن والسنة والتجربة الحسية والسلف]

تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

13 - أما قولك:

عليك الإتيان بأثر عن واحد من الصحابة أو السلف، تكلم عن شيء من أحداث خلق السماوات والأرض تأسيسا على مصدر آخر بخلاف النص، فضلا عن أن يكون أحدهم قد فهم آية "فانظروا كيف بدأ الخلق" على أن المقصود بها الحث على استعمال المشاهدات في تحصيل المعرفة التجريبية بتلك الأحداث!

فأقول أنك تتكلم عن السلف وكأنهم أنبياء قد أوحى إليهم، وأنا أتكلم عنهم باعتبارهم النخبة من المسلمين – وإذا تعلق الأمر بالمسائل الكونية الطبيعية في القرآن، فمعارفهم مقيدة بإطار ثقافة عصرهم. وإن تفوقوا بالمعرفة الغوية، فهذا حق، ولكنه لا يُمثل إلا بعض النصاب المعرفي الضروري لتعيين معاني الآيات الكونية. ولا يكتمل النصاب إلا بالوقوف على أسبابه ومباشرة شهاداته. .. ومثلما أن القاضي لا يكتفي بالنصوص لإيقاع الحكم، ويجب أن يحقق في وقائع الحوادث وشهادات الشهود، فكذلك القاضي العلمي في الكونيات، يجب أن ينزل مواقع الأحداث ويستشهدها ... ومن ينكر ذلك ... فأمره مريب .. وفهمه غريب !!!

وأراك تُحمّل السلف فوق ما يحتملون عندما تقيد صحيح المعارف الكونية بما لم يكن عندهم موجب له. ثم أنك بإصرارك على ضرورة اعتماد السلف لأي قول في المسائل الكونية حتى يُمرر، تعمل على تجميد فهم القرآن في ثلاجة التاريخ، وهذا تَجَنٍ على القرآن. لأن الله تعال أنزله للناس مهما علا شأن ثقافتهم وحتى قيام الساعة. .. وأي غرابة في أن يفهم منه الناس اليوم – بما جد من معارف – ما لم يكن يخطر على بال الصحابة أنفسهم ... أي غرابة في ذلك؟! ... من أين أتى المنكر لهذا بإنكاره؟! .. أليس هذا كلام الله عن خلق الله، أليس هذا خلق الله أمام أعيننا يتكشف يوماً بعد يوم .. كيف نستشهد بالغائب الذي لم يسمع الشاهد، على الشاهد إذا حضر بنفسه؟!

إن هذا الفهم الإنكاري ليس إلا استدلال بشري. .. فأنت نفسك تعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يفسر من القرآن إلا القليل، وهذا وحده كافٍ على أن بيان القرآن (أي جميع آياته) سيكون عبر الزمن، وأن الفاعل لهذا البيان هو الله تعالى وحده، كما قال سبحانه " فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)"(القيامة)

وإن كان كلامك صحيح: فأجبني عن السؤال الآتي:

ماذا أضاف الحرف (ر) في أول سورة الرعد (أ ل م ر) عن (أ ل م) فيما جاءت فيه من سور القرآن؟!
أقول لك بكل حسم ... لا يعلم هذا أحد وحتى هذه اللحظة .. لا صحابي ولا من بعده ...
أليس هذا من القرآن ... أوليس أن القرآن قد نزل ليفهمه المؤمنون به؟! .. أين هي الإجابة المعتمدة لهذا السؤال ... أجبني .. ولن تستطيع .. (لست أنت أقصد).. بل .. لن يستطيع إنسان على الأرض أن يجيب عنه لأنه لمّا يعلمه أحد (بعد) .... فتأمل! .. (باصطلاحك)

وأنا على يقين من أن الساعة لن تقوم حتى يتبين لهذا السؤال إجابة ... فكيف تبرر أنه لم يؤثر عنه شيء عند السلف ؟!
ببساطة .. لأن لهذا البيان موعد ... وهذا الموعد لما يأت بعد، ولا علاقة للسلف ولا للخلف حتى اللحظة بهذه الإجابة .. إلا أن يقولوا "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران:7) .. (أظن أن الرسالة وصلت)

ومع ذلك ..............، ففي الحديث رقم 17227 في تفسير ابن أبي حاتم:
[حدثنا محمد بن يحيى انبا العباس بن الوليد ، ثنا يزيد بن زريع قال : سمعت سعيدا ، عن قتادة (في قوله تعالى " فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ " (قال): خلق الله السموات والأرض.]

وأقول: هل يُنظر في خلق السموات والأرض – كما صرّح قتادة - بغير أسباب مؤدية للعلم بها؟! .. (علماً بأن الآية مقيدة بالسير في الأرض والتعقيب بـ (ف) يفيد ارتباط النظر بالسير، ومعلوم أن هذا شيء غير الوحي) .. آمل أن أكون قد أتيتك بشيء مما طلبت، بل بكل ما طلبت.


تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

14 - أما قولك:

ما ذكرته من "مستحيلات" لا علاقة له بما نحن فيه، والإجماع المزعوم فيها إنما هو ظن فردي في مسائل كانت ممتنعة بحكم العادة لا بحكم العقل أو النقل

وذلك تعليقاً منك على قولي:

أنه إجماع سكوتي مجمل، فيه حق، وفيه (غير ذلك). ومن أمثلة (غير ذلك): القول بأن هناك إجماع على المستحيلات في نظر السابقين، مثل: انتقال الناس بين بلد وأخرى بركوب الهواء، ومحادثة ورؤية بعضهم بعضا في نفس الوقت أينما كانوا على الأرض أو في أجوائها، وأمثال ذلك مما كان موهوما أنه مستحيلات. ومن أمثلة ما كان مستحيلاً ولم يعد كذلك أيضا، التركيب الكيميائي للنجوم المرصودة من الأرض، ومنها نجم الشمس، وعمره، واحتمالات مآله، ونسبة عمره إلى عمر غيره من النجوم .. والمسافات السماوية بين الأجرام، والسنن التي تتحكم في حركتها ... وكيف كانت الأرض والكون قبل كذا من السنين ...إلخ ... ولا يمتنع أن تطّرد المعلومات التي تدلل على بعضها بعضاً في الماضي، ما دام أن العامل الفاعل هو السنن المصدقة بتصديق القرآن لها.

والذي كان تعقيباً على قولك:
ولا شك أننا نجد إجماعا عمليا معقودا عبر قرون الأمة على أن أحداث خلق السماوات والأرض غيب مطلق لا يعرف إلا من طريق الكتاب والسنة وحسب

فأقول:

بل إنه إجماع على ما ظُنّ أنه مستحيل، وبحكم العادة والأعراف المعرفية، وليس الشرع، حتى لو أنكرته، وإذا كان في الإجماع دلائل على عدم عودته إلى الشرع، فلا عبرة به لأن الشرع (يقين وظن راجح) .. فمَن مِن الأسبقين إلا ويقطع باستحالة العلم بأسرار تركيب النجوم وأبعادها، وتاريخ الأرض وأغوارها .. إلخ.. ثم أصبح هذا المستحيل محققا .. وإذا أجمع فئة من الناس على استحالة العلم عبر اتخاذ أسباب العلم في زمنهم، حتى ولو كانوا أتقى الناس، فلا عبرة بكلامهم الذي لا ينطبق إلا على زمنهم فقط ... لأن العلم أصدق من أقوال الناس إلا إذا ارتبط كلامهم بمصدر إلهي واشتُقّ منه اشتقاقاً لازما ... ثم أن السلف لم يصرحوا بذلك .. بل إن المعاصرين هو الذين نسبوا إليهم هذا الإجماع الموهوم .. ولهذا سميته (إجماع سكوتي – بافتراض أنه إجماع جدلاً). والأصوب .. كما وصفت أنت مؤخراً .. أنه فهم ممتنع بحكم العادة... وليس (إجماعا عمليا معقودا عبر قرون الأمة) ... كما زعمت أنت أيضاً آنفا.


تابع المداخلة التالية ...
 
الرد على مداخلة # 11

الرد على مداخلة # 11

15 - أما قولك:

يجب أن نقف بها (أي: السنن الكونية) عند ما بعد أحداث خلق السماوات والأرض، لا قبل ذلك كما هي نحلة الدهرية المعاصرين

فأقول: أنه طبقاً لحليلاتي، فإن خلق السموات والأرض جرى، وما زال يجري، على سنن .. وينبغي أن يسعى الباحث عن فهم خلق الكون ما وسعه التسلسل المعلل للحوادث على نحو صريح، .. وحتى يصطدم بجدار غير معلل. .. وهذا الجدار لا يعلمه أحد بعد، وإن كان ترجيحي أنه المُسمى في القرآن باسم (الماء) ...

ويمكن تتبع تلك التحليلات في الرابطة التالية
الفصل (أ20) – محمد الصادق عرجون - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
وخاصة ما جاء فيها حول (خلق السموات والأرض)
ثم الحوارات التي دارت حولها، وحُفظت على الرابط الآتي:
خلق السماوات والأرض في ستة أيام - تأويل جديد

هذا وقد علمت أن هناك من يأبى الاطلاع الجاد على هذه الروابط، أو يرفض الحجج الراجحة فيها، معتبراً أنها مرجوحة قبل أن يقرأها أو يُمعن فيها النظر! .. وقد اكتفى بما عنده من العلم!! ...رغم أنه يعلم أن القرآن لا يشبع منه العلماء!!! ..... فكيف شبع ؟! ... لا أدري !!! ..

وأقول له: ما علينا إلا البلاغ العلمي ببيناته، لا الفلسفي بجدلياته.

___​

أخي العزيز:

آمل ألا أكون قد أثقلت عليك ...
مع تحياتي واحتراماتي
 
بسمك اللهم.
سأجعلك كلامك بالأحمر وتعقيبي بالأسود.

ثم رأيتك تقرن بين كلامك الذي أؤآخذك عليه، ومسألة من مسائل فلسفة العلوم التي تتناول التمييز بين العلم واللاعلم demarcation، والتي ترجمتها بـ (التحديد). وكأنك تبرر مقولتك باعتبارها جاءت في سياق هذا التحديد

يا أخي الكريم، غاية مرادي من الكلام في جزئية "الحقيقة العلمية" هذه (وهو ما تؤاخذني عليه فيما يبدو) كان دفع إجمال وقع في كلامك أنت، بغرض التنبيه إلى منطق الإعجازيين في التفريق (ويبدو لي أنك توافقهم إجمالا) بين ما يسمونه بالنظرية وما يسمونه بالحقيقة العلمية، إذ يكثر عندهم إطلاق هذا الاسم "الحقيقة العلمية" على نظريات أو نماذج نظرية Theoretical Models أحسن أحوالها أن تكون عند حدّ الظن الضعيف الذي يفترض فيه (كقاعدة معرفية) أنه يقبل لا لشيء إلا لخلو الكيس عند أهل هذه الصناعة أو تلك مما هو أرجح منه في تأويل (تفسير) ما بين أيديهم من مشاهدات تجريبية! فأنت ترى أن أحسنهم عقلا (أعني الإعجازيين) وأحسنهم نهجا يضع شرطا مفاده أننا لا نقبل اعتماد النظرية العلمية إلا إن صارت "حقيقة علمية" يعني "قطعية" منتهية. وهو كلام نظري جيد (إجمالا) ولكن إن تأملت في التطبيق وجدت خللا عظيما يأتي من افتقارهم للمنهجية المعرفية المنضبطة في التفريق بين القطعيات المنتهية بالمشاهدة المباشرة الحاسمة التي لا تقبل التأويل، والنظريات السائدة في المجتمع الأكاديمي لا لشيء إلا لما يسمى عند الفلاسفة "بالقوة التفسيرية" (على اختلاف مسالكهم في تحقيق تلك "القوة" وتقديرها نظريا)! والقصد أنه إن كان من إجمال وسوء تحرير فإنما هو عندهم في واقع الأمر، في تصورهم – أو عدم تصورهم – للضابط الذي به تتحول "النظرية" (على مفهومهم) إلى "حقيقة علمية" (على مفهومهم أيضا)، وفي قصورهم عن تحصيل ما يلزم من العلم بالأصول والمناهج الفلسفية الكلية التي بها تقدر قوة الدلالة في هذا الدليل أو ذاك! فإن فهمت هذا، تبين لك وجه المصادرة في قولك:
لأن ما يخلو من حقيقة علمية يصبح ساقط من القول، أو عبث، أو عديم القيمة أو ما شاكل ذلك من أوصاف!

أنا أنتقد اصطلاحا مجملا وقع في كلامك أنت وكلام غيرك ممن يتكلمون بمثله، لا أني أنفي مطلق تحصل المعرفة من الظن الاحتمالي التنظيري أو التنظير التفسيري (وإن ضعف في قوته الدلالية) الذي يخلو من المعارض القوي (كما هو الأصل فيما يسمى بالنموذج النظري Theoretical Model في العلوم الطبيعية الحديثة)! أما مسألة التحديد (أو سمه التمييز أو التفريق أو ما شئت)، أو Demarcation تبعا للمصطلح الذي أطلقه كارل بوبر في منتصف القرن الماضي، فأوردتها في سياق الكلام على التفريق بين القضايا الداخلة في دائرة العلم الطبيعي (موضوعا ومنهجا واستدلالا) من جانب، والقضايا الميتافزيقية من الجانب الآخر، التي أعد قضية أيام الخلق الستة من جملتها! فلا تخلط الأوراق أصلح الله حالي وحالك! فإن تبين لك هذا، ظهر ما في قولك هذا من إجمال لا يليق بمن يتكلم في الفلسفة:
لأنهم يقصدون تمييز ما كان يستند إلى "حقيقة علمية" في العلم مما سواه، في وقت تنفي أنت وجود "الحقيقة العلمية" في ذلك العلم من حيث المبدأ!

أكرر: الذي أنفيه عن النظريات الطبيعية المعاصرة لا سيما في علمي الفيزياء والكونيات على وجه الخصوص، إنما هو بلوغ درجة الحقيقة القطعية النهائية (التي تكون بمنزلة المشاهدة المباشرة أو قريب منها)، لا أني أنفي "الحقيقة العلمية" (هكذا) من "العلوم" على حسب كلامك هذا، فدع عنك التهويل يرحمك الله فإنه لا يخدمك في شيء! أما الفلاسفة فلهم في ذلك التحديد مدارس ومذاهب شتى، وأكثرهم لا يرون اسم العلم أو "الحقيقة العلمية" ينطبق – أصلا – إلا على نوع التنظير الطبيعي، فيجعلون العلم الزائف Pseudoscience هو القسيم الوحيد للعلم التجريبي! ومنهم من يفرق بين العلم Science (يقصد العلوم التجريبية) وما ليس بعلم non-science حتى لا ينفي القيمة المعرفية بالضرورة عن العلوم الأخرى (بخلاف العلوم الطبيعية)، ومنهم من يفرق داخل العلوم الطبيعية نفسها بين ما يسمى بالعلم القوي Hard Science / Solid Science (ويضربون له مثالا بعلم الكيمياء، لقوة الارتباط بين المشاهدة والتنظير)، والعلم الأقل قوة Soft Science (ويضربون له مثالا ببعض مجالات العلوم الإنسانية، وبعضهم يدخل فيه بعض العلوم الطبيعية كذلك)، إلى غير ذلك من مسالك، وأكثرهم يدخلون في مفهوم العلم الطبيعي Science قضايا هي على التحقيق من قضايا الغيب المحض، والصواب إخراجها من دائرة البحث الطبيعي، والواجب على الباحث المسلم أن يكون ملما بحدودها وحدود آلة البحث الطبيعي إلماما دقيقا (من جهة التأصيل الفلسفي) حتى لا تصبح سائر الدعاوى الاتفاقية عند الطبيعيين كلها في نظره "حقائق علمية" لمجرد أنها النظرية السائدة أو النموذج المعتمد حاليا في هذا العلم أو ذاك!
أما قولك هذا:
إلا إذا كان هذا (التحديد) عندك هو التمييز بين (العلم) الذي هو مقيد (بحسم) بما قاله السلف – بعد القرآن والسنة طبعاً –، و(الاعلم) والذي يشمل أي زعم علمي طبيعي وراء ما قاله السلف، مهما كانت أدلته!. وإذا كان ذلك كذلك، فالعلوم الطبيعية عندك من (اللاعلم)، ومن ثم يصبح (تحديدك your demarcation) تسفيه العلوم الطبيعية جملة واحدة، والذي وصفته أعلى بخلوه من أي "حقيقة علمية". ... والخلاصة أن عبارتك تؤول بالفعل إلى (تسفيه العلم الحديث جملة واحدة) .. حتى ولو اعترضت شخصياً. !!! .. وبعبارة أخرى ... أي قارئ لكلامك – وخاصة الشباب – سيفهم هذا، ويكون ذلك فتنة لهم، تصدهم عن الثقة بالعلم، مهما قامت عليه الأدلة!!! .. وبدلاً من أن يقتحم لجة العلم، ويتأهل للتحدي، ينزوي في مسجد يحفظ المتون، وينتظر ملائكة السماء تأتي لنصرته!!!
فتهكم سخيف لا ألتفت إليه! والفتنة إنما يقع فيها من لا يقيم وزنا لإجماعات السلف في فهم كلام ربهم، لا من يدعوهم لبناء أصولهم الفلسفية على منهج صحيح محكم، يفترق فيه موضوع العلم الطبيعي والتجريبي عما وراء الطبيعة نفسها وأسبابها ونواميسها!
أما قولك:
كلام مقصود لمعناه، لأني أعني هنا بكلمة "نظرية" كل تنظير، سواء امتد ليشمل صناعة علمية (باصطلاحك) discipline أو ذرياً ليقتصر على فكرة صغيرة ضمن نظرية أكبر. بمعنى أن أتعمد الإجمال، لأني أضع قاعدة عامة وهي وجود الحق والباطل من حيث المبدأ في كل فكر إنساني (تنظيري). وما يؤكد كلامي أني أتيت بأمثلة تنظيرية ذرية (أن الأرض تدور حول محورٍ لها)، و(أن الكواكب لا يمكن أن تتناثر وتقع على الأرض). إذا أن الصنعة العلمية discipline نظامٌ معقد من تنظيرات ذرية. والحكم الواحد المجمل على صناعة علميةٍ ما، يجب أن يمر أولاً على دقائقها التنظيرية الذرية (أقصد مقولاتها) لا أن يتجاوزها ليصدر حكماً مُجملاً يطيح بالحق في دقائقها، إذا أراد نسف الصنعة، أو يثبت الباطل إذا أراد نصرة الصنعة. .. ومن ثم .. لا ينبغي الاحتجاج على مرادي الاحتجاجي لأنه مقصود، ويؤدي الغرض المفهومي الذي صيغ من أجله.

فيا أخي والله ما رأيت مثلك تكلفا في الرد والجدال، ولا حول ولا قوة إلالله! من من الفلاسفة والعلماء قبلك سوى في الاصطلاح بين الصناعة العلمية Discipline ومطلق "التنظير" على نحو ما تكلفته أنت هنا، حتى تخرج نفسك من دعوى وقوع الإجمال في بعض كلامك؟ وكيف لي أنا أن أفهم أنك تريد "بالنظرية" (وهي مصطلح معروف مفهوم عند أهل العلم والنظر) مطلق التنظير (الذي مددته حتى يشمل تأسيس الصناعات العلمية كلها)؟ وكيف لا تكون تلك التسوية في نفسها التي أعجزتني أنا - على الأقل - عن فهم مرادك على وجهه الصحيح = إجمالا لا يحمد لك عند الجدال والخصومة؟

أما قولك:
" والحكم الواحد المجمل على صناعة علميةٍ ما، يجب أن يمر أولاً على دقائقها التنظيرية الذرية (أقصد مقولاتها) لا أن يتجاوزها ليصدر حكماً مُجملاً يطيح بالحق في دقائقها"

فلست أسلم لك به! لأن النظرية الطبيعية التي يخصص لها فرع علمي كامل Sub-discipline، لو صح الاعتراض الفلسفي الكلي على أصولها ومقدماتها الفلسفية، فإنها تسقط ويسقط معها ذلك الفرع العلمي بأكمله لقيامه عليها، دون التفات إلى تفاصيل ما جاء به الباحثون في أبحاثهم في ذلك الفرع العلمي! وهذه قضية منطقية مدارها على الربط بين الأصل والفروع، فإن ثبت التفرع، سقط الفرع بسقوط الأصل! وأكرر: إن ثبت التفرع، وإلا فلا جدال في أن الأصل أن كل دعوى معرفية تنظر بحسبها.

فإن قلت: التنظيرات الذرية (أقصد التي لا تتفكك لما دونها من تنظيرات) لا تحتمل إلا حق أو باطل، ولا تداخل فيها بينهما.

قلت: من المقبول إجمالا أن تخترع مصطلحاتك الخاصة عند الجدال، ولا إشكال عندي في ذلك، ولكن بشرط أن يوافقك خصمك على المقصود منها دون التباس، وإلا كانت المناظرة ضربا من العبث! فأولا ما معنى تعبير "التنظيرات الذرية" هذا؟ وما معنى "لا تتفكك لما دونها من تنظيرات"؟ ما هي وحدة التكرار التي جمعها "تنظيرات" هذه وما نوعها وما حقيقتها، وكيف لا تدرك جريان التنظير الطبيعي على أصول (نماذج كلية) وفروع جزئية تخدم تلك النماذج، وما حكمك على ما تسميه "بالذرات التنظيرية" إن حكمنا بسقوط النموذج النظري الذي تتفرع عنه، أو الأصل الفلسفي الكلي الذي تقوم عليه (معرفيا)؟ أما كلامك عن مسألة دوران الأرض فسأعقب عليه بإيجاز لأني لو خضت معك فيه هنا لانفرط عقد الجدال (فوق انفراطه) إلى محض الشتات ولن نصل إلى شيء!
ومهما تهكمت أنت أو استهزأت فأنا متمسك بأنه لا وجه في العقل المجرد (وأكرر العقل، وليس نموذج النسبية الرياضي مثلا، الذي جعل من سرعة الضوء حدا أقصى) للمنع من القول بأن جميع ما يرصده الراصدون حول الأرض هو الذي يدور في الحقيقة بالنسبة إلى حدود الكون مع ثبات الأرض، وليس العكس! فبعيدا عن النماذج الرياضية المعتمدة حاليا في توصيف الكون وحركة أجرامه، فما يمنعه النموذج الرياضي لا يلزم أن يكون ممتنعا في العقل، وما يجيزه لا يلزم أن يكون جائزا في العقل، وهي قضية تعرف عند الفلاسفة بالإجمال الرياض Mathematical Ambiguity وأنصحك بالقراءة فيها! فالفرق بين النموذجين الهليوسنتريك والجيوسنتريك إنما هو قرار رياضي حر Arbitrary mathematical decision في اختيار مركز الحركة النسبية الذي يعامل معاملة الثبات، وقد ثبت أنه الأسهل في النمذجة والتنظير، ولكن لا دليل في مجرد ذلك لإثبات أو نفي الحركة الحقيقة أو الثبات الحقيقي بالنسبة إلى حدود الكون لا لجرم الأرض ولا للشمس ولا لغيرهما من الأجرام المنظورة! والمسألة أدق – فلسفيا – وأطول ذيلا من أن أطالب بالخوض فيها ها هنا! فدعنا من هذا رجاءً حتى لا يغرق النقاش في بحر لا ساحل له!
والذي يبدو لي أنك لم تفهم كلامي الذي اعترضتُ به على منهج التفسير العلمي على وجهه الصحيح، فبدا لك أني أثبته وأنفيه في آن، مع أن الأمر ليس كذلك يقينا! وأرجو أن تترك ما سواه الآن وتركز معي فيه لأنه – كما سبق أن ذكرت من قبل – هو أقرب القضايا التي رمينا فيها بسهامنا ها هنا لتخصص هذا الملتقى. أقول وبالله التوفيق: أنا لا أمنع من إسقاط القول الباطل من أقوال المفسرين إن ثبت بطلانه بالحجة القطعية (كمعارضته بالمشاهدة المباشرة السالمة من وجوه التأويل)! فآحاد أقوال السلف ليست معصومة وإنما العصمة لإجماعهم، ولهذا فأنا أمنع من إسقاط فهم جميع السلف والسابقين بما يظنه صاحبه حجة حسية قاطعة وليس كذلك في الحقيقة، كما وقعت أنت فيه بكلامك في مسألة اليوم السادس هذه! (ولعل في هذا جوابا لسؤالك عن قولي "الناس" وقولي "السلف" في بعض كلامي، فأنا أعتقد العصمة في إجماع السلف لا في آحاد أقوالهم، وهذا منهج أهل السنة والجماعة لا أحيد عنه طرفة عين).دعنا نتفق على أن الدليل التجريبي (إن سلمنا بكونه قطعيا لا مطعن عليه ولا احتمال لسقوطه) إما أن يأتي بموافقة قول من أقوال المفسرين، أو بمخالفة قول من أقوالهم. فإن جاء بمخالفته، فيقينا لن تجده هو القول الوحيد المأثور في تأويل النص، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة في فهم نصوص الوحي. وهو إذن مرجح معتبر في الرد والإسقاط، ووجه ذلك واضح ومفهوم عقلا ولا إشكال فيه.
أما عند الموافقة (أي عندما تكون المشاهدة التجريبية موافقة لقول من أقوال المفسرين) فهذا ما لا يظهر لي وجه اعتماده كمرجح من مرجحات التفسير عند القائلين بالتفسير العلمي! لذا سألتك سؤالا واضحا وأطلب منك جوابه بوضوح وبلا مراوغة، بارك الله فيك: إن كان لديك ثلاثة أقوال في تفسير آية من الآيات، (أ) و(ب) و(ج)، وجاءت المشاهدة القطعية (على الوصف السابق) بما ظاهره موافقة القول (أ)، موافقة صريحة دون تكلف أو تعسف أو تحميل اللغة ما لا تحتمله، فكيف تكون مجرد الموافقة مرجحا لكون (أ) هو مراد الله تعالى من هذه الآية، وما الدليل الكلي على هذا؟ يعني دعنا نسلم تنزلا بأن الانفجار المزعوم حق، فما الدليل على أن مراد الله تعالى من قوله "كانتا رتقا ففتقناهما" هو القول (أ) بأن السماء والأرض كانتا جسمين ففصل بينهما، وليس القول (ب) بأن المراد إنما هو تفتق السماء عن المطر والأرض عن النبات (مثلا)؟ على أي أساس كلي ذهبنا إلى ترجيح (أ) على (ب) في فهم المراد من الآية لمجرد أن كانت (أ) هي الأقرب (على التسليم بذلك أيضا) لما نراه حقيقة علمية طبيعية ثابتة؟ ما منطق الترجيح هنا وما مقدمته الأصولية؟ لست أسألك طلبا للجواب الآن وفورا، وإنما أدعوك لدراسة الأمر والتأمل فيه مليا تأمل مليا، وفقك الله. ولست أجد جوابا ولا قريبا منه لهذا السؤال في قولك هذا:
وأتساءل: وأي قيمة معرفية تلك التي وضعها الله تعالى في آدم (الإنسان) إن نفينا عنه قدرته عن التعبير عن فعل الأشياء، تعبيراً صادقاً، ... إن سعى هو (وأبناؤه) إلى ذلك ما يتطلبه السعي بأسبابه؟ .. أوليس هذا مما يلحق بقول الله تعالى " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ... قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "لا تقل لي إن هذا غير هذا، .. أو أن هذا النزال العلمي – بين آدم والملائكة - قد اختص به آدم وحده ... لا يا أخي العزيز ... هذا هو التميز الذي أهّل الله تعالى به آدم وبنيه لما خُلقوا له من مهام عملية .. فالخليفة " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " ليس آدم وحده، بل الإنسان.

