تذوق بلاغة آية من آيات الله تعالى .

السراج

New member
إنضم
03/09/2008
المشاركات
213
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
هذه آية من آيات الله - تعالى وتقدس- المختارة المبهرة في خلق الأنهار والبحار وجعل العذوبة والملوحة فيها وجريان السفن عليها ، التي تذوقتها واستوقفتني من خلال الأساليب البلاغية الرائعة والبيان العجيب معاني لم نكن من قبل نحسُّ ونشعر بها أو نتذوقها لتأخذ باللباب ، كيف لا وهو آيات كتاب الله الذكرالحكيم والصراط المستقيم والسراج المنير الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه ولا يُسأم ويخلق عن كثرة الرد ، فهو كما قال الشاطبي : " وترداده يزداد فيه تجملاً " .
ومن هذه الآيات العظيمة التي تذوقتها ما قاله الله تعالى في سورة النحل : {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (14) سورة النحل

فاستخرجت بعض الصور البلاغية فيها بإيجاز منها :
- استعارة في قوله تعالى : "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ" ، فجعله تعالى كالحيوان المسخر للإنسان .
- مجاز عقلي ، حيث قال تعالى : "لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ" فالأكل من الحيوانات والأحياء البحرية .
- أيضاًُ إيجاز فاستغنى بـ" مِنْهُ " عن ذكر أسمائه وحيتانه وأحياءه .
- أيضاً الكناية ، حيث كنى سبحانه عن الحيتان والأسماك باللحم الطري .
- وأيضاً فيه العنوان ، وهو لفت الانتباه للعلوم التجريبية الدنيوية وهي هنا صناعة الحلي للتزين بها .
- الكناية أيضاً في : " حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " بدل اللؤلؤ والمرجان .
- الالتفات ، من أفعال ( لتأكلوا.. وتستخرجوا.. تلبسونها.. وترى.. ) .
- كناية وإيجاز ، في : " وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ " أي : كناية عن طلب الكسب والرزق فيه من صيد الأسماك والحيتان وغيرها من الأحياء البحرية ، وتستخرجوا منه اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك .
فما أجمل تمعن وتدبر بلاغة الآيات القرآنية فهي تورث الحلاوة والذوق القرآني المجيد .
 
أخي الحبيب... ليتك تبين لنا الفرق بين المصطلحات الآتية ( الاستعارة،الكناية ، المجاز العقلي)؟فإذا عرَّفْتها عرفنا هل هي موجودة في الآية أم لا.
ثم إن من المصطلحات البلاغية الأخرى ( المجاز اللغوي ، المجاز المرسل ) فليتك تبين لنا الفرق بينها وبين ما ذكرته من مصطلحات لأن لها تعلقاًشديداً بما ذكرته من استنباطات.
أما مصطح (العنوان) فقد عرفه ابن أبي الأصبع - ولم أطلع عليه إلا قبل قليل - ولا أظن أن ما ذكرته من الآية ينطبق عليه فليتك توضح وجه استنباطك له من الآية؟ فعبارة( لفت الانتباه إلى العلوم التجريبية) عبارة فضفاضة لا أظن أنها تنطبق على الآية.
أما الالتفات فليتك تبين موضعه بدقة ونكتَتَهُ العامة والخاصة - إن وجدت -، وإلا فإن النص على وجود الالتفات ليس هو موضع نظر البلاغي كما لا يخفى ، وكذاك يقال في الاستعارة والكناية والمجاز العقلي التي قلت إنها موجودة في الآية.
وأخيراً علينا أن نتأنى كثيراً قبل أن نستنبط شيئاً من الكتاب العزيز.
 
أخي الكريم أجيبك على حسب علمي القاصر ، وإن ظهر خطأ وزلل فأصلحه ، فأقول مستعيناً بالله :
المجاز اللغوي: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي .
المجاز المرسل : كلمة استعملت في غير معناها الأصلي لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
العنوان : هو أن يذكر في الكلام ألفاظاً تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها ، وهو أيضاً أن يشفع كلامه بأمثلة توضيحية .
والالتفات كما هو معلوم : هو نقل الكلام إلى أسلوب آخر ، فيكون جارياً بأسلوب الخطاب فينقل إلى الغيبة أو المتكلم أو العكس .
وتأمل استخراجي جيداً ، والله أعلم..
 
وهذا مثال آخر فيه منتهى تذوق الجمال البلاغي القرآني ، قول الله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (12) سورة فصلت
فيها ما يلي :
- الالتفات حيث انتقل من ضمير الغائب (فقضاهن) إلى ضمير المتكلم (وزينَّا ) .
- الاستعارة ، حيث استعار كلمة مصابيح للنجوم .
- وفيها من البيان القرآني الجمع ، وقد جمع بين الزينة التي هي في المصابيح والحفظ الذي هو لرجم الشياطين منعاً لاستراق السمع .
- الفاصلة ومجيئها (ذلك تقدير العزيز العليم) لتمكين المعنى ، فالعزة والقوة: للبناء والتزيين ، والعلم : بحال عددها ومدة خلقها وأمر حفظها .
 
جزاك الله خيراً لهذا التجاوب ،و التعريفات التي ذكرتها لا إشكال فيها، وبقيت معنا مسائل:
1/ تعريف : ( الكناية ، المجاز العقلي، الاستعارة) وقد قلت جزاك الله خيراً بوجودها في الآيات فلابد من تعريفها كى نعرف هل هي موجودة في الآيات أم لا.
2/ لم أطلب تعريف العنوان، لكن تعريفك له جيد ، وبناء عليه أقول : هل في ( حلية تلبسونها) إشارة إلى علم تجريبي؟ أظن أن هذا بعيدٌ جداً؛ فهل لك أن تشرح وجه وجود العنوان في الآية؟
3/ الالتفات كما قلت معروف ، لكن يبقى السؤال عن توضيح مكان وجوده في الآية - وهو موجود فيها -، ثم :
ما النكتة العامة لهذا الالتفات؟ والمسألة الأهم:هل هناك نكتة خاصة للالتفات في هذا الموضع؟
4/ هل مجرد قولنا: توجد هنا استعارة ، أو مجاز عقلي، أو تقديم، أو تأخير يعد تذوقاً جمالياً بلاغياً ؟ بالطبع لا ،بل لا بد أن يحدد الذي يريد أن يوقف الناس على بلاغة القرآن وجه جمال الاستعارة أو الكناية أو غيرهما.
وجزاك الله خيراً مرة أخرى على تجاوبك.
 
لم أطلب تعريف العنوان، لكن تعريفك له جيد ، وبناء عليه أقول : هل في ( حلية تلبسونها) إشارة إلى علم تجريبي؟ أظن أن هذا بعيدٌ جداً؛ فهل لك أن تشرح وجه وجود العنوان في الآية؟
أخي الكريم العلم التجريبي هنا هو الصناعة ، صناعة الحلي وهذا واضح جداً .
 
من المعلوم أن البلاغة القرآنية تحتاج إلى البحث والتتبع والاستقراء التام لاستنباط الحكم مع القياس الدقيق للأحكام المشابهة للوصول إلى النتيجة الصحيحة المرجوة إن شاء الله ، ومن ثم تذوق حلاوة جمالها وبلاغتها .
ما طلبته مني أخي الكريم من تبيين المصطلحات :
* الاستعارة : هي تشبيه حُذفَ أحد طرفيه ، فعلاقتها المشابهة دائماً وهي قسمان :
1/ تصريحية : وهي ما صرح فيها بلفظ المشبه به .
2/ مكنية : وهي ما حُذفَ فيها المشبه به ، ورُمزَ بشيء من لوازمه .
* الكناية : لفظٌ أُطلق وأريدَ به لازم معناه ، مع جواز إرادة ذلك المعنى .
* المجاز العقلي : هو "المجاز في الإِسناد" ، وهو الذي يُسْنَد فيه الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاد المتكلم .
والله أعلم .
 
قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} (61) .
أي تقدس وتنزه سبحانه أن يكون له شريك في خلقه أو عبادته ، الذي بقدرته ومشيئته وحكمته جعل في السماء بروجاً ، والبرج هو الحصن وجمعه أبراج وبروج ، وتُعرف البروج الاثنا عشر بالحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وتنزل كل من كواكب المجموعة الشمسية في كل منزل أو برج وكأنها تنزل في قصر لها .
من بلاغة هذه الآية :
- القسم بالسماء ذات البروج ، فيها الدلالة على عظمة الخالق وجبروته وسعة سلطانه وكثرة خيراته وكمال حكمته جلَّ وعلا والتوجيه إلى تدبر هذه الآية العظيمة .
- وفيها أيضاً توحيد الخالق جلَّ وعلا وتنزيهه عن الشريك فيما خلق .
- الإيجاز حيث اقتصر سبحانه على ذكر البروج في السماء .
- إضافة إلى الإطناب ، حيث ذكر البروج والشمس والقمر .
- الكناية ، حيث كنى سبحانه عن الشمس بأحد أوصافها وهو السراج ، فقد ذكر هذا الوصف أيضاً في سورة نوح {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (16) ، وكذلك في سورة النبأ {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} (13) .
- ذكر التسلسل بالأهم ، فذكر الشمس ثم القمر .
- البيان العالي في النظم القرآني ، ومراعاة النظير في (بروجاً) و (سراجاً) ولو ذكرت الشمس صراحة لما ناسب هذا البيان .
- نجد أيضاً التشبيه المؤكد ، حيث شبه الشمس بالسراج ، وفي الآية بسورة نوح شبه القمر بالنور .
والله تعالى أعلم .
 
أرجو من الأخوة المشرفين أن يجعلوا العنوان : تذوق بلاغة آية من آيات الله تعالى .
 
قوله تعالى :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (27) سورة فاطر
من الأوجه البلاغية في هذه الآية :
- إظهار قدرة الله تعالى على الخلق والتكوين والإبداع .
- الاكتفاء بذكر "ثمرات" عن ذكر دورة الحياة النباتية من البذرة وحتى الثمرة ، وكذلك في "مختلف ألوانها" عن تعدد الألوان وأصناف الفواكه .
- الإيجاز ، حيث حذف "ذو" أي : ذو جدد ، أو : منها جدد بيض ومنها جدد حمر مختلف ألوانها ، ومنه غرابيب سود .
- الإطناب في وصف الجدد في الجبال حتى أتى على كل ألوانها .
- العنوان ، وهو التوجيه ولفت الانتباه إلى علم طبقات الأرض والجيولوجيا .
- الالتفات في "أنزل" و "فأخرجنا" من الغائب إلى المتكلم .
- التدبيج وصحة التقسيم ، وهو نوع من الطباق ، فذكر الألوان ما بين أبيض وأسود غربيب وأحمر وما بينهما ، وهو أمر مشاهد في الجبال .
- المبالغة في " غرابيب سود " حيث بالغ في شدة السواد ، وهذا من بلاغة وبديع القرآن العظيم .
- ذكر السيوطي في الإتقان "وغرابيب سود" من التأكيد اللفظي ، وهو تكرار اللفظ بمرادفه من الإطناب .
والله أعلم .
وأختم بنقل جميل من كلام صاحب تفسير الكشاف :
" أَلْوانُها أجناسها من الرّمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد : الخطط والطرائق. قال لبيد : أو مذهب جدد على ألواحه​
ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه وَغَرابِيبُ معطوف على بيض أو على جدد ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة رضى اللّه عنه : هي الجبال الطوال السود. فإن قلت : الغربيب تأكيد للأسود. يقال : أسود غربيب ، وأسود حلكوك : وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب. ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ،وما أشبه ذلك ".
 
