الجكني
مشارك نشيط
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
الحمد لله الذي حرر عقول العلماء من سلطان الجهل ،ونوّر بصائرهم بنور العلم ،وأخذ عليهم العهد بتبيين العلم متى استقام الدليل ، ولم يتعبدهم بقول فلان وفلان متى خالف الدليل ،بل قال "قل هاتوا برهانكم " والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على النبي الخاتم ،المبعوث بالرحمة والتيسر والمحفوظ عن السهو و الغفلة في التبليغ ،ورضي الله عن صحابته الكرام بلغوا لنا القرآن كما سمعوه وتلقوه ،ولم يجتهدوا فيه بحرف بل قرؤا و أَقرؤا كما أُقرؤا ، فكان قولهم وفعلهم سنة يأخذها الآخر عن الأول ما تواتر الليل والنهار أما بعد :
لا شك أن القراءات العشر وصلت إلينا متواترة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمة لم تُهمل أي قراءة منها، ولا أصلاً من أصول تلك القراءة، بل حافظت عليها عن طريق حفظها في الصدور والسطور، وهذا تحقيق لوعد الله تعالى )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(.
لكنْ لمّا طال الزمن، وبَعُد العهد عن القراء أصحاب هذه القراءات، وأُلِّفت الكتب في قراءاتهم؛ جامعةً لمختلف رواياتهم، وتشعبت طرقهم، وابتكر الناس – لِقِصَر الهمم- طريقة (جمع القراءات) في ختمة واحدة، مخالفين في ذلك ما درج عليه السلف من إفراد كل رواية على حدة، نشأ ما سمّاه المتأخرون بـ(التحريرات).
ومادة ‹حرّ› في اللغة: خيار كل شيء،([1]) ومن ثَمَّ أطلق مجازاً على أكثر من معنى، يناسب (البحث) هنا منها: الفعلُ الحسن،([2]) ومنه قول طَرَفَة:([3])
[align=center]لا يكن حبّك داء قاتلاً * ليس هذا منك ماويّ بحرّ([4])[/align]
أي: ليس هذا منك بفعل حسن.
ومنه قولهم: تحريرُ الكتابِ وغيره، أي: تقويمُه وتخليصه، بإقامة حروفه، وتحسينه بإصلاح سَقَطِه.
أمّا تعريف (التحرير) اصطلاحاً عند القائلين به من أهل القراءات فهو: تنقيح القراءة من أي خطأ أو خلل.([5])
ويقصدون بذلك تمييز الأوجه والطُّرُق والروايات عن بعضها، وعدم اختلاطها في الأداء حتى لا يقع القارئ في التلفيق.([6])
فـ (التلفيق) و(التركيب) و(الخلط) المضافة إلى (القراءات) كلّها مصطلحات لمسمًّى واحد عندهم وهو: الانتقال من قراءة إلى أخرى، أثناء التلاوة، دون إعادة ولا تكرار لأوجه الخلاف، بل إن القارئ يقرأ آية؛ أو بعضها أو أكثر منها، على قراءة، ثم ينتقل إلى قراءة ما يليها وفق قراءة قارئ آخر؛ دون عطف لأوجه الخلاف في الموضع الواحد.
ويرى كاتب هذه الحروف أن (التحريرات) قسمان:
الأول: تحريرات في الطرق والروايات، كما فعل الإمام الداني في "التيسير" مقارنة بما في "جامع البيان" وكما فعل ابن الجزري في "نشره" حيث سبر غَوْر كثير من كتب القراءات، فحرّر منها هذه الطرق والروايات، وتلك سمة بارزة في كتب السلف المتعلّقة بالقراءات، حيث يبدؤن مؤلّفاتهم بذكر أسانيدهم المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عندهم: لا بدّ لكل من قرأ بمضمّن كتاب أن يعرف طرقه.([7])
الثاني: تحريرات في (الأوجُه) وتفرّقوا فيه إلى ثلاث شعب:
الأولى: لم يَرِد عنهم فيها شيء ألبتة، قلَّ أو كثر، تلميحاً أو تصريحاً، وهم السلف الأقدمون، فلم يُعرَف عنهم فيما وصلنا عنهم من تراثهم ترتيب وجه على آخر، أو منعه عنه، وهم لم يحتاجوا إلى هذا؛ لأنهم كانوا يُفرِدون كلّ قراءة على حدة، بل كلّ رواية؛ ولا يبالون بطول الزمن أو قصره في ذلك.
الثانية: مَن جاء عنهم شيء منها، ولكن باقتصاد، وعدمِ فتح الباب على مصراعيه، منهم ابن الجزري كما سيأتي بيانه.
