هذا مقال بعنوان :
الدراسات العليا في الجامعات السعودية بين مطرقة سد الحاجة وسندان الجودة والتميز (1 - 3)
د. زايد بن عجير الحارثي
تعيش المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة ثورة الافتتاح والتأسيس لجامعات وكليات في أرجاء شتى مختلفة من البلاد حتى وصل عدد الجامعات الحكومية في هذا العام إلى إحدى وعشرين جامعة حكومية وحوالي ثماني جامعات خاصة بالإضافة إلى عشرات الكليات التقنية والصحية المختلفة، ...
... وهذه الثورة والزخم في هذا العدد من الجامعات والكليات هي ثورة صحية وتدل على اهتمام بقيمة التعليم العالي في تقدم الأمة وتطورها من قبل القيادة الرشيد؛ بل وزيادة على ذلك فإن الدعم المادي اللا محدود في ميزانيات الجامعات والكليات وفي بناها التحتية والفوقية أصبح واضحاً ومدركاً من الجميع.
وإذا أردنا أن نقارن نفسنا بالعالم المتقدم - ونحن في سباق لتحقيق أمنياتنا وطموحاتنا لنكون مع العالم الأول - فإننا نجد مثلاً أمريكا هي رأس وعنوان التقدم العلمي وبالذات في التعليم العالي؛ لديها ما يزيد عن ألف جامعة بمعدل أربع جامعات لكل مليون نسمة، بل المعدل وهذا المعدل يقل في كثير من الدول ولكن معظم الدول المتقدمة لديها معدل يساوي جامعة واحدة لكل مليون نسمة على الأقل.
وبناءً على افتتاح هذه الجامعات الجديدة في بلادنا - وأرى أننا لا نزال بحاجة إلى المزيد - أصبحت الآن الحاجة ماسة على الأقل في السنوات العشر القادمة إلى آلاف الكوادر من أعضاء هيئة التدريس ليغطوا الحاجة ويسدوا النقص في الجامعات وبخاصة الجامعات الحديثة مضافاً إلى ذلك نقص المدد من وظائف المعيدين والمحاضرين الذين هم الرافد الأساسي لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات.
وليتم نجاح كل هذه الرعاية والدعم في تحقيق الأهداف من التعليم العالي ومخرجاته لا بد من توفر وتحقق بعض الشروط الأساسية في عناصر وأركان التعليم الجامعي. ومن أهم هذه الأركان في هذه المنظومة تغذية وتوفير الكوادر التعليمية والأكاديمية المؤهلة والناضجة والمسؤولة للتدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع، وبمعنى أكثر دقة كيف نسد العجز ونغطي الحاجة من الأساتذة، وهل الموجودون معدون إعداداً مناسباً وكفوءاً؟ وهل هناك برامج محلية أو خارجية لضخ الأساتذة وإمداد الجامعات بالحاجة؟ وما نوعية هذه البرامج؟ وما مستوى المخرجات من هذه البرامج؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تتطلب التركيز على ركن من أهم أركان العملية التعليمية والمنظومة الجامعية الأساسية وهل (الدراسات العليا) (graduate studies) والحديث عن هذا الموضوع حديث ذو شجون وشئون؛ ذلك أن مرحلة الدراسات العليا هي قمة الهرم في التعليم، وهي المرحلة التي تؤهل الكوادر التي تقوم على تدريس طلاب الجامعات في كافة المستويات والتخصصات، وفي هذه المرحلة التأهيل لا يقتصر على التأهيل العلمي وحسب، بل التأهيل النفسي والروحي وبناء الشخصية بكل أبعادها وتكاملها. ومتى كان البناء والإعداد سليماً في هذه المرحلة كانت المخرجات سليمة، ومتى اختل أو نقص أو فسد البناء في هذه المرحلة، أصبحت المخرجات غثّة وفاسدة وغير مؤهلة لتحمّل المسئولية وبناء وتنمية البلد والمجتمع.
