توقيعات على آيات

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
590
مستوى التفاعل
25
النقاط
28
توقيعات على آيات

1-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد : 1]
مطلع من الغرابة بمكان....
قد لا يكون له نظير في كلام الناس - بليغهم وغيربليغ-....فليس من المتوقع أن يفتتح المتكلم خطابه بالاسم الموصول..على فرض أن للاسم الموصول-غالبا- وظيفة تداولية إحالية ، كالضمير واسم الاشارة، تستوجب مذكورا من قبل...
لكن الطريف في هذه الغرابة نفسها أنها تصبح أثرا بعد عين لو جعلنا قبل الموصول "إن"....عندئذ يعود الاستهلال شائعا ..وقد ورد هذا التعبيرعينه مؤكدا في السورة مرتين:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد : 32]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد : 34]
لكن القرآن المعجز اختار حذف المؤكد في المفتتح فجاء التفرد ،وجاءت الغرابة ،وجاء الابداع !!!
 
2-
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر : 53]

ما سر "قُلْ" هذه المتصدرة للآية...؟
لمَ لم يخاطب الرحمان عباده مباشرة فجعل رسوله واسطة في الخطاب؟
لعل الله أراد أن يجعل لرسوله نصيبا من حب العباد فشرفه بتبليغ أرجى آية في التنزيل –عند كثير من أهل العلم-:
فنحب الرحمان لأنه غفور غفر....
ونحب الرسول لأنه بشير بشر!!!
والله أعلم.
 
3-
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...[آل عمران : 110]
كانت مدحا عظيما في حق السلف...لكني أخشى أن تكون رثاء أليما في حقنا- نحن الخلف-
 
4- طرفة ونادرة

النحل ،النمل ،العنكبوت
أسماء ثلاث سور من التنزيل...
لكن ، من عجيب الاتفاقات، أني اطلعت على نص من أدب الأمثال لرائد النهضة الفكرية الفيلسوف "فرانسيس بيكون" يلخص فيه الاتجاهات الفلسفية والمناهج الفكرية جاعلا من الحشرات الثلاث التجسيد الرمزي لكل مذاهب الناس :
فأما النملة فتمثل المذهب التجريبي الامبريقي ، لأنها تكتفي بالجمع والتخزين ثم استهلاك ما جمعت وخزنت...
وأما العنكبوت فتمثل المذهب الوثوقي الدوغمائي الذاتي ، فهي تنسج انطلاقا من افرازاتها الداخلية فقط ولا شأن لها بما هو موضوعي خارجي...
وأما النحلة فهي الفيلسوفة الحقة...توسطت المنهجين المتطرفين وجمعت الحسنيين :أخذت مادتها من الخارج من الشجر والزهر، وحولته بفنها الذاتي الخاص بها إلى منتوج مركب من الذاتي والموضوعي...!
فتأمل!
 
5-
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان : 2]
استوفت الآية كل أنواع العلل:
  1. العلة الفاعلة: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ...
  2. العلة المادية : مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ...
  3. العلة الغائية : نَبْتَلِيهِ......
  4. العلة الصورية : فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
 
6-

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ : 40]

كلمة تُرَابًا تشع بأربع معان على الأقل:
كنايتان
استعارة
وحقيقة
1- احتمال أن يتمنى هذا الخاسرألا يكون قد خلق أصلا...فهنا كناية عن النشأة الأولى وتمني لو ظل ترابا فلم يخلقه الله منه إنسانا مكلفا.
2- احتمال أن يتمنى هذا الخاسرألا يكون قد بعث ....فبات ترابا في قبره ثم أصبح ترابا ،فلا بعث عليه ولا نشور..فهنا كناية عن النشأة الثانية.
3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: " يَقْضِي اللهُ بَيْنَ خَلْقِهِ , الْجِنِّ , وَالإِنْسِ , وَالْبَهَائِمِ، وَإِنَّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الْجَمَّاءَ مِنَ الْقَرْنَاءِ , حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ تَبِعَةً عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأُخْرَى قَالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا .
هذا الوجه أشرف وجوه تفسير الآية ...فهو تفسير نبوي عزيز لا يوصل إليه لا بالعقل ولا بالبلاغة...
4- يحتمل أن هذا الكافر قد أدرك ان غروره قد أرداه...وأن تكبره عن الخالق والمخلوق أورده الخسران والهلاك ، فيتمنى لوكان ترابا تدوسه الأقدام ،بدلا من العزة بالاثم والتجبر على الخلق.
 
7-

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل : 30]
ألم تر كيف ردت البسملة على جميع ملل أهل الأرض من الكافرين والمشركين وأهل الكتاب...
إنه باسم الله الرحمن الرحيم...
ولئن أصخت السمع قليلا ،ولبرهة، لأضجرتك هذه الأصوات المنكرة تتعالى في كل مكان من أرض الله :
باسم الجمهورية
باسم الثورة
باسم الشعب
باسم الملك....
وغيرها من أسماء الأنداد...
وما هو إلا باسم الله الرحمن الرحيم...
أما النصارى فقد زوروا بسملة سليمان ،بسملة الإسلام...فجعلوها شركا بواحا فقالوا
باسم الآب والابن والروح القدس...
وما هو إلا باسم الله الرحمن الرحيم... ثلاثة أسماء علية لا ثلاثة أقانيم مفتراة..
أما اليهود فقد جعلوا من الرحمن الرحيم ربا دمويا ،ربا عسكريا ،مزمجرا مخيفا ،( اقرؤا إن شئتم ما كتبت أيديهم في سفر عاموس)
وما هو إلا باسم الله الرحمن الرحيم...
أفلا نحسن الظن بربنا وهو يذكرنا برحمته مرتين عند كل أمر ذي بال!!!
 
8-
الفجر، الليل ،الضحى،العصر..
أربع سورأقسم الله في مطلعها بأربع لحظات من اليوم...وجعل من اسم اللحظة الزمنية المقسم بها عنوانا للسورة...وجاء ترتيبها المصحفي على غيرالترتيب الزمني فلم تأت "الضحى" بعد "الفجر" ولا "الليل" بعد "العصر"....وإنما جاء الترتيب معنويا نفسيا:
فالفجر بداية
والليل نهاية
والضحى نهاية البداية
والعصر بداية النهاية..
فتأمل!!
 
9-

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان : 64]
عجائب بلاغة القرآن لا تنقضي!
كان المتوقع أن يتقدم القيام على السجود وفاء بحق الترتيب الزمني والطبعي والشرعي جميعا...
لكن القرآن أبى كل ذلك...وفاء بحق المقام!
ففعل "يَبِيتُونَ "يفيد الاستدامة....فعباد الرحمن هؤلاء لا ينامون ليلهم ،بل يجعلونه كله للصلاة لربهم ولكي يجسد القرآن هذه الاستدامة قدم السجود على القيام...فالذهن عندما يقرأ "سُجَّدًا" لا بد أن يستحضر-لزاما- ما كان من قبل: وهو القيام والركوع ، وعندما يقرأ "وَقِيَامًا" لا بد أن يستحضر-لزاما- ما سيكون من بعد: وهو الركوع والسجود...(نقول لزاما لأن القيام هنا بالمعنى الشرعي أي القيام في الصلاة لا بالمعنى اللغوي مثل القيام في السوق...)
الذهن يعي فعلا حاضرا له ماض وله مستقبل...أي فعلا يمتد في الأزمنة الثلاث...وكذلك يجسد التنزيل الاستغراق والاستدامة...ولو قدم القيام على السجود لفقد الذهن تلك الحركية كلها فلا ماض ولا مستقبل إنما هوبدء للصلاة وانتهاؤها...فليتأمل!
 
10-

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة : 284]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران : 29]
ما سرتقديم الابداء على الاخفاء في آية البقرة ولماذا العكس في آية آل عمران..
لعل تأمل جواب الشرط يهدي إلى الكشف عن بعض السر....
في آية البقرة ربط الابداء والاخفاء بالمحاسبة...
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ...
فقدم الابداء لغلظه...
في آية آل عمران ربط الابداء والاخفاء بالعلم...ولا شك أن العلم بالأخفى أدل على سعة العلم ودقته من العلم بالأظهر....لذلك بدأ بذكر الاخفاء.
سبحان الله... لكل مقام مقال!
 
11-
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف : 39]

"الْوَاحِدُ الْقَهَّار"
هذه التركيبة الثنائية السنية الحسنى تنفرد في القرآن بخصائص ثلاث:
- عدم الانفكاك... فلا يرد الاسم منهما منفردا
- عدم الائتلاف مع غيرها من الاسماء.
- الثبات على ترتيب واحد...
فاسمه الغفور- على سبيل المقارنة - قد يأتلف مع اسمه "العزيز":
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك : 2]
ومع اسمه "الودود":
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج : 14]
وأكثروروده مع اسمه "الرحيم" متقدما عليه إلا في مطلع سورة سبأ:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ : 2]
لكن "الواحد القهار" ثابتة في التركيب والترتيب...
قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد : 16]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم : 48]
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ص : 65]
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[الزمر : 4]
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : 16]

فلماذا؟

لعل السرالبلاغي في ذلك – والله أعلم- موصول بمفهوم الاحتراس...
ف"الواحد" ،عند استحضار"الجماعة" بإزائه، قد تتوهم النفس الضعف فيه والقوة فيها...ولتجدن الباحث عن العزة والسلامة أميل بطبعه إلى الركون إلى التحالفات والجماعات....
وللإجهاز على هذا التوهم الجبلي المحتمل جاء اسم "القهار"شافعا لاسمه "الواحد" تاليا له...كأن المعنى المقدر:
نعم ،إنه واحد لكنه قهار!

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف : 39]
لقد قيد يوسف عليه السلام اسم "ارباب" بصفة "متفرقون" احتراسا من الايهام الذي سبق ذكره...على اعتبارالتفرقة من أصول الضعف وذهاب الريح ،فتلغي توهم القوة من صيغة الجمع...و جاءت صفة القهار لتأكيد الطباق مع صفة "متفرقون" من وجوه :
- التفرق ضعف والقهر قوة..
- متفرقون صيغة فاعل والقهارصيغة مبالغة..
- متفرقون صفة لزوم لا تتجاوز الذات الموصوفة ، أما القهار فهي متعدية إذ لا بد من وجود مقهورين تحتها...
والله أعلم.
 
12-

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة : 8]
نحن هنا بصدد البلاغة العالية للمفارقة....وأي تصوير أبلغ للمفارقة عندما يكون الفرار من الشيء هو عينه الفرار إليه...

1- هنا جملة اسمية كبرى موسومة بعلامة التوكيد ..قد دخل التوكيد في الجزئين:
فالمركب الابتدائي مسور بأداة التوكيد "إِنَّ":
إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ
والمركب الخبري مسور كذلك بالأداة نفسها
فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ...
والفاء دالة على تضمن الموصول معنى الشرط والجزاء ،قال الزجاج :كأنه قيل إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره فإنه ملاقيكم...
هذا التوجيه أفضل من اعتبار الفاء زائدة...وأفضل بكثير من اعتبارها استئنافية على تقدير أن الموت هو الشيء الذي تفرون منه، وهو معنى غير بليغ ،فهؤلاء يفرون من الموت فلا يحتاجون لإخبارهم بأن الموت هو الشيء الذي يفرون منه !
2- التأكيد لمعنى المفارقة....هذا وقد درج أهل البلاغة التقليدية على تخصيص التأكيد بعلاقة الذهن بالمعلومة فكان لهم التقسيم الثلاثي المشهورللخبر(ابتدائي،طلبي،انكاري) والصحيح أن التأكيد أعم
فقد يكون تأكيدا للموقف أو الوضع أو المقصد...ففي الآية توكيد لصورة المفارقة وليس للمعلومة فقط.
3- يقتضي القياس أن يقال:"فإنه مدرككم" بدلا من "فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ" ولكن عبارة القرآن رفعت البلاغة إلى أوجها فقد أنشأت حزمة من المعاني والأحاسيس المتداخلة... منها
المفارقة
المفاجأة
الصدمة
الذهول
الخيبة
أ-كيف سيكون حال من هو متأكد أن العدو خلفه فإذا هو أمامه...(والأمامية متضمنة في " مُلَاقِيكُمْ " قال في المقاييس: وَالْأَصْلُ الْآخَرُ اللِّقَاءُ: الْمُلَاقَاةُ وَتَوَافِي الِاثْنَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ...
وقال في اللسان وَتَقُولُ: لاقَيْتُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. ولاقَيْتُ بَيْنَ طَرَفَيْ قَضِيبٍ أَي حَنَيْته حَتَّى تَلَاقَيَا والتَقَيَا. وكلُّ شيءٍ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا أَو صَادَفَهُ فَقَدْ لقِيَه مِنَ الأَشياء كُلِّهَا...)
ب- كيف سيكون حال من هو متأكد أن كل خطوة يخطوها تبعده عن الموت...فتراه يجتهد كل الاجتهاد ويسرع كل السرعة ويتحمل كل التحمل....ثم..." جري التاعس على سعد الناعس"!
ج- كيف سيكون حال من استقصى كل الأوضاع الممكنة فما نطقت إلا بهلاكه.
فإن وقف أدركه الموت...
ومحال أن يرجع القهقرى فهذا انتحار...
والفرار يمينا أوشمالا لا يجعل المسافة أكبر مما لوكان التوجه إلى الأمام..
والتوجه إلى الأمام هو بالضبط ما يريده الموت لأنه متربص هناك...
4- جعل الفعل في جنبهم (تَفِرُّونَ) وجعل الوصف في جنبه (مُلَاقِيكُمْ )
الفعل المضارع دال على الحركة المتجددة...فليس فرارهم من الموت ثابت لهم في نومهم ويقظتهم وأكلهم ولعبهم...وفي كل أحوالهم...بل ينشأ حينا بعد حين...كأن يدعوا إلى الجهاد مثلا...لكن صفة الملاقاة ثابتة للموت ومتأصلة فيه ومقومة له...فكأنه ما خلق ألا لملاقاة القوم.
 
