تحقيق مذهب ابن حزم في إعجاز القرآن الكريم

إنضم
25 أبريل 2010
المشاركات
122
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
الإقامة
الطائف
تحقيق مذهب ابن حزم في الإعجاز

الأساتذة والأخوة الفضلاء كانت رسالتي للعالمية عن " البحوث القرآنية في تراث ابن حزم جمع ودراسة ونقد " عقدت فيها فصلا لإعجاز القرآن الكريم عند ابن حزم تناولت فيه هذه الأبحاث في قريب من خمسين ورقة :
الفصل الأول: إعجاز القرآن الكريم عند ابن حزم .
البحث الأول : تعريف المعجزة عند ابن حزم.
البحث الثاني : وجه إعجاز القرآن عند ابن حزم :

المسألة الأولى : مذاهب الناس في وجه الإعجاز .
المسألة الثانية : اعتراضات ابن حزم على الإعجاز البلاغي .
المسألة الثالثة : مذهب ابن حزم في إعجاز القرآن .
البحث الثالث : أقل المعجز من القرآن عند ابن حزم :
المسألة الأولى : مذاهب العلماء في أقل المعجز من القرآن .
المسألة الثانية : اختيار ابن حزم .
البحث الرابع : بقاء إعجاز القرآن عند ابن حزم .
ويسرني أن أضع بين أيديكم بعض ما ورد في هذا الفصل عن مذهب ابن حزم في الإعجاز :

المسألة الثانية : اعتراضات ابن حزم على الإعجاز البلاغي :
بعد اتفاق المسلمين على إعجاز القرآن اختلف العلماء في تحديد علة عجز العرب عن معارضة القرآن ، فذهب أكثر العلماء إلى أن إعجازه راجع إلى كونه في أعلى درجات البلاغة والفصاحة الخارجة عن قدرة البشر فرادى ومجتمعين ، وهو ما يسمى بالإعجاز البلاغي ، وأضاف بعضهم إليه أوجها أخرى من الإعجاز الغيبي ، والعلمى ، والتشريعي ؛ لكن ظل الإعجاز البلاغي هو عمدة أنواع الإعجاز عند جمهور العلماء .
أما صاحبنا ابن حزم فيرفض رفضا باتا هذا الوجه من أوجه إعجاز القرآن ، ويعده خطأ شديدا ، ويرى القول به إثما يستعاذ بالله منه ، ويرسل إليه سهام النقد سهما بعد سهم .
وهو مذهب ربما رآه المرء غريبا من رجل كابن حزم ، على ورعه وعلمه وذكائه . ولا أنكر أنني قد حرت في أمره أياما وليالي ، وبت أردد النظر في كلامه مرات ومرات ، وأنا لا أكاد أصدق أن يكون أديب كابن حزم تمرس بالعربية لغة ونحوا وصرفا ، وخبر موازين الكلام نظما ونثرا ـ تخفى عليه بلاغة القرآن حتى ينكر أن يكون القرآن معجزة بلاغية أصلا !
وسنعرض هنا لموقف ابن حزم من الإعجاز البلاغي وانتقاداته إياه ، متبعين كل فقرة من كلامه بالتعليق عليها ، ولا نرجئ التعليق إلى انتهاء كلامه ؛ كي لا يبعد العهد بين الكلام ومناقشته ، فيشق على القارئ مراجعته لطول كلام ابن حزم .

النص : قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد ظن قوم أن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن في أعلى طبقات البلاغة
1- قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا خطأ شديد ولو كان ذلك ـ وقد أبى الله عز و جل أن يكون ـ لما كان حينئذ معجزة ؛ لأن هذه صفة كل باسق في طبقته ، والشيء الذي هو كذلك وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه ؛ بل ما يفوقه . " [1]
قلت :
أ- أما قوله : " هذه صفة كل باسق في طبقته " ، فلم يقل أحد من العلماء إن القرآن من طبقة كلام الناس حتى يلزمهم ما يقول . بل نصوا على أن القرآن بلغ منزلة تنقطع دونها الآمال وتعجز عنها الهمم . يقول عبد القاهر : ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة .. ووجدت المعول على أن هاهنا نظماً وترتيباً ، وتأليفاً وتركيباً ، وصياغة وتصويراً ، ونسجاً وتحبيراً ، ...وأنه يفضل بعض الكلام بعضاً. ويتقدم منه الشيء الشيء ، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ، ويعلو مرقباً بعد مرقب ، ويستأنف له غاية بعد غاية ، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع ، وتحسر الظنون ، وتسقط القوى ، وتستوي الأقدام في العجز "[2] .
ب- وأما قوله : " فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه !! " . فالعجب أن يأتي هذا من إمام ظاهري كابن حزم ! أفلا قال : نحن على أصل إعجازه حتى يظهر لنا ما ينقضه ، فإذا ظهر فما لنا إلا اتباع الحق دون مكابرة .

