قال الإمام أبو عمرو الداني رحمه الله :وأما الميم فكان يخفيها إذا تحرك ما قبلها عند الباء لا غير وذلك قوله ( بأعلم بالشاكرين ) و ( أعلم بكم ) و( يحكم به )و ( لتحكم بين الناس ) و ( مريم بهتانا) و ( لكيلا يعلم بعد ) وما أشبهه , وترجم اليزيدي وغيره من الرواة والمصنفين عن هذا الميم بالإدغام على سبيل المجاز وطريق الإتباع لا على الحقيقة إذ كانت لا تقلب مع الباء باء بإجماع من أهل الأداء ,وإنما تسقط حركتها تخفيفا ,فتخفى بذلك لا غير , وذلك إخفاء للحرف لا إخفاء للحركة , فأما إدغامها أو قلبها فغير جائز للغنة التي فيها إذ كان ذلك يذهبها فتختل لأجله , , فإن سكن ما قبلها لم يخفها اكتفاء بخفة الساكن من خفة الإخفاء , وذلك نحو قوله ( الشهر الحرام بالشهر الحرام )و ( كالأنعام بل هم ) ( وإبراهيم بنيه ) و( إبراهيم بنيه )و ( إبراهيم بالبشرى ) و ( اليوم بجالوت ) و( العلم بغيا ) وما أشبهه , وهذا إجماع من الرواة وأهل الأداء عنه إلا ما حكاه أحمد بن إبراهيم القصباني عن ابن غالب عن شجاع أنه كان يدغمها في الباء إذا لم يكن الساكن قبلها حرفا جامدا أو حرف لين وكان حرف مد قد وليته حركته لكون لكون المد كالحركة فصار ذلك مثلها وأجرى لها حمكها , وبالبيان قرأت ذلك وعليه أهل الأداء . ( جامع البيان ص 180 ) الطبعة الأولى طبع دار الكتب العلمية .
وفي كلام هذا الإمام الجهبذ أبلغ الرد على من قال بالإطباق بفهمه لكلام الأئمة حيث نص على الإخفاء ولاشك أن للإخفاء حقيقة مغايرة لحقيقة الإظهار وحقيقة الإدغام , فلا يمكن أن تكون حقيقة الإخفاء بالإطباق كحقيقة الإظهار.
ثم أكد ذلك وبينه بقوله :( فتخفى بذلك لا غير , وذلك إخفاء للحرف لا إخفاء للحركة ) .
وطريقة إخفاء الحرف لا تكون كطريقة إظهاره فإظهار الميم بإطباق الشفتين يدل على أن إخفاءها لا يكون بإطباق الشفتين , ولأن ذلك من البدهيات المسلمات الواضحات البينات على كل من يفهم العربية فلم يتكلف الأئمة بيان ما هو بين إذ ذلك لغو يترفع عنه الأئمة في كتبهم.
ثم بين رحمه الله أن العبرة بالأداء والعمدة عليه في القراءة ولو كان النص في ظاهره مخالفا للأداء حقيقة فالعبرة بالأداء لأن النص يمكن تأويله ويمكن أن يكون في العبارة عنه تجوز وتوسع كما هنا , فاليزيدي نفسه وهو راوي الإدغام مباشرة عن أبي عمرو يعبر عن أداء الميم قبل الباء بالإدغام وكذلك غيره من الرواة والمصنفين ومع هذا فإن الأداء بالإخفاء لأن العبرة بالأداء وليس بالنص , وهذه عين مسألتنا فلو كانت نصوص الأئمة كلها مطبقة على إطباق الميم المخفاة صراحة عند الباء لكان الواجب تفسير هذه النصوص بالأداء المشهور بترك الفرجة اليسيرة كما فسر أبو عمرو هنا النص بالإدغام بأدائه إخفاءً , فكيف ولم يجد القائلون بالإطباق نصا واحدا يصف كيفية أداء الميم قبل الباء بالإطباق ؟
ثم قوله رحمه الله : ( فإن سكن ما قبلها لم يخفها اكتفاء بخفة الساكن من خفة الإخفاء ).
دليل آخر حيث بين أن إخفاء الميم أخف من إظهاره ولا شك أن الإظهار بالإطباق فيكون الإخفاء بما هو أخف من الإطباق وهو الفرجة ففيها الخفة التي نص عليها الأئمة , فهل آن لمن بقي على القول بالإطباق أن يعيد نظره في المسألة ويرجع إلى الفرجة كما رجع كثيرون غيره ؟
وهل آن لمن يفهم من كلام الأئمة عكس ما يقصدون ويقولهم ما لا تحتمله ألفاظهم أن يعيد النظر في فهمه , وفي قوله المترتب على ذلك الفهم ؟
وهل آن لمن يتعقب الأئمة فيخطئهم فيما قالوه بما يفهم من كلامهم أن ينزع ؟
وهل آن لمن يقول بأن عمدة الأئمة على النصوص وليس على الأداء أن يرجع فهذا أبو عمرو يأخذ بالأداء ويفسر به النصوص فيفسر الإدغام بالإخفاء لأن الأداء كذلك ؟
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى , نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل , وجزى الله المنصفين خير الجزاء .