13-
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس ]

أسلوب الالتفات من أجل بلاغة الملاطفة...فلو جاء المطلع على مقتضى القياس بضمائرالخطاب (عبست وتوليت أن جاءك... ") لكان توبيخ وتقريع...
هذا معروف...لكني أنبه هنا على نكتة :
لقد انقطع الاسترسال في الالتفات سريعا (لم يقل "وما يدريه" بعد..) وإلا لتحولت الملاطفة إلى الإعراض وهو نقيضها...!
فانظر إلى سر البلاغة وكم هي شبيهة بالكيمياء :
كل شيء في المستحضربقدر: قدر فيه ترياق ،فإن زدت كان سما ناقعا...!
 
14-
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم : 5]

هذا التذييل جاء في مواضع أخرى من التنزيل:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان : 31]
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ : 19]
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى : 33]

فلم الجمع؟
ولم الترتيب؟
أماالجمع فلأن الوصفين يستغرقان كل أحوال الإنسان، بدلالة اللزوم....
مع بيان التكليف الشرعي المطلوب في كل هذه الأحوال، بدلالة المطابقة....

وبرهان الاستغراق أن التدفق الشعوري للإنسان ( أو الديمومة الداخلية) لا يخلو:
إما أن تكون اللحظة الشعورية مشوبة بالألم أو لا...
فإن كان الأول تعين الصبر
وإن كان الثاني تعين الشكر...
وليس ثمة ثالث...
( وعلى تقدير وجود حال مركبة ، تعين الجمع بين الصبر والشكر، فلا خروج عن الوصفين أبدا)
أما تقديم الصبر على الشكر فلعله من باب تقديم الأصل على الفرع لأن الأنسان خلق للابتلاء ووجوده الأرضي لا ينفك عن الشقاء:
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه : 117]
وتقديم الصبر على الشكرمتسق مع تقديم العسر على اليسر،
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح : 5]
الراجح أن المعية هنا للتعاقب لا للتجاور...ونزل التعاقب منزلة التجاورتنبيها على شدة الالتصاق..
ولا يصح تغيير الترتيب فيقال إن بعد اليسرعسرا...فإن صح ذلك في الوجود (فكثيرا ما ينتقل الانسان من اليسر إلى العسر) فقد لا يصح في العبادة المثلى...فوجود الانسان في العسرالاصلي يستتبعه عبادات حسنة مثل اللجوء إلى الله والتضرع إليه وترقب الفرج....وهذا كله محمود ،أما ترقب العسر بعد اليسرفقد يكون محمودا إن كان من باب الخوف من زوال النعمة، وعدم الاطمئنان بالدنيا ...وقد يكون مذموما إن كان من باب سوء الظن بالله، والعياذ بالله!
 
15-

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام : 44]

تركيب الآية يشعربتلاحق مراحل (أومسارحالات وأوضاع) :
فالرابطة "لما" دالة على سابق ولاحق،
وتركيب " حتى إذا" دال على أوضاع ثلاثة :وضع مستصحب تنهيه "حتى"،وضع جديد تدشنه "إذا"،ووضع جوابي ل"إذا" ...فالحاصل خمسة أوضاع متلاحقة مبينة في الأفعال الخمسة:
نسوا- ذكروا- فتحنا عليهم – فرحوا – أخذناهم...
فالقوم جاءهم التذكيرأولا
فنسوا هذا التذكيرثانيا
ففتح الله عليهم ابواب كل شيء استدراجا ثالثا
وتمادى القوم في الغي والضلال بالفرح والبطررابعا
ثم جاءهم العذاب غيرالمتوقع خامسا وأخيرا..
لكنها في الواقع ثمان مراحل لا خمس!!
ذلك لأن التذكيريقتضي أن يكون هو نفسه رابع أربع...نستقصيها بالتراجع كما يلي:
التذكيريقتضي وجود نسيان سابق فلا يذكر إلا الغافل والناسي...
والنسيان السابق يقتضي وجود علم قبله (فانظر إلى دلالة الاقتضاء المركب)!!
وهذا العلم ليس أصيلا في الإنسان بل هوطارئ عليه يقتضي وجود جهل أصلي سابق:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل : 78]
فلتكن الخلاصة أن الرحمن لم يأخذ القوم بالاستئصال إلا بعد سبع مراحل:
  1. خلقهم جاهلين
  2. وأنعم عليهم بالرسل يبلغونهم العلم...
  3. فنسوا هذا العلم أو تناسوه فاستوجب النسيان العذاب وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : 15]
  4. لكن الرحمن أمهلهم ومنح لهم فرصة أخرى فذكرهم بما نسوا..
  5. لم ينسخ التذكيرالنسيان بل إن النسيان نسخ التذكيرنفسه..
  6. فاستدرجهم بالنعم وتزيين الدنيا مع بقاء احتمال العودة ..
  7. لكنهم تمادوا وتلقوا النعم بالبطر...
  8. فكان أخذ العزيزالمقتدر.
 
16-
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر : 1]

زعم ابن عاشورأن صيغة المضي يراد بها الاستقبال ، فقال:
فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ قَدَّرَهُ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1]

غيرأنه لم يقدم تعليلا لهذا التوجيه، وهو مطالب به بالضرورة ،على اعتبار أن الظاهر أصل وكل عدول عن الاصل مستوجب للمساءلة...ونحن لا نرى مانعا من دخول الكوثر في حيازة النبي الآن وقبل القيامة ،إلا أن تحوم على المطلب ظلال فكرة بعض ائمة المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن الجنة والنار غير مخلوقتين الآن لعدم الحاجة إليهما قبل القيامة، وخلق ما لا يحتاج إليه عبث في زعمهم...ولو سلمنا جدلا بما قالوا فإن الحوض وضعه مختلف (قال ابن حجر: الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر، لكونه يُمد منه) ذلك لأن الحوض إذا استلمه النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في ملكيته فعلا حق له أن يتصرف فيه، فيعد من يشاء بالشرب منه ويتوعد من يشاء بالحرمان منه...ولا يقال أن وعد الله في حكم الواقع فلا فرق بين الوعد والاستلام لأنا نقول إن النبي عندما يعد متبعيه بالشرب من حوضه فهو يعدهم بالناجز وهذا – نفسيا - أقوى من الوعد بالموعود، فجبلة الانسان تميل إلى الاطمئنان إلى وعد من يملك أكثرمن الاطمئنان إلى وعد من سيملك...أما بلاغيا فالفرق جلي فرب العزة سبحانه وتعالى قد يعد بأمر في موضع ويقسم على وقوعه في موضع آخر،لا مراعاة للواقع والوقوع ولكن مراعاة للأثر المعنوي في نفسية المتلقي.والله أعلم.


ملاحظة
لا ادري لم يحذف البرنامج بإصراركل صيغ الثناء على الله والصلاة على نبيه...
 
17-

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن : 3]
عبارة "إِلَيْهِ الْمَصِيرُ" مفتوحة الدلالة متسعة المعنى تخاطب المتلقي بحسب شأنه:
  1. فإن كان من الشاكين فهي شهادة بالبعث وإعلام بالنشور.
  2. وإن كان من الطغاة المجرمين فهي إنذار شديد.
  3. وإن كان من المتكالبين على الحياة الدنيا وزهرتها فهي تذكيربانقطاع كل ذلك ..
  4. وإن كان من المصابين المبتلين الصابرين فهي عزاء وسلوان .
  5. وإن كان من الصالحين فهي بشرى بلقاء الأحبة ....وأي بشرى!
 
18-

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طه : 39]
هنا مأموران:
عاقل وغير عاقل
العاقل أم موسى، مأمورة بالقذف
غير العاقل اليم ،مأمور بالإلقاء...

والمأمور به بالنظرإلى العاقل هو أيضا نوعان
معقول وغير معقول...
فالأمر المعقول هو الإرضاع المذكورفي سورة القصص:" وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ..."
أما الأمر غير المعقول فهو القذف بالوليد موسى في اليم نشدانا للنجاة!!
الأمربالارضاع موافق للغريزة ،والجبلة البشرية، والعادة، والتوقع، والعرف....
لكن الأمربالقذف صادم لكل ما ذكر...وأقل ما يوصف به - في التقييم البشري - أنه ضرب من الجنون !
ثم يصدم المتلقي مرة أخرى بقسوة الحقل المعجمي المستعمل فلم يقل" ضعيه في التابوت" - مثلا- بل "اقذفيه في التابوت" وفعل القذف لا ينفك عن معنى الشدة والقوة ...وتكررفعل القذف في سياق أدهى وأخطر : فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ....
والعجيب أن تتلقى الأم المكلومة أمرين بقذف وليدها المولود توا وقد تقرر عند الناس أن الوليد البشري هوأضعف مولود في عالم الحيوان....
ثم يأتي بعدها فعل ألقى "فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ " وهو أشد من "وضع" أو "أوصل"....
هي بلاغة القرآن العالية!
فلا يصح بلاغيا مخاطبة الأم إلا بمثل ما ورد في الآية....ولا يطمئن قلبها- وهو مقتضى المقام- إلا ذلك الحقل المعجمي القاسي....فلو قيل لها مثلا "ضعيه برفق في التابوت" لتوهمت أن رضيعها ليس في مأمن وأن عليها أخذ كل الاحتياط كي لا يصاب بأذى ومن وجوه الاحتياط الترفق والتلطف بجسد الوليد...
أما أن الله قد خاطبها بالقذف والإلقاء فأي خوف يبقى بعد ذاك...!
الوليد محفوظ مهما فعل به ولو ألقي به في اللجة...!
 
19-

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 130]
ليس نظرنا في معنى الآية ولكن في موقعها...
فالظاهر أنها مفصولة عن السياق لأن ما قبلها وما بعدها تقرير عن يوم "أحد"..وإدماج مسألة من المعاملات في غضون الحديث عن الغزوة غير واضح..
وقد حاول بعض أهل التفسيرالمتقدمين افتراض تناسب بين المدمج والمدمج فيه..
قال ابن عطية:
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد» ، ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا...
قال الرازي:
اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِي أَمْرِ الْجِهَادِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا....
قال القفال:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا أَنْفَقُوا عَلَى تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا بِسَبَبِ الرِّبَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا حَتَّى يَجْمَعُوا الْمَالَ وَيُنْفِقُوهُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ...
وقال ابن عرفة:
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ وَعِيدَ الْكُفَّارِ عَقَّبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ لَا يَخُصُّهُمْ بَلْ يَتَنَاوَلُ الْعُصَاةَ، وَذَكَرَ أَحَدَ صُوَرِ الْعِصْيَانِ وَهِيَ أَكْلُ الرِّبَا.
وذهب سيد قطب - من المعاصرين- إلى أن التناسب حاصل بسبب من " الوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، وفي كل جانب من جوانب نشاطها. ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله. والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق. ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب، والسيطرة على الأهواء والشهوات، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة.. فكلها قريب من قريب.."

قلت:
لكن هذا خلط بين الوجود والبلاغة....فالبحث في الترابط والقرابة ينبغي أن يلحظ فيهما "الذكر" لا "الوقوع"....وتقرير وحدة الشريعة واتحاد المصدر والهدف تحصيل حاصل لا يصلح لتعليل بلاغي!

أما ابن عاشور فبعد أن ساق الأقوال وضعف قول القفال وابن عرفة قال: وَعِنْدِي بادىء ذِي بَدْءٍ أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى اطِّرَادِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ مُدَّةَ نُزُولِ السُّورَةِ قَابِلَةٌ، لِأَنْ تَحْدُثَ فِي خِلَالِهَا حَوَادِثُ يَنْزِلُ فِيهَا قُرْآنٌ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ السُّورَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، فَتَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا فَكُتِبَتْ هُنَا وَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ إِذْ هُوَ مُلْحَقٌ إِلْحَاقًا بِالْكَلَامِ.

