سيكولوجية الفهم في أسرار البلاغة للجرجاني

أحمد نجاح

New member
إنضم
22 فبراير 2011
المشاركات
940
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
هذا الموضوع بقلم أخي الأكبر شريف ناجح حفظه الله .


مقدمة الرسالة
الحمد لله رب العالمين صرّف الآيات وبث العبرة، وأودع المبينات في الكون والفكرة ، فمن اهتدى زاده الله هدى ، وبسط له في القوة والمدى، وبصره بأباطيل الفتن ومواقع المنن ،فكان شكارا ذكارا ، مخبتا صبارا، وكان خطوه للآخرة منصبّا مدرارا .
والصلاة والسلام على المختار على علم من ربه على العالمين سيد ولد آدم وإمام المتقين ، وعلى صحابته السادة الأعلام الأبرار الكرام.
وبعد : فقد وجدت في كتاب أسرار البلاغة للإمام / عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله- نتفا مبهجة ، وطُرفا مفلجة ، تبين حركة النفس عند تلقى المعارف بأساليب مؤنسة مشرقة مريحة تراعى فيها الموافقة والتؤدة والأخذ بها رويدا رويدا بحكمة مكينة مرتبة, فرأيت أن أستخرجها من مكامنها وعلائقها وأجردها للناظرين لتدخل في كل باب من أبواب الفكر والتعليم والتبيين .
وعلقت عليها تعليقات أرجو أن تزيدها تأصيلا .
والله الموفق والهادي
يتبع
 
قال رحمه الله :(
أما التجنيس فإنك لا تستحسن تجانُس اللفظتين إلا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمًى بعيداً، أتراك استضعفتَ تجنيس أبي تمام في قوله: من الكامل
ذَهَبَت بمُذْهَبَهِ السَّمَاحَةُ فَالْتَوت فِيهِ الظُّنُونُ: أَمَذْهَبٌ أم مُذْهَبُ
واستحسنتَ تجنيس القائل: " حتى نَجَا من خَوفِهِ وَمَا نَجا " وقول المحدَث:
ناظِراه فيما جَنَى ناظِراه ... أوْ دَعانِي أمُتْ بما أَودعَانِي
لأمرٍ يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيتَ الفائدة ضَعُفَت عن الأوّل وقويتَ في الثاني؟ ورأيْتَك لم يزدك بمَذْهب ومُذهب على أن أَسْمَعَكَ حروفاً مكررةً، تروم فائدة فلا تجدُها إلا مجهولةً منكرةً، ورأيتَ الآخر قد أعَادَ عليك اللفظةَ كأنه يخدعُك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يَزِدْك وقد أحسن الزيادة ووفَّاها، فبهذه السريرة صار التجنيس - وخصوصاً المستوفَى منه المُتَّفَقَ في الصورة - من حُلَى الشّعر، ومذكوراً في أقسام البديع.)
* علل وصول الفائدة للذهن من خلال التجنيس بالعطاء بعد المراوغة وهو أمر يشبه المفاكهة والطرب الذي يرسل أعنة الخواطر كقوله تعالى (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) البقرة آية/ 25.
تشابهت اللفظتان وتنوعتا ثمرا ولكن كلامه هذا يقتصر على الفائدة عند أول تلقى الذهن للجملة لكن بعد تلقى الذهن للجملة وتعرفه عليها تبقى فائدة أخرى وهى الراحة الذهنية التي توجد عند استخدام أداة واحدة لفائدتين وهى راحة ذهنية للشاعر أيضا وتلك فيما أحسب هى وجهة الاختراع في التصنيع الحديث للآلات حيث يغرونك بشراء الآلة التي تستخدم لعدة أغراض فالراحة مطلب للذهن الذكي لكن إذا عطلت هذه الراحة طلاقة المشاعر وحصرت الشعر في عمل عقلي بارد فذلك هو الجناس المستكره وتزداد كراهته إذا كان مستثقلا على الذهن أيضا كالمثال الذي ذكره من شعر أبى تمام .
فالمستفاد نفسيا وتعليميا من هذه المسألة إعطاء المعنى بعد مراوغة صغيرة في قالب غير مكلف للذهن كما قال في موضع آخر:{ ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله أحلَى، وبالمزِيَّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضَنَّ وأَشْغَف، ولذلك ضُرب المثل لكل ما لَطُف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال:
وهُنَّ يَنْبِذْنَ من قَوْلٍ يُصِبْنَ بِه ...ِمَوَاقِعَ الماءِ مِنْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي
وأشباه ذلك مما يُنال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدُّم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمُّد ما يَكْسِب المعنى غمُوضاً، مشرِّفاً له وزائداً في فضله، وهذا خلافُ ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا إن خَيْر الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أُرد هذا الحدَّ من الفِكْرِ والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله:
فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغَزَالِ
وقوله:
ومَا التأنيثُ لاِسْمِ الشمسِ عَيْبٌ ... ولا التذكيرُ فَخْرٌ للهلالِ
وقوله:
رأيتُك في الذين أَرَى مُلُوكاً ... كأنَّك مُسْتَقيمٌ في مُحالِ
وقول النابغة:
فإنَّك كاللَّيل الَّذِي هو مُدْرِكي ... وَإنْ خِلْتُ أنّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
وقوله:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذَا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ
وقول البحتري:
ضَحوكٌ إلى الأبطال وهو يَرُوعهم ... وللسيف حدٌّ حين يَسْطُو وَرَوْنَقُ
وقول امرئ القيس: " بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابد هَيْكَلِ " وقوله:
ثم انصرفتُ وقد أَصَبْتُ ولم أُصَبْ ... جَذَعَ البَصِيرةِ قَارِحَ الإقدامِ
فإنك تعلم على كل حالٍ أن هذا الضرب من المعاني، كالجوهر في الصَدَف لا يبرز لكَ إلاّ أن تشُقَّه عنه، وكالعزيز المُحْتجب لا يُريك وجهه حتى تستأذِن عليه، ثم ما كلُ فكر يهتدي إلى وجهِ الكَشْفِ عمَّا اشتمل عليه، ولا كُلّ خاطر يؤذَن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شقّ الصَدَفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كلُّ من دنا من أبواب الملوك، فُتحت له وكان:
مِنَ النَّفَرِ البِيضِ الَّذِينَ إذَا اعتزوا... وهاب رجالٌ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا
أو كما قال:
تَفَتَّحُ أبوابُ الملوك لِوجهه ... بغير حِجَابٍ دُونَهُ أو تَملُّقِ
وأما التعقيد، فإنما كان مذموماً لأجل أن اللفظ لم يرتَّب الترتيبَ الذي بمثله تحصُل الدَّلالة على الغرض، حتى احتاج السامع إلى أن يطلبَ المعنى بالحِيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله:
ولذا اسمُ أغطية العيون جفونُها ... من أنّها عَمَلَ السيوفِ عواملُ
