من براهين التوحيد في القرآن المجيد

إنضم
18/04/2012
المشاركات
3,483
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
جدة
بسم1​


الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

ففي القرآن الكريم من البراهين العظيمة على إثبات التوحيد والإخلاص لله تعالى وحده

ونقض الشرك والرد على المشركين

وهي مبثوثة في سور القرآن الكريم

فرأيت أن أجمع ما تيسر منها مع تفسيرها

للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى

من تفسيره العظيم تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،

عسى الله تعالى أن يكرمنا وسائر المسلمين بالعلم النافع والعمل الصالح، وأسميته




من براهين التوحيد في القرآن المجيد


***********************




البرهان ( 1 ) : سورةالفاتحة



{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ( 1 )

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ( 2) ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ( 3)

مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ ( 4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( 5)

ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ( 6)

صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ ( 7)}




{ بِسْمِ اللَّهِ } أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى,
لأن لفظ { اسم } مفرد مضاف, فيعم جميع الأسماء [الحسنى].

{ اللَّهِ } هو المألوه المعبود, المستحق لإفراده بالعبادة,
لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال.


{ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة
التي وسعت كل شيء, وعمت كل حي,
وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة,
ومن عداهم فلهم نصيب منها.



واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها,
الإيمان بأسماء الله وصفاته, وأحكام الصفات.

فيؤمنون مثلا, بأنه رحمن رحيم,
ذو الرحمة التي اتصف بها, المتعلقة بالمرحوم.
فالنعم كلها, أثر من آثار رحمته,
وهكذا في سائر الأسماء.
يقال في العليم: إنه عليم ذو علم, يعلم [به] كل شيء,
قدير, ذو قدرة يقدر على كل شيء.



{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [هو] الثناء على الله بصفات الكمال,
وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل, فله الحمد الكامل, بجميع الوجوه.



{ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب, هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله-
بخلقه إياهم, وإعداده لهم الآلات, وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة,
التي لو فقدوها, لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة, فمنه تعالى.



وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة: هي خلقه للمخلوقين, ورزقهم, وهدايتهم لما فيه مصالحهم,
التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

والخاصة: تربيته لأوليائه, فيربيهم بالإيمان, ويوفقهم له, ويكمله لهم,
ويدفع عنهم الصوارف, والعوائق الحائلة بينهم وبينه,

وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير, والعصمة عن كل شر.
ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب.
فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.



فدل قوله:{ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } على انفراده بالخلق والتدبير والنعم,
وكمال غناه, وتمام فقر العالمين إليه, بكل وجه واعتبار.




{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } المالك: هو من اتصف بصفة الملك
التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب,
ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات,


وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم,
خيرها وشرها, لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور
كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق.

حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.

كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته,
راجون ثوابه, خائفون من عقابه,
فلذلك خصه بالذكر, وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.




وقوله:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة,

فكأنه يقول: نعبدك, ولا نعبد غيرك, ونستعين بك, ولا نستعين بغيرك.


وقدم العبادة على الاستعانة, من باب تقديم العام على الخاص,
واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.


و [ العبادة ] اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

و [ الاستعانة ] هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع, ودفع المضار,
مع الثقة به في تحصيل ذلك.



والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية,
والنجاة من جميع الشرور, فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.



وإنما تكون العبادة عبادة,

إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله.
فبهذين الأمرين تكون عبادة,



وذكر [ الاستعانة ] بعد [ العبادة ] مع دخولها فيها,
لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى.
فإنه إن لم يعنه الله, لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر, واجتناب النواهي.




ثم قال تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

أي: دلنا وأرشدنا, ووفقنا للصراط المستقيم,
وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله, وإلى جنته,

وهو معرفة الحق والعمل به, فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط.


فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان,

والهداية في الصراط, تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا.


فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد
ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته,
لضرورته إلى ذلك.




وهذا الصراط المستقيم هو: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
{ غَيْرِ } صراط
{ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم.
وغير صراط
{ ٱلضَّالّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.




فهذه السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن,

فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة:


توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة,
يؤخذ من لفظ: { اللَّهِ } ومن قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ}


وتوحيد الأسماء والصفات, وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى,
التي أثبتها لنفسه, وأثبتها له رسوله
من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه,
وقد دل على ذلك لفظ { ٱلْحَمْدُ } كما تقدم.


وتضمنت إثبات النبوة في قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }
لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ }
وأن الجزاء يكون بالعدل, لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.

وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية.

بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله:
{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به.
وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.


وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى, عبادة واستعانة في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

فالحمد لله رب العالمين.
 
البرهان 2

من سورة البقرة




{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

سورة البقرة { 21 - 22 }




هذا أمر عام لكل الناس بأمر عام,

وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه,

وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له،

قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }



ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم,

فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم,

وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة,

فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة,

والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها،

وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع

ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم.



{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: كل ما علا فوقك فهو سماء,

ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء،


{ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه,

[وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون.






{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا }

أي: نظراء وأشباها من المخلوقين,

فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله,

وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون,

لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض،

ولا ينفعونكم ولا يضرون،



{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }


أن الله ليس له شريك, ولا نظير,

لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة

فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟

هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.



وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده,

والنهي عن عبادة ما سواه,


وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته,

وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية,

المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير،


فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك,

فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة,


وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.




وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه,

لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك،


ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى,

وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان،


فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين،

ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
 
البرهان 3

من سورة البقرة


{ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا

فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }


سورة البقرة { 23 - 24 }




وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به،


فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته,

الزاعمين كذبه في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا,

هل هو حق أو غيره ؟

فهاهنا أمر نَصَفٌ، فيه الفيصلة بينكم وبينه،

وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم
وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ،

فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله,
وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه،
فإن كان الأمر كما تقولون,

فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم,

فإن هذا أمر يسير عليكم،
خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة والعداوة العظيمة للرسول،



فإن جئتم بسورة من مثله فهو كما زعمتم,

وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز,
ولن تأتوا بسورة من مثله،
ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنـزل معكم،

فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه
وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه,
واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة],
أن كانت وقودها الناس والحجارة,


ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب,
وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله.
فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.




وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي,
وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن،

قال تعالى
{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }



وكيف يقدر المخلوق من تراب,
أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟

أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه,
أن يأتي بكلام ككلام الكامل,
الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟


هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان،

وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام,
إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء,

ظهر له الفرق العظيم.




وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره,

دليل على أن الذي يُرجى له الهداية من الضلالة:
[هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال،
فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.


وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه,
فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له,
لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.



وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق,
بل هو معرض غير مجتهد في طلبه,
فهذا في الغالب أنه لا يوفق.



وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم,

دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم,

قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.



كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء،

فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ }


وفي مقام الإنزال،

فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }





وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات,

دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة،


وفيها أيضا,

أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار,

لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها,

لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة.



وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه,

وهو الكفر وأنواع المعاصي على اختلافها.
 
البرهان 4


من سورة البقرة




قال تعالى:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }


سورة البقرة { 28 }




هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار،



أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله;



الذي خلقكم من العدم;



وأنعم عليكم بأصناف النعم;



ثم يميتكم عند استكمال آجالكم;



ويجازيكم في القبور;



ثم يحييكم بعد البعث والنشور;



ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى،





فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره;



وتحت أوامره الدينية;



ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي;



أفيليق بكم أن تكفروا به;



وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟



بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه



وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
 
البرهان 5

من سورة البقرة




{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ *

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ *

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ

وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }

سورة البقرة { 45 - 48 }




أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه،

وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها،

والصبر عن معصية الله حتى يتركها,

والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها،

فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه

معونة عظيمة على كل أمر من الأمور,

ومن يتصبر يصبره الله،



وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان,

وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور


{ وَإِنَّهَا } أي: الصلاة { لَكَبِيرَةٌ } أي: شاقة

{ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } فإنها سهلة عليهم خفيفة؛

لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده

يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب،

بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها,

وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.




والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى,

وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه.



ولهذا قال: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي: يستيقنون

{ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فيجازيهم بأعمالهم

{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات,

ونفس عنهم الكربات, وزجرهم عن فعل السيئات،

فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات،



وأما من لم يؤمن بلقاء ربه,

كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.



ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته, وعظا لهم, وتحذيرا وحثا.


