قوله تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح } قرأ أبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم: { الرياح } على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: «الريح» على التوحيد. وقد يأتي لفظ التوحيد، ويراد به الكثرة، كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله:
{ إن الإنسان لفي خسر }
[العصر: 2].
قوله تعالى: { نشراً } قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع، { نُشراً } بضم النون والشين، أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب. قال أبو عبيدة: النُشُر: المتفرقة من كل جانب. وقال أبو علي: يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى المنتشر، وبمعنى الناشر؛ يقال: أنشر الله الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي: حييت. والدليل على أن إنشار الربح إحياؤها قولُ الفقعسي:
وهبَّتْ له رِيْحُ الجَنُوبِ وأُحْيِيَتْ
له رَيْدَةٌ يُحيي المِيَاهَ نَسِيْمُهَا
ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت.
وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري: «نُشْراً» بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى «نُشُراً» يقال: كُتُبْ وكُتْب، ورُسُل ورُسْل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم: «نَشْرا» بفتح النون وسكون الشين. قال الفراء: النَّشْر: الريح الطيبة الليَّنِّة التي تنشىء السحاب. وقال ابن الانباري: النَّشْر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقال أبو علي: يحتمل النَّشْر أن يكون خلاف الطيِّ، كأنها كانت بانقطاعها كالمطويَّة. ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر: أنها المتفرقة في الوجوه؛ ويحتمل أن يكون معناها: النشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر:
[حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا] يا عَجَباً لِلْمِّيتِ النَّاشِرِ
قال: وهذا هو الوجه.
وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورِّق العجلي: «نَشَراً» بفتح النون والشين. قال ابن القاسم: وفي النَّشَر وجهان.
أحدهما: أن يكون جمعاً للنشور، كما قالوا: عَمود وَعَمد، وإهاب وأهَب.
والثاني: أن يكون جمعاً، واحده ناشر، يجري مجرى قوله: غائب وغَيَبٌ، وحافد وحَفَدٌ، وكل القرَّاء نوَّن الكلمة. وكذلك اختلافهم في [الفرقان: 48] و[النمل: 63].
هذه قراءات من قرأ بالنون. وقد قرأ آخرون بالباء، فقرأ عاصم إلا المفضل: «بُشْرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فُعْلى: قال ابن الانباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشِّر بالمطر، والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين. وقرأ ابن خثيم، وابن جذلم: مثله إلا أنهما نوَّنا الراء. وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة. والرحمة هاهنا: المطر؛ سماه رحمة لأنه كان بالرحمة. و«أقلّتِ» بمعنى: حملت. قال الزجاج: السحاب: جمع سحابة. قال ابن فارس: سمي السحابَ لانسحابه في الهواء.
قوله تعالى: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ }: قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسَبَنَّ " بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله " لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [في الأرض] " كذلك خلا حَفْصاً. والباقون بتاء الخطاب.
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون " الذين كفروا " مفعولاً أولَ، و " سبقوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً.
وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى " الذين كفروا " ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، فـ " هم " مفعول أول، و " سَبَقوا " في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل " أن " الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت " أن " الموصولة وبقيت صلتها كقوله
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ }
[الروم: 24]، أي: أن يريكم وقولهم: " تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه " وقوله:
2434ـ ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ................
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله " أنهم سبقوا ". وقال قوم: " بل " سبقوا " في محلِّ نصبٍ على الحال، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين " أنهم لا يعجزون " في قراءة مَنْ قرأ بفتح " أنهم " وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى ".
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: " وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة ". وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ " لا يحسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكونُ " لا " صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني " لا يَحْسَبَنَّ " وقولهم " أنهم لا يعجزون " حتى نُلْزِمه ما ذكر.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و " الذين كفروا " مفعولٌ أولُ، والثاني " سبقوا " ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله:
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ }
[الشعراء: 105]، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ " أنْ " الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون " الذين كفروا " فاعلاً، و " مُعْجزين " مفعول أول و " في الأرض " الثاني. أي: لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك.
وقرأ الأعمش: " ولا يَحْسَبَ الذين كفروا " بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر:
2435ـ لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
أي: لا تهينَنَّ. ونقل بعضهم: " ولا تحسَبِ الذين " من غير توكيدٍ البتة. وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين.
قولهم: { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر.
فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان.
وقال أبو البقاء: " إنه متعلقٌ بتحسب:/ إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من " سَبَقوا " ، وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول " حَسِب " إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر ".
وقرأ جمهور الناس: " خُلِّفوا " ، مبنياً للمفعول مشدداً مِنْ خلَّفه يُخَلِّفه. وقرأ أبو مالك كذلك إلا أنه خفف اللام.
وقرأ عكرمة وزر بن حبيش وعمر بن عبيد وعكرمة بن هارون المخزومي ومعاذ القارىء: " خَلَفوا " ، مبنياً للفاعل مخففاً مِنْ خَلَفَه، والمعنى: الذين خلفوا، أي: فَسَدوا، مِنْ خُلوف فم الصائم. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم خلفوا الغازين في المدينة.
وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك إلا أنهم شدَّدا اللام. وقرأ أبو رزين وعلي ابن الحسين وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: " خالفوا " ، بألف، أي: لم يوافقوا الغازين في الخروج. قال الباقر: " ولو خُلِّفوا لم يكن لهم...
ملحوظة
جاء فی الحديث
وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك - الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فلذلك قال عز وجل: { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } وليس تخليفه إِيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه....
قوله تعالى: { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ }: أي: ولا أَعْلمكم الله به، مِنْ دَرَيْتُ، أي: علمتُ. ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأَدْرَيْتك بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في " علمت به " فَتَضَمَّن العلمُ معنى الإِحاطة فتعَدَّى تَعْدِيَتَها.
وقرأ ابنُ كثير ـ بخلاف عن البزي ـ " ولأَدْراكم " بلام داخلة على " أَدْراكم " مثبتاً. والمعنى: ولأُعْلِمَكم به من غير وساطتي: إمَّا بوساطة مَلَكٍ أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنه خَصَّني بهذه الفضيلة
{ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة.
وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم { فَاجمعواْ } بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع، ويعضده قوله تعالى:
{ فَجَمَعَ كَيْدَهُ }
[طه: 60]
وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء. قال ابن هشام: إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات. وفي «عمدة الحفاظ» حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس. وفي «المحكم» أنه يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعاً وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الإحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول: أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي: يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعاً، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعاً وعزم عليه بعد ما كان متفرقاً وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئاً إلى شيء، وقال الفراء: في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به.
وقال القرطبي فى تفسيره:
قوله تعالى: { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } الإجماع الإحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار «فَأَجْمِعُوا» إلا أبا عمرو فإنه قرأ «فَاجْمَعُوا» بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله: تعالى
{ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ }
[طه: 60].
قال النحاس وفيما حُكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج بـ«ـجمع» وقوله عز وجل: «فجمع كيده» قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده «فَاجْمَعُوا» ويقرب أن يكون بعده «فَأَجْمِعُوا» أي اعزموا وجدّوا؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه
قوله تعالى: { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو «إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ». ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النَّخَعيّ وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف.
وقرأ الزهريّ والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه «إِنْ هَذَانِ» بتخفيف «إن» «لساحران» وابن كثير يشدّد نون «هذانّ». وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران.
وقرأ المدنيون والكوفيون «إنَّ هَذَانِ» بتشديد «إنّ» «لساحران» فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «إِنْ هذانِ إِلاّ ساحِرَانِ» وقال الكسائي في قراءة عبد الله: «إِنْ هَذَانِ سَاحِرَانِ» بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبيّ «إِنْ ذَانِ إِلاَّ سَاحِرَانِ» فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.
قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الردّ له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأهم قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله تعالى أن أقرأ «إِنَّ هَذَانِ»: وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى:
{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }
[النساء: 162] ثم قال: «والمقِيمِين» وفي «المائدة»
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ والصَّابِئُونَ }
[البقرة: 62] و«إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ» فقالت: يا ابن أختيٰ هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال: لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيِّروه؟ فقال: دَعُوه فإنه لا يحرّم حلالاً ولا يحلّل حراماً.
القول الأول من الأقوال الستة أَنها لغة بني الحرث بن كعب وزَبيد وخَثْعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى:
{ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ }
[يونس: 16] على ما تقدّم. وأنشد الفراء لرجل من بني أسد ـ قال: وما رأيت أفصح منه:
فأَطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يَرَى مَساغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
ويقولون: كسرت يداه وركبت عَلاَه؛ بمعنى يديه وعليه؛ قال شاعرهم:
تَزوَّدَ مِنّا بين أُذْنَاه ضَرْبَةً دعته إلى هابِي التُّرابِ عَقِيم
وقال آخر:
طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا
أي عليهنّ وعليها وقال آخر:
إنّ أَبَاهَا وأَبَا أباهَا قد بَلَغَا في المجدِ غايتاها
أي إن أبا أبيها وغايتيها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدّثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون «إِنَّ هَذَانِ» جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى:
{ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ }
[المجادلة: 19] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك { إِنْ هَـٰذَانِ } ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذْ كان الأئمة قد رووها.