وإنما ذُمَّ هذا الجنس، لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكَدَّكَ بسُوء الدَّلالة وأودع لك في قالب غير مستوٍ ولا مُمَلَّس، بل خشِنٍ مُضرّس حتى إذا رُمْتَ إخراجَه منه عَسُر عليك، وإذا خرج خرج مُشوَّه الصورة ناقصَ الحُسن، هذا وإنما يزيدك الطلبُ فرحاً بالمعنى وأُنْساً به وسروراً بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأمّا إذا كنتَ معه كالغائص في البحر، يحتمل المشقّة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يُخرج الخرَزَ، فالأمرُ بالضدّ مما بدأتُ به، ولذلك كان أحقَّ أصناف التعقُّد بالذم ما يُتعبك، ثم لا يُجدي عليك، ويؤرِّقك ثم لا يُورق لك، وما سبيله سبيلُ البخيل الذي يدعوه لؤمٌ في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضَعَته في بُخْله، وحِرمان فضله، حتّى يَأْبَى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرِّض له باباً ثانياً من الاحتمال تناهياً في سُخفه أو كالذي لا يُؤيسك من خيره في أول الأمْرِ فتستريحَ إلى اليأس، ولكنه يُطمِعُك ويَسْحَب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال
العناء وكثر الجهد، تكشَّف عن غير طائل، وحصلتَ منه على نَدَمٍ لتَعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسُّفه في اللفظ، وذهابه به في نحوٍ من التركيب لا يهتَدِي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمَي الإعرابُ في طريقه، ويَضِلُّ في تعريفه، كقوله:
ثَانِيه في كَبِد السَّمَاء ولم يكن ... لاثنين ثانٍ إذ هُما فِي الغَارِ
وقوله:
يَدِي لمن شاءَ رَهْنٌ لَمْ يَذُق جُرَعاً ... مِنْ رَاحتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ
ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة ويُعَدّ في وسائط العُقود، لا يُحوِجك إلى الفكر، ولا يحرِّك من حِرصك على طلبه، بمنعِ جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصل بعد الصدّ، والقرب بعد البعُد، لكان باقلَّي حارٌ وبيتُ معنًى هو عين القلادة وواسطة العقد واحداً، ولَسقط تفاضُلُ السامعين في الفهم والتصوّر والتبيين،}
* وفائدة ثالثة بديعة :إرضاء غرور القارئ أو السامع عن طريق إشعاره بأنه وصل للمعنى بذكاء خاص .
* ورابعة: أن تتضاد النتيجتان والآلة واحدة
كلفظة"أحد" في سورة الإخلاص حيث تعنى الأولى الخصوصية وتعنى الثانية العموم وما ذكره كذلك من لفظة "نجى" .
 
& قال رحمه الله تعالى: (نحو قول أبي تمام:
يَمُدُّون من أيدٍ عَواصٍ عَواصِمٍ ... تَصُولُ بأسْيافٍ قَوَاضٍ قَواضِبِ
وقول البحتري:
لئن صَدَفتْ عنَّا فرُبَّتَ أنفُس ... صَوادٍ إلى تِلك الوجُوه الصَّوادف
وذلك أنك تَتَوهم قبل أن يردَ عليك آخرُ الكلمة كالميم من عواصم والباء من قواضب، أنها هي التي مَضَت، وقد أرادتْ أن تجيئَك ثانيةً، وتعودَ إليكَ مؤكِّدَةً، حتى إذا تمكن في نفسك تمامُها، ووعى سمعُك آخرَها، انصرفتَ عن ظنّك الأول، وزُلْتَ عن الذي سبق من التخيُّل، وفي ذلك ما ذكرتُ لك من طلوع الفائدة بعد أنْ يخالطك اليأس منها، وحصول الربح بعد أن تُغالَطَ فيه حتى ترى أنه رأس المال. فأما ما يقع التجانس فيه على العكس من هذا وذلك أن تختلف الكلمات من أوّلها كقول البحتري:
بسيوفٍ إيماضُها أوجالُ ... للأعادي ووقعُها آجال
وكذا قول المتأخر:
وكم سبقَتْ منه إلَيَّ عوارفٌ ... ثنائَي من تلك العَوارف وَارِف
وكم غُررٍ من بِرّه ولطائفٍ ... لَشُكْرِي على تلك اللَّطائِف طائفُ
وذلك أنّ زيادة عوَارِف على وارف بحرف اختلاف من مبدأ الكلمة في الجملة، فإنه لا يبعد كلَّ البعد عن اعتراض طرفٍ من هذا التخيُّل فيه، وإن كان لا يقوى تلك القوةَ، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مُبْدَلاً من بعض حروفها غيرُه أو محذوفاً منها)
* علل بالمفاجأة وما قيل في سابقه يمكن أن يقال هنا لكن يضاف إليه اختلافي معه في قصور النوع الثاني عن الأول في الإفادة لأن الإفادة الأهم هنا إيجاد طقس متآلف متناغم متجانس متكاتف يعطى روحا وتأكيدا للمعنى وللفظ الأهم ،طقسا كما في قوله تعالى(مزاجها زنجبيلا) خاصة في البيتين الآخرين اللذين ذكرهما حيث كانت العوارف واللطائف علتان فناسب خروج المعلول مشاكها للمصدر وناسب الشكر اللذان جاءا في معرض الحديث عنه أن يكون المعلول أقل منه مبنى .
وفى التأكيد جاء قوله تعالى :" وقد قدمت إليكم بالوعيد" وقوله تعالى: " فالتقى الماء على أمر قد قدر" حيث تكررت القاف والدال , وقوله تعالى: "جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"ومن النوع الثانى "إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَاءِ مَاءًَ"[الأنفال:11],في لفظة الماء بعد السماء وقوله تعالى:" ولكنا كنا مرسلين"
وقوله تعالى :" إن ربهم بهم" ، "مذبذبين بين ذلك" ، وقوله :"وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ"
وقوله :" وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ". وقد تتجاور لفظتان غير مترادفتين في أصل اللغة لكنهما في سياق الكلام يترادفان معنى فيبهج تجانسهما لفظا من ذلك قول ابْنَ الزّبَعْرَي حين أسلم :
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سنَنِ الْغَيّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلُهُ مَثْبُورُ
فالبوار والمباراة مختلفان معنى في وضع اللغة ولكنهما في البيتين اتفقا حيث كان البوار هو المباراة المذكورة فكان للتجانس هنا روح وريحان .
واعلم أن ذلك التجانس قد يقع في ضم الكلمات ذات الحروف المتشابهة في الجملة أو في البيت بحيث لا تتجاور في باقي الكلام فيعطى ذلك طقسا وتكاتفا كما مرّ معك في قوله تعالى (مزاجها زنجبيلا) وتجده في الجيم والراء والزاي في قول الله سبحانه وتعالى:
"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أفلا يبصرون"{السجدة-27} فجاء عكس الحروف هنا للطيفة معنوية وهى معاكسة الجرز للخروج لأن الجَرز هو الأكل وهو معاكس للخروج ،
قال في لسان العرب :(جَرَزَ يَجْرُزُ جَرْزاً أَكل أَكلاً وَحِيًّا والجَرُوزُ الأَكُولُ وقيل السريع الأَكل وإِن كان قسا.