وخوفهم بيوم القيامة الذي { لَا تَجْزِي } فيه، أي: لا تغني

{ نَفْسٌ } ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين

{ عَنْ نَفْسٍ } ولو كانت من العشيرة الأقربين

{ شَيْئًا } لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.

{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } أي: النفس, شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له,


ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه، وكان على السبيل والسنة،


{ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي: فداء


{ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه
لافتدوا به من سوء العذاب }
ولا يقبل منهم ذلك


{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي: يدفع عنهم المكروه،



فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه،


فقوله: { لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } هذا في تحصيل المنافع،

{ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } هذا في دفع المضار,

فهذا النفي للأمر المستقل به النافع.



{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل }

هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض, كالعدل,

أو بغيره, كالشفاعة،



فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين,

لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع,

وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع, ويدفع المضار,

فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته.
 
البرهان 6

من سورة البقرة




{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ

وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ


وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ


وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ

وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ

وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }


سورة البقرة { 101 - 103 }



أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم،

وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم, فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به،

{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } الذي أنزل إليهم أي:

طرحوه رغبة عنه { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }

وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه، وحقيّة ما جاء به.


تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء

حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول, فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون.




ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية

أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع,

ابتلي بالاشتغال بما يضره,

فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان,

ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه,

ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه,

ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان,

ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد،

ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.



كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله

اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان

حيث أخرجت الشياطين للناس السحر،

وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم.

وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله:

{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه،

{ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك.


{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم،

وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق،

أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر.


{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه,

و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر،

فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته,

فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال،

ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام،

وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.


فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان,

فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين,

وكل يصبو إلى ما يناسبه.


ثم ذكر مفاسد السحر فقال: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }
مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما:

{ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }

وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله،



والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية،

وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة:

{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ }


وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير،

فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير,

ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد،

زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله،

فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.



ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة,
ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية



كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي،

كما قال تعالى في الخمر والميسر:

{ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }

فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا,



فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها.

كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.




{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي: اليهود

{ لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة.

{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي: نصيب,

بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا,

ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.

{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه.
 

البرهان 7

من سورة البقرة




{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *


بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }


سورة البقرة { 111 - 112 }




أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا،

وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى،

فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم,

وهذا مجرد أماني غير مقبولة, إلا بحجة وبرهان,

فأتوا بها إن كنتم صادقين،


وهكذا كل من ادعى دعوى, لا بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه،
وإلا فلو قلبت عليه دعواه,


وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما،

فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها،

ولما لم يكن بأيديهم برهان, علم كذبهم بتلك الدعوى.




ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, فقال:

{ بَلَى } أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم,

ولكن { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه،

{ وَهُوَ } مع إخلاصه

{ مُحْسِنٌ } في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه,

فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.


{ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم،

{ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب.

ويفهم منها أن من ليس كذلك فهو من أهل النار الهالكين،


فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود,
والمتابعة للرسول.
 
البرهان 8

من سورة البقرة




{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }


سورة البقرة { 115 }




أي: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة,

فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات.


{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره,

إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس,

أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها,

فإن القبلة حيثما توجه العبد

أو تشتبه القبلة فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ,

أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك،

فهذه الأمور إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا.

وبكل حال فما استقبل جهة من الجهات خارجة عن ملك ربه.



{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

فيه إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى,

وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى -

واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم.


فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور,

فله الحمد والشكر.
 
البرهان 9

من سورة البقرة



{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ

بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

سورة البقرة { 116 - 117 }




{ وَقَالُوا } أي: اليهود والنصارى والمشركون, وكل من قال ذلك:

{ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله,
وأساءوا كل الإساءة, وظلموا أنفسهم.

وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم, قد حلم عليهم,
وعافاهم, ورزقهم مع تنقصهم إياه.



{ سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون
مما لا يليق بجلاله،


فسبحان من له الكمال المطلق, من جميع الوجوه,
الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.




ومع رده لقولهم, أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال:


{ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: جميعهم ملكه وعبيده,

يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك,

وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره،

فإذا كانوا كلهم عبيده, مفتقرين إليه,

وهو غني عنهم,

فكيف يكون منهم أحد, يكون له ولدا,

والولد لا بد أن يكون من جنس والده, لأنه جزء منه.


والله تعالى المالك القاهر, وأنتم المملوكون المقهورون,

وهو الغني وأنتم الفقراء،

فكيف مع هذا, يكون له ولد؟

هذا من أبطل الباطل وأسمجه.




والقنوت نوعان:

قنوت عام: وهو قنوت الخلق كلهم, تحت تدبير الخالق،

وخاص: وهو قنوت العبادة.


فالنوع الأول كما في هذه الآية،

والنوع الثاني: كما في قوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }




ثم قال: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق.



{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

فلا يستعصي عليه, ولا يمتنع منه.
 
البرهان 10

من سورة البقرة

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }

سورة البقرة { 163 }

يخبر تعالى - وهو أصدق القائلين - أنه { إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي:

متوحد منفرد في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله،

فليس له شريك في ذاته, ولا سمي له ولا كفو له,

ولا مثل, ولا نظير, ولا خالق, ولا مدبر غيره،

فإذا كان كذلك,

فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة,

ولا يشرك به أحد من خلقه,

لأنه

{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }

المتصف بالرحمة العظيمة, التي لا يماثلها رحمة أحد,

فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي،

فبرحمته وجدت المخلوقات,

وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات،

وبرحمته اندفع عنها كل نقمة،

وبرحمته عرّف عباده نفسه بصفاته وآلائه,

وبيَّن لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم,

بإرسال الرسل, وإنزال الكتب.

فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة, فمن الله,

وأن أحدا من المخلوقين لا ينفع أحدا،

علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة,

وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل,

وغير ذلك من أنواع الطاعات.

وأن من أظلم الظلم, وأقبح القبيح,

أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد,

وأن يشرك المخلوق من تراب برب الأرباب,

أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه,

مع الخالق المدبر القادر القوي،

الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء.

ففي هذه الآية, إثبات وحدانية الباري وإلهيته،

وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين

وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته

التي من آثارها وجود جميع النعم, واندفاع [جميع] النقم،

فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى.

 



البرهان 11

من سورة البقرة



ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال:

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ


وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }


سورة البقرة { 164 }




أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة, آيات أي:

أدلة على وحدانية الباري وإلهيته،

وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته،

ولكنها { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له،

فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل,

ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره،

ففي { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } في ارتفاعها واتساعها, وإحكامها, وإتقانها,

وما جعل الله فيها من الشمس والقمر, والنجوم, وتنظيمها لمصالح العباد.




وفي خلق { الْأَرْضِ } مهادا للخلق, يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار.

ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير,

وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها, وحكمته التي بها أتقنها,

وأحسنها ونظمها, وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع,

من منافع الخلق ومصالحهم, وضروراتهم وحاجاتهم.

وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله, واستحقاقه أن يفرد بالعبادة,

لانفراده بالخلق والتدبير, والقيام بشئون عباده





{ و } في { اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام,

إذا ذهب أحدهما, خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر, والبرد,

والتوسط, وفي الطول, والقصر, والتوسط,

وما ينشأ عن ذلك من الفصول, التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم,

وجميع ما على وجه الأرض, من أشجار ونوابت،

كل ذلك بانتظام وتدبير, وتسخير, تنبهر له العقول,

وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول,

ما يدل ذلك على قدرة مصرفها, وعلمه وحكمته,

ورحمته الواسعة, ولطفه الشامل, وتصريفه وتدبيره,

الذي تفرد به, وعظمته, وعظمة ملكه وسلطانه,

مما يوجب أن يؤله ويعبد, ويفرد بالمحبة والتعظيم,

والخوف والرجاء, وبذل الجهد في محابه ومراضيه.




{ و } في { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها,

مما ألهم الله عباده صنعتها, وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها.


ثم سخر لها هذا البحر العظيم

والرياح, التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال,

والبضائع التي هي من منافع الناس,

وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.

