أحسنت أخي الكريم؛ فالإعتراف فضيلة من الفضائل. ليس العيب في الإخفاق وإنما في عدم الإستفادة منه.
هناك أساسيات مهمة في علم التواصل يجب إحترامها في أي عملية تواصلية بأي وسيلة كانت وهي مراعاة
الجماعة المستهدفة، وهذا يعني لن أنطلق من مفهوم معين أو مصطلح مثل "دليل الخطاب" ثم أنظر في فهرس كتاب من الكتب، وأذهب إلى مؤلفه أسأله ما سبب إهتمامه بدليل الخطاب ولماذا لم يفصل في الخطاب الفقهي عند أهل الظاهر ولماذا ركّز كثيرا على الخطيب البغدادي، ومثل هذه الأسئلة. والمسألة الثانية تحديد المُوجّهات في العملية التواصلية التي أريد أن أكون طرفا فيها: هل أعرّف بالكاتب، بالكتاب أم بمحتوى الكتاب؟ والمسألة الثالثة هي إحترام الصلة الموضوعية في السؤال والوصف والتحليل .. الخ..
ويمكن بعد ذلك تعديل المراسلة وكتابة مقدمة تأطيرية فيها تعريف بدليل الخطاب وكل المفاهيم والمصطلحات والأدوات الفنية التي أستخدمها في المراسلة، وأما عندما أنقل هذه المراسلة إلى حوار، فالمهمة عندها ستزداد صعوبة كلما إستشعرت المسؤولية أكثر، مسؤولية نقل المعرفة إلى القارئ بشكل صحيح، ويُحتمل أن يكشف الحوار عن عدم فهمي للمراسلة التي أجريتها بنفسي فضلا عن الموضوعات المثارة فيها .. من هنا أهمية الحوار في الملتقيات العلمية: أخذ وعطاء، أن تفيد وتستفيد .. من الأمور المعروفة في الدراسات الإنسانية، السلك الإبتدائي في حل التمارين الميدانية، لأن المراسلة، اللقاء، الدردشة .. وكل عملية تواصل أخرى قد يكون أحد أطرافها من الأميين في الموضوع، وقد يكون من المتخصصين لكن يفترض أن الطرف الآخر متخصص مثله أو على الأقل باحث، وهنا يتجلى الفرق بين السيد فيلكر والسيد جاسبر، ففيلكر مثلا يفترض الأمية في الموضوع لذا قال: (بما أن بعض المستمعين لهذه المقابلة قد لا تكون مألوفةً لهم كلمةُ "الهرمنيوطيقا").
دعنا من هذه المراسلة مع فيلكر أو جاسبر، ولندخل في الموضوع.
نستفيد من تعريف فيلكر شيء إسمه هرمنيوطيقا الكتاب المقدس -الهرمنيوطيقا البيبلية-. يفيد الموضوع من حيث إعادة صياغة السؤال "عن أي هرمنيوطيقا نتحدث" .. هناك خلط كبير بين الإتجاهات والأنواع، ويُضاف هذا الخلط إلى الأسئلة المفتوحة والمعلقة.
ونستفيد من كلام جاسبر وجود شيء إسمه الهرمنيوطيقا اللاهوتية. علاقة هذه الهرمنيوطيقا بالموضوع؟ إعادة صياغة السؤال؛ وأيضا في كلام الأستاذ محمد عبد المعطي محمد عندما قال: (إن الهرمنيوطيقا هى المعادل الموضوعي لما بدأ في فرق الإسلام منذ نشأة المعتزلة ألا وهو "التأويل"). هذا كلام فيه جانب من الصحة عن تحديد الهرمنيوطيقا بـ theological hermeneutics في إيجاد قانون للتأويل. تأويل الآيات التي يُفهم منها تناولها للغيبيبات وقضايا الإيمان، والطريقة التي ناقش بها شيخ الإسلام قانون التأويل الكلامي، داخلة في الهرمنيوطيقا النظرية، أي النظر في عملية الفهم وآليات وقواعد التأويل. أي ان بن تيمية رحمه الله طّبّق الهرمنيوطيقا كما يُعرّفها فلاسفة العلوم الإنسانية: (
الهرمنيوطيقا هي دراسة عمليات التأويل بما في ذلك الكشف عن الخلفية أو السياق الذي يُفهم من خلاله النص)، والنص بالمعنى العام كل ما يحمل المعرفة سواء باللغة أو غير ذلك من الوسائل الأخرى، أي أنه لم ينظر في مقولات المتكلمين من حيث هي مجردة عن القانون الذي وجهها، بل ناقش منطلقاتهم أيضا، وحاول الكشف عن هذا التأويل وفلسفته ونشأته. وما أحوج الأمة اليوم إلى منهج بن تيمة النقدي في العقليات والإلهيات، وهذا أشارت إليه مقدمة تحقيق درء التعارض.
