هذا من السرد المختزل العجيب: فالجمل المتتالية في الآيتين قول واحد لمتكلم واحد هو صاحب السجن الناجي : [أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا] لاحظ فعلي الأمر "فَأَرْسِلُونِ" "أَفْتِنَا" جاءا في نسق خطاب واحد لكن شتان ما بينهما زمانا ومكانا ومخاطبا ومقصدا ومشهدا....ثمة ثغرة سردية واضحة يمكن سدها بقولنا- مثلا- ( فذهب إلى يوسف فقال يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...) لقد سدت الثغرة لكن سقطت البلاغة وشحب الإعجاز!
من عجيب سرد القرأن أن تقوم جملة واحدة مقام فصل من القصة...هذا ما اختزلته عبارة "فَأَرْسِلُونِ " "أَرْسِلُونِ" لا بد أن تدل على جهة معهودة عند السامعين الحاضرين...وهذه الجهة لا بد أن يكونوا قد أخذوا علما عمن فيها وعما جرى فيها من أحداث...فيعلم من ذلك كله أن الفتى الناجي قد أخبرهم بما وقع له في السجن وظروف تعرفه على يوسف الصديق... ولقائل أن يقول لم لا يرفع من درجة الاختزال بحذف جملة ( فَأَرْسِلُونِ) نفسها، والمتلقي قمين باستحضار المطوي من السرد والمحذوف منه..
نقول لا سواء فهذه دلالة المقام وتلك دلالة المقال... ولقائل أن يقول ماذا لو صرح وما كنى، فقال مثلا: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ[ وروى لهم ما تذكر] فَأَرْسِلُونِ نقول لقد سدت الثغرة لكن سقطت البلاغة وشحب الإعجاز! ألا ترى أن المتلقي في هذه الحالة سيكون سلبيا فقد أخبر بكل شيء...والقرآن يحب المتلقي المتدبرالمكتشف.. واعلم أن متعة المشاركة في السرد عند المتلقي لا تكاد تعدلها متعة!
عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر : 60]، رواه "أحمد" في "المسند" (18352)، و"البخاري" في "الأدب المفرد" (714)
استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية ينبني على ما يعرف في بلاغة النص ب( التشاكل)، أي افتراض اتساق القول والتناسب فيه....فالآية في صدرها نصت على أمر، وفي عجزها نصت على جزاء أمر آخر ،وبموجب قانون التشاكل- أو التناسب - يتعين توحيد موضوع الأمر والجزاء ،فيكون قوله "إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " معناه "إن الذين يستكبرون عن دعائي...."
ثم وجدت في قصة إبراهيم - من سورة مريم - ما يشبه هذا :
أعتقد أن أفضل وجه لتدبر القرآن هو معايشته وتمثله، فإذا وصف موقفا فلا يفهم حق فهمه إلا إذا استحضر المتدبر ذلك الموقف وتمثله وتخيله وعايشه عندئذ فقط يدرك سر كل كلمة..
فهذا محكوم عليه بالخلود في جهنم...
والإنسان بحكم الجبلة ينشد دائما نصيرا إذا كان في ورطة...والعثورعلى النصير هو أول ما يخطر بباله ...
فهل النصير الله ،هذا محال، فهم ينشدون نصيرا على الله...وعلى فرض رجوعهم إليه يصطدمون بقوله لهم من قبل:
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : 108] (أرشح هذه الآية لتكون أشد آية في عذاب أهل النار.)
إذن فليكلموا الملائكة ،لكنهم غلاظ شداد فلا يطمعون أن يجدوا عنهم ذرة من شفقة فهل يكون الجلاد نصيرا:
سبق أن بيننا سر التقديم والتأخيرفي الإبداء والإخفاء( ينظر التوقيع العاشر في السلسلة ) لكننا لم ننتبه حينئذ إلى الاختلاف بين (مَا فِي أَنْفُسِكُمْ) و(مَا فِي صُدُورِكُمْ) وبعد تأمل ظهر لنا أن كل تعبير موافق لمقامه وسياقه...ففي آية آل عمران بيان لعلم الله بالمظهر والمخفي فناسبته كلمة الصدور التي هي عبارة عن "صندوق الأسرار" التي يخزن فيها المرء أشياءه ....وفي أية البقرة بيان للمحاسبة على الذنب والإثم ،ومن ثم جاء ذكر النفس النزاعة إلى الشهوات والأمارة بالسوء تغري وتغوي!!