وكذلك هو من الإِبل والأُنثى جَرُوزٌ أَيضاً وقد جَرُزَ جَرَازَةً ويقال امرأَة جَرُوزٌ إِذا كانت أَكولاً الأَصمعي ناقة جَرُوزٌ إِذا كانت أَكولاً تأْكل شيء وإِنسان جَرُوزٌ إِذا كان أَكولاً والجَرُوزُ الذي إِذا أَكل لم يترك على المائدة شيئاً وكذلك المرأَة ويقال للناقة إِنها لجُرازُ الشجر تأْكله وتكسره وأَرض مَجْرُوزَةٌ وجُرُزٌ وجُرْزٌ وجَزْرٌ لا تنبت كأَنها تأْكل النبت أَكلاً وقيل هي التي قد أُكل نباتها وقيل هي الأَرض التي لم يصبها مطر) .
ويستفاد من هذه المسألة تعليميا أن التقارب بين المعلومات وجعل نوع من الوشائج والعلاقات بينها مما ييسر على النفس ويريح الذهن ولعل هذا من تيسير القرآن للذكر المذكور في الآية الكريمة(ولقد يسرنا القرآن للذكر) {القمر} .
يتبع بإذن الله
 
& ثم نبهنا رحمه الله تعالى أن الراحة وسيلة وليست غاية فإذا لم يكن ثمة وصول إلا بالتعب فلابد منه ولندع الراحة جانبا فقال ونعم ما قال :
(ويؤتى بأمثلة إذا حُقّق النَّظَر في الأشياء يجمعها الاسم الأعمّ، وينفرد كل منها بخاصّةٍ، مَنْ لم يقف عليها كان قصيرَ الهمّة في طلب الحقائق، ضعيفَ المُنّة في البَحْث عن الدقائق، قليلَ التَّوْقِ إلى معرفة اللطائف، يرضى بالجُمَل والظواهر، ويَرَى أن لا يُطيل سَفَر الخاطر، ولعمري إنّ ذلك أروَحُ للنفس، وأقلُّ للشُّغْل، إلا أنّ مِنْ طلب الراحة ما يُعْقب تعباً، ومِنَ اختيارِ ما تقلُّ معه الكُلفة ما يُفْضِي إلى أشدّ الكُلفة، وذلك أن الأمور التي تلتقي عند الجُملة وتتَباين لَدَى التفصيل، وتجتمع في جِذْمٍ ثم يذهب بها التشعُّب ويقسمها قَبِيلاً بعدَ قبيل، إذا لم تُعْرَف حقيقة الحال في تلاقيها حيث التقت، وافتراقها حيث افترقت، كان قياسُ مَنْ يحكم فيها، إذا توسَّط الأمرَ قياسَ من أرادَ الحكم بين رجلين في شرفهما وكرَم أصلهما وذهاب عِرْقهما في الفضل، ليعلم أيُّهما أقعد في السؤدد، وأحقُّ بالفخر، وأرسخ في أُرُومة المجد، وهو لا يعرف من نسبتهما أكثرَ من ولادة الأب الأعلى والجد الأكبر، لجواز أنّ يكون واحد منهما قُرشياً أو تَمِيمياً، فيكون في العجز عن أن يُبْرِم قضيةً في معناهما، ويبيّن فضلاً أو نقصاً في منتماهما في حكم من لا يعلم أكثر من أن كل واحد منهما آدميٌّ، ذَكَر، أو خَلْقٌ مصوَّر.)
ولكنه ذكر بعد ذلك ما يومئ للتيسير فقال عن الاستعارة:(ومن خصائصها التي تُذكرَ بها، وهي عنوان مناقبها، أنَّها تُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تُخرجَ من الصدَفة الواحدة عِدّةً من الدُّرَر، وتَجْنِيَ من الغُصْن الواحد أنواعاً من الثَّمر،)

& ثم نبه رحمه الله إلى ضرورة النظر لحقيقة الشيء وعدم الاغترار إلا بتحقيقه لمقصده وغايته دون التأثر بالكثير من البشر فقال: (فقولهم إذَنْ: إن القناعة هي الغِنَى لا كثرة المال، إخبار عن حقيقةِ نفّذتها قضايا العقول، وصحّحتها الخِبرة والعِبرة، ولكن رُبّ قضيةٍ من العقل نافذةٍ قد صارت كأنها من الأمور المتجوَّز فيها، أو دون ذلك في الصحة، لغلبة الجهل والسَفَه على الطباع، وذهاب من يعمل بالعقل ويُذعن له، ويطرح الهوى، ويصبُو إلى الجميل، ويأنَف من القبيح، ولذهاب الحياء وبُطلانه، وخروج الناس من سُلْطانه، ويأس العاقل من أن يُصادف عندهم، إن نَبَّهَ أو ذَكَّر، سمعاً يعي، وعقلاً يراعي، فجَرْيُ الغنى على كثرة المال، والفقر على قلّته، مما يُزيله العُرف عن حقيقته في اللغة، ولما كان الظاهرُ من حال الكثير المال أنه لا يَعْجِز عن شيء يريده من لذّاته وسائر مطالبه، سُمّي المال الكثير غِنًى، وكذلك لمَّا مَن كان قَلَّ ماله، عَجَز عن إرادته، سُمّي قلّة المال فقراً، فهو من جنس تسمية السبب باسم المسَبَّب، وإلا فحقيقة الغنى انتفاء الاحتياج، وحقيقة الفقر الاحتياج، واللّه تعالى الغنيُّ على الحقيقة، لاستحالة الاحتياج عليه جلّ وتعالى عن صفات المخلوقين، على ذاك ما جاء في الخبر من أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " أَتَدْرُون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول اللّه من لا دِرْهمَ له ولا مَتَاع، قال: المفلس من أُمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه، فيأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وقَذَف هذا وضرب هذا وسفك دمَ هذا فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيتُ حسناته قبل أن يفنى ما عليه من الخطايا، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار " ، ذاك أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن الحكم في الآخرة، فلما كان الإنسان إنما يُعَدُّ غنيّاً في الدنيا بماله، لأنه يجتلب به المسرّة ويدفع المضرّة، وكان هذا الحكم في الآخرة، للعمل الصالح، ثبتَ لا محالة أن يكون الخاليِ، نعوذ باللّه، من ذلك، هو المفلس، إذ قد عَرِيَ مما لأجله يسمّى الخالي من المال في الدنيا مفلساً، وهو عدم ما يوصله إلى الخير والنعيم، ويقيه الشرَّ والعذابَ، نسأل اللّه التوفيق لما يُؤْمِنُ من عقابه. وإذا كان البَحْثُ والنظر يقتضي أن الغنى و الفقر في هذا الوجه دالاّن على حقيقة هذا التركيب في اللغة، كقولك: غَنِيتُ عن الشيء و استغنيتُ عنه، إذا لم تحتج إليه و افتقرتُ إلى كذا، إذا احتجتَ إليه وجب أن لا يعدواها ها هنا في المستعار والمنقول عن أصله.)
