عبد الحكيم عبد الرازق
New member
- إنضم
- 09/04/2007
- المشاركات
- 1,499
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 36
سؤال : هل الداني أخذ بالإظهار في الميم الساكنة مع الباء ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور[FONT="] [/FONT]أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن[FONT="] [/FONT]لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليكم رَقِيباً
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما.
ثم أما بعد :
إن أصدق الحديث كتاب الله و خير الهدى هدى محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ .
وبعد :
لست بصدد النقاش هل الإخفاء بفرجة أو لا ، ولكني في صدد طرح سؤال : هل الداني أخذ بالإظهار في الميم الساكنة مع الباء ؟
وقد يتعجب البعض من هذا السؤال ؛ لأن الداني صرح في كثير من كتبه بالإخفاء حيث قال الداني في كتابه التحديد :" وإذا التقى الميم بالفاء أنعم ببيانه للغنة التي فيه ( أي أصل الغنة المظهرة ) ... روى عن الكسائي وذلك غير صحيح ولا جائز ... فإن التقت الميم بالباء فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنهما : فقال بعضهم : هي مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما وهذا مذهب بن مجاهد ، وإلى هذا ذهب شيخنا على بن بشر ... قال أبو الحسن ابن المنادى : أخذنا عن أهل الأداء بيان الميم الساكنة عند الواو والفاء والباء ... وقال أحمد بن يعقوب التائب : أجمع القراء على تبيين الميم الساكنة وترك إدغامها إذا لقيت باء في جميع القرآن ، قال : وكذلك الميم عند الفاء وذهب إلى هذا جماعة من شيوخنا ... وبالأول أقول ... " ا.هـ .166
فقوله ( مختلفون في العبارة عنهما ) أي أن الخلاف لفظي بين الفريقين ، فالحكم واحد والخلاف فقط في التعبير عن هذا الحكم وهذا ظاهر العبارة ، وقد ذكر الداني في مصطلح الإخفاء النون الساكنة والتنوين فقط حيث قال في التحديد : " وأما المخفى فعلى نوعين : إخفاء الحركات ، وإخفاء النون والتنوين . فأما إخفاء الحركات فحقه أن يضعف الصوت بهن ولايتم ، وقد بينا ذلك قبل. وأما إخفاء النون والتنوين فحقه أن يؤتى بهما لا مظهرين ولا مدغمين ، فيكون مخرجهما من الخياشيم لاغير ، ويبطل عمل اللسان بهما ، ويمتنع التشديد لامتناع قلبهما ، وذلك اذا لقيا حروف اللسان غير الراء واللام ، وسترى هذا مبينًا ممثلا - إن شاءالله - فى موضعه.
وقال الحسين بن على ، قال لن أحمد بن نصر، المخفى ما تبقى معه غنة. )أهــ100
فلم يذكر الداني في مصطلح "الإخفاء" إخفاء الميم الساكنة ، وقال في النون الساكنة والتنوين مع أحرفها (المخفى ما تبقى معه غنة.) وقال في الميم (قال سيبويه "المخفى بزنة المظهر" ) .
وقال عبد الواحد بن محمد بن على بن أبي السداد ، أبو محمد المالقي (ت 705هـ) الدر النثير والعذب النمير في شرح كتاب التيسير ص 448 وهو يتحدث عن قلب النون الساكنة والتنوين ميمًا قبل الباء : " لا خلاف في لزوم القلب في جميع هذه الأمثلة وما أشبهها ، وحقيقة القلب هنا أن تلفظ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة [FONT="]، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع ، ومعيار ذلك : أن تنظر كيف تلفظ بالميم في[/FONT] قولك : الخَمْر والشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ، ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها ، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء ، فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة ، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة "ا.هـ
فالمالقي يقصد الإظهار وينهى عن سريان التحريك ولم يحك غنة ـ وسيأتي توضيحه في كلام القيجاطي إن شاء الله ـ . وهذا كلام شارح التيسير أما ناظم التيسير وهوالإمام الشاطبي لم يحك خلافا في الميم الساكنة بل فقط ذكر إدغام الميم في الميم ويندرج ذلك في قوله (وما أول المثلين فيه مسكن فلابد من إدغامه متمثلا) أما الميم الساكنة مع الباء لم يحك فيه شيئا ، ولذا قال الجعبري في الكنز: : ( والذي استقر عليه رأي المحققين كابن مجاهد إظهارها عند الفاء والواو والتخيير بين إظهارها وإخفائها عند الباء مراعاة للانطباق والاختصاص..ثم قال الجعبري : وقطع أبو محمد البغدادي بعدم إخفائها عند الباء في قوله :
ولا تخفين الميم عند سكونها **إذا لقيت باء فذاك معطل
وأصل ظهور الميم للغنة التي ** تحل بها والقول فيها يفصل
وهذا هو المفهوم من إطلاق الناظم رحمه الله ..............)أ.هـ
وقوله(وهذا هو المفهوم من إطلاق الناظم رحمه الله) ويقصد به الإمام الشاطبي ويقصد بالمفهوم الإظهار كما هو ظاهر .
وقال عبد الوهاب القرطبي ( ت 461 هـ ) "الموضح في التجويد" عند كلامه على الميم الساكنة عند ملاقاتها صوت الباء ما نصه : فقال بعضهم : هي مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما ..)ا.هـ
وقول الداني " مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما ..)ا.هـ
وعند حكاية الإظهار قال أبو عمرو الداني : قال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه علي الحرفين إطباقا واحدا..)
فعبارة الداني والقرطبي تقول(لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما) وعبارة ابن الباذش(فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا)
فالعبارة متطابقة بين الإخفاء وبين الإظهار فكلاهما بانطباق الشفتين علي الحرفين انطباقا واحدا .
أما في حالة الإخفاء المصاحب للغنة ينطبق الشفتان على الميم فقط حتى ينتهي القارئ من غنة الميم ثم ينتقل بإطباق آخر للباء فيفترقان .
إلا أن قول العلامة ابن الجزري في النشر : وأما الحكم الثالث وهو (القلب) : فعند حرف واحد وهي الباء فإن النون الساكنة والتنوين يقلبان عندها ميمًا خالصةً من غير إدغامٍ وذلك نحو :" أنبئهم ، ومن بعد ، وصم بكم " ولابد من إظهار الغنة مع ذلك فيصير في الحقيقة إخفاء الميم المقلوبة عند الباء فلا فرق حينئذٍ في اللفظ بين (أن بورك، وبين ، يعتصم بالله) إلا أنه لم يختلف في إخفاء الميم ولا في إظهار الغنة في ذلك.
وما وقع في كتب بعض متأخري المغاربة من حكاية الخلاف في ذلك فوهمٌ ولعله انعكس عليهم من الميم الساكنة عند الباء.