إن مرحلة الدراسات العليا إما أن تكون داخل البلد وهذا هو الأصل، حيث يجب أن يكون المصنع والمطبخ هو في ذات البلد باعتبار ذلك مؤشراً على الاكتفاء الذاتي كما هو الحال في الولايات المتحدة والدول المتقدمة التي نعتبرها قدوة ومقياساً وإليها ترنو وترسل البعثات والدورات من كل الأجناس والدول، وإليها تتوق أفئدة الشباب والمبتكرين والأجيال. ولكننا في دولنا التي تحبو وما تسمى بالنامية لا يزال المشوار طويلاً وطويلاً جداً للاعتماد الذاتي في تخريج الكوادر المؤهلة الكافية لسد الحاجات للتعليم العالي بأكمله. وفي هذا السياق وبخاصة للدراسات العليا- فإن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث وبالذات للدراسات العليا هو في نظري سياسة حكيمة وبعيدة النظر وستؤتي ثمارها في القريب بإذن الله.
وإذا أردنا طرح الصورة أو الموضوع الرئيس بأبعاده المختلفة حتى ننطلق منه إلى تشخيص الواقع ومن ثم تفسيره وتقديم المقترحات المناسبة بخصوصه فعلينا إذن أن نبدأ من طرح هذا السؤال: لماذا الاهتمام والرغبة في تسليط الأضواء على هذا الموضوع الذي أرى أنه يستحق أن نتوقف عنده كثيراً من لدن وزارة التعليم العالي وعلى وجه الخصوص الجامعات بالدرجة الأولى مدراء وعمداء ورؤساء أقسام والمستفيدين من منتجات ومخرجات الدراسات العليا (طلاباً وأولياء أمور وأصحاب اختصاص وأصحاب القرارات والمخططين وسواهم).
إن جامعاتنا التي يمكن أن أصنفها إلى ثلاثة مستويات:
1) المستوى الأول: وهي تلك التي تجاوز تاريخها خمسة وعشرين عاماً عاماً، واكتملت لديها البُنى التحتية تقريباً وهي ثماني جامعات.
2) المستوى الثاني: وهي تلك التي تفرّعت وانبثقت من رحم جامعات المستوى الأول وأصبح عمرها يتجاوز العشرة الأعوام. وتقريباً في طريقها إلى اكتمال البنى التحتية وهي ست جامعات.
3) المستوى الثالث: وهي تلك الجامعات الناشئة حديثاً ولم يتجاوز تاريخها العشر السنوات ولا تزال في طور تشكيل البنى التحتية وهي بقية الجامعات التي لا تدخل في المستوى الثاني ويضاف إليها الجامعات الخاصة.
إن تلك الجامعات وبالذات في المستويين الثاني والثالث وهي الأكثرية لا تزال تزخر بأعداد هائلة من المتعاقدين الذين يشكّل كثير منهم بكل أسف عبئاً على التعليم الجامعي وقد جيء بالكثير منهم لضرورات الحاجة واستمرارية العمل، ومن هنا تتعالى الأصوات لسد الحاجة من أبناء الوطن في التدريس في التعليم الجامعي وخاصة لما نعلم أن هناك العديد من المتعاقدين الذين يعملون في كليات أو جامعات وبخاصة تلك الناشئة وهم لا يحملون إلا درجة البكالوريوس وكثير منهم الماجستير والدكتوراه هذا من حيث العدد!! أما من ناحية النوعية والكفاءة فهذا شأن آخر يخرج عن إطار أو الكتابة في هذا المجال ولكن المتعارف عليه أن بعضها نوعيات غير مؤهلة وغير جديرة بالتدريس بالجامعات.
ويجب أن أقر بحقيقة الآن وهي أنه يجب أن لا يختلف أحد على أن مطلب سد الحاجة هو مطلب وطني مشروع وملح لجامعات طموحها كبير وبلدها جدير.
ولكي نحصر القضايا الرئيسية التي أرى من خبرتي كأستاذ ومشرف للدراسات العليا في عدة أقسام أو مناقش ومشرف لرسائل في عدة كليات وجامعات مختلفة أنها تنحصر فيما يلي:
1) قضية القبول في الدراسات العليا والمواصفات والشروط والإجراءات.
2) قضية التدريس في الدراسات العليا.
3) قضية الإشراف.
4) قضية المناقشة وتوابعها.
5) قضية مخرجات الدراسات العليا:
أ . المهارات المكتسبة لطلاب الدراسات العليا.
ب . الرسائل وأهميتها للباحثين وللعلم والوطن.