قصدي من هذا الموضوع الإشارات البلاغية في هذه الآيات ، لا البسط والتطويل ، لأن هناك من الأخوة الكرام مَن يخالفني في هذه الاستنباطات ، وعلم البلاغة ذو فنون وشجون فهو بحر لا ساحل له ، وبالأخص إذا ولجََنا باب الاستقراءات ، لهذا اقتضى التنبيه..
وجزاكم الله خيراً..
 
جزاك الله خيرا أخي
تذوق هذه الآية قال تعالي علي لسان ابليس اللعين (أرأيتك هذا الذي كرمت علي لإن أخرتن إلي يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) معني لأحتنكن : وفي مفسره قولان
1- لأحتنكن : لأستولين يقال إحتنك الجراد الزرع إذا استولي عليه وقضمه ولم يترك منه شيئا
2- لأحتنكن : لأسوقن يقال حنكت الفرس إذا جعلت له رسنا لتقوده كما تريد
كيف نجمع بين هذين المعنيين ؟؟
نجمع بينهما بأنه لعنه الله يريد أن يستولي علينا كما يستولي الجراد علي الزرع ثم يسوقنا كما يسوق الإنسان دآبته
 
الأسلوب بين التراث البلاغي العربي والأسلوبية الحداثية ـــ د.محمد بلوحي*
حظي الدرس البلاغي عند العرب بكثير من الاهتمام، وذلك لأن (البلاغة) كانت تحمل منذ نشأتها بذور العبقرية العربية في جلالها وقدرتها على استكشاف مواطن النفس الإنسانية حين تقول فتجيد، وحين تتلقى فتحسن التلقي، وحين تكتب فتبدع فتحسن الإبداع، وقد أدرك العرب قيمة الدرس البلاغي من حيث كشفه عن أسرار بنية الخطاب وأثره في المتلقي، وقدرة الكلمة على التأثير والتعبير باعتبار أن البلاغة هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ على حد وصف الرماني في رسائله في إعجاز القرآن.‏
والأسلوب من أمهات القضايا البلاغية العربية التي تجسدت من خلال درسها مدى قدرة البلاغي العربي القديم على التفطن لسرّ جمالية الخطاب سواء أكان شعراً أم نثراً، فربط الدرس البلاغي في نظرته إلى الأسلوب بين النحو من حيث هو درس لآليات ومكونات الجملة العربية وبين توليده للدلالة داخل النص، وبذلك تجاوز الكثير من الأطروحات البلاغية التي سبقته، من مثل إشكالية اللفظ والمعنى، وأيهما الأساس في تشكيل جمالية الفضاء في الخطاب؟..‏
الأسلوب في التراث البلاغي العربي:‏
احتفى الدرس العربي منذ القرن الثاني الهجري بدراسة الأسلوب في مباحث الإعجاز القرآني التي استدعت ـ بالضرورة ـ ممن تعرضوا للتفسير أن يتفهموا مدلول لفظة "أسلوب" عند البحث الموازن بين أسلوب القرآن الكريم وغيره من أساليب الكلام العربي، متخذين ذلك وسيلة لإثبات ظاهرة الإعجاز للقرآن الكريم.‏
لقد كان لعلماء متقدمين كأبي عبيدة (ـ 210هـ) والأخفش سعيد بن مسعدة (ـ207هـ) والفراء (ـ 208 هـ) الجهد الكبير في إثراء مفهوم الأسلوب في الشعر وجلاء أشكاله، رغم تباين الأهداف التي سعوا إليها، بين بلاغة الخطاب القرآني وإعجازه أو دفع طعون الملحدين في القرآن وعربيته.‏
وإذا التفتنا إلى المعجميين فإننا نجدهم يعرّفون الأسلوب بالطريقة والفن، فالزبيدي يعرف الأسلوب بـ((السطر من النخيل و"الطريق" يأخذ فيه، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب: الوجه والمذهب، يقال هم في أسلوب سوء، ويجمع على أساليب، وقد سلك أسلوبه: طريقته وكلامه على أساليب حسنة، والأسلوب بالضم "الفن"، يقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه))(1)، ويذهب الفيروز أبادي نفس المذهب إلى أن ((الأسلوب الطريق))(2)، وينعته الرازي بـ ((الفن))(3).‏
أما إذا بحثنا في مفهوم الأسلوب عند البلاغيين فإننا نجد ابن طباطبا العلوي (ـ 322هـ) من الأوائل الذين التمسوا للأسلوب مفهوماً رغم عدم تسميته لفظاً بالأسلوب؛ حيث نجده يشير إلى ذلك عند حديثه عن طريقة الشاعر إذا رغب النظم، فمخاض ((المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه فكره نثراً، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه بل يتعلق كل بيت يتفق نظمه، على تفاوت مابينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها))(4)، ومن ثم نجد أن الأسلوب هو أساس صناعة الشعر، يجمع بين الرؤية التي يمتلكها الشاعر والاحتراف اللغوي والإيقاعي والجمالي، يتأمل المبدع من خلاله ((ما أداه إليه طبعه ونتجه إليه فكره، يستقصي انتقاده، ويروم ما وهى منه))(5)، وبذلك يؤدي رسالته مراعياً رؤيته وأفق انتظار المتلقي.‏
إن مفهوم الأسلوب الجيد القائم على أصول فنية كالمطابقة بين اللفظ والمعنى ابتداءً والتوفيق بين القوافي والأبيات انتهاء قائم من اهتمام ابن طباطبا بخصائص نظم الشعر، لأن شأن الشاعر ـ في اعتقاد ابن طباطبا ـ كشأن ((النساج الحاذق الذي يوفق وشيه بأحسن التوفيق ويسديه وينيره))(6) حتى يجلي نظمه في أحسن حلة، ولا يتأتى له ذلك إلا بالحذق في صناعة الأسلوب والتحكم في آلياته.‏
وإلى جانب اهتمام ابن طباطبا بخاصية التلاؤم بين مواد الشعر يؤكد كذلك خاصية الصدق في التجربة الشعرية، ولا يكون ذلك على مستوى المبدع بل تتعداها إلى المتلقي الذي يتأثر لما يتلقاه مما قد عهده طبعه وقبلته مداركه، فيثار بذلك ماكان دفيناً، ويتجلى ماكان مكنوناً.‏
وليس هذا فحسب، بل الصدق يتجسد ـ كذلك ـ على مستوى ثالث يشترط فيه موافقة تجربة السامعين، إذ يوظف الشاعر تجاربهم في أشكال صور استعارية، وقد لخص ابن طباطبا هذه الخاصية الأسلوبية في جملة تدعو الشاعر لأن يعتمد الصدق والإصابة في تركيب الصور ونسجها ولا يتأتى له ذلك إلا بالحذق في تنويع نسوج أساليبه.‏
لا يقف ابن طباطبا عند الصدق في ضبطه لخصائص الأسلوب، بل يؤكد ضرورة المراجعة والانتقاد لما نسجه الشاعر، فيغير كلمة نابية بأخرى مألوفة، ويغير بكل لفظة مستهجنة لفظة مألوفة نقية، ساعياً لغاية الوضوح؛ لأن منتهى الشاعر أن يستوعب السامع فكرته، وتالياً يجد ما يصبو إليه من تأثير في المتلقي استدراجاً له.‏
إن المتأمل في نظرة ابن طباطبا إلى الأسلوب يجد أنها لا تقوم على أصل واحد متفرد كاللفظ و المعنى، بل يرى ((أن الأسلوب ليس المعنى وحده واللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور والعواطف، ثم الألفاظ المركبة والمحسنات المختلفة))، ومن ثم فالأسلوب في النص هو الأساس في نسج بنيته عبر جميع مستوياتها.‏
تتعمق النظرة إلى الأسلوب في التراث البلاغي مع أطروحات عبد القاهر الجرجاني (ـ 471هـ)؛ إذ نجده يساوي بين الأسلوب والنظم، لأن الأسلوب عنده لا ينفصل عن رؤيته للنظم، بل نجده يماثل بينهما من حيث أنهما يشكلان تنوعاً لغوياً خاصاً بكل مبدع يصدر عن وعي واختيار، ومن ثم يذهب عبد القاهر إلى أن الأسلوب ضرب من النظم وطريقة فيه.‏
إذا كان الأسلوب ـ كذلك ـ يجب أن يتوخى فيه المبدع اللفظ لمقتضى التفرد الذاتيّ في انتقاء اللغة عن وعي وذلك بمراعاة حال المخاطب، فإن الجرجاني قد أضاف أصلاً أصيلاً إلى نظرية الأسلوب في البلاغة العربية القديمة، إذ جعل الأسلوب يقوم على الأصول العربية وقواعدها، فالنظم يمتنع معنى إذا لم ينضبط بالنحو، وذلك ما أسس له الجرجاني في دلائل الإعجاز بقوله: ((واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ منها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها))(7)، وبذلك جعل عبد القاهر الجرجاني من النحو قاعدة لكل نظم، لا باعتباره أداة أسلوب ينتظم بها التركيب في نسقه الإعرابي العام، وإنما جعل منه ـ كذلك ـ مستفتحاً لما استغلق من المعنى؛ إذ الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب مفتاحاً لها، و((أن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه؛ والمقياس الذي لا يعرف صحيحاً من سقيم حتى يرجع إليه ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه))(8)، فإذا أدرك المبدع ذلك استقام له الأسلوب وأتاه أنى شاء.‏
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد أكد ضرورة التزام النحو في مفهوم النظم، فإنه قد تشدد في ضرورة النسج على طريقة مخصوصة تميز شاعراً عن شاعر آخر، وبذلك نجد أن عبد القاهر الجرجاني يميز الأسلوب بتميز صاحبه في نظمه عن غيره من أهل النظم والأدب، ومن ثم نلاحظ أن هذه النظرة لا تخرج عن نظريته في النظم التي يؤكد فيها التزام معاني النحو في التأليف، وذلك من خلال تأكيد توفر محاسن الكلام في ترتيب المعاني في النفس بطريقة خاصة؛ وحسب مقتضى الحال حتى يحصل التجانس.‏
