قال الله سبحانه وتعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
لماذا لم يصرح باسم امرأت فرعون وصرح باسم مريم ابنت عمران وهل هذا له علاقة بسبب نزول السورة ؟
أتحفونا بردكم يا أهل الملتقى المبارك ..
بسم الله الرحمن الرحيم
يمكن قسمة هذا السؤال إلى شقين منفصلين :
الأول : لماذا لم يُسم ِالقرآن إمرأة فرعون واكتفى فقط بإضافتها إلى زوجها ؟
الثانى : لماذا ذكر القرآن مريم علها السلام فى هذا الموضع بإسمها وكنيتها معأ ؟
وفيما يلى جواب مُفصّل عن كلا السؤالين
أولاً : الجواب عن الشق الأول : لماذا لم يُسم ِالقرآن إمرأة فرعون ، بالرغم من ذكر إسمها - وهو آسية - فى كتب السنة الصحاح ؟
والجواب : لأن اسلوب القرآن الكريم معهود فيه " الإيجاز المُعجِز "
ولو أنه ذَكَرها بإسمها ، لكان هذا حشواً لا يليق بإسلوبه الإعجازى الموجز
ولمزيد بيان نقول : توجد ثلاث طرق رئيسة للتعريف بالأشخاص ، هى : الإسم والكُنية واللقب
وتتفاوت تلك الطرق الثلاث فى درجة اشتهار الشخص بها ، فقد نجد شخصأ مشتهرأ بكنيته مثلاً أكثر من اشتهاره بإسمه العلم ، بينما نجد شخصأ أخر يشتهر بلقبه أكثر من اشتهاره بإسمه وكنيته معاً ، وهكذا
والتدبر فى إسلوب القرآن الإعجازى الموجز يدلنا على أنه يقتصر على ذكر الطريقة الأقرب إلى تعيين الشخص المراد والأكثر تحديدأ لهويته بحسب ما يقتضيه المقام والسياق ، وهنا نجد أنه لا خلاف على أن " فرعون " هو الإسم الأكثر شهرة من " آسية " ، بحيث تُغنى إضافتها إليه عن ذكر إسمها ، فالقليل من الناس هم الذين يعرفونها بإسمها الشخصى ، بينما الناس جميعأ يعرفون دلالة الإسم " فرعون " ، وعلى هذا فإن الإشارة إلى " آسية " بوصفها " إمرأة فرعون " فحسب ، تصبح كافية جدأ للتعريف بها والدلالة عليها أكثر مما لو ذَكَرَها بإسمها فقط لا غير
وهنا قد يقول قائل : ولماذا لا يذكرها بالإثنين معأ ؟ بأن يقول مثلأ : " آسية إمرأة فرعون " ؟
وهو سؤال وجيه ، ولكن الجواب عنه هو أكثر وجاهة ، لأنه يكشف عن إعجاز القرآن الكريم من وجهين :
الوجه الأول : لو أنه قال " آسية إمرأة فرعون " لكان الاسم " آسية " حشواً يتنزه عنه اسلوب القرآن الموجز ، وذلك لكفاية " إمرأة فرعون " فى الدلالة عليها ، فالذكر كما قلنا من قبل يكون للطريقة الأقرب إلى تعيين الشخص المراد ، فإذا دلت إضافة المرأة إلى زوجها على تحديد هويتها بيسر ، لم تعد هناك حاجة بعد ذاك للتصريح بإسمها ، وخاصةً إذا كان إسمها مجهولأ لأكثر الناس
بل لقد لوحظ أن إضافة المرأة إلى اسم زوجها تكون فى بعض الأحيان هى الطريقة الوحيدة لتحديد هويتها بدقة ، وأن الإكتفاء بذكر اسمها قد لا يكفى مطلقأ للوقوف على شخصيتها وتحديد من تكون
ولدينا فى السنة النبوية الشريفة دليل حاسم وبرهان قاطع يشهد بصحة هذا
انظروا مثلاً إلى ذلك الحديث الشريف الوارد فى الصحيحين وفى غيرهما ، ونظرأ لطوله فإنى أقتطف منه ما له صلة بموضوعنا ، وهو هذا :
(( ثُمَّ انْصَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ , جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ. فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ,
هَذِهِ زَيْنَبُ تستأذن عليك. فَقَالَ :
أَىُّ الزَّيَانِبِ هى ؟ فَقِيلَ :
امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَال : نَعَمِ , ائْذَنُوا لَهَا , فَأُذِنَ لَهَا.))
فأنظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم : أى الزيانب هى ؟ بما يدل على أن تعيين المرأة بإسمها فحسب قد لا يفيد شيئأ بالمرة فى معرفة هويتها ، فلما قيل له " إنها إمرأة ابن مسعود " عرف صلى الله عليه وسلم من تكون زينب المقصودة ، وهذا يؤكد ما سبق ذكره من أن ذكر اسم إمرأة فرعون يمكن أن يكون حشوأ لا طائل منه ، إذا كان يوجد ما هو أقوى منه فى الدلالة عليها ويمكن الإكتفاء به وحده ، أعنى بذلك " إمرأة فرعون "
الوجه الثانى : وكذلك يتجلى لنا هنا إعجاز القرآن الكريم فى عدم تصريحه بالإسم " آسية " ولكن من طريق آخر غير طريق الإيجاز المُعجز ، ذلك هو طريق رفع الإلتباس
فالإسم " آسية " هو اسم أعجمى ،
لكنه قد يلتبس فى العربية بمعنى " الأسى " ، أى الحزن والغم ، والمقام هنا مقام تطويب وبشارة لإمرأة فرعون ومن على شاكلتها من المؤمنات ، فكيف تكون البشرى لمن قد يلتبس إسمها بمعانى الأسى والحزن ؟
ولهذا عدل القرآن عن ذكر هذا الإسم رفعأ للإلتباس ورفعأ للتناقض معأ
وهذا الأمر له نظائره فى القرآن الكريم ، فمن ذلك مثلاً : عدول القرآن عن تسمية المسيح عليه السلام بإسمه العلم المعروف به " يسوع " إلى الاسم الجديد الذى اختاره له " عيسى " ، وسبب ذلك يوضحه لنا العلامة "رؤوف أبو سعدة " فى كتابه القيّم " من إعجاز القرآن فى أعجمى القرآن " بقوله :
" قد عَلِم القرآن أن نصارى العرب يقولونها " يسوع " . فلماذا تحول بها إلى " عيسى " ؟ .... لأن يسوع هذه تعنى فى العربية " السائع الهالك " وما كان الله ليُسمِّى المسيح بهذا المعنى المذموم يوم البشرى به ،
وإلا لأنقلبت البشرى إلى فاجعة .... فجاء القرآن بالاسم " عيسى " على غير مثال فى العربية ، مقلوبأ لاسم " يسوع " لإفادة عكس معناه ، فليس هو السائع الهالك وإنما هو المُخَلَّص الناجى "
ويمكن أن نعطى مثالاً آخر على تحاشى القرآن لذكر الاسم العلم الأعجمى إذا كان يؤدى إلى لبس أو يُوهم معانى غير لائقة ، ذلك هو مثال " ذو الكفل " ، النبى الإسرائيلى الذى عدل القرآن عن ذكره بإسمه الصريح ، إلى ذكره بلقبه فقط " ذو الكفل " ، والسبب فى ذلك – كما يقول العلامة أبو سعدة أيضا – هو :
" ذو الكفل هو ترجمة القرآن للإسم العبرى " حِلقِيَّا " ، وهو النبى الذى عثر على التوراة بخط موسى فى عهد يوشيا ملك يهوذا ، وقد عدل القرآن عن تعريب هذا الاسم إلى ترجمته ، لأنه إن تركه على أصله العبرى
التبس معناه عند القارىء العربى بمعانى الجذر العربى " حلق " غير المرادة من التسمية ، ولو عدل به إلى الخاء على جهة التعريب المفسر للمعنى ( حيث "حلق" العبرى هو مكافىء "خلق" العربى بالخاء )
لانبهم على القارىء العربى المراد منه ، أهو " الخَلق " أم " الخُلُق " أم " الخلاق " ؟ . وأبعدها عن الذهن هو هذا الأخير ، رغم أنه هو وحده المراد ( حيث " الخلاق " بتخفيف اللام تعنى فى العبرية والعربية معاً : الكفل ، أى الحظ والنصيب والقسمة ، ومنه قوله تعالى : " أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة " أى لا نصيب لهم ولا حظ فى نعيم الآخرة ) " انتهى
مما سبق ذكره يتبين لنا أن القرآن الكريم يتحاشى أحيانأ ذكر الاسم الأعجمى حين يؤدى ذكره إلى حدوث التباس فى المعنى عند الناطقين بالعربية
وبهذا نكون – بحمد الله وتوفيقه – قد أجبنا عن الشق الأول من السؤال
ويبقى الشق الثانى منه والذى يقول :
لماذا ذكر القرآن مريم عليها السلام بإسمها وكنيتها معاً فى هذا الموضع على وجه الخصوص ، من دون جميع مواضع ذكرها فى القرآن ؟
ولهذا حديث آخر ، أو قل : إعجاز آخر ، عسى أن نُبينه قريبأ ، وشكرأ على صبركم
( يُتبَع إن شاء الله )