فمن الذي ألهمهم صنعتها, وأقدرهم عليها,

وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟

أم من الذي سخر لها البحر, تجري فيه بإذنه وتسخيره, والرياح؟

أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية,

النار والمعادن المعينة على حملها, وحمل ما فيها من الأموال؟




فهل هذه الأمور, حصلت اتفاقا, أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز,

الذي خرج من بطن أمه, لا علم له ولا قدرة،

ثم خلق له ربه القدرة, وعلمه ما يشاء تعليمه،

أم المسخر لذلك رب واحد, حكيم عليم,

لا يعجزه شيء, ولا يمتنع عليه شيء؟

بل الأشياء قد دانت لربوبيته, واستكانت لعظمته, وخضعت لجبروته.


وغاية العبد الضعيف, أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب,

التي بها وجدت هذه الأمور العظام,

فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه,

وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له, والخوف والرجاء,

وجميع الطاعة, والذل والتعظيم.




{ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ } وهو المطر النازل من السحاب.


{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فأظهرت من أنواع الأقوات,

وأصناف النبات, ما هو من ضرورات الخلائق,

التي لا يعيشون بدونها.


أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله,

وأخرج به ما أخرج ورحمته, ولطفه بعباده,

وقيامه بمصالحهم, وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟

أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟

أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟




{ وَبَثَّ فِيهَا } أي: في الأرض { مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ }

أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة,

ما هو دليل على قدرته وعظمته, ووحدانيته وسلطانه العظيم،

وسخرها للناس, ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع.


فمنها: ما يأكلون من لحمه, ويشربون من دره،

ومنها: ما يركبون،

ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم,

ومنها: ما يعتبر به،

ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم,

المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها,

ويعلم مستقرها ومستودعها.




وفي { تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } باردة وحارة, وجنوبا وشمالا,

وشرقا ودبورا وبين ذلك، وتارة تثير السحاب,

وتارة تؤلف بينه, وتارة تلقحه, وتارة تدره,

وتارة تمزقه وتزيل ضرره, وتارة تكون رحمة,

وتارة ترسل بالعذاب.


فمن الذي صرفها هذا التصريف, وأودع فيها من منافع العباد,

ما لا يستغنون عنه؟

وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات,

وتصلح الأبدان والأشجار, والحبوب والنوابت,

إلا العزيز الحكيم الرحيم, اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع,

ومحبة وإنابة وعبادة؟.


وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير,

فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد,

ويروي التلول والوهاد, وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه،

فإذا كان يضرهم كثرته, أمسكه عنهم, فينزله رحمة ولطفا,

ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه,

وأغزر إحسانه, وألطف امتنانه"



أليس من القبيح بالعباد, أن يتمتعوا برزقه,

ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟

أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره, وعفوه وصفحه,

وعميم لطفه؟

فله الحمد أولاً وآخراً, وباطناً وظاهراً.




والحاصل, أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات,
وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات,


وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة,

علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق,

وأنها صحائف آيات, وكتب دلالات,

على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته,

وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر, وأنها مسخرات,

ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.

فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون,

وإليه صامدون،

وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات،

فلا إله إلا الله, ولا رب سواه.



</B></I>
 
البرهان 12

من سورة البقرة




ثم قال تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ


وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *


إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ *


وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }


سورة البقرة { 165 - 167 }




ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها،

فإنه تعالى لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة,

وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك،

ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام

من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي:

نظراء ومثلاء, يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة.



ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة, وبيان التوحيد -

علم أنه معاند لله, مشاق له,

أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته,

فليس له أدنى عذر في ذلك, بل قد حقت عليه كلمة العذاب.


وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله,

لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير,

وإنما يسوونهم به في العبادة, فيعبدونهم، ليقربوهم إليه،



وفي قوله: { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند

وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له,

تسمية مجردة, ولفظا فارغا من المعنى،


كما قال تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ

أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }


{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ }




فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق, وغيره مخلوق,

والرب الرازق ومن عداه مرزوق,

والله هو الغني وأنتم الفقراء،

وهو الكامل من كل الوجوه,

والعبيد ناقصون من جميع الوجوه،

والله هو النافع الضار,

والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء،

فعلم علما يقينا, بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا،

سواء كان ملكا أو نبيا أو صالحا, صنما أو غير ذلك،

وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة والذل التام


فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله:

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي: من أهل الأنداد لأندادهم,


لأنهم أخلصوا محبتهم له, وهؤلاء أشركوا بها،

ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة,

الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه،

والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا,

ومحبته عين شقاء العبد وفساده, وتشتت أمره.



فلهذا توعدهم الله بقوله:

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد

وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله, وسعيهم فيما يضرهم.



{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي: يوم القيامة عيانا بأبصارهم،



{ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }

أي: لعلموا علما جازما, أن القوة والقدرة لله كلها,

وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء،

فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها,

لا كما اشتبه عليهم في الدنيا, وظنوا أن لها من الأمر شيئا,

وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه،

فخاب ظنهم, وبطل سعيهم, وحق عليهم شدة العذاب,

ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا,

ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع،

بل يحصل لهم الضرر منها, من حيث ظنوا نفعها.




وتبرأ المتبوعون من التابعين,

وتقطعت بينهم الوصل, التي كانت في الدنيا,

لأنها كانت لغير الله, وعلى غير أمر الله,

ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له,

فاضمحلت أعمالهم, وتلاشت أحوالهم،

وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين,

وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها,

انقلبت عليهم حسرة وندامة,

وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا،



فهل بعد هذا الخسران خسران؟


ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل

ورجوا غير مرجو, وتعلقوا بغير متعلق,

فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها،

ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها,

فضرتهم غاية الضرر،




وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين,

وأخلص العمل لوجهه, ورجا نفعه،

فهذا قد وضع الحق في موضعه,

فكانت أعماله حقا, لتعلقها بالحق,

ففاز بنتيجة عمله, ووجد جزاءه عند ربه, غير منقطع


كما قال تعالى:

{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ

وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ

ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ

وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ

كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }



وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا

فيتبرأوا من متبوعيهم,

بأن يتركوا الشرك بالله,
ويقبلوا على إخلاص العمل لله،



وهيهات,

فات الأمر,




وليس الوقت وقت إمهال وإنظار،

ومع هذا فهم كذبة, فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه،

وإنما هو قول يقولونه, وأماني يتمنونها,

حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم،


فرأس المتبوعين على الشر إبليس,

ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر



{ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ

وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ

إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي

فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ }
 
البرهان 13



من سورة البقرة





{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا



وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *



إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *



وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ



قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا



أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }



سورة البقرة { 168 - 170 }






هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم،



فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض،



من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها { حَلَالًا }



أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة,



ولا محصلاً بمعاملة محرمة أو على وجه محرم،



أو معينا على محرم.




{ طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها،




ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا,





وأن المحرم نوعان:



إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب،



وإما محرم لما عرض له,



وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال.



وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر،






ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم -



نهاهم عن اتباع { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها,



وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم،



ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك،



ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة،





{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي: ظاهر العداوة,



فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير،



فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته,



حتى أخبرنا - وهو أصدق القائلين - بعداوته الداعية للحذر منه,



ثم لم يكتف بذلك, حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به,



وأنه أقبح الأشياء, وأعظمها مفسدة فقال:





{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ }



أي: الشر الذي يسوء صاحبه, فيدخل في ذلك, جميع المعاصي،



فيكون قوله: { وَالْفَحْشَاءِ } من باب عطف الخاص على العام؛



لأن الفحشاء من المعاصي, ما تناهى قبحه, كالزنا, وشرب الخمر,



والقتل, والقذف, والبخل ونحو ذلك, مما يستفحشه من له عقل،







{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }



فيدخل في ذلك, القول على الله بلا علم, في شرعه, وقدره،



فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله,



أو نفى عنه ما أثبته لنفسه, أو أثبت له ما نفاه عن نفسه,



فقد قال على الله بلا علم،



ومن زعم أن لله ندا, وأوثانا, تقرب من عبدها من الله,



فقد قال على الله بلا علم،



ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا,



أو أمر بكذا, أو نهى عن كذا, بغير بصيرة,



فقد قال على الله بلا علم،



ومن قال: الله خلق هذا الصنف من المخلوقات,



للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك,



فقد قال على الله بلا علم،




ومن أعظم القول على الله بلا علم,



أن يتأول المتأول كلامه, أو كلام رسوله,



على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال,



ثم يقول: إن الله أرادها،



فالقول على الله بلا علم, من أكبر المحرمات, وأشملها,



وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها,



فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده,



ويبذلون مكرهم وخداعهم على إغواء الخلق بما يقدرون عليه.