وقد بالغ قبل ذلك في تبيين معنى الفقر والغنى فقال :(وأمَّا قولهم في الغنيّ إذا كان بخيلاً لا ينتفع بماله: إنّ غناه فقر، فهو في الضرب الأول أعني تنزيلَ الوجود منزلة العدم لتعرّى الوجود مما هو المقصود منه، وذلك أن المال لا يُراد لذاته، وإنما يُراد للانتفاع به في الوجوه التي تعدُّها العقلاء انتفاعاً، فإذا حُرم مالكه هذه الجدوى وهذه الفائدة، فملْكُه له وعدم الملك سواء، والغِنَي إذا صُرف إلى المال، فلا معنى له سوى مِلْك الإنسان الشيء الكثير منه، ألا تراه يُذكَر مع الثروة فيقال: غنيٌّ مُثْرٍ مُكثر؟ فإذا تبين بالعلة التي مضت أنه لا يستفيد بمِلْكه هذا المالَ معنًى، وأن لا طائل له فيه، فقد ثبت أن غِناه والفقرَ سواء، لأن الفقر أن لا يملك المال الكثير، وأمّا قول اللُؤَماء: إن انتفاعه في اعتقاده أنَّه متى شاء انتفع به، وما يجد في نفسه من عزّة الاستظهار، وأنه يُهاب ويُكْرم من أجله، فمن أضاليل المُنَى، وقد يُهان ويُذَّلُّ ويُعَذَّب بسببه حتى تُنْزَع الروح دونه، ثم إن هذا كلامٌ وضعه العقلاء الذين عرفوا ما الانتفاع، وهذا المخالفُ لا يُنكر أن الانتفاع لو عُدم كان مِلكه الآن لمالٍ وعَدَمُ ملكه سواءٌ، وإنما جاء يتطلّب عُذْراً، ويُرخِي دون لُؤْمه سِتْراً، ونظير هذا أنك ترى الظالم المجترئ على الأفعال القبيحة، يدّعي لنفسه الفضيلة بأنه مَدِيد الباع طويلُ اليد، وأنه قادرٌ على أن يُلجئ غيره إلى التَّطامن له، ثم لا يزيده احتجاجُه إلا خِزْياً وذُلاً عند اللّه وعند الناس، وترى المصدِّق له في دعواه أذَمَّ له وأهجى من المكذِّب، لأن الذي صدّقه أيِسَ من أن ينزع إلى الإنسانية بحالٍ، والذي كذَّب رجَا أن ينزع عند التنبيه والكشف عن صورة القبيح، وأما قولهم في القناعة إنها الغِنَى كقوله:
إنَّ القُنوعَ الغِنَى لا كثرةُ المال
يريد القناعة، وكما قال الآخر:
إنّ القَنَاعةَ فاعلمنَّ غِنَى ... والحِرْصُ يُورِث أهلَهُ الفَقْرَا
وجعلُهم الكثيرَ المال، إذا كان شَرِهاً حريصاً على الازدياد، فقيراً، فمِمَّا يرجع إلى الحقيقة المحضة، وإن كان في ظاهر الكلام كالتشبيه والتمثيل، وذلك أن حقيقة الغِنَى هو انتفاء الحاجة والحاجة أن تريد الشيء ولا تجدُه، والكثير المال إذا كان الحِرْصُ عليه غالباً، والشَّرَهُ له أبداً صاحباً، كان حاله كحال من به كَلَبُ الجوع يأكل ولا يشبع، أو من به البَغَرُ يشرب ولا يروَى، فكما إنّ إصابته من الطعام والشراب القدرَ الذي يُشبع ويُروى، إذا كان المزاج معتدلاً والصّحة صحيحةً، لا تنفي عنه صفة الجائع والظمآنِ لوجود الشهوة ودَوامِ مُطالبة النفس وَبَقَاء لهيب الظمأِ وجهْدِ العطش، كذلك الكثيرُ المال لا تحصل له صفة الغِنى ولا تزول عنه صفة الفقر، مع بقاء حرصه الذي يُديم له القَرَم والشَّره والحاجة والطلَب والضَجَر حين يفقِد الزيادة التي يريدها، وحين يفوته بعض الرِّبح من تجاراته وسائر متصرَّفاته، وحتى لا يكاد يفصِل بين حاله وقد فاته ما طلب، وبينها وقد أُخذ بعض مالِهِ وغُصب، ومن أين تحصُل حقيقة الغِنَى لذي المال الكثير؟ وقد تراه من بُخله وشُّحِّه كالمقيَّد دون ما ملكه، والمغلول اليدِ يموت صبراً ويُعاني بؤساً، ولا تمتّد يدُه إلى ما يزعمُ أنه يملكه فيُنفقه في لذَّة نفسٍ، أو فيما يَكْسِب حمداً اليوم وأجراً غداً، ذاك لأنه عَدِم كرماً يبسُط أناملَه، وجُوداً ينصر أمَلَهُ، وعقلاً يبصّره، وهمّةً تمكنّه مما لديه، وتُسلِّطه عليه، كما قال البحتري:
ووَاجِدُ مالٍ أعوزَتْهُ سَجِيّةٌ... تُسلّطه يوماً على ذلك الوُجْد
يتبع بإذن الله
 
& قال رحمه الله تعالى: (واعلم أني ذكرت لك في تمثيل هذه الأصول الواضحَ الظاهرَ القريبَ المتناوَلِ الكائنَ من قَبِيل المتعارف في كل لسان، وما تجد اعترافاً به وموافقةً عليه من كل إنسان، أو ما يشابه هذا الحدَّ ويشاكله، ويداخل هذا الضَّرب ويشاركه، ولم أذكر ما يدِقُّ ويغمُض، ويلطُف ويَغْرُب، وما هو من الأسرار التي أثارتْها الصنعة، وغاصت عليها فكرة الأفراد من ذوي البراعة في الشِّعر، لأن القصد إذا كان لتمهيد الأساس، ووضع قواعد القياس، كان الأوْلى أن أعمدَ إلى ما هو أظهر وأجلى من الأمثلة، لتكون الحجةُ بها عامّة لا يصرف وجهها بحال، والشهادةُ تامةً لا تجد من السامعين غير قبول وإقبال، حتى إذا تمّهدَت القواعد، وأُحكمت العُرَى والمَعَاقد، أُخِذ حينئذ في تتبُّع ما اخترعته القرائح، وعُمِد إلى حل المشكلات عن ثقةٍ بأنْ هُيّئَت المفاتح، هذا وفي الاستعارة بعدُ من جهة القوانين والأصول، شغلٌ للفكر، ومذهب للقول، وخفايا ولطائفُ تُبْرَز من حُجُبِها بالرِّفْق والتدريج والتلطُّف والتأنِّي) فكما تكون وسيلة التعريف بين شخص وآخر لا يعرفه, شخص يعرف الاثنين ويعرفانه طلبا للأنس والتيسير فكذلك الأصول والقواعد تكون واسطة التعريف بها المعلومات التي لدى المتلقي حتى نوفّر عليه درس أمثلة جديدة غير مستأنسة لديه لتحدث له هى بعُد الاستئناس بقواعد مستجدة وذلك فيه ما فيه من صعوبة الفهم ,وصعوبة الفهم تأتى من عدم عقل المعنى المستجد بعقال مستقر لديه كمن يعقل الناقة أو الفرس في وتد مخلخل محدث غير مكين وذلك قوله (حتى إذا تمّهدَت القواعد، وأُحكمت العُرَى والمَعَاقد) فصار الجديد بعد ذلك قديما ثابتا محكما يعقد عليه ما بعده ولكن كما
قال :(بالرِّفْق والتدريج والتلطُّف والتأنِّي).