كما لا أرى جوابا في قولك هذا:
هو نفسه الاستنكار الذي يمكن أن ينطق به ناطق، ويقول:ما الدليل على أن المعنى كيت وكيت هو مراد رب العالمين من كلامه في النص القرءاني؟إذا استنكر على تفسيرٍ ما للقرآن، يريد إسقاطه.ومثلما يُرد على الثاني بما تعلم من أصول التفسير، يرد على الأول بآليات الصياغة الوصفية والرياضية والتحقق والتنقيح المتتابع حتى يستوي الوصف على عوده. ولكل مقامٍ مقال.

أو قولك هذا:
والصحيح الواجب اتباعه هو في تحقيق المسألة، فإن عثر على تدليس فالشهادة باطلة والأصل: أن (مبدأ شهادة التجريبيات على ترجيح أقوال التفسير) صحيح.

هذا استدلال بمحل النزاع! سألتك عن الدليل على صحة الترجيح بموافقة التجريبيات (وهو ما سميته أنت بشهادة التجريب)، فحدثتني عن التدليس وكلام عجيب لا أدري ما علاقته بما نحن فيه، ثم عدت علي بتقرير أن الحقيقة العلمية إن ثبتت، جاز الترجيح بها، وأن هذا هو "الأصل"، فكأنك لم تفهم أني أسألك عن دليلك على صحة ذلك التأصيل نفسه! يا أخي المحترم، المفسر الذي يرجح مذهبا ما في التأويل باستعمال الأدلة اللغوية (مثلا) هذا يؤسس على قاعدة كلية مفادها وجوب دلالة اللفظ على معناه، وبالتالي دلالته على مراد صاحب الوحي من كلامه! وعندما يستعين بالمأثور من كلام الصحابة والسلف فهو يؤسس على قاعدة كلية مفادها ضرورة علو كعب الصحابة والتابعين (إجمالا) في فهم النص القرءاني لقرب عهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أدرى الناس وأعلمهم بمراد ربه من التنزيل. وعندما يفسر القرءان بالقرءان، فهو يؤسس على قاعدة كلية مفادها ضرورة زوال التشابه بإرجاع المتشابه من النص إلى المحكم، عملا بقوله تعالى: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)) الآية [آل عمران : 7] وهكذا .. جميع أصول التفسير المعتبرة عند الأولين تقوم على أصول كلية تفيد الدلالة (قطعية كانت أو ظنية) على مراد الله تعالى من كلامه. فما هو الأصل الكلي الذي يستصحبه صاحب التفسير العلمي، عندما يجعل من مجرد موافقة المشاهدة الحسية لقول من أقوال المفسرين في آية من الآيات = مرجحا لمعرفة مراد الله من تلك الآية، متجاوزا بذلك عامة مرجحات المفسرين في نفس الأمر، جاعلا منه مرجحا قاطعا للنزاع؟ ما الأصل الكلي الذي جاز به أن تكون تلك الموافقة مرجحا في نفسها، دع عنك أن تقدم على جميع ما سواها من أدلة المفسرين عند اختلافهم في التأويل، حتى يقطع به الخلاف قطعا؟ أدعوك للتروي في بحث تلك المسألة وتقليب النظر فيها، حسبة لله تعالى!
وتقول:لو مُنع التطبيب لأن بعض الأطباء يُخطئون، أو يُدَلِّسون على الناس بمعرفة الطب، لمات الناس من انعدام التداوي.
قلت: أكرر الرجاء بترك التهويلات والأقيسة البعيدة لأنها لا يعجز خصمك عن الإتيان بمثلها!

أما قولك:
بل إن هذا الكلام منك يؤكد ما قلته أنا أعلى من أن أي نظرية طبيعية فيها حق وباطل. ... وبتطبيق ذلك على كلامك، فيكون بطلان الأصل الفلسفي من الباطل، ويكون صدق المشاهدات التجريبية من الحق. وتكون النظرية قد جمعت بين الحق والباطل. وهنا يجب تمييز هذا من هذا، لا الحكم على جملتها (معطياتها ومخرجاتها) بالفساد، رغم صدق بعضه. .. وأقصد أن تصديق المشاهدات التجريبية فيما تخبر به شيء، وتكذيب أن تؤدي هذه المشاهدات إلى تلك المزاعم الفلسفية الفاسدة شيء آخر!

فيكشف عمق الخلاف المنهجي بيني وبينك! ما وجه قطعك بأن أي نظرية طبيعية (بهذا التعميم العجيب الذي لا يجرؤ عليه أحد من الطبيعيين المغرقين في العلموية Scientism والوضعية المادية والنحلية الطبيعية Naturalism) فيها ولابد حق وباطل؟! ألا يجوز في العقل عندك أن يكون بعض التنظير الطبيعي حقا كله أو باطلا كله؟ هذا الموقف منك من أعجب العجب، ولن يسعفك عليه الدليل الفلسفي مهما تكلفته، ولن تجد لك موافقا عليه له حتى في أشد الماديين غلوا في العلم الطبيعي كما أسلفت! والأعجب أنك فيما يبدو لا تفرق بين طبقات الاستدلال بالمشاهدات الحسية عند فلاسفة الطبيعييات المعاصرين، وتظن أن مجرد ادعاء أحدهم أنه شاهد في المعمل أو في المرصد ما يدعم نظريته (مع سلامة دعواه من الكذب والتدليس في وصف ما شاهده)، يعني ثبوتها ثبوتا نهائيا لا مطعن عليه! والدليل إطلاقك العبارة "تصديق المشاهدات فيما تخبر به"! المشاهدات لا "تخبر" يا أخي الكريم، هذا الإخبار لم يعد يجري بين أيدي الطبيعيين بهذه السهولة التي كان عليها الأمر في زمان نيوتن! المشاهدات التجريبية في علوم الفيزياء والفلك والكونيات المعاصرة (وكذا الأحياء والجيولوجيا) عامتها يعتضد بها من خلال التفسير والتأويل الأوفق على طريقة hypothetico-deductive confirmation ومذهب هيمبل وما في سلكهما من مذاهب معاصرة، لدعم الفرضية النظرية المعتمدة (كنموذج نظري)، مع جواز أن تكون الفرضية النظرية هذه في الحقيقة دعوى ميتافزيقية صرفة (كنظرية الأوتار الفائقة مثلا، أو نموذج الانفجار الكبير، أو نظرية نشأة أولى الخلايا الحية على سطح الأرض عند أصحاب مباحث abiogenesis أو نحو ذلك)! بل أقول إن مطلق "التجريب" تنظير من حيث المبدأ، لأنه يقوم على افتراض نظري لوجه الدلالة في مشاهدة معينة تصمم تجربة معينة (بخطوات منطقية فلسفية) لاستخراجها عمليا، ثم القول بأنها إن ظهرت فهي تدعم تصورا نظريا معينا من ذلك الوجه الظني الصرف.فيا أخي الفاضل، لا يعيبك الاعتراف بحاجتك إلى مزيد من البحث والدراسة في قضايا فلسفة العلوم الطبيعية المعاصرة، حتى لا يصدر عنك تأصيل مجمل مردود كهذا الذي سطرته في قولك:
وعليه، يجب تصديق المشاهدات التجريبية في ذاتها، وتكذيب ما يُدّعى أنه أصل فلسفي لها
فلا أقبل منك قولك "المشاهدات التجريبية في ذاتها"، لا سيما فيما نحن فيه من باب غيبي اقتحمه الطبيعيون الماديون دفعا بالصدر، وتأسيسا على دهريتهم الصرفة! ذلك أن مفهوم المشاهدة التجريبية في العمل التنظيري الطبيعي بعموم لم يعد بهذه الصورة المباشرة السهلة التي تتصورها! المشاهدات التجريبية (فيما خلا القوانين الكلاسيكية) إنما هي – في نفسها - ضرب من التنظير كما تقدم، كتأويل هابل لظاهرة الانحراف الأحمر (مثلا)، وتأويل الارتقائيين لتشابه بعض المستحاثات الحرفية في الطبقات المتقاربة، فمن قبل تلك التأويلات النظرية لزمه – على الفور - التسليم بسائر المقدمات الفلسفية التي تقوم عليها، وهذا لا يماري فيه من له أدنى اطلاع على فلسفة العلم الطبيعي، أو مر من قبل بشيء من علوم الآلة وأصول النظر في العلوم الطبيعية أو غيرها!
وهو باب من أبواب الفلسفة المعاصرة أراه – مع التأسيس على معتقد أهل السنة والجماعة ومنهجهم المعصوم – مما يجب على المشتغلين بالعلوم الطبيعية والتأليف فيها أن يدرسوه دراسة منهجية، حتى يميزوا مراتب التنظير والاستدلال بالمشاهدات والتجارب في علوم الطبيعيين على اختلاف موضوعاتها، ويميزوا حدود النظر الطبيعي والتجريبي وما يصح طرحه للطريقة الطبيعية (منهجيا) وما لا يصح، ولا يخرج أحدهم علينا بالكلام فيما "يجب" (هكذا) على الباحثين والدارسين، فيعمم حيث ينبغي التخصيص، أو يخصص حيث ينبغي التعميم، ولا ينتبه لما في تعبيراته من إجمالات قاتلة! فلا عذر لك عندي في توهينك وتحقيرك لصنعة فلسفة العلم الطبيعي جملة واحدة بنحو قولك:وربما يكون السبب أنك تتناول المسائل من زاوية فلسفة العلوم، فتتلون كل مفردة بالعديد من الألوان عند المتفلسفة، أما أنا فأتناولها من زاوية النظر العلمية، وأقصد من اصطلاحاتي ومفرداتي الشائع من المعانى العلمية دون الفلسفي الشامل ربما لمبهمات من المعاني تذهب إليها أذهان المتفلسفة.

وأما قولك:
ولكنك تعلم أن هذا الذي يسميه فلاسفة العلوم "إشكالات فلسفية" يطال كل شيء بما فيه الإقرار بالخالق .. ولو ذهبنا وراء كل "إشكالات فلسفية" لسقطت كل بدهيات العقول، ناهيك عن الإيمان بالخالق .. والخلاصة أن عبارة "إشكالات فلسفية" مطية كل مُشكك، ... حتى أنها أصبحت دلالة على فراغ جعبة المشكك من أي حجة إلاّ محض التشكيك.

فأقول أخوك ولله الحمد ليس حدثا في الفلسفة حتى يخفى عليه الفرق بين ما هو سفسطة محضة وجدال في البدهيات والقطعيات، وبين ما هو إشكال قريب المأخذ دقيق المدخل، وما هو اعتراض جدير بالنظر! ولنا ولله الحمد خبرة في تدريس فلسفة العلوم وفلسفة التفكير النقدي في الجامعة لطلبة الدراسات العليا المتخصصين في بعض العلوم التجريبية، فلا داعي لمثل هذا الكلام!

ولو أنك بذلت من الدراسة والبحث في تلك البابة ما يلزم، لأدركت أن الحدّ الفاصل بين كثير من العلوم الطبيعية المعاصرة وبين "الفلسفة" (بهذا الاطلاق) هو في واقع الأمر أوهى من خيط العنكبوت! ولو شئت أن أخرج لك من مبهمات المعاني التي تذهب إليها أذهان الطبيعيين في تأويلهم لمعادلات ميكانيكا الكم أو النسبية العامة (في كثير مما يتلقفه العوام من أصحاب العلوم الطبيعية على أنه حقائق علمية ثابتة بالتجريب والمشاهدة) لأثقلت هذا الشريط بما لا أول له ولا آخر مما لا حقيقة له إلا "الإبهام الذي تذهب إليه أذهان المتفلسفة"! فلو شئت أن آتيك من تصانيف علماء الفيزياء المعاصرين (الماديين الوضعيين عقيدة ومنهجا) ما يشهدون فيه – بألستتهم – على أبواب من التنظير الحديث في العلم الفيزياء بأنه قد آل في مجمله إلى التفلسف الميتافزيقي، لفعلت وبسهولة، ولكن لا الوقت ولا المكان يتسعان!

أما قولك:
فأقول أن التناقض ظاهر فيه! ... كيف تقر بعلمية مصدر ما، وهو الإقرار الذي يرفع من قيمته كمصدر علم معتبر، ثم تستنكر اعتباره مستند لترجيح اختلاف المفسرين في نفس موضوعه؟! ... إن موضوعية العالم ألا يتحيز أمام مصادر العلم، فينتقي منها ما شاء ويدع ما شاء. وقتما شاء ... وإذا أقر المجتهد بالثقة في علم ما، أصبح ملزماً بنتائجه، ولو لم يكن الأمر كذلك، لسقطت المصداقية، ولسقطت قيمة الاحتجاج بين المتحاجّين على حجج لا توظّف!!! .. بل، ربما أنه يُدخل صاحبه في مقت الله تعالى حين قال سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"(الصف)

فما عدت أدري والله كيف تفهم عني كلامي؟ أرجو أن يكون المعنى قد اتضح لك بما تقدم تفصيله عند تكرار طرح السؤال في أصل التفسير العلمي، والفرق الذي بينته لك بين حجية المشاهدة القطعية في النفي عند التعارض، وحجيتها المزعومة في الترجيح عند الموافقة (إن صحت)، فإن لم يكن قد اتضح فسلني أعاود البيان والتوضيح، رحمك الله. ولا يصح إجمال الحكم على "مصدر ما" بأنه "علمي" بما يقتضي قبول كل ما فيه (كما أراك تلزمني به هنا)، إلا أن يكون ذلك المصدر كتابا منزلا من السماء قد ثبتت صحة نسبته إلى رب العالمين، فلا نؤمن ببعضه ونكفر ببعض، وإنما نقبله كافة وجوبا! وقضية قبول بعض مباحث الصناعة العلمية ورد بعضها الآخر أو قبول الكل ورد الكل هذه واحدة (في ميزان المنطق المجرد)، وقضية النظر في وجه حجية ما عند أصحاب هذا الصنف من العلوم أو ذاك في الترجيح بين أقوال المفسرين هذه قضية أخرى تامة الانفكاك! فلا يلزمني من مجرد القول بحجية ما صح من أبحاث الكيميائيين – مثلا - أن أعتمد تلك الأبحاث مستندا (نوعيا) في ترجيح أقوال المفسرين في نصوص القرءان! الجهة منفكة بين القضيتين!

أما قولك:
وهذا الذي ذكرت لا يتطلب السير في الأرض. بل كل إنسان في محله يعلم ما تخرجه بطون الأمهات، وما تنبه الأرض من مزروعات. أي أنه الآية بتمامها "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" صريحة ومستساغة بشدة في حثها على الجمع بين السير والنظر البحثي (كيف) .. وهذا لا يكون إلا بالتنقيب في الأرض على علامات بدأ الخلق، وقد جاء عن قتادة أن (الخلق) في هذه الآية هو [خلق السموات والأرض]، وأراها مستساغة أكثر ما تكون في النظر الكيفي في بيئات الأرض وطبقاتها وأغوارها، وطبائع المخلوقات وهيئاتها، ... ويوازيها – لأن الآية كانت مثال واحد من مثلها – " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ، و " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) " .. وهل هذا إلا بحث شرعي في البيولوجي والكوزمولوجي والجيولوجي والطبوجرافي على التوالي ... أم أن هذه المباحث أصبحت كافرة لأن روادها كذلك ؟؟؟ .. فأصبحت عند الموحدين طاهري الدين مما يُستنكر البحث فيه ؟!

فأكرر النصيحة والرجاء بترك التهاويل على طريقة "أصحابها كافرين" وعلموم الكفار وهذه الأشياء، فأنا يا أخي لا صبر لي على هذا الأسلوب، هداك الله وأصلح حالك! قلتها من قبل وأقولها من جديد (وأعلم أنني لست أول من نصحك بها): أنت مغرق في التكلف وتحميل النصوص ما لا تحتمل! فلفظة "كيف" هنا لا يمكن أن تكون بمعنى بيان الأسباب التفصيلية التي بها خلق الله تلك الأشياء، وإلا فكيف تفهم دعاء إبراهيم عليه السلام: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [البقرة : 260]؟ هل طلب منه إبراهيم أن يؤتيه العلم بالأسباب القانونية لإحياء الموتى حتى يكون قادرا على إحيائهم متى يشاء بإعمال تلك الأسباب؟ أم طلب منه أن يشهد بعينيه شيئا ميتا يحييه الله تعالى ويقيمه من موته؟ وكيف تفهم لفظة "كيف" في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً)) [الفرقان : 45]؟ هل المقصود بها سؤال النبي عليه السلام عن مقدار علمه بفيزياء الضوء أو جيولوجيا الشمس وكيفية خروج الضياء من جرمها مثلا؟ يا أخي افهم القرءان على لسان أول المخاطبين به، وعلى المتبادر إلى أذهانهم، تسلم – إن شاء الله – من تحميل كلام الله ما لا يحتمل (لغة)!وقد سبق وبينت لك أن في آية الأعراف (قل سيروا في الأرض .. الآية) حجة (فيما يتعلق بالبعث الأخروي) لا يمكن أن تقوم على سائر المخاطبين بالقرءان في كل زمان ومكان لو كان المراد تكليف الناس بالبحث الطبيعي حتى يتوصلوا إلى معرفة الطريقة التفصيلية التي خلق الله بها السماوات والأرض! ثم أسألك بالله ما المصلحة أو الثمرة الشرعية التي تفوت على المسلمين إن لم يبحثوا في الكيفية التفصيلية التي خلق الله بها السماوات والأرض وركب أجزاءها في بعضها البعض (أي فيما عدا ما جاءهم به النص)؟ أنا أجد في القدر الذي ذكره جل وعلا في نصوص الوحي كفاية، وإلا فلو كان ينقصنا في تلك البابة الغيبية (وأكرر الغيبية، أي التي لا يصح أن يوصل إلى معرفتها بقياس الغائب منها على المشاهد من أمر الكون حاليا) شيء من التفصيل – كمسلمين عقلاء - لما سكت عنه النص! وأنت ترى أن قرون المسلمين لم يشرع منهم أحد في اتخاذ هذا النص ونحوه بمنزلة التكليف المباشر للبحث في كيفية خلق السماوات والأرض بالتفصيل الطبيعي والتنظير التجريبي، إلا في القرنين الأخيرين، فهل هلكت سائر القرون السابقة على ضلالة في تكليف رباني فاتهم بالكلية ولم يعقلوه من نصوص الوحي؟ هذا لعمر الله تنقص من الغاية التي من أجلها نزل الوحي أصلا، ألا وهي هداية الأولين والآخرين أجمعين! أنت تتساءل كيف أحاججك بتجهيل الأولين في مثل هذا، فاصبر وتأمل وتجرد، تفهم إن شاء الله وجه الحجاج بتجهيل الأولين. فأنا كنت وما زلت ألزمك بسبيل الأولين فيما أجمعوا عليه (وأكرر ما أجمعوا عليه، والشذوذ التام عن جميع ما قالوا به من أقوال في فهم النص = شذوذ عما أجمعوا عليه)، فمن فارقه فقد دخل في قوله تعالى: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)) [النساء : 115]. هذا منهجي الذي لا أتنازل عنه طرفة عين، فإن لم نتفق عليه فلا أبالي أتفقنا أم اختلفنا فيما سواه من مثارات النزاع بيننا في هذا الشريط، والله المستعان.

وأراك تقول:
وجدير بالذكر هنا أيضاً أن أوضح أن منهجي كالآتي: (على الترتيب الداخلي)في (العقائد والوصايا والرقائق): [القرآن والسنة والسلف والإجماع]وفي (الأحكام الشرعية): [القرآن والسنة والقياس والإجماع وقول الصحابي]وفي (الآيات الكونية): [القرآن والسنة والتجربة الحسية والسلف]

فأعجب أشد العجب من تقديمك القياس على الإجماع في الأحكام الشرعية، لكن ليس هذا موضوعنا! وإنما موضوعنا أنك تفرق فيما تسميه "بالآيات الكونية" بين "الإجماع" وما سميته "بالسلف"، فما الفرق بينهما عندك، الذي على أساسه – أيضا - قدمت "السلف" على "الإجماع" في العقائد؟ ثم أهم من ذلك – وليتك حررت هذا الكلام في مستهل الجدال بيننا - : ما دليلك الكلي الأصولي على التفريق بين ما تسميه "بالآيات الكونية" في مصادر تلقي التأويل وبين العقائد والوصايا (ولا أدري ما هذا؟ فليس هذا من اصطلاح الأصوليين فيما أعلم!) والرقائق والأحكام وغير ذلك مما يستفاد من القرءان؟
أو بعبارة أخرى، كيف يكون ما تسميه "بالسلف" هو المصدر الرابع عندك في تأويل ما تسميه بالآيات الكونية، ثم يأتي بمنزلة المصدر الثالث المقدم على الإجماع (!!) في تأويل نصوص العقيدة؟ هذا منهج عجيب يا أخي والله لا أفهمه ولا أدري كيف اصطنعته لنفسك! فما أجدني إلا مضطرا لأن أسأسلك: هل سبق أن درست أصول الفقه وأصول التفسير دراسة نظامية؟

تقول:
فأقول أنك تتكلم عن السلف وكأنهم أنبياء قد أوحى إليهم، وأنا أتكلم عنهم باعتبارهم النخبة من المسلمين – وإذا تعلق الأمر بالمسائل الكونية الطبيعية في القرآن، فمعارفهم مقيدة بإطار ثقافة عصرهم. وإن تفوقوا بالمعرفة الغوية، فهذا حق، ولكنه لا يُمثل إلا بعض النصاب المعرفي الضروري لتعيين معاني الآيات الكونية. ولا يكتمل النصاب إلا بالوقوف على أسبابه ومباشرة شهاداته

إيش "لا يكتمل النصاب" و"الوقوف على أسبابه ومباشرة شهاداته" وهذه العبارات؟ بل ما معنى "المسائل الطبيعية في القرءان" ومتى كان القرءان كتاب طبيعة؟ يا أخي إن كنت قاصدا في هذا الجدال، فدع عنك الزخرف اللفظي وحدثني بمصطلح أهل العلم، بارك الله فيك، حتى لا يطول بنا الطريق في فك المبهمات وحل المجملات والمتشابهات! فقد أعييتني والله بطريقتك هذه، ولو رأيتني قد انقطعت عنك فاعلم أني قد ضاق وقتي وصدري وعيل صبري، والله المستعان! تقدم بيان الفرق بين القول بعصمة إجماع السلف والقول بعصمة آحادهم، فلا أكرر. وأقول – وانتبه - لا فرق عندي ولا عند إمام واحد من أئمة المسلمين في طرق معرفة (أو مصادر تلقي) مراد الله تعالى من كلامه بين نص جاء بخبر غيبي أو بخبر مما تسميه أنت "كوني" أو نحوه، وبين نص جاء بغير ذلك من مسائل الاعتقاد أو التكليف العملي أو الوعظ أو نحو ذلك، والبينة على من ادعى التفريق، وإلا فالشريعة لا تفرق بين المتساويات!

أما قولك
وأراك تُحمّل السلف فوق ما يحتملون عندما تقيد صحيح المعارف الكونية بما لم يكن عندهم موجب له. .......... لأن الله تعال أنزله للناس مهما علا شأن ثقافتهم وحتى قيام الساعة. .. ................الخ ....... الخ .. كيف نستشهد بالغائب الذي لم يسمع الشاهد، على الشاهد إذا حضر بنفسه؟!

فكلام خطابي لا طائل تحته. أي "معارف كونية صحيحة" هذه التي قيدتها أنا (بهذا الإجمال الأعمى والإطلاق المبهم) بما لم يكن عندهم "موجب له" (ولا أدري ما معنى "موجب له" هذه، لعلك تقصد: موجب لطلب تعلمه والسؤال عنه؟)! نحن نتكلم عن تأويل كلام الله في كتاب الله، لا عن علم الفلك أو الفيزياء! ثم أنت تعكس المسألة عندما تطالبنا "بالتجديد" في فهم القرءان بدعوى أن الله تعالى أنزله لجميع الثقافات! فالواجب على كل عاقل أن يشهد أولا بأن مراد الله من كلامه (في الخبر والتكليف على السواء) واحد ثابت لا يتغير بمرور الأزمان! فإن شهد بهذه المقدمة، وجب عليه أن يقرر أن الحق في مراد الله تعالى من كلامه يجب أن يكون ظاهرا لجميع المخاطبين في جميع العصور، وإلا قصر الكتاب عن الوفاء بمقصوده من هداية جميع المخاطبين به في كل زمان ومكان!
فإن ثبت أن البشر يتفاوتون في قدراتهم العقلية والفكرية (وهو حق معروف بالاستقراء المستفيض)، وجب أن يكون خطاب القرءان مناسبا لأدناهم عقلا وعلما (الأميين منهم) كما يناسب أعلاهم، وأن يكون المراد من الخطاب واصلا إليهم كما إلى المثقفين والعلماء والخاصة، كلهم يفهمونه حق الفهم، بمجرد أن يضبطوا لسانهم على لسان المخاطبين الأوائل، أو ينقل إليهم معناه بألسنتهم، وإلا قصر الكتاب عن الوفاء بمقصود إيصال الهداية لجميع المخاطبين به! فهل لديك اعتراض على شيء من هذه القواعد الكلية الضرورية؟ أرجو أن يكون الاعتراض مشفوعا بالدليل بعيدا عن الكلام الخطابي والتهويل، وإلا فلن ألتفت إليه.