القول الثاني: أن يكون «إنّ» بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ«ـإنّ» بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن «إنّ» تأتي بمعنى أَجَلْ، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد، وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدّثنا عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوريّ، ثم لقيت عبد الله بن أحمد (هذا) فحدّثني، قال: حدّثني عمير بن المتوكل، قال: حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب، قال: حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ ـ وهو ابن الحسين ـ عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: " إنَّ الحمدُ لله نحمده ونستعينه " ثم يقول: " أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص "
قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو «إنَّ الحمد لله» بالنصب إلا أن العرب تجعل «إن» في معنى نعم، كأنه أراد صلى الله عليه وسلم نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:
قالوا غَدَرْتَ فقلتُ إنّ وربَّمَا نَالَ العُلاَ وشَفَى الغَليلَ الغادِرُ
وقال عبد الله بن قيس الرُّقيات:
بَكَرَ العواذلُ في الصَّبا حِ يَلُمْنَني وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقلْنَ شيبٌ قد عَلاَ كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إنَّهْ
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: «إِنَّ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ» بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلب:
ليت شعري هل للمحبِّ شفاء من جَوَى حبّهن إنَّ اللقاءُ
قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئاً لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام هاهنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا: اللام ينوى بها التقديم؛ كما قال:
خالِي لأنتَ ومَنْ جريرٌ خالُه يَنلِ العَلاَء ويُكْرِم الأَخوالاَ
قال آخر:
أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ تَرْضَى من الشَّاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
أي لخالي ولأمّ الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو عليّ وأبو الفتح بن جنيّ. قال أبو الفتح: «هما» المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عُرِف، وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكَّد وتترك المؤكِّد.
القول الثالث قاله الفراء أيضاً: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت: «الذي» ثم زدت عليه نوناً فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك.
القول الرابع قاله بعض الكوفيين؛ قال: الألف في «هذان» مشبهة بالألف في يفعلان؛ فلم تغير.
القول الخامس: قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب «إن» و«هذان» خبر «إن» و«ساحران» يرفعها «هما» المضمر (والتقدير) إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم «إن» و«هذان» رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء.
القول السادس: قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي؛ فقلت: بقولك؛ فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال «هذا» في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد، أجريت التثنية مجرى الواحد؛ فقال: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به؛ قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به؛ فتبسم.
وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجَحْدري وابن كثير فيما روى شبل عنه «لاَ يُضِلُّ» بضم الياء على معنى لا يُضيعه ربّي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضلَّ عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ «لاَ يُضِلُّ رَبِّي» أي لا يُضيع؛ هذا مذهب العرب.
{ قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «بِمِلْكِنَا» بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملْكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف؛ كأنه قال: بمِلْكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ.
وقرأ حمزة والكسائي «بِمُلْكنا» بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا مُلك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله: «قَالُوا» عام يراد به الخاص؛ أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور: { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } وكانوا اثني عشر ألفا، وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف. { وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ } بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس.الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حُلي القوم معهم وما حملوه كرهاً
ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك.
وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: " لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً " وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالىٰ. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه
أما قوله: { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فاعلم أن قوله: { وَحَرَامٌ } خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أو شيء آخر
أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعاً كان رجوعهم واجباً فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا.
أما الأول: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر.
وأما الثاني: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين:
الأول: أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }
[الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء:
وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجباً، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى:
{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }
[الشورى: 40] إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع
أمرين: أحدهما: أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن. وثانيها: لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل.
الوجه الثاني: أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله: { لاَ يَرْجِعُونَ } صلة زائدة كما أنه صلة في قوله:
{ مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُد }
[الأعراف: 12] والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله:
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }
[يس: 50] أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين، وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبراً لقوله: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أما إذا جعلناه خبراً لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضاً على هذا أي أنهم لا يرجعون.
قوله: { سِخْرِيَّاً }: مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي ص بكسرِ السين. والباقون بضمِّها في المؤمنين. واختلف الناس في معناهما. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: " إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ ـ وتبعه مكي ـ قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ }. قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً.
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ } أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيهاً لك { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ }. فإن قيل: فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد؟ قيل له: ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: { أَنْ نُتَّخَذُ } بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا يجوز { نُتَّخَذَ }. وقال أبو عمرو: لو كانت { نُتَّخَذَ } لحذفت { مِن } الثانية فقلت: أن نُتَّخذ من دونك أولياء. كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز { نُتَّخَذَ } لأن الله تعالى ذكر { مِن } مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نُتخذ من دونك أولياءَ. وقيل: إن { مِن } الثانية صلة قال النحاس: ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة. وشرح ما قال أنه يقال: ما اتخذت رجلاً ولِياً؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال: ما اتخذت من رجل ولياً فيكون نفياً عاماً، وقولك { وليا } تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه { مِن } لأنه لا فائدة في ذلك...
وقرأ ابنُ عامر " فَزَّع " مبنياً للفاعل. فإنْ كان الضميرُ في " قلوبهم " للملائكةِ فالفاعلُ في " فَزَّع " ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم. كذا قال الشيخ. والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقاً. وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول...
والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد " فَرَّغَ " مبنياً للفاعل من الفراغ. وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء. وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول.
والفَراغُ: الفَناء والمعنى: حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه. وقرأ ابن مسعود وابن عمر " افْرُنْقِعَ " من الافْرِنْقاع. وهو التفرُّقُ.
هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيـى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي.
وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: { بَلْ أَدْرَكَ } من الإدراك.
وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش: { بَلِ ادَّرَكَ } غير مهموز مشدّداً.
وقرأ ابن محيصن: { بَلْ أَادَّرَكَ } على الاستفهام.
وقرأ ابن عباس: { بَلَى } بإثبات الياء { أَدَّارَكَ } بهمزة قطع والدال مشدّدة وألف بعدها؛ قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شُعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هارون القارىء أن قراءة أبيّ { بَلْ تَدَارَكَ عِلْمُهُمْ }.
وحكى الثعلبي أنها في حرف أبىّ " أم تدارك ". والعرب تضع بَلْ موضع (أم) و (أم) موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهان؛ كقول الشاعر:
فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلى حبيب
القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد؛ لأن أصل «ٱدَّارَكَ» تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛
وفي معناه قولان:
أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وُعِدوا به معاينة فتكامل علمهم به.
والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون.
القراءة الثانية فيها قولان:
أحدهما: أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأوّل؛ قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذِّبين.
والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدلّ على صحة هذا القول بأن بعده { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي لم يدرك علمهم علم الآخرة. وقيل: بل ضلّ وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم.
والقراءة الثالثة: { بَلِ ادَّرَكَ } فهي بمعنى { بَلِ ادَّارَكَ } وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صُحِّح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا.
القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول: أأنا قاتلتك؟ٰ فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس: { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } أي لم يدرك. قال الفرّاء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بَلَى لعمري قد أدركت السَّلَفَ فأنت تَروي ما لا أروي! وأنت تكذبه.
وقراءة سابعة: { بَلَ ادَّرَكَ } بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في { قُمَ اللَّيْلَ } فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك و(بعَ الثوبَ) ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرىء { بَلْ أَأَدَّرَكَ } بهمزتين { بَلْ آأَدَّرَكَ } بألف بينهما { بَلَى أَأَدَّرَكَ } { أَمْ تَدَارَكَ } { أَمْ أَدَّرَكَ } فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة { بَلْ أَأَدَّرَكَ } على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: «أَمْ أَدَّرَكَ» و«أَمْ تَدَارَكَ» لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ: { بَلَى أَأَدَّرَكَ } على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. { فِي الآخِرَةِ } في شأن الآخرة ومعناها. { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } أي في الدنيا. { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } أي بقلوبهم واحدهم عمو. وقيل: عَمٍ؛ وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
وقال ابن كثير فى تفسيره:
وقوله: { بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } أي: انتهى علمهم، وعجز عن معرفة وقتها،
وقرأ آخرون: { بَلْ أدركَ علمُهم } أي: تساوى علمهم في ذلك؛ كما في " الصحيح " لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل، وقد سأله عن وقت الساعة: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " أي: تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } أي: غاب، وقال قتادة: { بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } يعني: بجهلهم بربهم، يقول: لم ينفذ لهم علم في الآخرة، هذا قول، وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: { بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } حين لم ينفع العلم، وبه قال عطاء الخراساني والسدي: أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة، حيث لا ينفعهم ذلك؛ كما قال تعالى:
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }
[مريم: 38] وقال سفيان عن عمرو بن عبيد عن الحسن، أنه كان يقرأ: { بل أدرك علمهم } قال: اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة
{ حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر: «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجع الرِّعاء. وقرأ الباقون { يُصْدِرَ } بضم الياء وكسرالدال، أرادوا: حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء،
قوله: { سِحْرَانِ } قرأ الكوفيون " سِحْران " أي: هما. أي: القرآن/ والتوراة، أو موسىٰ وهارون وذلك على المبالغةِ، جعلوهما نفسَ السِّحْرِ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذَوا سِحْرَيْن. ولو صَحَّ هذا لكانَ يَنبغي أن يُفْرَدَ " سِحْر " ولكنه ثُنِّيَ تنبيهاً على التنويع. وقيل: المرادُ موسىٰ ومحمدٌ عليهما السلام أو التوراةُ والإِنجيلُ. والباقون " ساحران " أي: موسىٰ وهارون أو موسى ومحمدٌ كما تقدَّم.
أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ،
وفي " كان " حينئذٍ قولان،
أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: " وما كان مَكْرُهم ".
القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: " وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك ". وقال ابن عطية: " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديداً، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور " فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ.
والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي.
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً.
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي " إنْ " وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى " إلا " ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة " وإن كاد مكرهم لَتزول " كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون " كان " دالاًّ فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ.
وقال ابن عاشور فى التحرير:
وقرأ الجمهور { لتزول } ـــ بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها ـــ فتكون (إن) نافية ولام { لتزول } لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي.
وقرأ الكسائي وحده ــــ بفتح اللام الأولى ــــ من { لَتزولُ } ورفع اللام الثانية على أن تكون { إنْ } مخففة من { إنْ } المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة. وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى:
{ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً }
[سورة مريم: 90].
{ وَكَانَ لَهُ } أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين { ثَمَرٌ } أنواع المال كما في «القاموس» وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة { ثمر } بضم الثاء والميم، وكذا في
{ بِثَمَرِهِ }
[الكهف: 42] الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه / على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة
اختلف القراء في أحصن، فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد، مبني لما لم يسم فاعله، وقرىء بفتح الهمزة والصاد، فعل لازم، ثم قيل: معنى القراءتين واحد، واختلفوا فيه على قولين: (أحدهما): أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد ابن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي، وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب، وهو منقطع، وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في رواية الربيع، قال: وإنما قلنا ذلك؛ استدلالاً بالسنة، وإجماع أكثر أهل العلم....
وقيل: المراد به ههنا التزويج، وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد ابن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه الإيضاح عن الشافعي،
وقيل: معنى القراءتين متباين، فمن قرأ: أحصن بضم الهمزة، فمراده التزويج، ومن قرأ بفتحها، فمراده الإسلام. اختاره أبو جعفر بن جرير في تفسيره، وقرره ونصره، والأظهر، والله أعلم أن المراد بالإحصان ههنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مِّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أي: تزوجن؛ كما فسره ابن عباس ومن تبعه،
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور، وذلك أنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت، فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكراً، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لاحد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا: لاشك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية....
قال القرطبي فى تفسيره:
ومعنى «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» أي يقول: الله يعلم أني أقول حقّاً. وقرأ ٱبن محيصن «وَيَشْهَد ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ» بفتح الياء والهاء في «يشهد» «اللهُ» بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال. دليله قوله:
{ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }
[المنافقون: 1]. وقراءة ٱبن عباس { وَٱللَّهُ يَشْهَدُعَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ }. وقراءة الجماعة أبلغ في الذم؛ لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه
{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخَعيّ والشعبيّ وابن كثير وحمزة الكسائي «لَتَرَكَبَنَّ» بفتح الباء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركَبنَّ يا محمد حالاً بعد حال، قاله ابن عباس. الشعبي: لتركَبَنَّ يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورُتبه بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ٱبن مسعود: لتركَبن السماء حالاً بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانِشقاق والطيّ وكونها مرة كالمُهلِ ومرة كالدِّهانِ. وعن إبراهيم عن عبد الأعلى: «طبقاً عن طبقٍ» قال: السماء تَقَلَّبُ حالاً بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل؛ وقيل: أي لتركَبَن أيها الإنسان حالاً بعد حال، من كونك نطفة ثم علقه ثم مضغة ثم حياً وميتاً وغنياً وفقيراً. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ } هو ٱسم للجنس، ومعناه الناس.
وقرأ الباقون «لتركَبُنّ» بضم الباء، خطاباً للناس، واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله. أي لتركبن حالاً بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركَبُن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب وٱختلاق على الأنبياء.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد " وأن تَحْشُرَ الناسَ " بتاء الخطاب في " تَحْشُرَ " ، ورُوي/ عنهم " يَحْشُرَ " بياء الغَيْبة. و " الناسَ " نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة. والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي: وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ. وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعاً فيه نُسِبَ إليه نحو: نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ.
وقرأ العامَّة: " وآلهتكَ " بالجمع. وفي التفسير: أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة: " وإلاهتك ". وفيها وجهان، أحدهما: أن " إلاهة " اسم للمعبود، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس، والشمس تسمَّى " إلاهةً " علَماً عليها، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث. والثاني: أن " إلاهة " مصدر بمعنى العبادة، أي: ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة، ويقرأ " وإلاهتك " وكان يقول: إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.
وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وأبو العالية/ والضحاك: { التَّنادِّ } بتشديد الدال. قال الزجاج: أمّا إثبات الياء فهو الأصل، وحذفها حسن جميل، لأن الكسرة تدُلُّ على الياء، وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدَّال، ومن قرأ بالتشديد، فهو من قولهم: نَدَّ فلان، ونَدَّ البعير: إِذا هرب على وجهه، ويدل على هذا قوله { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } وقوله
{ يومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أخيه }
[عبس:34] قال أبو علي: معنى الكلام إنِّي أخاف عليكم عذاب يوم التَّناد. قال الضحاك: إذا سمع الناسُ زفير جهنم وشهيقها نَدُّوا فِراراً منها في الأرض، فلا يتوجَّهونُ قطراً من أقطار الأرض إلا رأوْا ملائكة، فيرجعون من حيث جاؤوا. وقال غيره: يُؤمَر بهم إلى النار فيَفِرُّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف، فهي من النّداء،
وقرأ العامَّةُ: " كَذِب " بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي " كَذِباً " فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة.
وقرأ عائشة والحسن: " كَدِب " بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح: " معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويُسَمَّىٰ ذلك البياضُ " الفُوْف " فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير ". وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس.
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } قرأ حمزة والكسائي «أَفَتَمْرُونَهُ» بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. وٱختاره أبو عبيد؛ لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا؛ قال الشاعر:
لِئن هجرت أخا صِدقٍ ومَكْرُمَةٍ لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكَا
أي جحدته. وقال المبرّد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه.
قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك؛ أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد «أَفَتُمْرُونَهُ» بضم التاء من غير ألف من أمريت؛ أي تريبونه وتشككونه. الباقون { أَفَتُمَارُونَهُ } بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله؛ والمعنيان متداخلان؛ لأن مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائماً منهم وهذا جدال جديد؛ قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عِيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدّم.
قوله تعالى: { فَقَدْ سَرَقَ }: الجمهور على " سَرَق " مخففاً مبيناً للفاعل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين " سُرِّق " مشدداً مبنياً للمفعول أي: نُسِب إلى السَّرِقة.
{ ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}
قال القرطبي فى تفسيره
قوله تعالى: { ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ } قاله الذي قال: «فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ». { فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } وقرأ ابن عباس والضّحاك وأبو رزِين «إنَّ ٱبْنَكَ سُرِّقَ». النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدّثنا ابن شَاذَان قال حدّثنا أحمد بن أبي سُرَيج البغداديّ قال: سمعت الكسائيّ يقرأ: «يَا أَبَانَا إنَّ ٱبْنَكَ سُرِّقَ» بضم السين وتشديد الرّاء مكسورة؛ على ما لم يُسمّ فاعله؛ أي نُسب إلى السرقة ورُمي بها؛ مثل خوّنته وفسّقته وفجرّته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج: «سُرِّقَ» يحتمل معنيين: أحدهما ـ علم منه السَّرَق، والآخر ـ ٱتهم بالسَّرَق. قال الجوهري: والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر سَرَق يَسْرِق سَرَقاً بالفتح.
وقال الرازى فى تفسيره
فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعاً في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع، وأما قوله: وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصواع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق، فشهدوا بناء على هذا الظن، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم: { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـٰفِظِينَ }.
والوجه الثاني: في الجواب أن تقدير الكلام { إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن. قال تعالى:
{ إِنَّكَ لاَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ }
[هود: 87] أي عند نفسك، وقال تعالى:
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }
[الدخان: 49] أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا.
الوجه الثالث: في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى:
{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }
[الشورى: 40].
الوجه الرابع: أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئاً يوهم ذلك.
الوجه الخامس: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ { إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } بالتشديد، أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة، والقراءة الحقة هي هذه. أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقياً سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة
قوله تعالى: { فَاسْأَلْ بني إِسرائيل } قرأ الجمهور: «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإِنما أُمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر [به] عنهم، ليكون حُجَّة على من لم يؤمن منهم. وقرأ ابن عباس: «فَسَأَلَ بني إِسرائيل»، [على معنى] الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إِسرائيل.
وقال الالوسي فى تفسيره:
{ فَسْئَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ } وقرأ جمع { فسل }. والظاهر أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام. والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجها أحمد في «الزهد» وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس { فسال } على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وإنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطاباً للنبـي صلى الله عليه وسلم لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبراً وطلباً أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول المضمر قوله تعالى: { إِذْ جَاءهُم } وهو متعلق بسال على قراءته صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى: { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ } لأنه لو كان { فاسأل } خطاباً لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضاً لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول { فاسأل } اعتراضاً من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وهذا الوجه مستغن عن الإضمار و { إِذْ جَاءهُم } متعلق عليه بآتينا ظرفاً ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلى الله عليه وسلم في وقت مجيء موسى عليه السلام.
قال في «الكشف»: والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسؤولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يجمل به موقع الاعتراض. وجوز أن يكون منصوباً باذكر مضمراً على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل { فَاسْأَلْ } اعتراضاً ويجعل اذكر بدلاً عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوباً كذلك بيخبروك مضمراً وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم. ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفاً له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجيء، واعترض أيضاً بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه. ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى. وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذٍ هم الموجودون في زمانه صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام
قوله: { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } قرأ نافع وابن كثير وعاصم: " يقص " بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: " يقضي بالحق " من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: " يقضي بالحق وهو خير القاضين " فأمَّا قراءة " يقضي " فمِن القضاء. ويؤيده قوله: " وهو خير الفاصلين " فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو:
{ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ }
[القمر: 5]، وكما حُذِفَتْ الواو في
{ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ }
[العلق: 18]
{ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ }
[الشورى: 24] لما تقدم.
وأمَّا نصب " الحق " بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن " يقضي " معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن " قضى " بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:
1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما داودُ....................
أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:
1937- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا .................
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
وأما قراءة " يَقُصُّ " فمِنْ " قَصَّ الحديث " أو مِنْ " قصَّ الأثر " أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى:
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ }
[يوسف: 3]. ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: " الفاصلين " ، وحُكي عنه أنَّه قال: " أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق " فقالوا: " يقصُّ " فقال: " لو كان " يقص " لقال: " وهو خير القاصِّين " اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَاصِلِينَ } فالفصل إنما يكون في القضاء " وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه " وهو خير القاصِّين " قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: " القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى:
{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ }
[طارق: 13] وقال تعالى:
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ }
[هود: 1]. وقال تعالى:
{ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ }
[التوبة: 11] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم " من الفاصلين " أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.
{ ولا تقربوهن حتى يطهرن } قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل عنه: يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح، وأصله: يتطهرن، وكذا هي في مصحف أبي، وعبد الله. وقرأ الباقون من السبعة: يطهرن، مضارع. طهر.
وفي مصحف أنس: ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهنّ حتى يتطهرن. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد، ورجح الفارسي: يطهرن، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي. ورجح الطبري التشديد، وقال: هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو. انتهى كلامه.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ». ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل، قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي، قالت عائشة رضي الله عنها هذا، كما قال الشاعر:
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ: { وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ }. وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان:
أحدهما: وجاءت سكرة الله بالموت، فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره.
والثاني: أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها، كما قيل: { إنَّ هذَا لهُوَ حَقُّ اليَقِينِ }. ويكون تأويل الكلام: وجاءت السكرةُ الحقُّ بالموت.
{ جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي جعلنا ذلك ثواباً وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به؛ فاللام في «لِمَنْ» لام المفعول له؛ وقيل: «كُفِرَ» أي جحد؛ فـ «ـمن» كناية عن نوح. وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب؛ أي عقاباً لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد «جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ» بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاءً وعقاباً لمن كفر بالله،
وقال السمين الحلبي فى الدر المصون
قوله: { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } العامَّةُ على " كُفِرَ " مبنياً للمفعول والمرادُ بـ مَنْ كُفِر نوحٌ عليه السلام، أو الباري تعالى. وقرأ مسلمة به محارب " كُفْر " بإسكان الفاء كقوله:
4161ـ لو عُصْرَ منه المِسْكُ والبانُ انعصَرْ
وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة " كَفَر " مبنياً للفاعل. والمرادُ بـ " مَنْ " حينئذٍ قومُ نوحٍ. و " كُفِرَ " خبرُ كان. وفيه دليلُ على وقوع خبر كان ماضياً مِنْ غير " قد " وبعضُهم يقولُ: لا بُدَّ من " قَدْ " ظاهرةً أو مضمرةً. ويجوز أَنْ تكونَ " كان " مزيدةً.
والقَطِران: ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به. وفيه لغاتٌ: قَطِران بفتح/ القاف وكسر الطاء، وهي قراءةُ العامَّة. وقَطْران بزنة سَكْران وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقال أبو النجم:وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء بزنة سِرْحان، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت.
وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن " بَقَطِرٍ " بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء، " آنٍ " بوزن عانٍ، جعلوهما كلمتين, والقَطِر: النحاس، والآني: اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني، أي: تناهى في الحرارةِ كقوله:
{ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ }
[الرحمن: 44]، وعن عمرَ رضي الله عنه " ليس بالقَطْران، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه ".
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ " رُوْحِنا " وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله:
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ }
[الواقعة: 89]
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون
والرَّوْحُ: الاستراحةُ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحسن: الرَّوْحُ: الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ. وعنه أيضاً: رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان. وقد تقدَّم الكلامُ على { رَيْحَانٌ } والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها.
قوله: { يَفْقَهُونَ }: قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: لا يُفْقهون غيرهم قولاً. والباقون بفتحها، أي: لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم، وهو بمعنى الأول. وقيل: ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإِنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه. وبالعكس.
{ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ }: بالظاء، قراءة ٱبن كثير وأبي عمرو والكسائيّ، أي بمتَّهم، والظنة التُّهمَة؛ قال الشاعر:
أما وكِتاب اللَّهِ لا عن شناءةٍ هُجِرتُ ولكِنّ الظنِينَ ظَنِينُ
وٱختاره أبو عُبيد؛ لأنهم لم يُبَخِّلوه ولكن كذبوه؛ ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتَّهم.
وقرأ الباقون «بِضَنِينٍ» بالضاد: أي ببخيل من ضَنِنْت بالشيء أضنّ ضِنًّا (فهو) ضنِين. فروى ٱبن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضنّ عليكم بما يعلم، بل يُعَلِّم الخَلْقَ كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:
قوله: { لاَّ يُصَدَّعُونَ }: يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً من الضمير في " عليهم " ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي: بسببها. قال الزمخشري: " وحقيقتُه: لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها " والصُّداع: هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانَ في رأسِه، والخمر تؤثِّر فيه. قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:
4210ـ تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ
ولما قرأت هذا الديوان على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقال لي: لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقيل: لا يُصَدَّعون: لا يُفَرَّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض الدنيوية. ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه: " فتصدَّع السحابُ عن المدينة " ، أي: تفرَّق.
ويُرَجِّحه قراءةُ مجاهد " لا يَصَّدَّعون " بفتح الياءِ وتشديد الصادِ. والأصلُ: يَتَصَدَّعون، أي: يتفرَّقون كقوله تعالى:
{ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ }
[الروم: 43]. وحكى الزمخشري قراءةً وهي " لا يُصَدِّعون " بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً. قال: أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً، أي: لا يُفَرِّقُونهم. وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في " يُنزِفُونَ " وتفسيرُ ذلك.
وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ، أي: اسْتُقِيَ ما فيها. والمعنى: لا تَنْفَدُ خمرُهم. قال الشيخ: " وابن أبي إسحاق أيضاً، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي: لا يَفْنى لهم شراب ". قلت: وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرَؤون في الواقعة بكسر الزاي، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.
قوله: " يُنْزَفُون " قرأ الأخَوان " يُنْزِفون " هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي. وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر. وطلحةُ بالفتح والضمِّ. فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف. وكان قياسُه مُنْزَف كـ مُكْرَم. ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو، ثلاثيُّه متعدٍ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ، وهو نحو: كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي: دخلا في الكَبِّ والقَشْع. وقال الأسودُ:
3797 ـ لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا
ويقال: أَنْزَفَ أيضاً أي: نَفِدَ شرابُه. وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً مبنياً للمفعول بمعنى: سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم. وقيل: هو مِنْ قولِهم: نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي: نَزَحْتُ ماءَها. والمعنى: أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً. وضَمَّنَ " يُنْزَفُوْن " معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف. وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى: ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر.
والغَوْلُ: كلُّ ما اغتالك أي: أَهْلَكك. ومنه الغُوْلُ بالضم: شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ. ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال: غالني كذا. ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال:
3798 ـ مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ
وقال آخر:
ـ وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ
فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى.
قوله: { الْعَآدِّينَ }: جمعُ " عادٍّ " من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ " عادٍ " اسم فاعل مِنْ عدا أي/: الظَّلَمَة.
وقال أبو البقاء: " وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك: " وهذه بِئْرٌ عادية " ، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدىظ° ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين ". قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: " وقُرىء " العادِيِّين " أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟ ". وقال ابن خالويه: " ولغةٌ أخرىظ° " العاديِّين " ـ يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة ـ بمعنى القدماء ".
قوله { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامة على نون الجماعة أو التعظيم في " نفعل " و " نشاء
". وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فَمَنْ قرأ بالنون فيهما عَطفه على مفعول " نترك " وهو " ما " الموصولةُ/، والتقدير: أصلواتُك تأمركَ أن نَتْرُكَ ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاء، وهو بَخْسُ الكَيْل والوَزْنِ المقدَّم ذكرُهما. و " أو " للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عَطْفُه علىظ° مفعول " تأمرك "؛ لأن المعنىظ° يتغير، إذ يصير التقدير: أصلواتُك تأمُرك أن نفعلَ في أموالنا.
ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول " تأمرك " ، وأن يكونَ معطوفاً على مفعول " نترك " ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان " أن نفعل " معطوفاً على مفعول " تأمرك " ، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول " نترك " وهي قراءةُ النونِ فيهما، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول " تأمرك " ، وهي قراءةُ النون في " نفعل " والتاء في " تشاء " ، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظاهرُ من حيث المعنىظ° في قراءة التاء فيهما أو في " تشاء " أن المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما. وقال الزمخشري: " المعنىظ°: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا يُؤْمَرُ بفعل غيره ".
قال مجاهد: { وأثاروا الأرض }: حرثوها. وقال الفراء: قلبوها للزراعة. وقال غيرهما: قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه، واستخراج المعادن، وإلقاء البذر فيها للزراعة؛ والإثارة: تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر: وآثاروا الأرض، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد: ليس بشيء، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله:
ومن ذم الزمان بمنتزاح
وقال: من ضرورة الشعر، ولا يجيء في القرآن.
وقرأ أبو حيوة: وآثروا من الإثرة، وهو الاستبداد بالشيء.
وقرأ العامَّةُ " ضَلَلْنا " بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضِعْنا، مِنْ قولِهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيِّبْنا. قال النابغة:
3670 ـ فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
والمضارعُ مِنْ هذا: يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ
. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة " ضُلِّلْنا " بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد " صَلَلْنا " بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضاً " صَلِلْنا " بكسرِ الصادِ. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال:
3671 ـ تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ أَصَلَّتْ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ
وقال النحاس: " لا نعرفُ في اللغة " صَلِلْنا " ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ " وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر.