َ
َ
لدي 4 ملاحظات أقدمها بين أيديكم:
1- الملاحظة الأولى:
مَن المخوّل له أن يحكم بأن القضية مرفوضة نهجا وتفصيلا؟
لعل البعض يظن أن البحث القرآني محمي قانونا من أن يتم بحثه بأي منهجية كانت؟
مثل هذا القول يتوهم وجود "سلطة" تقديرية تسمح أو لا تسمح باعتماد منهج أو أداة في البحث العلمي. هذا وهم وغرور معرفي للأسف.
وهذا الكلام ينطبق أيضا على المذهبية الفقهية والعقائدية. لا وجود لأي سلطة دينية على العوام في مجتمعاتنا الصغيرة والمباشرة، فما بالك في عالمنا الإسلامي، فما بالك بالباحثين الأكاديميين المسلمين، فما بالك بغير المسلمين من الباحثين عن الحق وخدمة المعرفة؟ بدون حديث عن الآخرين الذين يبحثون بخلفيات معادية أو مناقضة للإسلام.
أصلا، تراثنا الإسلامي مليء بالمناهج المختلفة. لماذ نقبل بتعددها لمجرد أنها داخل الساحة الإسلامية، ثم نرفض غيرها من المناهج لمجرد أنها متأتية من غير المسلمين؟
ثم حتى من ناحية العوام: هل يظن بعضكم أن من يدخل الإسلام من الغربيين، من باب اطلاعه وتعاطيه مع القرآن، تعاطى معه بمنهجية فهم القرآ، المؤسسة على مناهج إسلامية أو عربية؟ هؤلاء يتعاطون مع القرآن من خلال ترجمة لغوية، ويتعاطون معها من خلال بنائهم العقلي كما تعلموا في المدارس الغربية.
أريد أن أقول: لا يمكن فرض أي قيود منهجية في التعاطي مع القرآن. ولكن نحن فقط نتدافع من أجل فهم أفضل لكلام الله، يقدّم خدمة لنا كأفراد وكأمة وكعالم معاصر بتعقيداته الكبرى.
2- الملاحظة الثانية:
في تقديري، وهذا كلام قلته في الملتقى منذ بضع سنوات: التعامل مع القرآن الكريم يتنازعه اتجاهان خاطئان:
يرى أحدهما الاكتفاء بدلالة النص زمن نزوله، وأن كتاب الله قد فسره العلماء الراسخون في العلم تفسيرات استغرقت جميع معانيه، وما على المسلم المعاصر إذا أراد فهمه سوى أن يعود إلى أقوال السلف الصالح، ولا مجال بعدها لمستزيد. ويقوم هذا الاتجاه على أن للقرآن معنى تاريخيا فقط، يتمثل في جملة المعاني التي استنبطها المفسرون الأوائل كالصحابة والتابعين وعلماء القرون الأولى، والتي مثلت إطارًا دلاليًّا للغة القرآنية. ويكمن خطأ هذا الاتجاه في كونه يؤدي إلى:
- السقوط في تعارض بين الإطار التاريخي للمعنى القرآني وبين صلاحيته لكل زمان ومكان،
- وإلى الوقوع في وهم المطابقة بين الكلام المفسِّر والكلام المفسَّر في التنزيه والقدسية.
أما الاتجاه الثاني فيرى أن النص القرآني نص لغوي مفتوح يخضع، كأي نص من النصوص، لتطور الدرس اللغوي والأدبي والتاريخي، ويبقى ميدان تجربة للقارئ يقرأ فيه ما يشاء. ويرى هذا الاتجاه أن معنى النص يمكن أن تتعدد وتتنوع قراءاته، وبالتالي فما يهم هو دلالة النص "زمن قراءته". ويتمثل انحراف هذا الاتجاه في كونه يجعل النص تابعاً للمتلقي المزوّد برؤى قبلية ومعانٍ جاهزة، بدل أن يتجه المعنى من النص إلى القارئ.
3- الملاحظة الثالثة:
تتمحور حول طبيعة الدراسات القرآنية وكيفية توليد المعارف القرآنية، وهو أيضا كلام ذكرته منذ بضع سنوات في الملتقى.