[FONT="] والعجب أن شارح أرجوزة ابن بري في قراءة نافع حكى ذلك عن الداني ، وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء. وقد بسطنا بيان ذلك في كتاب التمهيد والله أعلم.)ا.هـ 2/84 [/FONT]
وقوله(وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء. ) نعم اختار الداني الإخفاء لكنه حكى أن الخلاف لفظي حيث قال ( مختلفون في العبارة عنهما ) ويدلك قول الإمام مرادي عند حكاية حكم الميم : أجمع القراء إلا من شذ علي الميم الساكنة لاتدغم في الباء ثم اختلفوا هل تظهر أو تخفي علي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تظهر ولا تخفي وإليه ذهب كثير من المحققين منهم طاهر ابن غلبون ، وابن المنادي والإمام شريح ، وبه جزم مكي .
والثاني : أنها تخفي ، وإليه ذهب قوم ، منهم أبو الحسن الأنطاكي وأبو الفضل الخزاعي ، وروي كل من القولين عن ابن مجاهد .
والثالث : التخيير في إظهارها وإخفائها ونسبهم بعضهم إلي ابن مجاهد أيضا ، وليس في كلام الناظم ترجيح .
قلت : القول بالبيان أشهر وعليه الأكثر . قال الإمام شريح : وبه قرأت وبه آخذ ، وقال أبو عمرو الداني قال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه علي الحرفين إطباقا واحدا ... )
وهذا مبحث قد كنت كتبته تعليقا على كلام ابن الباذش :
يقول الإمام ابن الباذش :" قال لي أبي ـ رضي الله عنه ـ المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ، ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ، ويبقي مخرجها من الخيشوم كما يفعل ذلك في النون المخفاة . وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم على النون في هذا لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل في قولهم شنباء وعنبر وصم بكم " فحمل الميم عليها غير متجه ؛ لأن للنون تصرفا ليس للميم ألا تري أنها تدغم ويدغم فيها ، والميم يدغم فيها ولا تدغم ، إلا أن يريد القائلون بالإخفاء : انطباق الشفتين على الحرفين انطباقاواحدًا فذلك ممكن في الباء وحدها نحو " أكرم بزيد، فأما في الفاء والواو فغير ممكن فيهما الإخفاء إلا بإزالة مخرج الميم من الشفتين ، وقد تقدم امتناع ذلك ، فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقا غير عنيف فقد اتفقوا على المعني ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك . وأما الإدغام المحض فلا وجه له ... وقال لي : ما ذُكر عن الفراء من إخفاء النون عند الباء فوجه ذلك سمي البدل إخفاء كما سمي الإدغام في موضع آخر من كتابه إخفاء . فيرجع الخلاف إلي العبارة لا إلي المعني ؛ إذ الإخفاء الصحيح في هذا الموضع لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ولا حكوه لغة . وكذلك ما ذكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قول متجوز به على سيبويه ...) أ.هـ
بدأ الإمام عليّ ـ والد ابن الباذش ـ بقوله : " ... المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) أ.هـ . ذكر إظهار الميم عند الحروف الثلاثة [ الفاء ، والواو ، والباء ] فهل يشك أحد أنه يعني الإظهار المحض ـ أي بغير غنة ـ في هذه الثلاثة ومنها الباء ؟ بل لم يكتف بذلك وعضّد أخذه بالإظهار المحض بقوله : ( وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم على النون في هذا ) أ.هـ . فسيبويه لم يذكر إخفاء الميم عند الباء لأن مذهبه الإظهار كما أخذ به ابن الباذش وغيره . وقال أيضًا : ( وكذلك ما ذكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قول متجوَّز به على سيبويه ) فهو يردُّ نقل ابن مجاهد ويؤكد قول سيبويه ، وعليه فالإخفاء بالفعل ليس مذهبًا لسيبويه .
وبعد ما تقدم كيف يقال : إن ابن الباذش مذهبه الإخفاء في الميم مع الباء حتى يقال بأن مقصده الفرجة في النون والإطباق في الميم ؟ .أين ذهبت عقول القوم ؟!!
ثم أخذ ابن الباذش في محاولة منه لتقريب الأقوال والمعاني ليوجه كلام ابن مجاهد وإظهاره بأنه خلاف لفظي وليس خلافًا حقيقيًّا مع أخذه بوجه الإظهار في الميم الذي عوّل عليه . فقال : ( إلا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقًا واحدًا فذلك ممكن في الباء وحدها نحو " أكرم بزيد .." ) أ.هـ . فهذا النص يتأول فيه ابن الباذش كلمة الإخفاء محاولاً تقريب الألفاظ ، ومعنى كلامه : إذا كان مقصد القائلين بالإطباق انطباق الشفتين علي الميم والحرف الذي بعده ـ أي حروف ( بوف ) ـ انطباقًا واحدًا فهذا ممكن في الباء وحدها ؛ لأن الإطباق الملاصق للحرفين لا يكون إلا في الباء وحدها ، أما الفاء والواو ستجد أنك إن نطقت بالميم ثم تفرج شفتيك عند الواو والفاء لأنهما بهما فرجة عند النطق نحو { بهم ويمدهم } ، { ولكم فيه } . فلن تجد فيهما الإطباق التام في الحرفين بين الميم والواو ، أو بين الميم والفاء ، مثل الذي تجده في الباء نحو { يعتصم بالله } والفرق واضح جليّ .
والميم في حالة الإظهار منطبقة الشفتين وكذا الباء فتلحظ انطباقًا واحدًا على الحرفين ، وهذا لا يتحقق مع الفاء والواو لحدوث انفراجة في الشفتين بالنسبة لحرفي الفاء والواو ـ كما سبق ـ فهو يقصد ( على الحرفين انطباقًا واحدًا ) الانطباق التام بين الميم والباء ، وكيفيته أن يخرج الميم والباء بانطباق واحد ، فلو أطلقوا على هذا الوضع إخفاء فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعنى ، وهذا موافق لقوله في حكم الإظهار : ( وقال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا ..) ولاحظ أنه ذكر الانطباق على الحرفين أي الميم والباء معًا ، أما في حالة الإخفاء فلا يكون الانطباق إلا علي حرف الميم أولًا لأنك تصبر عليها بقدر زمن الغنة ثم تنتقل لإطباق الباء ، فلا يعقل أن تغن الميم وتكون مطبقًا على الباء أيضًا في آن واحد كما هو الحال في حكم إظهار الميم !! ، فهو يقول : ( إلا أن يريد القائلون بالإخفاء ... ) ، ثم يعلل بقوله : ( انطباق الشفتين على الحرفين انطباقًا واحدًا ) واستخدم لفظ ( الحرفين ) وليس الميم فقط ، وعند نقله الإظهار المحض عن أبي الحسن بن شريح قال : ( فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا ) استخدم لفظ ( الحرفين ) أيضًا ، وكذا استخدم عبارة ( إطباقًا واحدًا ) ففي الإظهار والإخفاء استخدم عبارة واحدة . فهل يقصد بذلك معنيين مختلفين ؟ أو يقصد بذلك طريقة واحدة والاختلاف فقط في مسمى الحكم ؟ وقوله : ( عنيف فقد اتفقوا على المعنى ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك .. ) وكذا قوله : ( فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعني ) يحُلّ لك هذا الإشكال وأنه يريد أن يقول : إن الخلاف لفظي ولا يصح أن نعبّر عن ذلك بالإخفاء الصحيح ، وهذا الإخفاء الصحيح فسره في مقدمة كلامه بقوله : ( ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ) وكلمة ( يزال مخرجها ) يقصد به الميم المخفاة ، وهذا هو الإخفاء الصحيح في حالة إطلاق لفظ إخفاء الميم ، فمن قال بالإخفاء لا بد من إزالة المخرج ، ومن أبقى على انطباق الشفتين يقصد به الإظهار المحض لا غير .