ولعل من المناسب التقديم لتعريف الدراسات العليا وطبيعتها وأهدافها قبل الخوض في تفاصيل العناوين السابقة.
فيذكر الأستاذ الدكتور عدي الخفاف من جامعة الكوفة في العراق في ورقة قدمت في المؤتمر السادس لعمداء كليات الآداب في اتحاد الجامعات العربية الذي انعقد في طرابلس بلبنان في نيسان 21-22-2007م بعنوان (الرسائل العلمية ترف أم حل للمشكلات؟) بأن الدراسات العليا معروفة كوسيلة لبلوغ ناحية العلم منذ عهد ليس بالقريب، فقد عرف عصر الإغريق مدارس سقراط وأفلاطون، وأرسطو التي تتلمذ فيها العديد من رواد الفكر والمعرفة. ويواصل الأستاذ الدكتور الخفاف النظرة التاريخية في العصر الإسلامي للدراسات العليا ويرى أن مراحلها كانت كالآتي:
- مرحلة الكتاتيب: وهي ما يشبه مدراس التعليم الأساسي: حيث التلقين والتربية ومن تستهويه صنعة العلم وينتقل إلى حلقات الدرس أمام العلماء المبتدئون فيتلقى على أيدهم مبادئ المعرفة، ومن يرغب في مواصلة الدراسة فيطلب منه أن يتقن اللغة العربية تحدثاً وقراءة وكتابة، فمن لا يقدر أن يتمكّن من اللغة لا يقدر على الفهم ومواصلة البحث، وإذا رغب الطالب مواصلة دراسته فينتقل من دراسة المقدمات إلى حلقات الاجتهاد وهي حلقات الدرس المعمّقة أمام العلماء والأئمة، وكأنه بذلك انتقل من مستوى الدراسة الجامعية الأولية إلى مستوى الدراسات العليا.. وهكذا يدخل ضمن هذه المراحل وبالذات في أواخرها الترجمات ونقل المعارف من عربي إلى أعجمي والعكس، كما برهن على ذلك العديد من الرواد والعلماء المسلمين الأوائل الذين كانت تدرس كتبهم في العديد من الجامعات الأوربية إلى عهد قريب ككتاب الطب لابن سينا الذي كان يدرس في الجامعات الأوروبية إلى وقت قريب.
ويكمل الدكتور الخفاف بهذه الخاتمة الهامة والمعبّرة على أن الجامعات الأوربية الأولى مثل كامبردج واكسفورد ومومبليه وروما استفادت من تقاليد المستنصرية والأزهر ومدرس القرويين والزيتونة وغيرها.. وهكذا نجد أن دراسات الاجتهاد (الدراسات العليا) هي الآليات التي أفرزت مجتمع العلماء والمفكرين وهي الأساس التاريخي في تطوير العلم وهي إلى اليوم تحمل هذا المدلول التاريخي.
إن طبيعة الدراسات العليا تعني الانتقال من التلقي إلى العطاء ومن الحصول على المعرفة والعلوم الجاهزة إلى المساهمة في تأسيس العلم، بل هي بوابة للدخول إلى مجتمع العلماء الذين ينظّرون ويؤسسون لنظريات وبنظرياتهم يتم بناء المعرفة العلمية التي تسهم في خدمة المجتمع وتطوير الشعوب والدول.
وإن خدمة المجتمع بمفهومها الواسع تشمل حلولاً علمية لمشكلات كثيرة اجتماعية واقتصادية وصحية ونفسية وتربوية وغيرها وتفاصيلها معروفة للمنظرين والذين هم في الميدان.
وإذا أردنا الآن الدخول في موضوعنا الرئيسي الخاص بالدراسات العليا في جامعاتنا فأود أن أقرر أن ما يتعلق بالإحصاءات المتاحة والمتوفرة لأعداد المسجلين في الدراسات العليا في الجامعات السعودية، فبكل أسف ليست متاحة لدى الكاتب وقد لا تكون متاحة بشكل إجمالي وموحّد لدى الجهات المختصة المركزية وإنما تتاح لدى كل جهة مسئولة عن الدراسات العليا بشكل مستقل- كما هو العادة في مصادر المعارف والمعلومات لدى المكتبات والأبحاث والرسائل العلمية المختلفة. ولعل هذه الفجوة أو غياب مثل هذه المعلومة تعد أحد أسباب الإخفاق في الحكم والتقويم لدى أصحاب القرار أو الباحثين في تحديد الحاجة للأعداد الذين تحتاجهم البلد من خريجي الدراسات العليا والتخصصات المطلوبة - ولنا في هذه المسألة تعريج واقتراح في نهاية هذه السلسلة.