حيث توجد مقاربتان مختلفتان في توليد هذه المعارف:
إحداهما يمكن تسميتها بالمقاربة التجزيئية أو التحليلية (Analytical Approach)، وتقوم على اعتبار المواضيع الضخمة والمتشعبة غير قابلة للدراسة بدون تجزئتها وفصل أجزائها بعضها عن بعض، بما يسمح بالتعمق في تفاصيل كل جانب من الجوانب على حدة.
وأما المقاربة الثانية فيمكن تسميتها بالمقاربة النظامية (Systemic Approach)، وقد نشأت كمنهجية مخالفة للمقاربة التحليلية، معتمَدة على أساس أن النظام المركّب من مجموعة وحدات له من الخصائص العامة التي قد تكون أولى بالدراسة من خصائص كل وحدة من وحداته منفردةً عن باقي وحدات النظام.
وترى هذه المقاربة أنه لا يمكن فهم النظم المعقدة فهما دقيقا من خلال الاكتفاء بدراسة وحداته مستقلة بعضها عن بعض كل على حدة. وتؤكد، من ناحية أخرى، على أن معرفة النظام لا بد أن تمر عبر دراسة علاقاته وتفاعلاته مع المحيط والبيئة التي يتواجد فيها، نظرا لتأثر النظم والبيئات المختلفة بعضها ببعض، بحيث أن أي ظاهرة تظل غير قابلة للفهم ما لم يتم توسيع دائرة الملاحظة لتشمل كل الظروف والسياقات والعوامل المحيطة بها.
ولذلك تعتبر المقاربة النظامية متناقضة مع المقاربة التحليلية. إذ خلافا لهذه الأخيرة التي تدعو إلى التجزيء والتفكيك وعزل الوحدات والعوامل بعضها عن بعض، تقوم المقاربة النظامية على دراسة النظام الواحد بأبعاده المختلفة، من زوايا متعددة، اعتمادا على عدد من الهياكل والنظم المعرفية، ومن خلال فهم العلاقات والمؤثرات الداخلية والخارجية.
وأجدني أميل للقول بأن المناهج الإسلامية في الدراسات القرآنية، تغلب عليها النزعة التحليلية. في حين أن الهرمونوطيقا تنزع نو المقاربة النظمية.
4- الملاحظة الرابعة:
أنا مسلم، وإيماني الشخصي، الناتج عن نظر ودراسة أمارسها منذ 30 سنة، أنّ القرآن معجز، وأنه نص إلهي المصدر، منزّل ليقرأه كل من يدخل في خطابه، ومتميز بتعدّد مستويات المعنى وتشابك علاقاته، وقابل للنظر إليه كوحدة بنائية فريدة، من زوايا نظر متعددة، وباعتماد مناهج علمية مختلفة.وهذا ما يستدعي التعمّق في دراسة الأساليب اللغوية والبلاغية، وتنمية ملكة النقد البياني، للحكم على مراتب الكلام وطبقاته، للنظر في القرآن الكريم.
في نظريات الإعجاز، ولنأخذ فقط مبحث الإعجاز اللغوي للقرآن دون غيره من المباحث: أسفرت البحوث عن عدد من نظريات الإعجاز، أهمها: نظرية النظم القرآني (عبد القاهر الجرجاني)، نظرية النظم الموسيقي في القرآن أو الفاصلة القرآنية (مصطفى صادق الرافعي)، نظرية التصوير الفني في القرآن (سيد قطب)، نظرية الإعجاز البياني (عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ)، مظاهر جلال الربوبية في الخطاب القرآني (محمد سعيد رمضان البوطي)، نظرية الوحدة البنائية للقرآن (محمد عبد الله دراز، طه جابر العلواني)...
هذا فقط في الجانب اللغوي. ونحن الآن نقبلها جميعا كجهد علمي بشري قام به علماء المسلمين. ولكن لا ننس أن بعض هذه النظريات لقي رفضا ومقاومة من قبل العلماء المعاصرين لواضعيها. ولم يمنع الرفض ولا المقاومة من بقاء هذه النظريات في حقل الدرس القرآني.