إن مفهوم الإعراب عند الجرجاني لا ينتهي فيه إلى مفهوم الموقع من الجملة أو نسبته من الجملة من سابقه أو لا حقه رفعاً أو نصباً أو جراً، وإنما يتعداه إلى المفهوم الدلالي الذي تقتضيه فصاحة المخاطب ونباهة البليغ، ومن ثم نجده لا يقف في نظرته إلى الإعراب عند المظاهر الشكلية التي أسس لها الإعراب لاحقاً في الاهتمام بالقواعد الإعرابية، بل ينظر إلى الإعراب لا على أنه علم يحذق فيه صاحبه علم الحركات، بل على أنه علم يقصد فيه التأسيس لفهم يساعد على إدراك معنى المعنى.‏
لا شك في أن قيام النظم عند الجرجاني بتوخي معاني النحو يوجب حضوراً عقلياً واستعمالاً منطقياً للغة؛ ولهذا يقوم الإبداع عنده على جملة من المراحل الواعية، ينتظمها الأسلوب الفني بدءاً من الذهن وتصوراته في المعنى والمبنى، إلى مرحلة مخاطبة المتلقي، وهنا يلزم أن يراعي الشاعر حالة المخاطب لأن النظم يقوم على الروية والتفكير، وهذا انطلاقاً من الرؤية المؤسسة على أن النظم يقوم أولاً على استحضار الفكرة أولاً، ثم التمثل والنطق ثانياً، والاعتبار يكون بحال واضع للكلام.‏
فالترتيب الذهني والإخراج الفني المراعي لمقتضى الحال من دواعي قوة الأسلوب، ورصانته وبلاغته وجزالته، وليس الشأن في اللفظ حَسُنَ أو قَبُحَ، بل مفاضلة بين الألفاظ خارج سياق الكلام، وهذا ما جنح إليه الجرجاني، ولعله ـ هنا ـ خالف سابقيه المعتقدين بفصاحة اللفظة المفردة وجمالها، وسبقَ لاحقيه وبخاصة الطرح الألسني البُنوي المعاصر، الذي يذهب إلى الاعتقاد بأن جمال اللفظة لا يكون إلا في نظامها، وبذلك يتجلى لنا طرح الجرجاني وهو يناقش مسألة النظم في أن الأسلوب يقوم على توخي معاني النحو، لأننا في طلبها نطلب الجمال في الأسلوب والتفرد في الصياغة والقوة في الصناعة.‏
إن إخضاع مفهوم الأسلوب لمعاني النحو فهمٌ شاع في التراث البلاغي العربي بعد الجرجاني، لكننا نجد أن عبد الرحمن بن خلدون (ـ 808 هـ) لم يؤصل الأسلوب على معاني النحو فقط، وإنما جعل النحو والبلاغة والعروض علوم آلات تغذي سلوك الأسلوب كما يسميه، وهو طرح لا يجانب كثيراً طرح الجرجاني ولكنه يمتح من معين التقعيد الذي وقعت فيه العلوم اللغوية على زمانه. لقد تبيّن لابن خلدون أن الأسلوب عند أهل الصناعة ((عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القوالب التي يفرغ فيها، ولا يرجع على الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتباره الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية))(9)، التي تتعدى معرفة العلوم المذكورة؛ ولا تقوم الشاعرية عند الشاعر بإدراك هذه العلوم، فكم من شاعر لا يحيط بها إحاطة كاملة، وكم من محيط بهذه الأدوات وليس بشاعر، فالفرق بين عالم البلاغة والشاعر المبدع بيّن؛ ولكنها ـ بالرغم من ذلك كله ـ تؤسس لمشروع شاعر امتلك الملكة التي تطبع ذوقه من خلال التعمق في معارفها والتمرن على أساليب هذه العلوم قراءة وحفظاً.‏
إن هذا الطرح الذي يعالج من خلاله ابن خلدون مسألة الأسلوب يجعلنا نطرح التساؤل التالي: إذا كانت الصناعة الشعرية خارجة عن العلوم الثلاثة فما وظيفتها؟ وبخاصة إذا علمنا أنها الأساس في صناعة الأسلوب، بل ما الأسلوب ـ أصلاً ـ عند ابن خلدون؟.‏
يؤكد ابن خلدون في مقدمته أن الوظيفة الشعرية أو الصناعة الشعرية ـ كما يقول ـ ((ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبناء، فيرصها فيه رصاً كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام))(10)، وبذلك ندرك أن ابن خلدون يذهب إلى أن وظيفة الأساليب الشعرية هي استيعاب العلوم إدراكاً، ثم انتقاء منها ما يناسب التركيب الخاص بالشاعر والصور الذهنية التي يحملها وهل هي متسعة لوظائف القدرات اللغوية والإبداعية.‏
إن الأسلوب حسب تصور ابن خلدون صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق الأساس فيها الدربة النابعة عن قراءة النصوص الإبداعية المتفردة ذات البعد الجمالي الأصيل، وبمثل ذلك تتكون وتتألف التراكيب التي تعودنا على نعتها بالأسلوب؛ وإذا كانت التراكيب التي يكون الأساس الأول فيها اللغة هي الأداة المثلى للتشكيل الصورة الذهنية "الأسلوب" فإن الوظيفة الشعرية للأسلوب تجمل في تحقيق التجانس بين مختلف التراكيب المنتظمة في بنية أساسها اللغة، ولا يتحقق ذلك إلا بالتوفيق بين التراكيب النحوية والبلاغية من ناحية والذوق من ناحية أخرى، وبذلك نلاحظ قرب مذهب ابن خلدون في مناقشة مسألة الأسلوب من الأسلوبيين المعاصرين الذين يعرفون الأسلوب على أنه ((إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع))(11)، لتجسيد مبدأ التركيب والانزياح.‏
إن الملاحظ من خلال هذا الرصد المركز لمفهوم الأسلوب في التراث البلاغي العربي القديم أن هناك تبايناً بين الأطروحات التي تبناها كل علم من هؤلاء الأعلام الثلاثة، فابن طباطبا ربط مفهوم الأسلوب بصفة مناسبة الكلام بعضه لبعض، باعتبار أن الأسلوب داخل النص الشعري يتحقق إذا كملت له المعاني، وانسجمت الأبيات ووفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً لما تشتت منها، أما الجرجاني فقد أخضع الكلام لعلم النحو، حتى يحقق صفة النظم لأن النظم هو أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، بينما نجد أن ابن خلدون جعل الأسلوب صورة ذهنية مهمتها مطابقة التراكيب المنتظمة على التركيب الخاص، لأن الصناعة الشعرية التي هي بمعنى الأسلوب ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. لكن رغم هذا التباين في الأطروحات التي تبناها كل علم في مقاربته لمفهوم الأسلوب فإننا نجد أنهم قد أجمعوا على أن الأسلوب توفيق بين أطراف الكلام، سواء أكان ذلك بالملاءمة في الأسلوب أم بتوخي معاني النحو.‏
الأسلوب عند الحداثيين:‏
يذهب جلّ الباحثين والمهتمين بحقلي النقد والدراسات الأدبية، إلى القول إن للسانيات (دي سوسير) الأثر الكبير في نشأة المناهج النقدية النسقية، وانتهاجها الوصف والتحليل في مقاربة النصوص الأدبية، وتركها المعيارية واستصدار الأحكام النابعة ـ في الغالب ـ من تأثير السياقات الخارجية على النقاد، سواء أكانت هذه السياقات تاريخية أم اجتماعية أم نفسية أم أنتروبولوجية.‏
هذه النقلة النوعية في التعامل مع النصوص الأدبية والتي جاءت والنقد النسقي، تجلت بوضوح مع مطلع القرن العشرين في شتى المناهج النقدية المعاصرة.‏
الأسلوب STYLE سابق عن الأسلوبية stylistique في الظهور إذ ارتبط بالبلاغة منذ القديم في حين انبثقت الأسلوبية إثر الثورة التي أحدثتها لسانيات دي سوسير مطلعَ القرن العشرين، في مجال الدرس اللغوي ومدى تأثيره فيما بعد في الدراسات النقدية والأدبية إذ يعد مفهوم الأسلوبية ـ كما هو معروف ـ وليد القرن العشرين وقد التصق بالدراسات اللغوية وهو بذلك قد انتقل عن مفهوم "الأسلوب" السابق في النشأة منذ قرون، والذي كان لصيقاً بالدراسات البلاغية، ومن الممكن القول إن الأسلوب مهاد طبيعي للأسلوبية، فهو يقوم على مبدأ الانتقاء والاختيار للمادة الأدائية التي تقوم ـ في الخطوة التالية ـ الدراسات الأسلوبية بمهمة تحليلها من الناحية الأسلوبية المحضة؛ وتصنيفها حسب جماليتها الفنية؛ باتخاذها لغة الخطاب حقلاً للدراسة والاستقراء منها وبها تلج إلى عوالم النص لاستنطاقه وسبر أغواره.‏
تبحث الأسلوبية عن الخصائص الفنية الجمالية التي تميز النص عن آخر، أو الكاتب عن كاتب آخر، من خلال اللغة التي يحملَّها خلجات نفسه، وخواطر وجدانه، قياساً على هذه الأمور مجتمعة، تظهر الميزات الفنية للإبداع، إذ منها نستطيع تمييز إبداع عن إبداع انطلاقاً من لغته الحاملة له بكل بساطة؛ ومن ثم فالأسلوبية تحاول الإجابة عن السؤال: كيف يكتب الكاتب نصاً من خلال اللغة؟ إذ بها ومنها يتأتى للقارئ استحسان النص أو استهجانه، كما يتأتى له أيضاً الوقوف على مافي النص من جاذبية فنية تسمو بالنص إلى مصاف الأعمال الفنية الخالدة.والأسلوبية من المناهج التي تبنت الطرح النسقي انطلاقاً من مؤسسها شارل بالي، ((فمنذ سنة 1902 كدنا نجزم مع شارل بالي أن علم الأسلوب قد تأسست قواعده النهائية مثلما أرسى أستاذه ف.دي.سوسير أصول اللسانيات الحديثة))(12)، ووضع قواعدها المبدئية، حينها غيرت الدراسات النقدية نمط تعاملها مع الآثار الأدبية، باعتمادها النسق المغلق المتمثل في النص، واستقرائه من خلال لغته الحاملة له، وإبعادها كل ماله صلة بالسياقات وإصدار الأحكام المعيارية.‏