والآن دعنى أيها القارئ الكريم أن أبدأ أولى القضايا الرئيسية بقضية القبول في الدراسات العليا أي (شروط القبول والمواصفات والأعداد المطلوبة)، وفي هذا السياق يجب أن نعلم أن هناك شروطاً للقبول في الدراسات العليا محددة بأحكام اللوائح التي صدرت بقرار رقم 3- 6-1417 في 26-8-1417هـ وتم العمل بها في عام 1419هـ، وقبل الحديث عن شروط القبول وأحكامه لا بد من معرفة أهداف الدراسات العليا في الجامعات السعودية، وقد نصت المادة الأولى من الباب الأول لأهداف الدراسات العليا على ما يلي: (تهدف الدراسات العليا إلى تحقيق الأغراض الآتية:
1) العناية بالدراسات الإسلامية والعربية والتوسع في بحوثها والعمل على نشرها.
2) الإسهام في إثراء المعرفة الإنسانية بكافة فروعها عن طريق الدراسات المتخصصة والبحث الجاد للوصول إلى إضافات علمية وتطبيقية مبتكرة والكشف عن حقائق جديدة.
3) تمكين الطلاب المتميزين من حملة الشهادات الجامعية من مواصلة دراساتهم العليا محلياً.
4) إعداد الكفايات العلمية والمهنية المتخصصة وتأهيلهم تأهيلاً عالياً في مجالات المعرفة المختلفة.
5) تشجيع الكفايات العلمية على مسايرة التقدم السريع للعلم والتقنية ودفعهم إلى الإبداع والابتكار وتطوير البحث العلمي وتوجيهه لمعالجة قضايا المجتمع السعودي.
6) الإسهام في تحسين مستوى برامج المرحلة الجامعية للتفاعل معه برامج الدراسات العليا.
وللحديث الآن عن أهداف الدراسات العليا بحسب ما نصت عليه اللوائح المشار إليها أعلاه فإننا نجد بنظرة شكلية أنها تسهم في تحقيق الاختيار الأفضل للطلاب الذين يحققون بحق أهداف الدراسات العليا وبخاصة ما نصت عليه المادة الثالثة أعلاه وهي تمكين الطلاب المتميزين من حملة الشهادات الجامعية من مواصلة دراساتهم العليا وإن كان هناك ملاحظة على أحد الشروط وهو (التقدير) فقد حددت المادة الخاصة بالشروط أن يكون الحد الأدنى للقبول لا يقل عن تقدير جيد جداً وفي نظري ومن خبرتي الخاصة فإن هذا الشرط شرط جامد ولا يعكس بالضرورة تميز أو تفوق أو تأهيل الطالب للتقدم في الدراسات العليا كما أن من يقل عن هذا التقدير ليس بالضرورة هو الأسوأ أو غير مؤهل للدراسات العليا، فإنني أعرف العديد من الحالات التي تخرّجت بتقدير جيد أو حتى مقبول من بعض الجامعات أو الأقسام وهي حالات مؤهلة وجديرة وقادرة على مواصلة الدراسات العليا ولكن الظروف الشخصية أو الاستثنائية بالقسم أو الكلية تحول دون ترجمة مستوى الطالب بالدرجات والعكس صحيح وإن بعض الأقسام أو الكليات تتسم علامات الطلاب فيها بالتضخم Grade-Inflation مما ينتج عنه درجات عالية للطلاب بصفة عامة لا تعكس حقيقة مستواهم العلمي. كما أن بعض الأقسام أو الكليات تقسم الدرجات للطلاب فيها بالتعسف والجور- Deflation Grade - وهو لا يعكس مستوى الطلاب مما يحرمهم فرصة المواصلة للدراسات العليا. وفي ضوء هذه الخلل أو الفجوة في اللائحة فإن أنسب أسلوب يجب الاعتماد عليه هو وضع اختبار قدرات معيارية مقننة لطلاب الدراسات العليا بحيث يكون هو المحك الرئيسي للقبول على غرار ذلك الذي يتم في الجامعات المتقدمة مثل اختبارات ال(G R E) وغيرها بالإضافة إلى التمكّن من مهارة اللغات وعلى الأخص مهارتا اللغة العربية واللغة الإنجليزية وهو ما يحتاجه طالب الدراسات العليا، بل في نظري أن هذا النوع من الاختبارات يجب أن تتم على مستوى الجامعات والسياسات العليا في لوائح الدراسات العليا الموحّدة وهذا أولى من اختبارات القدرات التي تتم بعد الثانوية العامة حالياً والذي أظن أن الحاجة أصبحت الآن ماسة لإعادة النظر في أهميتها، بل الحاجة أمس إلى إلغائها بالنظر إلى التوسع في الجامعات مع تحسين اختبارات الثانوية العامة. ويكون التوظيف الفعلي لاختبارات القدرات فيما بعد المرحلة الجامعية لاختيار ذوي القدرات العالية والمميزة للدراسات العليا مع الحاجة لبعض الاختبارات الخاصة ببعض الكليات والأقسام مثل المقابلات المقننة.
