الآيات التي ورد فيها صفة المكر مضافة إلى الله
الآيات التي ورد فيها صفة المكر مضافة إلى الله
[align=justify]أشارت الأخت "باحثة" في مشاركتها حول علاقة البلاغة بالتفسير إلى الانحراف في استخدام البلاغة في تفسير القرآن الكريم، وأنه ليس مانعاً من الإفادة من البلاغة في التفسير، وإنما الإنكار على سوء الإفادة، لا على العلم ذاته، وقد كتبت من قبل مشاركة بعنوان: تطويع الأساليب البلاغية لخدمة المعتقد في توجيه الآيات القرآنية ، وهذا رابطها لمن أحب الرجوع إليها:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=2430
وأحب هنا أن أنبه على ما نقلته "باحثة" عن المفسر أبي السعود العمادي في صفة المكر المضافة إلى الله عز وجل، وقد نَقَلَت الكلام على جهة التسليم، على ما ظننتُ، وقد وقعت الكاتبة فيما فرت منه، حيث استعمل أبو السعود البلاغة في توجيه الصفة توجيهاً مخالفاً لاعتقاد السلف كما فهمتُ.
وأبو السعود من فقهاء الحنفية وقضاتهم في بلاد الترك، وينهج منهج الأشاعرة في الاعتقاد، ولد سنة 898هـ، وقيل غيرها، وتوفي سنة 982هـ، وألف تفسيراً عنوانه: إرشاد العقل السليم...
ولبيان المسألة أقول:
وردت صفة المكر في آيات عديدة منها: قول الله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) [آل عمران: 54]، وقوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30]، وقوله تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون) [النمل: 50]،
وقد ذهب جمع من علماء البلاغة والتفسير بناء على مذاهبهم في الصفات إلى أن المكر المضاف إلى الله عز وجل ليس على حقيقته، وإنما هو مجاز عن العقوبة؛ لأنه سبب لها، فهو من التجوز بلفظ السبب عن المسبب، كما ذكر ذلك العز بن عبد السلام وابن النقيب والقزويني والزركشي(1)، أو أنه من مجاز المقابلة، كما ذكر ذلك السبكي في موضع والزركشي في آيتي آل عمران والنمل، قال الزركشي: (حمل اللفظ على اللفظ، فخرج الانتقام بلفظ الذنب؛ لأن الله لا يمكر)(2)، ومجاز المقابلة هو المشاكلة، وقد استشهد لها بآية آل عمران السكاكي والعلوي والإيجي والرعيني والسجلماسي والزركشي، وبآية النمل العلوي، وبآية الأنفال ابن البناء(3)، وقال بعد أن ذكر جملة من الشواهد: (وهذا النوع كله يقصد به المقابلة وتحقيق المساواة في المعادلة، فلذلك استعير للمعنى الثاني اللفظ عن المعنى الأول)(4)، والمشاكلة عند هؤلاء في إسناد المكر إلى الله تعالى، ظناً منهم أن المكر مذموم بإطلاق، فلا يصح إسناده إلى الله عز وجل، وإنما أسند إليه سبحانه في هذه الآيات مشاكلة للفظ المكر المسند إلى الكافرين.
واعترض السبكي في موضع آخر على عد المكر من مجاز المقابلة بذكر مكر الله في آية الأعراف: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف: 99] (فإنه لم يذكر قبله ولا بعده مكر الآدمي، فلا مقابلة)(5)، والاعتراض لا على كونه مجازاً؛ وإنما على عده من مجاز المقابلة فليتنبه؛ لأن السبكي يرى أن نسبة المكر إلى الله تعالى (ولو وقع استعماله وحده فهو مجاز على الصحيح) كما قال(6)
إلا أن الزركشي رداً على هذا الاعتراض ذكر أنه (وإن لم يتقدم ذكر مكرهم في اللفظ، لكن تقدم في سياق الآية قبله ما يصير إلى مكر، والمقابلة لا يشترط فيها ذكر المقابل لفظاً؛ بل هو، أو ما في معناه)(7)، وهذا الرد فيه نظر؛ لأن المصطلح عليه في المقابلة ذكر الحقيقة بلفظها لا معناها، كما قال السبكي في رده على ابن سنان الخفاجي: (قد أغرب الخفاجي فقال في سر الفصاحة(8): إن قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (9) من مجاز المقابلة؛ لأنه لما ذكرت البشارة في المؤمنين في آية أخرى، ذكرت في الكافرين، وهذا يقتضي أن مجاز المقابلة لا يشترط فيه ذكر الطرف الحقيقي لفظاً، بل يسمى كل اسم ثبت لأحد المتقابلين حقيقة أطلق على مقابله مجازاً، وفي هذه التسمية نظر؛ لأنها مخالفة لاصطلاح الناس)(10 ).
وعلى أي القولين فإن صرف لفظ المكر عن حقيقته إلى المجاز لا دليل عليه إلا ما يعتقده هؤلاء من نفي الصفة عن الله عز وجل، واستحالتها عليه عقلاً، وظنهم أن المكر مذموم على الإطلاق.
وقد احتمل العز وبعض من تبعه (أن يكون مكر الله حقيقياً؛ لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم خفية، وهذا متحقق من الله عز وجل باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعده لهم من نقمه)(11).
ومع أن هذا الرأي لا يعدو أن يكون احتمالاً مقدماً عليه المجاز؛ إلا أن السبكي لم يرتضه، فلا يصح عنده هذا الاحتمال، قال: (لأن التدبير –أيضاً- يستحيل نسبة حقيقته إلى الله تعالى)(12)، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(13).