العبارة تكررت خمس مرات في القرآن وفي ذلك تنبيه على الاهتمام بها وتدبرمحتواها حق التدبر.(ونقول بالمناسبة إن عبارة المفسرين بصدد تفسيرهم للآيات المتكررة والمتشابهة " لقد تقدم القول فيها" ليست عبارة حسنة فما تكررت الآية إلا لتكرر فيها النظر!)
واضح أن الآية تؤسس معيارا وقانونا في الدنيا والآخرة، معيارا خلقيا وقانونا جنائيا يجب لهما التطبيق في الدنيا، ورب العالمين في الآخرة سيحاسب الخلق بحسب هذا القانون العدل....
لكن للآ ية شأنا آخر فهي كفيلة بتدمير دين النصارى في مبتدئه ومنتهاه:
زعم الضالون أن بني آدم ورثوا عن أبيهم الخطيئة الأولى: فما من وليد يخرج إلى الدنيا إلا وهو ملطخ بما اقترفه أبوه آدم قبل عشرات القرون...
فأبطلت قذيفة الحق هذا الزعم :
"لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"
وزعم الضالون أن الله أنزل ابنه الوحيد إلى الأرض ليهان ويصلب كي يفتدي البشر ويحمل عنهم أوزارهم -لاسيما وزر الخطيئة الأصلية-
فأبطلت قذيفة الحق هذا الزعم فلا أحد يحمل عن أحد وزره مهما كان هذا الوازر :
من عجائب الإيمان أنه يزيل في لحظة واحدة ما ترسب في نفس الإنسان منذ سنين..تغيير جذري لا تدرج فيه ولا مراحل مثل إضاءة مصباح يخرج المرء من الظلمات إلى النور على الفور، فلا حالات وسطى ولا نسب مئوية..
هذا ما تبينه قصة سحرة فرعون:
هؤلاء السحرة جمعوا في نفوسهم كل الموبقات:
الكفر،
السحر ،
الكيد والاحتيال،
التزلف إلى الظالم،
التكالب على المناصب،
نصرة الظالم...
لكن ما أن آمنوا حتى أصبحت كل هذه الموبقات بلا عين ولا أثر ، كل ذلك في لحظة واحدة.. فإن إضاءة مصباح واحد لتزيل الظلمات ولو كانت عششت منذ دهور.
كيف تطهرت نفوس السحرة فجأة :
لم يعد يرهبهم من كانوا يتقربون إليه زلفى،
لا يأبهون لما ينتظرهم من تقطيع الأوصال وصلب الأبدان، وهو يعرفون حق المعرفة قسوة قلب الفرعون وبطشه الجبار...هذا ،والتقية ممكنة في هذه الحال ورب العالمين يعذرهم بلا شك، فلهم أسوة في امرأة فرعون التي تكتم إيمانها وفي مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه أيضا...لكنهم – رضي الله عنهم- أعلنوا إيمانهم في ضحى النهار على مرأى ومسمع من فرعون والحشود...أعلنوها مدوية:
الآية مثال على واقعية القرآن..فالظن محرك ضروري للإنسان في علمه وعمله ،ولو كان المرء يتحرى اليقين دائما في كل شيء لتعطلت كثير من جوانب حياته، لذا جاء ت الآية الناهية عن الظن باحترازين :احتراز كمي، واحتراز نوعي...
1- كميا ،لم تنه الأية عن كل الظن وإنما نهت عن الكثير منه فيبقى بعض الظن خارج دائرة النهي..
2- نوعيا ،ليس كل الظن المنهي عنه إثما وإنما الإثم في بعضه...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) [يوسف : 103]
التساوي يكون النصف بالنصف ، أما أكثر فتعني أنه أكبر من النصف وهذا يعني أنه حتى مع الحرص فإن نسبة المؤمنين بين الناس لا يتجاوز النصف ونفس الشيئ بتطبيقه على الآية الثانية فهذا يعني أن نسبة الموحدين بين الناس جميعاً لا يتجاوز الربع في أفضل الأوقات ، فإذا لم يكن هناك حرص على الدعوة إلى الحق فإن هذه النسبة تنخفض بشكل كبير ، ولكن نسبة الموحدين بين المؤمنين ليس بالضرورة يتناسب مع نسبة المؤمنين بين الناس ،
1- الآية جليلة الشأن تضمنت وصفة علاج يحتاجها كل إنسان في كل أوقاته أو على الأقل في نصف أحواله لأنه إما أن يكون في وضع مريح يستوجب شكرا أو وضع غير مريح يستوجب صبرا والوضعان يتعاقبان على الانسان لزوما.
2- الآية تصديق لقول الرسول الأكرم:
"ما أنزل الله عز وجل داء، إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله."
فالبلاء من الله والعافية منه عز وجل ، البلاء من أمره التكويني وعلاج البلاء من أمره التشريعي وهو المتضمن في الآية.
3- الاستعانة بالصبر...لكن الصبر نفسه ليس من الإنسان بل هو من الله
قال المفسرون : إن أبي بن خلف أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل [ قد بلي ، ] فقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم ؟ فقال : " نعم ، ويبعثك ويدخلك النار " ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ) .
هذا المتكبر الصلف - وكل ملحد متكبر صلف- هل سأل نفسه عن العظمة التي يمسكها بيده كيف تكونت في النطفة ...النطفة سائل مائع ، والعظمة صلبة يابسة ،فكيف تكونت هذه من تلك، وهو يعلم أن العظام نشأت في النطفة ومن النطفة ولم تأت من الخارج ملحقة بها...من أين أتت العظمة بخصائص وصفات غير موجودة في أصلها!
النطفة لو تعرضت للشمس بعض ساعة ليبست وتفتت وتناثرت ....والعظام تمكث في الأرض آلاف السنين...فكيف خرجت هذه من تلك!!
حقا إن الملاحدة كالأنعام ...مع الاعتذار للأنعام!!!
أشرنا في التوقيع- 8 -إلى القسم بأجزاء اليوم في القرآن ونريد هنا أن نبدي ملاحظة :
في القسم بأجزاء النهاريكون المقسم به مطلقا غير مقيد بأي وصف : المقسم به كلمة واحدة وهذه الكلمة آية كاملة!
{وَالْفَجْرِ} [الفجر : 1]
{وَالضُّحَى} [الضحى : 1]
{وَالْعَصْرِ} [العصر : 1]
لكن القسم بالليل لا يرد إلا مقيدا :
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل : 1]
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى : 2]
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر : 4]
ما السر البلاغي في ذلك ؟
أرى- والله أعلم – أن هنا مراعاة للدلالات الإيحائية – وليس المعجمية - للكلمات ، فالفجر مثلا له إيحاءات انبساطية متجانسة (بداية الحياة بداية النوركشف الغمة....) والضحى له إيحاءات متجانسة من القوة والشدة والجهد فهو وقت مشقة العمل وقالوا قديما عن المرأة المسترخية المخدومة (نؤوم الضحى)
لكن الدلالات الإيحائية لليل مشكلة فقد تكون انبساطية وقد تكون انقباضية
( اقترح الثنائية انبساطي/انقباضي ترجمة للثنائية الأعجمية euphorique/ dysphorique . انبساطي تعني أن المرء يستقبل معنى الكلمة بالابتهاج مثل كلمة "وردة" وانقباضي تعني أنه يستقبل معنى الكلمة بضيق مثل كلمة "شوكة" )
فالليل قد يوحي بالخوف والعزلة وتوجس المكروه ( ليل المسافرين ) وقد يوحي على العكس من ذلك بالدعة والسكينة والاسترخاء (ليل الرومانسيين)
وما دام المعنى الإيحائي لليل فيه اشتراك وتضاد فقد قيده القرآن لتخصيص المعنى المقصود...
وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى : 2]
ليس التقابل هنا بين النور والظلام ، إنما هو تقابل بين الجهد والراحة ، فالوصف" إِذَا سَجَى " نبه على المعنى الابتهاجي لليل وهذا يتسق بلاغيا مع قوله:
وسورة الفجر ذكرت مصرع الجبارين فناسبها القسم بالليل الذي يسري إيحاء بالتوتر النفسي الشديد، كالمحكوم عليه بالاعدام يراقب حركة عقرب الساعة قبل الرنين المؤذن بحلول وقت تنفيذ الحكم!!
