قوله تعالى: { عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }: قرأ الكسائي " عَمِل " فعلاً ماضياً، و " غيرَ " نصباً، والباقون " عَمَلٌ " بفتح الميمِ وتنوينهِ على أنه اسمٌ، و " غيرُ " بالرفع.
فقراءةُ الكسائي: الضمير فيها يتعيَّنُ عَوْدُه على ابن نوح، وفاعل " عمل " ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و " غيرَ " مفعول به. ويجوز أن يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوف، تقديرُه: عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله
{ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً }
[المؤمنون: 51].
وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه،
أظهرها: أنه عائدٌ على ابنِ نوح، ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في " رجل عدل ".
والثاني: أنه يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله " ونادىٰ " ، أي: نداؤك وسؤالُك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطرٌ عظيم، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياء، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟ ولما حكاه أبو القاسم قال: " وليس بذاك " ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد اللَّه بن مسعود " إنه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما ليس لك به علمٌ " وهذا مخالِفٌ للسَّواد.
الثالث: أنه يعودُ علىركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله " اركب معنا ".
الرابع: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين، أي: إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في الإِخبارِ بالمصدر [إلى] تأويلٍ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونَك مع الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنه مِنْ قول اللَّه تعالى فقط، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه تعالى. قال الزمخشري: " فإن قلت: هلا قيل: إنه عملٌ فاسِدٌ. قلت: لَمَّا نفاه عن أهله نَفَىٰ عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «يَصُدون» (بضم الصاد) ومعناه يُعرِضون؛ قاله النَّخَعيّ، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان؛ مثل يَعْرِشون ويَعْرُشون ويَنِمُّون ويَنُمُّون، ومعناه يَضِجُّون. قال الجوهري: وصَدّ يَصُدّ صديداً؛ أي ضَجّ.
وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض، وبالكسر من الضجيج؛ قاله قُطْرُب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفرّاء: هما سواء؛ منه وعنه. ابن المسيّب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: مَن ضَمَّ فمعناه يعدلون؛ فيكون المعنى: من أجل المَيْل يُعَدلون. ولا يُعَدّى «يَصِدُّون» بمن، ومن كسر فمعناه يضِجون؛ فـ «ـمن» متصلة بـ «ـيَصِدُّون» والمعنى يضجون منه.
{ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } قال ٱبن عباس: يعصرون الأعناب والدُّهن؛ ذكره البخاريّ. وروى حجّاج عن ابن جُرَيج قال: يعصرون العنب خمراً والسّمسم دُهناً، والزيتون زيتاً. وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدلّ ذلك على كثرة النبات. وقيل: «يَعْصِرُونَ» أي يَنجُون؛ وهو من العُصْرة، وهي المَنْجَاة. قال أبو عبيدة: والعَصَر بالتحريك المَلْجأ والمَنْجاة، وكذلك العُصْرة؛ قال أبو زُبَيد:
صادِياً يَستغِيثُ غَير مُغَاثٍ ولقد كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
والمَنجُودِ الفَزِع. واعتصرتُ بفلان وتَعصرتُ أي التجأت إليه. قال أبو الغوث: «يَعْصِرُونَ» يَسْتَغِلُّون؛ وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى «تُعْصَرُونَ» بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تُمطَرون؛ من قول (الله):
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً }
[النبأ: 14] وكذلك معنى «تُعصِرون» بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك.
والعامَّةُ على " أُمَّة " بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة.
وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ:
2798 ـ ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْــ ـــمَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ
وأنشد غيره:
2799 ـ ألا لا أرَىٰ ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء " أَمَهٍ " بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ.
وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس: إنه كان يقرؤها: يلج الجُمَّل في سم الخياط، بضم الجيم وتشديد الميم، يعني: الحبل الغليظ في خرم الإبرة، وهذا اختيار سعيد بن جبير،
والجِمالات: بكسر الجيم جمع جِمالة، وهي اسم جمع طائفة من الجمال، أي تُشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقاً، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته. والصُفرة: لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره.
وقرأ الجمهور { جِمالات } بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ { جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة.
وقرأه رُويس عن يعقوب { جُمالات } بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جُمالة بالضم وهي حبل تشدّ به السفينة،
قولُه تعالى: { ٱلسِّلْمِ }: قرأ هنا " السَّلْم " بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير، والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً، وسيأتي. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى:
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا }، وحَكَوْا: " بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ " ، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ،
ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:906 ـ دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
يُنْشَد بالكسر، وقال آخر في المفتوح:907 ـ شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء " السَّلَم " بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ
وقال ٱبن عباس ومحمد بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: " ليت شعري ما فعل أبواي " فنزلت هذه الآية؛ وهذا على قراءة من قرأ «ولا تسألْ» جزماً على النّهي، وهي قراءة نافع وحده؛ وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء؛ لأنه قد يتغيّر حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان، وعن المعصية إلى الطاعة.
والثاني: وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيماً لحاله وتغليظاً لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب.....
وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو، والكسائي عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي رزين، والحسن، والشعبي. وقراءة الجمهور تدل على وجوبها. وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشافعي، وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشعبي، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنة وتطوع.
قوله: { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا }: المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنه ضميرٌ متصلٌ، والفاعلُ ظاهرٌ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه. قرأ حمزة: " فَأَزَالهما " والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ " أَزَلَّهما " يجوز أَنْ تكونَ مِنْ " زَلَّ عن المكان " إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة، ويَدُلُّ عليه قولُ امرئ القيس
:378ـ كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ كما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بالمُتَنَزَّلِ
وقال أيضاً:379ـ يَزِلُّ الغلامُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِهِ ويَلْوِي بأثوابِ العنيفِ المُثَقَّلِ
فَرَدَدْنا قراءَة الجماعة إلى قراءة حمزة، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول: معنى أزالَهما أي: صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ. ويُحتمل أن تفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ، فيكونُ زلَّ استنزل، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما، ولا بُدَّ من المجازِ في كلتا القراءتينِ لأن الزَّلَل [أصلُه] في زَلَّة القَدَمِ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي، والتنحيةُ لا يَقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي، والتحيةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ، وإنما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ.
و " عنها " متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ومعنى " عَنْ " هنا السببيَّةُ إن أَعَدْنَا الضميرَ على " الشجرة " أي: أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة.
ويجوز أن تكونَ على بابِها من المجاوزة إن [عاد] الضميرُ على " الجَنَّةِ " ، وهو الأظهرُ، لتقدُّمِ ذِكْرِها، وتجيءُ عليه قراءةُ حمزة واضحةً، ولا تظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة، قال ابن عطية: " وأمَّا مَنْ قرأ " أَزَالهما " فإنَّه يعودُ على الجَنَّةِ فقط " ،
وقيل: الضميرُ للطاعةِ أو للحالة أو للسماءِ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدَلالةِ السياقِ عليها وهذا بعيدٌ جداً.
وقرأ أبو عمرو والحرميَّان: " نُنْشِرُها " بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ، والباقون كذلك إلاَّ أنها بالزاي المعجمة. وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً/. والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي.
فَأَمَّا قراءة الحرميّين: فَمِنْ " أَنْشَرَ اللَّهُ الموتى " بمعنى أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فَمِنْ " نَشَر " ثلاثياً، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى أَفْعَلَ فتتحدَ القراءتان. والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ " نَشَرَ " ضِدَّ طَوى أي يَبْسُطها بالإِحياءِ، ويكونُ " نَشَرَ " أيضاً مطاوعَ أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميت فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي واللازمُ بلفظٍ واحد، إلاَّ أنَّ كونَه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارةٍ أبي البقاء في هذا الموضِعِ بعضُ إبهامٍ. ومِنْ مجيء " نشر " لازماً قوله:
1054 ـ حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا يا عجباً للميِّت الناشِرِ
فناشِر مِنْ نَشَر بمعنى حَيِيَ.
وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ " النَّشْز " وهو الارتفاعُ، ومنه: " نَشْزُ الأرضِ " وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء.
قال ابنُ عطية: " وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً " ، قال: " وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه: " نَشَزَ نابُ البعير " و " أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا " ، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ " أَنْشَزَ " ، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ " نَشَزَ " ، يقال: " نَشَزه " و " أَنْشَزَه " بمعنىً. ومَنْ قرأ بالياءِ فالضميرُ لله تعالى. وقر أبُيّ " نُنْشِئُها " من النَّشْأَة. ورجَّح بعضُهم قراءة الزاي على الراء بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ بل بانضمامِ بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عَظمٌ حيٌّ، وهذا ليس بشيءٍ لقولِه:
{ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }
[يس: 1]......
وقال ابن الجوزی فی زاد مسيره
قوله تعالى: { كيف ننشزها } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو { ننشرها } بضم النون الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها، يقال: أنشر الله الميت، فنشرهم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ننشزها، بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع. والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء. وقرأ الأعمش: ننشزها، بفتح النون، ورفع الشين مع الزاي وقرأ الحسن، وأبان عن عاصم: ننشرها، بفتح النون مع الراء، كأنه من النشر عن الطي، فكأن الموت طواها، والإحياء نشرها.
قوله: { قَالَ أَعْلَمُ } الجمهورُ على " قال " مبنياً للفاعلِ. وفي فاعلِهِ على قراءةِ حمزة والكسائي: " اعْلَمْ " أمراً من " عَلِمَ " قولان، أظهرِهُما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللِّهِ تعالى أو على المَلِكِ، أي: قال اللَّهُ أو المَلِكُ أو المَلِكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ. والثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسهِ، نَزَّلَ نفسَه منزلَةَ الأجنبي فخاطَبَهَا، ومنه:
1058 ـ وَدِّعْ هُرَيْرَةَ......... .....................
[وقوله]:
1059 ـ ألم تَغْتَمِضْ عيناك... ............................
[قوله]:
1060 ـ تطاولَ ليلُك......... ....................
يعني نفسَه. قال أبو البقاء: " ما تقولُ لنفسِك: اعلمْ يا عبدَ الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ " يعني كأنه جَرَّد من نفسه مخاطباً يخاطِبُه.
وأمَّا على قراءةِ غيرهما: " أعلمُ " مضارعاً للمتكلمِ ففاعلُ " قال " ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلَمُ أنا.
وقرأ الأعمش: " قيل " مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حَسَبَ ما تقدَّم في أولِ السورة.
وقرأ حمزة والكسائي: " اعلمْ " على الأمر، والباقون: " أعلمُ " مضارعاً " والجعفي عن أبي بكر: " أَعْلِمُ " أمراً من " أَعْلَمَ " ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل " قال " ما هو؟ و " أنَّ الله " في محلِّ نصب، سادَّةً مسدَّ المفعولين، أو الأولِ/ والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف.
والقراءةُ في " يخافا " بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول. وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب.
وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً. أحسنُها أَنْ يكونَ " أَنْ يقيما " بدلاً من الضميرِ في " يخافا " لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديرُه: إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك: " الزيدان أعجباني عِلْمُهما " ، وكان الأصلُ: إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حدودَ الله، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو " الوُلاةُ " للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ " أَنْ " وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه...
قوله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي ضَمها إليه. أبو عبيدة: ضِمن القيام بها.
وقرأ الكوفيون «وكفّلها» بالتشديد، فهو يتعدّى إلى مفعولين؛ والتقدير وكفّلها ربُّها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدّر ذلك عليه ويَسّره له. وفي مصحف أُبَيّ «وأكفلها» والهمزة كالتشديد في التعدّي؛ وأيضاً فإن قَبْله «فتقبلها، وأنبتها» فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها؛ فجاء «كفّلها» بالتشديد على ذلك. وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا. فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولّى كفالتها والقيامَ بها؛ بدلالة قوله:
{ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }
[آل عمران: 440]. قال مَكِّيّ: وهو الاختيار؛ لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفّلها زكريا كفَلها بأمر الله، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته؛ فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان...
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: " تَعْلَمُون " مفتوحٌ حرفُ المضارعة، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللام من: عَلِمَ يَعْلَم، أي: تعرفون فيتعدى لواحد، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمون الناس والطالبين الكتابَ،
وقال الرازى فى تفسيره:
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بنصب الراء، والباقون بالرفع
أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على { ثُمَّ يَقُولُ } وفيه وجهان
أحدهما: أن تجعل { لا } مزيدة والمعنى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي
والثاني: أن تجعل { لا } غير مزيدة، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا: أتريد أن نتخذك رباً؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء،
وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام، ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ { وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ }.
المسألة الثامنة والثلاثون: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل الفقال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود الأصفهاني: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل.
حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب، فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل......
وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً: إنها توجب المسح، وذلك لأن قوله { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، والجر عطفاً على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة......
واختُلِف في ذلك فقيل: القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنه يقال: صارَه يَصُوره ويَصِيره، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً، وهذا مذهبُ أبي عليّ. وقال الفراء: " الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط ".
وقال غيرُه: " الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ ". ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال: " صَارَه " مقلوبُ من قولهم: " صَراه عن كذا " أي: قَطَعه عنه. ويقال: صُرْتُ الشيءَ فانصار أي: قالت الخنساء:1063 ـ فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ
أي: تَنْقَطِعُ. واختُلف في هذه اللفظةِ: هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ.
و " إليك " إنْ قلنا: إنَّ " صُرْهُنَّ " بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ بـ " خُذْ
{ وَأَنَّهُ } بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على
{ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }
[الجن: 1] كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحي إليَّ أن الشأن { لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ }
وقال الرازى فى تفسيره:
اعلم أن عبدالله هو النبي صلى الله عليه وسلم في قول الجميع، ثم قال الواحدي: إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله:
{ يَوْمٍ يُحْشَرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً }
[مريم:85] والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن. وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها،
وقال الامام ابن عاشور فى التحريروالتنوير:
قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجاً عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.
فكَسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة
{ أُوحي إليَّ }
[الجن: 1]، والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إِنَّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقَل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله:
{ وأن المساجد لله }
[الجن: 18].
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفاً على جملة { أنه استمع نفر } [الجن: 1]، أيْ وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إليَّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبَداً على عبد الله لما قام يدعو ربَّه
قوله: { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، والضمير لله تعالى، والمعنى: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق، وهو موافقٌ لقوله تعالى:
{ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }
[الذاريات: 57].
وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه: " ولا يَطْعَمُ " بفتح الياء والعين بمعنى ولا يأكل، والضمير لله تعالى.
وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني: ولا يُطْعِم، بضم الياء وكسر العين كالأول، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في " يطعم " - عائدان على الله تعالى، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ.
وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون. " وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم " ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على عكس القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط، أي: وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه
وقرأ الأشهب: { وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم } ببنائهما للفاعل. وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة -: " وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم ". وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت، ونحوه: أَفَدْت، ويجوز أن يكون المعنى: وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك: هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر " قلت: [هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة، وقراءةُ الأشهب هي] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء، لا تخالُفَ بينهما، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك.
وقرئ شاذاً: { يَطْعَم } بفتح الياء والعين، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي: وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال: " والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله.
فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل: وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف، وهو تسمية فظيعة، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى
وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق. قال الفراء: " يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه " ، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير، وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل. وقال الزمخشري: " ويجوز/ أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي: اشتقُّوا له بنين وبنات ".
وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي: زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل
وقرأه الكسائي { هل تَستطيع ربَّك } بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة من قوله { ربّك } على أنّ { ربّك } مفعول به، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة، أي إجابة السؤال. وقيل: هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه. وفي رواية الطبري عن عائشة قالت: كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا: هل يستطيع ربّك، ولكن قالوا: هل تستطيع ربّك. وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي { هل تستطيع ربّك }.
وقال الرازی
{ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } قرأ الكسائي { هَلُ تَسْتَطِيعَ } بالتاء { رَبَّكَ } بالنصب وبإدغام اللام في التاء، وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانوا أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك. وعن معاذ بن جبل: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { هَلُ تَسْتَطِيعَ } بالتاء { رَبَّكَ } بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سؤال ربك؟ قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى، والثانية توجب شكهم في استطاعة الله، ولا شك أن الأولى أولى، وأما القراءة الثانية ففيها إشكال، وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم
{ قَالُواْ ءامَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }
[المائدة: 111] وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك؟
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء } فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملاً في الإيمان وقالوا: ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان.
والوجه الثاني: في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطُّمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام
{ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }
[البقرة: 260] فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا.
والوجه الثالث: في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعاً فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة، وهذا الجواب يتمشى على قول المعتزلة، وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور.
الوجه الرابع: قال السدي: { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } أي هل يطيعك ربك إن سألته، وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة.
الوجه الخامس: لعلّ المراد بالرب: هو جبريل عليه السلام، لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة، ولذلك قال تعالى في أول الآية
{ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }
[المائدة: 110] يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة، فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك.
والوجه السادس: أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح، لا يجوز لعاقل أن يشك فيه، فكذا ههنا.
وقرأ الجمهور { فمرت به } ، قال الحسن: أي استمرت به، وقيل: هذا على القلب أي فمر بها أي استمر بها، وقال الزمخشري: فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، وقيل: { حملت حملاً خفيفاً } يعني النطفة { فمرت به } فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى،
وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيـى بن يعمر وأيوب { فمرت به } خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض،
فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة، وهو قول سيبويه، كما هي عنده صفة في
{ غير المغضوب عليهم }
[الفاتحة: 7] ومثله قول لبيد:وإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزي الفتى غير الجمل
كذا ذكره أبو عليّ، ويروى: ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل: وهو إعراب ظاهر، لأنه جاء بعد نفي، وهو أولى من الصفة لوجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل، ثم النصب على الاستثناء، ثم الوصف في رتبة ثالثة. الثاني: أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا، هو المشهور، ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين، كانت الألف واللام فيه جنسية، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة، وهذا كله ضعيف.
وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل: استثناء من المؤمنين، والأول أظهر لأنه المحدث عنه. وقيل: انتصب على الحال من القاعدين.
وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من
{ الذين أنعمت عليهم }
[الفاتحة: 7] ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله: القاعدون. أي: كائنين من المؤمنين.
واختلفوا: هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات، لزمت المساواة. وقال ابن عطية: وهذا مردود، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، وكذا قال ابن جريج: الاستثناء لرفع العقاب، لا لنيل الثواب. المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج. قال: استثنى المعذور من القاعدين، والاستثناء من النفي إثبات، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى. وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر، والمجاهد من التفاوت العظيم، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه.
أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما.
الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هَذَىٰ فلا مفعولَ له.
ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: " يعني سَبَّ الصحابةِ ". زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ننسأها) بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا، لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخيرومنه:
{ إِنَّمَا ٱلنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ }
[التوبة: 37] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة، وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله ونسأ في أجله، أي أخر وزاد، وقال عليه الصلاة والسلام: " من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه "
والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان، ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى:
{ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }
[طه: 155] أي فترك وقال:
{ فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـٰذَا }
[الأعراف: 51] أي نتركهم كما تركوا،
فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين، فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها. وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: أو ننسأها: نثبت خطها، ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء: أو ننسأها: نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها: نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي: مثله أيضاً، وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل، يعني ابن أسلم، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، أي: نؤخرها،
وأما على قراءة: { أَوْ نُنسِهَا } ، فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ، قال: كان الله عز وجل: ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: في قوله: { أَوْ نُنسِهَا } قال: إِن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ علينا قرآناً ثم نسيه. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج، يعني الجزري، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل، وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جزري. وقال عبيد بن عمير: { أَوْ نُنسِهَا }: نرفعها من عندكم، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا هشيم، عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: { أَوْ ننساها } قال: فقال سعد: إن القرآن، لم ينزل على المسيب، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ }
[الأعلى: 6]
{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }
[الكهف: 24]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه....
قوله: { وَٱتَّخِذُواْ } قرأ نافعٌ وابنُ عامر: " واتَّخذوا " فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ.
فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها: أنه معطوفٌ على " جَعَلْنا " المخفوض بـ " إذ " تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً.
الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: " وإذ جَعَلْنا " فيحتاجُ إلى تقديرِ " إذ " أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين.
الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا.
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ،
أحدُها: أنَّها عَطفٌ على " اذكروا " إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا.
والثاني: أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه: " مثابةً " كأنه قال: ثُوبوا واتَّخِذوا، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي
الثالث: أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي: وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه.
الرابع: أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء
وقال الرازى فى تفسيره:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي: { وَٱتَّخَذُواْ } بكسر الخاء على صيغة الأمر،
وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر.
أما القراءة الأولى: فقوله: { وَٱتَّخَذُواْ } عطف على ماذا،
وفيه أقوال، الأول: أنه عطف على قوله:
{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }
[البقرة: 122]، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }.
الثاني: إنه عطف على قوله:
{ إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }
[البقرة: 124] والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات وأتمهن، قال له جزاء لما فعله من ذلك: { إِنّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقال: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى } ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده، إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال، ونظيره قوله تعالى:
{ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }
[الأعراف: 171].
الثالث: أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وكأن وجهه: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ } أنتم من مقام إبراهيم مصلى والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم، والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الوضع وإن كانت الفاء أوضح،
أما من قرأ: { وَٱتَّخَذُواْ } بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى، فيكون هذا عطفاً على: { جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } واتخذوه مصلى، ويجوز أن يكون عطفاً على: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } وإذ اتخذوه مصلى.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: { فأمتعه قليلاً ثم أضطره } على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى،
قوله: { شَيْئاً إِدَّاً }: العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ " إدَّاً " وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه.
وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف، أي: شيئاً أدَّاً، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال: أدَّه الأمرُ، وأدَّني يَؤُدُّني أدَّاً، أي: أَثْقَلني. وكان الشيخ ذكر أنَّ الأَدَّ والإِدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ
وقرأ أبو رجاء، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة: بسكون الظاء وهي لغة تميمية، يقولون في: كبد كبد.
وقرأ عطاء: فناظرة، على وزن: فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى:
{ ليس لوقعتها كاذبة }
[الواقعة: 2] وكقوله:
{ تظن أن يفعل بها فاقرة }
[القيامة: 25] وكقوله:
{ يعلم خائنة الأعين }
[غافر: 19] وقال: قرأ عطاء: فناظره، بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو: صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب، وباقل، بمعنى: ذو عشب وذو بقل. وعنه: فناظره، على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها. انتهى. ونقلها ابن عطية. وعن مجاهد: جعلاه أمراً، والهاء ضمير الغريم.
وقرأ عبد الله: فناظروه، أي: فأنتم ناظروه. أي: فأنتم منتظروه
وقرأ العامة «أخي ٱشْدُدْ» بوصل الألف «وَأَشْرِكْهُ» بفتح الهمزة على الدعاء، أي اشدد يا رب أزري، وأشركه معي في أمري.
وقرأ ابن عامر ويحيـى بن الحارث وأبو حَيْوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «أَشْدُدْ» بقطع الألف «وَأُشرِكْه» [بضم الألف أي أنا أفعل ذلك أشدد أنا به أزري «وأشركه»] أي أنا يا رب «في أمري»....
وقال ابن عاشور فى تفسيره:
وجملة { اشْدُدْ به أَزْرِي } على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي { اشدد } ، و { أشرك } بيان لجملة { اجْعَل لي وَزِيراً }. سأل الله أن يجعله معيناً له في أعماله، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكاً لموسى في أمره، أي أمر رسالته.
وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم ــــ بفتح الهمزة المقطوعة ــــ في «اشدُد» ــــ وبضم همزة ــــ «أشركه»، فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم { يفقهوا قولي }
قوله تعالى: { مُسَوِّمِينَ }: كقوله: مُنْزَلين ". وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو على اسم الفاعل،
والباقون بفتحها على اسم المفعول.
فأما القراءة الأولى فتحتمل أن تكون من السَّوْم وهو تَرْكُ الماشية ترعى، والمعنى أنهم سَوَّموا خيلَهم أي: أعطَوها سَوْمَها من الجري والجوَلان وتركوها كذلك كما يَفْعل مَنْ يَسِيمُ ماشِيتَه في المَرْعى، ويحتمل أن يكون من السَّوْمَة وهي العلامة، على معنى أنهم سَوَّموا أنفسهم أو خيلهم، ففي التفسير أنهم كانوا بعمائَم بيضٍ إلا جبريلَ فبعمامةٍ صفراء، وروُي أنه كانوا على خيل بُلْق. ورجَّح ابن جرير هذه القراءة بما وَرَد في الحديث عنه عليه السلام يوم بدر " تَسوَّموا فإنَّ الملائكة قد سَوَّمَتْ ".
وأما القراءة الثانية فواضحةٌ بالمعنيين المذكورين فمعنى السَّوْم فيها: أنَّ الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مُرْسَلين مِنْ عندِ الله لنصرةِ نبيِّه والمؤمنين. حكى أبو زيد: سَوَّم الرجل خيلَه: أي أرسلها، وحكى بعضهم: " سَوَّمْتُ غُلامي " أي: أرسلْتُه، ولهذا قال أبو الحسن الأخفش: " معنى مُسَوَّمين: مُرْسَلين ". ومعنى السَّومةِ فيها أنَّ الله تعالى سَوَّمَهم أي: جَعَل عليهم علامَةً وهي العمائم، أو الملائكةُ جَعَلوا خيلَهم نوعاً خاصاً وهي البُلْق، فقد سَوَّموا خيلَهم.
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:
{ مسوِّمين } قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوَّمها،
ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سوّمت خيلها،
ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدّم من خِيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قُتِل معه رِبِّيُّون كثير، أو كثير من الأنبياء قتِلوا فما ٱرتدّ أممهم؛ قولان:
الأوّل للحسن وسعيد بن جبير. قال الحسن: ما قُتِل نبي في حرب قط. وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال.
والثاني عن قتادة وعكرمة. والوقف ـ على هذا القول ـ على «قُتِل» جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب.
وهي قراءة ابن عباس وٱختارها أبو حاتم.
وفيه وجهان: أحدهما أن يكون «قُتِل» واقعاً على النبيّ وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله «قُتِل» ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير؛ كما يقال: قُتِل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش. وخرجْتُ معي تجارة؛ أي ومعي.
الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبيّ ومن معه من الربِّيّين، ويكون وجه الكلام قتِل بعض من كان معه؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلوا بعضهم. ويكون قوله { فَمَا وَهَنُوا } راجعاً إلى من بقي منهم. قلت: وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقُتِل معه جماعة من أصحابه.
وقرأ الكوفيون وابن عامر «قَاتَلَ» وهي قراءة ابن مسعود؛ واختارها أبو عبيْد وقال. إن الله إذا حَمِد من قاتل كان من قُتِل داخلاً فيه، وإذا حمِد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم؛ فقاتل أعمّ وأمدح
وقال ابن الجوزى فى زاد المسير:
قوله تعالى: { قاتل معه ربيُّون } قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم: «قُتِل» بضم القاف، وكسر التاء، من غير ألف،
وقرأ الباقون: «قاتل» بألف، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس، وأبو مجلز، وأبو العالية، والجحدري، بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين.
أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله.
والثاني: أن يكون قتل للربيين، ويكون: «فما وهنوا» لمن بقي منهم. وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال....
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين مِنْ " غَلَّ " مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يَصِحُّ أن يقع من النبي غُلول لتنافِيهما، فلا يجوزُ أن يُتَوَهَّمَ ذلك فيه البتة.
وقرأ الباقون " يُغَلَّ " مبنِيّاً للمفعول. وهذه القراءةُ فيها احتمالان،
أحدُهما: أن يكونَ من " غَلَّ " ثلاثياً، والمعنى: ما صَحَّ لنبيٍّ أَنْ يَخُونَه غيرُه ويَغُلَّه، فهو نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَغُلُّه أحدٌ. والاحتمال
الثاني: أَنْ يكونَ مِنْ أغلَّ رباعياً، وفيها وجهان،
أحدُهما: أَنْ يكونَ من أَغَلَّه: أي نَسَبه إلى الغُلول كقولِهم: أَكْذَبْتُه أي: نَسَبْتُه إلى الكذب، وهذا في المعنى كالذي قبله أي: نفيٌ في معنى النهي أي: لا يَنْسِبه أحدٌ إلى الغُلول.
والثاني: أن يكونَ مِنْ أَغَلَّه أي وجده غالاًّ كقولهِم: أَحْمَدْتُ الرجلَ وأَبْخَلْتُه وأجبنتُه أي: وجدته محموداً وبخيلاً وجباناً...
ملحوظة
سبحان الله فبالجمع بين القراءتين يكون المراد والمعنى
ماكان لكم ان تتهموا رسول الله بالغل على القراءة الثانية
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «فـاتَّبع» بوصل الألف، وتشديد التاء، بـمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتَّبعتُ أثر فلان: إذا قـفوته وسرت وراءه.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
{ فَأَتْبَعَ }
بهمز، وتـخفـيف التاء، بـمعنى لـحق.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ: «فـاتَّبَعَ» بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من الله تعالـى ذكره عن مسير ذي القرنـين فـي الأرض التـي مكن له فـيها، لا عن لـحاقه السبب، وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل.
وقال السمين الحلبى فى الدر المصون:
قوله: { فَأَتْبَعَ }: قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو " فَأَتْبَعَ " و " ثم أَتْبَعَ " في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء.
والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء.
فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: " أتبع " بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه: فأتبع سبباً سبباً آخرَ، أو فأتبع أمرَه سبباً. ومنه
{ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً }
[القصص: 42] فعدَّاه لاثنين/ ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين: قولُه تعالى:
{ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ }
[الشعراء: 60]، أي: أَتْبعوهم جنودَهم. واختار أبو عبيد " اتَّبع " بالوصل، قال: " لأنه من المسيرِ " قال " تقول " تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم. فأما الإِتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق، كقولِه تعالى:
{ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }
[الصافات: 10]. وقال يونس وأبو زيد: " أَتْبَعَ " بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ. وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات.
قوله: { خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ }: العامَّةُ على " خَفْتُ " بكسر الحاء وسكونِ الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم. و " المَوالي " مفعولٌ به بمعنى: أنَّ مَوالِيه كانوا شِرارَ بني إسرائيل، فخافَهم على الدِّين. قاله الزمخشري.
قال أبو البقاء: " لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي ".
وقرأ الزُّهري كذلك، إلا أنه سَكَّن ياءَ " المَواليْ " وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو، وعليه قراءةُ زيدِ بنِ عليّ
{ تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ }
[المائدة: 89]. وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين: " خَفَّتِ " بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين. و " المَوالِيْ " فاعلٌ به، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت.
وقرأ العامَّة " أنها " بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ـ بخلاف عنه ـ بكسرها.
فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية.
قال سيبويه: " سألْتُ الخليل عن هذه القراءة ـ يعني قراءة الفتح ـ فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال " وما يُشْعركم " ، ثم ابتدأ فأوجب فقال { إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولو فَتَح فقال: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لكان عُذْراً لهم ". وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: " لأنك لو فتحت " أنَّ " وجعلتها التي في نحو " بلغني أن زيداً منطلق " لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: " إن زيداً لا يؤمن " فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم.
وقال الزمخشري " وقرئ " إنها " بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون ".
وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه،
أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل " أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً " أي: لعلك، فهذا من كلام العرب ـ كما حكاه الخليل ـ شاهد على كون " أنَّ " بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس:
2027ـ أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا
قال امرؤ القيس: ـ أنشده الزمخشري ـ
2028ـ عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ
وقال جرير:
2029ـ هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام
وقال عدي بن زيد:
2030ـ أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر:
2032ـ قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ
فـ " أنَّ " في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته " وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون " ونُقِلَ عنه: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ } ، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ " لعل " قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى:
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ }
[الشورى: 17]
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ }
[عبس: 3] وممَّنْ جعل " أنَّ " بمعنى " لعل " أيضاً يحيى بن زياد الفراء.
ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: " زعم سيبويه عن الخليل أن معناها " لعلها " قال: " وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود " ،/ ونسب القراءة لأهل المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال: " التوقع الذي تدل عليه " لعلَّ " لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون " ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى " لعل " لم يجعلها معمولة لـ " يُشْعِركم " بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ }
[الإِسراء: 59] أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله " وما يُشْعركم " اعتراضاً بين العلة والمعلول.
الثاني: أن تكون " لا " مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال: " ومثله
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }
[الأعراف: 12] أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال " والذي ذكر أن " لا " لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن " لا " غير لغو " فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد.
وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: " يجوز أن تكون " لا " في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر:
2032ـ أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ
يُنشد بالوجهين أي بنصب " البخل " وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف " لا " إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون " لا " مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ " لا " ، ولفظ " لا " هو بخل.
وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى
{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
[الفاتحة: 7] في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى:
{ وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
[الأنبياء: 95] قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }
[الأعراف: 12]
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ }
[الحديد: 29].
الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم.
الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: " وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون " فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه.
الخامس: أنَّ " لا " غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم. وقال الزمخشري: " وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل: " وما يدريكم أنهم لا يؤمنون " على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله:
{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
[الأنعام: 110] انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها/. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال: " ولا يحتاج الكلام إلى زيادة " لا " ولا إلى هذا الإِضمار " - يعني حَذْفَ المعطوف - " ولا إلى " أنَّ " بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها ".
السادس: أنَّ " ما " حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ لـ " يُشْعركم " فاعلٌ
فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو لـ
{ يُشْعِرُكُمْ }
[الأنعام: 109] و
{ يَنصُرْكُمُ }
[آل عمران: 160] ونحوِهما عند قوله
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ }
[البقرة: 67]، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.
وقرأ الجمهور: " لا يؤمنون " بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية [الآية: 6]
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }
بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى.
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله " وما يشعركم " أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة " لا " أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ " أنَّ " بمعنى لعلَّ مع كون " لا " نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا " أنَّ " معمولةً لـ " يُشْعركم " وجَعَلْنَا " لا " نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم.
وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم.
فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في " وما يشعركم " جائزاً فيه وجهان،
أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم
والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.
وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون " أنَّ " بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره.
وقال الشيخ في هذه القراءة: " الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون " يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: " ويبعد جداً أن يكون الخطاب في " وما يشعركم " للكفار ". قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في " أنَّ " هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه.
وقد جعل الشيخُ في مجموع { أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع قراءات قال: " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن/ عطية: " ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة " لا تؤمنون " بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات:
الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة " ثم قال:
" القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في " وما يُشْعركم " للمؤمنين وفي " تؤمنون " للكفار.
ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في " تؤمنون " لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة " أنها " ، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ " يؤمنون " إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ " تؤمنون " بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في " يؤمنون " حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة.
وقال ابن الجوزی فی زاد مسيره
وما يشعركم أنها } أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله { يشعركم } للمشركين، ويكون تمام الكلام عند قوله: { وما يُشعِرُكم } ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعولُ. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا. فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: { وما يشعركم إنها }؛ فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع؛ إنما قال: { وما يشعركم } ثم ابتدأ فأوجب، فقال: { إنها إذا جاءت لا يؤمنون }؛ ولو قال: { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون }؛ كان ذلك عذراً لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنها» بفتح الألف؛ فعلى هذا، المخاطب بقوله: { وما يشعركم } رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ثم في معنى الكلام قولان.
أحدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أُبي: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل» يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي: لعلك
قال عدي بن زيد:
أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ
أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، وسيبويه، والفراء في توجيه هذه القراءة.
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون «لا» صلة كقوله: تعالى:
{ ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك }
[الأعراف: 12] وقوله تعالى:
{ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون }
[الأنبياء: 95] ذكره الفراء، ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة { يؤمنون } بالياء، منهم ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم؛ وقرأ ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ بالتاء، فهو انصراف من الغَيبة إلى الخطاب.
قوله: { يَرَوْنَهُمْ } قرأ نافع وحده من السبعةِ ويعقوب وسهل: " تَرَوْنهم " بالخطابِ، والباقون من السعبة بالغَيْبة.
فأمَّا قراءةُ نافع ففيها ثمانية أوجه،
أحدُها: أن الضميرَ في " لكم " والمرفوعَ في " تَرَوْنهم " للمؤمنين، والضميرَ المنصوب في " تَرَوْنهم " والمجرورَ في " مِثْلَيْهم " للكافرين. والمعنى: قد كان لكم أيها المؤمنون آيةٌ في فئتين بأَنْ رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد وهو أبلغُ في القدرةِ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عددِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغَلَبوهم وأَوْقَعوا بهم الأفاعيلَ. ونحُوه:
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ }
[البقرة: 249] واستبَعَدَ بعضُهم هذا التأويلَ لقوله تعالى في الأنفالِ:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً }
[الآية: 44]، فالقصةُ واحدةٌ، وهناك تَدُلُّ الآية على أن الله تعالى قَلَّل المشركين في أعين المؤمنين لئلا يَجْبُنوا عنه، وعلى هذا التأويلِ المذكور هنا يكون قد كَثَّرهم في أعينهم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه باختلافِ حالَيْنِ، وذلك أنه في وقتٍ أراهم إيَّاهم مثلي عددهم ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قَلَّلهم في أعينهم ليقدُموا عليهم، فالإِتيانُ باعتبارين ومثلُه:
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }
[الرحمن: 39] مع:
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
[الحجر: 92]،
{ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }
[النساء: 42] مع:
{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }
[المرسلات: 35]. وقال الفراء: " المرادُ بالتقليل التهوينُ كقولِك: " رأيتُ كثيرَهم قليلاً " لهوانِهِم عندكَ، وليس من تقليلِ العدد في شيء ".
الثاني: أن يكونَ الخطاب في " تَرَوْنهم " للمؤمنين أيضاً، والضميرُ المنصوبُ في " ترونهم " للكافرين أيضاً، والضميرُ المجرورِ في " مِثْلَيْهم " للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الكافرين مثلي عددِ أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأيِ العين، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا ألفاً ونَيِّفاً والمسلمونُ على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قَرَّر عليهم من مقاومةِ الواحدِ للاثنين في قوله تعالى:
{ فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ }
[الأنفال: 66] بعد ما كُلِّفوا أن يقاومَ واحدٌ العشرةَ في قوله تعالى:
{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ }
[الأنفال: 65]. قال الزمخشري: " وقراءةُ نافع لا تساعد عليه " عين على هذا التأويلِ المذكور، ولم يُبَيِّنْ وجه عدمِ المساعدةِ، وكأنَّ الوجَه في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه كان ينبغي أن يكونَ التركيب: " تَرَوْنهم مثليكم " بالخطاب في " مثليكم " لا بالغَيْبة. وقال أبو عبد الله الفاسي ـ بعد ما ذكرته عن الزمخشري: " قلت: بل يساعِدُ عليه إن كان الخطابُ في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك " انتهى، فلم يأتِ أبو عبد الله بجوابٍ، إذ الإِشكالُ باقٍ.
وقد أجابَ بعضُهم عن ذلك بجوابين،
أحدُهما: أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة وأن حقَّ الكلام: " مِثْلَيْكم " بالخطاب، إلا أنه التفتَ إلى الغَيْبة، ونظَّره بقوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }
[يونس: 22].
والثاني: أن الضميرَ في " مِثْلَيْهم " وإن كان المرادُ به المؤمنين إلا أنه عادَ على قوله: { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، والفئةُ المقاتِلة هي عبارةٌ عن المؤمنين المخاطبينَ، والمعنى: تَرَوْن أيها المؤمنون الفئةَ الكافرة مِثْلَيْ الفئةِ المقاتلةِ في سبيل الله، فكأنه قيل: تَرَوْنَهم أيَها المؤمنون مِثْلَيْكُم. وهوَ جوابٌ حسنٌ ومعنى واضحٌ.
الثالث: أن يكونَ الخطاب في " لكم " وفي " تَرَوْنَهم " للكفار، وهم قريش، والضميرُ المنصوبُ والمجرور للمؤمنين، أي: قد كان لكم أيها المشركون/ آيةٌ حيث تَرَوْن المؤمنين مِثْلَي أنفسِهم في العدَدِ، فيكون قد كَثَّرهم في أعينِ الكفار ليجبنُوا عنهم، فيعودُ السؤالُ المذكور بين هذه الآية وآية الأنفال، وهي قوله تعالى:
{ وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ }
[الأنفال: 44]، فكيف يقال هنا إنه كَثَّرهم فيعودُ الجواب بما تقدَّم من اختلافِ حالتين، وهو أنه قَلَّلهم أولاً ليجترىءَ عليهم الكفارُ، فلمَّا التقى الجمعان كَثَّرهم في أعيِنِهم ليحصُل لهم الخَورُ والفَشَلُ.
الرابع: كالثالث، إلاَّ أنَّ الضميرَ في " مِثْلَيْهم " يعودُ على المشركين فيعودُ ذلك السؤال، وهو أنه كان ينبغي أن يُقال " مِثْليكم " ليتطابق الكلامُ فيعودَ الجوابان وهما: إمَّا الالتفاتُ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا عودُه على لفظِ الفئة الكافرة، لأنها عبارةٌ عن المشركين، كما كان ذلك الضميرُ عبارةً عن الفئةِ المقاتلَةِ، ويكونُ التقديرُ: تَرَوْنَ أيها المشركون المؤمنين مِثْلَيْ فئتِكم الكافرة، وعلى هذا فيكونون قد رَأَوا المؤمنين مِثْلَي أنفسِ المشركين ألفين ونيفاً، وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيث أرى الكفارَ المؤمنينَ مِثْلَي عددِ المشركين حتى فَشِلوا وجَبُنوا، فَطَمِعَ المسلمون فيهم فانتصروا عليهم، ويؤيِّده: { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } فالإراءة هنا بمنزلة المَدَدِ بالملائكةِ في النصرةِ بكليهما، ويعودُ السؤالُ حينئذٍ بطريق الأَوْلى: وهو كيف كثَّرهم إلى هذه الغايةِ مع قولِهِ في الأنفال: { وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ }؟ ويعود الجواب.
الخامس: أنَّ الخطابَ في " لكم " و " تَرَوْنهم " لليهود، والضميران المنصوبُ والمجرورُ على هذا عائدان على المسلمين على معنى: تَرَوْنَهم لو رأيتموهم مِثْلَيْهم، وفي هذا التقدير تكلُّفٌ لا حاجةً إليه،
وكأن هذا القائلَ اختار أن يكونَ الخطابُ في الآية المنقضية وهي قولُه: { قَدْ كَانَ لَكُمْ } لليهود، فَجَعَلهُ في " تَرَوْنَهم " لهم أيضاً، ولكنَّ الخروجَ من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أَوْلى من هذا التقدير المتكلَّفِ، لأنَّ اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ حتى يُخاطَبوا برؤيتِهم لهم كذلكَ. ويجوز على هذا القولِ أن يكونَ الضميرانِ المنصوبُ والمجرورُ عائِدَيْنِ على الكفار، أي: إنهم كَثَّر في أعينِهم الكفارَ حتى صاروا مِثْلي عددِ الكفارِ، ومع ذلك غلبَهم المؤمنون وانتصروا عليهم، فهو أَبْلَغُ في القدرةِ. ويجوزُ أنْ يعودَ المنصوبُ على المسلمين والمجرورُ على المشركين، أي: تَرَوْنَ أيها اليهودُ المسلمينَ مِثْلَي عددِ المشركين مهابةً لهم وتهويلاً لأمرِ المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين فيما تقدَّم من الأقوال. ويجوز أن يعودَ المنصوبُ على المشركين والمجرورُ على المسلمين، والمعنى: تَرَوْنَ أيها اليهودُ لو رأيتم المشركينَ مِثْلَي عددِ المسلمين، وذلك أنهم قُلِّلُوا في أعينهم ليحصُل لهم الفزعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يَغُمُّهُم قلةُ الكفارِ ويعجبُهم كثرتُهُم ونصرتُهم على المسلمين حسداً وَبَغْياً فهذه ثلاثة أوجهٍ مترتبةٌ على الوجه الخامسِ، فتصيرُ ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه،
أحدُها: أنها كقراءةِ الخطاب، فكلُّ ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على بابِ الالتفاتِ أي: التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.
الثاني: أن الخطاب في " لكم " للمؤمنين، والضميرُ المرفوعُ في " يَرَوْنَهم " للكفار، والمنصوبُ والمجرورُ للمسلمين، والمعنى: يَرَى المشركون المؤمنين مِثْلَي عدد المؤمنين ستمئة ونيفاً وعشرين، أراهم الله ـ مع قِلَّتهم ـ إياهم ضِعْفَيْهم ليَهَابُوهم ويَجْبُنوا عنهم.
الثالث: أنَّ الخطاب في " لكم " للمؤمنين أيضاً، والمرفوعُ في " يَرَوْنَهم " للكفار، والمنصوبُ للمسلمين والمجرورُ للمشركين، أي: يرى المشركونَ المؤمنين مِثْلَي عددِ المشركين، أراهم الله المؤمنينَ أضعافَهم لِما تَقدَّم في الوجه قبله.
الرابع: أن يعودَ الضميرُ المرفوع في " يَرَونهم " على الفئةِ الكافرة؛ لأنها جَمْعٌ في المعنى، والضميرُ المنصوب والمجرورُ على ما تقدم من احتمالِ عودِهما على الكافرينَ أو المسلمين أو أحدِهما لأحدِهم.
والذي تَقَوَّى في هذه الآيةِ من جميعِ ما قَدَّمْتُهُ من حيِث المعنى أَنْ يكونَ مَدارُ الآيةِ على تقليلِ المسلمينَ وتكثيرِ الكافرين، لأنَّ مقصودَ الآية ومساقَها الدلالةُ على قُدْرَةِ الله الباهرةِ وتأييدِهِ بالنصر لعبادِه المؤمنين مع قلةِ عددِهم وخذلانِ الكافرين مع كثرةِ عددِهم، وتحزُّبهم، ليُعْلَمَ أنَّ النصرَ كلَّه من عند الله، وليس سببُه كثرتَكم وقلةَ عدوكم، بل سببُه ما فعلَه تبارك وتعالى من إلقاءِ الرعبِ في قلوبِ أعدائِكم، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك/: { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } وقال في موضع آخر:
قال الشيخ أبو شامة ـ بعد ذِكْره هذا المعنى وَجَعَلَهُ قوياً ـ: " فالهاءُ في تَرَوْنَهم للكفارِ سواءً قُرىء بالغَيْبَةِ أم بالخطاب والهاءُ في " مثليهم " للمسلمين. فإنْ قلت: إن كان المرادُ هذا فهلا قيل: يَرَونْهَم ثلاثةَ أمثالهم. فكان أبلغَ في الآية، وهي نصرُ القليلِ على هذا الكثيرِ، والعُدَّةُ كانت كذلك أو أكثرَ. قلت: أخبرَ عن الواقعِ، وكان آيةً أخرى مضمومةً إلى آية البصرِ، وهي تقليلُ الكفارِ في أعينِ المسلمين وقُلِّلُوا إلى حدٍّ وُعِدَ المسلمونَ النصرَ عليهم فيه، وهو أن الواحدَ من المسلمين يَغْلِبُ الاثنين، فلم تكن حاجةٌ إلى التقليلِ بأكثرَ من هذا، وفيه فائدةٌ: وقوعُ ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه " انتهى. قلت: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يَرَوْنَهم ثلاثةَ أمثالهم، فإنه قال: " مِثْليهم: ثلاثةَ أمثالهم، كقول القائل: " عندي ألف وأنا محتاجٌ إلى مثليها " وغَلَّطه أبو إسحاق في هذا، وقال: " مثلُ الشيء ما ساواه، ومِثْلاه ما ساواه مرتين ". قال ابن كيسان: " الذي أَوْقَع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا يومَ بدر ثلاثةَ أمثالِهم، فتوهَّمَ أنه لا يجوزُ أن يَرَوْهم إلا على عُدَّتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غيرِ عُدَّتهم لجهتين، إحداهما: أنه رأى الصلاحَ في ذلك؛ لأن المؤمين [تُقَوَّى قلوبُهم بذلك، والأخرى] أنه آيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجملةُ على قراءةِ نافع تَحْتَمِلُ أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، ويُحتُمل أن يكونَ لها محلٌّ، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: النصبُ على الحال من " كم " في " لكم " أي: قد كان لكم حالَ كونِكم تَرَوْنهم. والثاني: الجرُّ نعتاً لفئتين، لأنَّ فيها ضميراً يَرْجِع عليهما، قاله أبو البقاء.
وأمَّا على قراءةِ الغَيْبةِ فتحتملُ الاستئنافُ، وتحتملُ الرفعَ صفةً لإِحدى الفئتين، وتحتمل الجرَّ صفةً لفئتين أيضاً، على أَنْ تكونَ الواوُ في " يَرَوْنَهم " تَرْجِعُ إلى اليهود، لأنَّ في الجملة ضميراً يعودُ على الفئتين.
وقرأ ابن عباس وطلحة " تُرَوْنَهم " مبنياً للمفعول على الخطاب. والسلمي كذلك، إلا أنه بالغيبة. وهما واضحتان مما تقدَّم تقريره، والفاعل المحذوفُ هو الله تعالى.
قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي: جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم، وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذٍ قبل القتال يَحْزِر لهم المسلمين، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وهكذا كان الأمر، كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، ثم لما وقع القتال، أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
(والقول الثاني) أن المعنى في قوله تعالى: { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ } أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم، وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس: أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً، وكأن هذاالقول مأخوذ من ظاهر هذه الآية، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف، كما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير، قال: " كم ينحرون كل يوم "
؟ قال: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " وروى أبو إسحاق السبيعي، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه، قال: كانوا ألفاً، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول، والله أعلم، لكن وجه ابن جرير هذا، وجعله صحيحاً؛ كما تقول: عندي ألف، وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف، كذا قال، وعلى هذا فلا إشكال،
لكن بقي سؤال آخر، وهو وارد على القولين، وهو أن يقال: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً }
[الأنفال: 44] فالجواب أن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا } الآية، قال: هذا يوم بدر، قال عبد الله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وذلك قوله تعالى:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىۤ أَعْيُنِهِمْ }
[الأنفال: 44] الآية.
فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ فـ " ألا " فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و " يا " بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و " اسْجُدوا " فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ " يا اسْجُدوا " ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ " يا " وهمزةَ الوصلِ من " اسْجُدوا " خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين " اسْجُدوا " ، فصارَتْ صورتُه " يَسْجُدوا " كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في " يا " هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادَىٰ محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه:
{ يٰلَيتَنِي }
[الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترىٰ أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادَىٰ كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو " ألا ". وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:
3559ـ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به ......................
فغيرُ العامِلَيْن أَوْلَىٰ. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:
3560ـ فلا واللهِ لا يُلْفَىٰ لِما بي ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ
فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ " يا " لفعلِ الأمرِ وقبلَها " ألا " التي للاستفتاح كقوله:
3561ـ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي
وقوله:
3562ـ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ
وقوله:
3563ـ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ
وقوله:
364ـ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ
وقوله:
3565ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري
وقوله:
3566ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ ............................
وقوله:
3567ـ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي
وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها " ألا " كقوله:
3568ـ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:
3569ـ يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادىٰ محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على " يَهْتَدون " تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على " ألا يا " معاً ويَبْتَدىءَ " اسْجُدوا " بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على " ألا " وحدَها، وعلى " يا " وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ،
أحدها: أنَّ " ألاَّ " أصلُها: أَنْ لا، فـ " أنْ " ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و " لا " بعدها حَرفُ نفيٍ. و " أنْ " وما بعدها في موضع مفعولِ " يَهْتَدون " على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و " لا " مزيدةٌ كزيادتِها في
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ }
[الحديد: 29].
الثاني: أنه بدلٌ مِنْ " أعمالَهم " وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله.
الثالث: أنه بدلٌ من " السبيل " على زيادةِ " لا " أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالىٰ.
الرابع: أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان،
أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بـ " صَدَّهم " أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي " لا " حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي.
والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنىٰ: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " أعمالَهم " التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون " لا " على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " السبيل ". التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون " لا " مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنىٰ.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على " يَهْتدون " لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ " زَيَّن " و " صَدَّ " ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ " أعمالَهم " أو من " السبيل " على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.
وقد كُتِبَتْ " ألاَّ " موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ " أنْ " منفصِلةً مِنْ " لا " فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على " أنْ " وحدَها لاتِّصالِها بـ " لا " في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على " ألاَّ " بجملتِها، كذا قال القُراء.
والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً بـ " لا " غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها بـ " لا " ، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: " فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك ". فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد ـ وهو الظاهرُ ـ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يَخْفىٰ.
والذين غلبوا. قال قتادة: هم الولاة. روي أن طائفة ذهبت إلى أن يطمس الكهف عليهم ويتركوا فيه مغيبين، وقالت الطائفة الغالبة: { لنتخذن عليهم مسجداً } فاتخذوه.
وروي أن التي دعت إلى البنيان كانت كافرة أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: { غلبوا } بضم الغين وكسر اللام، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت تريد أن لا يبني عليهم شيء ولا يعرض لموضعهم. وروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت أن لا يطمس الكهف، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد قالت يكون { مسجداً } فكان. وعن ابن عمر أن الله عمى على الناس أمرهم وحجبهم عنه فذلك دعاء إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم.
وقال ابن أبي عبلة: " قَدَرَه أي قَدَرَه الله " انتهى. وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ، فيكونُ " قَدَرَه " فعلاً ماضياً، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من " مَتِّعوهن ". والمعنى: أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ.
أحدُها: أن تكون " ما " موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعل محذوف، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم، والتقدير: والله لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ، قال هذا القائل: لأنَّ لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف، ثم قال تعالى: " ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه سلم " قال: " وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ". قلت: " وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوزَ البتة، إذ يمتنع أن تقولَ في نظيرِه من الكلام: " واللهِ لزيداً " تريد: والله لتضرِبَنَّ زيداً.
الوجه الثاني: ـ وهو قول أبي عليّ وغيره ـ أن تكونَ اللامُ في " لَما " جوابَ قوله: { مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي لامُ الابتداء المُتَلَقَّى بها القسمُ، و " ما " مبتدأةٌ موصولة و " آتيناكم " صلتُها، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، فَحُذِفَ لاستكمال شروطه، و " من كتاب " حال: إمَّا من الموصول وإمَّا من عائده، وقوله: { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطفٌ على الصلة، وحينئذ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلة صلةٌ، واختلفوا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه محذوفٌ تقديره: " ثم جاءكم رسول به " فَحُذِف " به " لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلا بشروطٍ تقدَّمت، هي مفقودةٌ هنا، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفته، ومنهم مَنْ قال: الربطُ حصل هنا بالظاهر، لأن هذا الظاهر وهو قوله: " لِما معكم " صادقٌ على قوله: " لِما آتيناكم " فهو نظير: " أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف " ، وقال:
1348ـ فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ
يريدون: عنه ورأيته وفي رحمته، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }
[الكهف: 30] وهذا رأي أبي الحسن وتقدَّم فيه بحث. ومنهم مَنْ قال: إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في " مع " ، و " لتؤمِنُنَّ به " جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القسمُ المقدَّرُ وجوابهُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو " لَما آتيتكم " ، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعودُ على " رسول " ، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ/ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ.
الثالث: كما تقدم إلا أن اللام في " لما " لامُ التوطئة، لأنَّ أَخْذَ الميثاق في معنى الاستحلاف، وفي " لتؤمِنُنَّ به " لامٌ جوابِ القسم، هذا كلام الزمخشري ثم قال: " وما " تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و " لتؤمِنُنَّ " سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى " الذي ". وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنَّ لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط، وتأتي غالباً مع " إنْ " ، أما مع الموصول فلا، فلو جَوَّز في اللام أن تكون موطئةً وأن تكونَ للابتداء، ثم ذكر في " ما " الوجهين لحَمَلْنَا كلَّ واحد على ما يليق به.
الرابع: أن اللامَ هي الموطئة و " ما " بعدَها شرطيةٌ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو " آتيتكم " ، وهذا الفعلُ مستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشرط، ومَحلُّه الجزم والتقدير: والله لأَيَّ شيء آتيتُكم مِنْ كذا وكذا لتكونن كذا.
وقوله: { مِّن كِتَابٍ } كقوله:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ }
[البقرة: 106] وقد تقدَّم تقريرُه. وقوله: { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطفٌ على الفعلِ قبلَه فيلزُم أَنْ يكون فيه رابطٌ يربطُه بما عُطِف عليه. و " لتؤمِنُنَّ " جوابٌ لقوله: { أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } ، وجوابُ الشرط محذوفٌ سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضميرُ في " به " عائدٌ على " رسول " ، كذا قال الشيخ، وفيه نظر لأنه عَوْدُه على اسمِ الشرط، ويَسْتَغني حينئذ عن تقديره رابطاً، وهذا كما تقدَّم في الوجهِ الثاني، ونظيرهُ هذا من الكلام أن تقول: " أَحْلِفُ باللهِ لأَيَّهم رأيتُ ثم ذهب إليه رجلٌ قُرَشي لأُحْسِنَنَّ إليه " تريدُ إلى الرجل، وهذا الوجهُ هو مذهبُ الكسائي.
وقال سأل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ " ما " بمنزلة الذي، ودَخَلَتِ اللامُ على " ما " كما دخلت على " إنْ " حين قلت: واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ، فاللامُ التي في " ما " كهذه التي في إنْ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا " هذا نصٌّ الخليل. قال أبو علي: " لم يُرِد الخليل بقوله " إنها بمنزلة الذي " كونَها موصولةً بل أنها اسمٌ كما أن الذي اسم، وقرر أن تكونَ حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله:
{ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ }
[هود: 111]
{ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ }
[الزخرف: 35] وقال سيبويه: " ومثلُ ذلك:
{ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ }
[الأعراف: 18] إنما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين ".
وإلى كونِها شرطيةً ذهب جماعةٌ كالمازني والزجَّاج والزمخشري والفارسي، قال الشيخ: " وفيه حَدْسٌ لطيف، وحاصلُ ما ذكر أنهم إن أرادوا تفسيرَ المعنى فيمكن أن يُقال، وإنْ أرادوا تفسير الإِعراب فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ كلاً منهما ـ أعني الشرط والقسم ـ يطلُب جواباً على حِدة، ولا يمكن أن يكونَ هذا محمولاً عليهما؛ لأنَّ الشرطَ يقتضيه على جهة العملِ فيكونُ في موضع جزم، والقسمُ يطلبُه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإِعراب، ومُحالٌ أن يكونَ الشيء له موضعٌ من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب " قلت: تقدَّم هذا الإِشكالُ والجوابُ عنه.
الخامس: أنَّ أصلَها " لَمَّا " بتشديدِ الميم فخففت، وهذا قول ابن أبي إسحاق، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة.
أحدهما: ـ وهو أغربُها ـ أن تكونَ اللام بمعنى " بعد " كقوله النابعة:
1349ـ تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
يريد: فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم، ولا أدري ما حَمَله على ذلك؟ وكيف يَنْتظم هذا كلاماً، إذ يصير تقديرُه: وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين بعدَما آتيناكم، ومَنِ المخاطبُ بذلك؟
الثاني: أن اللامَ للتعليل، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة بـ " لتؤمِنُنَّ " ، و " ما " حينئذٍ مصدريةٌ، قال الزمخشري: " ومعناه لأجلِ إيتائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة، ثم لمجيء رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمِنُنَّ به، على أنَّ " ما " مصدريةٌ، والفعلان معها أعني: " آتيناكم " و " جاءكم " في معنى المصدرين، واللامُ داخلةٌ للتعليل، والمعنى: أخَذَ الله ميثاقَهم لتؤمِنُنَّ بالرسول ولتنصُرُنَّه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأنَّ الرسول الذي أمركم بالإِيمان ونصرتِه موافقٌ لكم غيرُ مخالِفٍ. قال الشيخ: " ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعلِ المُقْسَم عليه، فإنْ عَنَى هذا الظاهرَ فهو مُخالِفٌ لظاهر الآية، لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يقتضي أن يكونَ تعليلاً لأخْذِ الميثاق لا لمتعلَّقه وهو الإِيمان، فاللامُ متعلقةٌ بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقةً بقوله: لتؤمِنُنَّ به " ، ويمتنع ذلك من حيث إنَّ اللام المتلقَّى بها القسمُ لا يعمل ما بعدَها فيما قبلها، تقول: والله لأضربَنَّ زيداً، ولا يجوزُ: والله زيداً لأضربنَّ، فعلى هذا لا يجوزُ أن تتعلق اللام في " لِما " بقوله: " لتؤمِننَّ ". وقد أجاز بعضُ النحويين في معمول الجواب ـ إذا كان ظرفاً أو مجروراً ـ تقدُّمَه، وجَعَلَ من ذلك:
1350ـ......................... ...... عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ
وقولَه تعالى:
{ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ }
[المؤمنون: 40] فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: " لَتُؤْمِنُنَّ " وفي هذ المسألةِ تفصيلٌ يُذْكَرُ في علم النحو، قلت: أمَّا تعلُّق اللامِ بلتؤمِنُنَّ من حيث المعنى فإنَّه أظهرُ مِنْ تعلُّقِها بأخذ، وهو واضحٌ فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذَكَر مِنْ مَنْع تقديمِ معمولِ الجواب المقترنِ باللام عليه وقد عُرف، وقد يكون الزمخشري مِمَّن يرى جوازه.
والثالث: أن تتعلَّقَ اللام بأخذ أي: لأجل إيتائي إياكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: لرعاية ما أتيتكم.
الرابع: أن تتعلَّقَ بالميثاق لأنه مصدر، أي توثَّقْنا عليهم لذلك. هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام،
وأمَّا [ما] ففيها ثلاثةُ أوجه،
أحدُها: أَنْ تكونَ مصدرية وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري.
والثاني: أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و " ثم جاءكم " عطف على الصلة، والرابط لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ تقديره: " به " وهو رأيُ سيبويه، وإمَّا لقيامِ الظاهر مقامَ المضمرِ وهو رأيُ الأخفش، وإِمَّا ضميرُ الاستقرار الذي تضمَّنه " معكم " وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
والثالث: أنها نكرةٌ موصوفة، والجملةٌ بعدها صفتُها وعائدُها محذوف، و " ثم جاءكم " عطفٌ على الصفة، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة، إلا أنَّ إقامة الظاهر مُقام الضمير في الصفة ممتنع، لو قلت: " مررت برجلٍ قام أبو عبد الله " على أن يكون " قام أبو عبد الله " صفة لرجل، والرابطُ أبو عبد الله، إذ هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف.
وجوابُ قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ } قوله: { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } كما تقدم، والضمير فيه " به " عائدٌ على " رسول " ، ويجوز الفصلُ بين القسم والمقسم عليه بمثلِ هذا الجار والمجرور لو قلت " أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه " جاز.
وقوله: { مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ }: إمَّا حالٌ من الموصول أو من عائده، وإمَّا بيانٌ له فامتنع في قراءةِ حمزة أن تكونَ " ما " شرطيةً كما امتنع في قراءة الجمهورِ أن تكونَ مصدريةً.
وأمَّا قراءةُ سعيد والحسن ففيها أوجه،
أحدها: أَنَّ " لَمَّا " هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية. ثم القائلُ بظرفيتها اختلف تقديرُه في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجوابَ مقدرٌ من جنس جواب القسم فقال: " لَمَّا " بالتشديد بمعنى حين، أي: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق وَجَبَ عليكم الإِيمانُ به ونصرتُه ". وقال ابن عطية: " ويظهر أن " لمَّا " هذه الظرفيةُ أي: لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يُؤْخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة " فقدَّر ابن عطية جوابَها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهبا إليه مذهب مرجوح قال به الفارسي، والجمهور: سيبويه وأتباعُه على خلافه، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره. وقال الزجاج: " أي لَمَّا آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق، وتكون " لمَّا " تَؤُول إلى الجزاء كما تقول: لَمّا جِئْتني أكرمتُك " وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ " لَمّا " ظرفيةً ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابَها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير الزمخشري.
الثاني: أن " لَمَّا " حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابن عطية والزمخشري. وفي قول ابن عطية: " فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة " نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لَمَّا كانت " لَمَّا " تحتاجُ إلى جوابٍ أشبه ذلك العلةَ ومعلولَها، لأنك إذا قلت: " لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك " في قوةِ: أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة.
والثالث: أنَّ الأصلَ: لَمِنْ ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربُها، والإِدغامُ هنا واجب،/ ولما اجتمع ثلاثُ ميمات، ميمِ مِنْ، وميمِ " ما " والميمِ التي انقلبت من نون " من " لأجل الإِدغام فحصل ثقل في اللفظ.
قال الزمخشري: " فحذفوا إحداها ". قال الشيخ: " وفيه إبهامٌ " ، وقد عَيَّنها ابن عطية بأن المحذوفة هي الأولى، قلت: وفيه نظر، لأنَّ الثقلَ إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حَذْفُ الثواني نحو: " تَنَزَّل " و " تَذَكَّرون " ، وقد ذكر أبو البقاء أنّ المحذوفة هي الثانية، قال: " لضَعْفها بكونِها بدلاً وحصولِ التكرير بها ".
و " مِنْ " هذه التي في " لَمِنْ ما " زائدة في الواجب على رأي أبي الحسن الأخفش. وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظرٌ بالنسبة إلى ادعائه زيادة " مِنْ " فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غيرَ ظاهر.
الرابع: أنَّ الأصل أيضاً: لَمِنْ ما، فَفُعِل به ما تقدم من القلب والإِدغام ثم الحذفِ، إلا أن " مِنْ " ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ، قال الزمخشري: " ومعناه لمِنْ أجل ما أتيتكم لتؤمنُنَّ به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى " قلت: وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامته من ادِّعاء زيادة " مِنْ " ولوضوح معناه. قال الشيخ: " وهذا التوجيهُ في غاية البُعْد ويُنَزَّه كلامُ العرب أن يَأْتيَ فيه مثلُه فكيف في كتاب اللهِ عز وجل! وكان ابن جني كثيرَ التمحُّلِ في كلام العرب، ويلزم في " لَمّا " هذه على ما قرره الزمخشري أن تكونَ اللامُ في " لِمنْ ما آتيناكم " زائدةً، ولا تكونُ اللامَ الموطئة، لأنَّ الموطئةَ إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت: " أٌقسم بالله لمِنْ أجلك لأضربن زيداً " لم يَجُزْ، وإنما سُمِّيت موطئةً لأنها تُوَطِّىء ما يَصْلُح أن يكونَ جواباً للشرط للقسم، فيصيرُ جوابُ الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالةِ جواب القسم عليه " قلت: قد تقدَّم له هو أنَّ " ما " في هذه القراءة يجوز أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وأن اللام معها موطئةٌ للقسمِ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحدُ الأمرين لازمٌ له، وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذه هو الإِشكالُ على مَنْ جَعَلَ " ما " موصولةً وجَعَلَ اللامَ موطئةً.
أحدها: أنها مصدريةٌ والمعنى: بحِفْظِ الله إياهن أي: بتوفيقِه لهن أو بالوصية منه تعالى عليهن.
والثاني: أن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بالذي حفظه الله لهنَّ مِنْ مهورِ أزوجِهِنَّ والنفقة عليهن قاله الزجاج.
والثالثُ: أن تكونَ " ما " نكرة موصوفةً، والعائد محذوف أيضاً كما تقرر في الموصولة بمعنى الذي.
وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة، وفي " ما " ثلاثةُ أوجهً أيضاً،
أحدُها: أنها بمعنى الذي،
والثاني: نكرة موصوفة، وفي " حَفِظ " ضميرٌ يعود على " ما " أي: بما حَفِظ من البر والطاعة. ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه: بما حفظ دينَ الله أو أَمْرَ الله، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد.
والثالث: أن تكونَ " ما " مصدريةً، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس، كأنه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مفرداً بهذا الاعتبار، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا جوابه. وجعله ابن جني مثلَ قول الشاعر:
1578ـ...................... فإنَّ الحوادِثَ أودى بها
أي: أَوْدَيْنَ، وينبغي أن يقال: الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ، والحوادث أَوْدَت؛ لأنها يجوز أن يعود الضمير على جمع الإِناث كعوده على الواحدة منهن، تقول: " النساءُ قامت " ، إلا أنَّه شَذَّ حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث
وقرأ ابن محيصن ومجاهد: " ومُهَيْمَنا " بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير، والفاعل هو الله تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
[الحجر: 9] أو لحافظ له في كل بلد، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على قارئِها بالصواب، والضمير في " عليه " على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول، وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: " معناه: محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن
وقال ابن كثير
{ وَمُهَيْمِناً } أي: حاكماً على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمهاأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ماليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ }
[الحجر: 9] فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد، أنهم قالوا في قوله: { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضاً نظر، وبالجملة فالصحيح الأول
وله تعالى: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهورُ: " أَنَّ " مفتوحةَ الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها.
فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل " أنَّ " فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر،
فالرفعُ من وجه واحد وهو أن تكونَ مبتدأً والخبر محذوف. قال الزمخشري: " والخبر محذوف أي: فسقُكم ثابت معلومٌ عندكم، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أنَّ حبَّ الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا " فقدَّر الخبر مؤخراً. قال الشيخ: " ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ بـ " أَنَّ " على الأصحِّ إلا بعد " أمَا " انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتفر في الأمور التقديرية ما لايُغْتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى، والمرادُ إظهار ذلك الخبر كيف يُنْطَق به، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء بـ " أنَّ " مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.
وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه،
أحدها: أن يُعْطَفُ على " أن آمَنَّا " ، واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ أكثرهم، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين أيماننا وبين تَمَرُّدكم وخروجكم عن الإِيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفَتكم حيث دَخَلْنا في دين الإِسلام وأنتم خارجون منه ".
ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لَمَّا نقم اليهود عليهم الإِيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم، وهو مِمَّا يُنْقِم، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواج، يقول القائل: " هل تنقم مني إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر " فَيَحْسُن ذلك لإِتمامِ المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: " والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي: كرهتم مخالفتَنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك مُبْغَضٌ " وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض.
وقال ابن عطية: وأنَّ أكثركم فاسقون / هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله: { أَنْ آمَنَّا } فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه، وهذا لا يتِّجِهُ معناه " ثم قال بعد كلام: " وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تَنْقِمون منا إلا مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ: " هل تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتُ أنا وكَذَبْتَ أنت " وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا يَنْقِم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال " وهذا هو مجموعُ ما أجاب به الزمخشري والواحدي.
الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكونَ معطوفاً على " أن آمنَّا " أيضاً، ولكنْ في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى، تقديرُه: " واعتقادَ أن أكثركم فاسقون " وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار يِنقِمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون،
الثالث: أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون فِسْقَ أكثركم.
الرابع: أنه منصوبٌ على المعية، وتكونُ الواوُ بمعنى " مع " تقديرُه: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ مع أن أكثرَكم فاسقون. ذَكَر جميعَ هذه الأوجه أبو القاسم الزمخشري.
والخامس: أنه منصوبٌ عطفاً على " أنْ آمنَّا " و " أن آمنَّا " مفعولٌ من أجله فهو منصوب، فعَطَفَ هذا عليه، والأصلُ: " هل تَنْقِمون إلا لأجْلِ إيماننا، ولأجل أنَّ أكثرَهم فاسقون " ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر من " أن آمنَّا " بقي منصوباً على أحدِ الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصبُ ممتنعٌ من حيث إنه فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعلِ، والفاعلُ هنا مختلفٌ، فإنّ فاعل الانتقام غير فاعل الإِيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ " أن آمنَّا " جراً ليس إلا، بعد حذفِ حرفِ الجر، ولا يَجْري فيه الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محلِّ " أنْ " إذا حُذِف منها حرفُ الجر، لعدمِ اتحاد الفاعل. وأُجيب عن ذلك بأنَّا وإن اشترطنا اتحادَ الفاعلِ فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصبِ في " أَنْ " و " أَنَّ " إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حَذْفِ حرفِ الجر لا لكونِهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصُهما من يحث هما بجواز حذف حرف الجر لطولِهما بالصلةِ، وفي هذه المسألةِ بخصوصِها خلافٌ مذكور في بابِه، ويدلُّ على ذلك ما نقلَه الواحدي عن صاحبِ " النظم " فإن صاحب " النظم " ذَكَر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَكم، أي: إنما كرهتم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّا على حقٍّ لأنكم فسقتم بأنْ أقمتم على دينِكم، وهذا معنى قولِ الحسن، فعلى هذا يجب أن يكونَ موضعُ " أَنَّ " في قوله: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ } نصباً بإضمار اللام على تأويل " ولأنَّ أكثرَكم " والواوُ زائدةٌ، فقد صَرَّح صاحبُ " النظم " بما ذكرته.
لوجه السادس: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون، والواوُ زائدةٌ كما تقدَّم تقريرُه. وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ليُفْهَم معناه، قال الشيخ بعد ذِكْرِ ما نَقَلْتُه من الأوجه المتقدمةِ عن الزمخشري: " ويظهرُ وجهٌ ثامن ولعله يكون الأرجحَ، وذلك، أن " نَقَم " أصلُه أن يتعدَّى بـ " على " تقول: " نَقَمت عليه " ثم تبني منه افْتَعَل إذ ذاك بـ " من " ويُضَمَّن معنى الإِصابة بالمكروه، قال تعالى:
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }
[المائدة: 95]، ومناسَبَ التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخصٍ فِعْلَه فهو كارهٌ له، ومصيبُه عليه بالمكروه، فجاءت هنا فَعَل بمعنى افْتَعَل كقَدَرَ واقتدر، ولذلك عُدِّيت بـ " مِنْ " دون " على " التي أصلُها أن تتعدَّى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا وما تصيبوننا بما نَكْرَهُ إلا أن آمنا، أي: إلاَّ لأنْ آمنَّا " فيكون " ان آمنَّا " مفعولاً من أجله، ويكون " وأنَّ أكثركم فاسقون " معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سببُ تعديتِه بـ " مِنْ " دون " على " انتهى ما قاله، ولم يُصَرِّحْ بكونِه حينئذ في محلِّ نصبٍ أو جر، إلاَّ أنَّ ظاهر حالِه أن يُعْتَقَد كونُه في محلِّ جرِّ، فإنه إنما ذُكِر أوجه الجر.
وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ،
أحدُها: أنه عطفٌ على المؤمَنِ به، قال الزمخشري: " أي: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ بالله وبما أُنْزِل، وبأن أكثركم فاسقون " وهذا معنى واضح، قال ابن عطية: " وهذا مستقيمُ المعنى، لأنَّ إيمانَ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتابِ المستمرين على الكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فَسَقه هو مما ينقمونه "
الثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ تقديرها: ما تَنْقِمون منا إلا الإِيمان لقلة إنصافِكم وفسقِكم وإتباعِكم شهواتِكم، ويدلُّ عليه تفسيرُ الحسن البصري " بقسقِكم نَقَمتم علينا " ويُروى " لفسقهم نَقَموا علينا الإِيمان "
الثالث: أنه في محلِّ جرِّ عطفاً على محل " أنْ آمنَّا " إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقَدْنا أنَّ " أنَّ " في محل جر بعد حذف الحرف، وقد تقدَّم ما في ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قولِه تعالى: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أحدَ عشرَ وجهاً، وجهان في حال الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر: هل يٌقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً، وقد تقدَّم ما فيه، وستةُ أوجه في النصب، وثلاثةٌ في الجر.
وأمَّا قراءةُ ابن ميسرة فوجهها أنها على الاستئنافِ، أخبر أنَّ أكثرَهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفِها على معمول القول، أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: هل تنقِمون إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة جَلِيَّةٌ واضحة
واختلف القراء في قوله { ليستبين } فقرأ نافع { لتستبين } بالتاء { وسبيل } بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم { ليستبين } بالياء { مّن سَبِيلٍ } بالرفع والباقون بالتاء { وسبيل } بالرفع على تأنيث سبيل. وأهل الحجاز يؤنثون السبيل، وبنو تميم يذكرونه. وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه
{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }
[الأعراف: 146] وقال
{ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا }
[إبراهيم: 3].
فإن قيل: لم قال { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } ولم يذكر سبيل المؤمنين.
قلنا: ذكر أحد القسمين يدل على الثاني. كقوله
{ سَرَابِيلَ تقيكم ٱلْحَرَّ }
[النحل: 81] ولم يذكر البرد. وأيضاً فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة، فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما، فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضاً لا محالة.
وقال ابن كثير فى تفسيره:
{ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقرىء: (وليستبينَ سبيلَ المجرمين) أي: ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل
والجمهور على التشديد في " يُفْرِّطون " ومعناه لا يُقَصِّرون.
وقرأ عمرو بن عبيد والأعرج: " يُفْرِطون " مخففاً من أفرط، وفيها تأويلان
أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به. قال الزمخشري: " فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدِّ،و الإِفراط: مجاوزة الحدِّ أي: لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون "
والثاني: أن معناه لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم. وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال: " معنى لا يُفْرِطون: لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي: يَسْبقهم ويفوتهم " وقال أبو البقاء: " ويُقرأ بالتخفيف أي: لا يزيدون على ما أُمِروا به " وهو قريب مِمَّا تقدم.
وأمَّا القراءات التي في " دَرَسَتْ " فثلاث في المتواتر:
فقرأ ابن عامر " دَرَسَتْ " بزنة ضَرَبَتْ،
وابن كثير وأبو عمرو " دارَسْتَ " بزنة قابلْتَ أنت،
والباقون " درسْتَ " بزنة ضربْت أنت.
فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين.
وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها، كما حَكى عنهم فقال:
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ }
[النحل: 103] وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً.
وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة:
فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة " دُرِسَتْ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: " يُحتمل أن يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ ". وقال أبو القاسم: " بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ ". قال الشيخ: " أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ، وأمَّا " دَرَس " بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً ". قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا.
وقرئ " دَرَّسْتَ " فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: دَرَّسك غيرُك الكتبَ، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ " دُوْرِسْتَ " مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً، والمعنى: دارَسَكَ غيرك.
وقرئ " دارسَتْ " بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها.
وقرئ " دَرُسَتْ " بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها. وقرأ أُبَيّ/ " دَرَسَ " وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس.
وقرأ الحسن في رواية " دَرَسْنَ " فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ " دَرَّسْنَ " الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم. وقرئ " دارسات " جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دُروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي: هنَّ دارسات، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها.
وقرأ الأخوان: { فَارَقُوا }: من المفارقة وفيها وجهان أحدهما: أن فاعَلَ بمعنى فَعَّل نحو: ضاعَفْتُ الحساب وضعَّفْتُه. وقيل: هي من المفارقة، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق الدين القيم. وقرأ الباقون فرَّقوا بالتشديد. وقرأ الأعمش وأبو صالح وإبراهيم فَرَقوا مخفف الراء. قال أبو البقاء: " وهو بمعنى المشدد، ويجوز أن يكون بمعنى فَصَلُوه عن الدين الحق " وقد تقدم معنى الشيع