أما قولك:
فأنت نفسك تعلم أن النبي لم يفسر من القرآن إلا القليل، وهذا وحده كافٍ على أن بيان القرآن (أي جميع آياته) سيكون عبر الزمن

فأقول: كلا ليس هو كافيا ولا لازما ولا يصح! ما معنى "سيكون عبر الزمن" هذه أصلا؟ وما بالك تتكلم في العلم والفلسفة ولا ترى ما في عبارتك هذه من إجمال فاحش لا يعذر فيه من يخوض مثل خوضك في كلام الله؟ سبحان الله!
ثم أراك تتكئ على نفس الذريعة التي يتكئ عليها أكثر الإعجازيين في فتح باب الاختراع في تفسير كلام الله، فتقول:
ماذا أضاف الحرف (ر) في أول سورة الرعد (أ ل م ر) عن (أ ل م) فيما جاءت فيه من سور القرآن؟!أقول لك بكل حسم ... لا يعلم هذا أحد وحتى هذه اللحظة .. لا صحابي ولا من بعده ...
قلت: يا أخي قف حيث وقفوا وخض حيث خاضوا، ما الضير في ذلك؟ الحروف المتقطعة منهم من توقف في تأويلها وفوض العلم بها لله، ومنهم من تأولها على أقوال لعلك مررت بها، فوجب ألا يخرج الحق في ذلك (الذي هو مراد الله حقا) عن تلك المذاهب التي ذهبوا إليها، وإلا ضلت أمم من المسلمين وقرون طويلة عن مراد الله من بعض كلامه وهذا ممتنع! فلماذا يثقل على بعض الناس التسليم بهذه القاعدة الضرورية في حماية جناب القرءان والدين من الابتداع والضلالة؟ السبب أن بعضنا قد عظم في نفسه جدا ما تخصص فيه من علوم الطبيعة، فظن – من غلوه وإفراطه - أن حجة القرءان في زماننا لن تقوم إلا بإعادة النظر في تأويله حتى يوافق تلك العلوم، وإذن يصبح الواحد منهم مجددا في عين نفسه، أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولا يبقى ثم بدّ من توهين علوم الأولين ومعارفهم وادعاء أن الحق لم يبلغهم لقصورهم العلمي ولظروف معيشتهم وبداوتهم ... إلى آخر ذاك الهراء! هذه هي المشكلة حقا، ولن يراها إلا من تجرد.
أما قولك:
ببساطة .. لأن لهذا البيان موعد ... وهذا الموعد لما يأت بعد، ولا علاقة للسلف ولا للخلف حتى اللحظة بهذه الإجابة .. إلا أن يقولوا "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران:7) .. (أظن أن الرسالة وصلت
)
قلت: نعم وصلت، وحاصلها أن منهجك غلط! ولا متعلق لك في أثر قتادة، إلا كما تعلق الإعجازيون بأن الفتق هو الانفجار! فلا أرتاب في أن مراد قتادة على خلاف ما تريده أنت! والأمر واضح! فكأنه يظن أن مراد رب العالمين أن نتأمل في عظم السماوات والأرض، فنستحضر ما هو واجب عقلا من عظم أحداث خلقهما، حتى يتحصل لدينا اليقين بأنه سبحانه يعيد الخلق كما بدأه أول مرة! هذا معنى فطري بدهي صريح يخاطب به البشر في كل زمان ومكان فيعقلونه وتقوم عليهم حجته! أما أن يكون مراد قتادة أن في الآية تكليفا بدراسة تفاصيل أحداث خلق السماوات والأرض من طريق الاستقراء التجريبي، حتى نضع النظريات والفرضيات في تصورها، فهذا ما دونك إلى إثباته خرط القتاد!
أما قولك:
بل إنه إجماع على ما ظُنّ أنه مستحيل، وبحكم العادة والأعراف المعرفية، وليس الشرع، حتى لو أنكرته، وإذا كان في الإجماع دلائل على عدم عودته إلى الشرع، فلا عبرة به لأن الشرع (يقين وظن راجح) .. فمَن مِن الأسبقين إلا ويقطع باستحالة العلم بأسرار تركيب النجوم وأبعادها، وتاريخ الأرض وأغوارها .. إلخ.. ثم أصبح هذا المستحيل محققا .. وإذا أجمع فئة من الناس على استحالة العلم عبر اتخاذ أسباب العلم في زمنهم، حتى ولو كانوا أتقى الناس، فلا عبرة بكلامهم الذي لا ينطبق إلا على زمنهم فقط ... لأن العلم أصدق من أقوال الناس إلا إذا ارتبط كلامهم بمصدر إلهي واشتُقّ منه اشتقاقاً لازما ... ثم أن السلف لم يصرحوا بذلك .. بل إن المعاصرين هو الذين نسبوا إليهم هذا الإجماع الموهوم .. ولهذا سميته (إجماع سكوتي – بافتراض أنه إجماع جدلاً). والأصوب .. كما وصفت أنت مؤخراً .. أنه فهم ممتنع بحكم العادة... وليس (إجماعا عمليا معقودا عبر قرون الأمة) ... كما زعمت أنت أيضاً آنفا.

فلست أرى له تأثيرا على ما قررته أنا من التفريق بين الإجماع المنهجي (فيما يتعلق بالقضايا الغيبية) وما قد يزعمه بعض الأولين من إجماع فيما يتعلق بالممكنات العقلية المعتادة (معرفيا) في هذا الزمان أو ذاك. وظني أن فيما بينته آنفا تفريق واضح بين القضايا الاعتيادية الداخلة معرفتها من طريق الحس والمشاهدة في حيز الإمكان العقلي من جانب، والقضايا المغيبة تغييبا مطلقا بموجب العقل من الجانب الآخر، فلا أرى داعيا لزبر الصفحات المطولة في تكرار ما تقدم بيانه.

أما قولك:
هذا وقد علمت أن هناك من يأبى الاطلاع الجاد على هذه الروابط، أو يرفض الحجج الراجحة فيها، معتبراً أنها مرجوحة قبل أن يقرأها أو يُمعن فيها النظر! .. وقد اكتفى بما عنده من العلم!! ...رغم أنه يعلم أن القرآن لا يشبع منه العلماء!!! ..... فكيف شبع ؟! ... لا أدري !!! ..

فإن كنت تقصدني أنا، فقد سبق أن قررت لك قاعدة لا أحسبك تملك لها دفعا: أن الأصل الكلي إذا سقط، سقطت معه سائر فروعه ... ولن أزيد على ذلك!
وأما هذا:
وأقول له: ما علينا إلا البلاغ العلمي ببيناته، لا الفلسفي بجدلياته.
فلعله قد تبين للقارئ المدقق أنك بكل أسف لم تدرس ما تلزمك دراسته من قضايا منهجية وأصولية وفلسفية، حتى تنسب ما جئتك به في هذه المناظرة من دعاوى كلية إلى "جدليات الفلاسفة" تريد توهينها، ثم لا تقابلها إن فعلت إلا بألفظ مجملة لا زمام لها ولا خطام، كهذه التي سطرتها في الاقتباس أعلاه! وعليه، فأرجو أن تعذرني إن اكتفيت بهذا القدر من تلك المناظرة، لا سيما وقد بدا لي أن خلافنا المنهجي والأصولي أعمق مما يمكن دركه في مناقشة على صفحات المنتديات! ويبدو لي أني لو أردت الرد على ردك التالي فسأكون مطالبا بكتابة كتاب كامل في صفحات المنتدى! فالجدال بيننا يمتد ليصل إلى حقيقة "العلم" وحدوده وحقيقة فلسفة العلوم وموضوعاتها وجدوى دراستها، والفرق بين النظرية والحقيقة القطعية المنتهية، ومنهجية الاستدلال والنظر في الطبيعيات وحدودها والفرق بين الفيزيقي والميتافزيقي والفرق بين المشاهدة المباشرة وتأويل المشاهدة والفرق بين الإجماع وما تسميه إجمالا بالسلف، وبين الإجماع السكوتي والإجماع المنهجي العملي، والأساس العقلي الذي يقف عليه منهج التفسير العلمي عند القائلين به، والفرق بين القول بعصمة الفرد والقول بعصمة الإجماع ... إلى آخر ما تطرقنا إليه في مناظرتنا هذه من قضايا كلية ومنهجية تحتاج كل واحدة منها إلى دروس مطولة، لا إلى مداخلات مما ينشر على صفحات المنتديات!
وأراك – مع هذا كله – تتمسك بأن ما عندك "علم" وما عند خصمك "جدليات فلسفية"، فلا أحسب وقتي يتسع للمزيد من "الجدليات" فاعذرني، وفقني الله وإياك إلى سبيل الرشاد.
والسلام.
 
الرد على مداخلة # 15

الرد على مداخلة # 15

أخي العزيز:
رغم أني أوضحت في بداية المداخلة # 14، وقلت:

كنت آمل أن تمهلني لمتابعة التعليقات على مداخلة # 11 ومع ذلك سأرد سريعاً على مداخلة # 13

وهو التوضيح الذي يعني أني سأوجز تعليقاتي، ...إلا أن هذا التوضيح لم يفد شيئا!!! .. ورأيتك تعترض على كون التعليقات موجزة، ولكنها كافية للإفادة، فظننتها أنت أنها (مجملة) بتعبيرك. وكان هذا سبب مؤثر في معظم تعليقاتك التي استغربتها منك. ... وأرد عليها الآن:
___​

1- لما رأيتك تقول:
لفظة "الأسباب المادية" لفظة مجملة

أجبتك:
غير صحيح .. فالكتلة - مثلاً - سبب للتجاذب المادي، وهذا يكفي لمرادي هنا.

فرددت أنت على المثال السريع لـ (الأسباب المادية) وقلت:

كلا لا يكفي، ولو كان يكفي ما وصفت كلامك بالإجمال. نحن جدالنا فلسفي وأصولي صرف كما ترى، وكلامنا في المجمل يدور حول مشاهدات تأولها أصحاب العلوم الكونية على نحو مرفوض منهجيا لتناوله أحداثا ماورائية محضة (فيما أراه أنا على الأقل)، وأنت ما زلت تتكلم عما تسميه "بالسببية الصريحة"، وتضرب مثالا كلاسيكيا أنت تعلم كما أعلم أن بين منطق الاستدلال فيه والاستدلال فيما نحن بصدده كما بين المشرق والمغرب، وهذا يعرفه من كانت له دراسة في فلسفة العلم الطبيعي!

وكأنِّي أدافع عن: [أصحاب العلوم الكونية ... (الذين يتخذونها مطية) على نحو مرفوض منهجياً لتناول أحداثا ماورائية محضة]، بحسب قولك.
وهذا غير صحيح!!

فأنا أدافع فقط وبجلاء – ما وسعني الجهد - عن السببية الصريحة في الأحداث الكونية، وأن الاحتجاج بها في فهم كلام الله تعالى لا بأس به، بل هو مندوب إليه، بل إن التآزر بينها وبين كلام الله تعالى في فهم هذا الوجود هو السبيل الوحيد للتصور المتكامل، الأشبه بالحق. مثل القاضي الذي يجمع بين نصوص القانون ووقائع الأحداث. وبافتقاره لأي من المصدرين المعرفيين، لا بد أن يقع هذا القاضي المسكين في حيص بيص، لا يدري بما يحكم؟! .. أو علامَ يحكم؟! أما الماورائيات المحضة، فهي خارج نطاق العلم الفيزيقي السببي، ومن يستدل به على نفيها، كمن تُشير أنت إليهم أعلى، فهو مُدلّس، بل كذاب صريح الكذب، لأن العلة السببية المادية المباشرة بينهما منفكة.
أما إن كان استدلال المستدل بفلسفة العلم الطبيعي – بغير استصحاب الأسباب المادية الصريحة - إثباتاً أو نفياً، فهذا يصل بنا إلى
قولك:
نحن جدالنا فلسفي وأصولي صرف كما ترى

أقول: هو ليس كذلك (من جهتي)، بل هو عندي علمي وأصولي. وشتان بين الفلسفي والعلمي. فالعلمي وقائع مقننة، ومسارات واضحة، وهو ما تفتقر إليه الفلسفة (بما فيها الفلسفة العلمية). .. وما أثبتت الفلسفة وحفيدتها (الفلسفة العلمية) في عمرها المعهود شيئاً، وما دحضت دليلا، وأقصى ما تصل إليه هو إشاعة التشكيك بين أنصاف المتعلمين، .. وربما يصل بها الأمر إلى التشكيك في الحواس، والذات المفكرة، بل وحتى وجود الكون.. هذا بخلاف أنها لا تقيم برهاناً ولا تفند على الحقيقة أصلاً علمياً طبيعياً، وما تملك من أدوات لذلك، وأقصى مساعيها أن تشكك العاقل في قدراته على الفهم، وتخترق جدر الثقة العقلية عنده، فيترك الحق زائغا، ويبقى الحق حقاً، ولا يُحرِم هذا المسكين - الواقع في حبائل الفلسفة العلمية - إلا نفسه، من العلم بهذا الحق، الذي هو حقيق في نفسه، أو عليه من الأدلة ما يكفيه ثقة.
ويؤكد كلامي قولك عني:

تضرب مثالا كلاسيكيا أنت تعلم كما أعلم أن بين منطق الاستدلال فيه والاستدلال فيما نحن بصدده كما بين المشرق والمغرب، وهذا يعرفه من كانت له دراسة في فلسفة العلم الطبيعي!

وبدلاً من أن تمدح تمسكي بالوقائع الحقيقية وأسبابها الصريحة، تحيلني – أو تستدرجني - إلى ما تفوح منه روائح سرابية من مطابخ فلسفة العلم الطبيعي، وتستنكر قبضي على أسباب العلم الصريحة. ... وبما أتوقع منه أن تقول لي في نهاية المطاف الفلسفي: أرأيت الآن أنك لا تقبض إلا عن سرابيات كمومية!! وزمنيات شبحية زائغة!! وكينونات زمكانية مائعة!! – هذا هو مفاهيم العلم عند الطبيعيين، سراب في سراب .... ويتحقق من ذلك التشكيك المُستهدف ... ثم تقول لي عندئذ ... لم يعد لديك إلا (الوحي) تثق فيه ... فُعُد إليه ، وربما أنك ستقرأ عليّ قول الله تعالى "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ". فتزعم أنه بذلك يترسخ الإيمان مكان الشك، الذي تكون قد زرعت أرضه ورويتها.

ولا أرى هذا المنهج – من أصحاب فلسفة العلوم، المستشهدون به في البناء الزائف، أو زملائهم الما بعد حداثيون في الهدم المُضَلِّل - إلا تلبيسا! .... فالأسباب المادية حق، والوقائع الطبيعية البرّاقة والرنانة في عيوننا وآذاننا، حق، .... وقد استشهد بها الله تعالى على صدق كلامه العلي، وقال سبحانه " فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "، .. حتى وإن جاء مغوارٌ من مغاوير فلسفة العلوم - من مدرسة كوبنهاجن؛ مؤيداً لها أو مُتَّكئاً عليها لهدم العلم ، وكلاهما على غير الحق عندي - ليقف أمام الله تعالى ويقول عن هذه الآية الكريمة " إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ": هذا مثال كلاسيكي ! .. نريد أمثلة كمومية احتمالية زمكانية (عبثية هزلية)!! .. ويظن عندها أنه يقيم حجة على الأسباب وفسادها، وما يفسد في الحقيقة إلا منهجه وسبيله ومآله، ... بخلاف من يُصدّقونه ويقعون فريسه في فبركات صياغاته، أو أسرى في تخييلات علمياته الموهومة !!

فلسفة العلوم المعاصرة - أخي الكريم - ليست إلا مرتع بقايا أشباه من أتباع الفلسفات القديمة، الذين يكثرون الكلام ولا يحسنون غيره، .. فبعد أن سحب العلم التجريبي المُنَمْذج رياضياً، البساط من تحت أرجلهم، انكشف منهجُهُم؛ خاوياً عن أي قيمة علمية، .. فلم يجدوا إلا أن يرتادوا موائد العلم المُنتصر، يلتقطون بقايا صحونها، وفتات وسقطات أهلها ... أو هم كمن يلتقطون الكرات الزائعة عن أهدافها وراء المرمى .. أو هم كنقاد مباريات الكرة، الذي إذا حاول أحدهم تسديد كرة واحدة، طاش حذاءه، أو انكسر كاحله، أو ارتطمت قنبلة برأسه فإذا هي الكرة التي أطلقها!...

لذلك لا تجد من العلماء العاملين من يهتم بفلسفة العلوم، إلا من كان صحاب فلسفة خاصة أراد أن يدعمها زوراً بالعلم، أو من تقاعد من ممارسة العلم، وفرغت جعبته من العطاء، فراح يرتاد مقاهي فلسفة العلوم، أو يتسكع في طرقات مدينة العلم، مخادعاً نفسه وغيره أنه ما زال من أهلها! .. أما العلماء الحقيقيون، فتجدهم في المعامل، والمراصد ومواقع التنقيب، ... وأدواتهم التحليلات الرياضية، والنمذجة المحوسبة، والتنبؤات المنقحة ... أما أصحاب الكلام .. فدعهم يلغون .. وما يسمع صدى أصواتهم إلا أنفسهم، أو المغرورون المخدوعون بهم، ... وإثمهم أنهم لا يعملون، وفقط يتكلمون، ناهيك عن أنهم لا يعلمون، أو يعلمون ولا حيلة لهم إلا تمضية الفراغ الزمني في فراغ علمي.

لكل ذلك أعيد وأكرر أن الأسباب المادية الصريحة كافية، ولا أرى قولك:

كلا لا يكفي، ولو كان يكفي ما وصفت كلامك بالإجمال.

إلا لتجد موطئ قدم لتضع فيه تشكيكات من النوع الذي أشرت إليه أعلى، .. ولكن هيهات، لست من أغرار طلاب العلم .. فلي في الفيزياء العملية والنظرية بخلاف اطلاعاتي الفلسفية قريباً من أربعين عاما، وأعلم تاريخها ومداخلها ومخارجها ... وأعلم كيف أدافع عن صحيح العلم فيها، وأين مواطن الضعف، وثغورها التي يمكن أن تُؤتى منها ... وأعلم تلبيسات المتفلسفة حولها ... وأوهام المنبهرين بها ... ونوايا المشككين في صحيحها ..

أما ذوي النوايا الطيبة، الذين يريدون ألا يزعجوا إخوانهم على متن السفينة، فيخرقوا خرقاً يصلون به إلى الماء، فلن أدعهم يغرقون سفينة العلم الصحيح، الذي هو شقيق الدين الصحيح، لأن هذين الشقيقين أصبحا جناحي الطائر الذي يريد السلامة، ومن أراد أحدهما فقط، وشكك بالآخر، فقد أراد التهلكة من حيث يظنها النجاة. وأقول لهم: احذروا! ..، فحسن نيتكم لن تمنعكم مني، ولن تبرئ ساحتكم بإظهار تهافتكم، وتخريبكم صارم الأسباب، وبهاء خلقها، .. متناسين أنها من جنود الله المسخرة.

___​
2- من يقرأ قولك:

إن كنت تصبر على الجدال الفلسفي يا أخي الكريم، فلنحرص على اجتناب المجملات والمتشابهات ما أمكن، وإلا فلا أظنك تحب أن أضيع وقتك أو تضيع أنت وقتي

يظن أن كلامي معك محشو بالإجمال، وتغشى ملامحه المتشابهات، بل الشبهات، وأن كلامي مريب وغامض ومشوش .... !
ولو علم القارئ أن هذه الدنيا التي تقيمها وتقعدها ليست إلا على اتهامك لي من قبل:

أنت تعاني من إجمال قاتل في تأصيلك
وقد فندته في تعقيباتي عليه،
أو نقدك لقولي "الأسباب المادية" وقولك عنها:

لفظة "الأسباب المادية" لفظة مجملة

ثم توضيحي إياها بمثال صريح، ..
لو علم القارئ كلامك هذا، لا بد أن يضرب كفاً على كفاً ، ويندهش !!، وربما يضحك بملء فيه ...
.. وماذا في قولي "الأسباب المادية" .. ؟
هل هي (لغز)؟! ... (متشابهات) .. مجملات .. ؟!

وإذا كانت كذلك، فأي من أصلاحات الفيزياء وفلسفتها سيبرأ من تهمة "الإجمال" عندك؟!
وأي ضابط ذلك الذي – تستخدمه في قاموسك الخاص- ويجعل من قولي "الأسباب المادية" كلام غير مجمل. .. وكيف أتفاهم معك، وأثق أن أي من كلامي اللاحق لن يكون متهماً بالإجمال عندك – رغم صراحته عندي - حتى أتّقي اتهامات غير مبررة – إلا بإجمال من الاتهام؟!!!
وعندما قلت لك بكل موضوعية:

إن ذهبت أنا أفصّل الغامض أو المجمل عليك سأكتب مئات الصفحات ... لذا آمل عدم تهوين كلامي بالانتقاص منه. وإن أردت توضيحاً سلني أجيبك

فقابلت موضوعيتي وتعاوني بما لا أتوقعه، وقلت:

بوسعي أن أقابلك بالمثل، وأقول "لا تطالبني بتفصيل ما أجمل عليك، وإلا كتبت لك مئات الصفحات"، فهل تحسبني تلميذا من تلامذتك أكتفي منك بالمجملات والمختصرات ثم أذهب أنا لأذاكر في كتبك ومقالاتك لعلي أفهم؟ ما هكذا يكون تناظر الأقران يا أخي الفاضل! ثم متى كانت المطالبة بالتفصيل واجتناب الإجمال في تلك القضايا المنهجية الدقيقة تنقصا أو تهوينا، يرحمك الله؟

ءأقول لك سأفصل لك ما توده من تفصيل بحسب طلبك لعدم الإطالة الزائدة، دون أي تلميح لتنقص أو تهوين كما توهمت أنت، وتقابله بقولك:

(لا تطالبني بتفصيل ما أجمل عليك) ....

وما علاقة الإجمال والتفصيل، المُقَيدان بالزمن وقابلية المتابعة، بالتلمذة والأستذة .. حتى تقول:

هل تحسبني تلميذا من تلامذتك أكتفي منك بالمجملات والمختصرات ثم أذهب أنا لأذاكر في كتبك ومقالاتك لعلي أفهم؟

رغم أني لم أطالبك بأن تذهب لتقرأ كتبي ومقالاتي لكي تعاتبني هكذا عليها – بل توبخني!!! ، في حين أنت الذي أحلت إلى كتاب غير متاح لي، وقلت أن إجابة - ما كنا بصدده - من مسألة محدودة، تقع فيه (أي: في دهاليزه)، وهو على ما أظن أربعمائة صفحة!! ... أتعاتبني على ما تفعله أنت!
هذه والله اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان ؟! ...

___​

3- أراك اتهمتني بالتناقض حين قلت:

...
كيف ترفض فردية الانفجار لقيامها عليه، ثم تستعمله هو نفسه في إعادة تأويل نصوص الخلق؟ أليس هذا من التناقض؟

فرددت عليك، وقلت (سريعاً - بما اقتضاه تعاقب مداخلاتك دون انتظار الرد على السابق منها):
ما وصلت إليه أنا بتحليلاتي التي أشرت إلى روابطها، يذهب بما تقوله هنا أدراج الرياح

وكنت أقصد (وأنت تعلم أني أقصد): تذهب باتهامك لي بالتناقض أدراج الرياح، أي تفند اتهامك. وكان أولى بك أن تقرأ تلك التحليلات، وتطعن إن شئت، لا أن تقف على (أدراج الرياح = التفنيد) وتستغربها.

ولكنك غضبت وقلت:

فما أسهل أن أقول: "وما وصلت إليه أنا في كتبي ومقالاتي التي ذكرتها في معرض كلامي وغيرها يذهب بما تقوله أنت في تحليلاتك أدراج الرياح"، فهل هذا مسلك من يرجو خيرا من مناظرة خصمه؟

أقول لك أخي في الله: .. لا تغضب، ودلني على دليل نقلي قاطع (من كلام الله أو سنة رسول) أو تجريبي (حسي/ كمي) واحد فقط (لا غبار عليه) أستطيع أن أصل إليه على النت مباشرةٌ – من إنتاجك أو غيرك - يذهب بأي من كلامي أدراج الرياح، وأكون لك من الشاكرين. وسبب الشكر أنك – لو فعلت – ستُخرجني من أوهام علمية ربما أغرق فيها، لو كانت بالفعل في أوهام. .. ولك عندئذ، ليس فقط الشكر، بل الشكر الجزيل، والامتنان الوفير. وأنا جاد في قولي هذا ولا أُماري .. بل أني شديد الجدية ... وأبحث عن الحق فعلاً في أمور كثيرة عالقة، وأدافع عما أجده من حق إلى آخر مدى، مثلما أني أفند ما أتيقن من فساده ، وأيضاً إلى آخر مدى ... (وسواء عندي إن كان صاحبه أحب إلى قلبي من دون الناس أو نقيض ذلك).

وإن لم أفعل ... فأي مصداقية أحترم بها نفسي إن كان كلامي لغواَ وأعلم ذلك !!! .. أما إن كنت لا أعلم .. فالمصيبة أكبر ... إنها مصيبة الضلال، أعاذني الله منها وإياك والقارئين.

ثم إني لم أحيلك إلى (كتب ومقالات) يصعب الوصول إليها، أو تمنع الموانع عن قراءتها، بل قلت (تحليلاتي التي أشرت إلى روابطها) .. وهذا أمر شديد اليسر. .. ولو قرأتها وأمعنت فيها النظر، لوجدت بالفعل أنها تذهب باتهامك لي بالتناقض، أدراج الرياح !!! .. أم تراني أُمرِّر اتهامك وهو عندي باطل، ولا أدافع عن محارمي العلمية؟! ... لا .. سأدافع بكل قوة .. وأهاجم بكل قوة .. وعليك أن تتحملني إن أردت الحق، ... وعليّ أن أتحملك بالمثل ... أم تراك ظننت أنك نزلت معتركا هيناً .. وخصماً لينا ؟! ... لا يا أخي العزيز: دع عنك هذا الظن! ... وأقولها صراحة ... لا أناظر أحداً – وأعلم أنه على غير الحق في مسألة – إلا وغرضي إقناعه، وإن لم يقتنع بدليلي، الذي لا بأس به، وهو أحسن مما سواه، فليس له عندي إلا الإفحام ... رضى من رضى، وغضب من غضب .. ثم أني أتوقع منه السلوك نفسه ، فأي غرابة إذاً؟! ... وقد أشرت في ردي على مداخلة # 11 إلى إساءات شخصية رأيتها في كلامك .. وألمحت إليها .. ومررت عليها مرور الكرام .. لأنها لا تضير حُججي، ولا تنال من عزيمتي، ولا من منطقي. بل ترتد عني في نهاية النزال، بعدما تتكشف الحقائق، وتضع أوزارها المعارك.

___​

4- قلت:
رأيت لك تأويلا متعسفا لمدلول التعقيب "ثم"


ولو رجعت إلى مصادري وتحليلاتي – وكلام من نقلت عنه من أهل العلم - لعلمت أخي العزيز أن "ثم" تأتي للترتيب الإخباري كما تأتي للترتيب الزمني، ويتعين بالسياق والقرائن بأي المعاني جاءت. فليس هناك تعسف كما ذكرت، ولم أبتدع غريباً عن كلام العرب!! ..
___​

5- قولك:

قولك هذا:
أننا في هذه الأثناء، ما زلنا في اللحظات الأخيرة من اليوم السادس
الذي أطلقته حتى تفتح به بابا لمطلق الاستعانة بالتنظير الطبيعي في تتبع أصل الكون،
يلزم منه أن الله لم يستو على العرش إلى الآن لأن اليوم السادس لما ينصرم بعد، فتأمل يرحمك الله!