أما أن يعتقد أنه يقصد الإخفاء ـ أي الغنة مع انطباق الشفتين ـ فهذا يبطله قول ابن الباذش : ( المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) ؛ إذ كيف يعوّل على حكم الإظهار في الباء ثم يأخذ بالإخفاء في الباء ؟ ويؤيد هذا الاتجاه ويقويه ويعضده قوله : ( فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقًا غير عنيف فقد اتفقوا علي المعني ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك ) . أ .هـ . وهذا تأويل آخر لمعنى الإخفاء عند ابن الباذش ، فتسميته ( إظهار أو إخفاء ) لا يضر ؛ لأنه من باب الخلاف اللفظي الذي لا تأثير معه في أصل الحكم وهو هنا حكم الإظهار المحض ، . وذكر الإمام ابن الجزريّ وجه إظهار الميم إظهارًا تامًّا بقوله : ( وقد ذهب جماعة كأبي الحسن أحمد بن المنادى وغيره إلى إظهارها عندها إظهارًا تامًّا ، وهو اختيار مكيّ القيسيّ وغيره ، وهو الذي عليه أهل الأداء بالعراق وسائر البلاد الشرقية ، وحكى أحمد بن يعقوب إجماع القراء عليه ، قلت : والوجهان صحيحان مأخوذ بهما إلا أن الإخفاء أولى للإجماع على إخفائها عند القلب ) أ.هـ .
وقوله : ( وغيره إلى إظهارها عندها إظهارًا تامًّا .. . وحكى أحمد بن يعقوب إجماع القراء عليه ) أي علي الإظهار ، وهذا الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد بن يعقوب هو الذي دفع ابن الباذش للقول : ( إذ الإخفاء الصحيح في هذا الموضع لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ولا حكوه لغة ) . والذي يظهر من هذه العبارة أن الإظهار كان مجمعًا عليه عند ابن الباذش ولذا سارع بنفي الإخفاء الذي يزال فيه مخرج الميم . وقوله : ( ولا حكوه لغة ) لأن سيبويه لم يحك إخفاء في الميم وذلك من قوله : ( وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم ) أ .هـ.
وبعد أن أكدنا أن مذهب ابن الباذش الإظهار في الميم الأصلية نعود لعبارته ( ولا ينبغي أن تحمل الميم علي النون في هذا ؛ لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل في قولهم : ( شنباء ، وعنبر ، و{ صم بكم } ) فحمل الميم عليها غير متجه ..) أ .هـ . تجده هنا غاير بين حكم النون ـ الإقلاب ـ وبين حكم الميم ـ الإخفاء ـ لأن الإقلاب لا خلاف بين القراء في الإتيان بالغنة ، إنما وقع الخلاف في حكم الميم ، قال ابن الجزري : قلت : وقد زل بسبب ذلك قوم وأطلقوا قياس ما لا يُروى على ما رُوِيَ وما له وجه ضعيف على الوجه القوي كأخذ بعض الأغبياء بإظهار الميم المقلوبة من النون والتنوين .. .) أ .هـ فإظهار النون المقلوبة ميمًا ( الإقلاب ) غير صحيح رواية بخلاف إظهار الميم الأصلية الساكنة مع الباء ، ولذا فرّق ابن الباذش بين الحكمين ( ولا ينبغي أن تحمل الميم علي النون ... ) من جهة أن حكم الميم الإظهار فقط ، وحكم النون المقلوبة الإخفاء فقط ، ولذا لم يحمل هذا على ذاك .. نعم ما ذهب إليه د. جبل بأن حكم القلب يكون معه الفرجة قول صحيح وهو صريح قول ابن الباذش : ( ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ) ، أما حكم الميم فلم يكن مقصد ابن الباذش سوي الإظهار التام في الميم ، ولذا قال ابن الجزري : ( أما الحكم الثالث وهو ( القلب ) فعند حرف واحد وهي الباء ، فإن النون الساكنة والتنوين يقلبان عندها ميمًا خالصة من غير إدغام ، وذلك نحو { أنبئهم } ، و { من بعد} ، و{ صم بكم } ولا بد من إظهار الغنة مع ذلك فيصير في الحقيقة إخفاء الميم المقلوبة عند الباء فلا فرق حينئذ في اللفظ بين { أن بورك } ، وبين { يعتصم بالله } إلا أنه لم يختلف في إخفاء الميم ولا في إظهار الغنة في ذلك وما وقع في كتب بعض متأخري المغاربة من حكاية الخلاف في ذلك فوهم ولعله انعكس عليهم من الميم الساكنة عند الباء . والعجب أن شارح أرجوزة ابن بري في قراءة (( نافع )) حكى ذلك عن الداني . وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء . وفد بسطنا بيان ذلك في كتاب (( التمهيد )) والله أعلم ) .أ .هـ .
ووضوح المسألة تكمن في قوله : { واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك ) فالحكم هنا شيء واحد ، إما أن ينطبق على الإخفاء ، أو علي الإظهار . وقد ذكر في مقدمة كلامه مذهبه قائلاً : ( المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) فهل ننسب له مذهبًا لم يقل به ؟!! والخلاصة : أن من زعم أن ابن الباذش يأخذ بالإخفاء فهذا وهْم ومحض افتيات على والد ابن الباذش ـ رحمه الله ـ وأيضًا يظهر لك مما تقدم أن الإخفاء في الميم لا يكون إلا بفرجة ، والله أعلم وهو الموفق .