وهذا الذي ذكروه بصيغة الاحتمال هو الحق، وهو ظاهر اللفظ في المعنى الموضوع له، إذ المكر هو: التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر(14)، ومنه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ويوصف به الله في مقام المدح، لا على الإطلاق، كما في مقام الجزاء والعقوبة ومقابلة مكر الماكرين، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وامكر لي ولا تمكر علي»(15)، قال الفيروزأبادي: (المكر: صرف الغير عما يقصده بنوع من الحيلة… والمكر ضربان:
محمود؛ وهو ما يتحرى به أمر جميل، وعلى ذلك قوله تعالى: (والله خير الماكرين) (16)
ومذموم؛ وهو ما يتحرى به فعل ذميم، نحو قوله تعالى: (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)(17).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رداً على القائلين بالمجاز: (وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن، كلفظ ”المكر والاستهزاء والسخرية“ المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك؛ بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلاً)(18)
وفي مختصر الصواعق كلام تام حول وصف الله عز وجل بهذه الصفة وغيرها من الصفات التي غلب استعمال العامة لها في المعاني المذمومة، كالمكر والخداع والاستهزاء والكيد، قال فيه بعد أن ذكر جملة من الآيات فيها: (لما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كانت مجازاً. والحق خلاف هذا الظن، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمناً للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن ممدوح، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم، حسن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل، وكذلك إذا مكر واستهزأ ظالماً متعدياً، كان المكر به والاستهزاء عدلاً حسناً…) ثم قال: (فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق، كما لا تمدح على الإطلاق، والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم ولا من جهة القدرة، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال؛ وإنما يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة، وهو أن الماكر المخادع يجور ويظلم بفعل ما ليس له فعله أو ترك ما يجب عليه فعله)، ثم قال: (والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه، وهذا إذا نزلنا ذلك على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلاً؛ وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحاً، فلا يكون الاستهزاء والمكر والخداع منه قبيحاً ألبتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداء، لا على سبيل المقابلة على هذا التقدير، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه)(19)، والله أعلم.
الحواشي===========================
(1) مجاز القرآن/209و442، ومقدمة تفسير ابن النقيب/36، والإيضاح/400، والبرهان للزركشي 2/381.
(2) عروس الأفراح3/180، و4/38و44، والبرهان للزركشي2/397،.
(3) انظر: المفتاح/424، والروض المريع/164، والطراز/387، والفوائد الغياثية/161، وطراز الحلة/413، والمنزع البديع/402، والبرهان للزركشي3/449 و3/507.
(4) الروض المريع/164، وقال الدكتور محمد الصامل في المدخل إلى بلاغة أهل السنة/80 بعد أن ذكر قول ابن البناء: (وهذا هو مفهوم المشاكلة عند المتأخرين).
(5) عروس الأفراح4/38، وانظر: الإكسير/65، ومختصر الصواعق المرسلة/289 و292.
(6)عروس الأفراح3/180.
(7) البرهان للزركشي 2/397.
(8) انظر: سر الفصاحة/133، وهذا القول نقله عن أبي بكر الصولي.
(9) آل عمران: 21، والتوبة: 34، والانشقاق: 24.
(10) عروس الأفراح4/44، وانظر: الإكسير/65.
(11) انظر: مجاز القرآن/209 و442، ومقدمة تفسير ابن النقيب/36، والإيضاح/400.
(12) عروس الأفراح4/38.
(13) نفى السبكي عن الله عز وجل حقيقة التدبير، وقد أثبتتها النصوص الشرعية، في قول الله سبحانه: ثم استوى على العرش يدبر الأمر [يونس/3] ، وقوله : يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون [الرعد/2]، وقوله: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض [السجدة/5] ، بل إن المشركين أثبتوا هذا التدبير لله عز وجل حيث قال الله: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ومن يخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [يونس/31].
وأما ما ذكره السبكي وغيره من تأويلات واعتراضات فإنما هو مبني على الأهواء الفاسدة والعقيدة الباطلة في صفات الله وأفعاله، وهو يتفق مع نفي الأشاعرة للحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى؛ لأن التدبير هو: تصريف الأمور على ما يوجب حسن عواقبها، قال السبكي بعد نفيه نسبة التدبير إلى الله: (قال الجوهري: التدبير في الأمر: أن ينظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، وقال الراغب: هو التفكر في دبر الأمور، وقال الغزالي: هو جودة الروية في استنباط الأصلح، وهو على الله محال)، فما لم تدركه عقولهم القاصرة يستحيلونه على الله، مع أن المشركين الذين خاطبهم الله بلغتهم أجابوا على حد ما خاطبهم الله به إثباتاً لا نفياً، فأقرهم الله على ذلك، وجعله من علامات الرشد والتقوى لمن أرادهما، والله أعلم.
(14) انظر: لسان العرب5/183 مادة (م ك ر).
(15) أخرجه أحمد (1/227-ح1997)، وأبو داود (ح1510)، والترمذي (ح3551) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (ح3830)، والحاكم (1/519) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند، والألباني في صحيح سنن أبي داود (ح1337).
(16) آل عمران: 54.
(17) بصائر ذوي التمييز4/516، وانظر: حاشية الدسوقي على مختصر السعد، ضمن شروح التلخيص3/181.
(18) الإيمان/106، وهو ضمن مجموع الفتاوى7/111، وانظر: إعلام الموقعين3/217، ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين1/170.
(19) مختصر الصواعق المرسلة/292.[/align]