لا يا أخي العزيز، استدلالك غير صحيح، وآتيك هنا بإلماحة يسيرة ..
ما رأيك بهذه العبارة: [انبعث المسلمون يفتحون الأرض في مائة سنة، ثم استتب لهم الأمر] ؟
هل تضطرنا (ثم) هنا، لفهم العبارة على أن الأمر لم يستتب لهم إلا بعد مائة عام؟! ....
بالطبع لا، ففي كل مرحلة من مراحل الفتح الإسلامي يستتب الأمر فيها، فيما يُنجز منها، وينتقلوا لما وراءها.
وكذلك قول الله تعالى [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ]
ففي كل مرحلة من مراحل الخلق يستتب للخالق الأمر على ما قدّر وخلق، دون أن يلزم عن ذلك ضرورة أن تنصرم الأيام الستة جميعا حتى يستتب الأمر وراءها جميعا.
مع ملاحظة أن السموات تتغير أبعادها وأحوالها عبر الأيام الستة، ولأن العرش يحيط بها، فلا غرابة أن يكون استواء الله تعالى على العرش (الذي يعلو محتوى كوني متنامي ومتتابع) يعني استتاب الأمر للخالق جل وعلا مع كل مرحلة تجري في عمق هذا العرش العظيم من أجرام وسموات.
آمل أن يكون المعنى قد اتضح، ويكون اعتراضك قد انفكت عُراه، ولا داعي لقول (ذهب أدراج الرياح) (ابتسامة)

[آمل الانتباه إلى أني أشرح بالمثال فقط معنى (ثم) في الآية، ولا أتأول استواء الله تعالى على العرش] ... حتى لا يخطئ أي من القراء ويظن ذلك. أو يتصيد الباحثون عن أي زلات ما يظنون أنهم قد عثروا عليه... فلينتبهوا

___​

6- أما عن قولك:

مسألة انتهاء أيام الخلق الستة وتمامها بالاستواء على العرش (قبل زمان سحيق) هي عندي محل إجماع وقطع لا أقبل فيه جدالا ولا مناظرة
والذي يقترن بما ذكرته أنت آنفاً، وقلت فيه:

امتناع النظر في ترتيب أيام الخلق التي جاء بها النص، أو تفصيل ما كان فيها من أحداث جاء النص بذكر بعضها، باستعمال الاطراد أو التنظير الفيزيائي أو أي طريقة من طرائق العلم الطبيعي، لأن القانون الطبيعي لم يكن له عمل

أقول – قولك هذا - للأسف غير صحيح عندي، ودليلي السريع على ذلك:

أن العلية الفيزيائية المطردة تتطال كل ذرة مادية في جرم الأرض (كالأكسجين الذي يجري في دمائنا) ، وما سواها من كل أنواع الذرات الباريونية - ومنذ لحظات تخلقها في قلوب النجوم المتتابعة، وقبل أن يوجد كوكب الأرض، والذي لم يكن له أن يتكون جرمه المُشاهد إلا من تلك الذرات. أي أن لحظة تخلق ذرة الأكسجين – على سبيل المثال - كان قبل تخلُّق الأرض، أي أنها لحظة في عمق أيام الخلق، (تذكر أن الأرض وأقواتها تطلبت أربعة أيام من الخلق)، ومع ذلك تتحكم في ذرة الأكسجين الأولى التي خلقت في عمق أيام الخلق الستة - وما وراءها وغيرها من ذرات - نفس القوانين التي نعلمها الآن (والناتجة عن التنظير الفيزيائي المحقق معملياً)... ألا يفند ذلك كلامك السابق، من امتناع تفصيل ما جاء في أيام الخلق بالاطراد والتنظير الفيزيائي؟! ..

ثم يؤكد دليلي هذا أيضاً أن أيام الخلق قد امتدت لتشمل تكون جرم الأرض بما ينزل فيها من السماء من رواسي (حجارة) وتراكمها فيها وهي حارة مائعة حتى تتحول الأرض إلى جرم واحد متماسك بارد وصلب السطح، ثم ما يلحق ذلك من دحو الأرض ثم طحوها؟! ... .. وكل هذه التفاصيل تجري أيضاً على اطراد وتنظير فيزيائي مما نعهد.

وكما جرت سيرورة الخلق على هذه الأرض، فإنها تجري الآن وفي هذه الأثناء، وأمام ناظرينا، في تخليق كواكب مثيلة ... .. ألا يعني ذلك أن الخلق الكوني ما زال مستمر، وأنه لم يتوقف عند ذلك الحد السحيق (المتوهم) الذي أشرت أنت إليه! - وتقصد منه لحظة نهاية اليوم السادس - والذي ظننت أن قوانين الفيزياء الكونية بدأت العمل فقط اعتباراً منه وليس قبله؟!

... ما رأيك في هذا التفنيد ..؟

وليس أمامك من وسيلة لدحض هذا التفسير الأخير إلا أن تدحض جملة من قوانين الفيزياء، أهمها التخليق النووي لذرات العناصر Nucleosynthesis، وعلى الأقل، ما يجري منها في شمسنا. .. وبالله عليك، لو حاولت - فلا تستعن في ذلك بفلسفة العلوم، فإنها لن تغني عنك شيئا، (أقصد لن تسعفك - حتى لا تسيء ظني بمعاني الألفاظ) .. فأصحابها عاطلون عن العمل (أقصد العمل العلمي العملي المثمر)، ولا هم لهم إلا القيل والقال، والثرثرة بـ (لو كان كذا في هذه النظرية لكان كذا) ..
أساليب العلم معروفة أخي العزيز، إذهب إلى أصول (التخليق النووي لذرات العناصر Nucleosynthesis) وفند أدلتهم بأساليب علمية على أن تخليق مادة الأرض، وكل أرضي، جرى وما زال يجري بسنن طبيعية يمكن تكرارها في المعامل، وعندها فقط، .. وفقط عندها يمكن أن تقول أنك دحضت حُجَّتي.
___​
مع تحياتي، واحتراماتي الحقيقية.

وانتظر ردي على مداخلتك # 32 - التي أكثرت فيها من التجريح الصريح (سامحك الله)
وآمل ملاحظة أن معدل التجريح الصريح يتناسب عكسياً مع القوة الحجاجية، وهذا أحد المؤشرات التقييمية في المناظرات.

وآمل ملاحظة أني سأبدأ بالرد على تلك المداخلة، وعلى مسألة واحدة لك فيها، وما أُسميِّه صراحةً - تهرب صريح من الإقرار بدوران الأرض حول نفسها - وذلك بعد أن أريتك دورانها المحقق من خلال الفيديو الذي أحلتك إليه من قبل. ولن أدع هذه المسألة إلى غيرها حتى تنتصر فيها أو أنتصر، ... وإذا لم تتهرب منها كما أتوقع، بكلام فلسفي، لا يصمد أمام نفخة واحدة من الدوامغ الفيزيائية، وانتهينا منها ... وما أظننا سننتهي ... سأرد على باقي ملاحظاتك في نفس المداخلة #32، لأن رددودي جاهزة، .. غير أن تلك المسألة حاسمة. . والضربة القاضية تغني عن آلاف النقاط.

فتجهز لها من الآن ... أو انسحب إن شئت .. ولو بأي حجة .. لتقليل الخسائر.

هداني الله وإياك، والقارئين.
 
أخي الكريم، سأنسحب من هذه المناظرة بعد مداخلتي هذه، للسبب الذي أشرت إليه في مشاركتي الآنفة، وسأزيده وضوحا في هذه المداخلة بعون الله تعالى. فمن أصول الجدل أن المناظرة إن كثرت فيها الإجمالات ومواطن سوء التحرير، وكثر التكرار من الطرفين وتفاقمت فيها الخلافات الأصولية والمنهجية الغائرة دون التفات من أحد الطرفين، لم يصح أن يواصل الخصمان الخوض فيها لفقدان الأرضية المشتركة وشتات القصد المعرفي، وهو ما يفضي في مجموعه إلى دخول الهوى وحظ النفس، وبالمجمل: غلبة المفسدة على المصلحة الشرعية.
وقد علمتني الخبرة أن مناظرات المنتديات - عموما - ضررها أكبر من نفعها، وما كنت أرجو بمشاركتي في هذا الشريط أن أجادل باحثا من الإعجازيين أو من لف لفهم، لأني أعلم أن اعتقادهم في صحة مسالكهم يبلغ عندهم أن يكون أصلا من أصول الملة، والله المستعان.
وفي ظني أن القارئ الفطن قد تبين له – بعد مداخلتي الأخيرة - أينا على منهج محرر محكم وفهم دقيق للبناء المعرفي لما يقال له "نظرية علمية" في العلوم الطبيعية المعاصرة، ولمسألة مصادر التلقي المعرفي في تأويل القرءان وأصول ما يسمى بالتفسير العلمي، وأينا كان ولا يزال مصرا على تجاهل مباحث وجهد النظار والفلاسفة في تأصيل طرائق الاستدلال وتقدير مراتبها في ذلك الشأن كله، بدعوى أن مباحث الفلسفة كلها عبث وهباء وسفسطة (وأسأله ها هنا بالمناسبة: هل يرى أصول الفقه وأصول التفسير من العبث والسفسطة كذلك؟ فهي أيضا تعد من مباحث التأصيل الكلي لضبط أبواب العلم الشرعي ومصادر التلقي المعرفي فيه! وقد حاججته في بعضها وبينت له تناقض منهجه فيها فلم يلتفت، ولم يزد على تكرار ما كان قد قاله من قبل!)، مصرا على التمسك بفهم عامي صرف لما يقال له فلسفة العلم الطبيعي ولما يقال له "المشاهدات التجريبية"، دع عنك الانفراد باختراع المصطلحات وضرب العبارات الرنانة المغرقة في التشابه، ككلامه عما يسميه هو "بالعلم الفزيقي السببي" (!) معتقدا أن كثرة الدندنة حول "العلم" و"السببية التامة" ودلالة المشاهدة القطعية ونحو ذلك من مجملات لا يريد الخوض في تفصيلها وضابط الحكم عليها بأنها "علم" أو غير ذلك = تأتي بثمرة تمرير مصنفاته ومقالاته للقراء على أنها هي محض العلم والحجة العلمية، معتبرا من يخالفه في مقصوده من الألفاظ "العلم" و"الفيزيقي" و"السببي" (فضلا عن تركيبه تلك الألفاظ على هذا النحو): متفلسفسا مسفسطا .. الخ!
يقول ويصر على التكرار (تشويشا على محل النزاع الكبير بيني وبينه في المنهج الكلي):
: هو ليس كذلك (من جهتي)، بل هو عندي علمي وأصولي. وشتان بين الفلسفي والعلمي. فالعلمي وقائع مقننة، ومسارات واضحة، وهو ما تفتقر إليه الفلسفة (بما فيها الفلسفة العلمية). .. وما أثبتت الفلسفة وحفيدتها (الفلسفة العلمية) في عمرها المعهود شيئاً، وما دحضت دليلا، وأقصى ما تصل إليه هو إشاعة التشكيك بين أنصاف المتعلمين، .. وربما يصل بها الأمر إلى التشكيك في الحواس، والذات المفكرة، بل وحتى وجود الكون ......... الخ..
يا أخ كزابر، مناظرتنا هذه فلسفية أصولية (نوعا) من أولها لآخرها رغم أنف سيادتك، بداية من مواضع النزاع ووصولا إلى مفردات الأدلة والبراهين، وطريقة بناء الرد على الدعوى وتحرير محل النزاع (الذي تأبى إلى الآن أن تدركه)، حتى كلامنا في أصول تأويل القرءان فهو كلام أصولي عقلي بالضرورة! فإن زعمت أن فقرك الظاهر في الصناعات العقلية والفلسفية لا يضيرك، فهذا من الجهل المركب أصلح الله حالنا وحالك!
الأخ يخوض في قضايا في غاية الدقة والخطورة، معتقدا أن علمه بما درسه في الفيزياء والفلك يكفيه ويجزئه، وهذا هو موطن المرض وبيت الداء الذي أغرق عامة الإعجازيين فيما غرقوا فيه! مع أنه لو اعترف بافتقراه إلى قدر ولو قليل من النظر في مباحث فلاسفة العلم الطبيعي (دع عنك أصول النظر في العلوم الشرعية التي أثبت بجلاء أنه عامي فيها)، وإلى التأمل – بتجرد – في منهجية الاستدلال بالتجريب والمشاهدة في بناء النماذج النظرية الطبيعية المعاصرة، لأدرك عظيم جنايته بهذا الكلام الذي كتبه آنفا! ولكن كما يقال: المرؤ عدو ما يجهل! الرجل لا يدري أصلا فيم أتكلم، وينسبني بكل سهولة إلى التشكيك في البدهيات والمسلمات، يطالبني بقبول كلياته المنهجية التي صرح ببعضها أخيرا بعد طول جدال، أقبلها قبول العميان بلا نقد، فمن انتقد فهو مسفسط لمجرد ذلك، يوشك أن يسقط العقل كله والعلم كله والسببية نفسها، فسبحان الله العظيم!
يقول متهكما – هداه الله وأنار بصيرته -:
وربما أنك ستقرأ عليّ قول الله تعالى "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ". فتزعم أنه بذلك يترسخ الإيمان مكان الشك، الذي تكون قد زرعت أرضه ورويتها.

مع أنه لو قرأ شيئا من كتابتي حيث أكتب، لعرف أني من أشد الناس عداوة للسفسطة والتشكيك في المسلمات وفي دلالة الأدلة المعتبرة على مدلولها، ومن أحرص الناس على تمييز العلم الصحيح من العلم الزائف، سواء كان علما طبيعيا أو إنسانيا أو غير ذلك! بل ولا أرى مشروعية مناظرة الملاحدة أصلا، لكونهم متلبيسن بأشد أنواع الهوى تمكنا من أركان النفس، فلا يبالون بإهدار مسلمات العقل وبدهياته الأولى نفسها، وهو ما ينخرم به الشرط الأول في علم الجدل والمناظرة كما يعرفه من درسه! فأي تشكيك في "أسباب العلم الصريحة" هذا الذي تنسبني إليه يا أخانا أصلح الله حالي وحالك، لمجرد أن طالبتك بإعادة النظر في قواعد كلية وتأصيلات منهجية قد سلمتَ بها مع أنها لا تقوم عندك على دليل صحيح؟!
وخواء حاصلته في الفلسفة والعلوم العقلية بعموم يشهد بها قوله:
ولا أرى هذا المنهج – من أصحاب فلسفة العلوم، المستشهدون به في البناء الزائف، أو زملائهم الما بعد حداثيون في الهدم المُضَلِّل - إلا تلبيسا!
فما بعد الحداثيين هؤلاء سوفسطائيون عند أكثر الفلاسفة المعاصرين، ولكنه لا يقرأ ولا يريد أن يقرأ! ولعله لا يدري أن تهمة "ما بعد الحداثة" قد رمى بها بعض أقرانه من الفيزيائيين (أمثال لي سمولين وغيره) زملاءهم (الفيزيائيين أيضا) لاشتغالهم ببعض نماذج التنظير في ميكانيكا الكم! فمن العجيب حقا أنه يطالبني بمدحه على تمسكه بما سماه "الوقائع الحقيقية وأسبابها الصريحة"، فإذا ما نبهته إلى خلل منهجي في استعمال النظم الطبيعية الجارية الآن للوصول إلى معرفة أحداث خلق السماوات والأرض، راح يتهمني بالسفسطة والتفلسف دون أن يتكلف ما يلزمه من دفع البرهان العقلي بمثله، إن كان يرجو الخروج من مناظرتنا هذه بثرة ما! وطفق يكثر علينا ويؤذينا بمثل قوله:
حتى وإن جاء مغوارٌ من مغاوير فلسفة العلوم - من مدرسة كوبنهاجن؛ مؤيداً لها أو مُتَّكئاً عليها لهدم العلم ، وكلاهما على غير الحق عندي - ليقف أمام الله تعالى ويقول عن هذه الآية الكريمة " إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ": هذا مثال كلاسيكي ! .. نريد أمثلة كمومية احتمالية زمكانية (عبثية هزلية)!! .. ويظن عندها أنه يقيم حجة على الأسباب وفسادها، وما يفسد في الحقيقة إلا منهجه وسبيله ومآله، ... بخلاف من يُصدّقونه ويقعون فريسه في فبركات صياغاته، أو أسرى في تخييلات علمياته الموهومة !!
ولا أدري ما دخل "تأويل كوبنهاغن" بما حوله من سياق الكلام، ومن هذا الذي سيقف أمام الله ليقول عن هذه الآية التي ساقها في كلامه إنها "مثال كلاسيكي" ومن هذا الذي يظن – بحسبه – أنه يقيم حجة على "الأسباب" (هكذا) وفسادها .، ومن هذا الذي "يفبرك" صياغات ويكتب "تخييلات علمية" موهومة .... ما هذا العبث؟؟
تشدقك بعبارات من مثل " وأدواتهم التحليلات الرياضية، والنمذجة المحوسبة، والتنبؤات المنقحة ... " لا ينهض لك بالجواب عما بيناه من خلل في أصولك، ولا يغني عنك شيئا! أنا أهاجم أصولك أنت الفلسفية والكلية التي تتناول بها نظريات العلم الطبيعي، ولا يلزم من ذلك الهجوم نسبة الخلل والفساد إلى مطلق الاستدلال بالرياضيات والمناذج الحاسبية ونحو ذلك، كما تود أنت أن توهم المغفلين والسذج من القراء، فلو كنت تقف على شيء ذي بال (منهجيا) لتركت ذاك التطبيل وتلك النثريات الجوفاء، ولأجبت عن الأسئلة الصريحة التي وجهتها إليك وكررتها المرة بعد المرة، جوابا يليق بمن تصدر للخوص في تلك المضايق!
وكذلك قوله:
فلسفة العلوم المعاصرة - أخي الكريم - ليست إلا مرتع بقايا أشباه من أتباع الفلسفات القديمة، الذين يكثرون الكلام ولا يحسنون غيره، .. فبعد أن سحب العلم التجريبي المُنَمْذج رياضياً، البساط من تحت أرجلهم، انكشف منهجُهُم؛ خاوياً عن أي قيمة علمية، .. فلم يجدوا إلا أن يرتادوا موائد العلم المُنتصر، يلتقطون بقايا صحونها، وفتات وسقطات أهلها ... أو هم كمن يلتقطون الكرات الزائعة عن أهدافها وراء المرمى .. أو هم كنقاد مباريات الكرة، الذي إذا حاول أحدهم تسديد كرة واحدة، طاش حذاءه، أو انكسر كاحله، أو ارتطمت قنبلة برأسه فإذا هي الكرة التي أطلقها
وقوله:
فالأسباب المادية حق، والوقائع الطبيعية البرّاقة والرنانة في عيوننا وآذاننا
وأقول: هذا التطبيل والتهويل والكلام الإنشائي الأجوف كل أحد يحسنه، ولا يفيده في شيء، ولا يكشف إلا عن فقره وفصوره في الإحاطة بما رفع عقيرته بنقده! لأنه يصر على أن من خالفه في مذهبه الفلسفي الطبيعي فقد هدم العلم كله جملة واحدة ولابد! وهو مذهب يرتكن فيه إلى مطلق جريان القبول العام بين الأكاديميين لنظرية من النظريات الفيزيائية أو الكونية حتى يعدها من الحقائق القطعية المنتهية، وحتى يخلع على تجاربها ومشاهداتها صفة القطع اليقيني والسببية المحققة والعلم التام .... إلى آخر عباراته الرنانة التي كشفنا للقارئ بحول الله وقوته أنها لا تنطوي إلا على الإجمال والاشتباه (وقد تبين لي أنه حتى لا يدري ما معنى المصطلح "إجمال" كما يجري استعماله بين أهل العلم والنظر!)، ولو أنه درس أو تأمل لأدرك أن مذهبه الفلسفي (وأكرر: الفلسفي!) فيه من التناقض والاختلاط ما فيه! وقد قررت من قبل أني لا أنكر مطلق دلالة الأسباب المادية وإفادتها العلم (على تفاوت في درجات الظن والقطع)، ولا يمكن أن ينكرها عاقل، ولكن ما طبيعة تلك الدلالة وما درجتها ومتى توصف تلك الدلالة بأنها علم قطعي منتهي؟ أسئلة لا يعبأ بالنظر في جوابها، ودراسة ما تكلم به المتخصصون فيها، ويصر على إجمال الكلام فيما يصفه بالأسباب المادية والوقائع الطبيعية والحقائق البراقة ونحو ذلك من خطابيات رنانة، فإن نوقش في تفصيل ذلك عنده استنكف وقال "رائحة الفلسفة" وعبث المتفلسفة وغير ذلك من تشدق لا وزن له!
يعني من سفسطة الفلاسفة عنده – مثلا - أن نرميه بالابتداع في تأويل الاستواء بمثل قوله:
وكذلك قول الله تعالى [خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ]
ففي كل مرحلة من مراحل الخلق يستتب للخالق الأمر على ما قدّر وخلق، دون أن يلزم عن ذلك ضرورة أن تنصرم الأيام الستة جميعا حتى يستتب الأمر وراءها جميعا.
مع ملاحظة أن السموات تتغير أبعادها وأحوالها عبر الأيام الستة، ولأن العرش يحيط بها، فلا غرابة أن يكون استواء الله تعالى على العرش (الذي يعلو محتوى كوني متنامي ومتتابع) يعني استتاب الأمر للخالق مع كل مرحلة تجري في عمق هذا العرش العظيم من أجرام وسموات.