إذا كان بن تيمية قد طبق الهرمنيوطيقا النظرية من خلال النظر النقدي في قانون التأويل، فما هي الهرمنيوطيقا التي طبّقها في صياغة "العقيدة" ؟ الظاهر لا هرمنيوطيقا إذ لا وجود للتأويل لأن المنطلق الأساسي كما عُبّر عنه في اللامية المنسوبة له "وجميع آيات الصفات
أمرُّها **
حقاً كما نقل الطراز الأول" .. لكن ما الفرق بين "أمرّها" و "أمرّها حقا"؟ بمعنى آخر: هل إضافة الحقيقة للتمرير ممارسة تأويلية؟ وما الفرق بين هذا التمرير و التحديث من غير تفسير كما نقل في الصفات للدارقطني "قُلْنَا: لَا يُفَسَّر هَذَا وَلَا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهُ" وكذلك "يُحَدِّثُونَ بَهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا يُفَسِّرُونَ شَيْئًا"؟ وأسئلة أخرى، كلها تدخل في الهرمنيوطيقا اللاهوتية، لا الهرمنيوطيقا بشكل عام.
فإن المتقصي لاستنساخ وتطبيق تلك الهرمنيوطيقا على أرض الواقع الفكري العربي المعاصر يشم كثيراً من الروائح الكريهة لهذا الاستجلاب الغربي. ولا يشكك في هذا إلا مكابر بغير دليل.
بما أنك أشرت لبن تيمية، أقول: لم يقف هو عند حد الحديث عن "الاستجلاب اليوناني" بل تكلم بموضوعية قدر طاقته حول تلك اليونانيات وميز فيها بين معقوليات هي كذلك وغيرها. وأرى في عصرنا هذا كثير من الإخوة يدندنون صباح مساء قال بن تيمية وقال شيخ الاسلام، كأنه تحول إلى خزانة تاريخية للآراء والفتاوى، أما كيف وصل إلى تلك الآراء والفتاوى، فابحث عن مكان بين المصلين للمشاركة في أداء صلاة الجنازة على المعقوليات.
تابعت اليوم تصريحات فاتيكانية عقب إعلان نتائج الإستفتاء على الدستور الارلندي الذي سيسمح من الآن بالزواج المثلي في هذا البلد الأوروبي، وإذا كان الكاردينال Pietro Parolin يرى أن هذه النتيجية إنحطاط للإنسانية، فإن السيد Diarmuid Martin رئيس الأساقفة هناك وقف مع نفسه ليسأل ماذا وراء هذه النتيجة ويجيب بأن الإستفتاء قد أكّد رؤية الشباب وعلى الكنيسة أن تفكر بجدية في تطوير لغة تسهل التواصل مع هذه الفئة المهمة في المجتمع، ويضع يده على الجرح بسؤاله: كيف التواصل معهم وبأي لغة؟ كيف يمكن التغلب على العوائق والفجوات بين الأجيال؟
شخصيا لا أدري كيف ستتعامل الكنيسة الكاثوليكية مع هذه النتيجة ولا مع اللوبي الكاثوليكي الذي يناصر حرية الشذوذ داخل الكنيسة نفسها، ولكن أعرف أن لغة ما من قبيل "ولا يشكك في هذا إلا مكابر بغير دليل" وما يدور في فلكها، لن يكون هو الجواب. ونحن أولى بالبحث عن لغة مناسبة بدل الإكتفاء بإطلاق الأحكام، وتصنيف الناس، ورميهم بالتطاول والتكبر والتعالم والابتداع وغير ذلك من ألفاظ المعقوليات التي لا تتمسك بأي قيمة من قيم الذوقيات.. كيف ينبغي التواصل مع شباب الأمة؟ للجواب: ما أهمية الهرمنيوطيقا في فهم هذا السؤال؟