فن الاحتباك
بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله
الاحتباك فن عزيز من فنون البلاغة ، وسر لطيف من أسرار هذه اللغة ، وهو من ألطف أنواع البديع، وأبدعها. وقلَّ من تنبَّه له، أو نبَّه عليه، من أهل فنِّ البلاغة- كما قال السيوطي في (الإتقان). وقد ذكره الزركشي في(البرهان) ، ولم يسمِّه هذا الاسم، بل سماه:(الحذف المقابلي) ، وقد أكثر منه برهان الدين البقاعي في تفسيره العجيب نظم الدرر وقال عنه : وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته " الإدراك لفن الاحتباك ". نظم الدرر(1/31)
وقد ذكر البقاعي كتابه هذا في فهرسته الذي جمع فيه مؤلفاته برقم (41) وقام بجمعه الدكتور: محمد أجمل أيوب الإصلاحي
تعريفه : - قال الجرجاني:
الاحتباك : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، ويحذف من كل واحد منهما مقابله، لدلالة الآخر عليه كقوله: علفتها تبنا وماء باردا
أي علفتها تبناً، وسقيتها ماءً بارداً.
- ونقل الزركشي عن الأندلسي قوله في شرح(البديعية):” من أنواع البديع:(الاحتباك) ؛ وهو نوع عزيز وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول " قال البقاعي : وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازاً، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر، وبعبارة أخرى: هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه " نظم الدرر(2/18).
وذكر في تفسيره ما يقارب من (250) آية تصلح أن تكون مثالا لهذا الفن البديع، وأوضح الآيات رأيتها تقرب فهم هذا الفن قوله تعالى : "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ " قال رحمه الله: " وقد علم بهذا أن الآية من الاحتباك حذف من الأول مثل الداعي لدلالة الناعق عليه ومن الثاني المنعوق به لدلالة المدعوين عليه " نظم الدرر (1/148)
وقوله تعالى : " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ".قال رحمه الله : " قد كان لكم آية " أي عظيمة بدلالة تذكير كان " في فئتين" تثنية فئة ـ للطائفة التي يفيء إليها ـ أي يرجع ـ من يستعظم شيئاً، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها " التقتا "أي في بدر " فئة " أي منهما مؤمنة، لما يرشد إليه قوله: " تقاتل في سبيل الله " أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً "وأخرى " أي منهما "كافرة " أي تقاتل في سبيل الشيطان، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك " نظم الدرر (2/18)
ومن مارس الحواشي والمتون أدرك أن الفقهاء يستعملونه كثيرا كما ذكر البقاعي رحمه الله، وبما أن البقاعي شافعي المذهب فلا شك أنه أكثر من ذكر الأمثلة الفقهية في كتابه " الإدراك لفن الاحتباك " فو أسفاه على ضياع هذا الكتاب ، واقتداء به رحمه الله سنذكر مثالا فقهيا ولكنه على مذهب مالك جاء في مواهب الجليل للحطاب : " والتحريم بعقده ووطئه "
ش : هو كقول ابن الحاجب في موانع الزوجية : وكل نكاح اختلف فيه اعتبر عقده ووطؤه ما لم يكن بنص , أو سنة ففي عقده قولان . قال في التوضيح : معنى كلامه أن كل نكاح اختلف العلماء في صحته وفساده والمذهب قائل بالفساد ; فإنه يعتبر عقده فيما يعتبر فيه العقد ووطؤه فيما يعتبر فيه الوطء فيحرم بالعقد على أمهاتها وتحرم بالوطء على آبائه وأبنائه وتحرم عليه البنت بالدخول بالأم فيه وقوله : ما لم يكن بنص , أو سنة يعني أنه اعتبر العقد والوطء إلا أن يكون الفساد بنص كتاب الله , أو سنته فحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول ففي عقده قولان , ويعتبر وطؤه بالاتفاق وقال في المقدمات : والمشهور أن الحرمة تقع بكل نكاح لم يتفق على تحريمه ونفى غيره الخلاف ورأى أن المذهب كله على التحريم فإن قلت : كيف يكون فيه نص كتاب الله , أو سنته ويختلف فيه ؟ " ثم قال رحمه الله: فقوله : فحذف من الأول إلخ هو من النوع المسمى بالاحتباك من أنواع البديع وهو أن يحذف من أحد شقي الكلام نظير ما أثبته في الثاني ومن الثاني نظير ما أثبته في الأول ومنه قوله تعالى " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع " أي ومثل الأنبياء والذين كفروا كمثل الذي ينعق وينعق به وجعل منه السيوطي قوله تعالى" لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " على أن المراد بالزمهرير البرد أي لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا ومنه قوله تعالى" وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" التقدير تدخل غير بيضاء وأخرجها تخرج بيضاء وذكر أنه لم يقف عليه في شيء من كتب البديع إلا أنه خطر له في الآية المذكورة أعني قوله " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " وهذا النوع لطيف وإنه لا يعرف في أنواع البديع ما يدخل تحته , ثم ذكر ذلك لصاحبه برهان الدين البقاعي فأفاده أن بعض شيوخه أفاد أن هذا النوع يسمى الاحتباك , ثم وقف عليه في شرح بديعية ابن جابر لصاحبه أحمد بن يوسف الأندلس قال ومن ألطفه قوله تعالى" خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " أي صالحا بسيئ وآخر سيئا بصالح ومأخذه من الحبك الذي معناه الشد والإحكام وتحسين آثار الصنعة وبيانه أن مواضع الحذف أشبهت الفرج بين الخيوط فلما أدركها الناقد البصير فوضع المحذوف مواضعه كان حابكا له مانعا من خلل يطرقه فسد بتقديره ما يحصل به الخلل وقد ذكره الخلوي في بديعيته والله أعلم .
وللأستاذة البتول وهي إحدى رواد هذا الملتقى المبارك بحث عن البقاعي لعلها تبرز لنا أهمية فن الاحتباك في ادراك المناسبات