وأما الله تعالى, فإنه يأمر بالعدل والإحسان, وإيتاء ذي القربى,



وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي،



فلينظر العبد نفسه, مع أي الداعيين هو, ومن أي الحزبين؟






أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية,



الذي كل الفلاح بطاعته, وكل الفوز في خدمته,



وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة,



الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر،






أم تتبع داعي الشيطان, الذي هو عدو الإنسان,



الذي يريد لك الشر, ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟



الذي كل الشر في طاعته, وكل الخسران في ولايته،



الذي لا يأمر إلا بشر, ولا ينهى إلا عن خير.






ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله - مما تقدم وصفه - رغبوا عن ذلك وقالوا:





{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } فاكتفوا بتقليد الآباء,



وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس,



وأشدهم ضلالا وهذه شبهة لرد الحق واهية،



فهذا دليل على إعراضهم عن الحق, ورغبتهم عنه, وعدم إنصافهم،



فلو هدوا لرشدهم, وحسن قصدهم, لكان الحق هو القصد،



ومن جعل الحق قصده, ووازن بينه وبين غيره,



تبين له الحق قطعا, واتبعه إن كان منصفا.
 
البرهان 14

من سورة البقرة



{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي

فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }


سورة البقرة { 186 }




هذا جواب سؤال،

سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه

فقالوا: يا رسول الله,

أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟


فنزل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }


لأنه تعالى, الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى,

يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور,

فهو قريب أيضا من داعيه بالإجابة،


ولهذا قال:

{ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }


والدعاء نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.


والقرب نوعان:

قرب بعلمه من كل خلقه,

وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.



فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع,

ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء,

كأكل الحرام ونحوه,

فإن الله قد وعده بالإجابة،

وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء,

وهي الاستجابة لله تعالى

بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية,

والإيمان به, الموجب للاستجابة،

فلهذا قال:




{ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }


أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة,

ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.


ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره,

سبب لحصول العلم كما قال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا }
 


البرهان 15

من سورة البقرة


{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ

فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ

وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }

سورة البقرة { 210 }



وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب،

يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض,

المتبعون لخطوات الشيطان, النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال,

الذي قد حُشي من الأهوال والشدائد والفظائع,

ما يقلقل قلوب الظالمين, ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.


وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض, وتنثر الكواكب,

وتكور الشمس والقمر, وتنزل الملائكة الكرام, فتحيط بالخلائق,



وينزل الباري [تبارك] تعالى:

{ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } ليفصل بين عباده بالقضاء العدل.

فتوضع الموازين, وتنشر الدواوين,

وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة,

ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله،

فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.


وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة,

المثبتين للصفات الاختيارية,

كالاستواء, والنزول, والمجيء,

ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه,

أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم،

فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته,

من غير تشبيه ولا تحريف،


خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم,

من الجهمية, والمعتزلة, والأشعرية ونحوهم, ممن ينفي هذه الصفات,

ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان,

بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله,

والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب،



فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي, بل ولا دليل عقلي،


أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة,

ظاهرها بل صريحها, دال على مذهب أهل السنة والجماعة,

وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل,

أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص،

وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.



وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات،

بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل,

وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال،


فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه،


قيل لهم: الكلام على الصفات, يتبع الكلام على الذات،

فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات,

فلله صفات لا تشبهها الصفات،

فصفاته تبع لذاته,

وصفات خلقه, تبع لذواتهم,

فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.


ويقال أيضا, لمن أثبت بعض الصفات, ونفى بعضا,

أو أثبت الأسماء دون الصفات:


إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه, وأثبته رسوله،

وإما أن تنفي الجميع, وتكون منكرا لرب العالمين،


وأما إثباتك بعض ذلك, ونفيك لبعضه,

فهذا تناقض،

ففرِّق بين ما أثبته, وما نفيته,

ولن تجد إلى الفرق سبيلا،



فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها،


قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها،


فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه،


قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه،

فما أجبت به النفاة, أجابك به أهل السنة, لما نفيته.


والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته,

فهو متناقض,

لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي,

بل قد خالف المعقول والمنقول.


 
البرهان 16


من سورة البقرة



{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

سورة البقرة { 218 }




هذه الأعمال الثلاثة, هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية,
وبها يعرف ما مع الإنسان, من الربح والخسران،



فأما الإيمان, فلا تسأل عن فضيلته,

وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة,
وأهل الجنة من أهل النار؟

وهو الذي إذا كان مع العبد, قبلت أعمال الخير منه,

وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل, ولا فرض, ولا نفل.



وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى،

فيترك المهاجر وطنه وأمواله, وأهله, وخلانه, تقربا إلى الله ونصرة لدينه.



وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء,

والسعي التام في نصرة دين الله, وقمع دين الشيطان،

وهو ذروة الأعمال الصالحة, وجزاؤه, أفضل الجزاء،

وهو السبب الأكبر, لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام,

وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.


فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها

كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.




فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله,

لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة،

وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة،

وأما الرجاء المقارن للكسل, وعدم القيام بالأسباب,

فهذا عجز وتمن وغرور،

وهو دال على ضعف همة صاحبه, ونقص عقله,

بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح,

ووجود الغلة بلا بذر, وسقي, ونحو ذلك.


وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ }

إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به

لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها,

بل يرجو رحمة ربه, ويرجو قبول أعماله
ومغفرة ذنوبه, وستر عيوبه.




ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا

{ رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء, وعم جوده وإحسانه كل حي.


وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة,

حصل له مغفرة الله,

إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.




وإذا حصلت له المغفرة, اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة،

التي هي آثار الذنوب, التي قد غفرت واضمحلت آثارها،

وإذا حصلت له الرحمة, حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛

بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم,

فلولا توفيقه إياهم, لم يريدوها,

ولولا إقدارهم عليها, لم يقدروا عليها,

ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم،

فله الفضل أولا وآخرا,

وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
 
البرهان 17

من سورة البقرة




{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا

وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }

سورة البقرة { 255 }




هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها،

وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة،

فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها

وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء

وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات،




فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي:

لا معبود بحق سواه،

فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى،

لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه،

ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه،



وكل ما سوى الله تعالى باطل،

فعبادة ما سواه باطلة،

لكون ما سوى الله

مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه،

فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة،




وقوله: { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان

يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما،


فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات،

كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك،


والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره،

وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين

من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول

والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير،

كل ذلك داخل في قيومية الباري،



ولهذا قال بعض المحققين:


إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى،


ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس

{ له ما في السماوات وما في الأرض } أي: هو المالك وما سواه مملوك


وهو الخالق الرازق المدبر

وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره

مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض



فلهذا قال:


{ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه،

فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده

أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه،

لا يبتدئ الشافع قبل الإذن،



ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي: ما مضى من جميع الأمور

{ وما خلفهم } أي: ما يستقبل منها،

فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها،

بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة،

والعباد ليس لهم من الأمر شيء

ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى،



ولهذا قال: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء

وسع كرسيه السماوات والأرض }

وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه،

إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض

على عظمتهما وعظمة من فيهما،

والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى،

بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو،




وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار،

وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال،

فكيف بعظمة خالقها ومبدعها،

والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع،

والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا

من غير تعب ولا نصب،



فلهذا قال:

{ ولا يؤوده } أي: يثقله { حفظهما


وهو العلي } بذاته فوق عرشه،

العلي بقهره لجميع المخلوقات،

العلي بقدره لكمال صفاته



{ العظيم } الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة،

وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة،


فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة

والقهر والغلبة لكل شيء،




فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية

وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات،


وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه

وسعة سلطانه وجلاله ومجده،

وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته،


فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته،

متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا.
 
البرهان 18

من سورة البقرة


{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى

لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ

أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

سورة البقرة { 256 - 257 }




يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه،

لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره،

أو أمر في غاية الكراهة للنفوس،


وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول،

وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي،

فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره،



وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة،

خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل،

ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح،

فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين،

لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا،




ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين،

وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله

لكل منصف قصده اتباع الحق،

وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له،

وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر،

ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب،

كما هو قول كثير من العلماء،



فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان،

ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته

{ فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي: بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه،

وكان المتمسك به على ثقة من أمره،

لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها }


وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت،

فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة،

واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم

{ والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر،

وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.



ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال:

{ الله ولي الذين آمنوا } وهذا يشمل ولايتهم لربهم،

بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا،

قد اتخذوه حبيبا ووليا،

ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه،

فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه،

فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل

إلى نور الإيمان والطاعة والعلم،

وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة

إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور




{ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه،

واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم،

فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا،

ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا،

فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة

إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي،

فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات،

وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات،

وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة،

فلهذا قال تعالى:

{ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
 
البرهان 19

من سورة البقرة

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ

قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ

قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ

فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

سورة البقرة { 258 }



يقول تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }

أي: إلى جراءته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك،


وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك }

فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته،

فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله

فزعم أنه يفعل كما يفعل الله،


فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت }

أي: هو المنفرد بأنواع التصرف،

وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير،

ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة،



فقال ذلك المحاج: { أنا أحيي وأميت }

ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت،

لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه،

فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه،

فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته

ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة

فضلا عن كونه حجة، اطرد معه في الدليل


فقال إبراهيم: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق }

أي: عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر

{ فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه،


فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله، ولا قادحا يقدح في سبيله


{ بهت الذي كفر } أي: تحير فلم يرجع إليه جوابا

وانقطعت حجته وسقطت شبهته،

وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه،
فإنه مغلوب مقهور،


فلذلك قال تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }

بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم،

وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك،

وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية

لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه،


ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير،

ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال،


قال ابن القيم رحمه الله:

وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا،

وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور،

ثم صورت الأصنام على صورها،

فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم

إبطال إلهية تلك جملة

بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت،

ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية

لا في حال حياته ولا بعد موته،

فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة،

ومن كان كذلك فكيف يكون إلها

حتى يتخذ الصنم على صورته، ويعبد من دونه،


وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس

وهي مربوبة مدبرة مسخرة،

لا تصرف لها بنفسها بوجه ما،

بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته،

فهي مربوبة مسخرة مدبرة،

لا إله يعبد من دون الله.


" من مفتاح دار السعادة "


 


البرهان 20

من سورة البقرة


{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ

قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ
وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ 259 } سورة البقرة



وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء،

فقال: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها }


أي: قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها،
فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة،
فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا


و { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها }


استبعادا لذلك وجهلا بقدرة الله تعالى،

فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره،

وكان معه طعام وشراب،


{ فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت
قال لبثت يوما أو بعض يوم }

استقصارا لتلك المدة التي مات فيها
لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته،

فقيل له { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه }

أي: لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه،

ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد،

مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا


{ وانظر إلى حمارك }
وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله

{ ولنجعلك آية للناس } على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم،

لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار،

فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل


{وانظر إلى العظام كيف ننشزها }

أي: ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض


{ ثم نكسوها لحما } فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى،

{ فلما تبين له } ذلك وعلم قدرة الله تعالى

{ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }


والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا،


وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه:


أحدها قوله : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }
ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك،


والثاني: أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه
ليراه بعينه فيقر بما أنكره،
ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها،
ولا في السياق ما يدل على ذلك،
ولا في ذلك كثير فائدة،
ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى
في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟!

وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله،


والثالث في قوله: { فلما تبين له } أي:
تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه،
فعلم بذلك صحة ما ذكرناه،
والله أعلم.
 
البرهان 21

من سورة البقرة


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى

قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ

ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا

ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

سورة البقرة {260 }


وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء،

فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى،

لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى،

ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين،

فلهذا قال الله له:


{ أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }

وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان

ويسعى في نيله أولو العرفان،

فقال له ربه { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك }

أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك.


{ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا }

أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض،

واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء

{ ثم ادعهن يأتينك سعيا } أي: تحصل لهن حياة كاملة،

ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران،

ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد

وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه

في قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }


ثم قال: { واعلم أن الله عزيز حكيم } أي:

ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات،

فلم يستعص عليه شيء منها،

بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله،

ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته،

لا يفعل شيئا عبثا.
 
البرهان 22

من سورة البقرة


{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { 284}
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{ 285} }

سورة البقرة { 284- 285 }




هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض،
الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية،

فكانوا ملكا له وعبيدا،
لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،

وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه،
وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه،



{ فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب المغفرة،
ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره


{ والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء،
بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه.


[ ثم ] يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه،
وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة،

فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله،
وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه،

وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله
على وجه الإجمال والتفصيل،

وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص،



ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا،

وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب،

أي: بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي،

وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله، بل يؤمنون بجميعهم،

لأنهم وسائط بين الله وبين عباده،

فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله



{ وقالوا سمعنا } ما أمرتنا به ونهيتنا

{ وأطعنا } لك في ذلك، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا،


ولما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى

وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام،

قالوا { غفرانك } أي: نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب،

ومحو ما اتصفنا به من العيوب



{ وإليك المصير } أي:

المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر.
 
البرهان 23

من سورة البقرة



{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا
أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }


سورة البقرة { 286 }



لما نزل قوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }
شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب
من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به،

فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي:
أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها،

كما قال تعالى:{ ما جعل عليكم في الدين من حرج }




فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس،

بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر،

فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا،

ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة

حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف،

أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم،



ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير،

وعليها ما اكتسبت من الشر،

فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره،

وفي الإتيان بـ " كسب " في الخير

الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه

بل بمجرد نية القلب

وأتى بـ " اكتسب " في عمل الشر

للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه،




ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه

وأن كل عامل سيجازى بعمله،

وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان،

وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا،

أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك،

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: قد فعلت.

إجابة لهذا الدعاء،



فقال :{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما:

أن النسيان: ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا،

والخطأ: أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله:

فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا،

فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس،

أو قد نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا،

أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا،

فإنه معفو عنه،

وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا،

وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم،

وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف،

وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر.



{ ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي: تكاليف مشقة

{ كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى

فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر

من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها

{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد

{ واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور،

والرحمة يحصل بها صلاح الأمور




{ أنت مولانا } أي: ربنا ومليكنا وإلهنا

الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا

فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات،

ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة،

وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها،


فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك

بأن تنصرنا على القوم الكافرين،

الذين كفروا بك وبرسلك،

وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك،

فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان،

بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم

وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر،

والحمد لله رب العالمين.
 
البرهان 24


من سورة آل عمران




{ الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ*

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ*
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ*

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
{ 1 - 6 }



افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته،
وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه،

فكل معبود سواه فهو باطل،

والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية،


فالحي من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات
التي لا تتم ولا تكمل الحياة إلا بها كالسمع والبصر
والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا يرام


{ القيوم } الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته،
وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد،
فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم،
تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح.


ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم
أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب،
الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه،
فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل،


وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة، فهو المزكي لها،
فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود،
وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون،
وهي شاهدة له بالصدق،
فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به،
فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم،



ثم قال تعالى { وأنزل التوراة } أي: على موسى { والإنجيل } على عيسى.

{ من قبل } إنزال القرآن { هدى للناس } الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم،

أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال،
فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله

{ وأنزل الفرقان } أي: الحجج والبينات والبراهين القاطعات
الدالة على جميع المقاصد والمطالب،

وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة،
فلم يبق لأحد عذر ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته،


فلهذا قال { إن الذين كفروا بآيات الله } أي: بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل

{ لهم عذاب شديد } لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه

{ والله عزيز } أي: قوي لا يعجزه شيء

{ ذو انتقام } ممن عصاه.


{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء }
وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها،
جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها،

ومن جملة ذلك الأجنة في البطون
التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم،

وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير،


فلهذا قال: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }
من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى

{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم }



تضمنت هذه الآيات

تقرير إلهية الله وتعينها،
وإبطال إلهية ما سواه،


وفي ضمن ذلك رد على النصارى
الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام،

وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة،
المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم،

وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس،

وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره،

وعقوبة من لم يهتد بها،

وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.
 
البرهان 25


من سورة آل عمران


{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

{ 18 - 20 }



هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له،
وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم،


أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة
على توحيده، وأنه لا إله إلا هو،
فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم،

ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده
إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد،

وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،
ولا يدفع النقم إلا هو،

والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم،
ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك،




وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله،

وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية
خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد،

فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه
وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه،
فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به،


وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد

لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه،

والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر،

ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة

فليس من أولي العلم.



وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة،

منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس،

ومنها: أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا،

ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم إلى العلم،
إذ هم القائمون به المتصفون بصفته،

ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس،
وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به،
فيكونون هم السبب في ذلك،
فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،

ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم
وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه،
ولما قرر توحيده قرر عدله،

فقال: { قائمًا بالقسط } أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده،
فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه،
وفيما خلقه وقدره، ثم أعاد تقرير توحيده
فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم }



واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية
قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية،
حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس،


فأما الأدلة النقلية

فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله،
من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله

وبغض من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله،
فهو من الأدلة النقلية على ذلك،
حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه،



وأما الأدلة العقلية

التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور

فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها،

فمن أعظمها:

الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور

أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له،

ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه.


ومن الأدلة العقلية

على أن الله هو الذي يؤله دون غيره

انفراده بالنعم ودفع النقم،

فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة
القليلة والكثيرة كلها من الله،

وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة
إلا وهو الذي ينفرد بدفعها

وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه
- فضلا عن غيره-

جلب نعمة ولا دفع نقمة،

تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل

وأن العبودية لا تنبغي
إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار،

فلهذا أكثر الله في كتابه
من التنبيه على هذا الدليل جدا،



ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك:

ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه،

بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا،
ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها،

وسلبها الأسماع والأبصار،

وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا،

وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص،


وما أخبر به عن نفسه العظيمة

من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة،

والقدرة والقهر،

وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية،




فمن عرف ذلك حق المعرفة

عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن
إلا بالرب العظيم

الذي له الكمال كله،
والمجد كله،

والحمد كله، والقدرة كلها،
والكبرياء كلها،

لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات

الصم البكم الذين لا يعقلون،



ومن الأدلة العقلية على ذلك

ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه،

من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك،

وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير

دافعا لكل شر ديني ودنيوي،

وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية،



ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين،

وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم،

قال عقب كل قصة: { إن في ذلك لآية }

أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة،

وتركه هو الموجب للهلاك،

فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم،

وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها

ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة

فله الحمد والشكر والثناء.




ولما قرر أنه الإله الحق المعبود،

بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له،

وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته

التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه،

وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه،


وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء

والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك،

وهذا هو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم،



وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله،

بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من أنفسهم،

وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف،
وهذا من كفرهم،


فلهذا قال تعالى :{ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم
ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب }

فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته،

فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم،


ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم

ممن يفضل غير دين الإسلام عليه أن يقول لهم:

قد { أسلمت وجهي لله ومن اتبعن }
أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا،

وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه،

ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند ورود الشبهات،
وحجة على من اشتبه عليه الأمر،


لأنه قد تقدم أن الله استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده

ليكونوا حجة على غيرهم،

وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،

ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم،

فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح
ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم،

فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة،
وقام به أكمل الخلق وأعلمهم،
حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح،
وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة،



فلهذا قال: { وقل للذين أوتوا الكتاب } من النصارى واليهود

{ والأميين } مشركي العرب وغيرهم

{ أأسلمتم فإن أسلموا } أي: بمثل ما أمنتم به

{ فقد اهتدوا } كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم

{ وإن تولوا } عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه

{ فإنما عليك البلاغ } فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة،
ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم بالعقاب على جرمهم،

فلهذا قال { والله بصير بالعباد }
 
البرهان 26


من سورة آل عمران





{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ

إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ *

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ

وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا

وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

{ 28 - 30 }





وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين

بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين،

وتوعد على ذلك فقال:



{ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء }

أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب،

لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان،

لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه

المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه،

قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض }



فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين

الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه

خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين،


قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }


وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم،

والميل إليهم والركون إليهم،

وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين،

ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين.





قال الله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة }

أي: تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية.


ثم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه }

أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك


{ وإلى الله المصير } أي: مرجع العباد ليوم التناد،
فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم،

فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة،
واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة،




ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا،

ولما في السماء والأرض عموما، وعن كمال قدرته،


ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت

فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء،

بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله

من تدبر آية من كتاب، أو سنة من أحاديث رسول الله،

أو تصور وبحث في علم ينفعه،

أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه، أو نصح لعباد الله،



وفي ضمن إخبار الله عن علمه وقدرته

الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال،

ومحل ذلك يوم القيامة، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال :




{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا } أي: كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة،

كما قال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره }

والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله
من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها،

كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله
من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها


{ وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا }

أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها،





فليحذر العبد من أعمال السوء
التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن،
وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول:



{ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } ،


{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض }،


{ ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا }،

{ حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين }



فوالله لترك كل شهوة ولذة

وإن عسر تركها على النفس في هذه الدار

أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح،

ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر،

فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور

فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا،

ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا،





ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه

رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا،

وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح،

والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب،

فقال { ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد }


فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام،

حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه.

 
البرهان 27


من سورة آل عمران



{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
{ 31 - 32 }



وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها،



فقال : { قل إن كنتم تحبون الله }

أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة

فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها،

[SIZE=+0]وعلامة الصدق[/SIZE]

اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله،

في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن،

فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى،

وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته،



ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى،

لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله،

فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها،

مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها،


وبهذه الآية يوزن جميع الخلق،

فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول

يكون إيمانهم وحبهم لله،

وما نقص من ذلك نقص.



{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }


وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر،

وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد،

وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة،

بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه،

لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته،

فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون



{ فإن تولوا } أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله

فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد

{ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير }


فلهذا قال: { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين }

بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة،


وكأن في هذه الآية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله،

وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله،

هذا هو الاتباع الحقيقي.
 



البرهان 28


من سورة آل عمران


{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
{ 59 - 60 }



يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق،
بغير برهان ولا شبهة،

بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله
أو شريكا لله في الربوبية،



وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة،
لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير
وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته،

فهو على نقيض قولهم أدل،
وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله
بوجه من الوجوه أولى،




ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب
لا من أب ولا أم،
فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح،
فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى،

فإن صح إدعاء البنوة والإلهية في المسيح،
فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى،



فلهذا قال تعالى
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك }

أي: هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق،
لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك
أن قص عليكم ما قص من أخبار الأنبياء عليهم السلام.

{ فلا تكن من الممترين }
أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك،



وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة

وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها،

فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل،

وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة،

سواء قدر العبد على حلها أم لا،

فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه،

لأن ما خالف الحق فهو باطل،

قال تعالى
{ فماذا بعد الحق إلا الضلال }



وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة
يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون،

إن حلها الإنسان فهو تبرع منه،

وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.
 
البرهان 29



من سورة آل عمران


{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا

وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
{ 64 }




أي: قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى
{ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }
أي: هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون،
ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون،
ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم،
وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال،


ثم فسرها بقوله
{ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا }

فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء
ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما
ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا



{ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله }

بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله،
فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق،
لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية،


فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك،
فإن أجابوا كانوا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم،
وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فأشهدوهم أنكم مسلمون،



ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك
وأنتم أهل العلم على الحقيقة،
كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم
كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين،


وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم
فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث طويتهم،


كما قال تعالى
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا
إن الذين أوتوا العلم من قبله
إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآية


وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة الإيمانية
مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلامه،
إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه.
 
البرهان 30



من سورة آل عمران





{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا

أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

{ 79 - 80 }



وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته:

أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله،


فقوله { ما كان لبشر }
أي: يمتنع ويستحيل على بشر منَّ الله عليه بإنزال الكتاب
وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق

{ أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله }
فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام،


لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق،
والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق،
فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم،
فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور
وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة،





فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }

أي: ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي:
علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم،
بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك،
فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة،
وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل،



والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ، باء السببية،
أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه،
التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.





{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }

وهذا تعميم بعد تخصيص،
أي: لا يأمركم بعبادة نفسه ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم


{ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }

هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر
من أحد من الله عليه بالنبوة،


فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك

فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما.
 
البرهان 31



من سورة آل عمران





{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ *
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}


{ 128 - 129 }





لما جرى يوم "أحد" ما جرى، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب، رفع الله بها درجته، فشج رأسه وكسرت رباعيته، قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام،



أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله



{ ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل،


وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك، فعل، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم،





وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد،


وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره،


وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء


فغيره من باب أولى


ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم،


وأن هذا شرك في العبادة، نقص في العقل،


يتركون من الأمر كله له


ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة،


إن هذا لهو الضلال البعيد،




وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه،
ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك،
ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده،
من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة،


ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية،


فقال : { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته،
حيث وضع العقوبة موضعها،
ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه،




ولما نفى عن رسوله أنه ليس له من الأمر شيء قرر من الأمر له فقال :
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض }
من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات كلها،
وجميع ما في السماوات والأرض،


الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك،
فليس لهم مثقال ذرة من الملك،


وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه
فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه
ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه،



{ ويعذب من يشاء } بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة
المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك،




ثم ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه،


فقال: { والله غفور رحيم } ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه، ومغفرته غلبت مؤاخذته،



فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه،


فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة، والثاني دال على النقمة،


بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة،


فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر،



ولا يدرك لها وصف،




فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
 
البرهان 32


من سورة آل عمران




{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ


وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

{ 160 }



أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم }

فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد،
لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم،
فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.


{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم


{ فمن ذا الذي ينصركم من بعده }
فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.


وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه،


والبراءة من الحول والقوة،




ولهذا قال: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }

بتقديم المعمول يؤذن بالحصر،

أي: على الله توكلوا لا على غيره،

لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده،


فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود،


والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه،
بل ضار.


وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده،


وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.

 
البرهان 33


من سورة آل عمران





{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ *

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }


{ 172 - 175 }





لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة،

ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله،

فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم وقال لهم:

{ إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا،
فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه.



{ وقالوا حسبنا الله } أي: كافينا كل ما أهمنا

{ ونعم الوكيل } المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.

{ فانقلبوا } أي: رجعوا


{ بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }

وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم، وندم من تخلف منهم،

فألقى الله الرعب في قلوبهم، واستمروا راجعين إلى مكة،

ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل،

حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم،

ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة،

فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم،

وتقواهم عن معصيته، لهم أجر عظيم،

وهذا فضل الله عليهم.



ثم قال تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي: إن ترهيب من رهب من المشركين،

وقال: إنهم جمعوا لكم، داع من دعاة الشيطان،
يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم، أو ضعف.


{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }


أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان،

فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره،

بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته.




وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده،

وأنه من لوازم الإيمان،

فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله،

والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.
 
البرهــــان 34



من سورة النساء




{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ..... }

{ 36 }



يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له،
وهو الدخول تحت رق عبوديته،

والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له،
في جميع العبادات الظاهرة والباطنة.


وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر،
لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين
الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا
ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،



بل الواجب المتعين إخلاص العبادة
لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه،

وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد.




ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه
أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال:

{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف

والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما

والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما
وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما.

وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان.
وكلاهما منهي عنه .
 
البرهــــان 35


من سورة النساء





{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }

{ 48 }





يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين،
ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها،
وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.


فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة،
كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا،
والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين.

ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد.





وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة،
وأغلق دونه أبواب الرحمة،
فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا،

وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }


ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي:

افترى جرما كبيرا،

وأي: ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب،
الناقص من جميع الوجوه،

الفقير بذاته من كل وجه،
الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا
ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا-

بالخالق لكل شيء،
الكامل من جميع الوجوه،
الغني بذاته عن جميع مخلوقاته،

الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع،

الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى،


فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟

ولهذا حتم على صاحبه
بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب


{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ }



وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب،

وأما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه

كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا }

أي: لمن تاب إليه وأناب.
 
البرهــــان 36







من سورة النساء






{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ


يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ

وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا *







وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *




فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ

ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا *





أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ

وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }
{ 60 - 63 }









يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين.


{ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله،

ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ }





وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت.






والحال أنهم { قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ }


فكيف يجتمع هذا والإيمان؟




فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله

وتحكيمه في كل أمر من الأمور،






فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله،

فهو كاذب في ذلك.






وهذا من إضلال الشيطان إياهم،




ولهذا قال:

{ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } عن الحق.







{ فَكَيْفَ } يكون حال هؤلاء الضالين


{ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }

من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟!








{ ثُمَّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم،


ويقولون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي:




ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم،



وهم كَذَبة في ذلك.





فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله



{ ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا لقوْمٍ يوقنون }






ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ }

أي: من النفاق والقصد السيئ.






{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }

أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه.






{ وَعِظْهُمْ }



أي: بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه




{ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }



أي: انصحهم سرا بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود،

وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه،






وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه


فإنه ينصح سرًا،





ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به.

 
البرهــــان 37


من سورة النساء





{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ

ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
{ 64 -65 }





يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له.

وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين
ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه،
وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع.


وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛

لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا،
فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ،
لما أمر بذلك مطلقا.
وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ }

أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره.
ففيه إثبات القضاء والقدر،

والحث على الاستعانة بالله،
وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.


ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال:

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ }
أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها.


{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }

أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم،
ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها،





وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مخـتص بحياته؛

لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته،

وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك.





ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم،

أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف،

بخلاف مسائل الإجماع،
فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة،

ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق،

وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض،

ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر،

وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن.






فالتحكيم في مقام الإسلام،

وانتفاء الحرج في مقام الإيمان،

والتسليم في مقام الإحسان.

فمَن استكمل هذه المراتب وكملها،

فقد استكمل مراتب الدين كلها.

فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر،

ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.


 
البرهــــان 38



من سورة النساء



{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ


فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }


{ 76 }





هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله


{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } الذي هو الشيطان.






في ضمن ذلك عدة فوائد:




منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته.



فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه،


كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته.




ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله
ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره،
فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل،
فأهل الحق أولى بذلك،


كما قال تعالى في هذا المعنى:


{ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } الآية.




ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق،
وهو الحق والتوكل على الله.


فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط
ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل،
الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة.



فلهذا قال تعالى:
{ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }


والكيد: سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو،

فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف،

الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق
ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.
 
البرهــــان 39


من سورة النساء



{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ


قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ

وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }

{ 78 - 80 }




يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل،
المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة
أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة،

قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }

وأنهم إن أصابتهم سيئة
أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب
قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ }

أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد،

تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله،

كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى :



{ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }

وقال قوم صالح: { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }

وقال قوم ياسين لرسلهم:
{ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية.



فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم.

وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير
لما جاءت به الرسل أو لبعضه
فهو داخل في هذا الذم الوخيم.


قال الله في جوابهم:

{ قُلْ كُلٌّ } أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر.

{ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: بقضائه وقدره وخلقه.

{ فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة.

{ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }

أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه،
أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا،

وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ
على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله،
وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم.


وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله،

والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك،
من الإقبال على كلامهما وتدبره،
وسلوك الطرق الموصلة إليه.

فلو فقهوا عن الله لعلموا
أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره،
لا يخرج منها شيء عن ذلك.


وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام
لا يكونون سببا لشر يحدث،
هم ولا ما جاءوا به
لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.







ثم قال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي: في الدين والدنيا

{ فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها.
{ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا


{ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنوبك وكسبك،
وما يعفو الله عنه أكثر.





فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه
وأمرهم بالدخول لبره وفضله،
وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله،
فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه
فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره.






ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال:

{ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }

على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره
والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة،
فهي أكبر شهادة على الإطلاق،

كما قال تعالى:

{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة،
وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما،
تيقن بذلك أنه رسول الله،
وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين،
ثم لقطع منه الوتين.
 
البرهــــان 40


من سورة النساء




{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا *
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ
فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ
وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }


{ 80 - 81 }



أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } تعالى

لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله،
وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا،
فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا،
ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة




فإن الحقوق ثلاثة:

حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق،

وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك.

وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة.


وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما،

كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله:



{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }



فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله

{ وَمَنْ تَوَلَّى } عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا

{ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم،

بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك،
ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا.




كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } الآية.




ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب.
فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام
فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها،
فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة،



وقد أشبه من قال الله فيهم: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ }
أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك.

{ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم.

{ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: بيتوا ودبروا غير طاعتك
ولا ثَمَّ إلا المعصية.


وفي قوله: { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ }

دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛

لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي،

ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ }

أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم.




ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف،

فإنهم لا يضرونه شيئا
إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه، وإقامة شرعه.


ولهذا قال: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

 
البرهــــان 41



من سورة النساء


{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }
{ 93 }



تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول.

فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.

وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين.





والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج"

فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال:

وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه.

وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها.

قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما.
وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية،
وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود،
وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا،
وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه،
ويكون الحكم للأغلب منهما.


فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.



ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين.

ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.


وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب،
وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات،
وإن وقعت منه وكثرت،
فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت
بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه،
وهذا من أحب الخلق إلى الله.



انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.



 
البرهــــان 42


من سورة النساء


{ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
{ 104 }




أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار،

أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك،

فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن،

وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء.

بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم.




ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين:



الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم،

فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم،

وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك،

لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام

وانتصر عليه الأعداء على الدوام،

لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى.





الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون،

فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه،

بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله،

وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام،

وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين،

فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة،

وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛

لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله،

ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية،

والفوز برضوان الله وجنته،


فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته،


ولهذا قال:

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } كامل العلم كامل الحكمة


 
البرهــــان 43


من سورة النساء


{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ
إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا }

{ 108 }


وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين،
أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله،
فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس،
وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم،
ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم.




وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه.


فقد جمعوا بين عدة جنايات،
ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات،
المطلع على سرائرهم وضمائرهم،
ولهذا توعدهم تعالى بقوله:



{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا }

أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة.


 
البرهــــان 44


من سورة النساء



{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
{ 115}



أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية.


{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم

{ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير،

لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله.


كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
وقال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }



ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء،


كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما يدل عليه عموم التعليل.


وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي: مرجعا له ومآلا.
وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا،
فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان.
ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق.
 
البرهــــان 45


من سورة النساء



{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }

{ 116}



وهو: أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته
وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا
بمن هو مالك النفع والضر،
الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو،
الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه،
والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات.



فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته،
وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء،
ولا له من صفات الغنى شيء
بل ليس له إلا العدم.
عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى،
والفقر من جميع الوجوه.



وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة،
إن شاء الله غفره برحمته وحكمته،
وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته،



وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ.

ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سبيل المؤمنين } مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته - فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم.


ويدل على ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }


ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا،



ومثل ذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس }


فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها.



ومثل ذلك قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }


يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا.
فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة.
 
البرهــــان 46


من سورة النساء



{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا *
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا *
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا *
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا *
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا }

{ 117 - 121 }





أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا،

أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما،

ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى.

فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة،

دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال،







كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه،

أنها لا تخلق ولا ترزق

ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا

ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء،

وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة،

فكيف يُعبد من هذا وصفه







ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا

والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال،




والرحمة والبر والإحسان،

والانفراد بالخلق والتدبير،

والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟








" هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه،



وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور،

أو يصفه واصف؟"








ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة.

وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم

ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه،

الذي هو في غاية البعد من الله،

لعنه الله وأبعده عن رحمته،

فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله.





{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ْ} ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما:

{ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أي: مقدرا.


علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله،

وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان،

وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه.







وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }

فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله:

{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }







وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله:



{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ } أي: عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم، وضلالا في العمل.


{ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ } أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون.

وهذا هو الغرور بعينه،
فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال.

وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة

وحسبوا أنها موجبة للجنة،
واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم،





{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
{ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }




{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } الآية.








وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين:

{ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }






وقوله: { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ } أي: بتقطيع آذانها،

وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه،

وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله،

ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال.








{ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن،
ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن.


وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته،
واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن،
وعدم الرضا بتقديره وتدبيره،






ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة،

فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره،

فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل،

وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.


فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه،

ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد

من توحيده وحبه ومعرفته.

فافترستهم الشياطين في هذا الموضع




افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة.








لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين،

وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم

وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه،

فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال:


{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا }

وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!!

فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي.






كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح،

وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين،

فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت،

اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت.








ثم قال: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى:



{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره،


كما قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } الآية.

ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له،

ولهذا قال:


{ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي: من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار.



{ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } أي: مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد.


 
البرهــــان 47


من سورة النساء



{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا }
{ 125 }



أي: لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود،
وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه،
وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله.



{ وَهُوَ } مع هذا الإخلاص والاستسلام { مُحْسِنٌ }
أي: متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله، وأنزل كتبه،
وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم.



{ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي: دينه وشرعه
{ حَنِيفًا } أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد،
وعن التوجه للخلق إلى الإقبال على الخالق،




{ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } والخُلة أعلى أنواع المحبة،
وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام،
وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين،



وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به،
فجعله الله إماما للناس، واتخذه خليلا،
ونوه بذكره في العالمين.
 
البرهــــان 48


من سورة النساء



{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا *
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

{ 131 ، 132}



يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير،

وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا،

فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين

أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي،

وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب،

والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب،



ولهذا قال: { وَإِنْ تَكْفُرُوا } بأن تتركوا تقوى الله،


وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا،


فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم،​

ولا تضرون الله شيئا ولا تنقصون ملكه،​

وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره.​





ولهذا رتب على ذلك قوله:

{ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا }


[SIZE=+0][SIZE=+0]له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، [/SIZE][/SIZE][SIZE=+0][SIZE=+0]​

[SIZE=+0]لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم،[/SIZE][/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]فسأل كل [واحد] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا،[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]ذلك بأنه جواد واجد ماجد،[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]عطاؤه كلام وعذابه كلام،[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون.[/SIZE][/SIZE][SIZE=+0][SIZE=+0]​




[SIZE=+0]ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف،[/SIZE]
[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه،[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال،[/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0][SIZE=+0]بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، [/SIZE][/SIZE]​

[SIZE=+0]

[SIZE=+0]ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا،[/SIZE][SIZE=+0]​

ولا شريكا في ملكه ولا ظهيرا،

ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه.
[/SIZE][/SIZE]





ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي

في جميع أحوالهم وشئونهم إليه

وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة،

فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم وأقناهم،

ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم.




وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة

الدال على أنه [هو] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام،

وذلك لما اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال،

ولما أنعم به على خلقه من النِّعم الجزال،

فهو المحمود على كل حال.





وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين { الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }!!

[SIZE=+0]فإنه غني محمود، [/SIZE]​

[SIZE=+0]فله كمال من غناه، وكمال من حمده،[/SIZE][SIZE=+0]​


وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
[/SIZE]



ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الأرض،

وأنه على كل شيء وكيل،

أي: عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة،

فإن ذلك من تمام الوكالة،

فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه،

والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره،

وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة،

فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل،

والله تعالى منزه عن كل نقص.

 
البرهــــان 49


من سورة النساء




{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }

{ 138 ، 139}



البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية.

يقول تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ}

أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر،

بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم،

وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم،

وتركهم لموالاة المؤمنين،

فأي شيء حملهم على ذلك؟

أيبتغون عندهم العزة؟




وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين،


ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين،

ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين،

وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك،

فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون.





والحال أن العزة لله جميعا،

فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم.

وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين،

ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين،

وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة،

فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين،





وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛

وترك موالاة المؤمنين،

وأن ذلك من صفات المنافقين،

وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم،

وبغض الكافرين وعداوتهم.
 



البرهــــان 50


من سورة النساء





{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا
فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }

{ 140 }



أي: وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي

{ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } أي: يستهان بها.
وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها،

وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله،
فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها،
ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم.





وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم،
فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله
لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا،



بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه،
وتقتحم حدوده التي حدها لعباده




ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم

{ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.


{ إِنَّكُمْ إِذًا } أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة

{ مِثْلُهُمْ } لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها،





والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به،
فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة،

أو القيام مع عدمها.





{ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }

كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين

كما قال تعالى: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } إلى آخر الآيات.
 
عودة
أعلى