فلأنه حريص على فتح باب الاستدلال بالمحسوس والمشاهد من الأسباب على أحداث خلق السماوات والأرض ونظامها السببي نفسه، لم يعبأ بتحميل معنى "ثم" هنا ما لا يحتمله ولم يسبقه إليه أحد في فهم هذا النص! ولو أنه درس العقيدة دراسة صحيحة لأدرك أنه سلك مسالك المتكلمين المعوجة (نوعا) في تأويل صفة من صفات الله تأويلا جديدا (وهذا هو مفهوم البدعة في الصفات)، حتى يصل إلى تمرير معتقد قد تبناه في نشأة السماوات والأرض من طريق النظر الطبيعي في قضية هي من الغيب المحض أصلا، تماما كما كان غرض المتكلمين الأوائل فيما أحدثوه من تأويلات أن ينصروا مذهبا فلسفيا اعتنقوه في حق ربهم واستماتوا في الانتصار له!! وقد بينت له مرارا وتكرارا أن أحداث الأيام الستة غيبية مطلقة التغييب، وكررت حجتي العقلية في إثبات غيبيتها وانفكاكها الواجب عن الأسباب المحسوسة المشاهدة طبيعيا، فلم يلتفت ولم يتكلف الرد، إلا قوله:
أن العلية الفيزيائية المطردة تتطال كل ذرة مادية في جرم الأرض (كالأكسجين الذي يجري في دمائنا) ، وما سواها من كل أنواع الذرات الباريونية - ومنذ لحظات تخلقها في قلوب النجوم المتتابعة، وقبل أن يوجد كوكب الأرض، والذي لم يكن له أن يتكون جرمه المُشاهد إلا من تلك الذرات. أي أن لحظة تخلق ذرة الأكسجين – على سبيل المثال - كان قبل تخلُّق الأرض، أي أنها لحظة في عمق أيام الخلق، (تذكر أن الأرض وأقواتها تطلبت أربعة أيام من الخلق)، ومع ذلك تتحكم في ذرة الأكسجين الأولى التي خلقت في عمق أيام الخلق الستة - وما وراءها وغيرها من ذرات - نفس القوانين التي نعلمها الآن (والناتجة عن التنظير الفيزيائي المحقق معملياً)... ألا يفند ذلك كلامك السابق، من امتناع تفصيل ما جاء في أيام الخلق بالاطراد والتنظير الفيزيائي؟!
وأقول: كلا لا يفند شيئا! وإنما هو تحرير لمعتقدك أنت لا أكثر! ليس في كلامك هذا ما ينصر قولك بخضوع أحداث الخلق في الأيام الستة لنفس القوانين التي نعلمها الآن!! أنت تستدل بمحل النزاع يا أخانا! أما أنا فقد بينت حجتي العقليةعلى امتناع ذلك فيما تقدم من مداخلات ولن أكرر!
وإليك أيها القارئ المحترم مثال جلي يمكنك إن شئت أن تعلمه لطلبتك في الجامعات، من أمثلة الاستدلال بمحل النزاع، إذ يقول:
ثم يؤكد دليلي هذا أيضاً أن أيام الخلق قد امتدت لتشمل تكون جرم الأرض بما ينزل فيها من السماء من رواسي (حجارة) وتراكمها فيها وهي حارة مائعة حتى تتحول الأرض إلى جرم واحد متماسك بارد وصلب السطح، ثم ما يلحق ذلك من دحو الأرض ثم طحوها؟! ... .. وكل هذه التفاصيل تجري أيضاً على اطراد وتنظير فيزيائي مما نعهد.
فالرجل اعتقد صحة نموذج نظري معين (لكونه هو السائد حاليا في دائرة تخصصه الطبيعي)، فتأول في ضوئه نصوص القرءان والسنة الواردة في أحداث الأيام الستة (على اعتبار أن إجماعات الأولين في فهم كلام ربهم ليست "علما" وإنما هي ظنونهم البشرية القاصرة، بينما اتفاق الطبيعيين حاليا على نموذج نظري معين - بصرف النظر عن موضوعه ومقدماته العقلية - هو العلم القطعي المحكم لا محالة)، ثم جاء الآن ليقدم هذا التأويل دليلا على صحة ذلك المعتقد نفسه لديه! فأين الدليل العقلي فيما قال، الموجب لجريان تفاصيل أحداث الأيام الستة المذكورة في القرءان على قوانين الفيزياء التي نعهدها (بالعين أو بالنوع)؟ هو اعتقد أن الأمر كذلك، لأن علماء الطبيعيات استفاضوا في التنظير في هذا الباب على هذا الأساس، فلزم أن يكون أصل تنظيرهم حقا قطعيا محسوما، وانتهت القضية!
ولأن مسلكهم الكلي يقتضي القول بأن أحداث نشأة الكون ما زالت جارية إلى يومنا هذا (تبعا لنظرية التمدد الكوني)، لزم أن يكون اليوم السادس الذي جاء الوحي بخبره، مستمرا إلى يومنا هذا، بل وإلى يوم القيامة (كما يلزمه القول به)، فمن خالفه بالعقل أو النقل أو اللغة أو الأثر أو الإجماع (بل بهذه الأنواع كلها)، فهو سفساط متفلسف لا محالة، لا يقيم بالعلم رأسا!
وكما جرت سيرورة الخلق على هذه الأرض، فإنها تجري الآن وفي هذه الأثناء، وأمام ناظرينا، في تخليق كواكب مثيلة ... .. ألا يعني ذلك أن الخلق الكوني ما زال مستمر، وأنه لم يتوقف عند ذلك الحد السحيق (المتوهم) الذي أشرت أنت إليه! - وتقصد منه لحظة نهاية اليوم السادس - والذي ظننت أن قوانين الفيزياء الكونية بدأت العمل فقط اعتباراً منه وليس قبله؟!
كلا لا يعني ذلك! فكما نفرق بين أحداث تجري الآن على سطح الأرض من خلق بعد خلق، وأحداث خلق الأرض نفسها (من دحي وبسط ونحو ذلك مما جاء ذكره في النص) فنحن نفرق كذلك بين أحداث نرصدها حاليا في الفضاء البعيد، قد نتمكن من استقراء نظامها السببي على نحو ما، وما جرى من أحداث أولى خلقت فيها السماوات كلها بنظمها وقوانينها! فالذي نرصده مما يجري على الأحداث المرصودة حاليا إنما هو ذلك النظام الذي كان ابتداؤه وخلقه في الأيام الستة، فلا يصح عقلا أن نطرده حتى يكون طريقنا لمعرفة أحداث الأيام الستة!
أما قوله:
وليس أمامك من وسيلة لدحض هذا التفسير الأخير إلا أن تدحض جملة من قوانين الفيزياء، أهمها التخليق النووي لذرات العناصر Nucleosynthesis، وعلى الأقل، ما يجري منها في شمسنا. .. وبالله عليك، لو حاولت - فلا تستعن في ذلك بفلسفة العلوم، فإنها لن تغني عنك شيئا، (أقصد لن تسعفك - حتى لا تسيء ظني بمعاني الألفاظ) .. فأصحابها عاطلون عن العمل (أقصد العمل العلمي العملي المثمر)، ولا هم لهم إلا القيل والقال، والثرثرة بـ (لو كان كذا في هذه النظرية لكان كذا) ..
فلن أرد عليه، لأنه يصر على تغليق الباب أمام من يناقشون شيئا مما قرر أن يعتنقه كحقائق علمية منتهية، تماما كما هو دأب الطبيعيين الماديين في تعاملهم مع ما يسمونه "علما" وما يسمونه "فلسفة"، وهذا هو التعسف والتعصب بعينه! ولك أن تتأمل في إطلاقه الاتهام بالعطالة عن "العمل العلمي المثمر" و"القيل والقال" و"الثرثرة" ونحو ذلك من كلام إنشائي أجوف أترفع عن الخوض مع من يتعلقون به! الرجل لا يرى "العلم" إلا العلم الطبيعي، فما هو اسم الطائفة التي تدين بهذا المعتقد يا أخانا، إن كنت تعلم؟ والمضحك أنه يظن كذلك أنني يلزمني تفنيد نظرية التخليق النووي لذرات العناصر تبعا للسنن الكونية الجارية حاليا، حتى أثبت (منطقيا) بطلان مسلكه في إجرائها (أي تلك السنن) على الأحداث التي فيها وضعت تلك السنن نفسها من الأصل وكان بها ابتداؤها بعد أن لم تكن! أنا أقول إن الحدث (أ) كان سببا في ابتداء النظام (س)، وهو يصر على الوصول لمعرفة تفاصيل (أ) بالقياس على ما يجري من أحداث تحت النظام (س) (أو بعبارة أخرى: لا يجد إلا الزعم باطراد قوانين النظام "س" حتى تدخل تحته تلك الأحداث التي كانت سببا في ابتدائه هو نفسه!)! ومثله في هذا (مع الفارق) كمثل من أراد أن يعرف أحداث صناعة جهاز الكمبيوتر – مثلا – وترتيبها وتفصيلها في المصنع، فراح يتأمل في خطوات تشغيل نظام الويندوز! لقد أعياني – والله – التكرار والسعي في إفهامه محل الخلل في تصوره، فأكتفي بهذا القدر ولا أزيد.
والظاهر أن الأخ تحرج من صنيعه في مسألة الاستواء، فقال:
[آمل الانتباه إلى أني أشرح بالمثال فقط معنى (ثم) في الآية، ولا أتأول استواء الله تعالى على العرش] ... حتى لا يخطئ أي من القراء ويظن ذلك. أو يتصيد الباحثون عن أي زلات ما يظنون أنهم قد عثروا عليه... فلينتبهوا
ولو كنت أصبر على مواصلة هذا الجدال لسألته: "ما معنى تأول الصفة في أصولك (إن كانت لك أصول) وكيف جزمت بأن صنيعك هذا ليس يدخل فيما يعد عند العلماء من تأويل الصفات؟"، ولما توقعت إلا أن يأتيني بالمزيد مما أعياني به من المراوغة والتطبيل كما مر معك مثاله، والله المستعان!
ولعله من جملة تناقضاته أن ينكر على خصمه ما فهمه هو على أنه إهدار للعلم الطبيعي كله (وليس كذلك قطعا!)، ثم يقع هو في إهدار فلسفة العلم كلها جملة واحدة، يصرح بذلك ولا يبالي، بناء على دعوى تأصيلية يعتنقها في التفريق بين "العلم" و"الفلسفة" لا يدري أنها دعوى فلسفية (نوعا) بالأساس! ولا يدري أن من قبلها منه ومن ردها عليه فكلاهما حجته حجة فلسفية لا محالة، إن كانت له حجة أصلا! فهو لا يريد حتى أن يعترف بأن جدالي معه ها هنا إنما هو جدال في مذهب فلسفي أصولي ومنهج نظري كلي، وأن الجدال في هذا لا يكون إلا بأساليب العلوم العقلية التي يضربها جميعا بمضرب السفسطة، مشابها في ذلك – من حيث لا يشعر - طريقة الملاحدة الماديين الطبيعيين الذين لا تأتيهم بالرد العقلي على شيء من دجلهم إلا قالوا لك: "الفلسفة سفسطة كلها والمنطق لا يعول عليه، فلا نلتزم إلا بأدلة العلم التجريبي القطعي"! فلا هم عقلوا ما الفلسفة وما المنطق، ولا أدركوا ما حدود القطع والظن والترجيح الاحتمالي عند النظر في المشاهدات والتجريبيات بأنواعها، ولا أتوا في أمرهم بشيء يقبله العقلاء الأسوياء!
ولو أن صاحبنا درس شيئا من علوم العقيدة ومدارس الفلاسفة والمتكلمين، لأدرك – من فوره - لازم قوله هذا:
لذلك لا تجد من العلماء العاملين من يهتم بفلسفة العلوم، إلا من كان صحاب فلسفة خاصة أراد أن يدعمها زوراً بالعلم، أو من تقاعد من ممارسة العلم، وفرغت جعبته من العطاء، فراح يرتاد مقاهي فلسفة العلوم، أو يتسكع في طرقات مدينة العلم، مخادعاً نفسه وغيره أنه ما زال من أهلها! .. أما العلماء الحقيقيون، فتجدهم في المعامل، والمراصد ومواقع التنقيب، ...
ولكن ماذا تنتظر ممن يخوض في الفلسفة ولا يدري أنه خائض فيها، وأنه متلبس بأغاليط فلسفية قد سبقه إليها من "المتفلسفين" من سبق؟ لن أنبهه إلى لازم قوله هذا، لأن المفترض أن المقام مقام مناظرة بين قرينين متكافئين! ولكن قد تبين لكل قارئ فطن أنه مفتون من جملة المفتونين، لا يقبل الاعتراف بأنه ما من باحث تجريبي يدخل المعمل أو المرصد إلا وهو مستصحب في بحثه – لا محالة – جملة من الأصول العقلية الكلية والمقدمات المبطنة والتصورات الميتافزيقية، التي على أساسها يبني فرضيته الطبيعية نفسها (بما تحتها من تنظير ونمذجة رياضية)، وعلى أساسها يقرر المنهجية التي بها تصير المشاهدة التجريبية في المعمل أو المرصد "دليلا" يفيد العلم على وجه من الوجوه! ولأنه يرى الفلسفة كلها عبثا وسفسطة، فهو يتصور أن كلامي هذا (في قيام العلم الطبيعي على أصول فلسفية كلية، يرد عليها الحق والباطل والصواب والخطأ) يلزم منه أن يكون العلم نفسه عبثا وسفسطة! ولا يدري – هداه الله - أنه قد وافق الفلاسفة الماديين الوضعيين بتصوره هذا في أصل من أصولهم!
ومن الطريف أنه يقول:
" وآمل ملاحظة أن معدل التجريح الصريح يتناسب عكسياً مع القوة الحجاجية، وهذا أحد المؤشرات التقييمية في المناظرات"
ولا أدري حقيقة ما دليله على ذلك "المؤشر" المزعموم! أهو استقراء وقف عليه أم استدلال قياسي؟ بل أحسن من هذا أقول: هذه القاعدة نفسها، تراها "فلسفية" أم "علمية"؟ إن كانت فلسفية فدعك من "العبث"! أنت رجل "علم" فلا تلتفت إلى "المتفلسفة" هؤلاء ولا تشغل بهم بالك! خلك في معملك ومرصدك، واذهب مع القوم إلى حيث يأخذونك، أو كما يقول الفيزيائي "ريتشارد فينمان" في مقولته المشهورة: اخرس واحسب Shut up and calculate!
والأخ لا يزال – مع كل هذا النزاع الفلسفي والأصولي العريض - مصرا على استدراجي إلى الجدال في قضية جزئية لو فهم عني ما قدمت تحريره من قضايا عقلية كلية في بابها لأدرك أن مجرد الخوض فيها خروج عن موضوع الشريط وعن محل النزاع بيننا! فأنا أجادله في منهجه في التلقي المعرفي في تأويل النص القرءاني أولا، ثم في قضايا الغيب المطلق وحدود التنظير الطبيعي ثانيا، وهو مع هذا يظن أنه لو أثبت أن الأرض تدور فقد نصر منهجه الكلي ومسلكه النظري في ذلك كله! فسبحان من يرزق العقل والفهم كما يرزق الطعام والشراب!

أقول مختتما: لست مهتما يا أخانا بمخاصمتك أو الانتصار عليك والله ولا طمع لي في ذلك، فأنا لا أعرفك أصلا وأنت لا تعرفني، وأكثر القراء لا يعرفونك ولا يعرفونني! قد نصحتك بما عندي ونبهتك إلى اختلاط منهجك وتضارب أصولك واشتباه قواعدك، ولا أرى مصلحة شرعية في بذل المزيد من الوقت والجهد في إفهامك ما تصر على تجاهله من قضايا كلية ومنهجية قد بات من الواضح جدا أنك لا تضبطها! ولن أخوض معك في مسألة دوران الأرض هذه لأن خلافي معك أعمق - منهجيا - من هذا، كما أحسب أنه قد تبين للقارئ الكريم. فإن لم نتفق فيما بين يدينا من أصول كلية، فما الذي تحرزه أنت في مواطن النزاع بيننا إن أثبت دوران الأرض؟ سلمت لك تنزلا بأن الأرض تدور تحقيقا وأنها ليست ثابتة في مركز الكون، فكان ماذا؟ لم تتمكن من الجواب عن أسئلتي، ولم تفهم أجوبتي عن أسئلتك، وتصر على تمرير تأصيلاتك الفلسفية وتسفيه من يخالفها وكأنه يحارب العلم نفسه، مع إغراق خصمك بالخطابيات الرنانة والتهاويل المدوية، فما المطلوب مني الآن؟
قد قلت ما عندي ولن أكرر أو أعيد، ولن أرجع إلى هذا الشريط، والله أسأل أن يهديني وإياك والمسلمين إلى سبيل الرشاد.
 
تساءل الأخ أبو الفدا في مداخلة انسحابه السابقة، قائلاً عني:

ومن الطريف أنه يقول:
" وآمل ملاحظة أن معدل التجريح الصريح يتناسب عكسياً مع القوة الحجاجية، وهذا أحد المؤشرات التقييمية في المناظرات"
ولا أدري حقيقة ما دليله على ذلك "المؤشر" المزعموم! أهو استقراء وقف عليه أم استدلال قياسي؟

فأجيبه أن هذا المؤشر استقرائي، وأن أخر عينة تؤكده صحته هي المداخلة الأخيرة نفسها، حيث وصل عدد التجريحات إلى (ما يقارب 20 تجريح) وهو العدد الأقصى في كل مداخلاته، ووصل عدد حججه ذات القيمة إلى أدنى حججه على الإطلاق، وأظنه صفراً، لأني لم ألحظ أي حجة ذات بال مع القراءة المتأنية. أما أول مداخلاته التي علقت عليها، فكانت النسبة منعكسة، وهذا ما دفعني إلى محاورته. ... وهذا دليل عملي على صحة الاستقراء .. بأن من فرعت حجته، لم يجد إلاّ تجريح خصمه، إلا من عصمه الله تعالى من ذلك.

أما عن مسألة دوران الأرض، فكنت على ثقة - كما ألمحت - من أن خصمي لن يجرؤ على خوض غمارها، لأنه لا يمتلك أدواتها التحليلية. وكنت أعلم أنه سيلجأ إلى الانسحاب. ولكني لم أكن أتوقع أن يكيل كل هذا التجريح مع ذهابه! ... ولو كان ذهابه أهدأ، لكان أليق، وأحفظ للذكرى الطيبة.

ثم أن مسألة دوران الأرض ليست محايدة في المناظرة حولها كما تُوهم عبارته الآتية عنها:
.. سواء ثبت له ما يريد في تلك المسألة تحديدا (أن الأرض تجري وتدور!) أو ثبت العكس!
بل إنها مسألة حاسمة، لأن إثبات الدوران - وهو ثابت بتصوير الفيديو الملتقط للأرض وهي تدور - و المدرج رابطته من قبل ورفض خصمي تصديق عينه برؤيته بعد التأكد من صدق مصدره - .. أقول أن إثبات هذا الدوران يحسم مسألة (أن التجربة الحسية تُسقط تصورات قدامى المفسرين الذين أجمعوا على ثبات الأرض). وهذا هو بيت القصيد في كل هذه المناظرة. ... لذلك، كان التهرب من التحدي في هذه المسألة ضروري من جهة خصمي، وإلا كانت الخسارة فادحة، ... أقصد، انكشاف خواء المشروع التسفيهي للتجربة الحسية والعلوم الطبيعية المستندة إليها، الذي تزعمه خصمي، وما يؤول إليه هذا الانكشاف من قيمة بالغة في ضرورة تصحيح تصورات المفسرين، وهو ما أراد خصمي تجنبه، لعدم الاعتراف بفشل مشروعه الذي يحارب به التفسير العلمي الجاد للآيات الكونية في القرآن.
___

هذا وقد تبقى عددٌ من المسائل التي أثيرت في مداخلة #32 أجّلت الرد عليه، وأرى أنه قد آن أوانها، لأنها يسيرة الدحض، ... وكل الملاحظات كانت كذلك!! ... وهذا ما سأتناوله في مداخلتي التالية، إن شاء الله. ومن أراد من القراء استكمال نقاش مسألة دوران الأرض مع خصم مُفترض، فلا مانع عندي، وأعد بذلك إن طُلب مني، رغم أني كنت قد تناولت هذه المسألة عدة مرات من زوايا عديدة على مدونتي المشار إليها من قبل. إلا أني أعددت مادة جديدة لها، تتناسب مع خصم عنيد شرس كنت أفترض وجوده، .. لكنه ذهب وترك ساحة المعركة. !!!
 
تساءل الأخ أبو الفدا في مداخلة انسحابه السابقة، قائلاً عني:

ومن الطريف أنه يقول:
" وآمل ملاحظة أن معدل التجريح الصريح يتناسب عكسياً مع القوة الحجاجية، وهذا أحد المؤشرات التقييمية في المناظرات"
ولا أدري حقيقة ما دليله على ذلك "المؤشر" المزعموم! أهو استقراء وقف عليه أم استدلال قياسي؟

فأجيبه أن هذا المؤشر استقرائي، وأن أخر عينة تؤكد صحته هي المداخلة الأخيرة نفسها، حيث وصل عدد التجريحات إلى (ما يقارب 20 تجريحا)! وهو العدد الأقصى في كل مداخلاته، ووصل عدد حججه ذات القيمة إلى أدنى حججه على الإطلاق، وأظنه صفراً، لأني لم ألحظ أي حجة ذات بال مع القراءة المتأنية (هذا إذا تغاضينا عما بدأ يظهر من مغالطات، وإنكار فلسفي جدلي للأدلة الصريحة). أما أول مداخلاته التي علقت عليها، فكانت النسبة منعكسة تماما، وهذا ما دفعني إلى محاورته. ... ويمثل هذا الإحصاء السريع دليل عملي على صحة الاستقراء .. بأن من فرغت حجته، لم يجد إلاّ تجريح خصمه، إلا من عصمه الله تعالى من ذلك.

أما عن مسألة دوران الأرض، فكنت على يقين - كما ألمحت - من أن خصمي لن يجرؤ على خوض غمارها، لأنه لا يمتلك أدواتها التحليلية. وكنت أعلم أنه سيلجأ إلى الانسحاب. ولكني لم أكن أتوقع أن يكيل كل هذا التجريح مع ذهابه! ... ولو كان ذهابه أهدأ، لكان أليق، وأحفظ للذكرى الطيبة.

ثم أن مسألة دوران الأرض ليست محايدة في المناظرة حولها كما تُوهم عبارته الآتية عنها:
.. سواء ثبت له ما يريد في تلك المسألة تحديدا (أن الأرض تجري وتدور!) أو ثبت العكس!
بل إنها مسألة حاسمة، لأن إثبات الدوران - وهو ثابت بتصوير الفيديو الملتقط للأرض وهي تدور - و المدرج رابطته من قبل ورفض خصمي تصديق عينه برؤيته بعد التأكد من صدق مصدره - .. أقول أن إثبات هذا الدوران يحسم مسألة (أن التجربة الحسية تُسقط تصورات قدامى المفسرين الذين أجمعوا على ثبات الأرض). وهذا هو بيت القصيد في كل هذه المناظرة. ... لذلك، كان التهرب من التحدي في هذه المسألة ضروري من جهة خصمي، وإلا كانت الخسارة فادحة، ... أقصد، انكشاف خواء المشروع التسفيهي للتجربة الحسية والعلوم الطبيعية المستندة إليها، الذي تزعّمه خصمي، وما يؤول إليه هذا الانكشاف من قيمة بالغة في ضرورة تصحيح تصورات المفسرين، وهو ما أراد خصمي تجنبه، لعدم الاعتراف بفشل مشروعه الذي يحارب به التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن، حتى لو كان جادا رصينا.
___

هذا وقد تبقّى عددٌ من المسائل التي أثيرت في مداخلة #32 أجّلت الرد عليه، وأرى أنه قد آن أوانها، لأنها يسيرة الدحض، ... وكل الملاحظات كانت كذلك!! ... وهذا ما سأتناوله في مداخلتي التالية، إن شاء الله. ومن أراد من القراء استكمال نقاش مسألة دوران الأرض مع خصم مُفترض، فلا مانع عندي، وأعد بذلك إن طُلب مني، رغم أني كنت قد تناولت هذه المسألة عدة مرات من زوايا عديدة على مدونتي المشار إليها من قبل. إلا أني أعددت مادة جديدة لها، تتناسب مع خصم عنيد شرس كنت أفترض وجوده، .. لكنه ذهب وترك ساحة المعركة. !!!
 
13 -
فأقول أنك تتكلم عن السلف وكأنهم أنبياء قد أوحى إليهم .. وإذا تعلق الأمر بالمسائل الكونية الطبيعية في القرآن، فمعارفهم مقيدة بإطار ثقافة عصرهم. وإن تفوقوا بالمعرفة اللغوية، فهذا حق، ولكنه لا يُمثل إلا بعض النصاب المعرفي الضروري لتعيين معاني الآيات الكونية. ولا يكتمل النصاب إلا بالوقوف على أسبابه ومباشرة شهاداته. ..
وأراك تُحمّل السلف فوق ما يحتملون عندما تقيد صحيح المعارف الكونية بما لم يكن عندهم موجب له. ثم أنك بإصرارك على ضرورة اعتماد السلف لأي قول في المسائل الكونية حتى يُمرر، تعمل على تجميد فهم القرآن في ثلاجة التاريخ، وهذا تَجَنٍ على القرآن. لأن الله تعال أنزله للناس مهما علا شأن ثقافتهم وحتى قيام الساعة. .. وأي غرابة في أن يفهم منه الناس اليوم – بما جد من معارف – ما لم يكن يخطر على بال الصحابة أنفسهم ... أي غرابة في ذلك؟! ... من أين أتى المنكر لهذا بإنكاره؟! ..
إن هذا الفهم الإنكاري ليس إلا استدلال بشري. .. فأنت نفسك تعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يفسر من القرآن إلا القليل، وهذا وحده كافٍ على أن بيان القرآن (أي جميع آياته) سيكون عبر الزمن، وأن الفاعل لهذا البيان هو الله تعالى وحده، كما قال سبحانه " فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)"(القيامة) ...

أعجبنى كثيرأ هذا الكلام المنطقى والعميق ، وأراه جديرأ بأن نقف عنده لنتأمله مليأ
وأرى أن الأخ عز الدين – بارك الله فيه وأعز به الدين – قد وضع يده هنا على مربط الفرس وقام بتشخيص الداء بمهارة واقتدار
ذلك أن كلامه هذا يمكن أن يفض الإشتباك القائم ما بين السلفيين والإعجازيين ويجمعهم على كلمة سواء ، فالسلف الصالح رضوان الله عليهم -كما قال أخى عز الدين بحق- لهم دون سواهم الكلمة الأولى فى التفسير ، ولكن فى ميدان اللغة والبيان ، فقد كانوا فرسان هذا الميدان وأبطاله المغاوير دون منازع لهم من قريب أو بعيد ، أما ما عدا ذلك من ميادين العلوم المختلفة كالطبيعة والفلك والجيولوجيا والرياضيات ... الخ ، فإنهم فيها مجتهدون كأى مجتهد جاء من بعدهم ، ومعارفهم فى تلك العلوم مرتبطة بزمانهم وظروف عصرهم . فإذا جاءت إشارات قرآنية إلى حقائق من تلك العلوم فإن فهمها والإحاطة بها على وجه التفصيل – لا الإجمال – قد يكون مُدَّخرأ لعصور تالية على قرون السلف ، ويكون حظ السلف من فهمها هو الإجمال دون التفاصيل ، وبحيث لا يكون هناك تعارض بين الفهمين ( المجمل والمفصل )
وإذا أدرك إخواننا السلفيون تلك الحقيقة ووعوها جيدأ لأنحلت إشكالات كثيرة وساد الوئام بين شتى الطوائف المختلفة فكريأ ، وهو غاية ما نأمله ونرجوه
والله من وراء القصد
 
وإن كان كلامك صحيح: فأجبني عن السؤال الآتي: ماذا أضاف الحرف (ر) في أول سورة الرعد (أ ل م ر) عن (أ ل م) فيما جاءت فيه من سور القرآن؟!
أقول لك بكل حسم ..لا يعلم هذا أحد وحتى هذه اللحظة .. لا صحابي ولا من بعده
مهلاً أخى ، فربما تعجلت فأخطأت الحكم ، وربما يوجد من يعلم هذا ولكنك لا تعرفه ، وأقولها بكل حسم

أليس هذا من القرآن ... أوليس أن القرآن قد نزل ليفهمه المؤمنون به؟! .. أين هي الإجابة المعتمدة لهذا السؤال ...

هى عند العبد لله ، وله الحمد ..كل الحمد

أجبني .. ولن تستطيع .. (لست أنت أقصد).. بل .. لن يستطيع إنسان على الأرض أن يجيب عنه لأنه لمّا يعلمه أحد بعد

بل العبد لله – وهو إنسان على الأرض - يستطيع أن يجيب عنه ، ولله الحمد .. كل الحمد

وأنا على يقين من أن الساعة لن تقوم حتى يتبين لهذا السؤال إجابة ... فكيف تبرر أنه لم يؤثر عنه شيء عند السلف ؟!
ببساطة .. لأن لهذا البيان موعد ... وهذا الموعد لما يأت بعد

فى هذه أصبت ، فالمانع لى من أن أبوح بتلك الأسرار هو أن موعد بيانها – كما قلتَ أنت – لم يحن بعد ، ربما بتقصير منى ، وربما لأسباب أخر
ولكن أبشر أخى ، فأنا عازم هذه المرة على بثها للناس ، ولذا ترانى لا أدخل إلى الملتقى إلا نادرأ ، حيث هذه المسألة هى شغلى الشاغل الآن وإلى أجل غير مسمى ، إلى أن يأذن الله تعالى بالكشف والبيان
 
ثم أراك تتكئ على نفس الذريعة التي يتكئ عليها أكثر الإعجازيين في فتح باب الاختراع في تفسير كلام الله، فتقول:
ماذا أضاف الحرف (ر) في أول سورة الرعد (أ ل م ر) عن (أ ل م) فيما جاءت فيه من سور القرآن؟!أقول لك بكل حسم ... لا يعلم هذا أحد وحتى هذه اللحظة .. لا صحابي ولا من بعده ...
قلت: يا أخي قف حيث وقفوا وخض حيث خاضوا، ما الضير في ذلك؟

الضير فى ذلك كبير جدأ وشديد الخطورة ، لأن التوقف حيث وقف الأولون سوف يقعد بنا عن مواصلة البحث والتدبر فى كتاب الله ، وهذا بدوره سوف يحرمنا من اكتشاف كنوز قرآنية نفيسة جدأ كانت تنتظر من ينقب عنها ويستخرجها ويعرضها للناس ليقفوا على مدى روعة الإعجاز القرآنى الذى لا تنقضى عجائبه
وصدقنى أخى الكريم ، ليس فى كلامى هذا أدنى مبالغة أو غلو ، فإنها كنوز حقيقية ونفيسة للغاية ، وليس من رأى كمن سمع
الحروف المتقطعة منهم من توقف في تأويلها وفوض العلم بها لله، ومنهم من تأولها على أقوال لعلك مررت بها، فوجب ألا يخرج الحق في ذلك (الذي هو مراد الله حقا) عن تلك المذاهب التي ذهبوا إليها

ومَن الذى أوجب ذلك ؟
هل لديك مستند من نقل يوجب ذلك ؟
كل ما لديك هو الحجة التالية :
وإلا ضلت أمم من المسلمين وقرون طويلة عن مراد الله من بعض كلامه وهذا ممتنع!
وهى حجة من اليسير دحضها ، لأنه ما أدراك أنه لا يوجد إلا مراد واحد لله من بعض كلامه ؟!
وهل يوجد ما يمنع أن يكون لله عز وجل أكثر من مراد من كلامه وبحيث يكون كل منها صحيح وحق فى ذاته بحسب أفهام العصور والأجيال المتعاقبة ؟!
وبحيث يأخذ أهل كل عصر من تلك المرادات ما يتناسب منها مع مداركهم وثقافتهم ويتيسر عليهم فهمه
أليس الله عز وجل بقادر على ذلك ؟!
أليس سبحانه بقادر على أن يضع فى كلامه طبقات من المعانى المتدرجة ؟
ألم تسمع بأن القرآن حمال أوجه ؟
ألا تؤمن بأن القرآن الكريم لا تنقضى عجائبه ؟
أرى أنه لا يوجد أى تعارض منطقى بين فهم الأولين لأحد مرادات الله واكتشاف مرادات أخرى لله ادخرها سبحانه لمن يأتى بعدهم ، بل أرى أن هذا هو موطن الإعجاز الحقيقى فى كلام الله تعالى
الإعجاز الحقيقى هو أن تجد كلام الله تعالى عميق إلى هذا الحد ، حد ثراء معانيه وتنوعها ليخاطب شتى الأفهام والمدارك على مر العصور
أرجو ممن يطالع هذا الكلام أن يتأمله جيدأ ، فإنه نفيس ، وبه يمكن أن نمحو التعارض القائم ما بين السلفيين والإعجازيين والذى يبدو فى الظاهر تعارضأ حادأ ، بينما يمكن أن نجعله هشأ ضعيفأ
وفقنا الله وإياكم لفقه كتابه الكريم والذب عن إعجازه العظيم
 
الرد على مداخلة # 32

الرد على مداخلة # 32

الاخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله
أبدأ هنا بالرد على مداخلة # 32 :

1- قال خصمي من قبل:
النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا .... (1)

فبينت له خطأ هذه العبارة ومخاطر التصريح بها بهذا العموم، وقلت له:
أرى أن تسفيه هذه العلوم هكذا على الإجمال، .. يطيح بالحق مع الباطل ... جملة واحدة.