الدراسات العليا في الجامعات السعودية بين مطرقة سد الحاجة وسندان الجودة والتميز 1
الدراسات العليا في الجامعات السعودية بين مطرقة سد الحاجة وسندان الجودة والتميز (2-3)
إن وضع معايير مقننة لاختيار طلاب الدراسات العليا (بدلاً من الاختبارات محلية الصنع من خلال الأقسام ولجانها التي يشوبها الكثير من الخلل والذاتية) أصبح أمراً ضرورياً لتستطيع أن تفرز من يستحق المواصلة من حيث القدرة والتأهيل.
إنَّ واقع الحال لدينا في جامعاتنا في الدراسات العليا على الرغم من عدم وجود دراسة شاملة تقيّم مخرجات الدراسات العليا وإجراءاتها - مع الأسف وعلى حد علم الكاتب - إلا أنني أستطيع إعطاء بعض المؤشرات من خلال الخبرة في إدارة عمادة بحث علمي بإحدى الجامعات العريقة الكبرى ومن خلال التدريس والإشراف والمناقشة على عشرات الرسائل في العديد من الجامعات السعودية، وكذلك عضوية مجالس الدراسات العليا وأقسامها والاشتراك في العديد من لجان القبول في الدراسات العليا. أقول هنا بأن هناك الكثير من المجاملات وحالات التجاوز التي تتم في القبولات وبخاصة في مرحلة الدكتوراه. ولك أن تستنتج مخرجات مثل هذه التجاوزات ممن سيحصل على الدكتوراه (أعلى شهادة علمية) بهذه الكيفية كيف سيكون؟
والتعميم على مثل هذه الحالات أمر غير وارد بل هي حالات استثنائية، ولكن المساحة والشروط المعمول بها تتيحان المجال للعديد من الاختراقات، وهنا أستطيع القول إن التجاوز لمثل هذه الحالات وغيرها سيؤسس لحالات وحالات من مثل هذه التجاوزات ويفقد الأمل في المعيارية والعدالة والثقة في حماة اللوائح ومشروعيتها، فضلاً عما يتبع ذلك من تساهل في التدريس وفي جودة الرسائل ومواضيعها ومخرجاتها.
وأود أن أسوق الآن مثلاً آخر على سوء التخطيط لبرامج الدراسات العليا وكذلك على جودة مخرجاتها بأحد الأقسام في إحدى الجامعات السعودية، فقد تخرج منه ما يقارب خمسين حاصلاً على الدكتوراه في تخصص نظري واحد، وذلك في غضون سنتين!!! فكيف لو أحصينا الخريجين في نفس التخصص في الجامعات الأخرى، لربما وجدنا مائة أو مائتين في هذا التخصص، فهل البلد بحاجة إلى مثل هذا العدد؟ وهل الخريجون الذين حصلوا على مثل هذه الدرجات في هذا الزمن القياسي مؤهلون وقادرون على العطاء ومزودون بالمهارات والمعارف اللازمة والكافية؟! للإجابة عن هذا السؤال أجد نفسي مكرراً ما سبق قوله بأن الحاجة ماسة وقائمة لدراسة علمية مثل هذا القضايا بل ولقضية القبول في الدراسات العليا ومخرجاتها وذلك انطلاقاً من مبدأ أن الحاجة إلى كوادر مؤهلة لتلبية الطلب والعجز فيه تقتضي بالتزامن معه الاهتمام بجوانب الجودة والكيف التي لا يتقدم بلد إلا بها وتنميتها. وإن اقتراح الخطط والاستراتيجيات والتفكير العالي الناقد والابتكاري لا ينبع إلا من النخب والعلماء الذين يولدون ويتشكلون من رحم الدراسات العليا ويحصلون على أعلى الدرجات فيها (ماجستير ودكتوراه ودبلومات عليا).