2-قال ابن حزم : وقد بينا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس ؛ لأن فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها ، وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة . " [3]
قلت : أما الأقسام فليس فيها ما يعاب في لغة العرب ، ولا ما ينكر في بلاغتهم ، وأما الأحرف المقطعة فإن كان قد توقف فيها رجال فقد فسرها غيرهم ، وإن كان ابن حزم قد عدهما من المتشابه ، فإن جمهورا من العلماء على خلافه ، وليس تأخره حجة على من تقدم .
ولم نقل : " إن القرآن من نوع بلاغة الناس المعهودة " ؛ بل فيه من الأساليب مالا عهد لهم به . واللغة التي " نزل بها القرآن معجزا قادرة بطبيعتها هي أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين : كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى ، وكلام [معجز] يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه " .
[4] كما يقول العلامة محمود شاكر .

3- قال ابن حزم : وقد روينا عن أنيس أخي أبي ذر الغفاري _رضي الله عنهما_أنه سمع القرآن فقال : لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء وألسنة الشعراء ، فلم أجده يوافق ذلك أو كلاما هذا معناه .
فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين ، وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله " [5]
قلت : قول أنيس الشاعر أخرجه مسلم في قصة طويلة ، ونصه قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. [6] وهذا القول لا يختلف فيه اثنان من المسلمين .

4- قال أبو محمد : وأما ذكرهم : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(البقرة : من الآية179) وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ، ويقال لهم : إن كان كما تقولون _ومعاذ الله من ذلك _ فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة ، وأما سائره فلا ، وهذا كفر لا يقوله مسلم. " [7]
5- فإن قالوا جميع القرآن مثل هذا الآيات في الإعجاز ، قيل لهم : فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذا ، وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزا وغير معجز . " [8]
قلت : هذا والذي قبله تحكم لا يخفى ومماحكة ، وددنا لو تنزه عن مثلها ابن حزم رحمه الله .

6- قال ابن حزم : ثم نقول لهم قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً)(النساء : من الآية163) ، أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزا ؟ فإن قالوا : ليس معجزا ، كفروا ، وإن قالوا : إنه معجز صدقوا وسئلوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا : نعم ، كابروا وكفوا مؤنتهم ؛ لأنها أسماء رجال فقط ليست على شروطهم في البلاغة ! " [9]
قلت : الجواب من وجوه :
أ- لا يخفى أن ابن حزم مقر بكون الآية معجزة ؛ لكنه يناقش في كونها في أعلى درج البلاغة .
ب- نمنع تكفير من لم يقر بكون الآية الواحدة معجزة ، فقد قال جمهور من أئمة المسلمين إن أقل المعجز ثلاث آيات كما سبق .
ج – أما الآية فنعم نختار أنها معجزة ، وأنها في أعلى درج البلاغة ، لكن ليست البلاغة هنا هي جودة التشبيه ، ودقة الاستعارة ، وحسن الالتفات ، بل في غير ذلك من حسن الترتيب ، وجمال الإيقاع ، وتناسب الأسماء ، ودقة المبدء والختام ، ولغير ذلك من " لطف الملاحظة في اعتبار السياق ، والمعاني والأحداث ، والأحوال ما يبهر ويقهر " [10] . وقد تناول العلماء نحوا من هذه الآيات ، وتحدثوا عن جمال خاص بها ، فالباقلاني يذكر قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ... الآية )(النساء : من الآية23) فيقول : فإن قال قائل : فقد نجد في آيات من القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت ولا تتميز الكلمات بوجه البراعة !
ويجيب الباقلاني : الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب ، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى وذلك حاصل في هذه الآية - إن تأملت ، ألا ترى أنه بدأ بذكر الأم لعظم حرمتها ، وإدلائها بنفسها ، ومكان بعضيتها ، فهي أصل لكل من يدلي بنفسه منهن ، ولأنه ليس في ذوات الأنساب أقرب منها ، ولما جاء إلى ذوات الأسباب ألحق بها حكم الأم من الرضاع ، لأن اللحم ينشره اللبن بما يغذوه فيتحصل بذلك أيضا لها حكم البعضية ، فنشر الحرمة بهذا المعنى وألحقها بالوالدة ، وذكر الأخوات من الرضاعة فنبه بها على كل من يدلي بغيرها ، وجعلها تلو الأم من الرضاع ، والكلام في إظهار حكم هذه الآية وفوائدها يطول ولم نضع كتابنا لهذا ...فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف ، والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف . فقد علم السائل أنه لم يأت بشيء ، ولم يهتد للأغراض في دلالات الكلام ، وفوائده ، ومتصرفاته ، وفنونه ، ومتوجهاته ، وقد يتفق في الشعر ذكر الأسامي فيحسن موقعه ، كقول أبي ذؤاب الأسدي :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ** بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلبا على أعدائه ** وأعزهم فقدا على الأصحاب
وقد يتفق ذكر الأسامي فيفسد النظم ويقبح الوزن ... " [11]