فأنكر أنه قصد ما حملته عبارته رقم (1) من معنى، وقال:
قطعا ليس هذا ما قصدته بكلامي ..

فبررت له جسامة خطأ العبارة بنفي "الحقيقة العلمية" عما في النظريات من حق يمكن الوقوف عليه، وقلت:
ما يخلو من حقيقة علمية يصبح ساقط من القول، أو عبث، أو عديم القيمة أو ما شاكل ذلك من أوصاف!

وأن خروج عبارته تلك (والتي نسبها إلى نفسه – بما تمثله من قاعدة فلسفية عنده)، يجعل قائلها في عهدة عبارته، وينفصل قصده – حسبما يقول- المخالف لمعناها، عنها، ويصبح معنى العبارة هو المعنى البراق في عيون القراء الغفل بما يفتنهم به عن العلم والثقة به، .. وبعد محاولة إقناعه، طلبت منه أن يسحبها، أو يبدلها، وقلت له :
لا أرى لك مهرب إلا أن تسحب صياغاتك .. التي أدت إلى ذلك، وتعيد كتابتها بما ينزع عنها تلك الفتنة.

وبدلاً من أن يقر بعموميتها إن كان صادقاً في عدم تسفيهه للعلم الفيزيائي، ويعمل على تشذيبها، جاءت إنكاراته اللاحقة لدوران الأرض المرئي، والتخلق النووي في النجوم، لتدعم مذهبه في تلك العبارة والذي يفيد إنكار السببية الفيزيائية، ثم جاء يبرر العبارة (في مداخلة #32) تبريرات مليئة بالأخطاء، على نحو ما سنرى، .. قال:
غاية مرادي من الكلام في جزئية "الحقيقة العلمية" هذه (وهو ما تؤاخذني عليه فيما يبدو) كان دفع إجمال وقع في كلامك أنت، بغرض التنبيه إلى منطق الإعجازيين في التفريق (ويبدو لي أنك توافقهم إجمالا) بين ما يسمونه بالنظرية وما يسمونه بالحقيقة العلمية، إذ يكثر عندهم إطلاق هذا الاسم "الحقيقة العلمية" على نظريات أو نماذج نظرية Theoretical Models أحسن أحوالها أن تكون عند حدّ الظن الضعيف

وفي هذه العبارة وحدها أربعة أخطاء:

الخطأ الأول: أن عبارته التسفيهية بالنظريات العلمية وخلوها من أي "حقائق علمية" أدرجها كقاعدة عامة، وأدرجها في أقواس ونص على أنها منقوله من كتابه وقال بالحرف والشكل:
.. ( والنظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا، كما بينت وجهه فلسفيا في الكتاب المذكور آنفا) ...

وإذا علمنا أنه عَنْوَن كتابه المذكور بالعنوان: [آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين] أدركنا الرسالة الواحدة التي تجمع بين الكتاب والعبارة ، وهو أن أهل العلوم الطبيعية ليسوا إلاّ مُخرِّفين، ومن ثم فنظرياتهم جميعاً لا ترقى إلى أي حقيقة علمية، أو لأن نظرياتهم لا تمثل أي حقيقة علمية، فهم بتصديقهم لها مخرِّفون، ... والنتيجة الطبيعية لعنوان الكتاب والعبارة أنه: .. لا يجوز أن يتفوه هؤلاء المخرفون عن معاني كتاب الله !!!

وقال في حملته الدعائية لهذا الكتاب، أو خلاصته، والمعروضة على النت: [فالله أسأل أن ينفع به المسلمين، وأن يعصمهم به من قبول كل خرافة وضلالة يروج أصحابها لها على أنها "علم" ثابت قد أثبتته التجارب والمشاهدات ولا مراء فيه
المصدر : http://majles.alukah.net/t110120/#ixzz31s0PVyaE]

ولا بد أنه يُنكر - مع ما يُنكر - قانون الجاذبية لأنه يلازم دوران الأرض حول الشمس الذي يستنكره - لكون ثبات الأرض منسوباً إلى من لا يستطيع مناقشة آرائهم، وقياسا على ما هو أشنع، نقصد: إجازته لدوران الكون في يوم وليلة - ، ولا بد أن ينفي الإشعاع الذري والنووي الذي يلازم اتصالية النشأة النووية للأرض في النجوم الذي أنكره.. وباختصار ... لو تعقبنا منفياته لوجدنا أنه ينفي كل سبب في الفيزياء والكونيات، ويبقى فقط على سحرية عجائبية في خلق الكون وسيرورته. ثم يقول: فالله أسأل أن ينفع به المسلمين !!!
فنقول له: حسبنا والله ونعم الوكيل.
(ملاحظة: الكتاب غير متاح على النت مباشرة، ورغم طلبنا نسخة إلكترونية منه لم يُعقِّب، ونستغرب من جبر الناس على شرائه مقابل ما فيه من علم مفترض، بالإحالة إليه مرارا وتكرارا؟!!!)

الخطأ الثاني: أنه في قوله:
غاية مرادي من الكلام في جزئية "الحقيقة العلمية" هذه ..كان دفع إجمال وقع في كلامك أنت

فبدلاً من العدول عن خطأ العبارة – بحسب ما ينفيه من المعنى الذي تنطق به كلماته– راح يتهمني بأن إجمالي - المزعوم- كان السبب وراء كتابتها .. رغم أن اعتراضي إنما هو على عبارة سجلها في كتابه – حسب كلامه - قبل أن يعرفني !!! .. بل إنها جاءت في مداخلته الأولى الذي لم أكن قد علّقت عليها بعد... فكيف يُصدَّق من ينقل حديثاً نبوياً مثلاً من سابق في الزمن عن لاحق له لم يحدث أن التقيا؟! ..
(وليلاحظ القارئ كثرة اتهاماته لي بقول: إجمال .. إجمال ... ومن يبحث عن ذلك الإجمال، فلن يجد شيئاَ !!،.. فكلامي واضح، ... بل أوضح وأبين من كلام أفصح المتفلسفين! )

الخطأ الثالث: أنه في قوله:
غاية مرادي من الكلام في جزئية "الحقيقة العلمية" هذه ... التنبيه إلى منطق الإعجازيين في التفريق .. بين ما يسمونه بالنظرية وما يسمونه بالحقيقة العلمية

رغم أني لم أراجعه في تطبيق قاعدته بنفي "الحقيقة العلمية" على تعامل الإعجازيين معها، وإنما راجعته في تعميم النفي على كل النظريات العلمية كما تنص عبارته؟! .. فكيف به يجيب عن اعتراض لم أطرحه محل اعتراض طرحته ويتهرب من إجابته صراحةً.

الخطأ الرابع: قوله بالخط الأحمر:
غاية مرادي .. التنبيه إلى منطق الإعجازيين في التفريق (ويبدو لي أنك توافقهم إجمالا) بين ما يسمونه بالنظرية وما يسمونه بالحقيقة العلمية

رغم علمه اليقيني بزيف هذا الاتهام، .. سواء من مداخلة # 2 في هذا الشريط (قبل أي مداخلة له) والذي ميزت فيها بين المقبول والمرفوض في التنظيرات العلمية حول نظرية الانفجار العظيم ..، أو في مداخلتي # 10 التي أشرت فيها إلى رابطة هجومي على أخطاء الإعجازيين، بما سميته على مدونتي: "أطروحات متهافتة في التفسير العلمي"، لكثرة هذه الأخطاء وتبنيهم النظريات الضعيفة مع غيرها؟!

___​

أقول: وبعد أن كالَ اتهاماته للإعجازيين في سوء منهجهم (وأنه أؤيده في ذلك)، وجّه إليّ الكلام بما لا مبرر له وقال:
إن فهمت هذا، تبين لك وجه المصادرة في قولك:
لأن ما يخلو من حقيقة علمية يصبح ساقط من القول، أو عبث، أو عديم القيمة أو ما شاكل ذلك من أوصاف!

وهذا من أعجب العجب.
أقول له أن سحبه فضيلة "الحقيقة العلمية" – من خلال قاعدته العامة - من كل النظريات العلمية، يجعلها جميعاً ساقطة من القول، أو عبثية، أو عديمة القيمة أو ما شاكل ذلك من أوصاف!
فيقول لي أن هذا القول مُصادرة! .. (مصادرة على ماذا؟! ... أتوقع أن حتى صاحب الكلام لا يدري).. وبماذا استشهد ؟ .. استشهد بفساد منهج الإعجازيين. الذي أسعى بنفسي لكشف أخطائه .. وتنزيه القرآن عنه .. ؟؟!!

والحق أقول: هذه أول مرة أحاور من يحتج بفساد البعض على فساد الكل! .. أقصد: فساد منطق بعض الفيزيائيين والإعجازيين على فساد الفيزياء والإعجاز ... .. ولو فعل الملحد مثله واحتج بفساد بعض المسلمين على فساد الإسلام .. لألقى عليه من التهم ما ألقى !!! .. فكيف به ينتهج منهجه – التدميري لمحض كرهه لما يُدمِّر، أو عدم الإحاطة به علما؟!
بل إنه يحتج على أن المعترض على ذلك يصادر باعتراضه ! ... لمجرد أنه يدافع عن غير الفاسد!!! ... والسبب الحقيقي أن كل التنظيرات الفيزيائية الكونية (عند خصمي) فاسدة !!! تنطق بها كلماته وأحكامه .. وينكرها لسانه!!
وهكذا .... على الملأ .. وأمام جمع من العلماء النبهاء؟!
وليس لي إلا أن أقول: .. يا حسرة على ضياع العلم بين أهله، وهم قيامٌ ينظرون !!!

وقد يبدو للقارئ الساذج أن كلامه الآتي منطقي:
أكرر: الذي أنفيه عن النظريات الطبيعية المعاصرة لا سيما في علمي الفيزياء والكونيات على وجه الخصوص، إنما هو بلوغ درجة الحقيقة القطعية النهائية (التي تكون بمنزلة المشاهدة المباشرة أو قريب منها)، لا أني أنفي "الحقيقة العلمية" (هكذا) من "العلوم" على حسب كلامك هذا، فدع عنك التهويل يرحمك الله فإنه لا يخدمك في شيء

ولكن هيهات:
فقد أنكر "قوانين الحركة" laws of motion وصِدْقها في نطاقها المختبر، بإستنكاره لمبدأ دوران الأرض، وإجازته لدوران الكون حولها – المخالف جملة وتفصيلاً لقوانين الحركة- وبماذا يحتج لذلك؟ .. يحتج بما يسميه "العقل المجرد" ... أي "عقل مجرد" هذا الذي يجيز ما تمنعه قوانين الحركة التي سنها الله تعالى للأجرام وفيزياء الكون ؟! ..
إن هذا الإنكار السابق، نفي للحقيقة العلمية في حركة الأجرام، ويقال مثل ذلك في غيرها من ظاهرة الإشعاع والتفكك والتخلق النووي، وما وراء ذلك من ظواهر، ربما تشمل كل السببيات الفيزيائية، فكيف بنا نجمع بين هذه الإنكارات والاستنكارات وبين قوله:
لا أنفي "الحقيقة العلمية" (هكذا) من "العلوم"
أللهم إلا إذا كان لم يُحط علماً بأن "الحقيقة العلمية" التي ينفيها من وجه ويثبتها من وجه – بمحض ادعاء لفظي، لذر الرماد في العيون - إنما هما معنيان لعملة نقدية واحدة: قيمتها الحقيقة، وما كُتب عليها. ..!! .. هل يمكن له أن ينفي أحد المعنيين (القيمة الحقيقية)، ويقر بصحة المعنى الآخر (المكتوب عليها) ؟! .. هذا كلام يجافي العقل .. لا أقول العلمي، ولا الفلسفي! بل العقل العامي!!!... ولا عليّ بالعقل الفلسفي الأخرق (المسمى بالمجرد) الذي يمكن أن يجيز هذه الشيء من الفكر !!! .. إن تجوزنا وسميناه فكرا؟!

- إذا قال لي مسلم أنه لا يتعامل بالربا ... ثم ظهر أن حساباته البنكية تدخل في عمليات استثمارية مختلطة فيها الحلال وفيها الربوي الحرام، فأيهما أصدق: كلامه أم فعله؟! ..
ونفس المثال ينطبق على من يقول أنه لا ينفي السببية .. ثم إذا نظرنا إلى حساباته العلمية في بنك العلم وجدناه يختلط فيها إثبات السبب ونفي السبب، وفي نفس الظاهرة، ... فمن نصدق ... كلامه أم فعله؟! .. بالطبع فعله .. ولا علينا من كلام تمويهي .. إظهاراً للبراءة .. لا أكثر!

ولكي يظهر بمثال ما في قوله من شناعة، ظاهراً له وللقراء على أتم وجه، أقول له:
أنه إذا ذهب يشتري كيلو جراماً من اللحم، فالبائع يقوم باستخدام قانون (الميزان) الفيزيائي، الذي فيه يتساوى عزم دوران إحدى كفتي الميزان مع عزم دوران الكفة الأخرى، وهذا القانون صحيح مهما طال ذراع إحدى الكفتين عن الأخرى، لاختلاف الكتلتين عن بعضهما ، كما هو الحال في ميزان القبان مثلاً. وهذا القانون هو هو الذي تتزن به الشمس والأرض. ومثله مثل الأرجوحة الدوراة، .. ونسأله: كيف يُصدِّق به في شرائه كيلو جرام من اللحم ويدفع ثمنه، ويُلاعب به ولده ولا يخشى على حياته، ... ثم لا يصدق به في وجوب دوران الأرض حول (مركز اتزانها مع) الشمس، الذي هو في أغلب أوقاته واقع في قلب الشمس؟! ... سلوه كيف؟! ... أخشى أن يقول لكم أن هذه غير هذا فيكون اعترافاً منه أنه يتكلم في فلسفة لا علاقة لها بالعلم ... أقول: إن كان يقبل الأولى بحكم العادة، .. لهذا يثق فيها .. ولا يثق في الأخرى! ولا يعلم أنهما ظاهرة فيزيائية واحدة.. فهذا شأن العوام ... والذين يصدق فيهم قول الله تعالى " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"

وأسأل كل قارئ، عنده في هذه المسائل شيء من العلم: هل هذه الظاهرة حقيقة علمية أم لا؟! ... كيف يجيز مشتغل بالعلم أن يثبتها في الأمثلة اليومية، ثم ينفيها عملياً في حالة الشمس والأرض، وبما يلزم عنه نفي كل قوانين الحركة المؤكدة .. ثم يدعي (لفظاً) ويقول [لا أنفي "الحقيقة العلمية" (هكذا) من "العلوم"] ... كيف يفرق بين الحقيقة العلمية وخلافها إذاً؟! ما هو فرقانه - his demarcation باصطلاحه – في هذا التمييز؟
ونجعل ذلك موضوع المداخلة التالية إن شاء الله.
___​
تابع المداخلة التالية ....
 
السلام عليكم أخواني الأعزاء
والله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم أن هذا الخلاف يحسمه معرفة الفرق اللغوي بين القانون و النظرية.
القانون العلمي هو من قبيل النسب الثابتة التي لا تتغير. وبها يستدل على أنالله عز وجل خالق كل شئ, وأن كل شئ يعمل بأمرالله عز وجل.
فمثلا بإذن الله سبحانه و تعالى الماء الذي نشربهيتكون , بنسبة ثابتة لاتتغير أبدا , من ذرة أوكسجين و ذرتين من الهدروجين. فهذاقانون طبيعي (كيمائي فيزائي) لايمكن نقظه. فأينما ذهبت في السماوات والأرض لاتجدماء إلا وهو مكون من تلك النسبة الثابتة. و مثل ذلك القوانين التي تصف أثر المؤثر.

أما النظرية فقد عرفها علماء الغرب , وربما نتفق معهم , بأنها عملية أولاتبدأ بفرضية ما. ثم يقوم الفارض (أو غيره باستقلالفي نفس الوقت أو لاحقا ) بإجراء تجارب لإثبات أو نقض تلك الفرضية. ثم تدون وتدرس و تنشر نتائج تلك التجارب العملية وتعرض على أهل الحل و الرأي.

ودائما ما تجد جماعة من أهل الحل والرأي تقول أن نتائج التجربةالعملية تطابق و توافق الفرظية وتثبتها, وجماعة أخرى منهمتقول العكس تماما. وما بين هاتين الجماعتين , جماعات تتدرج في أيمانها بصحةالتطابق و التوافق بين هذا وذاك.
وما دام ذلك الصراع في التصديق أو التكذيب بين الجماعات وما دام كل جماعة تحاول إثبات أنالأخر خطأ, تلك الفرضية الأن تسمي "نظرية"؛ أي أن النظرية هي مجرد وجهة نظر لم يحسم الخلاف فيها بعد. والجماعةالتى تكون أكثر غلبة (سياسيا) تضع النظرية للتدريس ودورات التعليمالرسمي.

فمثلا أينشتين كغيره من الناس ,فيالقرن التاسع عشر, ظن أن نظرية الأثير المتداولة (أن الفضاء مملؤ بالأثير) صحيحة. فقام بحسابات له بناء على ذلك الفرض, مما اضطره لإضافة عدد ثابت للمعادلاتحتى تتناسب الحسابات مع النظرية ... ولكن لاحقا في القرن العشرين تبينأن النظرية خطأ, فتندم على ذلك وقال أن ذلك العدد الثابت الذي أضافه كان أكبر خطأ عمله في حياته.

ثم أنه من أين جاء هذا المصطلح BigBang المتداول؟ فإن ترجمته فيها مسائل! كان الغربيونيعتقدون أن السماء مملؤه بالأثير. وعندما نقضت هذه النظريه , قيل ذلك لدكتور فلكيفي جامعة بيركلي الأمريكية, الذى لازال يؤمن أن السماء مملؤه بالأثير, فغضب جداوقال ساخرا " أهي هكذا Big Bang” " واصفا الصوت !
و هكذا نري أنه دائما هناك يكمن إشكال في الإعتقادأو الإيمان في النظريات وليس في القوانين!
والله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم.
 
في مثل هذا التحاور حول مسائل علمية دقيقة ينهج المحاورون في المنتديات العلمية إلى تحديد جزئية واحدة لنقاشها، فإن أثار محاور جزئيات أخرى فإنها تهمل ، وليس بقصد إهمال مثيرها وإنما محافظة على مسار التحاور وتركيزه . ولا شك أن الفائدة تقل والتحاور يتشتت فيصعب على المتابع جمع أطرافه حين تكون المشاركة صياغة مختصرة لمجمل آراء المشارك وتصوراته الكلية عن الموضوع وليس عن الجزئية المطروحة بعينها ، فإن خلص المحاورون إلى نهايات ( لا أقصد إلى نتيجة واحدة ضرورة ) حينها ينتقل التحاور إلى جزئية أخرى ، وهكذا في ظني .
وبهذا نتجنب أن يؤسس أحد حواره على قاعدة في محور ثم ينقضها في محور آخر ! أو يذكر كلاما في محور ثم يكرره في محور آخر فيخونه التعبير فلا يبدو أن ما يقوله هنا مطابق لما يقوله هناك !
لذلك أجد هذا التحاور - وإن كان مفيدا - متعبا للمتابع ، وأسأل الله السداد للمحاورين وأشكرهم على ما أفادوا به .
 
أرى أنه لا يوجد أى تعارض منطقى بين فهم الأولين لأحد مرادات الله واكتشاف مرادات أخرى لله ادخرها سبحانه لمن يأتى بعدهم ، بل أرى أن هذا هو موطن الإعجاز الحقيقى فى كلام الله تعالى
الإعجاز الحقيقى هو أن تجد كلام الله تعالى عميق إلى هذا الحد ، حد ثراء معانيه وتنوعها ليخاطب شتى الأفهام والمدارك على مر العصور
أرجو ممن يطالع هذا الكلام أن يتأمله جيدأ ، فإنه نفيس ، وبه يمكن أن نمحو التعارض القائم ما بين السلفيين والإعجازيين والذى يبدو فى الظاهر تعارضأ حادأ ، بينما يمكن أن نجعله هشأ ضعيفأ
وفقنا الله وإياكم لفقه كتابه الكريم والذب عن إعجازه العظيم
فكرتك هذه استاذ عليمي منطقيه جدا وتتصف بالعمق والحكمه والبصيره الثاقبه ويكفي انها تقضي تماما علي الاشكال القائم بين السلفيين ودعاة الاعجاز بعد ان ظننا ان هذا الاشكال ليس له حل والمطلوب من الذي يرفض وجوه الاعجازات المكتشفه حديثا للقران ان يتامل هذه الفكره بحياد وموضوعيه
 
الرد على مداخلة # 32

الرد على مداخلة # 32

أتابع الرد على مداخلة #32

2- في مسألة التمييز أو التحديد بين العلم واللاعلم demarcation
(حيث يشمل اللاعلام - عند واضعي هذا الاصطلاح - أي شيء آخر غير العلم كما يفهمه هو، مثل: الغيبيات والأساطير والخرافات)

___

سأذكر أولاً السياق الذي استحضر هذا الاصطلاح (التحديد demarcation) إلى الحوار:

قلت لخصمي من قبل:
إذا كان مقصودك من (نظريات الطبيعيين) : [الفيزياء المعاصرة، وما يلحق بها، ونظرتها إلى الكون] فأرى أن تسفيه هذه العلوم هكذا على الإجمال، .. يطيح بالحق مع الباطل ... جملة واحدة.

وكلامي واضح: ومعناه أني أنتقد من خصمي استنقاصه - على نحو تسفيهي - من جملة نظريات الطبيعيين، التي هي الفيزياء المعاصرة وما يلحق بها. وسبب انتقادي أن ذلك يذهب بالحق فيها مع الباطل

فأجاب:
القضية تدخل في إطار ما يسميه فلاسفة العلوم الطبيعية بالتحديد Demarcation وليس "التسفيه".

وحيث أني أتكلم عن تسفيهه للعلوم، فلا بد أنه يجيبني عما أتكلم، .. أي أن لفظ (القضية) التي ذكرها تؤول إلى قضية التسفيه، أي الاتنقاص الذي يوجهه إلى نظريات الطبيعيين.
وبقوله أن هذه القضية تدخل في إطار ما يسميه فلاسفة العلوم الطبيعية بـ (التحديد demarcation) يعني أننا بإزاء (علم) و (لا علم) ... وبينهما حاجز هو (التحديد).
ولكن الغربيين يقصدون بـ (التحديد) التمييز بين العلم المحقق تجريبياً، أي ما يستند إلى "حقيقة علمية" ، و(اللا-علم) الذي لا يستند إلى شيء منها، ويشمل ذلك الميتافيزيقا. ... فكلامهم إذاً واضح.
ولكن كلام خصمي مختلف، .. لأن الفيزياء عنده لا تقوم على حقائق علمية، ومن ثم قام بالانتقاص منها وتسفيهها، .. وإذا طبق عليها معيار (التحديد)، فهي إذاً من اللا-علم. ويصبح العلم عنده بانفراد هو (القرآن والسنة وأقول السلف) دون أدنى زيادة.
ولبيان هذا الفرق، قلت له:
لا أراها من التحديد demarcation – الذي يقصده أصحاب فلسفة العلوم - في شيء. لأنهم يقصدون تمييز ما كان يستند إلى "حقيقة علمية" في العلم مما سواه، في وقت تنفي أنت وجود "الحقيقة العلمية" في ذلك العلم من حيث المبدأ!

إلا إذا كان هذا (التحديد) عندك هو التمييز بين (العلم) الذي هو مقيد (بحسم) بما قاله السلف – بعد القرآن والسنة طبعاً –، و(الاعلم) والذي يشمل أي زعم علمي طبيعي وراء ما قاله السلف، مهما كانت أدلته!.

وإذا كان ذلك كذلك، فالعلوم الطبيعية عندك من (اللاعلم)

وكلامي في غاية الوضوح ... وخلاصته أن معيار (التحديد) عنده في وادي، ومعيار (التحديد) عند فلاسفة العلوم في وادي آخر. وأن هذان الواديان متناقضان ، مثل الصورة الفوتوغرافية ونقيضها الذي يُسميه الناس (النيجاتيف). والذي فيه يصبح كل أسود أبيض، وكل أبيض أسود.
وبدلاً من الإقرار – أو التفاهم – على صحة هذا التصور المتناقض عنده عما عند الغربيين. قال الآتي:
أما مسألة التحديد (أو سمه التمييز أو التفريق أو ما شئت)، أو Demarcation تبعا للمصطلح الذي أطلقه كارل بوبر في منتصف القرن الماضي، فأوردتها في سياق الكلام على التفريق بين القضايا الداخلة في دائرة العلم الطبيعي (موضوعا ومنهجا واستدلالا) من جانب، والقضايا الميتافزيقية من الجانب الآخر، التي أعد قضية أيام الخلق الستة من جملتها! فلا تخلط الأوراق أصلح الله حالي وحالك! فإن تبين لك هذا، ظهر ما في قولك هذا من إجمال لا يليق بمن يتكلم في الفلسفة:

وكان قولي الذي ينتقده (لأنهم يقصدون تمييز ما كان يستند إلى "حقيقة علمية" في العلم مما سواه، في وقت تنفي أنت وجود "الحقيقة العلمية" في ذلك العلم من حيث المبدأ!)

وفي هذه العبارة عدة إشكالات:

الإشكال الأول بسيط: وهو أني لم أكن أختلف معه على مراد كارل بوبر من (التحديد)، إلا إذا كان يريد أن يذكَّرني بمصدر الاصطلاح ومعناه، .. فأقول: لا بأس.

أما الإشكال الثاني فجسيم: إذ أنه فاجأني في هذه العبارة بما لم أكن أتوقعه منه أبداً. وذلك في قوله:
أما مسألة التحديد .. فأوردتها في سياق الكلام على التفريق بين القضايا الداخلة في دائرة العلم الطبيعي .. من جانب، والقضايا الميتافزيقية من الجانب الآخر، التي أعد قضية أيام الخلق الستة من جملتها!

وأقصد أنه عدّ القضايا الغيبية بمطلقها (وما فيها من غيب مطلق ونسبي) مما يفارق (العلم). وأنه لا بأس عنده أن يكون كلام الخالق جل وعلا – باعتباره أخبار ميتافيزيقية – مما يندرج بـ (التحديد) في ما خلا العلم.
أعلم أنه يقصد أن ذلك التمييز أو التحديد بين العلم واللاعلم هو مسألة اصطلاحية عند من وضعها. وأنه يستخدمها كما هي. ويصنف مقولات ديننا بحسبها كما يصنفها الغربيون.!!!
فأقول: إنهم بهذا التصنيف – التحديد demarcation- يجمعون كل مقولات الأديان؛ التخريفية والصحيحة، سواء منها ما ضاع وما بقى، ويضعوها في سلة واحدة (إسمها: الميتافيزيقا)، ويقذفون بها في سلة المهملات.
فإن قال خصمي أنه إنما فعل ذلك باعتماده تصنيفهم للمقولات من حيث هي (فيزيقا و ميتافيزيقا) .. وليس من حيث هي (المستند إلى حقائق علمية من جهة، وعلم باطل من الجهة الأخرى)،
فأقول له أن حديثنا هنا عن (العلم المستند إلى حقائق علمية، وعلم باطل)، وليس عن تصنيف العلوم إلى (فيزيقا، وميتافيزيقا)
وإن كان التصنيفان متكافئين عند فلاسفة العلم الغربيين، أقصد (علم/لا علم) = (فيزيقا/ميتافيزيقا)
فهما غير متكافئين في الإسلام، لأن ميتافيزيقا القرآن علم (مطابق للواقع وإن لم نراه بعد)، رغم أنف فلاسفة العلوم، ومن يردد ترهاتهم عن لا وعي. إذ لا معنى للإيمان بغير هذا المبدأ العلمي الإسلامي. إلا أن يُنازعني مسلم على ذلك، فيضطرني إلى نقل اسمه من قائمة المتحاورين المسلمين إلى قائمة من سواهم!

أما .. لماذا اضُّطر خصمي – وهو منتبه أو غير منتبه علمياً- أن يقع في هذا المطب، ويصنف مقولات القرآن باعتبارها من الميتافيزيقا الخارجة عن إطار العلم المعتبر (باعتماد معيار التحديد demarcation)، .. فسيتضح من الإشكال الآتي:

الإشكال الثالث، وهو إشكال على إشكال:
في قوله (باللون الحمر):
مسألة التحديد .. فأوردتها في سياق الكلام على التفريق بين القضايا الداخلة في دائرة العلم الطبيعي .. من جانب، والقضايا الميتافزيقية من الجانب الآخر، التي أعد قضية أيام الخلق الستة من جملتها!

يؤمن خصمي – بخلفيته التعليمية والاعتقادية والعُرفية - بأن قضية أيام الخلق الستة من الغيب المطلق. ومن حيث التصنيف العلمي، فهي من ثَمَّ، من الميتافيزيقا، وحيث أن الميتافيزيقا ليس من الفيزياء باعتبار التصنيف التحديدي demarcation فسوف ينسجم إذاً أن يعتمد هذا التحديد الفلسفي الغربي كمعيار يؤمّن به موضعاً حصيناً يضع فيه قضية خلق الأيام الستة، بعيداً عن عبث الفيزيائيين بالغيبيات القرآنية، ويتقي شرهم وشر صداعهم، وتخريفاتهم حسب عنوان كتابه، ويكون ذلك حُجَّة عليهم..!!!

ولكن هل اشترى خصمي هذا الإجراء - الماكر علمياً - بلا ثمن؟!
لا، إنه ثمن باهظ، بل قاتل !!! ... إنه جعل مقولات القرآن الغيبية من اللاعلم، بمجرد اعتماده معيار (التحديد) لتصنيفه!
وليت الأمر يقتصر فقط على الغيبيات، ... بل إنه لا فرق بين الشهادة والغيب في القرآن باعتبار المصدر، بمعنى، أنه إذا كان غيب القرآن من اللاعلم، فبأي معنى تصبح أي آية في القرآن من العلم؟! .. وعليه سينسحب حكم اللاعلم على كل القرآن.
وماذا أيضاً؟ .. أوليس العلم هو ما يقر به الواقع، .. فلا ينبغي أن يستشهد أحد بالواقع على معنى آية من معاني القرآن، ... وليكتفي المسلمون بما ألقي في روع السلف من معاني سجلتها المدونات التفسيرية. ... وليصمت أصحاب التفسير العلمي، وليصمت أصحاب الإعجاز العلمي.
هكذا إذا يلتم التصور الحاجب للقرآن عن عبث العابثين، بوضع القرآن وآياته العلمية الطبيعية في الميتافيزيقا، ويكون معيار التحديد (الذي وضعه فلاسفة العلم الغربيين) هو الحارس العلمي الأمين على القرآن، ولا يهم الصفة العلمية أو اللاعلمية ... فالمسألة – بل كل المسألة الدينية – ليست إلا ميتافيزيقا!! ..

هذا هو الثمن، الذي يضطرنا إليه تنظير خصمي العزيز؛ أن يوضع القرآن في دائرة لا يتعداها (التعبّد والنسك، والطقوس، وتصورات الناس الكونية في صدر الإسلام)، ولأي غرض؟! ...لغرض حجر التأويل الطبيعي عنه!. وبمن وبماذا يتحصن؟! ... يتحصن بموافقة منكري إلهية القرآن (فلاسفة العلم)، على (لا- علمية) القرآن، باعتباره ميتافيزيقا، ومن ثم (أنه ليس من العلم)!!!

نقول، والله إننا لا نوافقه على دفع هذا الثمن، ولسنا بحاجة، ونؤمن بأنه لن يكون لنا حاجة، وليدفعه هو مما يملك، وليُحاسَب هو عليه، .. أما ديننا .. فلن نذر من لا يفقهونه أن يلعبوا به، فيحجرونه مرة، ويبخسونه أخرى!!! ... لأنه يعلو ولا يُعلى عليه، .. وإن كان من علم للبشر في الأرض، فالقرآن أصدق منه جميعاً .. في كل شيء أخبر به.. بما فيه حقائق الكون الطبيعية .. رغم أنف من لا يعلمون.

___

- ونعود لنقول: بدلاً من أن يحرث خصمي العزيز أرض المسألة، ويدرسها درساً، ويحلّلها على هذا النحو الكاشف عن خباياها ونواياها، إلا أنه جاء ليقول لي (باللون الأحمر):
أما مسألة التحديد .. فأوردتها في سياق الكلام على التفريق بين القضايا الداخلة في دائرة العلم الطبيعي .. من جانب، والقضايا الميتافزيقية من الجانب الآخر، التي أعد قضية أيام الخلق الستة من جملتها! فلا تخلط الأوراق أصلح الله حالي وحالك! فإن تبين لك هذا، ظهر ما في قولك هذا من إجمال لا يليق بمن يتكلم في الفلسفة:

وذلك عندما قلت له: أنهم يقصدون تمييز ما كان يستند إلى "حقيقة علمية" في العلم مما سواه، في وقت تنفي أنت وجود "الحقيقة العلمية" في ذلك العلم من حيث المبدأ!
وأصبحت أنا في نظر خصمي العزيز الذي اخلط الأوراق، وبأي صفة؟! ... بـ إجمال لا يليق بمن يتكلم في الفلسفة ؟! .. وأصبح هو بريء من قوله أن ما في القرآن من وصف سنن الطبيعيات التي عليها خلق الكون، إنما هو من الميتافيزيقا، .. أي من اللا-علم. وأن ميتافيزيقا القرآن من ثمّ (ليست من العلم).

هذا والله من أعجب ما رأيت وقرأت من منطق لمحاور يدافع عن القرآن!! .. ومن أشد من يبخس القية العلمية في القرآن في آنٍ واحد!!! ... وما هي عُدته في ذلك؟! ... إنها فلسفة العلوم في القرن الحادي والعشرين وما شُحنت به من قرون قريبة مضت .. ما أشبه الليلة بالبارحة ... أوليس هذا هو ما أخذه السلف على علم الكلام في الماضي .. أقصد دفاعهم عن القرآن بعُدّة الفلاسفة؟ ... فما الذي نراه اليوم هنا، .. نرى أحدهم يحمل أدوات من نفس العُدة – (التحديد demarcation) ليُقصي القرآن من رتبة (العلم) إلا (اللا-علم) كي يتجنب الاعتراف بأن القرآن مصدر للعلم ينافس العلم البشري في الطبيعيات؟!
ولا أرى إخواننا من أهل السلف إلا ليعارضوه على هذا الفعل الشنيع، بل الأثيم. ولئن دافعوا عن زعمه هذا أو أخرجوه منه بلطيف من الكلام، أو فرارا بشيء من الأعذار! .. فلن أراه فعلاً منهم يُرضي الله تعالى ورسوله.

الإشكال الرابع:
ويقع في افتراق منهج خصمي في قبول الحقيقة العلمية، عن أصحاب معيار التحديد demarcation الذي استشهد به، وقد أوجزته في عبارتي باللون الأزرق في الاقتباس السابق. وهو اعتراض مبني على عدم جواز الاستنصار بمعيارهم لاختلاف تعريف الحقيقة العلمية بينه وبينهم، حيث أنه يسقط الحقيقة العلمية عن التجريبيات، في وقت أنهم لا يعتمدون غيرها، فكيف يليق به أن يعتمد معيارهم؟! ... فكان رده الأخير في هذه المسألة ما رأى القارئ من تسخيف بكلامي المعترض بعد كل ما رأينا من عرض. وأصبح استخلاص معنى "الحقيقة العلمية" الذي يؤمن به خصمي عسير إلى الدرجة التي يكون غيابها أقرب من حضورها!

وتبقّى في هذا الإطار ما أشرت إليه من خطورة هذا الالتباس في تعريف "الحقيقة العلمية" على أبناء المسلمين، إذا حصرها خصمي في اقوال السلف – بعد القرآن والسنة – ومنعها عن الفيزياء والكونيات، وقلت له:
أي قارئ لكلامك – وخاصة الشباب – سيفهم هذا، ويكون ذلك فتنة لهم، تصدهم عن الثقة بالعلم، مهما قامت عليه الأدلة!!! .. وبدلاً من أن يقتحم لجة العلم، ويتأهل للتحدي، ينزوي في مسجد يحفظ المتون، وينتظر ملائكة السماء تأتي لنصرته!!!

وكانت المفاجأة أن قال:
تهكم سخيف لا ألتفت إليه! والفتنة إنما يقع فيها من لا يقيم وزنا لإجماعات السلف في فهم كلام ربهم، لا من يدعوهم لبناء أصولهم الفلسفية على منهج صحيح محكم، يفترق فيه موضوع العلم الطبيعي والتجريبي عما وراء الطبيعة نفسها وأسبابها ونواميسها!

ولم يحدث أني لم أقم وزنا لإجماعات السلف إذا قامت على نصوص الوحي ولوازمه، أمّا ما قام منها على ثقافات قديمة، وما يلحق بها من آراء وتصورات شخصية، فلا علاقة لها بالقرآن والسنة الصحيحة، فما الذي يُلزمنا بها؟!!! ...أقصد مثلاً: ما الذي يلزمنا بأن " الْعَادِيَاتِ " لا تخرج عن أن تكون الإبل (رأي عليّ بن أبي طالب) أو الخيل (رأي ابن عباس) - رضي الله عن الصحابة جميعا؟ .. هل نقبل أحدهما ضرورة لأن أصحاب الرأي من كرام الصحابة، أم لأن الأدلة تقودنا إلى ذلك؟! .. أوليست هذه الآراء من حيث كونها رأي، تُصنف مع ما قاله النبي صى الله عليه وسلم في تلقيح النخل، الذي قاله بمحض الرأي، وقال ما يفيد أنه لم يكن خبراً عن الله تعالى؟! ... ألم يتراجع عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقدّم (الخبرة) في نوع هذه المسائل، وقال "أنتم أعلم بأمر دنياكم"(مسلم)، وميز بوضوح بين الرأي والخبر. أين هدى النبي لمن يدعيه، ثم ينكص عنه؟! وعليه تكون أقوال الصحابة ومن وراءهم، المنبتة عن الخبر، ليست إلا رأياً. فإن كانت في العقائد والوصايا واللغة، فآراؤهم مقدمة ولا شك. فصحبتهم وقربهم من نزول الوحي يلزم العاقل بذلك، أما معاني آيات القرآن الكونية، فلا تدخل في الرأي، إما (خبر)، وإما (خبرة)، ولا رأي، إلا أن يؤول الرأي إلي (خبر أو خبرة) استدلالا. ولن نقبل بوقوف الأرض لأن السلف قالوا بذلك، إلا إذا أخبرونا أن الله تعالى منع ضرورة تلقيح النخل ليوافق قول النبي صلى الله عليه وسلم! .. وما يستطيعون .. لأن النخل ما زال يُلقّح!!! .. وكذلك نحن لا نستطيع القول بوقوف الأرض إكراما لهم، لأن الأرض ما زالت تدور. ... ومن ظن أنه يكرمهم بذلك، فسوف يتبرأون منه إذا لقوه.

كما أني لم يحدث أن بنيت أصولي على فلسفات كالتي يغرق فيها خصمي، ويتوهم أن كل الفيزيائيين يتجرعون كؤوسها، بل إن الفيزياء الصحيحة - والتي ندعو إليها - يجب أن تؤسس على تجريبيات خالصة، تتميز به بوضوح عن التأويل البشري، وتمتد جذورها في الأرض الراسخة، وتدمغ الأبصار والأفئدة بمعانيها، وتطرق الوعي عندهم طرقاً موقظا! ... أما العقل المجرد .. فليس إلا عبث وأحلام، وخيال وأوهام.

كم هي (في مثل قوله: تهكم سخيف) من اتهامات مزورة، وقاذعات من الألفاظ مؤذية، وتلبيسات من الاصطلاحات مُضلِّلة، واشتباهات من المعاني جانحة. .. وليس غريباً أن يقع هذا لمن تناول الفلسفة، وخاض غمارها الجارفة، بكلام لا جذور له، ولا أرض من الواقع يرتكن إليها، فيؤول به الحال إلى مثل هذا المآل، وربما إلى ما هو أسوأ حال. .. إنما الغريب أن يجتمع هذان النقيضان (المرجعية السلفية، والمنهجية الفلسفية) بعد عداء السنين، ونزاعات في الفكر طلعها أليم!!! ..وأين اجتمع النقيضان؟!... في قلب رجل واحد، مع غياب شبه تام لأي أصول تبريرية من الوحي، قرآن وسنة، يمتطيها، مع عداءٍ تام لدلائل الحس والتجريبيات الواقعات، كان يحسن به أن يقتفيها... طَبْخَة جديدة من طبخات الحجاج الديني في هذا العصر، أشبه ما تكون بـ (ما-بعد-الحدثة post-Modernism)، لا تُفرز إلا النقائض، ولا تثمر إلا تعطيل القرآن، وفتنة المسلمين عن العلم، والغوص في بئر عميق من الفقر العلمي والحرمان، هل هي (ما-بعد-السلفية post-Salafism)؟ .. ربما!

ولن تسفر هذه الحركة (السلفية-الفلسفية، أو ما-بعد-السلفية) إلاّ عن مزيد من الاستقطاب، ... جيل ممتد من شباب السلفية مُغرق في التعالي على العلم الحديث وتسفيهه ... وجيل أرحب من طلاب العلم الحديث، متوجس من نبذ السلفية له ولأفكاره العلمية، وكأنه قابض على جمر مما يُتَّهم به الشريف، ويلحق به العار المُخجل. وكلا الفريقين على شفا جرفٍ هارٍ، إما ينكفئ المرء منهم على التعبد واعتزال الحياة الحديثة بأدواتها وعلمها، ويترك مصارعة الإلحاد الذي يرتع ويمرح، وأقصى ما يعانده به مخجلات من الحجج كالذي يصارع طواحين الهواء، .. وإما ينكفئ على عبادة الأخيرة ويُلحد في دين الله العزيز الحكيم!! .. أعاذنا الله وإياكم ... جيل تُحرجه الخصومة ، ويُشتته العناد، ويتمزق فيه الفؤاد، بين قلب مع الدين، وعقل مع العلم!!!
___

ولن أنسى ذلك اليوم الذي سألني فيه قاضي شرعي، وأخ عزيز، يحمل دكتوراة عالية القدر في علوم الشريعة، وما زال حياً يُرزق، أطال الله في عمره، وقال:
ألا يمكن أن يكون الغربيون على اتصال بالجن، وهم الذين علموهم هذه الصناعات الحديثة؟! .. ألا يمكن طرق هذا الباب بنية فعل الخير؟!
سؤال صعقني ، وما زال يتردد صدى صعقه في نفسي بعد سنين كثيرة، لشدة ما ترك في نفسي من أسى وحزن لما آل إليه أمرنا!

- ولنا أن نسأل أنفسنا، ... كم غير هذا الشيخ الفاضل - وهو عندي فاضل حقاً - يفكر بهذا المنطق، ولم يُفصح عن مكنونه مثلما أفصح هذا الشيخ؟!
كيف يرى طلاب الشريعة وخريجوها على مدار العقود الأخيرة، العلم الحديث والاختراعات ويفهمون وجودها وأسبابها المادية، وعلاقتها بآيات القرآن،
هذه دراسة ميدانية في مجتمع العلميين الشرعيين، يجب أن تجرى، وتؤخذ على إثرها القرارات التعليمية التي تناسب ما لدى المُختَبرين من إجابات، ربما تكشف عن مأساة علمية حقيقية، لا يدري عنها أصحاب القرار، .. إن لم يكن هم أنفسهم يتجرعون من نفس الكأس، الذي أراه أشد حرمة من كأس الخمر الذي حمى الله المؤمنين منه.
___​
ولن تتوالى الأيام إلا بمزيد من علم حديث، ألصق بالحواس، وأبلغ في الإقناع، .. في وقت يعود فيه أهل الدين إلى الفلسفة، ليهدموا العلم مع الإلحاد، لعدم القدرة على التمييز بينهما، يهدمون المعهد (ولا أقول المعبد) على كل من فيه، نعم .. يعودون لبحار وأغوار لا تقنع عاقل ولا تسمن من جوع!!! .. هل هذا هروب من العلم وأسبابه بعد أن تم تسفيهه؟! .. ربما .. أسئلة لن تتيسر الإجابة عنها، إلا بمن يؤمن بوجودها .. وهي موجودة، .. فقط ميزوها وأخرجوها حيثما تكمن، لما سبّبتْه لنا من مرض حضاري .. كما تخرجون أسباب المرض العضوي، .. وحصنوا منها أبناءكم كما تحصنوهم منه،.. وأهّلوهم ليقوموا بالمهمة التي لم تستطيعوا أنتم القيام بها ... عسى أن يوفقهم الله، ولا يؤول بهم الحال إلى ما آل بنا.

وليس أمامنا إلا أن نقول: اللهم سلّم سلّم.


___
تابع المداخلة التالية ....
 
الغريب أن يجتمع هذان النقيضان (المرجعية السلفية، والمنهجية الفلسفية) بعد عداء السنين ... طَبْخَة جديدة من طبخات الحجاج الديني في هذا العصر، أشبه ما تكون بـ (ما-بعد-الحدثة post-Modernism)، لا تُفرز إلا النقائض، ولا تثمر إلا تعطيل القرآن، وفتنة المسلمين عن العلم، والغوص في بئر عميق من الفقر العلمي والحرمان، هل هي (ما-بعد-السلفية post-Salafism)؟ .. ربما
أضم استغرابى إلى استغرابك من هذا المزيج العجيب ما بين المرجعية السلفية والمنهجية الفلسفية
ولكن يزول العجب حين نقف على السبب . ذلك أن الفلسفة ذات ثوب واسع فضفاض ، بحيث يمكن أن يجد فيها كل أصحاب اتجاه ما يعضد اتجاههم وينصر مذهبهم ، حتى وإن كانت هذه الاتجاهات والمذاهب متضاربة متناقضة ، فالفلسفة بمنهجها الجدلى - والسوفسطائى أحيانأ – تمنحهم جميعأ الذرائع والأسباب التى ينصرون بها مذاهبهم المتصارعة
وهذا بخلاف العلم وثوبه المحكم المنضبط ( على المقاس ) فمنهجه التجريبى الإستقرائى لا يترك مجالاً لهواة الجدل والسفسطة الذين يجادلون حتى فى البديهيات والحقائق البينات ، بل وفى رأى العين والمعارف الحسية الخالصة !!
ولهذا كان من الطبيعى لبعض ذوى الأيدلوجيات الخاصة أن يجدوا فى الفلسفة سلاحأ يدعمون به ايدلوجياتهم ، وهو ما يهمهم بالدرجة الأولى ، لأنهم لم يتجردوا للحق ذاته ، وإنما لنصرة مذهبهم فحسب ، فهذا يمثل لهم كل شىء ولتذهب حقائق العلوم إلى الجحيم ، فالمهم هو الإنتصار للمذهب ولو بأى ثمن !!
تابع المداخلة التالية ...
أرجو ألا تتأخرعلينا أخى عز الدين ، فالحق إنى أجد فى قراءة ما تكتبه متعة عقلية خالصة ، لا لشىء إلا لأنى أجد كتاباتك تسعى جاهدة وبإخلاص تام إلى بلوغ الحق وتخليصه مما علق به من أباطيل ، ومن ذلك مثلاً موضوعك عن براءة التفسير والإعجاز العلمى فى القرآن من الشكوك عليه ، والذى أرجو أن تعاود الكتابة فيه من جديد
وفقك الله وسدد خطاك ، وأعانك على إظهار الحق
 
الرد على مداخلة # 32

الرد على مداخلة # 32

أتابع الرد على مداخلة #32

3- تدور هذه المسألة حول: (النظرية والتنظير)، وجاء تسلسل السياق على النحو التالي:

قلت أنا (في مداخلة # 10):
في كل (نظرية طبيعية)، نرى تداخلاً بين الحق والباطل. فيزيد الحق في بعضها، حتى أن الناظر لا يجد فيها باطلا، وقد يزيد الباطل في غيرها حتى لا يُرى معه حقاً، وبين هذين القُطبين تتوزع أغلب النظريات في تداخل الحق والباطل.

وأعقبت ذلك بأمثلة لنظريات (ذرية – أي لا تتفكك إلى تنظيرات أدق) أصبحت حقاً خالصاً: (دوران الأرض حول محورها، وعدم تناثر الكواكب على الأرض كما كان يظن بعض المفسرين).
وجئت بمثال لنظرية ما زالت في عداد الباطل الخالص، (الأوتار الفائقة)،
وأمثلة لنظريات تداخل فيها الحق والباطل (النسبية والكمومية).

فقال خصمي العزيز (مداخلة #11 ):
(وقعت في إجمال) .. إذ تقول "في كل نظرية طبيعية حق وباطل"! فلو قلت "في كل صناعة من صناعات العلم الطبيعي" Discipline مثلا، لقارب قولك أن يكون صوابا، وإن كنت لا أسلم لك به، حتى نتفق على المقصود بالصناعة العلمية الطبيعية أو المجال الأكاديمي الطبيعي أولا

فأجبته (مداخلة # 18):
قولي: في كل نظرية طبيعية حق وباطل
كلام مقصود لمعناه، لأني أعني هنا بكلمة "نظرية" كل تنظير، سواء امتد ليشمل صناعة علمية (باصطلاحك discipline) أو ذرياً ليقتصر على فكرة صغيرة ضمن نظرية أكبر. بمعنى أن أتعمد الإجمال، لأني أضع قاعدة عامة وهي وجود الحق والباطل من حيث المبدأ في كل فكر إنساني (تنظيري). وما يؤكد كلامي أني أتيت بأمثلة تنظيرية ذرية (أن الأرض تدور حول محورٍ لها)، و(أن الكواكب لا يمكن أن تتناثر وتقع على الأرض). إذا أن الصنعة العلمية discipline نظامٌ معقد من تنظيرات ذرية. والحكم الواحد المجمل على صناعة علميةٍ ما، يجب أن يمر أولاً على دقائقها التنظيرية الذرية (أقصد مقولاتها) لا أن يتجاوزها ليصدر حكماً مُجملاً يطيح بالحق في دقائقها، إذا أراد نسف الصنعة، أو يثبت الباطل إذا أراد نصرة الصنعة. .. ومن ثم .. لا ينبغي الاحتجاج على مرادي الاحتجاجي لأنه مقصود، ويؤدي الغرض المفهومي الذي صيغ من أجله.

فانزعج خصمي العزيز وبدأ التهجم وقال (مداخلة #32):
يا أخي والله ما رأيت مثلك تكلفا في الرد والجدال، ولا حول ولا قوة إلالله! مَن مِن الفلاسفة والعلماء قبلك سوى في الاصطلاح بين الصناعة العلمية Discipline ومطلق "التنظير" على نحو ما تكلفته أنت هنا، حتى تخرج نفسك من دعوى وقوع الإجمال في بعض كلامك؟ وكيف لي أنا أن أفهم أنك تريد "بالنظرية" (وهي مصطلح معروف مفهوم عند أهل العلم والنظر) مطلق التنظير (الذي مددته حتى يشمل تأسيس الصناعات العلمية كلها)؟ وكيف لا تكون تلك التسوية في نفسها التي أعجزتني أنا - على الأقل - عن فهم مرادك على وجهه الصحيح = إجمالا لا يحمد لك عند الجدال والخصومة؟

هذا رغم أني لم ابتدر أي كلام عن:
(الصناعة العلمية Discipline)
في كلامي، ويمكن تعقب من الذي ابتدأ به!.. ولم يكن ذكري للنظريات (الأوتار الفائقة والنسبية والكمومية) إلا باعتبارها نظريات؛ أي تحت النظر، وليس باعتبار أنها غُلِّفت وروّج لها كصناعة علمية، وكونها معروضة في سوق العلوم، ... وكل ما ذكرته .. كان عن النظرية التي يُنشئها العقل البشري – بسيطة أو مركبة - .. وإن حدث وتطورت النظرية المركبة إلى (صناعة علمية Discipline) فهذا إلحاق بأصل الموضوع، وامتداد له، .. أسقطه خصمي من عند نفسه، .. وتمسك به .. وأفرده بالحديث، .. ثم حاسبني عليه! ... ومرة أخرى: ما ذكرته كان (النظرية/التنظير) من حيث هو فعل بشري – يخطئ ويصيب.

لذلك أقول: ....

أين هو هذا التكلف في الرد؟! .. وأين هو الجدال ... ؟!!!
ذكرت القاعدة العامة، وأتيت بأمثلة توضيحية له (ما بين مفصَّل ومجمل، أي مُفردات وجمل؛ في فضاء التنظير)، يفهمها أي ناطق بالعربية في مستوى ثقافي متوسط!

وأين هو الإجمال الذي يمكن أن يُشتكى منه، وأنا أدلّل على أن التنظير البشري محل شك في مُجمله لكونه بشرياً، ويجب تفصيل إجماله، بإثبات الصواب ودرأ الخطأ عنه، لا أن يُلفظ جملة وتفصيلا لاعتبارات فلسفية محضة، وأن ذلك يعم التنظيرات العلمية، حتى لو تبلورت هذه النظريات في صناعة علمية Discipline مثل النسبية والأوتار الفائقة، ومثلما ينطبق على دوران الأرض وقت أن كانت نظرية تحت النظر، وما زالت كذلك عند عن بعض المُنكرين لها، بلا تحقيق؟! .. ومثلما كان موهوماً من تساقط الكواكب على الأرض .. واندرس في بحر النسيان المعرفي .. وما زال طلاب الشريعة يقرؤونه في التفاسير .. وليس غريباً أن يصدقه بعضهم!!!

وأين هو الالتباس في الفهم، .. أللهم إلا عند من يرمي غيره باتهامات لا أصل لها، تُجافي العقل وتهزأ به ... وعلى نحوٍ لا هو علمي ولا فلسفي ... بل ولا حتى ثقافي؟!!!

- أما إنكار أن يكون هذا الفهم لمعنى النظرية theory – وارتباطها بعموم التنظير theorization/theorisation- معروف لدي الفلاسفة والعلماء عندما قال:
مَن مِن الفلاسفة والعلماء قبلك سوى في الاصطلاح بين الصناعة العلمية Discipline ومطلق "التنظير" على نحو ما تكلفته أنت هنا

فهو أمر شديد العجب من قائله! ... فالصناعة العلمية ليست إلا نظرية، والوصول إلى النظرية يُسمى تنظير. ومن كثرة ارتباط هذين الاصطلاحين فيما أقرأ دوما من مصادر ودوريات علمية، لا أدري كيف أدلل عليه من شدة شيوعه ! .. وحالي في ذلك مثل حال من أراد أن يثبت تردد العلاقة بين (شرب الماء) و(الارتواء من العطش)!!!

وإذا كان الكلام عن الفعل البشري، فالتنظير هو الطريق إلى النظرية. فأي غرابة في الحديث عنهما باعتبارهما البشري؟! ... ولماذا يصادر السامع على المتكلم في ما يريد قوله؟! .. إن المتكلم حر في كلامه لما يريد من معاني، وعلى السامع أن يتفهم كلامه إن أراد فهمه، .. فإن فهمه .. فله أن يؤيده أو يبطله إن استطاع، وإلاّ.. فليصم عنه أذنيه، لا أن يصادر عليه. إن المتكلم والسامع مثل محطة إرسال ومحطة استقبال. والأصل أن تقوم محطة الاستقبال بتوليف موجتها على ما قررته محطة الإرسال وأذاعته وبثته على أمواجها، لا أن توبخها على اختيارها الحر! .. فهذا من أعجب العجب.

وعلى ذلك أنصح من لا يفهم كلامي هنا، أو يريد الاستزادة التوضيحية المُسهبة، أن يُراجع في فهم العلاقة بين التنظير والنظرية، المصدر الآتي:

الفصل الثالث: [النظرية والبحث العلمي الاجتماعي] ص (217-327)
من كتاب: "مقدمة في أصول فقه العلوم الاجتماعية والإنسانية"، دارسة تحليلية نقدية للأصول الغربية لعلوم الاجتماع والإنسانيات من منظور إسلامي.
تأليف عزالدين كزابر، نشر دار الفكر العربي، القاهرة، 2008، 605 صفحة. وهو كتاب في علم العلم، ويتناول أصول التنظير في العلوم عامة، ثم تركيز شديد في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويُدرج الكتاب في فلسفة العلوم الاجتماعية ذات المرجعية الإسلامية، ويحمل رقم (41) في سلسة كتب التربية وعلم النفس، ويُدرّس في عدد من كليات التربية بالدرسات العليا، وما يقاربها.
والكتاب متاح في مكتبة الإسكندرية للمطالعة والاستعارة، (وكان،وربما ما يزال) مُتاح في دار الفكر العربي بالقاهرة، وفي السعودية في مكتبة المتنبي، إن لم يكن في غيرها أيضا. وإن شاء خِصْمي المتهكم على مؤلف الكتاب أن يرسل له المؤلف شيئاً من فصوله، في حدود صلاحيات النشر، فلا مانع عندي. ويمكنه قراءة أول 50 صفحة على موقع مكتبة الإسكندرية شامل الفهرس، إن شاء.
هذا مع العلم بأن الباعث على نشر الكتاب كانت توصية رائعة من الدكتور (سعيد اسماعيل علي) مقرر اللجنة العلمية للترقية إلى وظيفة أستاذ في أصول التربية والتربية المقارنة- جامعة عين شمس ، وهو لا يعرف المؤلف، ولا يعرفه المؤلف، .. ودون أن أُذكِّر خصمي العزيز المتهكم .. أن التخصص الأصلي لمؤلف الكتاب هو الفيزياء النظرية، قبل عدة عقود، ولم يحدث أن دَرَسَ شيئاً في علم الاجتماع في حياته دراسة نظامية. وأذكّره أيضاً أنه لولا هذه المسألة عن العلاقة بين التنظير والنظرية، لما ذكرت له شيئاً عن هذا الكتاب، وباعتباره مرجعاً لها، لا أكثر، ومع العلم أنه ليس الكتاب الوحيد، ولا أرى داعي لذكر غيره مما ألَّفت، ولست بحريص على الترويج لها.
وأذكّر خصمي أنه إذا كان هذا الكتاب في غير تخصصات المؤلف الأصلية ,الأكثر تجذراً، فماذا يتوقع منه فيما يولَّفه فيها؟! ... ولا فخر ... أقصد: الفيزياء والكونيات وفلسفة العلوم، والتفسير العلمي في القرآن الكريم وإعجازه؟!

وأدعوا الله .. وأقول: أعوذ بالله العظيم، من الفخر والمتفاخرين، كما أعوذ به سبحانه من النقص والمُتَنَقّصين ... اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون. .. وصلي اللهم على محمد وآله الأطهار أجمعين، .. وصحابته الأبرار، والتابعين المُحسنين، آمين.


تابع المداخلة التالية ....
 
السلام عليكم , إخواني الأعزاء أرجوا عدم إهمال ما أقدمه فهو ليس جزئية بل هو الأصل الذي تبنوا عليه تحليلاتكم لهذا والله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم أن هذا الخلاف لا يحسمه إلا معرفة الفرق اللغوي الشرعي بين المسلَّة و القانون و النظرية. وعدم الأخذ إلا عن المسلمين ذوي العقيدة السليمة الذين قاموا بلأبحاث بأنفسهم شاهدين و غير ناقلين .
 
أخي العزيز/ الأستاذ علي

ما أثرته من قولك:
هذا الخلاف لا يحسمه إلا معرفة الفرق اللغوي الشرعي بين المسلَّة و القانون و النظرية. وعدم الأخذ إلا عن المسلمين ذوي العقيدة السليمة الذين قاموا بلأبحاث بأنفسهم شاهدين و غير ناقلين
ليس هو محل النزاع.

فقولك هذا يشمل مسألتين لاحقتين، لأصل يجب أن يتم الاتفاق عليه أولاً، ليزول الخلاف،
ألا وهو أن الحس والتجربة يكشفان عن أصل معرفي في نفسه يجب أن يكون مصدر مثلما أن القرآن مصدر.

فالله تعالى قال كلاماً، وخلق خلقاً.
1- فما قاله الله تعالى (القرآن) مصدر معرفي.
2- وما خلقه الله تعالى (الخلق) مصدر معرفي.

والخلاف بيني وبين خصمي كان على الثاني من هذين المصدرين.
أي على اعتبار أن خلق الله تعالى - الذي نستقي منه المعلومات بالحس والتجربة - مصدر صادق يمكن الاعتماد عليه، ثم تحكيمه في بيان كلام الله تعالى الذي مازال عالقاً مشتبهاً.

فإن أقر خصمي بذلك، يزول الخلاف، وينفتح الباب للاتفاق على الآلية التي يتم من خلالها معالجة المعلومات التي تُستقى من هذا المصدر الثاني؛ أي الخلق.

وفي هذه الآلية سنتعرض بالضرورة للعديد من المسائل، والتي منها ما أثرته أنت أعلى، من صدق القائمين بالأبحاث، وصحة عقيدتهم، والثقة في النقل عن غير المسلمين، وكيفية تصنيف المعلومات المستقاة من حيث الثقة وقوة التنظير (بدهية .. مُسلّمة .. فرضية .. مبدأ .. نظرية .. قانون). ... إلخ
 
الرد على مداخلة # 32

الرد على مداخلة # 32

أتابع الرد على مداخلة #32

4- حول مسألة: هل تسقط نظرية مكتملة (أي: صنعة علمية Discipline) سقوطاً مروعاً بكلياتها وجزئياتها، لسقوط ما أسست عليه من منطلق فلسفي علمي؟

إجابة خصمي العزيز هي: تسقط النظرية (الصنعة العلمية) بكلياتها.
أما إجابتي فهي: لا..... لا يسقط إلا المنطلق الفلسفي للنظرية بعينه، أما دقائقها، وما أُلحق بها، فتختبر بانفرادها عن ما بدى أصلاً لها، وقد تسقط وقد لا تسقط.

وإليكم سياق الحوار:

قال خصمي العزيز في مداخلة #9:
النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية لا يصح أن يطلق على أي منها اسم "الحقيقة العلمية" أصلا، كما بينت وجهه فلسفيا في الكتاب المذكور آنفا - يقصد كتابه المعنون بـ : [آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين]

فدعاني ذلك إلى الرد عليه في مداخلة #18، وقلت:
في كل نظرية طبيعية حق وباطل ... والحكم الواحد المجمل على صناعة علميةٍ ما، يجب أن يمر أولاً على دقائقها التنظيرية الذرية (أقصد مقولاتها) لا أن يتجاوزها ليصدر حكماً مُجملاً يطيح بالحق في دقائقها، إذا أراد نسف الصنعة، أو يثبت الباطل إذا أراد نصرة الصنعة.

فأجاب خصمي في مداخلة #32:
لست أسلم لك به! لأن النظرية الطبيعية التي يخصص لها فرع علمي كامل Sub-discipline، لو صح الاعتراض الفلسفي الكلي على أصولها ومقدماتها الفلسفية، فإنها تسقط ويسقط معها ذلك الفرع العلمي بأكمله لقيامه عليها، دون التفات إلى تفاصيل ما جاء به الباحثون في أبحاثهم في ذلك الفرع العلمي! وهذه قضية منطقية مدارها على الربط بين الأصل والفروع، فإن ثبت التفرع، سقط الفرع بسقوط الأصل! وأكرر: إن ثبت التفرع، وإلا فلا جدال في أن الأصل أن كل دعوى معرفية تنظر بحسبها.

أقول:
بحكم خبرتي الفيزيائية وما انبنى عليها من فلسفة علمية، فإن هذا التعليق من خصمي العزيز في غاية الفساد في قابليته للتطبيق. وبرهاني على فساده كالآتي:

- إن العرض التعليمي (البيداجوجي pedagogy) للنظريات الطبيعة (وأنظمتها Dsiciplines) عروض مسرحية (ولا يمثّل ذلك أي قدح). يتم فيها توصيل النظرية والصنعة لمتعلميها وجمهور المجتمع العلمي المستقبل لها في صورة سيناريو ذو فصول متتابعة منطقياً كي يجد صاحب النظرية لها قبولاً منطقيا، وقدرة على الصمود والثبات.
وغالباً ما تختلف فصول هذا العرض المسرحي وتتابعها المنطقي المعروض، عن فصول نشأة هذه النظرية التاريخية.
بمعنى أن لكل نظرية طبيعية (وصلت إلى مرحلة النضج كصناعة علمية) هناك سيرورتان:
الأولى : تتابع منطقي تعليمي.
الثاني: تتابع تاريخي نشأوي.

ولتقريب الصورة، يمكن لأهل العلوم الشرعية إدراك الفرق بسهولة بما يعلمونه من ترتيب القرآن في المصحف (الذي يقابل التتابع التعليمي والغرض النفعي من القرآن - قراءةً، وتبويباً، وتعليما)، .. وترتيب نزول آيات القرآن (الذي يقابل التتابع التاريخي).

وهذا الفرق بين السيرورتين في العلوم الطبيعية لا يعلمه إلا المتخصصون في تلك النظريات من حيث نشأتها، ومن حيث تعليمها.
أما أغلب العاملين في الفيزياء تعلماً وتعليما، فلا يعرفون إلا السيناريو التعليمي، وفي أغلب الأحيان يُفاجأون إذا علموا أن نشأة العلم الذي يعيشون معه ربما طول عمرهم لم تجر على هذا المنوال الذي ألفوه. ... أما الضيوف على النظريات العلمية وأنظمتها ... فهم أبعد وأبعد عن إدراك هذا الفرق، ناهيك عن إدراك وجود ترتيب غير الذي يعرفونه من عرضها التعليمي.

- والآن: إذا تم كتابة سيناريو النظرية أو الصنعة العلمية على نحو يقول للطالب أنه بناءاً على الأصل (الفلسفي (أ)) سنحصل على العلاقة (ب). ومن ثمّ، سنستدل على العلاقة (ج) ..

وحسب ما جاء به خصمي العزيز أعلى عندما قال:
لو صح الاعتراض الفلسفي الكلي على أصولها ومقدماتها الفلسفية، فإنها تسقط ويسقط معها ذلك الفرع العلمي بأكمله لقيامه عليها، دون التفات إلى تفاصيل ما جاء به الباحثون في أبحاثهم في ذلك الفرع العلمي! وهذه قضية منطقية مدارها على الربط بين الأصل والفروع، فإن ثبت التفرع، سقط الفرع بسقوط الأصل! وأكرر: إن ثبت التفرع.

فسوف يؤدي تطبيق كلامه هذا إلى أنه .. إذا سقط الأصل الفلسفي (أ) ينهار ما وراءها من (ب) و (ج)، ..
وسأضرب لذلك أمثلة، وكيف أن أخذ النظرية هكذا حسب ترتيبها التعليمي المسرحي، سيؤدي إلى فسادٍ أيما فساد. وإشكالات أيما إِشكالات.

المثال الأول- النظرية النسبية الخاصة:
يقول العرض المسرحي لها:
(ا) هناك مبدءآن فلسفيان هما: (أ1) أن القوانين صالحة - بشكلها الصوري والدلالي - في أي إطار إحداثي قصوري، (أ2) وأن للضوء سرعة هي كذا في كل إطار من تلك الإطارات، وفي نفس الآن، مهما كانت سرعة مصدر الضوء وسرعة راصده.
(ب) ينتج، أي يتفرع عن (أ) معادلات تسمى تحويل لورنس (وللتسمية أسباب تاريخية).
(ج) ينتج، أي تفرع عن (أ) + (ب) أن كتلة الجسم المتحرك في أي إطار قصوري تزداد زيادة منفلته باقتراب سرعته من سرعة الضوء، وكذلك، يقصر طوله في اتجاه الحركة، وكذلك يتباطأ زمنه.

هكذا إذاً لدينا – حسب العرض المسرحي – أصل وتفرع، وتفرع على التفرع. ..
فإذا ما أقررنا كلام خصمي العزيز، ثم انهار الأصل (أ) لابد حتماً وأن ينهار (ب) و (ج) !!!

وتعليقي على ذلك باختصار: .. هذا كلام فارغ.
لماذا؟ ... لأن هذا العرض ليس إلا عرضاً مسرحياً. .. وجدير بالذكر أن أغلب الفيزيائيين ناهيك عمن وراءهم من المثقفين الفرحين بأنهم يفهمون النظرية النسبية، وربما أغلب من يؤلفون عنها كتب، عجماً وعرباً، يهرفون حقاً بما لا يعلمون في ذلك !!

والسؤال هو: هل هذا الترتيب الفلسفي المنطقي صحيح؟!
الإجابة للأسف هي: لا، .. ليست صحيحاً بكل حسم، بل ليس صحيحاً ولو بشيء من الحسم.

سؤال ثان: إذاً .. ما هو الترتيب أو التفريع الصحيح؟
الإجابة: .. وبكل أمانة - لا أحد يعلم حتى الآن في مجتمع الفيزيائيين العلمي على نحو صريح قاطع.

سؤال ثالث: وماذا عن الترتيب التاريخي النشأوي للنظرية النسبية؟
الإجابة: الترتيب التاريخي هو (أ2) ثم (ب) ثم (ج) ثم (أ1)
أي أن سرعة الضوء فاجأت أولاً الراصدين بعدم اتباعها قانون جمع السرعات التقليدي، وتأبّت عن ظهروها بأعلى من قيمتها، ثم ظهرت معادلات تحويل لورنس – من النظرية الكهرومغناطيسية – ثم لوحظ في المعامل أن الكتلة تزداد مع السرعة، ثم وضع أينشتاين مبدأ استقلال صورة القوانين عن الإطار الإحداثي القصوري، ليقدم للناس توليفة فيزيائية أو صنعة علمية (سُمّيت فيما بعد بالنظرية النسبية)

سؤال رابع: وماذا عن الترتيبات المنطقية البديلة، الذي لا بد فيها من أسبقة، وإلا لم يكن من نتيجة؟
الإجابة:
الترتيبات الثلاثة الآتية جائزة:
1- (ب) + (ج) تؤدي إلى (أ) ... ولكنها تفتقر إلى مواصفات المُنتج الصناعي المُغلّف القابل للتعليم والترويج.
2- (أ) تؤدي إلى (ب) تؤدي إلى (ج) .. وهذه هي التي اختارها أينشتاين كعرض مسرحي، ولكنها غارقة في التناقضات المنطقية.
3- إحتمالات أخرى ربما تظهر بالتجريب، تربك الترتيب المنطقي الأينشتايني.

والآن: ما الذي يؤدي به تطبيق قاعدة خصمي العزيز؟!
طبقاً لكلامه، طالما أن الترتيب التنظيري (أ) يؤدي إلى (ب) يؤدي إلى (ج) صحيح، وثابت، ولا يستطيع أن يخرمه أحد، على الأقل حتى الآن، فإنه ينتج بالضرورة أنه:
إذا فسد (أ) لا بد وأن يفسد (ب) و (ج)
أي أنه إذا ثبت أن صورة قانون ظاهرة فيزيائية واحدة يختلف من إطار قصوري عن قطار قصوري آخر، فحتماً يكون كل من (ب) و(ج) فاسد.
1-((ب) فاسد) تعني أن معادلات تحويل لورنس ليست صحيحة بالضرورة!
2-((ج) فاسد) تعني أن الكتلة لن تزداد بالضرورة مع زيادة سرعة الجسم واقترابه من سرعة الضوء (ومثله الطول، وكذا الزمن لن يتباطأ بالضرورة)!

ما معنى هذا؟
معناه - طبقاً لخصمي العزيز - أنه إن سقط (أ1 أو أ2) - وهما ليسا في الحقيقة بمأمن من السقوط - فعلينا أن ننكر صحة معادلات تحويل لورنس، ويرتد ذلك على إنكار معادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية، وينهار التصور العلمي للظاهرة، التي نتفيأ ظلالها الوارفة لأكثر من قرن من الزمان.
ومعناه أن نُنْكر أن تزداد كتلة الإلكترون (وغيره من جسيمات أولية) بتعجيله!
ولكننا نقيس سرعته وكتلته ونجد بالفعل أنه في كل الحالات المختبرة، الزيادة صحيحة ومطابقة للمعادلة، وكذلك سائر النتائج ....

- أنظروا إذاً مدى الحرج الذي سنقع فيه، إن قبلنا المنطق الفلسفي لخصمي العزيز، الذي عليه مدار هذه المداخلة؟!

المثال الثاني: النظرية الكهرومغناطيسية
يقول العرض المسرحي في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي أن هذه النظرية - أي معادلات ماكسويل الأربعة – متفرعة بالاستدلال عن تفاعلات ميكانيكية - قنَّنها ماكسويل - داخل وسط أو مادة غير مرئية تملأ الكون وتغمر كل ما فيه بما فيه أجسامنا والأرض ويتخلل كل شيء، وتُسمّى هذه المادة "الأثير".
وأن وجود الأثير وتفاعلاته تلك (هو الأصل الفلسفي)، وأن معادلات ماكسويل التي استخرجها من هذا التقنين (فرع) أو (فروع لأنها مجموعة معادلات).
ولو صدقت فلسفة سقوط الفرع بسقوط الأصل، لكان علينا أن نُنكر صدق معادلات ماكسويل!.. .
ولكن هذه المعادلات محققة بالتجربة!! .. فكيف نُنكرها؟!

ولما سقط الأصل (الصدق بوجود الأثير) بالكلية مع بدايات القرن العشرين – اي تهاوى التعرف على تلك المادة الأثيرية، وانتفت الحاجة إليها مع ظهور النسبية الخاصة – لم يُنكر المجتمع الفيزيائي الفرع، بل أعاد بناءه مسرحياً على أصل آخر، هو نظرية المجال Field Theory. وأصبحت نظرية المجال أصل، وعادت الكهرومغناطيسية، فرعاً لها، ولم تعد فرع لمادة الأثير وتفاعلاتها الموهومة!

والآن .. لو صدق خصمي العزيز في مبدأه الفلسفي المثالي!
لكان علينا أن ننكر الفرع – أي صدق معادلات ماكسويل المعبرة رياضياً عن ما يُسمّى بالظاهرة الكهرومغناطيسية. ..
ولكنها صادقة دوماً كلما استنطقناها واختبرناها !!

ماذا نفعل ؟! !!!!!
طبقاً لخصمي العزيز، علينا أن ننكر نتائج التجربة ، ونصدِّق فلسفة خصمي التي أتي بها!!!
وماذا أيضاً .. علينا أن ندافع بها عن ديننا – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
أي ندافع عن ديننا بمبدأ فلسفي شديد التخبط، وشديد العمومية الفجة، وغير ممكن تحقيقه على واقع الخلق والفكر المعقد! .. مبدأ فلسفي هائم في عالم المُثل ... لا جذور له، ولهذه المُثل، إلا ما سُمّي بالعقل المجرد ... كيف تجرد؟! .. من الذي جرَّده؟! .. (أسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان!!)

وهذه النتيجة هي بعينها مثل إنكار دوران الأرض ... رغم أنها تدور أمام أعيننا ، إلا أن علينا أن ننكرها!! مثلما أنكرها خصمي العزيز .. وما يزال! ... نعم ، يريد منا صديقي العزيز أن ننكر الحواس المحققة، من أجل خاطر العقل المجرد!! .. أو استدلالات فاسدة، .. تبين فسادها من بطلان نتائجها!!

هذه هي مأساة المدخل الفلسفي الصرف – ذو العقل المجرد – الذي يتعالى على الحقائق التجريبية المقننة في المعامل والمراصد، والاتساق الرياضي الجاري معهما، وعلى تشابك العلل الفيزيائية، وغياب ما يُسميه التفرع الضروري، رغم أن التحقيق المحقق يقول: أن الحاصل هو اتساق جمعي، وليس تفرع ضروري، كما يمليه عليه ذلك العقل المجرد الأثيم! .. ذلك أن أغلب ما يظنه العقل الإنساني من تفرع ضروري، هو ليس بالضرورة صحيح، .. وله في أغلب المواطن بدائل .. فكيف يكون ضرورياً؟!!!

والخلاصة: ... قولوا لخصمي العزيز .. ألا يُحكّم الآراء الفلسفية – التي آتى بها من عالم المُثل الموهوم - في النظريات الطبيعية ومساقطها التجريبية، ولا يتهم عموم الطبيعيين هكذا بالتخريف، حتى لا يزداد موقفه حرجاً وتأزماً ..

نعم: .. قولوا له أن يسحب كتابه [آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين]، وألا يتهم الناس بالباطل بأنهم مُخرِّفون.. وإلا .. لن أترك خطءاً فيه – لو وقع الكتاب في يدي - إلا بيّنت تهافته (إن قدرني الله تعالى على ذلك) .... وقد أعذر من أنذر. مثلما أني لن يمنعني خصومتي معه عن مدح ما يستوجب المدح فيه، هذا إن رأيت فيه شيئاً من ذلك.
..
ملاحظة: ...
ما سُقته أعلى من مثال النظرية النسبية الخاصة، ومثال النظرية الكهرومغناطيسية ليسا إلا مثالان موجزان جداً.. على فساد منطق خصمي العزيز، في المسألة التي نحن بصددها. هذا .. وقد حاولت تبسيط العرض لأقصى ما أستطيعه .. لشدة تعقُّد النظرية النسبية الخاصة والكهرومغناطيسية وتاريخيتهما .. وأن إشكالاتهما الفلسفية مازالت قيد البحث.
والأمثلة عندي كثيرة، لو اتسع المقام (الوقت والجهد) لسردها .. حتى يعلم المسلمون أين الباطل فيجتنبوه. ... وحتى يعلم من هو على باطل ... أنه على باطل.

وليعلم هواة العلم وتاريخه وفلسفته .. أن العلم وفلسفته ليسا وجبة سريعة على الطريق، كما أصبح كل شيء في حياتنا المعاصرة، ... إنه تاريخ مليء بالوصلات الفكرية التي تشبه الوصلات العصبية في الدماغ .. لا تعلم أين تبدأ، وبأي وصلة .. ولا أدري كيف يسلكها من ينكر قوانين الحركة التي تلزم الأرض أن تدور حول مركز كتلتها مع الشمس ... علماً بأن قوانين الحركة (قوانين نيوتن والجاذبية) هذه يتم تدريسها للصبية والفتيات دون سن 16 سنة، ومن لا يفهمها منهم لا ينبغي أن يُمرّر إلى الكليات العلمية بالجامعة (هندسة/علوم/تربية/فلسفة علوم طبيعية/ ..)، لأنه دليل على كونه غير مؤهّل، بل غير قابل للتأهيل!! .. مثله مثل ضعيف البنية البدنية الساعي لمصارعة أعتى المصارعين، ناهيك عن عواقب تحقيره لهم .. أي أنه دون المستوى، أي أنه لم يبلغ نصاب الإحاطة أو الفهم الضروري في هذا المجال العلمي. فإن اقتحمه عُنوة .. كان الأمر له شديد الحرج ... أو أنه كالطبيب الذي يعبث بأبدان الناس، .. ولكنه في موضوعنا .. يعبث بعقول الناس، .. بل بدينهم .. ولا أراه أقل جُرماً من ذلك الطبيب، هذا إن لم يكن أشد !!! .. لأن حرمة تضليل الناس وفتنتهم أشد من حرمة قتلهم.

هذه القوانين المُقنّنة للحركة – في نطقها المختبرة - لا يستطيع مخلوق أن يُنكرها .. إنس كان أو جن أو حتى ملك.
نعم ... لا يستطيع نبي مرسل، ولا ملك مقرب إلاّ أن يقر لله تعالى بما قدر وخلق، ولا أرى من ينكر صدق خلق الله فيما تنطق به التجارب عن مكنونها، إلا كمن ينكر كلام الله فيما كنّه تعالى فيه من معاني. .. والخلق الذي نعاين سلوكه ينطق بأن هذه القوانين – في نطاقها المحقق – حق دامغ .. ومن ينكرها فإنما يُنكر في الحقيقة قدرته على الإحاطة بها وفهمها، ويحرج نفسه من حيث لا يدري ..
هذا والله تعالى أعلم.
___​
تابع المداخلة التالية ....
 
عودة
أعلى