لكن مع ذلك ينبغي أن لا نستخدم المثال الواحد ونظائره في تبيين عدد من الأصول لأمور:
* منها أن ذلك يقلب الأمر فيشبه أن يكون الفرع أصلا لعدد من الأصول .
* ومنها أن ذلك يعطى انطباعا بأن التقعيد هدف لذاته أو لمسألة واحدة ومعلوم أن التقعيد يكون لمجموع .
* ومنها أن المتلقي يشعر أنه لم يستفد جديدا بعد معرفته للقواعد فيشعر بالاستغناء عنها ويمكن تفادى هذه المسألة بأن نوضح له من خلال القاعدة أمثلة جديدة عليه ثم نجعل عقد المسألة على ما يعرفه ليدرك فائدة ما يحمل .
* ومنها أن ذلك لا يكون إلا بشيء من التكلف ونوع ادّعاء كمن يأخذ بيد صاحبه ليعرفه على أشخاص كثر أمراء وخفراء وهما في المعرفة سواء وإنما يتقبل الناس منه ذلك ولا يظهرون انقباضا لسبب عام لا خصوصية له فيه ,من الرحمات التي وضعها الله بين الخلق ليتعارفوا ويتايسروا .
& ثم ذكر رحمه الله ما يؤيد كلامي في سياق كلامه
عن أسرار تأثر النفس بضرب المثل عقب المعاني لكني أذكر كلامه كله لروعته وأشير لموضع التأييد حين يجيء قال رحمه الله تعالى :
(واعلم أنّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً .
* فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمْتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر
*وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشدّ، وَحدُّه أحَدّ .
* وإن كان حِجاجاً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر.
*وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ.
* وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث .
* وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري:
دانِ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ ...عن كل نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ
كالبدرِ أفرط في العلوِّ وضَوْءُه ... لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَريبِ
وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية، وتُنشد نحو قول الشاعر:
زَوَامِلُ للأَشْعارِ لاَ عِلْمَ عندهُمْ ... بِجَيِّدها إلاّ كَعِلْمِ الأَبَاعِرِ
لَعَمْرُك مَا يَدْرى البَعِيرُ إذا غَدَا ... بأَوْسَاقه أو راحَ مَا فِي الغَرائِر
والفصل بين أن تقول أرى قوماً لهم بَهاء ومنظر، وليس هناك مَخْبَرٌ، بل في الأخلاق دِقّة، وفي الكرم ضَعْفٌ وقلّة وتقطع الكلام، وبين أن تُتبعه نحوَ قول الحكيم أما البيتُ فحسنٌ، وأما السَّاكن فرديء، وقولَ ابن لَنكك:
في شجَر السَرْوِ منهمُ مَثَلٌ ... لَهُ رَواءٌ ومَا لَهُ ثَمَرُ
وقول ابن الرُّومي:
فغَدا كالخِلاف يُورِقُ للعَي ... ن ويَأْبَى الإثمارَ كُلَّ الإباءِ
وقول الآخر:
فَإنْ طُرَّةٌ رَاقَتْكَ فانظُرْ فرُبَّمَا ... أمَرَّ مَذاقُ العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يُورق شجَرهُ ويُثمر، ويفترُّ ثغرُه ويبسِم، وكيف تَشْتار الأرْيَ من مذاقته، كما ترى الحسن في شارته، وأنشِدْ قولَ ابن لنكك:
إذَا أخو الحُسْنِ أَضْحَى فِعْلُهُ سَمِجاً ... رأيتَ صُورتَهُ من أقبحِ الصُوَر
وتبيَّن المعنى واعرف مقدراه، ثم أنشِد البيت بعده:
وهَبْكَ كالشَّمْسِ في حُسنِ ألم تَرَنَا ... نَفِرُّ منها إذا مَالَتْ إلى الضَّرَرِ
وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمّل بيت أبي تمام:
وإذا أراد اللّهُ نَشْرَ فَضِيلةٍ ... طُوِيَتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسُودِ
مقطوعاً عن البيت الذي يليه، والتَّمثيل الذي يؤدّيه، واستقص في تعرُّف قيمته، على وضوح معناه وحُسن بِزّته، ثم أتبِعه إياه:
لَوْلاَ اشتِعَالُ النَّارِ فيما جاورَتْ ... مَا كان يُعرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
وانظر هل نَشَر المعنى تمام حُلّته، وأظهر المكنون من حُسنه، وزِينته، وعَطَّرك بعَرْف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من طلع سُعوده، واستكمل فَضْلَه في النفس ونُبْلَه، واستحقّ التقديم كُلّه، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرَق في بيت المتنبي:
ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع يتصوّر المعنى بغير صورته، ويُخيَّل إليه في الصواب أنه خطأ، هل كنت تجد هذه الرَوعة، وهل كان يبلغ من وَقْم الجاهل ووَقْذه، وقمعه ورَدْعه والتهجين له والكشف عن نَقْصه، ما بَلغ التمثيلُ في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى، وإن أردت اعتبارَ ذلك في الفنّ الذي هو أكرم وأشرف، فقابلْ بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يَتَّعظ يُضِرُّ بنفسه من حيث ينفع غيره، وتقتصرَ عليه وبَين أن تذكر المَثَل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَثَلُ الّذي يعلِّم الخيرَ ولا يَعْمَلُ به، مثلُ السِّراج الذي يضيء للناس ويُحرق نفسه " ، ويروي: مَثَلُ الفتيلة تُضيء للناس وتُحرق نفسها. وكذا فوازنْ بين قولك للرجلِ تعِظُه إنك لا تُجْزَى السيئة حسنةً، فلا تَغُرَّ نفسك وتُمسِك، وبين أن تقول في أثره إنكَ لا تجني من الشَّوك العِنَب، وإنما تحصُدُ ما تزرع، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول لا تُكلِّمِ الجاهل بما لا يعرفه ونحوه، وبين أن تقول لا تنثُر الدُّرَّ قُدَّام الخنازير أو لا تجعلِ الدُّرَّ في أفواه الكلاب، وتُنشد نحو قول الشافعي رحمه اللّه
" أأنثُر دُرّاً بين سَارِحَة الغَنَمْ " وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول: هي ظلٌّ زائل، وعارِيَّةٌ تُستردُّ، ووديعة تُسترجَع، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنَْ في الدنيا ضيفٌ وما في يديه عاريَّة، والضيفُ مرتحِلٌ، والعاريَّة مؤدّاة " ، وتُنشد قولَ لبيد:
ومَا المَال والأهْلُونَ إلاّ وَدِيعةٌ ... وَلاَ بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الوَدَائعُ
وقول الآخر:
إنَّما نِعمةُ قومٍ مُتْعةٌ ... وحَياةُ المَرءِ ثَوبٌ مُسْتَعار
فهذه جملة من القول تُخبر عن صِيَغ التمثيل وتُخبر عن حال المعنى معه {تأمل كلامه الآتي ومناصرته لما ذكرت سابقا}