7- قال ابن حزم : وأيضا فلو كان إعجاز القرآن لأنه في أعلى درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن ، وسهل بن هارون ، والجاحظ ، وشعر امرئ القيس _ومعاذ الله من هذا_ لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن أن يأتي من يماثله ضرورة ، فلا بد لهم من هذه الخطة ، أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط " [12]
قلت : قد قلنا من قبل إنه ليس من طبقة كلام العرب .

8- قال ابن حزم : وأيضا فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ، ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل . " [13]
قلت : أما على قول من يقول بهذا ، فيعلَّلُ بأن التصرف في فنون البلاغة لا يظهر في الكلمة والكلمتين حتى يكون كلام يظهر فيه ذلك ، وهو ما لا يكون في أقل من قدر سورة " الكوثر " . وأما على ما اخترناه من أن كل كلمة منه معجزة في سياقها وحسن اختيارها لموقعها ، فلا اعتراض .

9- قال ابن حزم : فإن قالوا : فقولوا أنتم ، هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد ، فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها .
وإن كنتم تريدون ، هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين ؟ فلا ؛ لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين ، لا من أعلاه ، ولا من أدناه ، ولا من أوسطه . " [14]
قلت : قول ابن حزم : " قد بلغ به ما أراد " قول مبهم ، فإن الله قد بلغ بالعجزة والمرضى والمقعدين ما أراد ، وليس العجز والمرض والقعد معجزة يتحدى بها الناس ، وأما قوله : " هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين " ، فلم يقله أحد من الناس ، وهو في نفسه كلام فاسد ينقض آخره أوله ! إذ حاصله أن كلام الله هو أفصح كلام المخلوقين !! .

10- قال ابن حزم : وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة له ، أو خطبة ، أو تأليف ، أو موعظة ، حروف الهجاء المقطعة لكان خارجا عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك ؛ فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وأن الله تعالى منع الخلق من مثله ، وكساه الإعجاز ، وسلبه جميع كلام الخلق"[15].
قلت : حديثه عن الأحرف المقطعة إن قلنا هي أسماء للسور فما بأس أن يقول الرجل : قرأت " الم السجدة " ، وإن كانت من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله – كماهو مذهب ابن حزم – فاستشهاد بالمتشابه على المحكم وهو غير منصف .

11- قال ابن حزم : برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)(المدثر : 42ـ47) ، وحكى تعالى عن كافر قال : (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)(المدثر : 24ـ25) ، وحكى عن آخرين أنهم قالوا : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ)(الإسراء : 90ـ 93).
قال : فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز و جل غير معجز بلا خلاف ، إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز ؛ لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ، ومنع من مماثلته ، وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره ، والحمد لله "[16].
قلت : هذا الأخير هو ما جعل الرافعي يسخر بابن حزم فيقول : " بل هو فوق الكفاية وأكثر من أن يكون كافيا ، لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رَأيًَا لَهُ أصاره كافيا لا يحتاج إلى غيره ..! وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله تعالى!"[17].
فإن الله حين يقص علينا أقوال الناس في القرآن إنما يقصها بأسلوب القرآن وبلاغته ، وإلا فقد قص الله علينا أقوال آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، بعربية بليغة فصيحة ، فهل نشأ هؤلاء في بني سعد ، أو درجوا في ربوع تميم ؟ كلا ؛ بل الأمر كما يقول ابن حزم نفسه : صح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ؛ ليبين لنا عز و جل فقط " [18]
بقي أن نقول إن كلام ابن حزم في هذا الفصل يدور كله على نفي أن يكون القرآن يدخل هو وكلام المخلوقين تحت حد واحد ، ومقياس واحد ، وهذا بالتأكيد ما لم يقله أحد من القائلين بالإعجاز البلاغي ، فما نقل عن أحد أنه يقول : إن القرآن في " أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين " كما يقول ابن حزم رحمه الله ، وإنما قالوا : إنه في درج البلاغة التي تفوت قدرة المخلوقين فوتا يبهر ويقهر " حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة ، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة ، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى " [19].

رابعا: تحقيق مذهب ابن حزم في إعجاز القرآن الكريم

1- يقر ابن حزم بأن القرآن معجز للخلق جميعا قليله وكثيره في ذلك سواء وهو بهذا متقدم على من يقول بسورة منه أو قدرها لا ينكر هذا .
2- ابن حزم قائل بالصرفة التي لا تنفي علو القرآن ، ولم نجد له كلمة واحدة يقول فيها إن الله لو خلى بين الناس وبين القرآن لأتوا بمثله ، ولا كلاما يشبه هذا المعنى . بل له ما يفيد عكسه . هذا وقد مرت مناقشته في مذهب الصرفة هذا والرد عليه من خمسة عشر وجها.
3- يقر ابن حزم بسمو رتبة القرآن على كلام البشر بل على كل كلام للإنس والجن جميعا وهذه عبارته : صح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله[1] والخارج عن نوع بلاغة المخلوقين إما أن يكون دونها أو فوقها لا مساويا لها ، ومراده الاول بدليل قوله " وأنه على رتبة ... " فأثبت له رتبة وقف الخلق دونها .وأصرح من ذلك قوله : فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق . " [2]فتأمل قوله : " منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز " تعرف صحة ما نقول .

4- يرفض ابن حزم أن يَجمعَ القرآنَ مع كلام الخلق نوعٌ واحدٌ هو البلاغة ، بحيث يشتركان في أن كلا منهما كلام بليغ وينفرد القرآن بكونه في أعلى مراتب البلاغة . يقول : لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه " [3] .
5- يرى ابن حزم أن توجيه الإعجاز بكون القرآن في أعلى مراتب البلاغة ـ يقلل من شأن القرآن ولا يرفعه . وأن إدخاله مع كلام البشر في مقياس واحد " هو البلاغة " يسيء إليه ، حتى لو قيل هذا في أعلى الدرجات وذاك في أدناها .
يقول رحمه الله :
لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية و إحياء ميت قد أرم " [4] .
بل يذهب إلى أن هذا القول يخل بالإعجاز أصلا : " لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود " [5]
فكأنه يرى أن البلاغة هي المقاييس البشرية لجودة الكلام ، والقرآن ليس يدخل تحت هذه المقاييس أصلا ، والقول بأن القرآن أبلغ من كلام البشر ظلم لكلام الله تعالى ، يشبه قالة من يقول إن قدرة الله أشد من قدرة الناس ، وعلمه تعالى أوسع من علم البشر ، وهي مقارنة جائرة غير منصفة بحال ، وما قدرة الناس وعلمهم بجوار علم الله وقدرته إلا محض عدم ، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة : من الآية216). وكأني بابن حزم في هذه الحال يتمثل قول الشاعر :
متى ما أقل مولاي أفضل منهم ** أكن للذي فضلته متنقصا

ألم تر أن السيف يزري به الفتى ** إذا قال هذا السيف أمضى من العصا [6]
6- يرفض ابن حزم وهو الظاهري أن يعلل عجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن بأي علة أخرى سوى أنهم قد عجزوا فاختار القول لذلك بالصرفه فهو الذي يفيد ذلك ، فالقائلون بها لا يذكرون لعجز الناس سببا سوى أن الله أراد ذلك . وهذا ما يريده ابن حزم الظاهري الكاره لكل علة وتعليل لشيء من أفعال الله تعالى أو أحكامه . فهو الذي جاهد جهادا مريرا لنفي القياس والتعليل .
فاختيار ابن حزم هنا متناسب تمام التناسب مع أصوله الفكرية العامة .
وبعد هذا البيان لا نرى مقبولا أبدا قول د : محمد أبو موسى " واحتجاج ابن حزم كان متجها إلى توهين القول بتفوق القرآن في النظم والبلاغة وهذا شيء فريد في بابه . " ، ولا قوله " إنه لم يتقن بحث الإعجاز .. " [7]
ونرى أن الشيخ قد عجل على ابن حزم دون أن يقف معه وقفة تأمل يستحقها الإمام بلا شك لمكانته ومنزلته في العلم والدين . بل لعل ابن حزم رحمه الله ما أراد بهذا إلا أن يرفع مكانة القرآن الذي قال فيه : مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري " [8]
 
موضوع رائع و افكار تستحق المناقشة ، حبذا لو وضعت لنا الدراسة كاملة بارك الله فيك
 
شكر الله لكم شيخنا...

لكن أود أن أفهم كيف يرى ابن حزم رحمه الله تعالى الصرفه, وبنفس الوقت يرى أن القرآن في رتبه خارجه عن نطاق كلام البشر أصلاً..!!
أما تلاحظون أن في ذلك نوع تناقض!, حيث أن القول بأن القرآن بمرتبه خارجه عن نطاق كلام البشر ورتبته؛ يستلزم امتناع البشر عن الإتيان بمثله من غير صرف, فكيف جمع بين هذين الأمرين؟؟؟
 
عودة
أعلى