إن أهداف وشروط ومتطلبات ومواصفات طلاب الدراسات العليا وكذلك مخرجاتها يجب أن تكون واضحة ومميزة للجميع على المستوى الشعبي والرسمي بحيث لا تصبح كما هو الحال في خريجي الثانوية الراغبين جميعاً في الالتحاق بالجامعات؛ لأن الدراسات العليا كما أسلفت هي لفئة قليلة مميزة بالمواصفات التي تتصف دول العالم المتقدم بها.
أما القضية الثانية في الدراسات العليا في الجامعات لدينا فهي قضية التدريس في الدراسات العليا (Teaching Issue). وهذه في نظري أحد الأركان الأساسية التي يجب العناية بها في الدراسات العليا، بل هي العملية الأساسية الأولى التي يجب الاهتمام بها من حيث محتوى وأهداف المناهج والمقررات التي تدرس وكذلك القائمون على تدريسها وما يتبع ذلك من وسائل تقويم أو تدريس أو إدارة أو تنفيذ. وفي نظري وخبرتي طالباً في الدراسات العليا في جامعة محلية وجامعة أمريكية مميزة أو أستاذاً كذلك فقد وصلت إلى أن هناك أربعة أهداف رئيسية في التدريس للدراسات العليا، هي: (1) الاهتمام بتشكيل التفكير الاستقلالي والنقدي والابتكاري لدى الطالب (2) الاهتمام بتقديم المعرفة الصحيحة والثرية لطالب الدراسات العليا (3) الحرص على تقديم المهارات الأساسية لطالب الدراسات العليا وعلى وجه الخصوص مهارات اللغة العربية والإنجليزية (4) المهارات المنهجية البحثية والحاسوبية.
إن واقع ما يمارس في دراساتنا العليا من حيث التدريس يبعد كثيراً عما طرحته في أفكار وأهداف يجب أن تحقق في تدريس طالب الدراسات العليا؛ فلا نزال نشهد استمرارية للتدريس الجامعي الذي هو إلى حد كبير استمرارية للتدريس في التعليم العام من حيث التلقين والاستعلاء والبعد عن النقاش والحوار والبُعد عن إكساب المهارات الضرورية وبناء الشخصيات ذات الفكر المستقل والمسؤول. وقد يعود ذلك في جزء منه إلى افتقار من يقوم على التدريس في الدراسات العليا إلى الشخصية (القدوة) والشخصية القيادية للتدريس في هذا المستوى وكذلك الافتقار إلى المهارات الأساسية التي أشرت إليها فيما سبق، ومن هنا نقول (إن فاقد الشيء لا يعطيه)، وماذا نتوقع من نتاج الدراسات العليا إذا كان القائمون على التدريس فيها لا تتوافر فيهم الصفات اللازمة والضرورية للتدريس لهذا المستوى؟ أليست هي المرحلة الأخيرة التي تؤهل من ينتهي منها إلى التدريس والبحث وخدمة المجتمع بشكل مثالي وقيادي ورمزي؟ ألا تستحق تميزاً خاصاً وعناية خاصة في هذا المجال؟
لقد لاحظت الكثير ممن حصلوا على درجات الماجستير والدكتوراه في العديد من جامعاتنا لا يتقنون مهارات اللغة الأساسية (العربية) فما بالنا بمهارة اللغة الإنجليزية التي هي الآن مفتاح للكثير من المعارف والعلوم، وكذلك يفتقرون إلى مهارات التعامل مع الحاسب الآلي ومناهج البحث العلمي التي تجعل من الأستاذ قادراً على العطاء وقادراً على تنمية شخصية طلابه وتعليمهم وتدريبهم وإكسابهم المهارات التي يحتاجونها. وليس الخلل يتعلق بالأساتذة وحدهم فقط بل إنه في غياب أو ضعف الحوافز البيئية المنشطة للأداء المميز واللوائح المساندة ينتج ما نراه.