إن الأسلوبية بشكل عام منهج يدرس النص ويقرؤه من خلال لغته وما تعرضه من خيارات أسلوبية على شتى مستوياتها: نحوياً، ولفظياً، وصوتياً، وشكلياً، وما تفرده من وظائف ومضامين ومدلولات وقراءات أسلوبية لا يمت المؤلف بصلبه مباشرة لها على أقل تقدير(13) إذا نحن وضعنا في الحسبان أن المناهج النسقية تزيح السياقات في مقاربتها لنصوص الإبداعية.‏
تترصد الأسلوبية مكامن الجمال والفنية في الآثار الأدبية وما تحدثه من تأثيرات شتى في نفس القارئ، لما تسمو هذه الآثار عن اللغة النفعية المباشرة، إلى لغة إبداعية غير مباشرة، فنية وأكثر إيحاء وتلميحاً، هذا يحدد مجال الدراسة الأسلوبية، بينما يبقى ((الأسلوب الوسيلة بيانية للكتابة تتحقق على المستوى الفردي، كما تتحقق على المستوى الجماعي بل وتتمايز المراحل التاريخية للفرد أو العصر))(14) من منطقة إلى منطقة أخرى حسب تركيبتها الثقافية والاجتماعية والفكرية.‏
وتسعى الأسلوبية كمنهج نسَقي دوماً إلى محاولة مدارسة أساليب الكتاب اللغوي، ومدى تمايزها من خلال قدرة كل كاتب على التمايز في توظيف معجمه الفني من جهة، ومن جهة ثانية مدى استطاعته التأثير في المتلقي عبر اللغة، حينها تكون هاته اللغة تحقق انزياحات بشتى أنواعها سواء أكانت معجمية، أو دلالية، أو نحوية، أو عرفية، أو صوتية.‏
قد لا نعدو الحقيقة، إذا قلنا إن الأسلوبية مجال درسها الأسلوب، كظاهرة لغوية فنية، تسعى جاهدة إلى الوقوف على نسبية اختلافها من كاتب إلى كاتب، "وبصورة مجملة فإن البحث الأسلوبي إنما يعني بتلك الملامح أو السمات المتميزة في تكوينات العمل الأدبي وبواسطتها يكتسب تميزه الفردي أو قيمه الفنية، بصفته نتاجاً إبداعياً لفرد بعينه، أو ما يتجاوزه إلى تحديد سمات معينة لجنس أدبي بعينه"(15) دون سواه من الأجناس الأدبية الأخرى.‏
انطلاقاً من الجدل القائم بين مصطلحي الأسلوبية والذي أعرضنا عن الخوض فيه، سعياً إلى مباشرة للأسلوبية كمنهج نسقي يقارب النصوص الأدبية من خلال اللغة الحاملة لها، يمكننا أن نخلص إلى أن الأسلوبية كمنهج نقدي غايته مقاربة النصوص في سياقها اللغوي المتمثل في النص، ومدى تأثيره في القراء، فيجعل من الأسلوب مادة لدراسته، حينها نجد أن هذا الأخير يكون حقلاً خصباً تجد فيه الأسلوبية ضالتها درساً وتطبيقاً.‏
الأسلوبية واللغة:‏
تعرف اللغة بأنها مؤسسة اجتماعية تدرس تزامنياً، كما نادى بذلك دي سوسير في محاضراته، وهي مؤسسة اجتماعية لأنها تبحث في لغة جماعة ما، لها خصائصها المختلفة عن جماعة أخرى، في الزمان والمكان.‏
يقف البحث اللغوي الحديث عند اللغة في شموليّتها، أي في تداولها بين فئة اجتماعية معينة، ليضع لها قواعد صارمة لا يجب الخروج عنها أو تجاوزها، دون تطرقه للغة الفرد من خلال هذه الجماعة، فهذا الأخير في إبداعاته يقوم بتشويه اللغة، بحملها من المألوف إلى المألوف، ولن يكون له ذلك إلا بخرقه لهذه القواعد خرقاً فنياً جمالياً نابعاً من اللغة ذاتها،وهذا ما دأبت على مدارسته الأسلوبية بشتى اتجاهاتها، حيث تبقى أقل شمولية من البحث اللغوية الصرفة، مادامت تجنح إلى الانتهاكات الفردية للغة ومحاولة تعليل ذلك من مستويات ثلاثة: الكاتب، النص والقارئ، كل حسب دوره في عملية التلقي ووظيفته التواصلية. رصداً للقيم التزينية والفنية. وبذلك يتخذ ((الدرس اللغوي مساره تجاه الأصوات ـ المفردات ـ التركيبات وما يتصل بذلك، محدداً هدفه نحو دراسة تلك العناصر، وما يتميز به من خواص معينة، بينما تجعل "الأسلوبية" وجهتها دراسة العلاقات بين تلك العناصر السابقة، ودرجة تمازجها ومدى علاقاتها ومسافة توزعها، ثم يكون ذلك لهدف تال، وهو استشفاف القيم الفنية والجمالية من خلال ذلك التوجه الخاص للظاهرة اللغوية))(16)، وتفردها عن ظواهر لغوية أخرى في إبداعات فنية لكتاب آخرين.‏
مما سلف ذكره، يمكننا أن نبقى على مجال البحوث اللغوية في مدارستها للألفاظ والتراكيب، صوتياً، معجمياً، نحوياً، صرفياً، لتأتي البحوث الأسلوبية لرصد العلاقات الكامنة وراء النسيج اللغوي، والعلل الباعثة له من خلال اختلافه عن نسيج لغوي آخر، سعياً وراء كشف الفنية والجمالية في الظاهرة اللغوية، ذات النمط الخاص ضمن الإبداعات الفنية المختلفة شعرية كانت أو سردية.‏
الأسلوبية واللسانيات:‏
بدأت الدراسات اللغوية تأخذ الصبغة العلمية الوصفية بعيداً عن المعيارية الحكمية، ومع مجيء لسانيات دي سوسير في مطلع القرن العشرين، ومناداتها بدراسة اللغة تزامنياً، دراسة علمية وصفية، تقصي من غاياتها الاحتكام إلى المعايير واستصدار الأحكام القطعية، ينضاف إلى ذلك إقصاء الدراسة التعاقبية التاريخية للغة، وعلى هذا النهج، ومن هذا الرحم اللساني المحض نهلت الدراسة طريقة تعاملها مع اللغة من خلال النصوص، ((فإذا كانت لسانيات دي سوسير قد أنجبت أسلوبية بالي، فإن هذه اللسانيات نفسها قد ولدت البنيوية التي احتكت بالنقد الأدبي فأخصبا معاً "شعرية" جاكبسون، و"إنشائية" تودوروف، و"أسلوبية" ريفاتير. ولئن اعتمدت كل هذه المدارس على رصيد لساني من المعارف، فإن الإسلوبية معها قد تبوأت منزلة المعرفة المختصة بذاتها أصولاً ومناهج))(17)، ما دامت ـ في رأينا ـ أخصب المناهج وأقربها إلى الدراسات اللغوية الحديثة المعتمدة الوصف العلمي منهجاً.‏
أخذت الأسلوبية من اللسانيات الصفة العلمية الوصفية في الدراسة اللغة، غير أنها درست الخطاب ككل، وما يتركه هذا الخطاب من أثر في نفس المتلقي، في حين نجد أن اللسانيات قد اتجهت إلى دراسة الجملة بالتنظير واستنباط القواعد التي تستقيم بها، والقوانين التي من خلالها تكتسب طابع العلمية.‏
زودت اللسانيات المنهج الأسلوبي بطابع العلمية الوصفية في دراسة النصوص من خلال لغتها، وبذلك جعلت منه منهجاً علمياً وصفياً ينأى عن الدراسة المعيارية الحكمية، التي وقعت فيها البلاغة القديمة مما ولد عقمها وجمودها.‏
البلاغة والأسلوبية:‏
اهتمت البلاغة بدراسة الخطاب دراسة جزئية تقوم على المعيارية واستصدار الأحكام التقييمية، متبعة في ذلك مبدأي التخطئة والتصويب، بناء على تفضيلها للشكل على المضمون مما جعلها في النهاية تصاب بالعقم، في استنطاق النصوص إلى حد ما.‏
ومع ظهور لسانيات دي سوسير في مطلع القرن العشرين، ودعوته إلى الدراسة العلمية الوصفية التزامنية للغة، ظهرت على أنقاضها الأسلوبية كمنهج بديل، مادامت هذه الأخيرة ((كعلم جديد نسبياً، حاولت تجنب المزالق التي وقعت فيها البلاغة القديمة من حيث إغراقها في الشكلية، ومن حيث اقتصارها على الدراسة الجزئية بتناول اللفظة المنفردة، ثم الصعود إلى الجملة الواحدة أو ماهو في حكم الجملة الواحدة، وهذه الدراسة البلاغية كانت يوماً ما أداة النقد في تقييم الأعمال الأدبية))(18)، حين كانت الدراسة المعيارية المعتمدة استصدار الأحكام، والحرص على التقيد بالتوصيات المسطرة سلفاً، منهجاً يعول عليه كثيراً في تركيب الآثار الأدبية.‏
تستمد الأسلوبية علاقتها بالدرس اللساني الحديث بوصفها منهجاً وصفياً علمياً، تنفي عن نفسها المعيارية، وإرسال الأحكام التقييمية، بالقبول، أو بالرفض، ينضاف إلى ذلك، أنها لا تسعى إلى غاية تعليمية البتة، ناهيك عن حرصها الشديد على تعليل الظواهر الإبداعية وبعد أن تقرّر وجودها ههنا جاز لنا أن نقر بأحقية الدراسات الأسلوبية في مقاربتها النصوص الإبداعية، بشيء من العلمية الوصفية، على النقيض مما تعاملت به البلاغة.‏
الأسلوبية والنقد الأدبي:‏
مع ظهور البنيوية في القرن العشرين، بتأثير من لسانيات دي سوسير، ودعوتها إلى دراسة النص من الداخل وإقصائها لجميع السياقات الخارجة عن النص، راحت جل المناهج النقدية المعاصرة تحذو حذوها في قراءتها النصوص الأدبية.‏
نجد الأسلوبية من المقاربات التي اقتصرت في درسها للنص الأدبي على جانبه اللغوي، ((ومن هنا فإن الجانب اللغوي هو مجال الباحث الأسلوبي، أما ما يتصل بالأثر الجمالي، أو تحليل عمل الشاعر، أو الروائي، أو المسرحي وجدانياً، وجمالياً وموقفاً أو سواه فكل ذلك يكون مهمة الناقد الأدبي بعد ذلك))(19) بصفة أكثر شمولية، وذلك ما يطلع به النقد بشتى اتجاهاته.‏