فأما القولُ في العِلّة والسبب، لِمَ كان للتمثيل هذا التأثير؛ وبيانِ جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها، وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسباباً وعِلَلاً، كلٌّ منها يقتضي أن يَفخُمَ المعنى بالتمثيل، وينبُلَ ويَشرُفَ ويكمل، فأَوَّلُ ذلك وأظهره، أنّ أُنْس النفوس موقوفٌ على أن تُخرجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنىٍّ، وأن تردَّها في الشيء تُعلِّمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتُها به في المعرفة أحكم نحو أن تنقُلها عن العقل إلى الإحساس وعما يُعلَم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفادَ من طرق الحواسِّ أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدِّ الضرورة، يفضلُ المستفاد من جهة النَّظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا: ليس الخَبرُ كالمُعاينة، ولا الظنُّ كاليقين، فلهذا يحصل بها العِلم هذا الأُنْسُ أعني الأُنس من جهة الاستحكام والقوة، وضربٌ آخر من الأُنس، وهو ما يوجبه تقدُّمُ الإلْف، كما قيل:
مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ
ومعلومٌ أن العلم الأوّل أتى النفسَ أوّلاً من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرَّويَّة، فهو إذَنْ أمسُّ بها رَحِماً، وأقوى لديها ذِمَماً، وأقدم لها صُحْبة، وآكدُ عندها حُرمة
وإذْ نقلتَها في الشيء بمَثَله عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواسّ أو يُعلَم بالطَّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غيرَ ممثَّلٍ ثم مَثَّلَه كمن يُخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول: ها هو ذا، فأبصِر تجده على ما وصفتُ. فإن قلت إن الأُنْس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزَوال الرَّيْب والشكّ في الأكثر، أفتقول إن التمثيل إنما أُنِسَ به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويُثبت أن كونَها جائزٌ ووجودَها صحيحٌ غيرُ مستحيل، حتى لا يكون تمثيلٌ إلا كذلك، فالجواب إن المعاني التي يجيء التمثيل في عَقِبها على ضربين غريب بديع يمكن أن يخالَف فيه، ويُدَّعَى امتناعُه واستحالُة وجوده، وذلك نحو قوله:
فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنت منهم ... فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ
وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ، بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه، وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود، وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لايُعَدُّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دماً البتة. والضرب الثاني أن لا يكون المعنى الممثَّل غريباً نادراً يُحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بيّنة وحُجّة وإثبات، نظير ذلك أن تنفيَ عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة، وتدَّعِيَ أنه لا يحصل منه على طائل، ثم تمثّله في ذلك بالقابض على الماء والرَّاقم فيه، فالذي مثّلتَ ليس بمنكرٍ مستبعَدٍ، إذ لا يُنكَر خطأ الإنسان في فعله أو ظنّه وأمله وطَلَبه، ألا ترى أن المَغْزَى من قوله:
فأصبحتُ من لَيْلَى الغداةَ كقابضٍ ... على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ
أنَّه قد خاب في ظنّه أن يتمتّع بها ويَسْعَد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظنُّ الإنسان في أشباه هذا من الأمور، حتى يُستشهَدَ على إمكانه، وتُقام البيّنة على صدق المدَّعِي لوِجْدَانه، وإذا ثبت أن المعاني الممثَّلة تكون على هذين الضربين، فإن فائدة التمثيل وسببَ الأُنس في الضرب الأول بَيّنٌ لائح، لأنه يُفيد فيه الصِّحة وينفي الرَّيْب والشكَّ، ويُؤْمِن صاحبه من تكذيب المخالِف، وتهجُّم المنكرِ، وتَهَكُّم المعترض، وموازنتُه بحالة كَشْفِ الحجاب عن الموصوف المُخبَرِ عنه حتى يُرَى ويُبصرَ، ويُعلَم كونهُ على ما أثبتته الصِّفة عليه موازنةٌ ظاهرة صحيحة، وأمّا الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة، فهو يفيد أمراً آخَرَ يجري مجراه، وذلك أن الوصفَ كما يحتاج إلى إقامة الحجة على صحة وجوده في نفسه، وزيادةِ التثبيتِ والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى بيانِ المقدار فيه، ووضعِ قياس من غيره يكشِف عن حَدّه ومبلغِه في القوة والضعفِ والزيادةِ والنقصانِ، وإذا أردت أن تعرفَ ذلك، فانظر أوّلاً إلى التشبيه الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلاً: كحنَك الغراب، تريد أن تُعرِّف مقدار الشدة، لا أن تُعرِّف نفس السواد على الإطلاق، وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يُرَدُّ السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ، وهي في أنفسها معروفةٌ مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودةٌ أم لا فإنّها وإن غَنِيَتْ من هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدارِ، لأن مقاديرَها في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة عل حدودٍ مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعتَ إلى ما تُبصِرُ وتُحسّ عرفتَ ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لمّا قال: " كقابض على الماء خانته فروج الأصابع " ؛ أراك رؤيةً لا تشكُّ معها ولا ترتاب أنه بلغ في خَيبة ظنّه وَبَوار سَعْيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يَحْظَ لا بما قلَّ ولا ما كثر، فهذا هو الجواب، ونحن بنوع من التسهُّل والتسامح، نقع على أن الأُنس الحاصل بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سببٌ سوى زَوَال الشكّ والرَّيْب، فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فإنَّا نعلم أن المشاهدة تُؤثِّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر، كما أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم عليه الصلاةوالسلام في قوله: " قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " " سورة البقرة: 62 " ، والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهرٌ، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام:
وطُولُ مُقَامِ الَمَرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجته فاغْتَرِبْ تتجدَّدِ
فإنِّي رَأَيتُ الشَّمْسَ زِيدَتْ محبّةً ... إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ
معنى، وذلك أنَّ هذا التجدُّد لا معنى له، إذا كانت الرؤية لا تفيد أُنْساً من حيث هي رؤية، وكان الأنس لنَفْيها الشَّكَّ والرَّيب، أو لوقوع العلم بأمر زائدٍ لم يُعْلَمْ من قبل، وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت للرجل أنت مُضيعٌ للحَزْم في سعيك، ومخطئٌ وجهَ الرشاد، وطالبٌ لما لا تناله، إذا كان الطَّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة، ثم عقّبْتَهُ بقولك وهل يحصل في كفِّ القابض على الماء شيء مما يقبض عليه؟، فلو تركنا حديث تعريف المقدارِ في الشدة والمبالغة ونَفْي الفائدة من أصلها جانباً بقي لنا ما تَقْتَضيه الرُّؤية للموصوف على ما وُصف عليه من الحالة المتجدِّدة، مع العلم بصدق الصفة يُبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلاً على طرفِ نَهَرٍ في وقتِ مخاطبةِ صاحبهِ وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء، فأدْخل يده في الماء وقال: انظر هل حَصَل في كفيّ من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك، كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل، ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هَلْ يجتمعان؟، وأشار إلى ماء ونارٍ حاضرَين، وجدتَ لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماءُ والنار؟، وذلك الذي تفعل المشاهدةُ من التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكُّن المعنى في القلب إذا كان مستفادة من العيان، ومتصرَّفهُ حيث تتصرَّف العينان وإلاّ فلا حاجة بنا في معرفة أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق تَجْربة، وممّا يدلُّك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيدك أُنْساً، وإن لم يكن بك حاجةٌ إلى تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن المعنى بالعبارة التي تؤدِّيه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس مَنْزَعاً، نحو أن تقولَ وأنت تصفُ اليوم بالطول: يومٌ كأطْول ما يُتوهَّم و كأنّه لا آخرَ له، وما شاكل ذلك من نحو قوله:
في لَيْلِ صُولٍ تَنَاهَى العَرْضُ والطُّولُ ... كأنَّمَا ليلُهُ باللَّيْل مَوْصُولُ
فلا تجد له من الأُنس ما تجده لقوله:
ويَومٍ كَظِلِّ الرُّمْح قَصَّر طُولَهُ
على أن عبارتك الأولى أشدُّ وأقوى في المبالغة من هذا فظِلّ الرُّمح على كل حال متناهٍ تُدرك العينُ نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخرَ له، وكذلك تقول: يومٌ كأقصر ما يُتصوّر وكأنَّه ساعةٌ وكَلَمْحِ البَصَرِ وكلا ولاَ، فتجد هذا مع كونه تمثيلاً، لا يُؤْنسك إيناسَ قولهم: أيامٌ كأباهيم القَطَا، وقول ابن المعتزّ:
بُدِّلتُ من ليلٍ كظِلِّ حصاةِ ... لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ
وقول آخر:
ظَلِلْنَا عند بابِ أبي نُعَيْمِ ... بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ
وكذا تقول: فلانٌ إذا همَّ بالشيء لم يُزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقَصَرَ خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغَله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن، ثم لا ترى في نفسك له هِزَّة، ولا تُصادف لما تسمع أرْيحيّةً، وإنما تسمَعُ حديثاً سَاذجاً وخبراً غُفْلاً، حتى إذا قلت:
إذا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنيه عَزْمَهُ
امتلأت نفسك سروراً وأدركتك طرْبَة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك، ولا تَقُلْ إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئاً منه، فليس الأصْلَ له، بل لأنْ أراك العزمَ واقعا ًبين العينين، وفَتَحَ إلى مكان المعقول من قلبك باباً من العين، وها هنا إذا تأمّلنا مذهبٌ آخر في بيان السبَب المُوجِب لذلك، هو ألطفُ مأخذاً، وأمكنُ في التحقيق وأولى بأن يُحيط بأطراف الباب، وهو أنَّ لتصوير الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير مَحِلّته، واجتلابه إليه من الشِّقِّ البعيد، باباً آخر من الظَّرف واللُّطف، ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه من العقل، وأُحْضِرُ شاهداً لك على هذا: أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواءٌ كانت عامّية مشتركَة، أم خاصّية مقصورةً على قائلٍ دون قائِل تراها لا يقع بها اعتدادٌ، ولا يكون لها موقع من السامعين، ولا تهُزُّ ولا تُحرِّك حتى يكون الشبه مُقَرَّراً بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنَّرجِس، عامّيٌّ مشترَكٌ معروف في أجيال الناس، جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بُعدَ ما بين العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيهُ الثريّا بما شُبّهَت به من عُنقود الكرم المنوِّر، واللجام المفضَّض، والوِشاح المفصَّل، وأشباه ذلك، خاصّيٌّ، والتبايُن بين المشبَّه والمشبَّه به في الجنس على ما لا يَخْفَى، وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدتَ التباعدُ بين الشيئين كلما كان أشدَّ، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوسُ لها أطرب، وكان مكانُها إلى أن تُحِدث الأريحيّة أقرب، وذلك أن موضعَ الاستحسان، ومكانَ الاستظراف، والمُثيرَ للدفين من الارتياح، والمتألِّفَ للنافر من المَسرة، والمؤلِّفَ لأطراف البَهْجة أنك ترى بها الشيئين مِثْلَيْن متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خِلقة الإنسان وخِلال الروض، وهكذا، طرائفَ تنثالُ عليك إذا فصّلتَ هذه الجملة، وتتبّعت هذه اللَّحمة، ولذلك تجد تشبيهَ البَنَفْسَج في قوله:
ولازَوَرْدِيّةٌ تزهُو بزُرقتها ... بين الرّياض على حُمْرِ اليواقيت
كأنّها فوق قاماتٍ ضَعُفنَ بها ... أوائلُ النار في أطراف كبريت
أغربَ وأعجبَ وأحقَّ بالوَلُوع وأجدرَ من تشبيه النرجس: بمداهن دُرّ حشوهن عقيق، لأنه أراك شبهاً لنباتِ غَضٍّ يَرِفُّ، وأوراقٍ رطبةٍ ترى الماءَ منها يشِفُّ، بلهَب نارٍ في جسمٍ مُسْتَوْلٍ عليه اليبسُ، وبَادٍ فيه الكَلَف. ومَبْنَى الطباع وموضوعُ الجِبِلَّة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يُعْهَد ظهوره منه، وخرج من موضعٍ ليس بمعدِنٍ له، كانت صَبَابةُ النفوسِ به أكثر، وكان بالشَّغَف منها أجدر، فسواءٌ في إثارة التعجُّب، وإخراجك إلى روعة المستغربِ، وُجودُك الشيءَ من مكان ليس من أمكنته، ووجودُ شيءٍ لم يُوجَد ولم يُعرَف من أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شَبَّه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبهاً في شيء من المتلوّنات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ .

يتبع بإذن الله
 
& التجانس بين الموجودات الحسية والعقلية أصل عام في الوجود ينبغي استغلاله في التعليم وفى الوصول للحقيقة العلمية نتخطى به مسألة ضرب المثل على أهميتها وروعتها.