وفي غياب التقويم الفعّال لأداء أعضاء هيئة التدريس في الجامعات وفي الدراسات العليا على وجه الخصوص، لا غرابة أن نجد غياباً وعدم اكتراث بالتميز والنمو في شخصية الأساتذة في هذه الجوانب، ولتأكيد هذه الافتراضية أو الادعاء أود أن أشير إلى مثال واحد فقط مما يجري من كيفية احتساب أداء أعضاء هيئة التدريس المتقدمين للترقيات العلمية. كيف تحتسب درجة الـ25% للعضو المتقدم؟ إنني أقول وبكل ثقة إنه في غياب وجود المعايير الإدارية والفنية الواضحة في الجامعات في هذا المجال فإن معظم ما يجري - إن لم نقل كل ما يجري - هو عبارة عن مجاملات واجتهادات من قِبَل رؤساء الأقسام والعمداء لتقدير أداء الأساتذة في مجال التدريس، وهو في نظري لا يترجم حقيقة أداء الأساتذة فضلاً عن تحفيزهم وتشجيعهم للأداء الجيّد والكفء لوظائفهم والتمايز فيما بينهم فنراهم أو أغلبهم يمنحون الدرجة كاملة لبند التدريس لجميع المتقدمين فهل هذا وضع سليم؟ وهل هذا يخدم أهداف التدريس؟ ثم ألسنا بحاجة إلى وضع أساليب أنجع وأكفأ لتقييم أداء الأساتذة؟
أما القضية الثالثة في الدراسات العليا فهي قضية الإرشاد والإشراف على طلاب الدراسات العليا، سواء كان في المواد الأساسية لطلاب الماجستير أو بعد اجتياز ما يسمى بالاختبار الشامل Comprehensive or Qualifying Exams لطلاب الدكتوراه، وهذا الاختبار في نظري ضروري ومهم جداً؛ لأنه يقيس قدرة الطالب على التحصيل المعرفي الضروري، وكذلك تمثيل وتقييم وربط الأفكار والنظريات والقدرة على النقد الموضوعي والاستعداد للابتكار والإبداع.
إنَّ عملية الاختيار للمرشد على طلاب الدراسات العليا يجب أن تكون مرتبطة بعملية الإشراف بحيث تكون مخططاً لها وتحقق أهداف الدراسات العليا من حيث قدرة المرشد وكذلك المشرف على العطاء والتميز بحسب ووفق التخصص والخبرة والانسجام بين الطرفين؛ وذلك لأن المؤمل من عملية الإشراف هو الأخذ بيد الطالب واستثارة مكامن قدراته واستعداداته واهتماماته وأفكاره للبحث والكتابة الأصيلة المبدعة وتقديم النموذج العلمي الصالح والمناسب المتمثل في شخصية الأستاذ خلقاً وعلماً.
لقد شاهدت بعض المشرفين على طلاب الدراسات العليا وهم يقضون الساعات والساعات مع طلابهم وفق تنظيم وترتيب مسبق ويحتفظون بجداول أمامهم لتنظيم تلك المواعيد بشكل دوري، وهذا نموذج على المعنى الحقيقي للأستاذية والإخلاص والإشراف، ولنا أن نتوقع ما ينتج عن مثل هذا التفاعل وهذه العلاقة والعطاء والقدوة الفاضلة، وفي المقابل هناك بعض المشرفين على بعض الطلاب في الدراسات العليا يعتبر إشرافهم اسمياً فقط، بينما من يقوم بالإشراف إما مشرفين من الباطن أو يقوم الطلاب بالإشراف على أنفسهم، وهذه صورة أخرى، ومع الأسف الشديد لا أستطيع أن أقول إنها حالة أو حالات شاذة، وإنما تلحظ كثيراً، وقد يكون مبعث ذلك هو الضغط الضخم في عدد من يقوم البعض بالإشراف عليهم؛ فينتج عن ذلك عسر وابتسار في النواتج وغش وزيف لها. ومثل هذا النمط من المشرفين لا يجد وقتاً للعطاء - إذا كان لديه قدرة على العطاء - فضلاً عن السعي واللهفة على تخريج أكبر عدد ممكن لدوافع مادية أو ربما إعلامية صرفة ويا لهول النواتج في مثل حالات الإشراف الأخيرة. أما النوع الثالث (الوسط) فهو الذي يجتهد في حدود المعقول في الإشراف على الطلاب، وهو هنا يعاني من ضغط الطلاب في الرغبة في الإنجاز السريع في ضوء المقارنات مع الزملاء الذين يتخرجون في زمن قياسي، ولكن النتيجة والمحصلة في الأخير ترقى إلى الوصول إلى الحد المطلوب تحقيقه في طلاب الدراسات العليا.