قال العلامة المنتوري في شرح الدرر اللوامع : ( وقال شيخنا " القيجاطي "ـ رحمه الله ـ فى بيان الميم السا كنه: وأما الميم فحرف شديد ، تجرى معه غنة من الخيشوم، فإذا نطق به ساكنا فهو مظهر أبدا ، لا يجوز إخفاؤه ولا إدغامه إلا في مثله ، فهكذا ينطق به أبدا منفردا ، ومع الفاء والباء وسائر الحروف قال:" ومن عبر من الإئمة بأنه يخفى مع الباء فلم يرد بذلك حقيقة الإخفاء ، وإنما أراد أن يحذر القارئ من الإسراف والتعسف حتى يمنعه من جريان الصوت ـ الذي هو الغنة ـ ويخرجه إلى حيّز الحركة " ، قال : "وإتقان النطق به إنما يؤخذ مشافهة من أفواه المتقنين ".
قال : وقوله الشاطبي " وغنة تنوين ونون وميم ان *سكن ولا إظهار في الأنف يجتلى " يوهم أن في الميم غنة كغنة النون ، ينفرد بها الخيشوم في بعض المواضع ، مع إبطال عمل الشفتين ، وتسير حرفا خفيا ، كما ينفرد بغنة النون مع إبطال عمل اللسان وذلك غير جائز " .
قلت : يريد شيخنا رحمه الله ـ بقوله" وذلك غير جائز" أنه لا يتأتى النطق به ) ص859
وقوله (وإنما أراد أن يحذر القارئ من الإسراف والتعسف حتى يمنعه من جريان الصوت ـ الذي هو الغنة ـ ويخرجه إلى حيّز الحركة) يريد التحذير من سريان الحركة وهو عين ما قاله المالقي رحمه الله ـ (فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة)
يظهر أن الإمام الداني يقصد من الإخفاء في الميم أنها تكاد تختفي مع الباء وينطبق الشفتان بهما إنطباقا واحدا ولم يقصد الغنة . وهذا ما يظهر من كلام من تقدم ، ولذا عبّر بعضهم بالإدغام لشدة التلاصق بينهما .
بينما الأمر عند الجعبري وابن الجزري مختلف فالإخفاء يعنون به مصاحبة الغنة قياسا على إخفاء أبي عمرو والقلب في النون ، وحكاه ابن الناظم والقسطلاني وغيرهما . والله أعلم
قال الداني في الأرجوزة المنبهة :
القول في الغنة والنون والميم
واعلم هداك الله أن الغنة .............. من صيغة النون فكن ذا فطنة
والميم فيها غنة كالنون .............. لذاك ما تُختص بالتبيين
عند المُقارب لها في المخرج .............. فاستعملن بيانها بلا حرج
والنون في النطق لها صوتان ......... صوتٌ من الفم وصوت ثان
مخرجه من داخل الخيشوم .............. وهو الذي يفضي إلى الحلقوم
تجدُ هذا الصوت إن أمسكتا .............. بالأنف محصورا متى نطقتا
بالنون إن أردت فاختبره .............. وبالذي ذكرتُ فاعتبره
ذكرَ ذا النحويُّ سيبويهِ .............. مفسرا فاعتمدن عليه
وزعم الأخفش أن الغنة .............. هم بلفظ النون فاعلمنه
عند ادّغام النون في الحروف ...... كالروم والإشمام في الوقوف
وزعم النحاةُ منهم قطرب .............. بأن لفظ الميم ليس يذهب
ومخرج النون يزول عنها .............. فدل أن الميم أقوى منها
القول في التجويد وشرح حروفه
من ألزم الأشياء للقراء ............... تجويد لفظ الحرف في الأداء
وكل حرف من حروف الذكر ............... مما جرى قبل وما لم يجرِ
فحقه التفكيك والتمكين ............... وحكمه التحقيق والتبيين
فاستعمل التجويد عند لفظكا ....... بكل حرف من كلام ربكا
فعن قريب بالجزيل تجزى ............... وبنعيم الخلد سوف تحظى
قد جاء في الماهر بالقرءان ............... من الشفاء ومن البيان
ما فيه مقنع لمن تدبره ............... بأنه مع الكرام السفره
هذا مقال الصادق المصدوق .......... فليرغب القراء في التحقيق
وليسلكوا فيه طريق من مضى ......... من الأئمة مصابيح الدجى
ونحن ناتي الآن بالبيان ............... عن أحرف التجويد والإتقان
ونذكر الغامض والخفيا ............... من ذاك لا الظاهر والجليا
وقد مضى من ذاك في الأبواب ........... ما يكتفي به ذوو الألباب
فأحرف التجويد منها الضاد ........... والظاء والذال معا والصاد
والشين أيضا مثلها والخاء ............... والغين مثل ذاك ثم الطاء
ومثلهن الزاي ثم القاف ............... والراء عند النون ثم الكاف
ومثل ذاك الزاي عند الجيم ........... والواو أيضا عند حرف الميم
والشين تلتقي بحرف الراء ............... والذال مثل السين في اللقاء
والجيم أيضا تلتقي بالتاء ............... والزاي والسين معا والراء
والذال إن أتتك قبل الخاء ............... والسين مثل ذاك عند التاء
ومثلهن الميم عند الباء ............... ومثل ذاك الزاي قبل التاء
والتاء أيضا تلتقي بالطاء ............... والعين عند الغين في النساء
والغين عند العين حيثما أتت ........ والضاد عند الجيم أينما التقت
وأحرف اللين فديت منها ............... وقد مضى البيان قبل عنها
فكل ما ذكرته افتقده ............... باللفظ أينما أتى جوده
أخرجه من مخرجه ممكنا ............... ملخصا من شبهه مبينا
أنله ما له من المنازل ............... لا تتركن ذاك كفعل جاهل
لم يلق أهل الحذق بالأداء ............... ولا روى عن جلة القراء
لم آت في الجميع بالتمثيل ............... خوفا من الإكثار والتطويل
فاعمل بما قدمت في الجميع ............... تفز بعلم غامض بديع
هذا مجرد طرح آمل المشاركة من الإخوة الكرام ، وآمل في تجميع النصوص متى أمكن ، كما آمل في إمعان النظر في العبارات المتشابهة بين نصوص الإخفاء ونصوص الإظهار عند المغاربة والأندلسين ، لعلنا نصل لحل في المسألة .
والسلام عليكم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور[FONT="] [/FONT]أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن[FONT="] [/FONT]لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليكم رَقِيباً
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما.
ثم أما بعد :
إن أصدق الحديث كتاب الله و خير الهدى هدى محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ .
وبعد :
لست بصدد النقاش هل الإخفاء بفرجة أو لا ، ولكني في صدد طرح سؤال : هل الداني أخذ بالإظهار في الميم الساكنة مع الباء ؟
وقد يتعجب البعض من هذا السؤال ؛ لأن الداني صرح في كثير من كتبه بالإخفاء حيث قال الداني في كتابه التحديد :" وإذا التقى الميم بالفاء أنعم ببيانه للغنة التي فيه ( أي أصل الغنة المظهرة ) ... روى عن الكسائي وذلك غير صحيح ولا جائز ... فإن التقت الميم بالباء فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنهما : فقال بعضهم : هي مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما وهذا مذهب بن مجاهد ، وإلى هذا ذهب شيخنا على بن بشر ... قال أبو الحسن ابن المنادى : أخذنا عن أهل الأداء بيان الميم الساكنة عند الواو والفاء والباء ... وقال أحمد بن يعقوب التائب : أجمع القراء على تبيين الميم الساكنة وترك إدغامها إذا لقيت باء في جميع القرآن ، قال : وكذلك الميم عند الفاء وذهب إلى هذا جماعة من شيوخنا ... وبالأول أقول ... " ا.هـ .166
فقوله ( مختلفون في العبارة عنهما ) أي أن الخلاف لفظي بين الفريقين ، فالحكم واحد والخلاف فقط في التعبير عن هذا الحكم وهذا ظاهر العبارة ، وقد ذكر الداني في مصطلح الإخفاء النون الساكنة والتنوين فقط حيث قال في التحديد : " وأما المخفى فعلى نوعين : إخفاء الحركات ، وإخفاء النون والتنوين . فأما إخفاء الحركات فحقه أن يضعف الصوت بهن ولايتم ، وقد بينا ذلك قبل. وأما إخفاء النون والتنوين فحقه أن يؤتى بهما لا مظهرين ولا مدغمين ، فيكون مخرجهما من الخياشيم لاغير ، ويبطل عمل اللسان بهما ، ويمتنع التشديد لامتناع قلبهما ، وذلك اذا لقيا حروف اللسان غير الراء واللام ، وسترى هذا مبينًا ممثلا - إن شاءالله - فى موضعه.
وقال الحسين بن على ، قال لن أحمد بن نصر، المخفى ما تبقى معه غنة. )أهــ100
فلم يذكر الداني في مصطلح "الإخفاء" إخفاء الميم الساكنة ، وقال في النون الساكنة والتنوين مع أحرفها (المخفى ما تبقى معه غنة.) وقال في الميم (قال سيبويه "المخفى بزنة المظهر" ) .
وقال عبد الواحد بن محمد بن على بن أبي السداد ، أبو محمد المالقي (ت 705هـ) الدر النثير والعذب النمير في شرح كتاب التيسير ص 448 وهو يتحدث عن قلب النون الساكنة والتنوين ميمًا قبل الباء : " لا خلاف في لزوم القلب في جميع هذه الأمثلة وما أشبهها ، وحقيقة القلب هنا أن تلفظ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة [FONT="]، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع ، ومعيار ذلك : أن تنظر كيف تلفظ بالميم في[/FONT] قولك : الخَمْر والشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ، ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها ، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء ، فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة ، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة "ا.هـ
فالمالقي يقصد الإظهار وينهى عن سريان التحريك ولم يحك غنة ـ وسيأتي توضيحه في كلام القيجاطي إن شاء الله ـ . وهذا كلام شارح التيسير أما ناظم التيسير وهوالإمام الشاطبي لم يحك خلافا في الميم الساكنة بل فقط ذكر إدغام الميم في الميم ويندرج ذلك في قوله (وما أول المثلين فيه مسكن فلابد من إدغامه متمثلا) أما الميم الساكنة مع الباء لم يحك فيه شيئا ، ولذا قال الجعبري في الكنز: : ( والذي استقر عليه رأي المحققين كابن مجاهد إظهارها عند الفاء والواو والتخيير بين إظهارها وإخفائها عند الباء مراعاة للانطباق والاختصاص..ثم قال الجعبري : وقطع أبو محمد البغدادي بعدم إخفائها عند الباء في قوله :
ولا تخفين الميم عند سكونها **إذا لقيت باء فذاك معطل
وأصل ظهور الميم للغنة التي ** تحل بها والقول فيها يفصل
وهذا هو المفهوم من إطلاق الناظم رحمه الله ..............)أ.هـ
وقوله(وهذا هو المفهوم من إطلاق الناظم رحمه الله) ويقصد به الإمام الشاطبي ويقصد بالمفهوم الإظهار كما هو ظاهر .
وقال عبد الوهاب القرطبي ( ت 461 هـ ) "الموضح في التجويد" عند كلامه على الميم الساكنة عند ملاقاتها صوت الباء ما نصه : فقال بعضهم : هي مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما ..)ا.هـ
وقول الداني " مخفاة لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما ..)ا.هـ
وعند حكاية الإظهار قال أبو عمرو الداني : قال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه علي الحرفين إطباقا واحدا..)
فعبارة الداني والقرطبي تقول(لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على أحدهما) وعبارة ابن الباذش(فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا)
فالعبارة متطابقة بين الإخفاء وبين الإظهار فكلاهما بانطباق الشفتين علي الحرفين انطباقا واحدا .
أما في حالة الإخفاء المصاحب للغنة ينطبق الشفتان على الميم فقط حتى ينتهي القارئ من غنة الميم ثم ينتقل بإطباق آخر للباء فيفترقان .
إلا أن قول العلامة ابن الجزري في النشر : وأما الحكم الثالث وهو (القلب) : فعند حرف واحد وهي الباء فإن النون الساكنة والتنوين يقلبان عندها ميمًا خالصةً من غير إدغامٍ وذلك نحو :" أنبئهم ، ومن بعد ، وصم بكم " ولابد من إظهار الغنة مع ذلك فيصير في الحقيقة إخفاء الميم المقلوبة عند الباء فلا فرق حينئذٍ في اللفظ بين (أن بورك، وبين ، يعتصم بالله) إلا أنه لم يختلف في إخفاء الميم ولا في إظهار الغنة في ذلك.
وما وقع في كتب بعض متأخري المغاربة من حكاية الخلاف في ذلك فوهمٌ ولعله انعكس عليهم من الميم الساكنة عند الباء.
[FONT="] والعجب أن شارح أرجوزة ابن بري في قراءة نافع حكى ذلك عن الداني ، وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء. وقد بسطنا بيان ذلك في كتاب التمهيد والله أعلم.)ا.هـ 2/84 [/FONT]
وقوله(وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء. ) نعم اختار الداني الإخفاء لكنه حكى أن الخلاف لفظي حيث قال ( مختلفون في العبارة عنهما ) ويدلك قول الإمام مرادي عند حكاية حكم الميم : أجمع القراء إلا من شذ علي الميم الساكنة لاتدغم في الباء ثم اختلفوا هل تظهر أو تخفي علي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تظهر ولا تخفي وإليه ذهب كثير من المحققين منهم طاهر ابن غلبون ، وابن المنادي والإمام شريح ، وبه جزم مكي .