تعد الأسلوبية اتجاهاً من اتجاهات النقد الأدبي، إن لم نقل جزءاً منه، وإن كنا نجد أن كل من الباحث الأسلوبي، والناقد الأدبي يقوم بالممارسة لفعل القراءة كل حسب ما توفرت له من رؤية وأدوات إجرائي، حينها لا نجد فرقاً أو احتواء أحدهما للآخر، مادام كل منها يحاول أن يقارب النص الإبداعي بأدواته الإجرائية، غير أن الناقد الأدبي يصبح أكثر منهجية عندما يستوعب ويلتزم بأحد المناهج، يستقي منه أدواته، ليقارب النصوص الأدبية.‏
فالنقد الأدبي لن يوفق في عمله مالم يستعن بمنهج نقدي من المناهج النقدية المعروفة سواء أكانت سياقية منها أم نَسقيّة، كل بحسب أدواته الإجرائية، وطرائقه ومقولاته في استنطاق النصوص الأدبية، وفهم العملية الإبداعية من ناص ونص ومتلقٍّ.‏
الأسلوبية والنص الأدبي:‏
تركز الأسلوبية ـ بوصفها منهجاً نسقياً يقصي من طريقه كل السياقات الخارجة عن النص ـ على مقاربة لغة النص، وأسلوب الكاتب فيه انطلاقاً من إمكاناته اللغوية المتاحة، ومن ثم فهي ترتكز قراءتها للنص على مفهوم الأسلوب كمجموعة من الخيارات يقوم بها الكاتب في نصه على مستويات اللغة المختلفة، اللفظية منها والنحوية بشكل رئيسي ثم الصوتية، وما تفرزه هذه الخيارات الأسلوبية من وظائف ومعانٍ ومدلولات أسلوبية ناشئة عن علاقات متشابهة، ومترابطة أو متنافرة، وأحياناً معقدة بين مستويات اللغة المذكورة، بحسب الموقف الذي ساهم في إنتاج النص.‏
يعتمد المنهج الأسلوبي اللغة الحاملة للنص قصد سبر أغوارها، وكشف مكنوناتها، من خلال الألفاظ، والتراكيب سواء من جانبها النحوي، أو الصوتي، أو الدلالي، سعياً إلى الوقوف عند اللغة الأدبية المميزة للنص عن سواه من النصوص الأخرى، لأن ((التناول الأسلوبي إنما ينصب على اللغة الأدبية لأنها تمثل التنوع الفردي المتميز في الأداء بما فيه من وعي واختيار، وبما فيه من انحراف عن المستوى العادي المألوف، بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية والتي يتبادلها الأفراد بشكل دائم وغير متميز))(20)، وذلك ما يميز بين الأسلوب في خصوصيته الإبداعية والأسلوب كأداة يومية تستعمل للتواصل؛ والأسلوبية باعتبارها منهجاً نقديّاً ينصب اهتمامها على اللغة الأدبية من خلال انحرافاتها الإبداعيةعن النمطية ضمن اللغة الإبداعية العادية.‏
تبقى القراءة الأسلوبية ذلك المنهج النسقي الذي يجعل لغة النص وسيلة وغاية لفهم الإبداع والوقوف على درجة الأدبية فيه، من خلال الهوامش التي تحققها اللغة الإبداعية إذ تسمو بالنص إلى مصاف الأعمال الفنية الجذابة، انطلاقاً من مدى اختيار الألفاظ وتراصها وعلاقة بعضها ببعض، ضمن تركيب نحوي وصوتي ودلالي؛ ولذلك نجد أن ((الأسلوبية تعود بالضرورة إلى خواص النسيج اللغوي، وتنبثق منه، فإن البحث عن بعض هذه الخواص ينبغي أن يتركز في الوحدات المكونة للنص وكيفية بروزها وعلائقها))(21) بعضها ببعض.‏
وتبقى الأسلوبية منهجاً نقدياً عمل من أجل الكشف عن أسرار اللغة الأدبية في النص الإبداعي، من خلال وحداته المكونة لـه وانطلاقاً من اللغة كوسيلة وغاية، كوسيلة للوصول إلى استنطاق النص، وكغاية سعياً وراء الوقوف عند درجة الأدبية في النص الأدبي.‏
محددات الأسلوب في الأسلوبية:‏
لقد دأب النقاد الأسلوبيون المعاصرون على رصد أساليب الكتاب وتفردهم واختلافهم، الواحد عن الآخر، من خلال المقولات الثلاث: الاختيار ـ التركيب ـ الانزياح.‏
1 ـ الاختيار:‏
يعمد الكاتب إلى اللغة بوصفها خزّاناً جماعياً رحباً، منه ينتقي مفرداتٍ، يتخيرها كي يصب فيها ما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس وانطباعات، وهنا يبدأ بحث النقاد الأسلوبيين من حيث العمل على كشف العلل والأسباب الكامنة وراء هذا الاختيار أو ذاك مادام ((مبدأ "الاختيار" أو "الانتقاء" يمثل خاصية من خصائص البحث الأسلوبي، وإذا كانت اللغة تحوي مفردات متعددة، تتركب منها أعداد لا تحصى من العبارات والجمل، فإن القضية المثارة هي البحث عن الدلالات المتعلقة بأسباب اختيار جملة بدلاً من جملة أخرى، وتفضيل تركيب عن تركيب سواه))(22)، ورصد العلل المضمرة وراء هذا الاختبار أو ذلك.‏
إن عملية الاختيار يحكمها جانبان: شعور فردي وجداني تمليه الدفقة الشعورية للإبداع، وآخر خارجي اجتماعي لغوي فني تفرضه القواعد والأعراف، والطقوس المتداولة عند الكتاب والمتلقين، حتى يكون هناك إدراك واضح لما تحمله النصوص الإبداعية، بفهم لغتها وما ترمي إليه، وجعلها أكثر قابلية عندهم، ومن نجد أن ((الوضوح يتحقق باختيار الكلمات المعينة غير المشتركة بين معان، والتي تدل على الفكرة كاملة، والاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، واستعمال الكلمات المتقابلة المتضادة إذا كان ذلك يخدم المعنى والفكرة، والبعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه))(23)، بسهولة وبصورة واضحة لا تشوبها شائبة.‏
يبقى الاختيار من العمليات المساعدة على كشف تفرد كاتب عن كاتب آخر، من خلال أسلوبه المتمثل في اللغة المعجمية، التي انتقاها ورصها مفرداتياً بعضها إلى بعض لتصير في النهاية لغة إبداعية فنية جمالية تستهوي القارئ، وترقع النص إلى مصاف الآثار الأدبية الخالدة.‏
2 ـ التركيب:‏
إن سلامة التركيب في جميع نواحيه، معجمياً، ونحوياً، وصوتياً، وصرفياً، ودلالياً، تستدعي انطلاقه من عملية سابقة عليه، وهي الاختيار، فكلما كان الاختيار دقيقاً يخدم الكاتب والنص القارئ، حينها يأتي التركيب كذلك؛ إذ ((ترى الأسلوبية أن الكاتب لا يتسنى له الإفصاح عن حسه ولا عن تصوره للوجود إلا انطلاقاً من تركيب الأدوات اللغوية تركيباً يفضي إلى إفراز الصورة المنشورة والانفعال المقصود)) (24)، والانطباع النابع من الذات عبر النص من خلال اللغة، ليحتضنه القارئ بحرارة.‏
وتقاس عملية التركيب بالرجوع إلى المزاج النفسي للكاتب وثقافته الخاصة، بالإضافة إلى السمات الثقافية لكل عصر، وهي الرقيب الذي يسير الكاتب تحت إمرته حتى يفهم عند المتلقين، ((فكل كاتب له مزاجه النفسي وثقافته المتميزة، كما أن لكل عصر سماته الثقافية، ومزاجه الفكري، ومن ثم يختلف أسلوب كاتب عن كاتب، كما يختلف أسلوب عصر عن عصر، إن الموقف وطبيعة القول وموضوعه، كل ذلك سوف يفرض بالضرورة أداء يختلف عن أداء، بل إن ذلك قد يكون لدى كاتب واحد))(25)، لأنه عايش فترتين زمنيتين مختلفتين.‏
أن ظاهرة التركيب التي لها علاقة تامة بالأسلوب تتحدد ضمن الأداء، من عدّة منطلقاتٍ ذاتيةٍ خاصةٍ بالكاتب ومزاجه النفسي، وثقافته المتميزة، والموضوع المتناول، وهي التي تفرض عليه لا محالة توظيف مفردات وتراكيب خاصة به، انطلاقاً مما سلف ذكره، وهذا لن يكون ذا فائدة تواصلية لغوية فنية جمالية، مالم يبق في إطار العصر وخصائصه الثقافية والفكرية واللغوية.‏
3 ـ الانزياح:‏
لقد ذهب جل النقاد الأسلوبيين، وعلى رأسهم الناقد الفرنسي "جون كوهن" إلى كشف ملامح الاختلاف بين الأساليب بدءاً بمدى انحراف الكتّاب عن النمط المألوف، والطقوس المتداولة في الكتابة في سياق نصوصهم الإبداعية؛ إذ ((الأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار المألوف... إنه انزياح بالنسبة لمعيار، أي إنه خطأ ولكنه خطأ مقصود))(26)، ومحمود تنزع النفس إليه مادام يحمل جمالاً فنياً.‏
فالانزياح في المفهوم الأسلوبي هو قدرة المبدع على انتهاك واختراق المتناول المألوف، سواء أكان هذا الاختراق صوتياً أم صرفياً أم نحوياً أم معجمياً أم دلالياً؛ ومن ثم يحقق النص انزياحاً بالنسبة إلى معيار متواضَعٍ عليه، لذا تبقى اللغة الإبداعية هي التي تسمح بهذه الخلخلات اللغوية ضمن النصوص بحملها من النفعية البلاغية إلى الفنية الجمالية؛ وهذا كله وفقاً لأفكار وتداعيات خاصة، في إطار أمنية ومواقف محددة تمليها طبيعة المواضيع المتناولة في ضمن النصوص، حيث ((أنه من غير المجدي حصر الكلام في تكرار جمل جاهزة، كل واحد يستعمل اللغة لأجل التعبير عن فكرة خاصة في لحظة معينة، يستلزم ذلك حرية الكلام))(27) واستقلالية الخوض فيه وبه بارتياح، في رحاب لغة فنية أدبية تجعل الجمالية والتأثير غايتَيْها.‏
