لا يخفی علي طلاب العلم إن القراءات منها ماهو لايؤثر علي المعنی والتفسير وهذا كثير
وهناك قراءات تؤثر علي المعنی والتفسير ومنذ سنوات أبحث عن القراءات التی لها أثر علي التفسير فی كتاب الله وأجمعها
وسوف نذكر هنا القراءات التی لها أثر علي المعنی فقط ولن نذكر القراءات التی ليس لها اثر علي التفسير
الجوهرة الاولي
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }
قال ابن الجوزی فی زاد المسير
قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: «سال» بغير همز. والباقون بالهمز. فمن قرأ «سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال.
أحدها: دَعَا دَاعٍ على نفسه بعذابٍ واقعٍ.
والثاني: سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء، فتكون الباء بمعنى «عن» وأنشدوا:
فَإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ فَإنَّنِي خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّساءِ طَبِيبُ
والثالث: سأل سائل عذاباً واقعاً، والباء زائدة.
ومن قرأ بلا همز ففيه قولان.
أحدهما: أنه من السؤال أيضاً، وإنما لَيَّن الهمزة، يقال سأل، وسال، وأنشد الفراء:
تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ تَابِع
والثاني: المعنى سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، وكان ابن عباس في آخرين يقرؤون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين، وسكون الياء من غير ألف ولا همز. وإذا قلنا إنه من السؤال فقوله تعالى: «للكافرين» جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل: للكافرين. والواقع: الكائن. والمعنى: أن العذاب للذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة { للكافرين ليس له دافع من الله } قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين.
وقال السمين فی دره المصون
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ،
أحدها: أنها بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ. والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم
. الثاني: أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال الزمخشري: " وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما يتسايلان ". قال الشيخ: " وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله: " إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ " وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه " [النساء: 32] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ " سال " التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك " وسَالوا اللهَ " مثلَ " خافوا " ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ " وهما يتسايَلان " بالياء، وهو وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ: " هما يتساولان
". الثالث: أنَّها مِنْ السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس " سالَ سَيْلٌ ". قال الزمخشريُّ: " والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر. والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ " انتهى. والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً ...
قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي { بَيْنكُمْ } بالنصب، والباقون بالرفع قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه، لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز والمعنى: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. قال أبو علي: هذا الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون اسماً منصرفاً كالافتراق، والأجود أن يكون ظرفاً والمرفوع في قراءة من قرأ { بَيْنكُمْ } هو الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسماً، والدليل على جواز كونه اسماً قوله تعالى:
{ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }
[فصلت: 5] و
{ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ }
[الكهف: 78] فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو { تُقَطَّعَ } في قول من رفع.....
فإن قيل: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين؟
قلنا: هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه، كقولهم بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم، فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله: { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } معناه لقد تقطع وصلكم.
أما من قرأ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل والتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم وقال سيبويه: إنهم قالوا إذا كان غداً فأتني والتقدير: إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني، فأضمر لدلالة الحال. فكذا ههنا. وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم. فحذفت لوضوح معناها.
قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل «لا يعذَّب» بفتح الذال، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة.
وقال القرطبي
وقرأ الكسائي «لا يُعَذَّب» «ولا يُوثَق» بفتح الذال والثاء؛ أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يَوْمَئذ، ولا يوثَق كما يوثَق الكافر. والمراد إبليس؛ لأن الدليل قام على أنه أشدّ الناس عذاباً، لأجل إجرامه؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية بن خلف؛ حكاه الفرّاء. يعني أنه لا يعذَّب كعذاب هذا الكافر المعيَّن أحد، ولا يوثَق بالسلاسل والأغلال كوَثاقه أحد؛ لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذَّب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الإيثاق. ومنه قول الشاعر:
وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةً الرِّتاعا
وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر؛ لأن ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. وقد روى أبو قِلابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروى أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال أبو عليّ: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة؛ أي لا يعذِّب أحدٌ أحداً مثل تعذيب هذا الكافر؛ فتكون الهاء للكافر. والمراد بـ«ـأحد» الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار....
وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قُسَيْط المكي ويعقوب من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسولِ الله وفاطمة وعائشة بفتح الفاء، أي: مِنْ أَشْرَفِكم، من النَّفاسة.
أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا....
والوجه الثاني: أنَّ " أَمَرْنا " بمعنى كَثَّرْنا، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال: " وفسَّرَ بعضُهم " أَمَرْنا " بـ " كَثَّرْنا " ، وجَعَلَه من بابِ: فَعَّلْتُه فَفَعَلَ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر. وفي الحديثِ: " خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة " ، أي: كثيرةُ النِّتاج ". قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ، يقال: أَمِر القومُ، وأَمَرهم اللهُ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة، وقال أبو علي: " الجيِّد في " أَمَرْنا " أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا "......
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: " أمَّرْنا " بالتشديد. وفيه وجهان،
. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك " أُمِّر ". قال الفارسيُّ، " لا وجهَ لكون " أَمَّرْنا " / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة ". وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم.
قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجُم به على الجنة. الحسن: «عليّ» بمعنى إليّ. مجاهد والكسائيّ: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تُهدّده: طريقك عليّ ومصيرك إليّ. وكقوله:
{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }
[الفجر: 14]. فكان معنى الكلام: هذا طريقٌ مرجعه إليّ فأجازي كُلاًّ بعمله، يعني طريق العبودية. وقيل: المعنى عليّ أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان. وقيل: بالتوفيق والهداية.
وقرأ ٱبن سِيرين وقتادة والحسن وقيس بن عُبَاد وأبو رجاء وحُميد ويعقوب «هذا صِراط عليٌّ مستقيم» برفع «عليّ» وتنوينه؛ ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق. وقيل: رفيع أن يُنال، مستقيم أن يمال.