والثاني : أنها تخفي ، وإليه ذهب قوم ، منهم أبو الحسن الأنطاكي وأبو الفضل الخزاعي ، وروي كل من القولين عن ابن مجاهد .
والثالث : التخيير في إظهارها وإخفائها ونسبهم بعضهم إلي ابن مجاهد أيضا ، وليس في كلام الناظم ترجيح .
قلت : القول بالبيان أشهر وعليه الأكثر . قال الإمام شريح : وبه قرأت وبه آخذ ، وقال أبو عمرو الداني قال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه علي الحرفين إطباقا واحدا ... )
وهذا مبحث قد كنت كتبته تعليقا على كلام ابن الباذش :
يقول الإمام ابن الباذش :" قال لي أبي ـ رضي الله عنه ـ المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ، ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ، ويبقي مخرجها من الخيشوم كما يفعل ذلك في النون المخفاة . وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم على النون في هذا لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل في قولهم شنباء وعنبر وصم بكم " فحمل الميم عليها غير متجه ؛ لأن للنون تصرفا ليس للميم ألا تري أنها تدغم ويدغم فيها ، والميم يدغم فيها ولا تدغم ، إلا أن يريد القائلون بالإخفاء : انطباق الشفتين على الحرفين انطباقاواحدًا فذلك ممكن في الباء وحدها نحو " أكرم بزيد، فأما في الفاء والواو فغير ممكن فيهما الإخفاء إلا بإزالة مخرج الميم من الشفتين ، وقد تقدم امتناع ذلك ، فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقا غير عنيف فقد اتفقوا على المعني ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك . وأما الإدغام المحض فلا وجه له ... وقال لي : ما ذُكر عن الفراء من إخفاء النون عند الباء فوجه ذلك سمي البدل إخفاء كما سمي الإدغام في موضع آخر من كتابه إخفاء . فيرجع الخلاف إلي العبارة لا إلي المعني ؛ إذ الإخفاء الصحيح في هذا الموضع لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ولا حكوه لغة . وكذلك ما ذكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قول متجوز به على سيبويه ...) أ.هـ
بدأ الإمام عليّ ـ والد ابن الباذش ـ بقوله : " ... المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) أ.هـ . ذكر إظهار الميم عند الحروف الثلاثة [ الفاء ، والواو ، والباء ] فهل يشك أحد أنه يعني الإظهار المحض ـ أي بغير غنة ـ في هذه الثلاثة ومنها الباء ؟ بل لم يكتف بذلك وعضّد أخذه بالإظهار المحض بقوله : ( وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم على النون في هذا ) أ.هـ . فسيبويه لم يذكر إخفاء الميم عند الباء لأن مذهبه الإظهار كما أخذ به ابن الباذش وغيره . وقال أيضًا : ( وكذلك ما ذكر عن ابن مجاهد في إخفاء الميم عند الباء قول متجوَّز به على سيبويه ) فهو يردُّ نقل ابن مجاهد ويؤكد قول سيبويه ، وعليه فالإخفاء بالفعل ليس مذهبًا لسيبويه .
وبعد ما تقدم كيف يقال : إن ابن الباذش مذهبه الإخفاء في الميم مع الباء حتى يقال بأن مقصده الفرجة في النون والإطباق في الميم ؟ .أين ذهبت عقول القوم ؟!!
ثم أخذ ابن الباذش في محاولة منه لتقريب الأقوال والمعاني ليوجه كلام ابن مجاهد وإظهاره بأنه خلاف لفظي وليس خلافًا حقيقيًّا مع أخذه بوجه الإظهار في الميم الذي عوّل عليه . فقال : ( إلا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقًا واحدًا فذلك ممكن في الباء وحدها نحو " أكرم بزيد .." ) أ.هـ . فهذا النص يتأول فيه ابن الباذش كلمة الإخفاء محاولاً تقريب الألفاظ ، ومعنى كلامه : إذا كان مقصد القائلين بالإطباق انطباق الشفتين علي الميم والحرف الذي بعده ـ أي حروف ( بوف ) ـ انطباقًا واحدًا فهذا ممكن في الباء وحدها ؛ لأن الإطباق الملاصق للحرفين لا يكون إلا في الباء وحدها ، أما الفاء والواو ستجد أنك إن نطقت بالميم ثم تفرج شفتيك عند الواو والفاء لأنهما بهما فرجة عند النطق نحو { بهم ويمدهم } ، { ولكم فيه } . فلن تجد فيهما الإطباق التام في الحرفين بين الميم والواو ، أو بين الميم والفاء ، مثل الذي تجده في الباء نحو { يعتصم بالله } والفرق واضح جليّ .
والميم في حالة الإظهار منطبقة الشفتين وكذا الباء فتلحظ انطباقًا واحدًا على الحرفين ، وهذا لا يتحقق مع الفاء والواو لحدوث انفراجة في الشفتين بالنسبة لحرفي الفاء والواو ـ كما سبق ـ فهو يقصد ( على الحرفين انطباقًا واحدًا ) الانطباق التام بين الميم والباء ، وكيفيته أن يخرج الميم والباء بانطباق واحد ، فلو أطلقوا على هذا الوضع إخفاء فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعنى ، وهذا موافق لقوله في حكم الإظهار : ( وقال لي أبو الحسن بن شريح فيه بالإظهار ، ولفظ لي به فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا ..) ولاحظ أنه ذكر الانطباق على الحرفين أي الميم والباء معًا ، أما في حالة الإخفاء فلا يكون الانطباق إلا علي حرف الميم أولًا لأنك تصبر عليها بقدر زمن الغنة ثم تنتقل لإطباق الباء ، فلا يعقل أن تغن الميم وتكون مطبقًا على الباء أيضًا في آن واحد كما هو الحال في حكم إظهار الميم !! ، فهو يقول : ( إلا أن يريد القائلون بالإخفاء ... ) ، ثم يعلل بقوله : ( انطباق الشفتين على الحرفين انطباقًا واحدًا ) واستخدم لفظ ( الحرفين ) وليس الميم فقط ، وعند نقله الإظهار المحض عن أبي الحسن بن شريح قال : ( فأطبق شفتيه على الحرفين إطباقًا واحدًا ) استخدم لفظ ( الحرفين ) أيضًا ، وكذا استخدم عبارة ( إطباقًا واحدًا ) ففي الإظهار والإخفاء استخدم عبارة واحدة . فهل يقصد بذلك معنيين مختلفين ؟ أو يقصد بذلك طريقة واحدة والاختلاف فقط في مسمى الحكم ؟ وقوله : ( عنيف فقد اتفقوا على المعنى ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك .. ) وكذا قوله : ( فيرجع الخلاف إلى العبارة لا إلى المعني ) يحُلّ لك هذا الإشكال وأنه يريد أن يقول : إن الخلاف لفظي ولا يصح أن نعبّر عن ذلك بالإخفاء الصحيح ، وهذا الإخفاء الصحيح فسره في مقدمة كلامه بقوله : ( ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ) وكلمة ( يزال مخرجها ) يقصد به الميم المخفاة ، وهذا هو الإخفاء الصحيح في حالة إطلاق لفظ إخفاء الميم ، فمن قال بالإخفاء لا بد من إزالة المخرج ، ومن أبقى على انطباق الشفتين يقصد به الإظهار المحض لا غير .