الثالثة: عكس السابقتين، حيث اهتموا بها كثيراً، وبالغوا فيها أشدّ مبالغة، وهم بعض المتأخرين، حتى إن بعضهم أفردها بالتأليف،([8]) فشعّبوا فيه الأقوال والتعقّبات، والأخذ والردّ، والجواز والمنع، إلى درجة أن بعضهم – وهو الشيخ القسطلاني - صرّح بأن عدم (التحريرات) يؤدّي إلى قراءة ما لم ينزل ،قال رحمه الله تعالى وتجاوز عنا وعنه :فإن قلت :هذه الأوجه التي يقرأ بها بين السور وغيرها التي ربما بلغ بعضها في بعض المواقع نحو (4000)أربعة آلاف وجه ؟؟هل لأهل الشأن فيها نقل يعتمد ون عليه ؟أو هو قياس من عند أنفسهم ؟ فإن كان الأول فبينوه وإن كان الثاني فأنتم تمنعونه اتفاقاً؟ أجيب : بأنه لما كان اعتماد أهل هذا الفن في القراءات على الأثبت في النقل بحيث كانوا في الضبط والمحافظة على ألفاظ القرآن في الدرجة القصوى حتى كانوا لا يسامحون بعضهم في حرف واحد اتفقوا على منع القياس المطلق الذي ليس له أصل يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه ،أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أو أصل يعتمد فإنه يجوز عند عدم النص وغموض وجه الأداء بل لا يسمى ما كان كذلك قياساً على الوجه الاصطلاحي لأنه في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي ؛كما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وإثبات البسملة وعدمها وغير ذلك مما صرح به الأئمة 0(ق :242/أ )
ثم قال :وإذا ثبت محافظتهم على النقل هكذا وتجويزهم نوعاً من القياس فلا يحتاج المجيب عن هذ السؤال إلا لنقلها عن مثل هؤلاء الأئمة المعول عليهم في هذا الفن ،وأيضاً فغاية ما في ذلك القياس الجائز وهو واجب بحيث بلغت الألوف فإنما ذلك عند المتأخرين دون المتقنين (كذا في المخطوط ولعلها المتقدمين ) لأنهم كانوا يَقرءون القراءات طريقاً طريقاً فلا يقع لهم إلا القليل من الأوجه ،أما المتأخرون فيقرءونها رواية بل قراءة بل أكثر حتى صاروا يقرؤن الختمة الواحدة للسبعة أو العشرة فتشعبت الطرق وكثرت الأوجه وحينئذ يجب على القارئ الاحتراز عن التراكيب في الطرق والأوجه ويميز بعضها من بعض وإلا وقع في ما لا يجوز وقراءة ما لم ينزل وقد وقع في هذا كثير من المتأخرين لاسيما من وضع كتاباً مفردا في هذه الأوجه 0انتهى كلامه رحمه الله تعالى (ق243
ولما رأيت كيراً من أهل القراءات المتأخرين والمعاصرين ألزم نفسه والأمة معه بوجوب الأخذ بهذه التحريرات – والوجوب هنا الوجوب المصطلح عليه بتأثيم تاركه – حاولت قدر الجهد والفهم والسعة أن أبين أن هذا الإلزام لا يصح على الأمة لسببين رئيسيين :
الأول : أنه لم يأت عن من أنزلت عليه هذه القراءات صلى الله عليه وسلم 0
الثاني :الخلل العلمي في الضابط الذي يتحاكمون إليه ،فتراهم يمنعون وجهاً لعلة ما ،ثم في موضع آخر ومسألة أخري يجوزنه مع وجود نفس العلة 0
وهذا ما سأبينه وأعرضه على علماء هذا الملتقي لتقويمه وتصحيحه على فترات ومسائل ،ومتى انتهينا من مسألة أعرض الأخرى حتى لا يتشعب الموضوع وتقل الفائدة 0
وقبل ختام هذه المقدمة أ بدأ بذكر مسألتين أرى أنّهما مهمّتان حيث لم أر من تطرق إليهما من المحررين، وهما في حاجة ماسّة لمزيد من الدراسة حيث إن فيهما مخالفة لمنهج المتأخرين القائلين بوجوب العمل بالتحريرات.
وهاتان المسألتان هما :
الأولى: كلمتي )ضَعْفٍ( و)ضَعْفًا( في "الرّوم"([9]):
أجمعت كتب القراءات على أن عاصماً وحمزة قرآ الكلمتين بفتح الضاد، وأن الباقين قرؤوهما بالضمّ.
ثمّ صرّحت بأن حفصاً ورد عنه الاتفاق مع الباقين، أي إن له الضمّ أيضاً، فتحصَّل له وجهان: الفتح والضمّ.
وهنا مسألة من مسائل التحريرات، أهملها المحرّرون، وعرَّوها من التحرير، ومرّوا عليها مرور الكرام، مع أن فيها لمن أراد التحرير وطلب الحق كلاماً وتحريراً، وهي مسألة يتوجّه النقد فيها إلى القائلين والمائلين إلى وجوب (التحريرات) ولا مجانبة للحق والصواب إنْ قيل إنها تتجه أيضاً على الداني وابن الجزري رحمهما الله تعالى، كما سيذكر بعد قليل.
هذه المسألة هي: تجويز وجه (الضمّ) لحفص في الكلمتين المذكورتين وجعله مقروءاً به له.
والإشكال والنقد هو: أن جُلَّ كتب القراءات -التي تيسّر الاطلاع عليها- تنصّ على أن (الضمّ) لحفص إنما هو اختيار منه وليس رواية عن شيخه عاصم.
وهذه نصوص بعض الأئمّة المحقّقين:
1-قال ابن مجاهد: قرأ حفص عن نفسه لا عن عاصم بضم الضاد. اهـ([10])
2- قال ابن غلبون؛ بعد أن ذكر أصحاب الفتح شعبة، وحمزة، والمفضل فقط: وذكر حفصٌ أنه لم يخالف عاصماً في شيء من قراءته إلا هاهنا. إلخ. اهـ([11]) 4- قال مكّي: ذكر عن حفص أنه رواه -الفتح- عن عاصم، واختارَ الضمّ لرواية قويت عنده. اهـ([12])
3- قال الداني: أبو بكر وحمزة )من ضعف( في الثلاثة بفتح الضاد، وكذلك روى حفص عن عاصم فيهنّ، غير أنه ترك ذلك واختار (الضمّ) اتّباعاً منه لرواية عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ذلك بالضمّ، ورَدَّ عليه الفتح وأباه، قال-الداني-: وما رواه حفص عن عاصم عن أئمته أصحّ. اهـ([13])
5- قال المعدّل بعد أن ذكر خلاف القراء في الكلمتين: وإنما اختار حفص ذلك-الضم- برواية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالضمّ. اهـ([14])
فهذه النصوص وغيرها كثير عن الأئمّة المعتمدين، والكتب المعتمدة في القراءات، كلّها صريحة في عدم رواية حفصٍ (الضَمَّ) عن عاصم، وإنما هو مخالف له، باختياره بعد أن روى عنه الفتح.
وقد ورد هذا عن حفص نفسه حيث قال: ما خالفت عاصماً في شيء مما قرأت به عليه إلا ضَمَّ هذه الثلاثة الأحرف. اهـ([15])
ومحلّ الإشكال المتّجه إلى المحرّرين هو أن يُسْألوا: كيف أجزتم القراءة بهذا الوجه؟ فهو وإن كان صحيحاً عن حفصٍ؛ فإنه لم يقرأ به على شيخه، مما يعني أنه وجه منقطع الإسناد.
قال الجعبري رحمه الله عند قول الشاطبي رحمه الله:
»وفي الروم صف عن خُلف فصل«([16])
قال: إطلاقه الوجهين هنا لحفص قيل فيه نظر من وجهين:
كون حفص نقل الضم عن غير عاصم.
وكونه من طريق عمرو بن الصبّاح، وطريقه عن عبيد بن الصبّاح.
وهو في اصطلاح المحدِّثين (تدليس)...وكان ينبغي أن يقطع لعاصم بفتح الكلّ كالأصل.اهـ([17])
وبهذا تكونون قد وقعتم فيما منعتم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تعليل حفص في اختياره (الضمّ) أنه من أجل الحديث، قولٌ -عند علماء القراءات- لا يقبل ولا يعتمد عليه لو كان الحديث صحيحاً ومتفقاً عليه، وبالأحرى إذا كان ضعيفاً كما هنا.([18])
أمّا اتجاه الإشكال على منهج المؤلّف زيادة على ما سبق، فهو أن يقال:
لماذا لم يُعامَل هذا الوجه معاملة زيادات الشاطبي؛ مع أن الفارق بينهما جوهري، وهو أن الزيادات غير منقطعة، وأقصى ما يقال فيها هو خروجها عن طرقه. وهذه مسألة فيها كلام كثير أرجو من الله تعالى التوفيق في بيانها لاحقاً 0
فعدمُ وقوف ابن الجزري – وهو عمدة المتأخرين في التحريرات- عند هذا الوجه لحفص كوقوفه عند الزيادات؛ والتنبيه على صحتها من عدمه، خروجٌ عن منهجه، بل عن طرقه، ومخالفٌ لما صرّح به هو نفسه حيث قال: إلا أن من عادتنا الجمع بين ما ثبت وصح من طرقنا لا نتخطّاه ولا نخطله بسواه. اهـ([19])
هذا؛ وقد وقفت على محاولة للشيخ المتولّي رحمة الله عليه نقلها عن الجعبري، حاول فيها تسويغ اختيار حفص للضمّ، مع روايته الفتح عن شيخه، فقال: قال الجعبري في شرح "الشاطبية": قول الأهوازي: أبو عمارة عن حفص عن عاصم، والخزاز([20]) عن هبيرة عن حفص عنه بضمّ الضاد كلّ ما في ‹الروم›، صريح في أن حفصاً نقل الضم عن عاصم. اهـ([21])
وزاد الجعبري بعد هذا الكلام –والشيخ المتولي لم ينقله-: وهذا جواب صحيح إن قصده الناظم،([22]) فإن قلت: كيف خالف مَن توقّفت صحة قراءته عليه؟
قلتُ: ما خالفه، بل نقل عنه ما قرأه عليه، ونقل عن غيره ما قرأه عليه،
لا أنه قرأ برأيه. اهـ([23])
وعليه، فإن ما أبهمه الأئمّة: الدانيُّ ومكيُّ والمؤلّف، وغيرهم في عباراتهم حتى فُهم من ظاهرها عدم قراءة حفص بالضمّ على عاصم، اتضح بهذا الكلام -أعني كلام الجعبري- أن ذلك الظاهر غير مرادهم رحمة الله عليهم أجمعين؛ لأنه لا يمكن بحال -عندي- أن أولئك الأئمة يجيزون قراءة منقطعة الإسناد.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن وجه الضمّ لحفص خارج عن طرق "التيسير" و"الشاطبية" و"النشر"، ومع ذلك -فكاتبه- يقرأ به تبعاً لمشايخه، وتحسيناً للظنّ بهم فيما قرؤا وأقرؤا به، من أنهم لا يقرؤن إلا بأثر، ولا يشترط في مثلي أن يعلم جميع الأسانيد، وما كنت لأصبح بدعاً في منع هذا الوجه الذي أجازه علماء القراءات مع خروجه عن جميع طرقهم الصغرى والكبرى، وما كتبت هذا إلا أمانة للعلم، وتقديماً للرواية على الدراية، وتبييناً لعدم انضباط منهج المتأخرين من المحرّرين في بعض المسائل. والله أعلم.
الثانية: مسألة: السكت بين السورتين ل(خلف) في اختياره:
صرّح ابن الجزري في موضعين؛ بعبارة مطلقة، تدلّ بمنطوقها ومفهومها على أن أبا العزّ القلانسيّ في "إرشاده" روى عن خلف -في اختياره- بكماله، أي من الروايتين: رواية إسحاق ورواية إدريس، السكتَ بين السورتين. وقال: رَوى عنه -خلف- أبو العزّ في "إرشاده" السكت بين السورتين.اهـ([24])
وقال في موضع آخر: واختلف عن خلف في اختياره بين الوصل والسكت،... ونَصَّ له صاحب "الإرشاد" على السكت. اهـ([25])
ودلالةُ هذا الكلام هي أن إسحاق وإدريس عن خلف يسكتان بين السورتين، وهذا فيه نظر من جهتين:
الأولى: أن "الإرشاد" ليس فيه لخلف إلا رواية واحدة وهي رواية إسحاق، وهي من طرق "النشر" وليس فيه رواية (إدريس) ألبتة.([26])
الثانية: في "الكفاية الكبرى" لأبي العزّ رواية إدريس، ولكنّها ليست من طرق "النشر" ولم يخترها المؤلّف في طرقه.([27])
وقد اضطرب -عندي- مذهب الشيخ الأزميري رحمه الله في هذه المسألة، فبعد أن قرّر أنَّ السكت لإسحاق، وأنه الأَولى ختم كلامه بالتصريح بقبول عموم كلام ابن الجزري فقال: ولكن أخذناه-السكت-لإدريس أيضاً اعتماداً على ابن الجزري.اهـ([28])
فَحَسْبَ المنهج الذي بنى عليه المحرّرون -وهو إمامهم- مذهبهم الصعب، كان عليه - رحمه الله - أن لا يأخذ بالسكت لإدريس بين السورتين، ولـماّ كُتِب عليه أخذه؛ فكان الأسلم أن يكون من " الكفاية الكبرى " لا "الإرشاد" فهو هنا رحمه الله لم يخلط طريقاً بطريق، بل خلط كتاباً بكتاب.
وقد كان الشيخ المتولّي رحمه الله أكثر دقّة -عندي- وأسلم منهجية وطريقاً، حيث قال بعد أن ذكر ما سبق: فكلام ابن الجزري المطلق يحمل على المقيّد. اهـ([29]) وهذا هو الصواب.
وخلاصة القول: أن السكت بين السورتين لخلف في اختياره إنما هو من رواية إسحاق، وعليه فيكون له –لخلف- وجهان: السكت وعدمه. والله أعلم.
وهناك كلام كثير أخرته حتي يأتي موعده المناسب 0
والله من وراء القصد0
---الحواشي -------
([1]) انظر: اللسان والقاموس والتاج (حرر)
([2]) انظر: أساس البلاغة والتاج (حرر)
([3]) اسمه الحقيقي: عمرو بن العبد، ينتهي نسبه إلى معدّ بن عدنان، شاعر جاهلي من أصحاب المعلّقات، يقال له: ابن العشرين؛ لأنه قتل وسنّه تلك، وقيل: بعدها بست، قتله عمرو بن هند.
انظر: طبقات الشعراء:1/138، الخزانة: 2/419425
([4]) البيت هو ثاني أبيات قصيدة عدتها (76) بيتاً يصف فيها أحواله وتنقّله في البلاد، مطلعها:
[align=center]أَصحوتَ اليوم أم شاقتك هرْ * ومن الحب جنون مستعر[/align]
انظر: مختار الشعر الجاهلي: 1/323
([5]) انظر: الفوائد المفهمة: 6
([6]) مأخوذ من: لفّق الثوب يلفقه لفقاً: وهو ضمّ إحدى الشقتين إلى الأخرى فتخيطها، والمراد هنا ضم أوجه على أوجه. انظر: اللسان (لفق)
([7]) انظر: غيث النفع: 35
([8]) منهم الشيخ علي بن عبد الله المنصوري (ت 1134 هـ) له: "تحرير الطرق والروايات في القراءات"، والشيخ محمد بن محمد بن خليل الطباخ (1205 هـ) له "هبة المنان في تحرير أوجه القرآن"، وغيره، والشيخ مصطفى الأزميري (ت 1155 هـ) وهو أشهر وأدقّ من تعقب ابن الجزري، والشيخ محمد بن أحمد المشهور بالمتولي (ت 1313 هـ) خاتمة المحررين إلى يومنا هذا، عُرِف بـ(ابن الجزري الصغير) لعلو كعبه في القراءات.
([9]) من الآية ( 54) الروم
([10]) السبعة: 508
([11]) التذكرة: 2/495
([12]) التبصرة: 635
([13]) التيسير: 175-176
([14]) تذكرة الحفاظ: 2/ ق: 178
([15]) النص من "التبصرة" 635، وانظره أيضاً في: غاية النهاية:1/254، النشر: 2/345، روضة الحفاظ: ق 178 وغيرها.
([16]) الشاطبية: 57
([17]) كنز المعاني: ق: 249
([18]) ضُعِّف الحديث؛ لأن فيه عطية العوفي. انظر: التيسير: 176
([19]) انظر النشر:1/192-193
([20]) أحمد بن علي بن الفضل، أبو جعفر، البغدادي، مقرئ، ماهر، ثقة، قرأ على هبيرة وغيره، قرأ عليه ابن مجاهد وابن شنبوذ وغيرهما. توفي سنة 286 هـ
انظر: غاية النهاية: 1/86-87، المعرفة:2/512، تاريخ بغداد: 4/303
([21]) الروض النضير: ق: 381 -382
([22]) يقصد به الإمام الشاطبي رحمه الله.تعالى
([23]) كنز المعاني: ق: 249-250، لكن يُرَدّ على هذا بأن حفصاً لم يتلق الضمّ عن عاصم نفسِه، حتى وإن كان عاصم أقرأه لبعض تلاميذه، وأيضاً: إن الضم وإن كان قرأ به عاصم إلا أنه لم يصلنا من الطرق المعتمدة لا "التيسير" ولا "الشاطبية" - وهما عمدة الجعبري- ولا "النشر" ولا "الطيبة". والله أعلم.
([24]) انظر :النشر: 1/191
([25]) انظر النشر: 1/259
([26]) انظر ، الإرشاد: 155-156
([27]) انظر: الكفاية الكبرى: 110-111
([28]) انظر: تحرير النشر: ق: 195/ ب، بدائع البرهان: ق: 10 و176
([29]) انظر: الروض النضير: ق: 36-37
الحمد لله الذي حرر عقول العلماء من سلطان الجهل ،ونوّر بصائرهم بنور العلم ،وأخذ عليهم العهد بتبيين العلم متى استقام الدليل ، ولم يتعبدهم بقول فلان وفلان متى خالف الدليل ،بل قال "قل هاتوا برهانكم " والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على النبي الخاتم ،المبعوث بالرحمة والتيسر والمحفوظ عن السهو و الغفلة في التبليغ ،ورضي الله عن صحابته الكرام بلغوا لنا القرآن كما سمعوه وتلقوه ،ولم يجتهدوا فيه بحرف بل قرؤا و أَقرؤا كما أُقرؤا ، فكان قولهم وفعلهم سنة يأخذها الآخر عن الأول ما تواتر الليل والنهار أما بعد :
لا شك أن القراءات العشر وصلت إلينا متواترة وصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمة لم تُهمل أي قراءة منها، ولا أصلاً من أصول تلك القراءة، بل حافظت عليها عن طريق حفظها في الصدور والسطور، وهذا تحقيق لوعد الله تعالى )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(.
لكنْ لمّا طال الزمن، وبَعُد العهد عن القراء أصحاب هذه القراءات، وأُلِّفت الكتب في قراءاتهم؛ جامعةً لمختلف رواياتهم، وتشعبت طرقهم، وابتكر الناس – لِقِصَر الهمم- طريقة (جمع القراءات) في ختمة واحدة، مخالفين في ذلك ما درج عليه السلف من إفراد كل رواية على حدة، نشأ ما سمّاه المتأخرون بـ(التحريرات).
ومادة ‹حرّ› في اللغة: خيار كل شيء،([1]) ومن ثَمَّ أطلق مجازاً على أكثر من معنى، يناسب (البحث) هنا منها: الفعلُ الحسن،([2]) ومنه قول طَرَفَة:([3])
[align=center]لا يكن حبّك داء قاتلاً * ليس هذا منك ماويّ بحرّ([4])[/align]
أي: ليس هذا منك بفعل حسن.
ومنه قولهم: تحريرُ الكتابِ وغيره، أي: تقويمُه وتخليصه، بإقامة حروفه، وتحسينه بإصلاح سَقَطِه.
أمّا تعريف (التحرير) اصطلاحاً عند القائلين به من أهل القراءات فهو: تنقيح القراءة من أي خطأ أو خلل.([5])
ويقصدون بذلك تمييز الأوجه والطُّرُق والروايات عن بعضها، وعدم اختلاطها في الأداء حتى لا يقع القارئ في التلفيق.([6])
فـ (التلفيق) و(التركيب) و(الخلط) المضافة إلى (القراءات) كلّها مصطلحات لمسمًّى واحد عندهم وهو: الانتقال من قراءة إلى أخرى، أثناء التلاوة، دون إعادة ولا تكرار لأوجه الخلاف، بل إن القارئ يقرأ آية؛ أو بعضها أو أكثر منها، على قراءة، ثم ينتقل إلى قراءة ما يليها وفق قراءة قارئ آخر؛ دون عطف لأوجه الخلاف في الموضع الواحد.
ويرى كاتب هذه الحروف أن (التحريرات) قسمان:
الأول: تحريرات في الطرق والروايات، كما فعل الإمام الداني في "التيسير" مقارنة بما في "جامع البيان" وكما فعل ابن الجزري في "نشره" حيث سبر غَوْر كثير من كتب القراءات، فحرّر منها هذه الطرق والروايات، وتلك سمة بارزة في كتب السلف المتعلّقة بالقراءات، حيث يبدؤن مؤلّفاتهم بذكر أسانيدهم المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عندهم: لا بدّ لكل من قرأ بمضمّن كتاب أن يعرف طرقه.([7])
الثاني: تحريرات في (الأوجُه) وتفرّقوا فيه إلى ثلاث شعب:
الأولى: لم يَرِد عنهم فيها شيء ألبتة، قلَّ أو كثر، تلميحاً أو تصريحاً، وهم السلف الأقدمون، فلم يُعرَف عنهم فيما وصلنا عنهم من تراثهم ترتيب وجه على آخر، أو منعه عنه، وهم لم يحتاجوا إلى هذا؛ لأنهم كانوا يُفرِدون كلّ قراءة على حدة، بل كلّ رواية؛ ولا يبالون بطول الزمن أو قصره في ذلك.
الثانية: مَن جاء عنهم شيء منها، ولكن باقتصاد، وعدمِ فتح الباب على مصراعيه، منهم ابن الجزري كما سيأتي بيانه.
الثالثة: عكس السابقتين، حيث اهتموا بها كثيراً، وبالغوا فيها أشدّ مبالغة، وهم بعض المتأخرين، حتى إن بعضهم أفردها بالتأليف،([8]) فشعّبوا فيه الأقوال والتعقّبات، والأخذ والردّ، والجواز والمنع، إلى درجة أن بعضهم – وهو الشيخ القسطلاني - صرّح بأن عدم (التحريرات) يؤدّي إلى قراءة ما لم ينزل ،قال رحمه الله تعالى وتجاوز عنا وعنه :فإن قلت :هذه الأوجه التي يقرأ بها بين السور وغيرها التي ربما بلغ بعضها في بعض المواقع نحو (4000)أربعة آلاف وجه ؟؟هل لأهل الشأن فيها نقل يعتمد ون عليه ؟أو هو قياس من عند أنفسهم ؟ فإن كان الأول فبينوه وإن كان الثاني فأنتم تمنعونه اتفاقاً؟ أجيب : بأنه لما كان اعتماد أهل هذا الفن في القراءات على الأثبت في النقل بحيث كانوا في الضبط والمحافظة على ألفاظ القرآن في الدرجة القصوى حتى كانوا لا يسامحون بعضهم في حرف واحد اتفقوا على منع القياس المطلق الذي ليس له أصل يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه ،أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أو أصل يعتمد فإنه يجوز عند عدم النص وغموض وجه الأداء بل لا يسمى ما كان كذلك قياساً على الوجه الاصطلاحي لأنه في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي ؛كما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء وإثبات البسملة وعدمها وغير ذلك مما صرح به الأئمة 0(ق :242/أ )
ثم قال :وإذا ثبت محافظتهم على النقل هكذا وتجويزهم نوعاً من القياس فلا يحتاج المجيب عن هذ السؤال إلا لنقلها عن مثل هؤلاء الأئمة المعول عليهم في هذا الفن ،وأيضاً فغاية ما في ذلك القياس الجائز وهو واجب بحيث بلغت الألوف فإنما ذلك عند المتأخرين دون المتقنين (كذا في المخطوط ولعلها المتقدمين ) لأنهم كانوا يَقرءون القراءات طريقاً طريقاً فلا يقع لهم إلا القليل من الأوجه ،أما المتأخرون فيقرءونها رواية بل قراءة بل أكثر حتى صاروا يقرؤن الختمة الواحدة للسبعة أو العشرة فتشعبت الطرق وكثرت الأوجه وحينئذ يجب على القارئ الاحتراز عن التراكيب في الطرق والأوجه ويميز بعضها من بعض وإلا وقع في ما لا يجوز وقراءة ما لم ينزل وقد وقع في هذا كثير من المتأخرين لاسيما من وضع كتاباً مفردا في هذه الأوجه 0انتهى كلامه رحمه الله تعالى (ق243
ولما رأيت كيراً من أهل القراءات المتأخرين والمعاصرين ألزم نفسه والأمة معه بوجوب الأخذ بهذه التحريرات – والوجوب هنا الوجوب المصطلح عليه بتأثيم تاركه – حاولت قدر الجهد والفهم والسعة أن أبين أن هذا الإلزام لا يصح على الأمة لسببين رئيسيين :
الأول : أنه لم يأت عن من أنزلت عليه هذه القراءات صلى الله عليه وسلم 0
الثاني :الخلل العلمي في الضابط الذي يتحاكمون إليه ،فتراهم يمنعون وجهاً لعلة ما ،ثم في موضع آخر ومسألة أخري يجوزنه مع وجود نفس العلة 0
وهذا ما سأبينه وأعرضه على علماء هذا الملتقي لتقويمه وتصحيحه على فترات ومسائل ،ومتى انتهينا من مسألة أعرض الأخرى حتى لا يتشعب الموضوع وتقل الفائدة 0
وقبل ختام هذه المقدمة أ بدأ بذكر مسألتين أرى أنّهما مهمّتان حيث لم أر من تطرق إليهما من المحررين، وهما في حاجة ماسّة لمزيد من الدراسة حيث إن فيهما مخالفة لمنهج المتأخرين القائلين بوجوب العمل بالتحريرات.
وهاتان المسألتان هما :
الأولى: كلمتي )ضَعْفٍ( و)ضَعْفًا( في "الرّوم"([9]):
أجمعت كتب القراءات على أن عاصماً وحمزة قرآ الكلمتين بفتح الضاد، وأن الباقين قرؤوهما بالضمّ.
ثمّ صرّحت بأن حفصاً ورد عنه الاتفاق مع الباقين، أي إن له الضمّ أيضاً، فتحصَّل له وجهان: الفتح والضمّ.
وهنا مسألة من مسائل التحريرات، أهملها المحرّرون، وعرَّوها من التحرير، ومرّوا عليها مرور الكرام، مع أن فيها لمن أراد التحرير وطلب الحق كلاماً وتحريراً، وهي مسألة يتوجّه النقد فيها إلى القائلين والمائلين إلى وجوب (التحريرات) ولا مجانبة للحق والصواب إنْ قيل إنها تتجه أيضاً على الداني وابن الجزري رحمهما الله تعالى، كما سيذكر بعد قليل.
هذه المسألة هي: تجويز وجه (الضمّ) لحفص في الكلمتين المذكورتين وجعله مقروءاً به له.
والإشكال والنقد هو: أن جُلَّ كتب القراءات -التي تيسّر الاطلاع عليها- تنصّ على أن (الضمّ) لحفص إنما هو اختيار منه وليس رواية عن شيخه عاصم.
وهذه نصوص بعض الأئمّة المحقّقين:
1-قال ابن مجاهد: قرأ حفص عن نفسه لا عن عاصم بضم الضاد. اهـ([10])
2- قال ابن غلبون؛ بعد أن ذكر أصحاب الفتح شعبة، وحمزة، والمفضل فقط: وذكر حفصٌ أنه لم يخالف عاصماً في شيء من قراءته إلا هاهنا. إلخ. اهـ([11]) 4- قال مكّي: ذكر عن حفص أنه رواه -الفتح- عن عاصم، واختارَ الضمّ لرواية قويت عنده. اهـ([12])
3- قال الداني: أبو بكر وحمزة )من ضعف( في الثلاثة بفتح الضاد، وكذلك روى حفص عن عاصم فيهنّ، غير أنه ترك ذلك واختار (الضمّ) اتّباعاً منه لرواية عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ذلك بالضمّ، ورَدَّ عليه الفتح وأباه، قال-الداني-: وما رواه حفص عن عاصم عن أئمته أصحّ. اهـ([13])
5- قال المعدّل بعد أن ذكر خلاف القراء في الكلمتين: وإنما اختار حفص ذلك-الضم- برواية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالضمّ. اهـ([14])
فهذه النصوص وغيرها كثير عن الأئمّة المعتمدين، والكتب المعتمدة في القراءات، كلّها صريحة في عدم رواية حفصٍ (الضَمَّ) عن عاصم، وإنما هو مخالف له، باختياره بعد أن روى عنه الفتح.
وقد ورد هذا عن حفص نفسه حيث قال: ما خالفت عاصماً في شيء مما قرأت به عليه إلا ضَمَّ هذه الثلاثة الأحرف. اهـ([15])
ومحلّ الإشكال المتّجه إلى المحرّرين هو أن يُسْألوا: كيف أجزتم القراءة بهذا الوجه؟ فهو وإن كان صحيحاً عن حفصٍ؛ فإنه لم يقرأ به على شيخه، مما يعني أنه وجه منقطع الإسناد.
قال الجعبري رحمه الله عند قول الشاطبي رحمه الله:
»وفي الروم صف عن خُلف فصل«([16])
قال: إطلاقه الوجهين هنا لحفص قيل فيه نظر من وجهين:
كون حفص نقل الضم عن غير عاصم.
وكونه من طريق عمرو بن الصبّاح، وطريقه عن عبيد بن الصبّاح.
وهو في اصطلاح المحدِّثين (تدليس)...وكان ينبغي أن يقطع لعاصم بفتح الكلّ كالأصل.اهـ([17])
وبهذا تكونون قد وقعتم فيما منعتم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تعليل حفص في اختياره (الضمّ) أنه من أجل الحديث، قولٌ -عند علماء القراءات- لا يقبل ولا يعتمد عليه لو كان الحديث صحيحاً ومتفقاً عليه، وبالأحرى إذا كان ضعيفاً كما هنا.([18])
أمّا اتجاه الإشكال على منهج المؤلّف زيادة على ما سبق، فهو أن يقال:
لماذا لم يُعامَل هذا الوجه معاملة زيادات الشاطبي؛ مع أن الفارق بينهما جوهري، وهو أن الزيادات غير منقطعة، وأقصى ما يقال فيها هو خروجها عن طرقه. وهذه مسألة فيها كلام كثير أرجو من الله تعالى التوفيق في بيانها لاحقاً 0
فعدمُ وقوف ابن الجزري – وهو عمدة المتأخرين في التحريرات- عند هذا الوجه لحفص كوقوفه عند الزيادات؛ والتنبيه على صحتها من عدمه، خروجٌ عن منهجه، بل عن طرقه، ومخالفٌ لما صرّح به هو نفسه حيث قال: إلا أن من عادتنا الجمع بين ما ثبت وصح من طرقنا لا نتخطّاه ولا نخطله بسواه. اهـ([19])
هذا؛ وقد وقفت على محاولة للشيخ المتولّي رحمة الله عليه نقلها عن الجعبري، حاول فيها تسويغ اختيار حفص للضمّ، مع روايته الفتح عن شيخه، فقال: قال الجعبري في شرح "الشاطبية": قول الأهوازي: أبو عمارة عن حفص عن عاصم، والخزاز([20]) عن هبيرة عن حفص عنه بضمّ الضاد كلّ ما في ‹الروم›، صريح في أن حفصاً نقل الضم عن عاصم. اهـ([21])
وزاد الجعبري بعد هذا الكلام –والشيخ المتولي لم ينقله-: وهذا جواب صحيح إن قصده الناظم،([22]) فإن قلت: كيف خالف مَن توقّفت صحة قراءته عليه؟
قلتُ: ما خالفه، بل نقل عنه ما قرأه عليه، ونقل عن غيره ما قرأه عليه،
لا أنه قرأ برأيه. اهـ([23])
وعليه، فإن ما أبهمه الأئمّة: الدانيُّ ومكيُّ والمؤلّف، وغيرهم في عباراتهم حتى فُهم من ظاهرها عدم قراءة حفص بالضمّ على عاصم، اتضح بهذا الكلام -أعني كلام الجعبري- أن ذلك الظاهر غير مرادهم رحمة الله عليهم أجمعين؛ لأنه لا يمكن بحال -عندي- أن أولئك الأئمة يجيزون قراءة منقطعة الإسناد.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن وجه الضمّ لحفص خارج عن طرق "التيسير" و"الشاطبية" و"النشر"، ومع ذلك -فكاتبه- يقرأ به تبعاً لمشايخه، وتحسيناً للظنّ بهم فيما قرؤا وأقرؤا به، من أنهم لا يقرؤن إلا بأثر، ولا يشترط في مثلي أن يعلم جميع الأسانيد، وما كنت لأصبح بدعاً في منع هذا الوجه الذي أجازه علماء القراءات مع خروجه عن جميع طرقهم الصغرى والكبرى، وما كتبت هذا إلا أمانة للعلم، وتقديماً للرواية على الدراية، وتبييناً لعدم انضباط منهج المتأخرين من المحرّرين في بعض المسائل. والله أعلم.