فما نوع الإشراف والإرشاد الذي نحتاج؟ وكيف نقنن ونتابع عمليات الإشراف التي ينتج عنها الباحث والبحث الأصيل؟
إن الجامعات التي تقوم بتأسيس تقييم داخلي دوري للعملية التعليمية برمتها وعلى وجه الخصوص الدراسات العليا ومخرجاتها، هي الجامعات الحريصة على أدائها الجيد والأمين وهي الجامعات الحريصة على احتلال المرتبة التي تليق بها وبسمعتها.
إن موضوع العلاقة بين المشرف والطالب، وبخاصة في مرحلة الدكتوراه، يتجاوز المراجعة والتقييم لعمل الطالب؛ فهي تبدأ أساساً من حسن اختيار موضوع البحث (الدراسة) التي غالباً ما تتطلب خبرة وحصافة وقيادة من المشرف في الاختيار؛ لأن المطلوب في موضوع الدكتوراه أن يكون أصيلاً، كما نصت على ذلك لوائح الدراسات العليا، بل كما يتطلب ذلك المنطق العلمي لهذه المرحلة، ولكي يكون البحث أصيلاً ومبدعاً أعتقد أنه لا بد أن يتسم بالخصائص الآتية:
1) الجدة في الموضوع: ولا أعني بالجدة هنا ألا يكون قد سبق أن قام أحد ببحث الموضوع من قبل، وإن كان هذا وارداً، بل أن تكون المعالجة والإضافة فيها جدة وأصالة.
2) الإضافة العلمية للبحث: وبخاصة فيما يتعلق بالإضافة إلى النظرية أو الفكر العلمي في مجال الاختصاص.
3) حل مشكلة أو تقديم اقتراح أو تقديم اختراع أو ابتكار علمي؛ فإن البحث أو الدراسة الأصيلة هي التي تقدم حلولاً لمشكلة اجتماعية أو تربوية أو فقهية أو لغوية أو علمية أو طبية أو هندسية أو زراعية أو بيئية أو خلافها أو تقدم حلاً لمشكلة منهجية أو تقدم برنامجاً أو خطة لحل مشكلة أو تقديم اختراع أو ابتكار علمي. وما أحوجنا في أيامنا هذه لبحوث تسهم في حل مشكلات أمراض طارئة ومخيفة أو نقص حاد في مصادر المياه أو خلافها.
هذه في نظري أهم العناصر أو السمات التي يجب أن تتسم بها الرسائل العلمية في مرحلة الدكتوراه جميعها أو بعض منها وبالذات لتلك التي يطمح إلى أن تكون رسائل علمية يوصى بطبعها أو تستحق الجوائز والنشر.
وفي ضوء هذه المعطيات يبرز السؤال التلقائي: من هو المشرف القادر على تحفيز وتشجيع طلاب الدراسات العليا الموهوبين للوصول إلى مثل هذه المخرجات العلمية في رسائلهم؟ ألسنا بحاجة إلى إعادة تقييم برامجنا في الدراسات العليا برمتها وفي مرحلة الدكتوراه على وجه الخصوص للوصول إلى المعرفة الأصيلة والمبدعة والمنتجة ومعرفة واقعنا من هذه المعايير ومخرجات رسائل طلابنا وعلاقتها بتنمية المجتمع وحل مشكلاته وتطوير العلم وأدواته ونظيراته؟؟؟
الدراسات العليا في الجامعات السعودية بين مطرقة سد الحاجة وسندان الجودة والتميز 2