إن جمالية الانزياح عندما تخلق اللغة الإبداعية هوامش رحبة، على حساب اللغة المعجمية وانطلاقاً منها، ففيها يتأتى للقارئ الإقبال على العمل الفني، وتذوقه ومدارسته ومحاورته، بشقف ونهمٍ كبيرين، إلى درجة الاستمتاع والإثارة والاقتناع به فنياً وجمالياً.‏
اتجاهات الأسلوبية:‏
راح الأسلوبيون ـ في إطار البحث الأسلوبي ـ يدرسون النصوص الأدبية، فهناك من قارب الظاهرة الأسلوبية بدءاً بعلاقة المبدع بالنص، وهنا انصب جهدهم على دراسة مدى انعكاس شخصية المبدع في نصه، وتصبح الرسالة اللغوية حينها مطية للتعريف بشخصية المبدع، مما يدخل في إطار علم النفس اللغوية إذا اعتبرنا هذا الأخير أحد مناهج المقاربة الأسلوبية.‏
كما أننا نجد بعضهم الآخر قد حشد اهتمامه في دراسة النصوص وعلاقتها بمتلقيها، إذ يهتم بمدى استجابة القارئ للنصوص وأهميته في ذلك، حيث يعد المتلقي، من خلال ملاحظاته منطلقاً طبيعياً لفحص الرسالة اللغوي الحاملة للنص.‏
وهناك فريق آخر أقصى كلاً من المبدع والمتلقي في مقاربته للنصوص الإبداعية، وأبقى على النص وحده، إذ يرى أن النص هو الوحيد الذي باستطاعته ـ إلى حد ما ـ الكشف عن محموله الدلالي من خلال خواصه اللغوية التي تميزه عن نص آخر، أو يتميز بها كاتبه عن كاتب آخر.‏
ومن ثم نجد أن مقاربة الظواهر الأسلوبية، سواء ربطنا النص بمنشئه، أو متلقيه، أو اقتصرنا عليه دون منشئه ولا متلقيه، ـ تحتم علينا لا محالة اتخاذ الإحصاء منهجاً لرصد الظواهر الأسلوبية الكامنة في النصوص.‏
الأسلوبية التعبيرية [شارل بالي] 1865ـ 1947:‏
وهذا ما دأب عليه شارل بالي وأتباعه من الأسلوبيّين في تعاملهم مع النصوص الأدبية، انطلاقاً من المنهج الأسلوبي الذي يدرس لغة الخطاب سبراً لأغوارها، وماكان له ذلك لو لم ينحو منحى الدراسات اللسانية الحديثة، التي امتطت العلمية الوصفية سبيلاً لمدارسة النصوص من خلال لغتها ضمن تزامنيتها في إطار النسق المغلق المتمثل في النص.‏
(الأسلوبية) أو (الأسلوبيات) أو (علم الأسلوب) كلمات مشتقة من الأسلوب، تشكل اتجاهاً نقدياً يعتني بمقاربة الجوانب الأسلوبية في النصوص الإبداعية، وقد ظهرت خلال القرن التاسع عشر في النقد الغربي، لكن ملامحها كمنهج نقدي لم يحدد إلا في بداية القرن العشرين مع "شارل بالي" (1947. 1855. C. Bally) ، بعد أن كانت متداخلة مع علم البلاغة في التراث اللغوي العالمي.‏
استفاد شارل بالي في التأسيس للأسلوبية كثيراً من أستاذه (("فردينان دي سوسير"‏
(1913.1857) وبخاصة في بعض إنجازاته اللغوية الأساسية، فوضع "شارل بالي" ـ بوصفه مؤسس الأسلوبية ورائد التعبيرية منها ـ الطابع الوجداني محدداً في عملية التواصل بين المرسل والمتلقي، ضمن الإطار اللغوي للرسالة، إذ "يعد من الرواد المؤسسين للأسلوبية، وهي تعني عنده البحث عن القيمة التأثيرية لعناصر اللغة المنظمة والفاعلية المتبادلة بين العناصر التعبيرية التي تتلاقى لتشكيل نظام الوسائل اللغوية المعبرة، وتدرس الأسلوبية عند "بالي" هذه العناصر من خلال محتواها التعبيري والتأثيري)) (28) من النص إلى المتلقي عبر اللغة.‏
اهتم "بالي" في أسلوبيته التعبيرية بالجانب الأدائي للغة الإبلاغية، من خلال تأليف المفردات والتراكيب اللغوية ورصدها جانباً إلى جنب، انطلاقاً مما يمليه وجدان المؤلف، بذلك تعتبر التراكيب اللغوية حاملة لمضمون عاطفي مشحون دلالياً يجعل المتلقي يتأثر به، عندها يبقى الخطاب من خلال لغته المشكلة لبنيته الخارجية ذا تأثير فعال فيمن يحمل إليه، مادام ((موقف التحليل الأسلوبي عند بالي هو الخطاب اللساني بصفة عامة، ولكنه يحصر مجال الأسلوبية في القيم الإخبارية التي يشتمل عليها الحدث اللغوي بأبعاده دلالية وتعبيرية وتأثيرية)) (29) إلى المتلقي للخطاب.‏
حصر "بالي" أسلوبيته في اللغة الشائعة، لغة التواصل اليومي، دون اللغة الأدبية، لغة الإبداع. "ومن هنا كان "الأسلوب" عند "بالي" هو تتبع السمات والخصائص داخل اللغة اليومية، ثم استكشاف الجوانب العاطفية والتأثيرية والانفعالية التي تميز أداء عن أداء"(30)، من شخص إلى شخص، ومن بيئة إلى بيئة.‏
ـ العلاقة بين اللغة والحديث أو بين عناصر الوراثة في اللغة وهو ما أ طلق عليه"Langue"، وبين الاستخدام الذي يزاوله الناس في الحديث "Parole"‏
ـ تحليل الرموز اللغوية، وذلك باعتبار أن المسميات اللغوية ليست سوى مفاهيم ترتبط بذهن من ينطقها.‏
ـ دراسة التركيب العام للنظام اللغوي لأن الكلمة في حد ذاتها لا تمثل بناءً لغوياً.‏
ـ آثر "دي سوسير" الفصل بين مناهج الدراسة الوصفية (سانكروني) والمناهج التاريخية (دياكروني).‏
ـ لاحظ أن العلامة اللغوية تمتاز بطابع خاص سماه (الدالّ)، وطابعٍ دلالي سماه (المدلول).‏
تميزت الأسلوبية منذ القرن العشرين ((عما هو مشترك في مفهوم الأسلوب عن البلاغة القديمة))(31)، ولذلك ركز "شارل بالي" في دراسته للأسلوب على الكلام أو الحديث اليومي باعتباره الخطاب البسيط و البعيد عن التعقيد والوعي القصدي؛ واشتغل كثيراً بالوصف اللغوي، ولهذا نعتت أسلوبيته منذ البداية بالوصفية؛ إذ هي عبارة ((عن وصف للوسائل المقدمة من اللغة، واختبار للعلاقة السنكرونية بين العبارة والوعي النفسي التحليلي))(32)، وبذلك نجد أن "شارل بالي" في أسلوبيته الوصفية يترجح بين سلطان العقل والعاطفة من أثر اللغة في المتلقي.‏
ويخلص "شارل بالي" في طرحه الأسلوبي إلى تأكيد سلطان العاطفة في العملية اللغوية، وأرجع سلطان العقل إلى المستويات الخلفية، معللاً ذلك بأن الإنسان في جوهره كائن عاطفي قبل كل شيء، وأن اللغة هي الكاشف الأكبر من هذا الإنسان.‏
يسجل الدارسون أن المنحى الذي سلكته الأسلوبية وبخاصة مع "شارل بالي" كان علمياً خالصاً، أو على أقل تقدير كانت نظرتها إلى الأسلوب تندرج في إطار علمي خاص، ويؤكد ذلك ما ذكره الأسلوبيون الفرنسيون من أمثال "بيير جيرو" و"جيرار جنجمبر"؛ إذ تسعى الأسلوبية الحديثة ـ في نظر هذا الأخير ـ إلى نظرة علمية.‏
داخل هذا الإطار توسعت المدرسة الأسلوبية الفرنسية لتشمل أعمال "شارل برينو" و"مارسيل كريسو" وأخذت تعتني بوسائل المعنى المعتمدة من المبدع في إطارها اللغوي البحت؛ ثم تطورت الأسلوبية تطوراً كبيراً وسجلت قفزة نوعية في مجال الدراسات الأدبية؛ فلم تعد لغة النص غاية في ذاتها بل أصبحت وسيلة لدراسة الأدوات التعبيرية من أجل غايات أدبية أسلوبية، وبذلك تكون الأسلوبية في مفهومها النقدي هي العلم الذي يكشف عن القيم الجمالية في الأعمال الإبداعية.‏
تجلت الأسلوبية التعبيرية في النقد العربي المعاصر، في ترجمة جزء من أعمال بالي؛ إذ ضمن الباحث شكري محمد عياد كتابه "اتجاهات البحث الأسلوبي" ترجمة لفصل من كتاب "شارل بالي" "اللغة والحياة" بعنوان "علم الأسلوب وعلم اللغة العام".‏
كما نجد عزة آغا ملك في مقال لها بعنوان "الأسلوبية من خلال اللسانية" في مجلة الفكر العربي، ع: 38 قد توصلت إلى أن كلاً من: جول ماروزو، ومرسيل كريسو، وروبرت سايس، وشيفات أولمان، قد ساروا على نهج مؤسس الأسلوبية شارل بالي.‏
ومن الذين اهتموا بالأسلوبية التعبيرية في النقد العربي المعاصر إضافة إلى من سلف ذكرهم، "صلاح فضل" في مؤلفه "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته" ينضاف إلى ذلك "حمادي صمود" في مؤلفه: "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة" 1988.‏
وكلهم حاول فهم الأسلوبية التعبيرية، كما جاءت من "شارل بالي" وأتباعه، بالإضافة ثم سعوا إلى تطبيق مقولاتها على اللغة العربية إبداعاً ونقداً في سياق معركة الحداثة التي تجتاح الحركة النقدية العربية المعاصرة.‏
الأسلوبية النفسية "ليو سبيتزر" [1960-1887] Les Spityer‏
تضع الأسلوبية النفسية، الأثر الأدبي وسيلة للولوج إلى نفسية مبدعه، من خلال المعجم الإفرادي والمعجم تركيبي للغة الحاملة للخطاب القابع في النص الأدبي؛ وذلك كي يتسنى للباحثين في هذا الاتجاه الوصول إلى ذاتية الأسلوبي انطلاقاً من مضمون الرسالة ونسيجها اللغوي في إطار النص المبدع.‏
من رواد هذا الاتجاه في البحث الأسلوبي نجد الألماني "ليوسبيتزر" [1960-1887] Les Spityer في مؤلفه: "دراسة في الأسلوب"؛ إذ يهتم بالذات المبدعة وخصوصية أسلوبها انطلاقاً من تفردها في الكتابة، حيث ((يتميز باحتفاله بخصوصية الذات الكاتبة... وآثر ذلك على خصوصية استعمالاتها الأسلوبية... ومن ثم يكاد "سبتزر" يجنح إلى تلامس واضح بين الجانب النفسي، لتلك الذات المنتجة، وبين ما أنتجته من كتابة معينة))(33) تختلف عن كتابات الآخرين. ينضاف إلى ذلك ربط "سبتزر" لفردية الذات المبدعة، وتفردها في الأسلوب، داخل وسط اجتماعي يتطور تاريخياً، كما ((يكاد يلامس كذلك المنحى الاجتماعي بحسبان تلك الذات جزءاً من شريحة اجتماعية ضخمة، وهي كذلك واحدة من سلاسل أفراد وجماعات لها روحها العام بجانب روح الذات الخاص))(34) مفردة ضمن سياقها الاجتماعي العام.‏
ينظر "سبتزر" إلى الأسلوب من خلال الذات المبدعة، وخصوصيتها الفردية في إطار سياق جماعي تاريخي يساهم في وسم الأسلوب بميزات خاصة تبعاً لما تمليه الظروف المختلفة؛ ((فالأسلوب خصوصية شخصية في التعبير والتي من خلالها تتعرف على الكاتب، وذلك من خلال عناصر متعددة تعمل على تكوين هذه الشخصية الذاتية))(35) من خلال ذوات أخرى تَحْيا جنباً إلى جنب معهم، في شكل جماعة تحكمها ظروف اجتماعية ونفسية وتاريخية خاصة.‏
تذهب الأسلوبية النفسية ـ من خلال طرحها في مقاربة النص ـ إلى أن علم الأسلوب ـ من منظورها ـ قادر على إدراك كل ما يتضمنه فعل الكلام من أساليب أصلية تتوفر على عناصر الفرادة أوجدتها طاقة خلاقة منبثقة من نفس مبدعة وتفرده في الإلقاء، وقدرته على القول، وتمكنه من التعبير وهنا ينصب جهد البحث الأسلوبي النفسي على تتبع التحولات اللغوية، التي أحدثها المبدع في خصوصيته وفرديته المتميزة انطلاقاً من دفقة شعورية يختص بها، لذلك قد تكون الأسلوبية النفسية أشبه بدراسة السير الذاتية للمبدعين والكتاب، وذلك بالاعتماد على استنطاق لغة النص وما تحمله من دلالات عديده، كما نادت بذلك اللسانيات الحديثة، والتي ولدت من رحمها الأسلوبية.‏
جنحت الأسلوبية النفسية إلى الانطباعية. والإغراق في ذوات المبدعين يظهر حالياً، مادامت تهتم بالجوانب النفسية، في إطار الجماعة بكل ظروفها التي تحيا ضمنها، جاعلة من أسلوب الكاتب في انحرافه عن السائد والمألوف، حقلاً للدراسة والبحث والتقصي.‏
لقد تجلت الأسلوبية النفسية كباقي الاتجاهات الأسلوبية الأخرى في النقد العربي المعاصر، فراح باحثونا يترجمون لأعلامها ساعين إلى فهم وكشف ما تحمله هذه الدراسات الأسلوبية النفسية المعتمدة على المبدع، المتفرد من خلال نصه، الذي لا يفهم إلا منه، ومن النقاد العرب الذين اهتموا بهذا الطرح الأسلوبي نجد:‏
ـ عزة آغا ملك في بحث لها بعنوان "منهجية ليوسبتزر في دراسة الأسلوب الأدبي" عن مجلة الفكر العربي عدد 36 – 1985.‏
ـ حمادي صمود في مؤلفه "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة" 1988.‏
ـ عبد الفتاح المصري في بحثه "أسلوبية الفرد" عن مجلة الموقف الأدبي، عدد 135 –136، دمشق 1982.‏
ـ صلاح فضل في كتابه "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته" 1985.‏
وهكذا ترجحت بحوث العرب في الأسلوبية النفسية بين الترجمة، ومحاولة الفهم والدراسة، إلى التطبيق والنقد في غالب الأحيان.‏
الأسلوبية والبنيوية: (الوظيفة).‏
تنطلق الأسلوبية البنيوية في بحثها من النص كنسق لغوي، متأثرة في أطروحاتها باللسانيات الحديثة، وبخاصة علوم: الصرف، والمعاني والتراكيب، لرصد ما يحمله النص من دلالات وإيحاءات بدءاً بمفرداته وتراكيبه المشكلة له، إذ تقارب الأسلوبية البنيوية الأسلوب من خلال النسيج اللغوي للنص، فتحدد العلائق اللغوية في مستوياتها الإفرادية والتركيبية المشكلة لنسيجها النصاني في تتابعها ومماثلتها، مهتمة بمقاربة الظواهر وما تولده من فروق تتولد في سياق الوقائع الأسلوبية ووظائفها في الخطاب الأدبي ذي الجودة العالية فنياً وجمالياً.‏
ينطلق البحث الأسلوبي البنيوي في تحليله للآثار الأدبية من خلال البنى اللغوية المشكلة لها، ومدى تناسقها وتضافرها داخلياً لتكوين ذلك الكل الشمولي المتمثل في النص، ((وليس النص الأدبي نتاجاً بسيطاً من العناصر المكونة، بل هو بنية متكاملة تحكم العلاقات بين عناصرها قوانين خاصة بها، وتعتمد صفة كل عنصر من العناصر على بنية الكل. وعلى القوانين التي تحكمه. ولا يمكن أن يكون للعنصر وجود ـ (فيزيولوجي أو سيكولوجي) ـ قبل أن يوجد الكل، وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن تعريف أي عنصر منفصل إلا من خلال علاقاته التقابلية أو التضادية مع العناصر الأخرى في إطار بنية الكل)) (36)، حينئذ يمكننا مدارسة النصوص الأدبية انطلاقاً من لغتها الحاملة لها، ومدى تفاعل الشكل المتمثل في المفردات والتراكيب في سياق نحوي ما، ناهيك عن تفاعل هذا الشكل بما تولده هذه المفردات والتراكيب والأصوات من دلالات تكتسبها ضمن علاقاتها جنباً إلى جنب لتكون النص في شكله العام.‏
تؤسس الأسلوبية البنيوية لمنهج غايته دراسة النصوص الأدبية انطلاقاً من لغتها، وما تحدثه في تجاور مفرداتها وتراكيبها، في إطار النص كنسق لغوي معزول عن كل اعتبارات تاريخية أو نفسية، لذلك لا يبحث النقاد الأسلوبيون البنيويون عن ملامح أصالة النص في محاكاته للأسيقة بكل أنواعها، بل نجد أن اهتمامهم ينصب على انسجامه النص مع نفسه، ويركزون على مقاربة وحداته التي أسست لتناميه فيبرزون جماليات مكوناته، وثراء دلالاته من خلال تناسق وانسجام أساليبه، فالنص الأدبي من هذا المنظور هو نظم لغوي يعبر عن ذاته بدءاً بانسجام مفرداته وتراكيبه، وعلاقة بعضها ببعض، ومن ثم يجب مقاربته بذاته ولذاته.‏
تركز الأسلوبية البنيوية على تناسق أجزاء النص اللغوية، ورصد مدى انسجامها علائقياً، حتى تكتسب اللغة من خلال النص صفة الأدبية زيادة على صفة الإبداعية ضمن السياق العام للغة، هذا كله ينبئ بأنها بقدر ما تهتم بالنص لذاته وبذاته، فإنها تهتم كذلك بالمتلقي كعنصر هام في تفعيل العملية الإبداعية، مادام هذا الأخير يقبل على الأثر الأدبي إذا بلغ درجة فنية راقية، تجعله يقع في نفسه موقع الاستحسان والقبول الفنيين، فيتمتع به، ويصغي إلى محمولته الدلالية، وينجذب نحو سحره الظاهر في إطار لغة فنية راقية تسمو عن التواصلية النفعية إلى التأثير الجمالي وتالياً إلى الإبداع والفن.‏
لقد كان لـ"رومان جاكبسون" الأثر الأعظم في التأسيس للتحليل الأسلوبي وبخاصة البنوي منه، إذ كان منطلقه في ذلك أن ((الأدب أبعد من المعنى، والعمل الأدبي يمثل كل طرائق الأسلوب، وأن الأسلوب هو البطل الوحيد في الأدب))(37)، ومن ثم قام بالتأسيس الأسلوبية للبنوية ذات الطرح المحايث الذي يجعل من الأسلوب الميدان الأول للبحث والمقاربة.‏
كما ركز "ميشال ريفاتير" في كتابه "مقالات في الأسلوبية البنيوية" على مقاربة المعالم الكبرى للأسلوب الفني وفقاً للطرح النقدي، مع الإدراك الواعي بما تحققه تلك المعالم من غايات وظائفية، سواء أكانت أسلوبية أم جمالية، انطلاقاً من أن النص بنية خاصة تشكل منظوراً أسلوبياً.‏
أسس هذا الطرح للتحليل الشكلاني الذي يحلل ويصنف مجموعة الأنساق التكرارية مع التركيز على ملاحظة الأداء البنائي وفق المستويات المتنوعة، مع الاهتمام بمقاربة المستوى الصوتي منه بخاصة.‏
لقد تشكل الاهتمام لدى الأسلوبية البنيوية بفن الشعر أو فن الأسلوب أكثر الاهتمام سعة وعمقاً، حتى كادت أن تعرف بدراسة الشعر دون الأجناس الأخرى؛ إلا أن هذا المدى الأسلوبي الشكلي، والذي استمد أسسه من الطابع الموضوعي المفرط في المحايثة، لم يسلم من الانتقاد المنهجي من بعض الدارسين، الذين عابوا عليه الانغماس في الطابع اللغوي الجاف متناسياً الجانب المضموني في العمل الأدبي. وهاذ ما دفع إلي بروز اتجاه آخر في الأسلوبية يركز على المناحي الانطباعية ويحاول ملامسة الجوانب الإنسانية في الأعمال الأدبية، وقد عرف بالأسلوبية الأدبية ولقي رواجاً في الدراسات الألمانية ا لتي تستند في كثير من أطروحاتها إلى الفلسفة المثالية.‏
وجد هذا الاتجاه أقلاماً نقدية عربية حاولت أن تتبنى أطروحاته وتحاول أن تؤسس لها حتى تصبح قراءة لها مجال في الممارسة النقدية العربية المعاصرة، ومن النقاد الذين سعوا إلى ذلك:‏
ـ فؤاد أبو منصور: "النقد البنيوي الحديث".‏
ـ عبد السلام المسدي: "محاولات في الأسلوبية الهيكلية".‏
ـ حمادي صمود: "الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة".‏