* فنفهم أن المرء الذي عاش نمطا إدراكيا معينا له خصائصه في الاقتران والتفريق وإقامة العلاقات بين العناصر سواء أكانت علاقات تكاتف أو تداخل أو تضاد أو تفريع أو بناء أو تحوّل يمكنه أن يتعامل مع نمط مشابه أو مجانس له في مجالات الحياة والعلوم الأخرى بل ويستطيع الوصول سريعا إلى الافتراضات القريبة والتي يمكن إثبات صحتها بالأدلة بعد ذلك ,قال الشاطبي في الموافقات (حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي كما يحكى عن الفراء النحوي أنه قال من برع في علم واحد سهل عليه كل علم فقال له محمد بن الحسن القاضي وكان حاضرا في مجلسه ذلك وكان ابن خالة الفراء فأنت قدبرعت في علمك فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك ما تقول فيمن سها في صلاته ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا قال الفراء لا شيء عليه قال وكيف قال لأن التصغير عندنا لا يصغر فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له لأنه بمنزلة تصغير التصغير فالسجود للسهو هو جبر للصلاة والجبر لا يجبر كما أن التصغير لا يصغر فقال القاضي ما حسبت أن النساء يلدن مثلك فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر) والخطأ هنا كما ذكر الشاطبي أن حصلت به الفتيا ولكن كما ذكرت سابقا تقريب الوصول للافتراض الصحيح،ومعنى ذلك أيضا إمكانية استخراج هذه الأصول ووضعها في تصور عام يجمعها ليتوصل من خلال هذه الصورة لرؤية بهية جديدة غير قائمة على الافتعال والدعوى كما قال الجرجاني في موضع آخر: {فإنّ الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقةَ في النوع، تستغني بثبوت الشَّبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تعمُّل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبته فيها، وإنما الصّنعة والحِذْق، والنظرُ يَلْطُف وَيدِقّ، في أن تجمع أعناقُ المتنافرات والمتباينات في رِبْقة، وتُعقَد بين الأجنبيّات معاقدُ نسَب وشُبْكة، وما شرُفت صنعةٌ، ولا ذُكر بالفضيلة عملٌ، إلا لأنهما يحتاجان من دِقّة الفكر ولُطف النظر نَفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على مَن زَاوَلَهما والطالب لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلاّ من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بَينٌ لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تُنسَب إلى الدِقة، فإنك تجدُ الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشدّ اختلافاً في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤمُ بينها مع ذلك أتمّ، والائتلافُ أبينَ، كان شأنها أعجبَ، والحذْقُ لمصوّرها أوجبَ،} ثم يقول بعدها بقليل :{ولم أُرد بقولي إنّ الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تُحِدث هناك مشابهةً ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خَفِيّة يدقُّ المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرُك فأدركها فقد استحققتَ الفضل، ولذلك يُشَبَّه المدقِّق في المعاني بالغائص على الدُرّ، ووِزان ذلك أن القِطَع التي يجيء من مجموعها صورة الشَّنْف والخاتم أو غيرهما من الصور المركبّة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسُبٌ، أمكنَ ذلك التناسُب أن يلائِم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصَلَ الوصلَ الخاصَّ، لم يكُنْ ليحصل لك من تأليفها الصورةُ المقصودةُ، ألا ترى أنّك لو جئت بأجزاء مخالفةٍ لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأُولَى، طلبتَ ما يستحيل؟ فإنما استحققت الأُجرة على الغَوْص وإخراج الدُّر، لا أن الدُرّ كان بك، واكتَسَى شرفَه من جهتك، ولكن لمّا كان الوُصول إليه صعباً وطلبُه عسيراً، ثم رُزقت ذلك، وَجَبَ أن يُجْزَل لك، ويُكبَّر صنيعُك، ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لَطُفَ وحسُن، لم يكن ذلك اللُّطف وذلك الحُسن إلا لاتفاقٍ كان ثابتاً بين المشَّبه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهتَ، إلاّ أنه كان خفياً لا ينجلي إلا بعد التأنُّق في استحضار الصور وتذكُّرها، وعرض بعضها على بعض، والتقاطِ النُّكتة المقصودة منها، وتجريدِها من سائر ما يتّصل بها، نحو أن تُشَبّه الشيءَ بالشيء في هيئة الحركة، فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدةً من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف}.
وسرّ المسألة أن الخالق سبحانه وتعالى خلق العقل مهيئا لمعرفة الكون فصار هنالك تجانس بين العمليات الفكرية في الحياة وفى العلوم ليدركها العقل على منوال متقارب.
& على أن هناك أسلوبا في التمثيل لم أجده إلا في القرآن الكريم ولم أجده في كلام البشر,أن يضرب المثل بين معنوي وحسي كلاهما حقيقي ليوضح كل منهما الآخر .تلك واحدة والأخرى أن توجد بينهما علاقة كعلاقة السببية .
قال الله تعالى في سورة الأنعام :{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}.
في الآية الأولى : أمر بترك ظاهر الإثم وباطنه، وفي التي تليها نهى عن أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه. ثم ينتقل الحديث في الآية الثالثة عن موت القلب الذي ليس فيه ذكر الله تعالى كالميتة التي لم يذكر اسم الله عليها وعن الحي الذي فيه ذكر الله تعالى فهذان معنوي وحسي كلاهما حقيقي، والعلاقة بينهما في الآية الأولى حيث ذكر الطبري روايات كثيرة عن السلف أن الآية خاصة بالزنا وعموم لفظ الآية يجعلنا نستغرب ولكن ما يرفع الاستغراب قوله تعالى: " فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما" لتثبت بذلك العلاقة بين أكل الحرام وكشف السوءات والعلاقة بين الآيات الثلاث وفى سورة المائدة{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }.
حيث اجتمع الحديث عن الطعام والنساء في آية واحدة تلاها الحديث عن الصلاة والصلاة نور كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما حددت سورة النور موضع طلب نور الله سبحانه وتعالى وهو المساجد {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) }.
& ولابد أن ندرك هنا أهمية تحفيظ القرآن للأطفال في تنمية قدراتهم العقلية والحفاظ على قواهم الذهنية باعتبار عظمة التجانس بين القرآن والكون سواء من ناحية الإيقاع والتركيب والبناء الصوتي أو اللغوي أو المعنوي مما يعد خبرة ونمطا مذهلا يغرس في تضاعيف الذهن والنفس ولك أن تلاحظ أن حفظة القرآن ممن كبرت أعمارهم من أقوى الناس ذهنا قياسا بنظرائهم , ولكن هذا بشرط أن لا تكون طريقة التحفيظ فيها جور على بناء الطفل كحبسه مدة طويلة عشر ساعات مثلا وإرعابه رعبا يقتل جرأته ويكسر حميته ولأدباء الجيل الماضي قصص مع حفظ القرآن يستفاد منها في هذا الشأن { وسوف أذيل هذه الرسالة بفصل عن صوتيات القرآن يعطى لمحة مفيدة } .

يتبع بإذن الله
 
عودة
أعلى