ولكن الإعجاز القرآني ليس إعجازا بلاغيا فقط، بل هو إعجاز معرفي بالمفهوم العام للمعرفة الإنسانية. إذ مما لا شك فيه أن القرآن المكي هو الذي بهر عقول العرب وحملهم على التسليم والإقرار لكون القرآن من عند الله، لما يسمعون من نظمه وبيانه، وليس الإعجاز التشريعي أو غيره مما نزل في الفترة المدينة. غير أن القرآن الكريم لم ينزل ليتحدى العرب فقط، وإنما جاء ليتحدى الإنس والجن قاطبة أن يأتوا بمثله، وهذا يعني أن التحدي ليس واحدا ولا على نفس القدر والشكل لكل الأقوام وكل الأجيال التي يخاطبها القرآن. وعليه، فليس من الصواب اعتبار التحدي من جهة البلاغة العربية فقط، لأنها ليست اللغة المشتركة بين الإنس والجن قاطبة.
في هذا، أستحضر ما قاله مالك بن نبي حين حدّد ثلاث صفات أساسية لمفهوم الإعجاز:
"أولا: أن الإعجاز، بوصفه (حجة)، لا بد أن يكون في مستوى إدراك الجميع، وإلا فاتت فائدته، إذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق إدراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحيانا.
ثانيا: ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين: أن يكون فوق طاقة الجميع.
ثالثا: ومن حيث الزمن: أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة إليه" .
إذن، فالتحديد الدقيق لإطار التحدي و(إعجاز القرآن) يستوجب تحديد ما يدخل في حدود قدرة الإنس والجن، وما يخرج عن دائرة قدرتهم، ويكون في نفس الوقت صفة ملازمة للقرآن عبر العصور والأجيال، يدركها العربي إما بذوقه الفطري أو بتذوقه العلمي، ويدركها أيضا غير العربي بأبعاد أخرى.
فما الذي يمكن أن يدعى الإنس والجن للاجتماع والتعاون والتآزر للقيام به، فيعجزون عليه؟ من الواضح أن الأمر متعلق بالمعرفة والحضارة، ليس بجانبها اللغوي فقط، وإنما بمختلف أبعادها: اللغة والبيان، التشريع الاجتماعي، النظام الأخلاقي، البناء الحضاري، إضافة إلى علم الغيب الذي يعجز الإنسان على الإحاطة به، ونقصد به: خبر الأولين، وعلم الساعة، والحياة بعد الموت، والكائنات غير المرئية.
فالتحدي القرآني متعلق بإتقانه وإحكامه في كل النواحي: شكلا ونظما، ومضمونا وخطابا، ودفعا وتأثيرا، ومرونة وتفاعلا مع ظروف البشر الذين يخاطبهم ومتغيرات بيئتهم الزمنية والمكانية "فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ"، مما تعجز البشرية مجتمعة عن الإتيان مثله، أيا كانت تجاربها وخبراتها العلمية والفكرية والحضارية.
ومن هذا، أتفق بالطبع مع القول بأن القرآن فوق طاقة البشر، وفوق طاقة الهرمونيطيقا، ولكن فقط يجب أن نعترف أيضا أنه فوق طاقة مناهج المسلمين في دراسة القرآن. وبالتالي نحتاج لمواصلة الجهد.
بالتالي، فإن أي محاولة لفرض قيود على تطوير مناهج جديدة، هو مصادرة فكرية ومعرفية لا طائل من ورائها.. نعم، ربما تخلق بعض التوترات والجدل، وربما تحجز بعض الباحثين عن السير نحو دراستها والعمل عليها معرفيا، ولكنه لن يمنع من وجود باحثين متحررين زمقاومين لذه النزعة.
ما الحل حينها؟ الحل بسيط: التعاطي بواقعية وندية ومنافسة لهذه المناهج والسعي لما هو أفضل منها إن أمكن..
أعط بديلا معرفيا مقنعا وجادا وادع له، وستجد مكانا يليق برأيك في ميدان البحث العلمي.