محمد العمري: "تحليل الخطاب الشعري".‏
ـ شكري محمد عياد: "اتجاهات البحث الأسلوبي".‏
ـ فؤاد زكريا: "الجذور الفلسفية للبنائية.‏
لقد ترجحت هذه البحوث بين الترجمة ومحاولات التطبيق على النصوص الأدبية العربية، وقيامهم بالنقد أحياناً.‏
4 ـ الأسلوبية الإحصائية:‏
تعتمد الأسلوبية الإحصائية، الإحصاء الرياضي مطية للدخول إلى عوالم النصوص الأدبية، دلالة منها على خصائص الخطاب الأدبي في أدواته البلاغية والجمالية إذ ((يهدف التشخيص الأسلوبي الإحصائي إلى تحقيق الوصف الإحصائي الأسلوبي للنص، لبيان ما يميزه من خصائص أسلوبية))(38) عن باقي النصوص الأخرى.‏
انصبت جهود الأسلوبيين الإحصائيين على مدارسة النصوص الإبداعية، من خلال بنياتها المشكلة لها ومراعاة عدم تكرارها، والبحث عن الصيغ والمفردات التي يركز عليها المبدع دون غيرها، وذلك للوقوف على المعجم الإفرادي والتركيبي والإيقاعي للمبدع ذاته، كما سعت إلى تبيان خصائص اللغة التي اعتمدها الكاتب محاولة منها لتأكيد أن المقاربة الإحصائية للأسلوب يقصد منها تمييز الملامح اللغوية للنص، وذلك من خلال إبراز معدلات تكرار مختلف المعاجم، سواء أكانت إفرادية أم تركيبية أم إيقاعية ونسب هذا التكرار، ولهذا النمط من المقاربة أهمية خاصة في تشخيص الاستعمال اللغوي عند المبدع، وإظهار الفروق اللغوية بينه وبين مبدع آخر، مع ذكر العلل والأسباب إلى حد ما.‏
ومن رواد المنهج الأسلوبي الإحصائي في الغرب يمكن أن نقتصر على الأسماء الآتية:‏
ـ برنلد شبلز في مؤلفه "علم اللغة والدراسات الأدبية، دراسة الأسلوب والبلاغة".‏
ـ كراهم هاف: "الأسلوب والأسلوبية".‏
ـ جون كوهن: "بنية اللغة الشعرية".‏
كما نجد تجلي الأسلوبية الإحصائية واضحاً في النقد العربي المعاصر، حيث تركز بين الترجمة والنقد ومحاولات التطبيق على النصوص الإبداعية العربية، ومن النقاد العرب الأسلوبيين الذين برزوا في هذا الاتجاه:‏
ـ محمد الهادي الطرابلسي "في منهجية الدراسة الأسلوبية"، مجلة الجامعة التونسية نوفمبر 1983.‏
ـ سعد مصلوح "الأسلوب دراسة لغوية إحصائية"، و"الدراسة الإحصائية للأسلوب، بحث في المفهوم والأجزاء والوظيفة" عالم الفكر العدد 03 أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1989.‏
ـ صلاح فضل "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته".‏
ـ محمد العمري "تحليل الخطاب الشعري".‏
نخلص في ختام هذا البحث إلى أن البلاغيين العرب الأوائل كانوا ينظرون إلى الأسلوب من خلال سمات القوة والتناسق والجمال، مراعين في ذلك ما يقتضي الحال ا لذي يكون عليه المخاطب، أما بالنسبة للمخاطَب فيشترطون فيه إلمامه بعلوم اللغة من نحو وصرف وبيان وعروض. يشكل هذا لديهم إجماعاً وقلما نجد من أضاف إليه جديداً في مفهوم الأسلوب، مع استثناء "الجرجاني" في نظرية النظم، و"ابن خلدون" في تحديده للأسلوب على أنه صورة ذهنية، وربما نلمس أيضاً توافقهم في جعل الأسلوب توفيقاً بين أطراف الكلام.‏
لم يخرج كثير من النقاد في مطلع القرن الماضي عن مفهوم أسلافهم بشكل عام إلا أنهم طعموه بنصيب من الثقافة الأدبية والنقدية الأوروبية الحديثة وكان أبرزهم "أحمد أمين" و"أحمد حسن الزيات" ولعل الجدير بالإشارة اهتمامُهم بنظرية "بوفون" في الأسلوب وبخاصة في مجال تجسيد الأسلوب للطبيعة والنفس البشرية.‏
وتشكل نظرة الأسلوبيين للأسلوب فتحاً مهماً للدراسات النقدية، وذلك انطلاقاً من نظرتهم إلى الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار المألوف والمتداول في نظم الكلام الإبداعي، ومن ثم تبقى الأسلوبية المنهج النقدي الذي بوسعه ـ إلى حد ما ـ رصد مكامن الفنية والجمال في النصوص الإبداعية، انطلاقاً من اللغة الحاملة لها، من خلال ماتوفره هذه اللغة من انحرافات فنية محمودة، تجعل منها الأسلوبية حقلاً لدرسها، سعياً إلى فهم النصوص الإبداعية، وبجنوح الأسلوبية إلى الوصف العلمي الذي يبغي الابتعاد عن استصدار الأحكام التقييمية، استطاعت الساحة النقدية الحديثة محاولة الإعراض عن البلاغة وما وقعت فيه في مدارسة الأسلوب، وماكان لها ذلك لولا سيرها على نهج لسانيات دي سوسير، وما نادت به من ضرورة دراسة اللغة لذاتها وبذاتها، وإقصاء السياقات الخارجية، وحينئذٍ حققت الدراسات الأسلوبية نقلة نوعية في تعاملها مع الأسلوب بالوقوف عندما تحققه لغته من انزياحات لغوية.‏
المصادر والمراجع‏
1 ـ الأسلوبية والأسلوب/ عبد السلام المسدي، تونس: الدار العربية لكتاب، ط2، 1982م.‏
2 ـ الأسلوبية منهجاً نقدياً/ محمد عزام، دمشق: وزارة الثقافة السورية، ط1، 1989م.‏
3 ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب/ نور الدين السدّ، الجزائر: دار هومة، ط1، 1997م.‏
4 ـ البحث الأسلوبي: معاصرة وتراث/ رجاء عيد، الاسكندرية: دار المعارف، ط1، 1993م.‏
5 ـ البلاغة والأسلوبية/ محمد عبد المطلب، مصر: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1984م.‏
6 ـ بنية اللغة الشعرية/ جون كوهن، ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 1986م.‏
7 ـ تاج العروس/ الزبيدي، بنغازي: دار ليبيا للنشر والتوزيع.‏
8 ـ حول الأسلوبية الإحصائية/ محمد عبد العزيز الوافي، مجلة علامات، مج11، ج42، ديسمبر 2001م.‏
9 ـ دلائل الإعجاز/ الجرجاني، بيروت: دار الكتب العلمية.‏
10 ـ شفرات النص: دراسة سيميولوجية/ د.صلاح فضل، بيروت: دار الآداب، ط1، 1999م.‏
11 ـ عيار الشعر/ ابن طباطبا، تحقيق عباس عبد الستار، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1983م.‏
12 ـ القاموس المحيط/ الفيروز أبادي ، بيروت: المؤسسة العربية للطباعة والنشر.‏
13 ـ لمن النص اليوم، للكاتب أم للقارئ؟/ حسن غزالة، مجلة علامات، عدد 392، مج10، مارس 2001م.‏
14 ـ مختار الصحاح/ الرازي، بيروت: مكتبة لبنان، 1988م.‏
15 ـ المقدمة/ ابن خلدون، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1967م.‏
16- G.Gengembre. Les Grands Courants Littéraire.‏
* أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة سيدي بلعباس ـ الجزائر.‏
(1) ـ تاج العروس / الزبيدي ـ 1/ 302.‏
(2) ـ القاموس المحيط / الفيروز أبادي ـ 1/ 86.‏
(3) ـ مختار الصحاح / الرازي ، ص130.‏
(4) ـ عيار الشعر/ ابن طباطبا، ص 11.‏
(5) ـ المرجع السابق، ص11.‏
(6) ـ نفسه، ص11.‏
(7) ـ دلائل الإعجاز/ عبد القاهر الجرجاني، ص64.‏
(8) ـ المرجع السابق.‏
(9) ـ مقدمة ابن خلدون، ص 352.‏
(10)ـ المرجع السابق، ص 353، 354.‏
(11) ـ البلاغة والأسلوب/ محمد عبد المطلب، ص 130.‏
(12) ـ الأسلوبية والأسلوب/عبد السلام المسدي، ص20.‏
(13) ـ ينظر لمن النص اليوم للكاتب أم القارئ/ حسن غزالة، مجلة علامات، ع: 392، مج10، مارس/2001، ص 130 ـ 132.‏
(14) ـ البلاغة والأسلوبية ، مرجع سابق، ص268.‏
(15) ـ البحث الأسلوبي معاصرة وتراث/ رجاء عيد/ دار المعارف، مصر، ط01/ 1993، ص25.‏
(16) ـ المرجع السابق، ص 55.‏
(17) ـ الأسلوب والأسلوبية، مرجع سابق، ص51.‏
(18) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 268.‏
(19) ـ البحث الأسلوبي، ص33.‏
(20) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 129.‏
(21) ـ شفرات النص: دراسة سيميولوجية في شعرية القصد والقصيد/ صلاح فضل، دار الآداب، بيروت، ط1/1999، ص 80.‏
(22) ـ البحث الأسلوبي معاصرة وتراث، ص 120.‏
(23) ـ البلاغة والأسلوبية، ص 101.‏
(24) ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب/ نور الدين السدّ، ص169.‏
(25) ـ البحث الأسلوبي، ص 49.‏
(26) ـ بنية اللغة الشعرية، جون كوهن، تر: محمد الوالي ومحمد العمري، ص 15.‏
(27) ـ المرجع السابق، ص 101.‏
(28) ـ الأسلوبية وتحليل الخطاب، ص 60.‏
(29) ـ المرجع السابق، ص 64.‏
(30) ـ البحث الأسلوبي، ص 31.‏
(31) ـ G.Gengembre.Les Grands Courants Littéraire. P:40.‏
(32) ـ Idemp:40.‏
(33) ـ البحث الأسلوبي ، ص 52 –53.‏
(34) ـ المرجع السابق، ص 53.‏
(35) ـ نفسه، ص 126.‏
(36) ـ الأسلوبية منهجاً نقدياً/ محمد عزام، ص 110.‏
(37) ـ البحث الأسلوبي، ص 48.‏
(38) ـ حول الأسلوبية الإحصائية، محمد عبد العزيز الوافي/ مجلة علامات/ج42/مج11/ديسمبر 2001، ص122.‏
 
عودة
أعلى