الآية دليل بليغ على أن الإنسان لا يملك لنفسه شيئا:
الصبر لا يكون إلا على ضر...ودفع الضر عن النفس من جبلة الإنسان، والانتهاء إلى الصبرلا يكون إلا بعد استفراغ كل الجهود لكشف الضر .أن تصبر يعني ليس في وسعك فعل شيء والصبر حيلة من لا حيلة له كما يقال...
لكن هل سيقول الإنسان: ليس لي قدرة على دفع الضر، ولكن لي - على الأقل - قدرة على الصبر، وهو فعل جليل في ذاته ...
ليس له قول ذلك لأن ذلك الصبر نفسه من الله فلا يستقل الإنسان بأي فعل!
الظاهر أن جملة " وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ" اعتراض: "لا تحزن" معطوفة على "اصبر" ، و"لا تك في ضيق" معطوفة على "لا تحزن" فهي مطالب ثلاث...وحكمة الاعتراض الاحترازوتصحيح وهم: فالمتلقي قد يتوهم أن الصبر المأمور بفعله هو مستقل به فجاء التصحيح: نعم ،الصبر فعلك، لكنه في الوقت نفسه من خلق الله وتقديره . وهذا المذهب الحق مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال!
لعله لم يجتمع في القرآن في موضع واحد مثل هذا العدد من الوصايا إلا في سورة الإسراء (وهي أكثر من عشر وصايا ) وكأن ورودها في هذه السورة بالضبط يتضمن تحذيرا خفيا للمسلمين: فقد ذكر في بداية السورة أحوال بني إسرائيل وكيف قضى عليهم بالإفساد في الأرض وما يعقب الإفساد من عقاب بالذل والخزي، لقد وقع لهم ذلك لأنهم جاءتهم وصايا (الوصايا العشرالمشهورة عند أهل الكتاب ) فأعرضوا عنها فليحذر المسلمون من اقتفاء أثرهم في الإعراض عن الوصايا فيصيبهم ما أصابهم.
هذا ، وفي سرد تلك الوصايا نلحظ أمرا بلاغيا ، فبعض تلك الوصايا موجهة للمخاطب المفرد ، وبعضها موجهة للمخاطبين الجمع : فإن كان مجال الوصية الأسرة والأخلاق فالمخاطب في الغالب فرد واحد (أنت) ، وإن كان مجال الوصية المجتمع فالخطاب لجمع (أنتم) ...فحصل التشاكل البديع بين اللفظ والمعنى:
التوكيد اللفظي في تكرار لا النافية :"فلا....لا يومنون"
التوكيد المعنوي في القسم :"وربك" المدمج في مساحة التوكيد اللفظي " فَلَا وَرَبِّكَ لَا"
الجملة المؤكدة تنفي الإيمان مطلقا إلا بشرط ....
فهؤلاء لا يومنون ولوا أتوا بالشهادة وصلوا وحجوا وجاهدوا واستشهدوا في سبيل الله ، لا يثبت لهم الإيمان إلا بالاتيان بما ذكر بعد حتى الغائية: يُحَكِّمُوكَ
وتصل الشدة إلى أعلاها عندما يجعل الشرط نفسه مقيدا بشرط آخر...
لا يقبل منهم الإيمان إلا بجعل الرسول صلى الله عليه وسلم حكما ولا يقبل منهم هذا الجعل نفسه إلا بالرضى بحكم الرسول ...
وذلك الرضى أي شرط الشرط يستغرق النفس كلها وجدانا وفكرا صدرا ورأسا عاطفة وعقلا :
لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا من جهة الشعور والإحساس والوجدان،
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا من جهة الفكر والعقل والحجاج!
"الواو" لمطلق الجمع ،لا تدل على ترتيب معطوفيها...ولأنها كذلك فإن المعنى لا يستقيم هنا إلا بالعطف بها فلا يجوز أن تحل "الفاء" أو" ثم "مكانها لفساد المعنى.. لأن العبارة حينئذ ستدل على عكس قصدهم، فيتنافى أول كلامهم مع آخره ..
لكن هذا لا يمنع من استكناه النكتة البلاغية في تقديم الموت على الحياة :
فملاحظة معنى "الواو" في العبارة شيء ،والكشف عن سر التقديم والتأخير شيء آخر..
كان من المتوقع أن يتقدم ذكر "الحياة" على "الموت" اعتبارا للترتيب الزمني الوجودي:
فالإنسان يحيا ويموت ، وليس يموت ويحيا..
نظن أن تقديم الموت على الحياة يستجيب لمقصدين، أولهما نفسي وثانيهما فكري:
المقصد النفسي:
1- تضمن قول هؤلاء خبرين: أنهم يموتون وأنهم يحيون...فقدموا الخبر غير السار على الخبر السار.. وهذا التقديم يكاد يكون جبليا، فلو قلنا لإنسان -مثلا- عندي لك خبر مفرح وخبر محزن ،فأي الخبرين تريد أن تسمع أولا...؟ الاحتمال كبير جدا في أن يفضل تأخير ذكر السار، على توهم أن حلاوة الأخير ستكسر من شوكة مرارة الأول...بينما لو طلب السار أولا لفوت على نفسه غاية التلذذ به بسبب انصراف النفس إلى تقدير المكروه المنتظر..
"نحيا ونموت" تقال عادة بنبرة حزن وحسرة ،أما "نموت ونحيا" فجديرة أن تقال بنبرة ابتهاج وانتشاء...فكأن مجيء " الحياة" بعد "الموت" -لفظا –تتوهم منه النفس انتصار الحياة على الموت –معنى-
المقصد الفكري:
2- مقصود هؤلاء بقولهم" نَمُوتُ وَنَحْيَا" الإشارة إلى استمرار الحياة، وهو معنى بلاغي لا يوجد في الترتيب الطبيعي"نحيا ونموت ":
فالذهن يتصور هنا حياة يأتي عليها الموت ،وينتهي التصور بالخراب والعدم...وهي رؤية سوداوية لا تتفق مع أخلاق هؤلاء المبتهجين ...
فهم يفضلون " نَمُوتُ وَنَحْيَا" لتكون "الكلمة الأخيرة" للحياة...
وبعبارة أخرى :إن شهود الممتليء بعد الفارغ في السلسلة أحب للنفس من شهود الفارغ بعد الممتليء.وإن كانت السلسلة واحدة في نفس الأمر...لكنه الوهم وبلاغة الوهم!!
وبعبارات أخرى: الحياة جاءت بعد الموت في الترتيب اللفظي " نَمُوتُ وَنَحْيَا"... ولما كانت الحياة غير خالدة كما هو مشهود عند الكفار أنفسهم فلا بد أن يعقبها الموت، لكن الموت تعقبه الحياة بمقتضى الترتيب اللفظي الذي عبروا به.. فلزمت اللانهاية...وهذا هو معتقد الدهريين قديما وحديثا :أرحام تدفع وقبور تبلع لا إلى نهاية..
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، لكن هذه الأنفس والأموال التي اشتراها الله هي أصلا ملك لله !!
مثل ذلك – ولله المثل الأعلى- كمثل رجل يريد أن يشتري بيتا فاخرا من ممتلكات صاحبه، فقال لصاحبه: بكم تبيعني البيت؟ قال: ألف ألف دينار...فقبل الرجل ، فلما أراد أن ينصرف ليحضر الثمن قال له صاحبه سأعطيك هدية بالمناسبة ، ومد له كيسا ، فلما فتحه وجد فيه ألف ألف دينار!!
جنة الله بالمجان ....والثمن المدفوع فيها هو مما أعطاك الله... فهل بعد فضل الله فضل!
ولهذا المعنى نظير آخر في التنزيل:
الإنسان يبتليه الله في نفسه وماله وولده، فإذا صبر واحتسب عوض عن كل ذلك بغير حساب ...إن الصبرلهو ثمن الجزاء لكن هذا الصبر نفسه من عند الله :
المفارقة في الآية غريبة حقا : حزب المرء هم دائما أولياؤه وأنصاره ومحبيه، ولكي يجازيهم على الولاء والنصرة والمحبة يقودهم إلى جهنم ...!
تخيل الشيطان في حملة انتخابية ، يجمع حوله جماهير الناس، ويقوم فيهم خطيبا تحت شعاره الرسمي المرفوع فوقه :صوتوا علي ولكم السعير!!
نعم ، لا يقدم لهم جهنم باسمها الصريح المنفر: ( جهنم) وإنما يقدمها باسم خلاب : ( متع الحياة الدنيا وشهواتها) ...هما اسمان متقابلان في الدلالة ولكن مترادفان في المآل...
قال صلى الله عليه وسلم :"حفت النار بالشهوات"
لكن الأدهى في كل هذا أن الشيطان لا يملك حبة خردل في الكون ، والمتع التي يغري بها الإنسان لا يعطيها إياه وإنما يشتريها الإنسان بماله وجهده وكده...فلو كان للشيطان ثروة لكان خطره عظيما جدا على الإنسان المعروف بضعفه وجهله ...فيقول له مثلا :اتبعني ولك هذه الضيعة ، تولني أنصبك ملكا على هذه المدينة ، خذ كيس الدنانيرهذا وامدحني...
ولا شك أن الإغراء بما هو شاخص ملموس لا يقاوم خاصة في زمن الشدة....لكن- والحمد لله – لا يملك الشيطان شيئا كل ما في يده وعود وأمنيات:
ولو قال الإنسان للشيطان : هل لي من ضمانات على هذه الوعود! فلن يقدم له الشيطان إلا وعدا جديدا : يعده بالضمانات على الوعود السابقة!!
لنلخص الآن صفقة الشيطان:
1- يشتري منك نفسك لتكون معه في جهنم.
2- الشيطان لا يملك شيئا فلا يدفع لك ثمن البضاعة بل أنت نفسك تدفع الثمن ( يغريك بشرب الخمر لكن لا يعطيها لك ، وإنما أنت تشتريها بمالك الذي حصلت عليه بعرق جبينك!)
3- لا يعطيك إلا وعودا وهو الكذوب....( قارن بوعد الله : وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ )
يمكن قراءة البر بالوالدة في خطبة المسيح عليه السلام ضمن سياقين :
أولا ضمن سياق تشريعي وهو الظاهر
ثانيا ضمن سياق تقريعي وهو خفي
1-
كلام المسيح قاله في المهد فله مقصدان:
- الأول تبرئة أمه من التهم التي يلفقها اليهود...وهنا يكون مجرد التكلم وافيا بالمقصود بقطع النظر عن محتوى الكلام...(لأن تكلم الوليد في المهد لا تقل غرابة عن تحويل العصا حية)
- الثاني قطع الطريق على كل مذهب باطل قد يتأسس على هذه الولادة الخارقة (أو يتذرع بها) فكان أول ما نطق به المسيح في المهد:
" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ"
تعريضا بما سيقوله النصارى فيما بعد عن طبيعة المسيح ......وقوله:
" آتَانِيَ الْكِتَابَ"
تعريضا بما سينكره اليهود من نبوته ورسالته -عليه السلام-...
ثم أشار بعد ذلك إلى بعض شريعته يثبت بها أنه ليس بدعا ممن سبقه من الأنبياء والمرسلين ، كالصلاة والزكاة والبر بالوالدين ...
2-
لكن في قوله "برا بوالدتي" أمرا آخر أخفى ،هو التبكيت والتقريع لكتبة الأناجيل ونساخها .....فمما يتعجب منه من أحوال النصارى أنهم يصفون المسيح بالرحمة والرقة والمحبة (بل يجعلون هذه الصفات عناوين لدينهم كله...) فالمسيح يبدو خافضا جناحه للجميع: للمومسات والأراذل والأخفاض والضعاف ...
ولكنك تعجب إذ تجد ضمن لائحة المبعدين عن هذه المعاملة شخصا غير متوقع ،إنها.........أمه!!!!
(ليس لمريم حضور كبير في الأناجيل ، وهذه بعض المواقف القليلة التي ذكرها الانجيليون جمعت المسيح وأمه)
لعل الفساق والفجار لا يخاطبون أمهاتهم بمثل هذه الغلظة "يَا امْرَأَةُ" ! لكن الضالين لا يعقلون، فيجعلون مسيحهم أكثر لطفا وأدبا مع المومس من أمه الطاهرة!!