أما أن يعتقد أنه يقصد الإخفاء ـ أي الغنة مع انطباق الشفتين ـ فهذا يبطله قول ابن الباذش : ( المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) ؛ إذ كيف يعوّل على حكم الإظهار في الباء ثم يأخذ بالإخفاء في الباء ؟ ويؤيد هذا الاتجاه ويقويه ويعضده قوله : ( فإن أرادوا بالإخفاء أن يكون الإظهار رفيقًا غير عنيف فقد اتفقوا علي المعني ، واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك ) . أ .هـ . وهذا تأويل آخر لمعنى الإخفاء عند ابن الباذش ، فتسميته ( إظهار أو إخفاء ) لا يضر ؛ لأنه من باب الخلاف اللفظي الذي لا تأثير معه في أصل الحكم وهو هنا حكم الإظهار المحض ، . وذكر الإمام ابن الجزريّ وجه إظهار الميم إظهارًا تامًّا بقوله : ( وقد ذهب جماعة كأبي الحسن أحمد بن المنادى وغيره إلى إظهارها عندها إظهارًا تامًّا ، وهو اختيار مكيّ القيسيّ وغيره ، وهو الذي عليه أهل الأداء بالعراق وسائر البلاد الشرقية ، وحكى أحمد بن يعقوب إجماع القراء عليه ، قلت : والوجهان صحيحان مأخوذ بهما إلا أن الإخفاء أولى للإجماع على إخفائها عند القلب ) أ.هـ .
وقوله : ( وغيره إلى إظهارها عندها إظهارًا تامًّا .. . وحكى أحمد بن يعقوب إجماع القراء عليه ) أي علي الإظهار ، وهذا الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد بن يعقوب هو الذي دفع ابن الباذش للقول : ( إذ الإخفاء الصحيح في هذا الموضع لم يستعمله أحد من المتقدمين والمتأخرين في تلاوة ولا حكوه لغة ) . والذي يظهر من هذه العبارة أن الإظهار كان مجمعًا عليه عند ابن الباذش ولذا سارع بنفي الإخفاء الذي يزال فيه مخرج الميم . وقوله : ( ولا حكوه لغة ) لأن سيبويه لم يحك إخفاء في الميم وذلك من قوله : ( وإنما ذكر سيبويه الإخفاء في النون ولا ينبغي أن تحمل الميم ) أ .هـ.
وبعد أن أكدنا أن مذهب ابن الباذش الإظهار في الميم الأصلية نعود لعبارته ( ولا ينبغي أن تحمل الميم علي النون في هذا ؛ لأن النون هي الداخلة على الميم في البدل في قولهم : ( شنباء ، وعنبر ، و{ صم بكم } ) فحمل الميم عليها غير متجه ..) أ .هـ . تجده هنا غاير بين حكم النون ـ الإقلاب ـ وبين حكم الميم ـ الإخفاء ـ لأن الإقلاب لا خلاف بين القراء في الإتيان بالغنة ، إنما وقع الخلاف في حكم الميم ، قال ابن الجزري : قلت : وقد زل بسبب ذلك قوم وأطلقوا قياس ما لا يُروى على ما رُوِيَ وما له وجه ضعيف على الوجه القوي كأخذ بعض الأغبياء بإظهار الميم المقلوبة من النون والتنوين .. .) أ .هـ فإظهار النون المقلوبة ميمًا ( الإقلاب ) غير صحيح رواية بخلاف إظهار الميم الأصلية الساكنة مع الباء ، ولذا فرّق ابن الباذش بين الحكمين ( ولا ينبغي أن تحمل الميم علي النون ... ) من جهة أن حكم الميم الإظهار فقط ، وحكم النون المقلوبة الإخفاء فقط ، ولذا لم يحمل هذا على ذاك .. نعم ما ذهب إليه د. جبل بأن حكم القلب يكون معه الفرجة قول صحيح وهو صريح قول ابن الباذش : ( ولا يتجه إخفاؤهن عندهن إلا بأن يزال مخرجها من الشفة ) ، أما حكم الميم فلم يكن مقصد ابن الباذش سوي الإظهار التام في الميم ، ولذا قال ابن الجزري : ( أما الحكم الثالث وهو ( القلب ) فعند حرف واحد وهي الباء ، فإن النون الساكنة والتنوين يقلبان عندها ميمًا خالصة من غير إدغام ، وذلك نحو { أنبئهم } ، و { من بعد} ، و{ صم بكم } ولا بد من إظهار الغنة مع ذلك فيصير في الحقيقة إخفاء الميم المقلوبة عند الباء فلا فرق حينئذ في اللفظ بين { أن بورك } ، وبين { يعتصم بالله } إلا أنه لم يختلف في إخفاء الميم ولا في إظهار الغنة في ذلك وما وقع في كتب بعض متأخري المغاربة من حكاية الخلاف في ذلك فوهم ولعله انعكس عليهم من الميم الساكنة عند الباء . والعجب أن شارح أرجوزة ابن بري في قراءة (( نافع )) حكى ذلك عن الداني . وإنما حكى الداني ذلك في الميم الساكنة لا المقلوبة واختار مع ذلك الإخفاء . وفد بسطنا بيان ذلك في كتاب (( التمهيد )) والله أعلم ) .أ .هـ .
ووضوح المسألة تكمن في قوله : { واختلفوا في تسميته إظهارًا أو إخفاء ، ولا تأثير لذلك ) فالحكم هنا شيء واحد ، إما أن ينطبق على الإخفاء ، أو علي الإظهار . وقد ذكر في مقدمة كلامه مذهبه قائلاً : ( المعول عليه إظهار الميم عند الفاء والواو والباء ) فهل ننسب له مذهبًا لم يقل به ؟!! والخلاصة : أن من زعم أن ابن الباذش يأخذ بالإخفاء فهذا وهْم ومحض افتيات على والد ابن الباذش ـ رحمه الله ـ وأيضًا يظهر لك مما تقدم أن الإخفاء في الميم لا يكون إلا بفرجة ، والله أعلم وهو الموفق .