قلت:

لا بد من وجود مناسبة....وعدم العلم بها ليس دليلا على العدم....وليس من الضروري أن تكون المناسبة موضوعية...فقد تكون المناسبة لاعتبارات أخرى...فالباحثون في النصوص الأدبية والفنية - مثلا- يميزون بين أنواع من الوحدات فقد تكون الوحدة عضوية أوموضوعية أونفسية....

ونرى استحباب استبدال مفهوم "الإحكام" بمفهوم "التناسب" لسببين:
- الإحكام مصطلح قرآني لا غبار عليه..
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود : 1]
- الإحكام أعم من التناسب...فقد لا تلحظ المناسبة الموضوعية بين آيتين متجاورتين ولكن لا مناص من افتراض حكمة ،علمها من علمها وجهلها من جهلها! فالقرآن حكيم كله محكم كله....والحكمة كامنة داخل معنى الآية وكامنة في مجاورتها لآية أخرى...فإذا قبلنا عن مضض قول ابن عاشور:
"وَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ إِذْ هُوَ مُلْحَقٌ إِلْحَاقًا بِالْكَلَامِ...." فلا يمكن بحال أن يقبل كلامه لو جعل كلمة "حكمة" عوض كلمة "مناسبة"....!
هذا ، ونحن نرى أن آية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 130]
متصلة موضوعيا بمحيطها الحربي وليست من الاعتراض ولا من الاستطراد في شيء..حسبنا أن نستحضرقوله تعالى-والقرآن يبين نفسه بنفسه - :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة : 279]
فالله قد أعلن الحرب على المتعامل بالربا....ومجيء النهي عن أكل الربا في غضون الحديث عن غزوة "أحد" يسمو إلى ذروة بلاغة الحجاج...
ويمكن صياغة الوجه الحجاجي على النحو التالي:
انتم خرجتم تحاربون المشركين...ولا نصر لكم إلا من عند الله...فلا بد من استنصاره..لكنكم تتعاملون بالربا فالله يحاربكم لهذا السبب ، فكيف يكون الله محاربا معكم وهو في الوقت ذاته محارب لكم .....أفلا تعقلون!!!
 
20-

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]

اضطربت أقوال المفسرين في دلالة اللام...وقد لخص الشوكاني هذا الاضطراب في عرضه لتأويلاتهم فقال:
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ، يَعْنِي الْمُبَرِّدَ، عَنِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ فَقَالَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهَا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إِلَى الْمَغْفِرَةِ شَيْءٌ حَادِثٌ وَاقِعٌ حَسُنَ مَعْنَى كَيْ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْفَتْحُ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّ اللَّامَ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لِاجْتِمَاعِ مَا عُدِّدَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْحَ مَكَّةَ وَنَصَرْنَاكَ عَلَى عَدُوِّكَ لِنَجْمَعَ لَكَ بَيْنَ عِزِّ الدَّارَيْنِ، وَأَعْرَاضِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَإِنَّ اللَّامَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفَتْحِ. فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلِّلَةً؟
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَوْجِيهِ التَّعْلِيلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ التَّعْرِيفُ بِالْمَغْفِرَةِ تقديره: إنا فتحنا لك لنعرف أَنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ مَعْصُومٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ فَتَحَ لَكَ لِكَيْ يَجْعَلَ الْفَتْحُ عَلَامَةً لِغُفْرَانِهِ لَكَ. فَكَأَنَّهَا لَامُ الصَّيْرُورَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تُكْسَرُ وَلَا يُنْصَبُ بِهَا.
(انتهى عرض الشوكاني وتعليقه..)
والتحقيق أن "اللام" للتعليل....
وأن العلاقة بين الفتح والمغفرة علاقة سببية لا غائية..كما زعم ابن عطية.
وأن الارتباط بينهما إيجادي لا معرفي كما زعم الرازي...
واستشكال الإيجاد السببي سيزول لو فعّلنا قاعدة تفسير القرآن للقرآن...فما أجمل في موضع بين في موضع ،وما طوي في مكان نشر في مكان...ولا ريب أن ملاحظة العلاقات العمودية بين الآيات نافعة في التفسير وقمينة بدفع كثير من الإشكالات...
هذا ،وإن لمطلع سورة "الفتح" ارتباطا عموديا ملحوظا بسورة "النصر"، ففي كلا الموضعين نقف على تلازم بين الفتح والنصر والمغفرة:
- إنا فتحنا.........ليغفر
- إذا جاء نصر الله والفتح.........واستغفره.
فضلا عن التناسب بين اسمي السورتين الفتح/النصر...
وهذا الارتباط ملحوظ عند ابن جرير فاستحضره لترجيح مختاره في التأويل كما أومأ إليه البغوي والجصاص والقرطبي.
ونحن نعول على ذا الارتباط لبيان معنى "اللام" والتلازم السببي في مطلع سورة "الفتح" فنقول والله المستعان:
اعلم أن سورة "النصر"مبنية على الافتراض المستقبلي "إذا جاء ...."
أما مطلع الفتح فقد بنيت على التحقق الماضوي"إنا فتحنا... " والفرض المستقبلي متحقق قطعا بدلالة "إذا" الظرفية الشرطية وإلا لاستعملت صنوتها "إن"...
والرسول مأموربالاستغفار....وهو كائن لا محالة لأنه لا يتصور تخلف الرسول عن الامتثال لأمر ربه....
والمغفرة من الله كائنة لا محالة ،لأن الله ما أمرنبيه بالاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر له...فانتظم المعنى على التلازم التالي:
إذا جاء الفتح استغفرت،وإذا استغفرت يغفر الله لك ....
فطويت المقدمة الوسطى على أسلوب الاحتباك..وجاء النظم على ما هو عليه:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر
ف"اللام" للتعليل و"يغفر" معلول للاستغفار المطوي هنا، المنشور في سورة "النصر"...والفتح سبب حقيقي للمغفرة ،لكن على مرتبتين...أو قل هو سبب السبب فحصول الفتح سبب الاستغفار، والاستغفار سبب المغفرة...ومن بدائه العقول أن علة العلة علة....والله أعلم.
 
21-

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص : 42]

1- لنلحظ أولا بلاغة الحذف...
فههنا حوار خالص مباشر طويت فيه الروابط السردية من قبيل قال قلت أجاب ....لقد تجاور القولان بلا فاصل: ففي تعبير"... وَعَذَابٍ ارْكُضْ"
الكلمة الأولى من قول أيوب والموالية من قول ربه...فكأن المقصد البلاغي من وراء ذلك التنبيه على سرعة الاستجابة فما أن انتهى الدعاء حتى بدأ الفرج ، ومثلت الاستجابة آخذة بحجز الشكوى.

2- لنلحظ ثانيا بلاغة الاختزال
فلم يذكر في القول إلا أهم ما يقتضيه المقام : وصفة العلاج ،لا غير...وهذه الوصفة مقتضبة جدا وسهلة جدا- مما يهفو إليه كل مريض- فهي عنصر طبيعي واحد : الماء..... فلا مستحضرات ولا مركبات ولا روزنامة في الاستعمال...
وليس من الغريب أن يكون الماء شفاء، كيف لا وقد جعل الله منه كل شيء حي.!
ولا تفوتنا المناسبة إلا ونبهنا على الوصفين:
مغتسل.. حيث الماء ملامس لظاهر البدن
شراب.... حيث الماء ملامس لباطن البدن.
هذا ، ونحن نزعم أن الله ما نص على هذه الوصفة في قرآن يتلى إلى يوم القيامة إلا وهي عالمية:
اركض واغتسل واشرب...
هي وصفة ثلاثية ربانية جلبت الشفاء لأيوب...ولعل فيها الشفاء لغيره ولمرض غير مرضه...ذكرت في القرآن وهو المنزل فيه شفاء للناس!!

3- لنلحظ ثالثا بلاغة التعيين والحضور
فالوصفة جاهزة حاضرة
هَذَا مُغْتَسَلٌ...
حضور متعين في المكان والزمان مشار إليه بلفظ القريب...

فالوصفة سامقة مثالية لا يتصور وصفة تعلو عليها:
- بسيطة (عنصر فريد)
- طبيعية (ماء)
- سهلة الاستعمال (شرب واغتسال)
- حاضرة (مشار إليه)
-.....ثم - وهذا مسك الاختتام- مجانية !
سبحان الله!!
 
22-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد : 1]

سنسلك منهج المعربين متتبعين الجملة كلمة كلمة ،إلا أن منطلقنا من مضمار البلاغة التداولية لا من مضمار النحو ولا يهمنا من الثاني إلا ما فيه فائدة للأول.

الذين

اختيار الموصول لما فيه من شائبة التعليل...بحيث يأتي الخبر" أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ" متمما للمبتدإ ومعلولا له في الوقت ذاته...فتكون الجملة الواحدة في قوة جملتين تجيب كل واحدة على سؤال تداولي مختلف :
ماذا وقع للذين كفروا؟ - أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ.
ولماذا أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ؟ - لأنهم كقروا.

كفروا- صدوا

تجاور الوصفين(الفعلين) لتحقيق التقابل التكاملي.تقابل ملحوظ على أكثر من وجه:
- الكفر قلبي داخلي ،الصد عملي خارجي.
- الكفرلازم ،الصد متعد (ولا نقصد باللزوم والتعدي الاصطلاح النحوي اللغوي بل نقصد المعنى الوجودي فلزوم "الكفر" معناه تحققه بمجرد وجود الذات ،وتعدي "الصد" معناه استحالة تحققه إلا بشرط وجود ذات ثانية..وبتعبير أوضح يكون المرء كافرا ولو كان وحده في العالم أما الصد فلا يمكن إلا بوجود مصدود واحد على الأقل) .
- الكفر اعتداء على النفس ( جريمة لازمة) ، الصد اعتداء على الغير(جريمة متعدية).

الواو العاطفة

- حاملة لكل معاني التنديد...فهؤلاء جمعوا الشر كله : الداخلي والخارجي ،الاعتقادي والعملي ،الخلقي والمجتمعي.
- منبهة على التلازم الواقعي ( لا المنطقي) بين الكفر والصد فكل كافر صاد عن سبيل الله ،وما ادعاء الليبرالية إلا زور ونفاق...وهذا الأمر ملحوظ في أعرق الأسر الليبرالية في الغرب ، فقد يلحد الشاب فيرون ذلك "ظرفا" ونزوة ، أو تعانق الشابة البوذية فيرونه "موضة" أوخروجا عن السبل المطروقة، لكن إن أسلم أو أسلمت أعلنوا حالة الطوارئ القصوى!

سبيل الله

- مرادف ل ( دين الله) إلا أن السبيل مشربة بمعان إيحائية اضافية...فالسبيل ملزومها السير أي الحركة ، فينبثق معنى جديد: الدين ليس سكونا لكنه دينامية ، والمتدين ليس مقيما لكنه مسافر، والمكلف ليس قاعدا إنما هو ساع...
- اضافة السبيل إلى الله على تقديرين :
الدين من الله ، منزل من عنده.
التوجه إليه، والسبيل موصلة إلبه.

صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

- طوي المفعول به...تنبيها على أن نظر هؤلاء موجه إلى السبيل فقط ، فلا يهمهم عرق ولا جنس ولا ثقافة، كل ذلك غير داخل في الاعتبارو الحسبان ...والشأن كل الشأن ألا يقترب أحد من سبيل الله كائنا من كان...ولذا حذف المفعول الأول إمعانا في التعميم وذكرت السبيل للتبئيرومركزية الانتباه.
- الصد عن السبيل حدث يؤخذ منه بيانيا صورة لفضاء مكاني : فمن السهل تخيل طريق على مدخله شرطة أوعسس أو حراس... يدفعون الناس ويمنعونهم من الاقتراب ...وكلمة "صد" تستلزم جدال قوتين قوة مندفعة وقوة رادعة.
- الصد عن سبيل الله يستهدف طائفة من ثلاث...فالمؤمنون لا يتناولهم الصد ولكن يتناولهم الاخراج مثلا....والكفار المعرضون الغافلون لا يصح في شأنهم الصد لغياب القوة الاندفاعية... فتبقى الطائفة الراغبة في دين الله والمقبلة عليه هي المستهدفة بامتياز...

أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ

ذهب جمهور من المفسرين إلى أن الأعمال مراد بها ما كان للمشركين من وجوه الكرم والنجدة والمروءة وهذا – في تقديري - ضعيف لسببين:
- قلة فائدة هذا المعنى فالأعمال التي لم يرد بها وجه الله ضالة مهما يكن صاحبها ولو كان مسلما مؤمنا ولا تخص الصادين عن سبيل الله .
- أولوية حمل المعنى على الخصوص قبل العموم ...وبناء على هذا المبدأ يكون المراد بالأعمال خصوص أعمال الصادين عن سبيل الله ...وهي أنواع كثيرة يتوسلون بها إلى منع الناس من الاسلام من قبيل الرشوة، والابتزاز، والتهديد ، والوعيد، والمساومة ، والقتال.....هذه الأعمال هي المحكوم عليها بالضلال لا مطلق الأعمال، إنها مقيدة بنسبتها إلى الذين يصدون عن سبيل الله، فلا بد أن تكون أفراد تلك الأعمال موجهة لتلك الغاية...فإكرامهم للضيف في جاهليتهم- مثلا -خارج عن الاعتبارلأنه لم يكن وسيلة من وسائل الصد...
الأعمال الضالة تصوير بياني حسي...قد تثير في المخيال العربي صورة مألوفة للإبل الضالة مثلا...وللبلاغي التقليدي أن يقول هنا استعارة تمثيلية مكنية ويجريها على النحو التالي:
شبهت الأعمال بالإبل الضالة بجامع عدم الاستفادة في الحال والمآل في كل...وحذفت متعلقات الإبل كلها وبقي فعل أضل في الكلام مكنيا عن المحذوف.
والناتج عن كل ذلك حسرة مريرة مزدوجة:
فالمال الذي أنفقه المخذول للصد عن سبيل الله لم يستبقه فيستفيد منه في مآرب أخرى، ولم يفلح في الصد....تماما ،كالناقة الضالة فلا هو مستمتع بلبنها ولحمها لو أبقاها عنده ولا هي وصلت إلى الجهة المتوخاة ....فشأنها الضلال في البيداء!!
 
23-

كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر : 16]


بيان إلهي بديع يكشف عن مفارقات في أحوال الإنسان ، ويسجل سقوطه المخزي :
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين : 5]

الإنسان ما تلقى من الشيطان إلا كلمة واحدة (اكْفُرْ)
فاستجاب له !
وفي المقابل جاءته كلمات (بل كتب) فيها حق ونور فردها على المبلغين الأبرار الأطهار...
وواجههم بالجدال!!
حسنا ...، الجدال من طبعك أيها الإنسان...فما لي أراك قد تخليت عن طبعك أمام الشيطان!!!
عندما قال لك (اكْفُرْ) ، أما كنت تستعمل فلسفتك النظرية فتقول له : ولماذا أكفر؟
أو توظف فلسفتك النقدية ف "تفكك" قوله وتستشف فيه خيوط "المؤامرة" وتستبين منه "البنية العميقة"
أو تستثمر فلسفتك البرجماتية فتقول له : وهل لي مصلحة في الكفر!!!!
ما رأيك ....هل تتوقع أن يتمادى الشيطان – وهو البليد - فيقول لك:" إي نعم لك فيه مصالح جمة منها أن تحشر وتخلد معي في السعير"،أم سوف يدبر وله ضراط!!!!!
 
24-

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران : 191]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
تفصيل للمعنى المجرد المجمل (يذكرون الله في كل أحوالهم) فالاستقصاء هنا لكل أوضاع الانسان فلا يخلو من أن يكون قائما أوقاعدا أو على جنبه ، وليس ثمة وضع طبيعي رابع..ومن فوائد التفصيل:
اولا- التقديم الحسي للمعنى، فالأوضاع الثلاث من حيز مدركات المخيلة ،ومن المعلوم أن النفس تستأنس بالحسيات أكثر وأسرع من ادراكها للمجردات.
ثانيا - من لوازم التفصيل التعداد والترتيب ،وكان في الترتيب ما ينم عن مدح عظيم لهؤلاء الذاكرين المتفكرين...وبيانا لذلك نقول:
اعلم أن ( قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) تحتمل الدلالة على أوضاع جسمية – حركية، فتكون الدلالة حقيقية.
كما تحتمل الدلالة على أوضاع صحية- نفسية، فتكون الدلالة كنائية :
(قياما) كناية عن حالة القوة والعافية والنشاط ، وَ(عَلَى جُنُوبِهِمْ) كناية عن حالة الوهن والمرض والخمول، و(َقُعُودًا) كناية عن الحال المتوسطة...
والمعتاد أن يكون ذكر الله على الجنوب أكثر من ذكره قياما، ففي المرض يضطر الانسان إلى الذكر اضطرارا ، لكنه في القيام قد يكون من الغافلين بسبب انخراطه في العمل والسعي في الرزق ولذا جاء الأمر بالذكر عقب الأمر بالسعي تنبيها على خطورة الانشغال الكامل بطلب الرزق المنتج للغفلة :
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الجمعة : 10]
وبناء على هذه النكتة نفهم سر الترتيب في الأوضاع بالنسبة ل ( أولي الألباب ) فبدأ بحالة القيام التي قد يقل فيها الإنسان عن ذكر الله أو يغفل عنه (وقد تقرر أن أفضل أوقات العبادة هي الأوقات التي لا ينشط فيها الإنسان كصلاة التهجد مثلا) فالذكرعندهم في تزايد.
أما غير أولي الألباب من المسرفين فقد جاء الترتيب في شـأنهم في تناقص إلى أن ينتهي:
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس : 12]
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى نكتة بيانية: العطف جمعا عند أولي الألباب ( الواو) ،والعطف ترديدا عند المسرفين(أو) .

مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
نريد أن نبين سر الارتباط بين الخبر والإنشاء..فالظاهر أن ثمة فجوة دلالية بين العبارتين
فكيف ترتب الدعاء بالوقاية من النار عن ملاحظة نفي الباطل عن خلق الله....؟
والترتب مقطوع به بسبب ( الفاء ) سواء أكانت سببية أم فصيحة.
إن تدبر الآية بتتبع اللوازم سيفضي إلى ذلك الدعاء ضربة لازب...وهذه سبيل ممكنة:
مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا...( دلالة السلب تستلزم دلالة الثبوت) إذن:
- خَلَقْتَ هذا بالحق.
- ما هذا الحق ؟
- السماوات والارض مخلوقة للإنسان.
- ولماذا خلق الانسان؟
- خلق للابتلاء.
- والابتلاء يستلزم الجزاء
- والجزاء إما جنة وإما نار
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
التحم المبدأ بالمنتهى...!
 
25-
أحصيت في سورة مريم خمسة من أنواع الولد :

1- الولد المستحيل أو (الولد – الشتيمة)
وهو الولد المنسوب لله زورا وبهتانا...وجاء ذكره في السورة في موضعين، في معرض تحقيق دعوة المسيح وبيان هويته:
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم : 35]
وفي معرض التنديد بعقيدة الضالين :
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [مريم : 88]
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم : 92]
وسمينا هذا المزعوم (الولد – الشتيمة) استنادا إلى الحديث الصحيح :
قالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابنُ آدَمَ، ولَمْ يَكُنْ له ذلكَ، وشَتَمَنِي، ولَمْ يَكُنْ له ذلكَ؛ فأمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لا أقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كما كانَ، وأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: لي ولَدٌ، فَسُبْحانِي أنْ أتَّخِذَ صاحِبَةً أوْ ولَدًا!

وورد الأمران التكذيب والشتم في سورة مريم، فمن التكذيب:
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم : 66]
ومن الشتم ما سبق.

2- (الولد الآية - الرحمة) وهو ابن مريم . وهو من منظور آخر(الولد - الفضيحة)

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم : 21]
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم : 23]
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم : 28]

3- (الولد – الوريث) وهو ابن زكرياء.

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم : 6]
هي وراثة العلم والنبوة وليست وراثة حطام الدنيا كما يفهم بعض الرعاع..

4- (الولد – العزاء) وهو ابن ابراهيم.

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم : 49]
فالله عوضه عن أبيه وقومه بالذرية الصالحة...فما أن أغلق ما خلفه حتى فتح ما بين يديه.

5- (الولد – الكفروالغرور)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم : 77]

الولد هنا من عالم الافتراض لا من عالم التحقق...وبناء عليه تمكن القسمة الثلاثية :
الولد المستحيل، المنسوب لله.
الولد المتحقق، شبه المستحيل ...وهم أولاد ابراهيم وزكرياء ومريم...
الولد الافتراضي ،غير المتحقق... الذي اعتقد الكافر - من غروره - أنه سيحصل عليه متى شاء.!
 
26-
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف : 123]

أيكون فرعون هو مؤسس" نظرية المؤامرة" ؟
هذه النظرية التي شاعت على كل قلم ولسان في زمننا،واستهوت العقول والقلوب ، ووافقت مزاج الإنسان الباحث دائما عن الغريب والطريف والمدهش والسري. " نظرية المؤامرة" تمنح كل ذلك للهوى البشري....فهي تبوح لك بالأسراروقبل ذلك توقظك من سباتك فتقول:
ما تراه عيانا ليس الحقيقة...
ما تسمعه بأذنك ليس الحقيقة...
ما يقبله الناس من البدهيات ليس الحقيقة...
باختصار كل ما يظهر ليس الحقيقة.
إنما أنت ضحية ل "قوى خفية" عاتية زيفت لك كل مرئي وكل مسموع وكل معتاد....والحقيقة "الحقيقية" أعجب من العجاب!!!
أليس هذا هو قول فرعون بعينه!!
لننظر في المطلب عن كثب:
- فرعون هو صاحب فكرة المبارزة .
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى [طه : 58]

- السحرة متفرقون في البلد وفرعون جامعهم.
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف : 111]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه : 60]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء : 38]

- فرعون "يتآمر" مع السحرة ويغريهم بالمال والحظوة لإسقاط موسى.
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء : 41]
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء : 42]

ثم فجأة ...فجأة ، يصبح كل ما دبره الفرعون وخطط له ونفذه ما هو إلا مسرحية من تدبير موسى والسحرة...لإخراج الناس من أرضهم...!!
لعمر الله ،لقد رفع فرعون نظرية المؤامرة إلى سقفها...كيف لا ومؤامرته على موسى في الظاهر تغدو في الباطن جزءا من مؤامرة موسى على فرعون نفسه..صدق أولا تصدق!!
 
27-

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة : 12]

قدريون في الدنيا وقدريون في الآخرة!
المسألة عندهم مسألة دليل فحسب...
الدليل القوي يوجب الإيمان القوي، و الإيمان القوي يوجب العمل الصالح...
الدليل هنا قوي جدا فهو حسي (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)، نتج عنه إيمان من جنس قوتهِ (إِنَّا مُوقِنُونَ)، والناتج عن كل ذلك: (نَعْمَلْ صَالِحًا)
لكن أليس لله دخل في هذه المتوالية؟ أم هي الرؤية الوضعية الخالصة التي تنسب للسبب قوة فاعلة مستقلة؟
لقد غيب أهم عنصر في المعادلة والقياس : مشيئة الله وإرادته!
فجاء دعاؤهم غير تام ،إذ كان عليهم أن يعطفوا على فعل الإرجاع فعل الإرادة والإذن والمشيئة...فلا شيء يقع بدون ذلك.
الحقيقة هم يعلمون كل ذلك...لكنه منطق اليأس...فاليائس يقول أي شيء...
هم أنفسهم أصحاب هذا الموقف :

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر : 49]

يوما واحدا فقط.....ثم ماذا بعد ، وهو الخلود!
هب الله استجاب لكم فخفف عنكم يوما ، ثم عدتم إلى ما كنتم عليه ، فهل ستطلبون يوما آخر....ثم يوما آخر... .ثم يوما آخر.....لا إلى نهاية!!
هو منطق اليأس...نعوذ بالله من حال أهل النار.
 
28-
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف : 19]

في (اسم الإشارة) سر بديع لم ينتبه إليه المفسرون والمعربون – حسب علمي –
فقد كانت عباراتهم مبينة للوظيفة النحوية لاسم الاشارة فقيل: هي صفة موؤلة بمشتق ، وقيل هي بدل أو عطف بيان..وربطوها بالظرف الحضوري.
قال أبو السعود:
"وصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومهم ذلك"
وقال ابن عاشور:
"وَالْإِشَارَة بِهَذِهِ إِلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ عِنْدَهُمْ"
لكن تعيين المعين كتحصيل الحاصل لا فائدة فيه ، ثم هل كان لأصحاب الكهف- وهم اللاجئون- من الأموال ما قد كثر وتنوع حتى إنهم ليضطرون إلى تمييز قسطا منها بالإشارة والتعيين ، فيكون مفهوم كلامهم حينئذ ابعثوا أحدكم بورقكم هذه لا تلك ! وهذا المفهوم لازم وإلا كان حذف اسم الاشارة متعينا فيقال : (ابعثوا احدكم بورقكم إلى المدينة) من غير تخصيص بالاشارة.
لتحقيق دلالة الإشارة يجدر بنا أن نميز في فن القصة عامة بين مستويين :
- مستوى المحكي
-مستوى الحكي
يندرج ضمن الأول ما اشتملت عليه القصة من أحداث ووقائع وشخصيات في أزمنتها وأمكنتها في إجابة عن السؤال المقدر: ما ذا وقع؟
ويندرج ضمن الثاني كل وسائل الخطاب السردي وآلياته في إجابة عن السؤال المقدر: كيف أخبر المتلقي بما وقع ؟
وبناء على هذا التقسيم ستكون للإشارة دلالتان مختلفتان بحسب المستوى المعتبر:
فعلى مستوى (المحكي) يكون المعنى قريبا مما ذكره أبو السعود : أي أن أحد أصحاب الكهف أخذ قسطا من الورِق ومده لبعض أصحابه ليشتري لهم قوت يومهم فتكون الإشارة دالة على القسط الممدود...
وعلى مستوى( الحكي) تكون الإشارة هَذِهِ تنبيها للمتلقي على الدور الحاسم لتلك النقود في كشف أمر أصحاب الكهف وقصتهم...وهذا ما يسمى في البلاغة السردية (الإرصاد) ومعناها أن يلمح السارد إلى حدث لم يقع بعد بكلمة أو جملة عابرة لا علاقة لها بسياق ذلك الحدث ،إنما وظيفتها الإيحاء للمتلقي باستشراف ما سيحدث..وإذا احتيج إلى مزيد توضيح سنقرب صورة الإرصاد من خلال مقارنتها بما يسمى في البلاغة التقليدية (براعة الاستهلال) حيث يستعمل الشارح في المقدمة - وهي في الغالب حمد لله وثناء عليه – كلمات يورى بها عن فن المتن الذي سيشرحه فيستشرف القارئ موضوع الكتاب من قبل أن يشرع فيه.
هذه النقود، إذن، ستكون لها دلالتان أو وظيفتان:
وظيفة انتفاعية اقتصادية.
ووظيفة علمية تاريخية.
الأولى ملحوظة على مستوى المحكي فلا تكون الورِق إلا وسيلة للتبادل والتعامل، تكمن قيمتها في وزنها فلا خصوصية لها ،على اعتبار أن أي قطعة في العالم مماثلة لها إذا اتحدتا في المادة والوزن...ومن ثم لا نرى للتعيين بالإشارة أهمية هنا.
الثانية ملحوظة على مستوى الحكي...فالقطعة النقدية بالنظر إلى الرموز المنقوشة عليها تدل على زمن وعلى تاريخ ، وتكتسب تبعا لذلك خصوصية وتميز ...وتغدو الإشارة (ورقكم هَذِهِ) ذات قوة تعبيرية عالية تكفي لنشر فصل كامل من القصة طويت في القرآن:

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ...[الكهف : 21]

لم يفصل القرآن في كيفية العثورعليهم لكنه حمل اسم الاشارة إرصادا بذلك...فكأن الخطاب إلى المتدبر على البيان التالي: انتبه جيدا الى الإشارة فقد أخرجت الورق من النفع إلى العلم ، ومن العموم إلى الخصوص وستكون هذه النقود بأعيانها – وليست أية نقود أخرى - واشية بأحوال أصحاب الكهف عندما يطلع الناس عليها فيتساءلون كيف توجد في حوزتهم نقود ضربت منذ أكثر من ثلاثة قرون ويريدون التعامل بها اليوم!! ولن يتركوهم إلا وقد عرفوا سرهم...هذا ذكره المفسرون لكنهم لم يلتفتوا إلى دور اسم الإشارة في هذا البيان.
هذا ، وإن لقصة أصحاب الكهف مقصودا أعظم من مقصود تأمينهم وتوفير الملاذ لهم ، فهي للناس جميعا دليل حسي على أخطر مسألة احتار فيها الناس وضلوا ...أعنى مسألة البعث والمعاد....ولذلك جعل الله الناس يطلعون عليها فضلا عن نجاة أصحاب الكهف من استبداد قومهم...فتعلم أيضا القوة الدلالية لعبارة (إِلَى الْمَدِينَةِ) فألهم الله تعالى أن ينص القائل منهم على ذكر المدينة قبل ذكر الطعام...فالفضاء المزدحم في المدينة وكثرة العيون والآذان ضمان لكشف لغز أصحاب الكهف...فلو لم ينص على المدينة وذكر الطعام وحده لربما افترض أن يشترى المرسل الطعام من أي راع منعزل أوفلاح عابر فتنتهي الحكاية وحتى لو أثارت النقود فضوله فقد لا يمسك بتلابيبه لضعفه أولبعد مكان صاحب السلطان...لكن الأمر ليس كذلك في سوق المدينة!!
...هي بلاغة القرآن !!
 
29-
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف : 36]

قال أهل البلاغة والتفسير: إن في عبارة ( أَعْصِرُ خَمْرًا) مجازا مرسلا علاقته المآلية أو اعتبار ما سيكون...
ونحن نقول هذا باطل وبطلانه من وجوه :

الوجه الأول: أين القرينة؟
جوابهم:
العصر ضغط على الجسم الصلب لإخراج ما فيه من سائل، ولما كانت الخمرسائلة طبعا فمحال عصرها، لما فيه من اجتماع النقيضين ،إذ يفترض أن تكون الخمر سائلة وغير سائلة في وقت واحد...ولما كان العنب جسما صلبا يحتوي على سائل رأيناه أنسب في العبارة لأنه غير غريب عن الكلمة المستعملة مكانه ، فالعنب سيؤول الى خمر، ولا محذور من استعمال أحدهما مكان الآخر في العربية... ( ليس في الكلام العالي فقط بل في الكلام العامي أيضا ، ألا ترى أن الأم تقول لوليدها الصغير "تعال يامهندسي العزيز"...وهي غير كاذبة ولا مخطئة لقد دعت ابنها بما سيكون أو بما تتمنى أن يكون).القرينة المانعة قائمة ،والعلاقة المصححة موجودة فجاز تسمية العنب خمرا.
ردنا عليهم:
قرينتكم وهمية لأنكم لم تعتبروا خصوص المورد...فالخطاب عن رؤيا وليس من شروط ما يراه النائم أن يتقيد بقوانين عالم اليقظة، فعصر المعصورالمحال عندكم جائز في عالم الأحلام ، بل يمكن فيه ما هو أغرب وأبعد.

الوجه الثاني :
لم تقولوا عن البقرات العجاف التي تأكل السمان في رؤيا الملك أنها مجاز...فإن قلتم لقد رأى الملك ذلك حقيقة ،قلنا كذلك الفتى يعصر الخمر حقيقة ، فإن كان هذا لا يعقل فذلك لا يعقل مثله...فإما أن يكون كل حقيقة أو كل مجاز وإلا فهو التحكم المحض.

الوجه الثالث :
يفترض في الفتى صاحب الرؤيا أن يقص رؤياه حرفيا للمعبر( كما يصف المريض حالته للطبيب فلا يعقل أن يستعمل المريض المجازات فيحس بالألم في موضع ويدعيه في مكان مجاور على اعتبار المجاورة علاقة تسوغ المجاز فهو يضل الطبيب وما يضل إلا نفسه!)
فماذا رأى الفتى فعلا:
هل كان يعصرعنبا ،أم كان يعصر خمرا؟
والفرق شاسع بين الأمرين بالنسبة للمؤول...بل قد يكون التباين هنا من قبيل التضاد فعصر العنب قد يؤول بأمر حسن ،أما عصر الخمر(عصر المعصور) فقد يرى فيه جهدا ضائعا ،وعملا غير مجد :الخير في الأول والشر في الثاني...والاستبدال المقبول في البلاغة تضليل في علم تعبير الأحلام!
ولنا في بلاغة القرآن لعبرة فقد قص الملك رؤياه وبعد آيتين فقط تكرر ذكر الرؤيا - مع أن الإيجازهي طريقة القرآن-:
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف : 43]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف : 46]
الرؤيا منقولة حرفيا بلا إجمال، أوتغييرفي الترتيب، أو إظهار بدل إضمار...لأن الرؤيا ينبغي أن تسمع كما رؤيت...والطريف أن هذا الناقل الأمين هو نفسه الفتى الناجي الذي رأى نفسه تعصر خمرا وزعم المفسرون والبلاغيون أنه رأى نفسه تعصر عنبا!!
أليس لمن يرى المجاز كذبا وتحريفا بعض عذر- أحيانا -!
 
30-
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق : 38]

ذكر الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سبعة مواضع!

[الأعراف : 54]
[يونس : 3]
[هود : 7]
[الفرقان : 59]
[السجدة : 4]
[ق : 38]
[الحديد : 4]


فهل يكون الله العليم القديرقد ألهم الناس أن يقيسوا الزمن - خاصة - بالنظام السداسي لا بالنظام العشري كما هو متعارف عليه بينهم في قياس المسافات والمساحات والأحجام وغيرها؟

تأمل:

- عدد الشهور شرعا وعرفا اثنا عشر شهرا (6×2)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [التوبة : 36]

- ألهم الله للناس الساعة وحدة لقياس الزمن فجعلوا اليوم أربع وعشرين ساعة (6×4)

- اليوم ليل ونهار وفي كل اثنتا عشر ساعة (6×2) كما في الحول اثنا عشر شهرا.

- العرف عند الناس أن يجعلوا الليل نصفين فتراهم يذكرون "منتصف الليل" ومنتصف النهار كذلك، فاليوم بالتفصيل (6+6+6+6)

- جعلوا الساعة مكونة من ستين دقيقة...

-جعلوا الدقيقة مكونة من ستين ثانية...
والله أعلم.
 
31-
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف : 13]

لماذا العدول عن" التحميد"إلى "التسبيح"!
الاستواء على الدابة مظهر من مظاهر تكريم بني آدم ،وقد نصت الآية على أن ذلك نعمة تستوجب الشكر بقول اللسان " سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ"
ولكن أليس قول اللسان:"الحمد لله الذي سخر لنا هذا" هو ما يقتضيه المقام؟
أليس الحمد هو الأنسب في سياق ذكر النعمة ؟
فما السر البياني في هذا العدول!
إن الإرشاد إلى التسبيح ينبه على معنى دقيق وعميق في الآية..فليس القصد هو الإشارة إلى نعمة فقط ، وإنما توجيه العقول إلى التفكير في "الوضع الوجودي" العام ...
وضع متصف بالتراتبية وتدرج في طبقية الكائنات..فثمة طبقة أدنى وطبقة أعلى منها..وطبقة مسخرة لطبقة...وطبقة مفتقرة إلى أخرى..
فهذه الدواب-مع أشياء أخرى غيرها- مسخرة لبني آدم ،فلا بد من غائية في الوجود الإنساني..وليست إلا عبادة الخالق...فكان الأمر بالتسبيح تنبيها على تنزيه الرب عن الافتقارإلى خدمة خادم ،وعن الاحتياج إلى عبادة عابد...فكأن تقدير الآية :"هذه الدواب في خدمتكم ولكم فيها متاع وحاجة ، فنزهوا الرب الغني عن الخدمات والحاجات !
فهذه نكتة العدول إلى التسبيح .والله أعلم.
 
32-
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان : 27]

مفهوم اللا-نهاية سهل على العقل المجرد إدراكه فهو كغيره من المفاهيم الرياضية له رمزواستعمال ووظيفة...لكن اللا-نهاية معضلة كبرى على التخيل ومشكلة لا حل لها على التصويرالذهني. وعندما يحاول الذهن تمثيلها لا تكون الحصيلة إلا شعورا بالدوار .. فاللا-نهاية مفتوحة دوما والخيال إذ يتصورها يريد الإحاطة بها فكيف يستقيم للمخيلة أن تحيط بما لا ينفك عن التمدد والاتساع!
باختصارمن المحال تخيل اللا-نهاية...
لننظر الآن كيف قرب القرآن صورة اللا-نهاية بجعل الخيال يدخل في سياحة تكاد لا تنتهي:

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ

رحلة الخيال الأولى جولة في الأرض لرصد كل شجرة فيها..ومن بلاغة القرآن - الدقيقة جدا- استعمال المفرد (شجرة) ولم يستعمل اسم الجنس (شجر) ،ولا الجمع (اشجار) ،لأن إحصاء المجموعة فردا فردا يتطلب زمنا أطول من زمن إحصائها زمرة زمرة، والقرآن يقصد في المقام إشعار المتلقي بفكرة اللا-متناهي فلا يليق بالمقال إلا استعمال المفرد..

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ

رحلة الخيال الثانية عرضية عند كل شجرة فكل شجرة ينبغي أن تبرى لتحويل كل خشبها إلى أقلام .ومن بلاغة القران- الدقيقة جدا- استعمال الجمع (اقلام) لأن الأمر هنا يتعلق بالتحويل لا بالتتبع كما في إحصاء الشجر ، فالأنسب استعمال جمع التكسير لتمديد زمن التخيل.

رحلة الخيال الثالثة مع الكتبة – وهذا من بلاغة القران - فليس في الآية ذكر صريح لهم لكنهم موجودون لزاما ، فالقلم والمداد يوجبان استحضار كتاب، والخيال يستعرضهم جالسين – والجلوس هي هيئة كل كاتب- على طول ساحل بحر المداد ، وللخيال أن يتتبع غمس الأقلام في البحر وتقدير ما تنقره من قطرات المداد لاستنزاف لجة المحيط !! هيهات هيهات!!

وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

رحلة الخيال الرابعة مع حركة المد والجزر...فالمداد- الذي لا يكاد ينقص - خلفه خزان مهول، سبعة أبحر...فبحر واحد لا يتصور الخيال نضوبه، فكيف بسبعة أبحر في الاحتياط ! ثم كيف والسبعة قد تدل في الاستعمال العربي على الكثير المبهم!
لكن.......
مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ....
 
33-
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق : 38]

ثلاث وقفات نقدية :
1- تناقل بعض فضلاء المشايخ أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وهو قادرعلى خلقها بمجرد الأمر"كن" ليعلمنا التأني في أمورنا!
ولوأنهم أوكلواعلم الحكمة إلى الله لكان خيرا لهم من هذا التأويل الفج....

فهل نحن مأمورون بمحاكاة أفعال الله، وهل نحن قادرون؟
إن مقولة "تخلَّقوا بأخلاق الله " الشائعة ليست حديثا ،بل منبتها في مغارس الصوفية.
ثم التأني مطلقا ليس صوابا ...فإن كان محمودا في أعمال الزواج والطلاق والبيع والشراء فهو مذموم في أعظم مقصد بشري ألم يأمرنا ربنا:
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد : 21]
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران : 133]
ألم يتخذ كليم الرحمن العجلة قربة إلى ربه:
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه : 84]
اليس التأني من بعض منهج المنافقين:
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء : 72]

2- يسأل كثير من الناس – عن مكروسوء نية غالبا- لماذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ولم يخلقها ب كن فيكون؟
وأفضل جواب أن يقلب عليهم السؤال : ولماذا سيخلقها ب كن فيكون بدلا من ستة أيام؟
لا شك عندي أن ما سيخطر بباله من مسودات أجوبة ستجعله يقف على ركاكة منهجه في السؤال وسوء تقديره لعزة الربوبية:
فهل لله منافس عنيد على منصب الربوبية فيضطرمعه إلى خلق الكون في أقل من لمح بالبصرليثبت لخصمه أحقيته لهذا المنصب!
أم أن الله شاك في قدرته فيجربها في خلق الكون لتسجيل رقم قياسي يفتخر به !! – تعالى الله عن لوازم أقوال الجهلة-
ونسأل هذا السائل:
لو كنت في مضمار سباق وحدك لا منافس لك...فهل كنت ستخضع لسنة كاملة من الحمية الغذائية الرياضية حارما نفسك مما تشتهيه وتخضعها يوميا لساعات من التداريب الشاقة لتنجز سباقا سريعا جدا وليس في المضمار غيرك ....إن لم يكن هذا سفاهة منك فلا أقل من أن يكون عبثا!!
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص : 68]

3- زعم كثير من المفسرين أن الأيام الستة ليست بتقدير أيام الناس معللين ذلك بأن اليوم البشري هو زمن الليل والنهار الناتجين عن دوران الأرض حول نفسها فلا تكون أيام خلق الكون مقاسة بدوررات الأفلاك التي لم توجد بعد!
هذا الزعم باطل من وجوه:
الأول : القرآن يخاطب الناس وفق معهودهم وحسب أعرافهم ،وقد أراد سبحانه أن يخبرنا بأمرين :خلق السماوات والارض، ومدة الخلق المحددة في ستة أيام .فلو كانت وحدة التقديرغير معلومة للناس لما كان في التحديد فائدة...
الثاني: إذا أراد القرآن الخروج عن معهود الناس فهو ينبه على ذلك
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج : 47]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة : 5]
الثالث: تعليلهم غير مستقيم فالزمن لم تخلقه الأفلاك...نعم، إن الليل والنهار ناتج عن دورة الأرض حول نفسها لكن المدة الزمنية التي تسمى "اليوم" قدرها الله من قبل وجعل الأرض تكمل دورتها وفق تقديره...فلم تخلق الأرض اليوم ولكن خلقت فيه!
 
34-
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر : 6]

نتلو الآية تحت عنوانين:
- العداوة المطلقة
- الخذلان المطلق

عداوة الشيطان للإنسان لا دواء لها...المرء قد يكون محاطا بأنواع من الأعداء تبلغ درجة عداوتهم أحيانا منتهى الشدة...ومع ذلك يمكن التفاوض بشأنها: تخلي الميدان للعدو المنافس، أو تمنح شطرا مما تملك للحاقد ، أو تغيب عن نظر الحاسد ، فتخف العداوة أوتنتهي ولربما تحولت إلى محبة وولاء...!
لكن التفاوض مع العدو الأكبر محال...فليست عينه على مال تملكه فتعطيه ،أو دنيا تصيبها فتقاسمه، أو مجد دنيوي فتشركه...لا يريد منك إلا حاجة واحدة أن تكون جاره في السعير....فهل ستفاوض!
ثم هذه المفارقة العجيبة:
كيف يكافيء الشيطان حزبه وأولياءه وأنصاره ....تخيل الشيطان في حملة انتخابية رافعا شعار:
(أيها الناس انتخبوني وأعدكم أن تكونوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)!!!
هذا مجنون قطعا...لكن هل يوجد وصف لمن يستجيب له !!
ثم الخذلان المطلق.....
فالشيطان يجند كل شيء من أجل لاشيء!
هب الثقلين جميعا اتبعوه فهل سيخفف ذلك ذرة من العذاب عنه:
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف : 39]
نعوذ بالله من الخذلان...ونعوذ بالله من الشيطان ......العبد المخذول.
 
35-
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت : 20]

"السير" في الأرض،
"الضرب" في الأرض.

جعل القرأن العبارة الأولى في سياق الغرض العلمي النظري
جعل القرأن العبارة الثانية في سياق الغرض العملي المعيشي.
وهذه عادة للقرأن مطردة.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف : 109]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج : 46]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم : 9]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر : 44]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر : 21]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد : 10]

والمقصد العام ثلاثي:
سير....فعلم.....فاعتبار
سير في الحاضر،
علم بما مضى،
واعتبارتحسبا لما سيكون.

أما الضرب في الأرض فللاسترزاق:


لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة : 273]
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء : 101]
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ منْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل : 20]

استعمال مفردة "الضرب " للدلالة على ما في طلب الرزق من مشقة ومعاناة...فمن لوازم معنى الضرب: القوة والجهد والشدة... فيترتب عن ذلك تعب وضعف – وأنت ترى كيف راعى القرآن ذلك فجعل الضرب في الأرض من علل التخفيف في التكليف-

لكن" السير في الأرض" ليس كذلك فهو إلى الاستمتاع أقرب ،والمرء تستهويه عادة السياحة والفرجة والاكتشاف...وإذا حث القرآن على السير في الأرض أو وبخ على عدم فعله فلأن دواعي التخلف تكون شبه منعدمة....
" السير في الأرض" إغراء،
" الضرب في الأرض" تكليف!
 
36-
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة : 5]

قامت حرب بلاغية بصدد الآية منذ المناظرة الشهيرة بين التافتازاني والجرجاني حول مسألة اجتماع التبعية والتمثيلية، وقد أبى البلاغيون بعد إلا الانخراط في "المعركة" بين منتصرلطرف وموفق بين الطرفين حتى ابن عاشورالذي شاء أن يتخذ دور الحكم بين الخصوم...
وأصل المسألة ما تأوله الزمخشري في الآية إذ قال : ومعنى الاستعلاء في قوله: (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به. شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قولهم: جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى.

لقد اجتمعت كلمة القوم على" المطية" المقدرة في" تمثيليتهم" المزعومة وإن اختلفوا في المعركة الاصطلاحية والمنطقية التي هي نائية جدا عن الذوق البلاغي...
قال ابن عاشور:
الِاسْتِعْلَاءَ أَقْوَى أَنْوَاعِ تَمَكُّنِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَوَجْهُ جَعْلِنَا إِيَّاهَا مُؤْذِنَةً بِتَقْدِيرِ مَرْكُوبٍ دُونَ كُرْسِيٍّ أَوْ مَسْطَبَةٍ مَثَلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَسْبِقُ إِلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، إِذِ الرُّكُوبُ هُوَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْلَائِهِمْ فَهُوَ الْحَاضِرُ فِي أَذْهَانِهِمْ..
قلت :
لا يكون الاستعلاء على نحو كُرْسِيٍّ أَوْ مَسْطَبَةٍ فقط ليتأتى لهم تقدير ناقة أو جمل ...فلم لا يكون الاستعلاء على جبل مثلا (وهو معروف عند أهل المدر و الحضر) فيكون التمثيل حينئذ أقرب إلى مقصود الآية...فتشبيه المهتدي بالقائم على رأس جبل أبلغ من تشبيهه بالراكب على مطية ، من وجوه:
أولا : القائم على جبل أقرب إلى ملكوت السماء....
ثانيا : الشعور بنشوة الاستعلاء والعزلة عن العموم (وأكثر العامة ضالون)...
ثالثا : الجبل أدل على الثبات والرسوخ من الناقة....
رابعا : القائم على جبل له أن يمد بصره كيف شاء ولا شك أن مدى رؤيته أبعد بفراسخ ممن هم أسفل منه....
لكن القوم تشبثوا بالناقة وفاء بحق التقليد:
أو لم يروا أن الناقة قد تكون تسير في واد سحيق!
أو تكون متعبة منهكة فيشتهي راكبها أن ينزل عنها فيرتاح وترتاح!
أو تكون ضالة في القفار فلا هي اهتدت ولا صاحبها من المهتدين!
دع عنك" أساطين" البلاغة، وارجع إلى سجيتك البلاغية واسألها أي صورة أقرب إلى معنى الآية:
أرجل فوق جبل، أم مسافر في البيداء على ناقة قد لا ينجومن وعْثاءِ السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب!
ألم يان للناس أن يتدبروا القرأن بدل أن يتدبروا تدبر المتدبرين!
 
37-
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور : 45]

سبق لنا بضع كلمات عن السير في الأرض والضرب في الأرض وهذه كلمات عن المشي في الأرض...
جاء المشي في القرآن على أربعة وجوه – حسب تصنيفنا الموضوعي-
الوجه الأول: المشي في سياق الوصف والإخبار.
الوجه الثاني: المشي في سياق الحجاج.
الوجه الثالث : المشي في سياق الجدال.
الوجه الرابع : المشي في سياق التقييم.

1- الوجه الأول: المشي في سياق الوصف والإخبار
المشي حركة طبعية لانتقال الكائن الحي من مكان إلى مكان حسب الحاجة
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه : 40]
هذا الوجه بين معتاد فلا يحتاج إلى تفصيل....

2- الوجه الثاني: المشي في سياق الحجاج:
يتضمن هذا الوجه – فضلا عن المعنى السابق- الاستدلال على وجود الخالق وصفاته (خالق مختارحكيم قدير... )
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور : 45]
الآية استقصاء لكل أوضاع الجسد الحي بدلالة أسلوب المشي:
وضع الملتصق بالأرض وهذا شأن الزواحف فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ،
وضع المنتصب عموديا وهذا شأن مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ كالإنسان،
وضع المنحني أفقيا وهذا شإن مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ كغالب الحيوان...
نعم ،هناك من الحيوان من يمشي على أكثر من أربع لكن وضع الجسد يبقى هو هو...فسواء أمشى الحي على أربع أم على أربع وأربعين فإن وضع الانحناء الأفقي يبقى ثابتا.
والحجة قاصمة لظهورالآليين العشوائيين الطبيعانيين.
فأما الآليون فهم أصحاب نظرية أصالة العضو وتبعية الوظيفة، يزعمون أن العضو وجد أولا ثم جاءت الوظيفة بعد ذلك مطابقة لشكل العضو ومكوناته، فالإنسان مثلا وجد عنده رجلين فلما تأمل الشكل والمفاصل والعظام والحزم قال هذه تصلح للمشي فمشى!
وهذا المذهب رغم ركاكته هو المنصور عند جماهير علماء الحياة فرارا من إثبات الخالق ، فلو اتبعوا ما تمليه الفطر والعقول من سبق وجود الغاية على وجود آلتها لكان لازما افتراض مدبر حكيم ، لكنهم تذرعوا بالمذهب الركيك كي يبقوا في دائرة التفسير" الوضعي" ولا يخرجوا منها إلى الحق الذي يسمونه التفسير " اللاهوتي" ... فضلوا وأضلوا كثيرا!!
ومن هؤلاء علماء التشريح الذين يعلمون جيدا أن مكونات الرجل لا يمكن فهمها إلا باعتبار الغاية التي خلقت من أجلها، وهي المشي، فحافر الحمار لم يوضع في أعلى الساق ولا في منتصفه بل وضع أسفل الساق وتغيرت بنيته لتلائم صلابة الأرض ، وخلق المفصل لتكون الحركة ممكنة ، وكان من الممكن أن يمتد الساق قطعة واحدة فلا مفصل ولا حركة ، لكن الخالق حكيم ومن حكمته أن أصم هؤلاء وأعماهم فجعلهم يجحدون ما هو أوضح من شمس النهار!!
أما العشوائيون فيقال لهم لم قفزت الطبيعة عن العدد ثلاثة...فقد وهبت الماشين الرجلين والأربع لكنها بخلت بالثلاث فهل هي العشوائية أم أنها كانت تعلم أن الثلاثة الأرجل لا تعزز المشي بل تعرقله ثم ما هذه الطبيعة التي تعلم وتقدر وتمنح ما يصلح وتمسك ما لا يصلح!!!
 
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان : 7]
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان : 20]

جاء المشي في سياق الجدال :
ومحورالجدل مواصفات الرسول المبعوث إلى الناس...فذهب المنكرون إلى أن بشرية الرسول قادحة في صحة إرساله وذكروا من خصائص البشرية العلامتين:

أكل الطعام
المشي في الأسواق
والعلامتان على تباينهما تتحدان في الدلالة على صفة الافتقار...فالانسان لا يستطيع أن يحيا بدون طعام ، والمشي في الأسواق ذريعة لتحصيل الطعام ، ومن ثم ندرك بيانيا قيمة القيد الظرفي( فِي الْأَسْوَاقِ) لتحديد دلالة المشي فليس مشيا للترفيه والتجوال ولكنه مشي توجبه الحاجة...
فيكون المشي من هذا الاعتبار عنوانا على الوضع الوجودي للإنسان:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر : 15]
الإنسان يمشي إذن فهو فقير!
والتلازم بين المقدمة والنتيجة جلي لو صرفنا النظر عن المشي في ذاته لنوجهه إلى الداعي إلى المشي والغاية منه:
لماذا يمشي الإنسان ولا تمشي الشجرة وكلاهما من الأحياء!
لقد جعل الله رزق الشجرة حيث هي فلا تحتاج إلى تنقل، ورزقها العمودي تأخذه بورقها من أعلى ، وتأخذه بجذورها من أسفل ..
لكن رزق الأنسان أفقي في الغالب، فلا مناص من الحركة في كل الاتجهات للحصول عليه...فخلق له الله المشي ولم يخلقه للنبتة..
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك : 15]
ولنلحظ هنا أيضا الاقتران بين المشي والأكل.
وعلى مثل هذا الأساس منع الكفار أن يكون المرسل من الله بشرا ولم يقبلوا بأقل من الملَك...فلعلهم استأنسوا بما شاهدوا من أحوال ملوك الأرض فلا يقبل القياصرة أو الأكاسرة أن يكون سفراؤهم ورسلهم ممن يشبه الأجلاف من الرعاة، فذلك تنقيص من شأنهم بلا ريب، فلا بد من أن يكون رسول الملك محاطا بأبهة وجلال حتى ليقول المرء إن كان هذا حال الرسول فكيف بحال سيده!
ومن ثم رأى الكفار أن الآكل للطعام والماشي في الأسواق لا يليق أن يكون مبعوثا من رب العالمين، ورب العالمين لا يرضى أن يكون حامل كلامه من هذا النوع ، فثبت أن هؤلاء الرسل من البشر لا بد أن يكونوا كذبة وأدعياء...
ولا نريد أن نسترسل في هذا الحجاج فلذلك موضع آخر ، وحسبنا هنا التأكيد على دلالة المشي على الوضع الوجودي للإنسان :
لكي يعيش عليه أن يأكل الطعام ، ولكي يحصل على الطعام عليه أن يمشي إليه. فيكون الطعام وسيلة من المرتبة الأولى والمشي وسيلة من المرتبة الثانية ( أي وسيلة إلى الوسيلة ) وما تعدد الوسائل ومراتبها إلا كاشف عن صفة الفقر المطلق للإنسان...
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر : 15]
 
الوجه الرابع : المشي في سياق التقييم.

المشي خَلقا دليل على حكمة الخالق أو دال على افتقار المخلوق ، كما سبق، فهو مناط الاعتبار.
المشي خُلقا كاشف عن معدن الإنسان ، فهو مناط التقييم مدحا وذما للأنثى وللذكر.
فمن المدح وصف عباد الرحمان:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان : 63]
المشي الهون الممدوح يقابله المشي المرح المذموم:
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان : 18]
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء : 37]
هي مشية الصلف والتكبر، من علاماتها الضرب على الأرض بقوة - كمشية العساكرفي استعراض القوة - فكأن الماشي يبتغي خرق الأرض فجاء التنديد:
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ
ومن علاماتها أن يتطاول الماشي ويرفع عنقه ووجهه إلى الأعلى - كمشية العساكرفي استعراض القوة أيضا – فكأن الماشي يبتغي الارتقاء إلى السماء فجاء التنديد:
وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
هذه المشية الذكورية المراد بها إظهار القوة لها صورة أنثوية في مشية يراد بها الإغراء والفتنة:
وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور : 31]
وكل ذلك مكروه لأنه مروق من الفطرة ومسخ لطبيعة المشي :
فالمشي في طبيعته وسيلة، ولكن قد يتحول ليصبح غاية في ذاته، و لتوضيح الفرق بين الوضعين نضرب مثلا من المشي والرقص :فالرقص مشي لكنه مقصود لذاته لا لغيره ، فالماشي إلى السوق مثلا يكون مشيه آليا ولا يفكرفي إيقاع الخطوات أويقدرانسجام الحركات وذهنه مشغول بالحاجة التي هو ساع إليها، لكن الراقص ليس كذلك فذهنه منشغل بمشيه فقط هل يتقدم أم يتأخر ، هل يسرع أم يبطيء ، هل ينزل أخمص أم أفدع... وهكذا شأن السافرة المتبرجة فعد الله مشيتها ذنبا يستوجب التوبة!
 
38-
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران : 36]

من المفسرين والبيانيين من ذهب إلى أن في الموضع عدولا عن المعيار، فالتمسوا له النكتة البلاغية:
-أما العدول فإن القياس يقتضي تغيير الترتيب في ذكر طرفي التشبيه فيقال: "وليست الأنثى كالذكر" فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال.
قال الألوسي:
"فإن مقصود أم مريم تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس.."
هذه العادة التي ذكرها الالوسي يمكن إرجاعها إلى القاعدة العامة في وجوب "كون وجه الشبه أبين في المشبه به"...وبناء عليه سيكون نفي مشابهة الذكر للأنثى من باب التشبيه المقلوب..
أما توجيه المعنى فلهم فيه مسلكان:
-إنكار أن يكون في الآية قلب، بل التشبيه على أصله سواء أقدرنا الجملة المعترضة من كلام المرأة أم من كلام الله ..
فعلى التقدير الأول يكون تفضيل هبة الله على مأمول المرأة.. كأن أم مريم ترى أن الأنثى التي أعطيت أفضل وأعظم من الذكر المطلوب...وفي هذا التوجيه نظر من وجهين كما في" روح المعاني":
أما أولاً : فلأن اللام في الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلال الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين ،
وأما ثانياً : فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها : رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى ، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي..."
وعلى التقدير الثاني يكون الله قد علم أن لهذه الأنثى شأنا عظيما وسيخلد ذكرها الطيب في العالمين وهذا قطعا أفضل من غلام يخدم في المعبد..، فحق القول أن الذكر ليس كهذه الانثى.
-أما المسلك الثاني فينقل البحث من علم البيان إلى علم المعاني...جاعلا مدار النظر نكتة التقديم والتأخير لا ترتيب طرفي التشبيه...
يقول ابن عاشور مثلا:
" قدّم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول، فهو أسبق إلى لفظ المتكلم"
فكأن ابن عاشور يطبق هنا نظرية عبد القاهر في النظم من كون ترتيب اللفظ تابعا لترتيب المعنى في النفس، فلما كان الذكر يحتل موقع الصدارة في وعيها ورغبتها فقد جعلته أيضا في صدارة كلامها...

لكن التحقيق عندي أنه لا تشبيه في الآية أصلا...ولكي نثبت ذلك نؤسس أولا تفرقة بين التشبيه كمعنى عقلي- مندرج في الحقل الدلالي ضمن معاني المقايسة والموازنة والمقارنة وغيرها- وبين التشبيه كصورة بيانية..
فلو قلت:
"المغرب كالجزائر من حيث عدد السكان"
فإن التحليل الشكلي التقليدي يثبت في العبارة تشبيها ،كيف لا وقد ذكرت فيه أركانه :
فالمغرب والجزائر طرفاه ، وعدد السكان وجهه ،والكاف أداته،
فهو تشبيه مرسل مفصل على تصنيفهم!!
لكن الذوق السليم يأبى أن يكون هذا التشبيه من صور البلاغة ، فلا تعدو العبارة أن تكون مقارنة عقلية –عاطلة عن الجمال قطعا-بين وحدتين خلصت إلى تساويهما ..
فلا فرق بين :
"المغرب كالجزائر من حيث عدد السكان"
وبين:
"المغرب أكثر سكانا من الجزائر"
أو :
"المغرب أقل سكانا من الجزائر..."
وليست فائدة "الكاف" هنا إلا مثل فائدة "أكثر" أو" أقل" ..لأن نتيجة المقارنة بين عنصرين (أ) و(ب) لا تخلو من أن تكون إحدى المنطوقات الثلاثة :
1-(أ)يساوي (ب)
2-(أ) أقل من (ب)
3-(أ) أكثر من (ب)
ولا نرى مسوغا في أن يعتبر المنطوق الأول "أجمل" أو" أبلغ "لأنه اشتمل على الكاف الدالة على المساواة !!!
ولم لا تكون المعادلات الرياضية صورا بيانية، لأنها تتضمن كلها معنى الكاف!!

نقترح على النحاة والبيانيين أن يحدثوا تفصيلا جديدا في معنى "الكاف" وأخواتها ..فيميزوا "كاف المقارنة" عن "كاف التشبيه"!!
فيمثلوا للأولى بعبارات:
"الذكر كالأنثى"
"استقبلني زيد كما استقبلني أخوه خالد"
"النحاس كالمنغنيز"
"لعل المسافة بين البصرة والكوفة مثل المسافة بين الطائف ومكة.."
"ثمن البطيخ أمس كثمنه اليوم"..
ويمثلوا للثانية بمثل قوله:
فإنك كالليل الذي هو مـدركـي..... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع.!!
فإذا تمسكنا بدلالة الكاف على التشبيه في كل الموارد وجب اصطناع تقسيم للتشبيه :تشبيه عادي وتشبيه فني ،أو تشبيه مفيد وتشبيه غير مفيد ،على غرار تقسيم عبد القاهر للاستعارة إلى استعارة مفيدة وغير مفيدة.
 
39-
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل : 29]

لا يملك المرء إلا العجب من دبلوماسية هذه المرأة ولباقتها...فلا يستنكر بعدها أن تسود قومها في أزمان لم يخول للنساء أن يرتقين إلى سدة السيادة!
لقد وصفت كتاب سليمان بأنه كريم وصرحت بالوصف أمام ملإها مع أن الكتاب مستفزلها ولقومها:

أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل : 31]

قارن بين هذه السبئية الحكيمة وبين المتغطرس الفارسي:
جاء إلى كسرى كتاب من خاتم المرسلين أقل استفزازا من كتاب سليمان إلى بلقيس فمزقه الأخرق - فمزق الله ملكه...- أما المرأة فقالت : أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ.
 
40-
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم : 73]

في مواضع كثيرة من التنزيل يكاد المتدبر يستيقن أن سبب نزول آية ليس ما كان بل ما سيكونَ!
ولتجدن الآية أشد انطباقا على اليوم من الأمس، وأن المستمع الحاضر أولى من أن تنزل فيه الآية ممن سلف !
الآية توحي بمقام جدال ومناظرة:
في لحظة أولى تلا المؤمنون على الذين كفروا آيات بينات منزلة من رب العالمين...
كان المفترض أن يجادل الذين كفروا في هذه الآيات فيفندوها أو يبينوا بطلان بعضها أو على الأقل ظنيتها...كل ذلك لم يكن و كانت الحيدة العتيدة :
نقل الجدال من الإسلام إلى أحوال المسلمين!
هم يعلمون أن مقارنة دينهم بدين الله لا ينتج عنه إلا الخزي والصغار، فتراهم – لذلك- يمنون النفس بانتصار ما فلا يجدونه إلا في مقارنة أحوال معيشة الفريقين:
أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا...
الرفاهية في بنغلادش أم في السويد!
شوارع الخرطوم أجمل أم شوارع لندن!
نسبة الفقر والمرض أتعلو في اليمن أم في اليابان... !
لم تكن الفوارق المعيشية بينة زمن النزول....ففي الفريقين أغنياء وفقراء وعلى فرض أن الأغنياء في الكفار أكثر عددا فإن نظام العيش متقارب فالمساكن متشابهة والمأكول متجامس والملبس...وإن كانت ثمة فوارق حينئد فهي في الدرجة لا في النوع...
لكن الأمر ليس كذلك في عصرنا... فالآية أشد انطباقا على اليوم من الأمس...
للوقفة تتمة مع تأمل الأية الموالية:
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم : 74]
 
41-
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر : 20]

لقائل أن يقول:
ما تقرره الآية أمربدهي ...
فكيف تأتلف البلاغة والتعبير عن الحقائق الصارخة...!
أليس من العبث وتحصيل الحاصل أن يتدخل علم البيان لبيان ما هو بين في نفسه!
الآية تشهد بالفوز لأصحاب الجنة بعد مقارنة بينهم وبين أصحاب النار...فلا ذرة شك سواء أكان المتلقي مؤمنا أم كافرا..إذ يكفي التصور للتصديق بالقضية ولا أثر لجهة الوقوع في الحكم (وقوع حقيقي عند المؤمن وافتراضي عند الآخر)....
نقول:

اصرف النظر عن بلاغة التقرير واستحضر بلاغة التقريع!

الآية حملت أشد معاني التبكيت والتسفيه والتقريع:
كيف تكالبتم على أبواب النارجميعا وفضلتم الخسارة على الفوز وأنتم مقرون بالحقيقة البدهية! فإن كان هذه حالكم أمام ما هوأولي بدهي فكيف وما هو أدنى من ذلك..!
 
42-

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة : 184]

ما السر في الوصف بالجمع لا بالمفرد ، فقال أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ولم يقل أياما معدودة ، كما في مواضع أخرى :
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة : 80]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف : 20]

لعل سرالمسألة يكمن في إرادة توسيع المعنى للتعبير عن مقصدين اثنين في وقت واحد:
مقصد التخفيف...
ومقصد التحفيز...

وبيانه على النحو التالي:
اعلم أن جمع الصفة ب(الالف) و(التاء) يدل على القلة عكس الإفراد، والقلة في الغالب تكون في ما دون السبعة ، والكثرة في ما فوق السبعة...ولنا الاستئناس بالآية الكريمة في عدة الشهور:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة : 36]

فمرجع الضمير المفرد (مِنْهَا) إلى اثني عشر شهرا والعدد أكثر من سبعة
ومرجع الضميرالجمعي (فِيهِنَّ) إلى أربعة حرم والعدد أقل من سبعة..فتأمل!

فلا جرم أن خاطبت آية الصيام صنفين من الناس:
من يستثقل التكاليف، فأشارت إلى أن الشهركله كأنه أقل من أسبوع، فليس في الأمرغير أيام معدودات ...
من لا يستثقل التكاليف، فنبهته الآية على سرعة انقضائها لقلتها....هي أيام معدودات فقط.. فاحرص على ألا تتكاسل في قيام وتهجد وقرآن!

لقد خففت الآية وحثت في وقت واحد...هي خطاب للعالمين!
 
43-
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ. فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات :38- 39]

ما سرالاقتران بين الآيتين؟
قد نتبين السر لو استحضرنا ما شاع في زماننا هذا من احتفاء الناس ب"الحشود"...الحشد قوة وعزة ...وإلى الحشد يجأرون...!
هذه مسيرة مليونية...! هكذا بكل ابتهاج يقولون..
سيخرج الناس عن بكرة أبيهم...! هكذا بكل اعتزاز يتوعدون
مظاهرة شاركت فيها كل الأطياف ...! هكذا بالنصرالأكيد يستبشرون...
وفي المحشر ...وفي جهنم ....الملايين ستصبح ملايير.....
فهل ستنظمون مسيرات ملياردية....
ولكم من الزمن متسع كبير فهل ستخرجون في مسيرة ملياردية كل يوم...!

هل تجيركم الامم المتحدة أم منظمات حقوق الإنس والجان...!

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ..
نعوذ بالله من الكفر ومن مصير الكافرين....
 
44-
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5]

الآية قلب الفاتحة....توسطت مقصدي السورة الشريفة:الثناء والدعاء....
قبلها تمجيد لله بما لا حظ للعبد فيه ، وبعدها طلب من الله لما للعبد فيه حظ...
العلاقة بين الفعلين نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ عجيبة من وجهين:
نَعْبُدُ لها وضع المقاصد،
نَسْتَعِينُ لها وضع الذرائع.
العبادة مقصودة لذاتها ، أما الاستعانة فوسيلة لغيرها بالضرورة...
الوجه الثاني يتمثل في طبيعة العطف بين الجملتين ، فلك أن تحسبها من باب عطف الخاص على العام ، اعتبارا لكون الاستعانة فردا من أفراد العبادة ، فمن يستعين بالله فقد عبده قطعا ، ومن استعان بغيره فقد اشرك ونكص....
ولك أن تحسبها من باب عطف العام على الخاص ، فالاستعانة تكون على العبادة نفسها وعلى غيرها فهي أعم...!!
 
45-
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم : 74]


كأن المخاطبين هم أهل الحضارة الغربية ...فالعلامتان المذكورتان أشد حضورا في العصر الحاضرمن أي عصرمن العصور الخالية:
الأثاث (الأشياء )
الرئي (الواجهة-المنظر)
والعلامتان جوهر الحضارة الغربية ...وما يقال عن انتسابهم للعلم أو نسبة العلم إليهم لا يغير شيئا ....فالأمور بمقاصدها والعلم عندهم موجه أساسا إلى مزيد من الأثاث ابتكارا وتحديثا واستهلاكا....
العلامتان تستغرقان كل جوانب حياتهم:
الأثاث داخل البيوت والرئي خارجها .
الأثاث لتحقيق المنفعة (براجماتيا) والرئي لتحقيق الجمال (استطيقيا).
الأثاث شأن خاص يتكفل به المواطن الفرد والرئي شأن عام تتكفل به البلديات والمؤسسات العمومية...
ومن عجيب الآية أنها نصت على الأثاث ولم تشر إلى الطعام مثلا، فلم تقل كانوا أحسن طعاما أو أكثر طعاما...وكل من خالط الغربيين يشهد أن شهوة الطعام عندهم هينة لينة ، وهم أنفسهم يعترفون أن الطعام العربي أو الإفريقي أو الأسيوي أغنى و أكثر تنوعا ....وعندما يدعون إلى مآدب هؤلاء الأجانب الفقراء يظلون مشدوهين بما يرون ويشمون ويذوقون....
لكن الأثاث أمر آخر....فتجد الغربي يجدد أثاثه في كل حول أو حولين...ويتنافسون في اقتناء آخر الصيحات والابتكارات والمعروضات...ولا يحتمل أن يكون غيره أَحْسَنُ أَثَاثًا .
ولمزيد من الاطلاع عن كثب على عقدة "الأثاث" عند الغربي أحيل على مقارنة ذكية جدا أبدعها العلامة (مالك بن نبي) ، فقد قارن بين الغربي (روبنسون كروزوي) والشرقي (حي بن يقظان)....الروايتان تعكسان الهاجس الأساس عند الشخصيتين فقد تشابهت ظروفهما كلاهما وجد نفسه في جزيرة معزولة عن العالم لكن البرنامجين متناقضان روبنسون سيبحث عن "الأشياء" وسيراكم الأثاث حوله للانتفاع...أما حي بن يقظان فسيجعل "الأفكار" هي شغله الشاغل فينطلق في الجزيرة باحثا عن الوجود والبعث والخالق....!!!
وأما الرئي فمشهود في كل شيء في اللباس ، وواجهات المنازل، والمنتزهات ، والتصاميم ، والأضواء، ومهرجانات السينما والنجوم ، ومسابقات الموضة والغناء.......وغيرها كثير كثير!!!
فحق لهم أن يفتخروا على غيرهم نحن: أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا...
 
46-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة : 153]


تناسب تام بين صفة المنادى وما طلب منه :
فالابتلاء المقترن بالصبرملازم للإيمان ، بل لنا أن ندعي أن المصيبة مقياس الإيمان فمن يرد أن يعرف قوة إيمانه فلينظرإلى حجم مصيبته، فالعلاقة اطرادية بينهما...
إذا أردت أن تختبر- مثلا- القوة العضلية لطفل فمن العبث أن تكلفه بحمل ما مقداره قنطارلأنك تعلم جيدا أنه لا يطيقه فلن يقع الابتلاء المأمول ،وكذلك لن يقع إذا كلفته برفع رطيل فهو أهون عليه... ولن تعرف قدرة الطفل إلا إذا كان التناسب حقيقيا بين القدرة والإنجاز....
ولله المثل الأعلى وهو أحكم الحاكمين....فابتلاء الخالق بحسب طاقة المخلوق...وعلى هذه القاعدة نقول لمن اشتدت المصائب وكثرت عليه أبشربقوة الإيمان...ونقول لمن لا يعاني ولا يتألم إلا قليلا إنك على خطر عظيم فراجع إيمانك...
فسبحان الذي جعل المصيبة بشرى في نفسها....

الصلاة المستعان بها في الآية تحتمل المعنيين الشرعي اللغوي :
المعنى الشرعي دليله الحديث:
- كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا حزَبه أمرٌ صلَّى..
أما المعنى اللغوي فظاهرفي نفسه فالدعاء أول ما يخطرعلى بال المصاب وأنسب مهما كانت الظروف والأحوال..والله أعلم.
 
الصلاة – بمعنى الدعاء- تتعلق بالصبرمن جهتين:
1- علاقة تجاوركما هو ظاهر الآية- بدلالة حرف العطف - فيكون المبتلى مأمورا بالجمع بين الصبر والدعاء..
2- علاقة تسبب فتكون الصلاة متقدمة على الصبر تقدم السبب على الأثر...ذلك لأن الصبر ليس من خلق الإنسان بل هو نفسه منحة ربانية

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل : 127]

فتتجلى أصالة الدعاء وأولويته ومساواته للعبادة المطلقة وفق ما ورد في حديث النعمان بن بشير، ، أن رسول الله ، قال: إن الدعاء هو العبادة.
فالمؤمن المبتلى يلتمس الفرج فيدعو...
وفي انتظار الفرج يصبر....
والصبر نفسه يلتمس بالدعاء.
 
47-

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) [لقمان]

الجملة الاعتراضية كثيرة في التنزيل، وهي منبه قوي على التدبر ، لأنها تقطع الاسترسال وتفاجئ القارئ بسبب ورودها على تعارض مع أفق التوقع ، مما يجعل القارئ يسائل نفسه لماذا...
هكذا نلحظ في وصايا لقمان لابنه... فبعد الوصية الأولى:
يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ....
انقطع حبل الاسترسال وجاء اعتراض طويل في آيتين:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ......
ثم عاد السرد إلى سيرته الأولى:
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ.....

فلماذا تخلل الاعتراض وصايا لقمان...!

كان من الممكن أن تأتي الوصية العامة بالوالدين قبل- أو بعد - الوصايا الخاصة ،لكن شاء الله أن يدرجها بعد الوصية الأولى مباشرة لأن هناك موضعها الطبيعي ،ففي القرآن مواضع كثيرة يعقب فيها الأمر بالاحسان بالوالدين النهي عن الشرك بالله:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة : 83]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء : 36]
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام : 151]
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء : 23]

1- فكأن الوصية بالوالدين في سورة لقمان لا تحتمل التأجيل فأوردت حتى قبل تمام وصايا لقمان...
2- ثم لا يتصورأن تأتي الوصية بالوالدين على لسان لقمان - لتتسق مع جمهرة الوصايا – احتراسا من أن يتوهم متوهم أن صاحب الوصية يسعى إلى تحقيق مصلحة شخصية فلا تكون النصيحة خالصة لوجه الله.
3- جاءت وصية الله بالوالدين عقب وصية لقمان لابنه بالتوحيد كأنها إشارة إلى قاعدة الجزاء من جنس العمل ،فكأن التقدير" إذا كنت أنت وصيت ابنك بتوحيدي، فأنا أوصيه بك جزاء وفاقا..."
 
عودة
أعلى