قوله: { بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر: " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطَبَتْ بذلك نفسها تَسَلِّياً لها، واعتذاراً لله تعالى حيث أتَتْ بمولود لا يَصْلُح لمِا نَذَرَتْه من سِدانة بيتِ المقدس. قال الزمخشري ـ وقد ذكر هذه القراءة: " تعني ولَعلَّ لله تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلَّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر تسليةً لنفسها ". وفي قولهِا { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، إذ لو جَرَتْ على مقتضى قولِها: " ربِّ " لقالت: " وأنت أعلم ".
وقرأ الباقون: " وضَعَتْ " بتاءُ التأنثي الساكنة على إسناد الفعل لضميرِ مريم عليها السلام، وهو من كلامِ الباري تبارك وتعالى، وفيه تنبيهٌ على عِظَمِ قَدْر هذا المولودِ، وأنَّ له شأْناً لم تعرفيه، ولم تَعْرفي إلا كونه أنثى لا غير، دونَ ما يَؤُول إليه من أمورٍ عظامٍ وآياتٍ واضحةٍ، قال الزمخشري: " ولتكلُّمِها بذلك على وجه التَحزُّنِ والتحسُّرِ قال الله تعالى: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعِها وتجهيلاً لها بقدْر ما وَهَبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعَتْ وما عَلِق من عظائم الأمور، وأَنْ يجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تَحَسَّرت
وقد رجَّح بعضُهم القراءةَ الثانية على الأولى بقوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ } قال: " لو كان من كلامِ أم مريم لكانَ التركيبُ: وأنت أعلمُ " وقد تقدَّم جوابُ هذا وأنه التفات.
وقرأ ابنُ عباس: " وضَعْتِ " بكسر التاء على أنها تاءُ المخاطبة، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى: أنك لا تعلمين قَدْر هذه المولودة، ولا قَدْر ما عَلِمه الله فيها من عظائم الأمور.
وقرأ الأخَوان " تَتْلو " بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله:
2594 ـ إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالىٰ:
{ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا }
[الكهف: 49]، وقوله:
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كِتَٰبَك }
[الإسراء: 13].
وقرأ الباقون: " تَبْلو " مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ " نبلو " بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و " كل " منصوب على المفعول به. وقوله: " وما أَسْلَفَتْ " على هذه القراءةِ يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله:
2595 ـ تمرُّون الديار ولم تعوجوا كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من " كل نفس " ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون " نَبْلو " من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ.
وقال ابن كثير
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ } أي: في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس، وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر؛ كقوله تعالى:
{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ }.....
وقد قرأ بعضهم: (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت) وفسرها بعضهم بالقراءة، وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر، وفسرها بعضهم بحديث: " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث
وقرأ ابنُ كثير بنصْبِ " آدم " ورفعِ " كلمات " ، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ. وقيل: لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً. ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً [لأنه غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً] مجازياً.
وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرؤونها: ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم «إلى أن تقطع» على الغاية أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا. واختلف القراء في قوله «تَقَطّع» فالجمهور «تُقَطَّعَ» بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول. وقرأ ٱبن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء. وروي عن يعقوب وأبي عبد الرحمن «تُقْطَع» على الفعل المجهول مخفف القاف. وروي عن شبْل وٱبن كثير «تَقْطع» خفيفة القاف «قُلُوبهم» نصباً، أي أنت تفعل ذلك بهم.
وقال السمين فی دره
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص " تَقَطَّع " بفتح التاء، والأصل: تتقطع بتاءَيْن فحُذفت إحداهما. وقرأ الباقون " تُقَطَّع " بضمِّها، وهو مبني للمفعول مضارع قَطَّع بالتشديد. وقرأ أُبَيّ " تَقْطَع " مخففاً مِنْ قطع. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب " إلى أن " بإلى الجارة وأبو حَيْوة كذلك. وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلا أن أبا حيوة قرأ " تُقَطِّع " بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً، والفاعلُ ضميرُ الرسول. " قلوبَهم " نصباً على المفعول، والمعنى بذلك أن يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير الرِّيبة، أي: إلى أن تَقْطَع الرِّيبةُ قلوبَهم. وفي مصحف عبد الله " ولو قُطِّعَتْ " وبها قرأ أصحابُه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس.
وقال ابن الجوزی فی زاد المسير
قوله تعالى: { إلا أن تقطَّع قلوبهم } قرأ الأكثرون: «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُقَطَّع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «تَقَطَّع» بفتح التاء. ثم في المعنى. قولان:
أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين.
والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، ذكره الزجاج.
وقرأ ابنُ عباس ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن والضحّاك وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في روايةٍ، { مِّن كُلِّ } منونةً. وفي " ما " على هذه القراءة وجهان، أحدُهما: أنها نافية، وبه بدأ الزمخشري فقال: " وما سأَلْتُموه نفيٌ، ومحلُّه النصبُ على الحال، أي: آتاكم من جميعِ ذلك غيرَ سائِلية ". قلت: ويكون المفعولُ الثاني هو الجارِّ مِنْ قوله " مِنْ كُلٍ " ، كقوله:
{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ }
[النمل: 23].
والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، هي المفعول الثاني لآتاكم. وهذا التخريجُ الثاني أَوْلَى، لأنَّ في الأول منافاةً في الظاهر لقراءةِ العامَّة. قال الشيخ: " ولما أحسَّ الزمخشريُّ بظهورِ التنافي بين هذه القراءةِ وبين تلك قال: " ويجوز أن تكونَ " ما " موصولةً على: وآتاكم مِنْ كُلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلُحْ أحوالُكُم ولا معائِشُكم إلا به، فكأنكم طلبتموه أو سألتموه بلسانِ الحال، فتأوَّل " سَأَلْتموه " بمعنى ما احتجتم إليه ".
وقرأ الجمهورُ: " مُوَلِّيها " على اسمُ فاعل، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو " ها " العائدُ على الوجهة، وقيل: على التوليةِ ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ " هو " إلى الفريق، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى، .......