قال العلامة المنتوري في شرح الدرر اللوامع : ( وقال شيخنا " القيجاطي "ـ رحمه الله ـ فى بيان الميم السا كنه: وأما الميم فحرف شديد ، تجرى معه غنة من الخيشوم، فإذا نطق به ساكنا فهو مظهر أبدا ، لا يجوز إخفاؤه ولا إدغامه إلا في مثله ، فهكذا ينطق به أبدا منفردا ، ومع الفاء والباء وسائر الحروف قال:" ومن عبر من الإئمة بأنه يخفى مع الباء فلم يرد بذلك حقيقة الإخفاء ، وإنما أراد أن يحذر القارئ من الإسراف والتعسف حتى يمنعه من جريان الصوت ـ الذي هو الغنة ـ ويخرجه إلى حيّز الحركة " ، قال : "وإتقان النطق به إنما يؤخذ مشافهة من أفواه المتقنين ".
قال : وقوله الشاطبي " وغنة تنوين ونون وميم ان *سكن ولا إظهار في الأنف يجتلى " يوهم أن في الميم غنة كغنة النون ، ينفرد بها الخيشوم في بعض المواضع ، مع إبطال عمل الشفتين ، وتسير حرفا خفيا ، كما ينفرد بغنة النون مع إبطال عمل اللسان وذلك غير جائز " .
قلت : يريد شيخنا رحمه الله ـ بقوله" وذلك غير جائز" أنه لا يتأتى النطق به ) ص859
وقوله (وإنما أراد أن يحذر القارئ من الإسراف والتعسف حتى يمنعه من جريان الصوت ـ الذي هو الغنة ـ ويخرجه إلى حيّز الحركة) يريد التحذير من سريان الحركة وهو عين ما قاله المالقي رحمه الله ـ (فإن شرعت في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم ، سرى التحريك إلى الميم ، وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه ، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم ، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة)
يظهر أن الإمام الداني يقصد من الإخفاء في الميم أنها تكاد تختفي مع الباء وينطبق الشفتان بهما إنطباقا واحدا ولم يقصد الغنة . وهذا ما يظهر من كلام من تقدم ، ولذا عبّر بعضهم بالإدغام لشدة التلاصق بينهما .
بينما الأمر عند الجعبري وابن الجزري مختلف فالإخفاء يعنون به مصاحبة الغنة قياسا على إخفاء أبي عمرو والقلب في النون ، وحكاه ابن الناظم والقسطلاني وغيرهما . والله أعلم
قال الداني في الأرجوزة المنبهة :
القول في الغنة والنون والميم
واعلم هداك الله أن الغنة .............. من صيغة النون فكن ذا فطنة
والميم فيها غنة كالنون .............. لذاك ما تُختص بالتبيين
عند المُقارب لها في المخرج .............. فاستعملن بيانها بلا حرج
والنون في النطق لها صوتان ......... صوتٌ من الفم وصوت ثان
مخرجه من داخل الخيشوم .............. وهو الذي يفضي إلى الحلقوم
تجدُ هذا الصوت إن أمسكتا .............. بالأنف محصورا متى نطقتا
بالنون إن أردت فاختبره .............. وبالذي ذكرتُ فاعتبره
ذكرَ ذا النحويُّ سيبويهِ .............. مفسرا فاعتمدن عليه
وزعم الأخفش أن الغنة .............. هم بلفظ النون فاعلمنه
عند ادّغام النون في الحروف ...... كالروم والإشمام في الوقوف
وزعم النحاةُ منهم قطرب .............. بأن لفظ الميم ليس يذهب
ومخرج النون يزول عنها .............. فدل أن الميم أقوى منها
القول في التجويد وشرح حروفه
من ألزم الأشياء للقراء ............... تجويد لفظ الحرف في الأداء
وكل حرف من حروف الذكر ............... مما جرى قبل وما لم يجرِ
فحقه التفكيك والتمكين ............... وحكمه التحقيق والتبيين
فاستعمل التجويد عند لفظكا ....... بكل حرف من كلام ربكا
فعن قريب بالجزيل تجزى ............... وبنعيم الخلد سوف تحظى
قد جاء في الماهر بالقرءان ............... من الشفاء ومن البيان
ما فيه مقنع لمن تدبره ............... بأنه مع الكرام السفره
هذا مقال الصادق المصدوق .......... فليرغب القراء في التحقيق
وليسلكوا فيه طريق من مضى ......... من الأئمة مصابيح الدجى
ونحن ناتي الآن بالبيان ............... عن أحرف التجويد والإتقان
ونذكر الغامض والخفيا ............... من ذاك لا الظاهر والجليا
وقد مضى من ذاك في الأبواب ........... ما يكتفي به ذوو الألباب
فأحرف التجويد منها الضاد ........... والظاء والذال معا والصاد
والشين أيضا مثلها والخاء ............... والغين مثل ذاك ثم الطاء
ومثلهن الزاي ثم القاف ............... والراء عند النون ثم الكاف
ومثل ذاك الزاي عند الجيم ........... والواو أيضا عند حرف الميم
والشين تلتقي بحرف الراء ............... والذال مثل السين في اللقاء
والجيم أيضا تلتقي بالتاء ............... والزاي والسين معا والراء
والذال إن أتتك قبل الخاء ............... والسين مثل ذاك عند التاء
ومثلهن الميم عند الباء ............... ومثل ذاك الزاي قبل التاء
والتاء أيضا تلتقي بالطاء ............... والعين عند الغين في النساء
والغين عند العين حيثما أتت ........ والضاد عند الجيم أينما التقت
وأحرف اللين فديت منها ............... وقد مضى البيان قبل عنها
فكل ما ذكرته افتقده ............... باللفظ أينما أتى جوده
أخرجه من مخرجه ممكنا ............... ملخصا من شبهه مبينا
أنله ما له من المنازل ............... لا تتركن ذاك كفعل جاهل
لم يلق أهل الحذق بالأداء ............... ولا روى عن جلة القراء
لم آت في الجميع بالتمثيل ............... خوفا من الإكثار والتطويل
فاعمل بما قدمت في الجميع ............... تفز بعلم غامض بديع
هذا مجرد طرح آمل المشاركة من الإخوة الكرام ، وآمل في تجميع النصوص متى أمكن ، كما آمل في إمعان النظر في العبارات المتشابهة بين نصوص الإخفاء ونصوص الإظهار عند المغاربة والأندلسين ، لعلنا نصل لحل في المسألة .
والسلام عليكم