الثانية: مسألة: السكت بين السورتين ل(خلف) في اختياره:
صرّح ابن الجزري في موضعين؛ بعبارة مطلقة، تدلّ بمنطوقها ومفهومها على أن أبا العزّ القلانسيّ في "إرشاده" روى عن خلف -في اختياره- بكماله، أي من الروايتين: رواية إسحاق ورواية إدريس، السكتَ بين السورتين. وقال: رَوى عنه -خلف- أبو العزّ في "إرشاده" السكت بين السورتين.اهـ([24])
وقال في موضع آخر: واختلف عن خلف في اختياره بين الوصل والسكت،... ونَصَّ له صاحب "الإرشاد" على السكت. اهـ([25])
ودلالةُ هذا الكلام هي أن إسحاق وإدريس عن خلف يسكتان بين السورتين، وهذا فيه نظر من جهتين:
الأولى: أن "الإرشاد" ليس فيه لخلف إلا رواية واحدة وهي رواية إسحاق، وهي من طرق "النشر" وليس فيه رواية (إدريس) ألبتة.([26])
الثانية: في "الكفاية الكبرى" لأبي العزّ رواية إدريس، ولكنّها ليست من طرق "النشر" ولم يخترها المؤلّف في طرقه.([27])
وقد اضطرب -عندي- مذهب الشيخ الأزميري رحمه الله في هذه المسألة، فبعد أن قرّر أنَّ السكت لإسحاق، وأنه الأَولى ختم كلامه بالتصريح بقبول عموم كلام ابن الجزري فقال: ولكن أخذناه-السكت-لإدريس أيضاً اعتماداً على ابن الجزري.اهـ([28])
فَحَسْبَ المنهج الذي بنى عليه المحرّرون -وهو إمامهم- مذهبهم الصعب، كان عليه - رحمه الله - أن لا يأخذ بالسكت لإدريس بين السورتين، ولـماّ كُتِب عليه أخذه؛ فكان الأسلم أن يكون من " الكفاية الكبرى " لا "الإرشاد" فهو هنا رحمه الله لم يخلط طريقاً بطريق، بل خلط كتاباً بكتاب.
وقد كان الشيخ المتولّي رحمه الله أكثر دقّة -عندي- وأسلم منهجية وطريقاً، حيث قال بعد أن ذكر ما سبق: فكلام ابن الجزري المطلق يحمل على المقيّد. اهـ([29]) وهذا هو الصواب.
وخلاصة القول: أن السكت بين السورتين لخلف في اختياره إنما هو من رواية إسحاق، وعليه فيكون له –لخلف- وجهان: السكت وعدمه. والله أعلم.
وهناك كلام كثير أخرته حتي يأتي موعده المناسب 0
والله من وراء القصد0
---الحواشي -------
([1]) انظر: اللسان والقاموس والتاج (حرر)
([2]) انظر: أساس البلاغة والتاج (حرر)
([3]) اسمه الحقيقي: عمرو بن العبد، ينتهي نسبه إلى معدّ بن عدنان، شاعر جاهلي من أصحاب المعلّقات، يقال له: ابن العشرين؛ لأنه قتل وسنّه تلك، وقيل: بعدها بست، قتله عمرو بن هند.
انظر: طبقات الشعراء:1/138، الخزانة: 2/419425
([4]) البيت هو ثاني أبيات قصيدة عدتها (76) بيتاً يصف فيها أحواله وتنقّله في البلاد، مطلعها:
[align=center]أَصحوتَ اليوم أم شاقتك هرْ * ومن الحب جنون مستعر[/align]
انظر: مختار الشعر الجاهلي: 1/323
([5]) انظر: الفوائد المفهمة: 6
([6]) مأخوذ من: لفّق الثوب يلفقه لفقاً: وهو ضمّ إحدى الشقتين إلى الأخرى فتخيطها، والمراد هنا ضم أوجه على أوجه. انظر: اللسان (لفق)
([7]) انظر: غيث النفع: 35
([8]) منهم الشيخ علي بن عبد الله المنصوري (ت 1134 هـ) له: "تحرير الطرق والروايات في القراءات"، والشيخ محمد بن محمد بن خليل الطباخ (1205 هـ) له "هبة المنان في تحرير أوجه القرآن"، وغيره، والشيخ مصطفى الأزميري (ت 1155 هـ) وهو أشهر وأدقّ من تعقب ابن الجزري، والشيخ محمد بن أحمد المشهور بالمتولي (ت 1313 هـ) خاتمة المحررين إلى يومنا هذا، عُرِف بـ(ابن الجزري الصغير) لعلو كعبه في القراءات.
([9]) من الآية ( 54) الروم
([10]) السبعة: 508
([11]) التذكرة: 2/495
([12]) التبصرة: 635
([13]) التيسير: 175-176
([14]) تذكرة الحفاظ: 2/ ق: 178
([15]) النص من "التبصرة" 635، وانظره أيضاً في: غاية النهاية:1/254، النشر: 2/345، روضة الحفاظ: ق 178 وغيرها.
([16]) الشاطبية: 57
([17]) كنز المعاني: ق: 249
([18]) ضُعِّف الحديث؛ لأن فيه عطية العوفي. انظر: التيسير: 176
([19]) انظر النشر:1/192-193
([20]) أحمد بن علي بن الفضل، أبو جعفر، البغدادي، مقرئ، ماهر، ثقة، قرأ على هبيرة وغيره، قرأ عليه ابن مجاهد وابن شنبوذ وغيرهما. توفي سنة 286 هـ
انظر: غاية النهاية: 1/86-87، المعرفة:2/512، تاريخ بغداد: 4/303
([21]) الروض النضير: ق: 381 -382
([22]) يقصد به الإمام الشاطبي رحمه الله.تعالى
([23]) كنز المعاني: ق: 249-250، لكن يُرَدّ على هذا بأن حفصاً لم يتلق الضمّ عن عاصم نفسِه، حتى وإن كان عاصم أقرأه لبعض تلاميذه، وأيضاً: إن الضم وإن كان قرأ به عاصم إلا أنه لم يصلنا من الطرق المعتمدة لا "التيسير" ولا "الشاطبية" - وهما عمدة الجعبري- ولا "النشر" ولا "الطيبة". والله أعلم.
([24]) انظر :النشر: 1/191
([25]) انظر النشر: 1/259
([26]) انظر ، الإرشاد: 155-156
([27]) انظر: الكفاية الكبرى: 110-111
([28]) انظر: تحرير النشر: ق: 195/ ب، بدائع البرهان: ق: 10 و176
([29]) انظر: الروض النضير: ق: 36-37