قوله تعالى: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }.. مبتدأٌ وخبر، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه، وقرأ الجمهورُ: " غُلْفٌ " بسكون اللام، وفيها وجهان، أحدهما ـ وهو الأظهرُ ـ: أن يكونَ جمع " أَغْلَف " كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر، والمعنى على هذا: أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ. والثاني: أن يكونَ جمعَ " غِلاف " ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو: حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية: " لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ " ، وليس كذلك، بل هو قليل، وقد نصّ غيرُه على جوازه،
وقرأ ابن عباس ـ ويُروى عن أبي عمرو ـ بضمِّ اللامِ وهو جمع " غِلاف " ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ " أَغْلف " لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى.
وقرأ يعقوب: ننجيك مخففاً مضارع أنجى. وقرأ أبيّ، وابن السميقع، ويزيد البربري: ننحيك بالحاء المهملة من التنحية. ورويت عن ابن مسعود أي: نلقيك بناحية مما يلي البحر
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء، وهو الجبل. قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقوى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى.
والجمهور على " تُصْعدون " بضم التاء وكسر العين من أصْعد في الأرض إذا ذهب فيها، والهمزة فيه للدخول نحو: " أصْبح زيدٌ " أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تَدْخُلون في الصُّعود، ويبيِّن ذلك قراءةُ أُبيّ: " تُصْعِدون في الوادي
". والحسن والسلمي: " تَصْعَدون " من صَعِد في الجبل أي رَقِي، والجمع بين القراءتين: أنهم أولاً أَصْعَدوا في الوادي، ثم لَمَّا حَزَبهم العدوُّ صَعِدوا في الجبل، وهذا على رأي مَنْ يفرِّقُ بين: أَصْعَدَ وصَعِد. وأبو حيوة: " تَصَعَّدُون " بالتشديد، وأصلها: تَتصَعَّدون، فحُذفت إحدى التاءين: إمَّا تاءُ المضارعة أو تاء تَفَعَّل، والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم. والجمهور " تُصْعِدون " بتاء الخطاب، وابن محيصن ـ ويروى عن ابن كثير ـ بياء الغَيْبة على الالتفات وهو حسن، ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين أي: والله ذو فضل على المؤمنين إذ يُصْعِدون، فالعامل في إذ: " فَضْل ".
يقال: أصعد: أبعد في الذهاب، قال القتبي: " كأنه أبعد كإبعاد الارتفاع " قال الشاعر:
1466ـ ألا أيُّهذا السائلي أينَ أَصْعَدَتْ فإنَّ لَها في أهل يَثْربَ مَوْعدا
وقال آخر:
1467ـ قد كُنْتِ تبكين على الإِصعادِ فاليومَ سُرِّحْتِ وصاح الحادي
وقال الفراء وأبو حاتم: " الإِصعادُ: ابتداء السفر والمخرج، والصعود مصدر صَعِد [إذا] رَقِي من سُفْل إلى علوّ " ففرَّقوا هؤلاء بين صَعِد وأَصْعد. وقال المفضل: " صَعِد وصَعَّد وأَصْعد بمعنى واحد، والصعيدُ وجهُ الأرض ".
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي: قرأ قتادة: فاقتالوا أنفسكم. فأما فأقيلوا، فهو أمر من الإقالة، وكأنّ المعنى: أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات
وقراءة الجماعة «يَعْدُون». وقرأ أبو نَهِيك «يُعِدّون» بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأُولى من الاعتداء والثانية من الإعداد؛ أي يهيئون الآلة لأخذها.انتهى يقصد اخذ الحيتان
وقرأ الجمهور «يُسْرِف» بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تسرف» بالتاء من فوق، وهي قراءة حُذيفة. وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأوّل، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبريّ: هو على معنى الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل
قوله: { كُذِبُواْ } قرأ الكوفيون " كُذِبوا " بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت: " معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها " وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة.
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه،
أجودُها: أن الضميرَ في " وظنُّوا " عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله:
{ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }
[يوسف: 109]، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في " أنهم " و " كُذِبوا " عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.
الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه " حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنىٰ: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتىٰ استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا " انتهىٰ/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن.
الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشىٰ الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك
قال الزمخشري: " إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟ " قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.
وقال الفارسي أيضا: " إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنىٰ: ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته ". وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: " معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى:
{ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ }
[البقرة: 214].
الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم " فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: " لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً ".
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: " أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك ". قلت: وبهذا يَتَّحد معنىٰ القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم.
وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد " كَذَبوا " بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير علىٰ هذه القراءة في " ظنُّوا " عائد على الأمم وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في " ظنُّوا " على الرسل وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } على المُرْسَل [إليهم]، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: ـ بعد ما حكىٰ قراءة المبني للفاعل ـ " ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم " فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: " وقرأ مجاهد " كَذَبوا " بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا ".
وقُرئَ: { يُضِلُّ به كثيرٌ ويُهْدىٰ به كثيرٌ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون } بالبناء للمفعول، وقُرئَ أيضاً: { يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِه إلا الفاسقون } بالبناء للفاعل، قال بعضهم: " وهي قراءة القَدَرِيَّة " قلت: نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة، ثم قال: " وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين " يعني قارئها، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف
قراءة محمد بن السَّمَيْقَع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بيّنة.
وقرأ أبَيّ وابن مسعود «إذ تتلقّونه» من التّلَقّي، بتاءين.
وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضاً من التلقي.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كَثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قَلِقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ «فلا تناجَوْا. ولا تنابزوا» لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرفَ لِين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال.
وقرأ ابن يَعْمَر وعائشة رضي الله عنهما ـ وهم أعلم الناس بهذا الأمر ـ «إذ تَلِقُونه» بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب: وَلَق الرجل يَلِق وَلْقاً إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدّي شاهداً على غير المتعدّي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الوَلْق الإسراع؛ يقال: جاءت الإبل تَلِق؛ أي تسرع. قال:لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق جاؤوا بأسراب من الشأم وَلِقْ
إن الحُصَيْن زَلِق وزُمَّلِق جاءت به عَنْس من الشأمِ تَلِقْ
يقال: رجل زَلِق وزُمَلِق؛ مثال هُدَبِد، وزُمَالِق وزُمّلِق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز:إنّ الـحُـصـيـن زَلِـق وزُمَّـلِـق
والوَلْق أيضاً أخفّ الطعن. وقد وَلَقه يَلِقه وَلْقاً. يقال: وَلَقه بالسيف وَلَقات، أي ضربات؛ فهو مشترك.انتهى
قوله: { دُرِّيٌّ } ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً " دَرِّيْء " بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولىٰ فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو " سِكِّين " وفي الصفاتِ نحوِ " سِكِّير ".
وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: " وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح: " وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين ". قلت: وقد حكى الأخفشُ: " فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار " و " كوكَبٌ دَرِّيْءٌ " مِنْ " دَرَاْتُه ".
قولِه: { يُوقَدُ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو " تَوَقَّدَ " بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على " كوكب " لفسادِ المعنىٰ. والأخوان وأبو بكر " تُوْقَدُ " بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على " زجاجة " فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.
والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع " تَوَقَّدَ " ، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما كـ " تَذَكَّرُ ". والضميرُ أيضاً للزُّجاجة......
{ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ } أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه. قاله ابن عباس وغيره؛ قال الشاعر:وكلُّ يوم مَضَى أو ليلةٍ سلَفَتْ فيها النفوسُ إلى الآجال تَزْدَلِفُ
أبو عبيدة: { أَزْلَفْنَا } جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جَمْع. وقرأ أبو عبد الله بن الحارث وأبيّ بن كعب وابن عباس: { وَأَزْلَقَنَا } بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله: أزلقت الناقةُ وأزلقت الفرسُ فهي مُزْلِق إذا أزلقت ولدها
وقال الامام السمين الحلبى فى الدر المصون
{ وَأَزْلَفْنَا }: أي: قَرَّبْنا مِنَ النجاةِ. و " ثَمَّ " ظرفُ مكانٍ بعيدٍ. و " الآخرين " هم موسىٰ وأصحابُه، وقرأ الحسن وأبو حيوة " وزَلَفْنا " ثلاثياً، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف أي: أَزْلَلْنا. والمرادُ بالآخَرين في هذه القراءة فرعونُ وقومُه
والظاهر أن قوله: { تكلمهم } ، بالتشديد، وهي قراءة الجمهور، من الكلام؛ ويؤيده قراءة أبيّ: تنبئهم، وفي بعض القراءات: تحدثهم، وهي قراءة يحيـى بن سلام؛ وقراءة عبد الله: بأن الناس. قال السدي: تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإسلام. وقيل: تخاطبهم، فتقول للمؤمن: هذا مؤمن، وللكافر: هذا كافر. وقيل معنى تكلمهم: تجرحهم من الكلم، والتشديد للتكثير؛ ويؤيده قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وأبي زرعة، والجحدري، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة: تكلمهم، بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام، وقراءة من قرأ: تجرحهم مكان تكلمهم. وسأل أبو الحوراء ابن عباس: تكلم أو تكلم؟ فقال: كل ذلك تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر. انتهى. وروي: أنها تسم الكافر في جبهته وتربده، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه.
القراءة الأولى: قرأ ابن كثير: بالنون، وبكسر عين نرتع من الارتعاء، ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته، وقوله: { نرتع } الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم، لأن المعنى نرتع إبلنا، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.
القراءة الثانية: قرأ نافع: كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.
القراءة الثالثة: قرأ أبو عمرو وابن عامر { نرتع } بالنون وجزم العين ومثله نلعب. قال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشره، وقيل: إنه الخصب، وقيل: المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان، وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك " وأيضاً كان لعبهم الاستباق، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم: إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
القراءة الرابعة: قرأ أهل الكوفة: كليهما بالياء وسكون العين، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.
القراءة الخامسة: { غَداً يَرْتَعْ } بالياء { وَنَلْعَبُ } بالنون وهذا بعيد، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب، والله أعلم.
قرأ نافع { حَتَّىٰ يَقُولَ } برفع اللام والباقون بالنصب، ووجهه أن { حَتَّىٰ } إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما: أن تكون بمعنى: إلى، وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل { حَتَّىٰ } والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا، تقول: سرت حتى أدخلها، أي إلى أن أدخلها، فالسير والدخول قد وجدا مضياً، وعليه النصب في هذه الآية، لأن التقدير: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، والزلزلة والقول قد وجدا
والثاني: أن تكون بمعنى: كي، كقوله: أطعت الله حتى أدخل الجنة، أي كي أدخل الجنة، والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد، ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه،
وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد { حَتَّىٰ } لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت، كما حكيت الحال في قوله:
{ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ }
[القصص: 15] وفي قوله:
{ وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ }
[الكهف: 18] لأن هذا لا يصح إلا على سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام، ويقال: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة، والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال: يجيء البعير يجر بطنه، ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب، كقولك: سرت حتى أدخل البلد. فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا، ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد، فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع، واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها، وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى.
وقال الامام السمين الحلبى فى الدر المصون
قوله: { حَتَّىٰ يَقُولَ } قرأ الجمهورُ: " يقولُ " نصباً، وله وجهان، أحدُهما: أنَّ " حتى " بمعنى " إلى " ، أي: إلى أن يقولَ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ، و " حتى " إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ، وهذا قد وقع ومَضَى. فالجوابُ: أنه على حكايةِ الحالِ، حكى تلك الحالَ. والثاني: أنَّ " حتى " بمعنى " كي " ، فتفيدُ العِلَّةَ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال: " ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا: فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ " و " أَنْ " بعد " حتى " مضمرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد " حتى " ولا غيرِها، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا.
واعلم أنَّ " حتى " إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو: " مَرِض حتى لا يَرْجونه " أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نُصِبَ، تقول: سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتُك له: إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ: حكايةُ حالٍ، وفي قراءةِ نافع أيضاً: حكايةُ حالٍ. وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع. قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور: " والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ " وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ " حتى " للتعليلِ.
لا حظ اخى الحبيب حطة مر فوعة فى قراءة الجمهور لابد من مقدر محذوف
قال الامام ابو حيان فى البحر المحيط
{ وقولوا حطة } ، حطة: مفرد، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديراً لحسن بن أبي الحسن
وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقال غيرهما: التقدير أمرك حطة. وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها.
قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:صبـر جميـل فكـلانـا مبتلـي
والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن.
ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:صبـراً جميـلاً فكـلانـا مبتلـي
بالنصب.
والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر .
روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة.
قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى.
وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاً إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام.
أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى:
{ يقال له إبراهيم }
[الأنبياء: 60] إلى تأويل....
قوله: { حَاذِرُونَ }: قرأ الكوفيون وابن ذكوان " حاذِرُون " بالألفِ، والباقون " حَذِرُوْن " بدونهِا، فقال أبو عبيدة: " هما بمعنىً واحد يُقال: رجلٌ حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذِرٌ بمعنىً "
وقيل: بل بينهما فرقٌ. فالحَذِرُ: المُتَيَقِّظُ. والحاذِرُ: الخائفُ. وقيل: الحَذِر: المخلوقُ مَجْبُولاً على الحَذَرِ. والحاذِرُ: ما عُرِض في ذلك، وقيل: الحَذِرُ: المُتَسَلِّح أي: له شوكةُ سلاحٍ. وأنشد سيبويهِ في إعمال حَذِر على أنه مثالُ مبالغةٍ مُحَوَّلٌ مِنْ حاذر قولَه:3514ـ حَذِرٌ أموراً لا تَضِيْرُ وآمِنٌ ما ليسَ مُنْجِيَه من الأَقْدارِ
وقد زعم بعضُهم أنَّ سيبويهِ لمَّا سأله: هل تحفظُ شيئاً في إعمالَ فَعِل؟ صنع له هذا البيتَ. فعيب على سيبويه: كيف يأخذُ الشواهدَ الموضوعةَ؟ وهذا غَلَطٌ؛ فإن هذا الشخصَ قد أقرَّ على نفسِه بالكذبِ فلا يُقْدَحُ قولُه في سيبويهِ. والذي ادَّعَىٰ أنَّه صنعَ البيتَ هو اللاحقيُّ. وحَذِر يتعدَّى بنفسه، قال تعالى:
{ يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ }
[الزمر: 9]، وقال العباس بن مرادس:3515ـ وإني حاذِرٌ أَنْمِيْ سِلاحي إلى أوصالِ ذَيَّالٍ مَنيعِ
وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عمار " حاذِرُوْن " بالدال المهملة من قولهم: " عَيْنٌ حَدْرَة " أي: عظيمة، كقوله:3516ـ وعَيْنٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ......................
والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادِرُ: القويُّ الممتلىء. وحُكي: رجلٌ حادِرٌ أي: ممتلِىءٌ غَيْظاً، ورجلٌ حادِرٌ أي: أحمقُ كأنه ممتلىءٌ مِنْ الحَمَقِ، قال:3517ـ أُحِبُّ الغلامَ السَّوْءَ من أجلِ أُمِّه وأُبْغِضُهُ من بُغْضِها وهو حادِرُ
ويقال: أيضاً: رجلٌ حَذُر، بزنة " يَقُظ " مبالغةً في حاذِر، من هذا المعنى قلت: فقد صار يُقال: حَذِرَ وحَذُر وحاذر بالدال المعجمة والمهملة، والمعنى مختلف.
وقال الامام الرازى فى تفسيره
{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ } وفيه ثلاث قراءات (حذرون) و(حاذرون) و(حادرون) بالدال غير المعجمة.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث، وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت، فمن قرأ { حَـٰذِرُونَ } ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم، ومن قرأ { حَـٰذِرُونَ } فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا.
وأما من قرأ { حادرون } بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلاً، لأن الحادر هو المشمر، فأراد إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد إنا مدججون في السلاح، والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم.
والعامَّةُ " فَرَقْناه " بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل.
وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أي: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ. والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشري: " وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ " فَرَقَ " بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ ".
وقال ابن الجوزى الحنبلى فى زاد المسير
قوله تعالى: { وقرآنا فَرَقناه } قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: «فرَّقناه» بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتخفيف.
فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال.
أحدها: بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، [قاله الحسن].
والثالث: أحكمناه وفصَّلناه، كقوله تعالى:
{ فيها يُفرَق كُلُّ أمر حكيم }
[الدخان: 4]، قاله الفراء.
وأما المشددة، فمعناها: أنه أُنزل متفرِّقاً، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها.
و«صوافّ» أي قد صفّت قوائمها. والإبل تُنحر قياماً معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال: صَفَن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثَنَى سُنْبُك الرابعة؛ والسّنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تُعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعريّ «صَوَافِيَ» أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً.
قوله: { مُعَاجِزِينَ }: قرأ أبو عمرو وابن كثير بالتشديد في الجيم هنا، وفي حرفَيْ سبأ،
والباقون " مُعاجزين " في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن وابن الزبير: " مُعْجِزين " بسكون العين.
فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدُهما: قال الفارسي: معناه: ناسِبين أصحابَ النبيِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى العَجْز نحو: فَسَّقْتُه أي نَسَبْتَه إلى الفسق ". والثاني: أنها للتكثير. ومعناها: مُثَبِّطِيْنَ الناسَ عن الإِيمان.
وأمَّا الثانيةُ فمعناها: ظانِّين أنهم يَعْجِزوننا. وقيل: معاندِين
وقرأ الجمهور { فغشيهم من اليم ما غشيهم } على وزن فعل مجرد من الزيادة. وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى { ما } وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله. قال الزمخشري: أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم.
قوله تعالى: { وَإِنَّ ٱللَّهَ }: قرأ ابن عامرٍ والكوفيون " وإنَّ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ { إِنَّ ٱللَّهَ } بالكسر دون واو.
وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ،
أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى:
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }
[الجن: 18] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه.
الثاني: أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ " وبأنَّ اللهَ ربي " بإظهار الباءِ الجارَّة. وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن. وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام.
الثالث: أَنْ تكونَ " أنَّ " وما بعدها نَسَقاً على " أمراً " المنصوبِ بـ " قَضَى " والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على " أمراً " لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ بـ " إذا " ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على الإِطلاق. ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِر ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ.
الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على " الكتاب " في قولِه " قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ " على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. قال هذا القائل: ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ { إِنَّ ٱللَّهَ } على قوله " إني عبدُ الله " فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ.
وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: جنه، بهاء الضمير، وجن فعل ماض، والهاء ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه. وقيل: المعنى ضمه المبيت والليل. وقيل: جنه بظلاله ودخل فيه. وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد ردّها. وقيل: إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها.
والجمهورُ على " إلاَّ مَنْ ظُلِمَ " مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: " ظَلَم " مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع،
واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعاً إلى الجملة الأولى كأنه قيل: لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو يفعله،
وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء، لكن الظالم يَجْهر به،
وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو " مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء " أي: لا يحب الله أن يُجْهَر بالسوء لأحد لكن الظالم يُجْهَرُ له به، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعله أن يَرْتدع.
وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعْمَش وحَمْزة { وَٱلأَرْحَامِ } بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لَحْن لا تحِلّ القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا عِلّة قبحه؛ قال النحاس: فيما علمتُ.
وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض؛ لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال جماعة: هو معطوف على المكنِيّ؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك بالله والرحِم؛ هكذا فسره الحسن والنخعِيّ ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعّفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض؛ كقوله
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ }
[القصص: 81] ويقبح «مررت به وزيدٍ» قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه؛ فكما لا يجوز «مررت بزيد وبك» كذلك لا يجوز «مررت بك وزيد». وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلاّ في الشعر؛ كما قال:
فاليوم قرّبتَ تَهجُونا وتشتِمُنا فاذهبْ فما بكَ والأيامِ من عَجَب
عطف «الأيام» على الكاف في «بك» بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر:
نعلِّق في مِثل السَّوَارِي سيوفنا وما بينها والكَعْبِ مَهْوى نَفَانِفُ
عطف «الكعب» على الضمير في «بينها» ضرورة. وقال أبو عليّ: ذلك ضعيف في القياس. وفي (كتاب التذكرة المهدية) عن الفارسي أن أبا العباس المبرّد قال: لو صليتُ خلف إمام يقرأ { مَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيِّ } و«اتَّقُوا الله الذَّي تَسَاءَلُوَن بِه وَالأْرحَامِ» لأخذت نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حَمْزَةَ مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم " فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرّحِم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلِف بغير الله أمر عظيم، وأنه خاص لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم { وَٱلأَرْحَامَ } قَسَمٌ خطأ من المعنى والإعراب؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب. وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حُفاةً عراةً، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لِما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: { يَأَيُّها النَّاسُ ٱتقُوا رَبَّكُمُ } ، إلى { وَالأَرْحَامَ }؛ ثم قال: «تصدّق رجل بديناره تصدّق رجل بدرهمه تصدّق رجل بصاع تمره» " وذكر الحديث. فمعنى هذا على النصب؛ لأنه حضّهم على صلة أرحامهم وأيضاً فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان حالِفا فليحلف بالله أو ليصمت " فهذا يرّد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرّحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى { تَسَاءَلُونَ بِهِ } يعني تطلبون حقوقكم به. ولا معنى للخفض أيضاً مع هذا.
قلت: هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة «وَالأَرْحَامِ» بالخفض، واختاره ابن عطية. وردّه الإمام أبو النصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيريّ، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلامِ مردود عند أئمة الدين؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القرّاء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور، ولا يقلَّد فيه أئمة اللغة والنحو؛ فإن العربية تُتلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العُشَرَاء. " وأبِيك لو طعنت في خاصرته " ثم النهي إنما جاء في الحلفِ بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرّحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرّحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحقِّ أبيك
وقد جاء في التنزيل: «والنَّجْمِ، والطّورِ، والتِّينِ، لَعْمرُك» وهذا تكلفٌ.
قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أنه يكون «وَالأَرْحَامِ» من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيداً لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم.
ولِلّهِ أن يُقسِم بما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسماً. والعرب تُقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادةً فحذفها كما حذفها في قوله:
مَشائيمُ ليسوا مُصلِحِينَ عَشِيرةً ولا ناعِبٍ إلاّ بِبَيْنٍ غُرابُها
فجر وإن لم يتقدّم باء. قال آبن الدَّهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يُجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله:
آبَكَ أيِّهْ بِيَ أو مُصَدَّرِ من حُمُر الجِلّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ
ومنه:
فاذْهَبْ فما بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وقـول الآخـر:
وما بَيْنها والكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
ومنه:
فحسبُك والضَّحّاكِ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
وقول الآخر:
وقد رَامَ آفاقَ السّماءِ فلم يَجِدْ له مَصعَداً فيها ولا الأرْضِ مَقْعَدَا
وقول الآخر:
ما إنْ بها والأُمورِ مِنْ تَلَفٍ ما حُمّ مِنْ أمرِ غَيْبِهِ وَقَعَا
وقول الآخر:
أمُرُّ على الكَتِيبَة لَسْتُ أدرِي أحَتْفِيَ كان فيها أمْ سِواها
فـ «سواها» مجرور الموضع بفِي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ }
[الحجر: 20] فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبدالله بن يزيد «وَالأَرْحَامُ» بالرفع على الآبتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء:
إن قوما منهم عُمَيْرٌ وأشْبَا هُ عُمَيْرٍ ومنهم السفّاحُ
لَجَديرون باللِّقاء إذا قا ل أخو النّجْدَةِ السلاحُ السلاحُ
وقد قيل: إنّ { وَالأَرحَامَ } بالنصب عطف على موضع به؛ لأن موضعه نصب، ومنه قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وكانوا يقولون: أنشُدُك بالله والرّحِمَ. والأظهر أنه نصب بإضمار فعلٍ كما ذكرنا.
أحدهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها. وقَدَّر بعضهم مضافاً أي: قَطْعَ الأرحام، ويقال: " إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام، وذلك أن معنى اتقوا الله: اتقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها ".
والثاني: أنه معطوفٌ على محل المجرور في " به " نحو: مررت بزيد وعمراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبد الله: " وبالأرحام ". وقال أبو البقاء: " تُعَظِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له ".
وقرأ حمزة " والأرحامِ " بالجر، وفيها قولان،
أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى:
{ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ }
[البقرة: 217].
وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: " حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال: " والأرحامِ " ـ بخفض الأرحام ـ هو كقولهم: " أسألك بالله والرحمِ " قال: " وهذا قبيحٌ " لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه ".
والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به، وجوابُ القسم: " إنَّ الله كان عليكم رقيباً ". وضُعِّف هذا بوجهين، أحدهما: أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في " بالأرحام " يمنعان من ذلك، والأصل توافقُ القراءات. والثاني: أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.
وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: " تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله " يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] " إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك " ، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.
{ وَأَهُشُّ بِهَا } «وَأَهِشُّ» أيضاً؛ ذكره النحاس. وهي قراءة النَّخَعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:أَهُشُّ بالعَصَا على أَغْنامِي من ناعِم الأَراكِ والبَشامِيقال: هَشَّ على غنمه يَهُشُّ بضم الهاء في المستقبل. وهشَّ إلى الرجل يَهَش بالفتح. وكذلك هشّ للمعروف يَهَشّ وهشِشت أنا: وفي حديث عمر: هشِشْت يوماً فقبَّلت وأنا صائم. قال شِمْر: أي فرحتِ واشتهيت. قال: ويجوز هَاشَ بمعنى هَشَّ. قال الراعي:فكبَّرَ للروْيَا وهَاشَ فؤادُهُ وبَشَّرَ نفساً كان قبل يَلُومَهاأي طَرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال: رجل هَشٌّ وزوج هَشٌّ. وقرأ عكرمة «وأَهُسُّ» بالسين غير معجمة؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وقيل: معناهما مختلف؛ فالهشّ بالإعجام خبط الشجر، والهس بغير إعجام زَجْر الغنم؛ ذكره الماوردي؛ وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة: «وأَهُسُّ» بالسين أي أنحى عليها زاجراً لها والهَسُّ زَجْر الغنم.
وقال سيدى ابن عطية فى المحرر الوجيز
وقرأ عكرمة مولى ابن عباس " وأهُسُّ " بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف،
وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب: خفيت الشيء أي أظهرته. وقال الشاعر:خفاهن من إيقانهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلبوقال آخر:فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن توقدوا الحرب لا نقعدولام { لتجزَى } على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها { لتجزَى } كل نفس.
وقرأ الجمهور { أُخْفِيها } بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك: أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة. وقال أبو علي: هذا من باب السلب ومعناه، أزيل عنها خفاءها وهو سترها،
واللام على قراءة الجمهور.قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال { إن الساعة آتية } لنجزي ....
وقيل: { أخفيها } بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان
وقالت فرقة { أكاد } بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم
وقالت فرقة: معناه { أكاد أخفيها } من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس
وقالت فرقة { أكاد } زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها، وروي هذا المعنى عن ابن جبير، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى { لم يكد يراها }
وقال الرازى فى تفسيره
ثم قال: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } وفيه سؤالان:
السؤال الأول: هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله:
{ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }
[البقرة: 71] أي وفعلوا ذلك فقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين،
أحدها: أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
وثانيها: أن كاد من الله واجب فمعنى قوله: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله:
{ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا }
[الإسراء: 51] أي هو قريب قاله الحسن.
وثالثها: قال أبو مسلم: { أَكَادُ } بمعنى أريد وهو كقوله:
{ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }
[يوسف: 76] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله.
ورابعها: معناه: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه، قال قطرب: هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون: إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله.
وخامسها: { أَكَادُ } صلة في الكلام والمعنى: إن الساعة آتية أخفيها، قال زيد الخيل:سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفسوالمعنى فما يتنفس قرنه.
وسادسها: قال أبو الفتح الموصلي { أَكَادُ أُخْفِيهَا } تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه.
وسابعها: قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله:
{ ٱ;قْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ }
[القمر: 1] قال امرؤ القيس:فإن تدفنوا الداء لا نخفهوإن تمنعوا الحرب لا نقعدأي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها.
وثامنها: أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } وهذا الوجه بعيد، والله أعلم
قوله تعالى: { قُبُلاً }: قرأ نافع وابن عامر " قِبَلاً " هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون. وقرأ أُبَيّ والأعمش " قبيلاً " بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة. وقرأ طلحة بن مصرف " قَبْلا " بفتح القاف وسكون الباء.
فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان،
أحدهما: أنها بمعنى مُقَابلة أي: معايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتصابه على هذا على الحال، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال: " لَقِيته قِبَلاً " أي عِياناً. وقال ابن الأنباري: " قال أبو ذر: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنبيَّاً كان آدم؟ فقال: نعم كان نبياً، كلَّمه الله قِبَلاً " وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم.
والثاني: أنها بمعنى ناحية وجهه، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم: لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ، وما قِبَلك حق. ويقال: لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً، كلُّه بمعنى واحد، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً.
وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه
أحدها: أن يكون " قُبُلاً " جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب. وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج: " جمع قبيل بمعنى كفيل أي: كفيلاً بصدق محمد عليه السلام " ، ويُقال: قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي: تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة. وقال الفراء في سورة الأنعام: " قُبُلاً " جمع " قبيل " وهو الكفيل ". قال: " وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم
{ أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً }
[الإِسراء: 92] يَضْمَنُون ذلك.
الثاني: أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات.
الثالث: أن يكون " قُبْلاً " بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي: مواجهةً ومعاينةً، ومنه " آتيك قُبُلاً لا دُبُراً " أي: آتيك من قِبَل وجهك، وقال تعالى:
{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ }
[يوسف: 26]
قوله تعالى: { وَمَنْ عِندَهُ }: العامَّة [على فتح ميم] " مَنْ " ، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و { عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و " عِلْمُ " فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ لـ " مَنْ ".
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: " ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ ". واعترض الشيخُ عليه بأنَّ " مَنْ " لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } جعلوا " مِنْ " حرفَ جرّ، و " عندِه " مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و " عِلْم " مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } يجعلون " مِنْ " جارَّةً، و " عُلِمَ " مبنياً للمفعول، و " الكتابُ " رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد " عُلِّم ". والضمير في " عنده " على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً " وبمَن " بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة.
قوله تعالى: { بادي الرأي } قرأ الأكثرون «بادِيَ» بغير همز. وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال. وكلهم همز «الرأي» غير أبي عمرو. وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين.
والثاني: أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك.
والثالث: أن المعنى: اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو: إِذا ظهر.
فأما من همز «بادىء» فمعناه: ابتداء الرأي، أي: اتَّبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد:
2770 ـ........................ كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، " كما شَغَفَ " ، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة.
وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: " مِنْ قولك: فلان مَشْعوفٌ بكذا، أي: مُغْرىٰ به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد: " الشَّغَف ـ يعني بالمعجمة ـ في الحب، والشَّعَفُ في البغض ". وقال الشعبي: " الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون ".
«على» بمعنى الباء قال الفراء: العرب تجعل الباء في موضع «على»؛ تقول: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة: «حقيق» بمعنى: حريص.
وقرأ نافع، وأبان عن عاصم: «حقيق عليَّ» بتشديد الياء وفتحها، على الاضافة. والمعنى: واجب عليَّ.
وقال الامام السمين الحلبى فى الدر المصون
فأمَّا قراءةُ العامة ففيها ستة أوجه، ذكر الزمخشري منها أربعة، قال رحمه الله: " وفي المشورةِ إشكالٌ، ولا يخلو من وجوه،
أحدها: أن تكون مِمَّا قُلب من الكلام كقوله:
2255ـ.................... وتَشْقى الرماحُ بالضَّياطرة الحُمْرِ
معناه: وتشقى الضياطرةُ بالرماح. قال الشيخ: " وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه ". قلت: وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفصيلُ: بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ، أو لا فيمتنعَ، وقد تقدَّم إيضاحهُ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز. وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل: قولُ الحق حقيقٌ عليَّ، فقلبَ اللفظَ فصار: أنا حقيقٌ على قَوْل الحق ".
قال: " والثاني: أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قولِ الحق أي لازماً له،
والثالث: أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن " هَيَّجني " معنى ذكَّرني في بيت الكتاب،
الرابع: أن تكون " على " بمعنى الباء ". قلت: وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي. قالوا: إنَّ " على " بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله:
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ }
[الأعراف: 86] أي: على كل. وقال الفراء: " العربُ تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة. إلا أن الأخفشَ قال: " وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت: ذهبت على زيد تريد: بزيدٍ لم يجز ". قلت: ولأنَّ مذهب البصريين عدمُ التجوُّز في الحروف، وعَنَى بالبيت قولَ الشاعر:
2256ـ إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار
وبالكتاب كتابَ سيبويه فإنه عَلَمٌ بالغلبة عند أهل هذه الصناعة.
الخامس: ـ وهو الأَوْجَهُ والأَدْخَلُ في نُكت القرآن ـ أن يُغْرِق موسى عليه السلام في وصفِ نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون ـ لعنه الله ـ لمَّا قال موسى: إني رسولٌ من رب العالمين قال له: كَذَبْت، فيقول: أنا حقيقٌ على قولِ الحق أي: واجبٌ عليَّ قولُ الحق أن أكونَ أنا قائلَه، والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به ". قال الشيخ: " ولا يَصِحُّ هذا الوجهُ إلا إنْ عَنَى أنه يكون " أن لا أقول " صفةٌ له كما تقول: أنا على قول الحق أي: طريقتي وعادتي قول الحق.
السادس: أن تكون " على " متعلقةً بـ " رسول ". قال ابن مقسم:/ " حقيقٌ من نعت " رسول " أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلْتُ على أنْ لا أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق " على " برسول، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا بـ " حقيق ".
قال الشيخ: " وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في " على " " أرسلت " وقال أخيراً: " لأنهم غَفَلوا عن تعليق " على " بـ " رسول ". فأمَّا هذا الأخيرُ فلا يجوز عند البصريين لأنَّ " رسولاً " قد وُصِف قبل أن يأخَذَ معمولَه، وذلك لا يجوز، وأمَّا تعليقُه بأرسلت مقدَّراً لدلالةِ لفظ " رسول " عليه فهو تقديرٌ سائغ. ويُتَأَوَّل كلامه أنه أراد بقوله تُعَلَّقُ " على " بـ " رسول " أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صَحَّ نسبةُ التعلُّق له " قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجهَ عن ابن مقسم: " والأوجهُ الأربعة التي للزمخشري. ولكن هذه وجوه متعسِّفة، وليس المعنى إلا على ما ذكرته أولاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإِشكالُ الذي ذكره الشيخ من إعمالِ اسم الفاعلِ أو الجاري مَجْراه وهو موصوف.
وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه،
أحدها: أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه " حقيق " ، و " عليَّ " خبر مقدم، و " أنْ لا أقول " مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل: عليَّ عدمُ قول غير الحق أي: فلا أقول إلا الحق.
الثاني: أن يكون " حقيق " خبراً مقدَّماً، و " أن لا أقول " مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه.
الثالث: " أَنْ لا أقول " فاعِلٌ بـ " حقيق " كأنه قيل: يحقُّ ويجب أن لا أقول، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق " عليَّ " بـ " حقيق " لأنك تقول: " حَقَّ عليه كذا ". قال تعالى: { أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ }. وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة.