التفسير العلمي للقرآن:مدخل نقدي لإسرائيليات العصر.

إنضم
20/04/2003
المشاركات
577
مستوى التفاعل
24
النقاط
18
التفسير العلمي للقرآن:مدخل نقدي لإسرائليات العصر.

إن القرآن قد قضى بتميزه عن الأصناف الخطابية السائدة ،وجعل القول بالتداخل أو التشابه ليس قولا خاطئا فحسب، بل قولا فاجرا،فمن زعم من الناس أن القرآن نثر مسجوع ،كنثر الكهان ،أو نظم مقفى ، كشعر العرب، فقد أخطـأ عقلا وفجر شرعا..ولا يضر القول بأن انتفاء الشعر عن القرآن يجعله من النثر لا محالة لاستحالة ارتفاع النقيضين-على اعتبار أن الكلام إما منظوم أو غير منظوم (وهو المنثور)،ولا واسطة بين العدم والوجود-فقد قال العلامة ابن خلدون:

"والقرآن وإن كان من المنثور إلاّ أنه خارج عن الوصفين؛ فليس يسمَّى مرسلاً مطلقاً ولا مسجعاً، بل تفصيل آيات"

وقد استوعب المسلمون هذه الحقيقة جيدا فأمعنوا في التمييز حتى جعلوا أسماء ما يدل على القرآن مختلفة عن غيره في الإجمال والتفصيل..فقد نقل السيوطي عن الجاحظ قوله:

"سمَّى الله كتابه اسماً مخالفاً لِما سمَّى العربُ كلامهم على الجملة والتفصيل؛ سمَّى جملتَه قرآناً كما سمَّوا ديواناً، وبعضَه سورة كقصيدة، وبعضَها آية كالبيت، وآخرَها فاصلة كقافية"

ثم ميزوا القرآن باصطلاح خاص وإن كان المسمى هو عينه في غيره، فالأسجاع-مثلا- ليست إلا التوافق الصوتي في ختام الجمل ،وهذا الحد منطبق على القرآن وغيره، غير أنهم سموا هذه الظاهرة الصوتية في القرآن" فاصلة"، وسموها في غيره "سجعة"..وكذلك سموا إدخال شيء من القرآن في كلامهم "اقتباسا "وسموا إدخال شيء من الشعر "تضمينا"...

ولعل الأمر قد يتجاوز هنا حدود التأدب في الاصطلاح ليصل إلى تقرير قاعدة عامة في المنهج مفادها رسم حدود واضحة بين الكلام الإلهي والكلام البشري...وتحاشي كل ما من شأنه أن يخلط بين الكلامين ولو على سبيل الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه!

لكن بعض الناس قديما، وجمهرة منهم حديثا، سعوا إلى إهمال هذا القاعدة أو على الأقل إلى إدخال استثناء فيها، فجعلوا "الخطاب العلمي " ذا حظوة عن بقية الخطابات وأجازوا له ما لم يجيزوا لغيره ،فلو قيل إن القرآن وافق "الشعر" في هذا الموضع لردوا هذا القول في فم القائل بكل استنكار وتنديد، ولكن لو قيل وافقت الآية" العلم الحديث" لاستقبل القول بكل بشاشة وترحيب، ولعدوه انتصارا للقرآن ..

أفيكون القول بموافقة القرآن لامريء القيس الجاهلي طعنا في التنزيل،ويكون القول بموافقة القرآن لأينشتاين اليهودي نصرا للفرقان!!

قد لا يعدمون الجواب من أن القول بالموافقة الأولى قول أبطله القرآن نفسه وأن الشعراء- الهائمين الذين يقولون ما لا يفعون والذين يحترفوت الكذب والتملق وتزوير المقال المستمد من الشياطين -يؤسسون خطابا هو نقيض القرآن المنزل الذي لا ياتيه الباطل..فلا يكون الجمع بين الشعر والقرآن إلا جمعا بين الحق والباطل وهو محال..

أما ما يقوله العلم الحديث فهو حق ،ونحن إذ نفسر "الحبك" ب "الأوتار الفائقة" فهذا ليس تداخلا للخطابات ولا حملا للقرآن على غيره وما فعلنا شيئا غير تفسير كلمة بأخرى كما تفعلون أنتم-معاشر اللغويين- عندما تفسرون "القسورة" بالأسد..وليس في هذا كله إلا حملا للقرآن على نفسه لأنه حمل للحق على الحق!!

هذا الجواب- كما ترى- مبني كله على دعوى لم يقيموا عليها دليلا، وهي دعوى تماهي العلم الحديث مع الحقيقة.. فإذا ما انهارت هذه الدعوى بات "العلم" كغيره من الشعر والسحر، وعاد القول بموافقة القرآن لها أو لبعضها فجورا وكفرا..

( وقد نقول لك كلمة عن فايربند فيلسوف العلم الأسترالي الذي شغب على العلماء وطالبهم بسندهم في تفضيل الخطاب العلمي على الخطاب السحري مثلا)

وهذا الكتاب الذي سنخطه في هذه الصفحات ، شيئا فشيئا،يطمح إلى تفنيد هذا الزعم المشهور ،متمسكين بشرط هو الابتعاد - ما أمكن- عن الاستدلال الخطابي المخرج من باب التحسين والتقبيح بالبيان والإنشاء، والاعتماد ما أمكن على "فقه العلم" المسمى "ابستملوجيا " ناقلين بصفة حاصرة من منشئي الخطاب العلمي الحديث وناقديه، من أهل الغرب علماء وفلاسفة، فهو أجدر بالقبول على مبدأ "شهد شاهد من أهلها "وأولى بإفحام أبناء جلدتنا الذين يريد بعضهم أن يكونوا "ملكيين أكثر من الملك نفسه"!!


كلمة عن مصطلح" إسرائيليات"

يدل هذا المصطلح على تراث بني إسرائيل وهو أمشاج من التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري والجغرافيا وعلم العقائد وقصص الأولين وسير الملوك وأخبارالأنبياء وطقوس العادات والعبادات...

وهذا التراث المتنوع لا يستحق أن يسمى "إسرائيليات" إلا إذا اقتحم فضاء النص الديني الإسلامي..وإلا فهو تاريخ وجغرافيا وسير وأخبار ...لها هذه التسميات ذاتها المعهودة لفنون التراث عند أي شعب من الشعوب..

وبعبارة أوضح لا حرج أن يسلك عموم المروي عن بني إسرائيل في علم الفلك أو في علم الأرض.. ولكن إذا ما قصد به تفسير آية قرآنية أو تعيين دلالة في حديث نبوي فإن ذلك المروي سيغدو من" الإسرائيليات" وليس من علم الفلك ..

هذه الرؤية الاعتبارية لمصطلح "إسرائيليات" لها- في تصورنا- أهمية بالغة لأنها توطئة لتنزيل الحكم الشرعي على ما يسمى بالتفسير العلمي...فلسنا نتوفر على حكم شرعي خاص بعلم الفزياء أو علم وظائف الأعضاء... ولكن التكييف الشرعي للإسرائيليات وارد في السنة النبوية :

"
حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فهذا تأصيل من جهة الرواية ..
"لا تصدقوهم
، ولا تكذبوهم " وهذا تأصيل من جهة الدراية..
لكن علينا قبل تنزيل الحكم إثبات أن هذه العلوم العصرية هي من جنس تلك الإسرائيليات..وأن حديث "حوت البهموت "مثل حديث "الثقوب البيضاء والسوداء" وأن الاختلاف- إن وجد-هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع.


لعل من المفيد إزعاج القاريء قليلا قبل الاسترسال في الموضوع..ونرى المطلبين التاليين يفيان بهذا المقصد:

-هل تعتقد أن العالم الطبيعي يصف الظاهرة الطبيعية كما هي في الخارج، أم أنه ينشيء لها نموذجا تصوريا في الذهن؟

-هل ترى المفاهيم التي يعتمدها العالم في خطابه مفاهيم حقيقية لها ما يطابقها في الخارج، أم أنها محض أدوات من ابتكار العقل تساعده على التفسير والتنظيم ،أو لنقل باصطلاح البيانيين هل هي من باب الخبر أم من باب الإنشاء؟


 
النظر للموضوع من هذه الزاوية مفيد حقا ، وكنت أوردته في لقاء مع الأستاذ الدكتور زغلول النجار وفقه الله فسخر مني حينها ، فقلتُ له : ما الذي يثبت لي ولأمثالي صحة هذه النظريات التي تذكرون في الفلك وفي الجيولوجيا وغيرها والتحقق من ذلك صعبٌ جدا على جمهورنا . فقال : ألا تثق بكلامي في هذا ؟ فقلتُ : هذه مسألة فلكية وأنا أعرف أنك متخصص في الجيولوجيا ، فغضب حفظه الله ، وتجاهل السؤال ، وأخذنا في الحديث عن موضوعات أخرى .
 
كان بعض المتصوفة يقولون:
إن أسرار الكون كله في الكتب السماوية ،وأسرار الكتب السماوية كلها في القرآن،وأسرار القرآن كله في الفاتحة ،وأسرار الفاتحة كلها في البسملة ،وأسرار البسملة كلها في بسم ،وأسرار بسم في الباء ،وأسرار الباء في النقطة..
وكان العجب يأخذني من عقول هؤلاء...كيف يكون الكون كله في نقطة نضعها برأس قلم...
ومضت أيام ...فإذا بنقطة الباء تصبح نظرية علمية ...وإذا الكون كله كامن في أقل من نقطة الباء ثم حدث الانفجار العظيم!!!
فقلت لم لا يطالب ورثة الصوفية بحقهم في السبق العلمي...!!
لا أدري هل الدكتور زغلول يقول بنظرية الانفجار العظيم ...وينسبها للقرآن كما يبتهج بذلك كثير من المفتونين بالعلم..أم لعله يتريث قليلا ليدرك أن هذه النظرية لا مطمح لها إلا أن تستغني عن الخالق نهائيا!!!
فلعله لن يغضب منا...
 
هذه فقرات من تفسير الفخر الرازي -رحمه الله-
(وهي طويلة نسبيا فنلتمس من القاريء العذر، لكنه ليس مضطرا إلى قراءتها كلها فحسبه نظرة طافية ،أو قراءة انتقائية من هنا وهناك ليتمثل الموضوع والمنهج..
ثم نلتقي به بعد للمساءلة واستخلاص العبر.)
1-قال في تفسير قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر هاهنا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النَّمْلِ: 61] وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [الزُّخْرُفِ: 10] وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ فِرَاشًا مَشْرُوطٌ بِأُمُورٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا سَاكِنَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ حَرَكَتُهَا إِمَّا بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ بِالِاسْتِدَارَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالِاسْتِقَامَةِ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَنْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَاوِيَةٌ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هَاوٍ، وَالْأَرْضُ أَثْقَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا وَالْأَبْطَأُ لَا يَلْحَقُ الْأَسْرَعَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هَاوِيَةً لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا بِالِاسْتِدَارَةِ لَمْ يَكْمُلِ انْتِفَاعُنَا بِهَا، لَأَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ مَثَلًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ أَسْرَعُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَكَانِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مُتَحَرِّكَةٍ لَا بِالِاسْتِدَارَةِ وَلَا بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ذَلِكَ السُّكُونِ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنْ جَانِبِ السُّفْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْبِطٌ فَلَا تَنْزِلُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ تَنَاهِي الْأَجْسَامِ. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ سَلَّمُوا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بَلْ هِيَ كَنِصْفِ كُرَةٍ وَحَدَبَتُهَا فَوْقُ وَسَطْحُهَا أَسْفَلُ وَذَلِكَ السَّطْحُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الثَّقِيلِ إِذَا انْبَسَطَ أَنْ يَنْدَغِمَ عَلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِثْلَ/ الرَّصَاصَةِ فَإِنَّهَا إِذَا انْبَسَطَتْ طَفَتْ عَلَى الْمَاءِ، وَإِنْ جُمِعَتْ رَسَبَتْ وهذا باطل الوجهين: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَالْبَحْثِ عَنْ سَبَبِ وُقُوفِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: لِمَ صَارَ ذَلِكَ الْجَانِبُ مِنَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْمَاءِ وَصَارَ هَذَا الْجَانِبُ مُتَحَدِّبًا؟. وَثَالِثُهَا: الَّذِينَ قَالُوا سَبَبُ سُكُونِ الْأَرْضِ جَذْبُ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ فَلَمْ يَكُنِ انْجِذَابُهَا إِلَى بَعْضِ الْجَوَانِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَبَقِيَتْ فِي الْوَسَطِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْغَرَ أَسْرَعُ انْجِذَابًا مِنَ الْأَكْبَرِ، فَمَا بَالُ الذَّرَّةِ لَا تَنْجَذِبُ إِلَى الْفَلَكِ.
الثَّانِي: الْأَقْرَبُ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ فَالذَّرَّةُ الْمَقْذُوفَةُ إِلَى فَوْقٍ أَوْلَى بِالِانْجِذَابِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَعُودَ. وَرَابِعُهَا:
قَوْلُ مَنْ جَعَلَ سَبَبَ سُكُونِهَا دَفْعَ الْفَلَكِ لَهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، كَمَا إِذَا جُعِلَ شَيْءٌ مِنَ التُّرَابِ فِي قِنِّينَةٍ ثُمَّ أُدِيرَتِ الْقِنِّينَةُ عَلَى قُطْبِهَا إِدَارَةً سَرِيعَةً، فَإِنَّهُ يَقِفُ التُّرَابُ فِي وَسَطِ الْقِنِّينَةِ لِتَسَاوِي الدَّفْعِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ. ...

2-قال في تفسير قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ القرآن هاهنا قد دل على وجود سبع سموات، وَقَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ. ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، قَالُوا وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: السِّتْرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَوْكَبَ الْأَسْفَلَ إِذَا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يَصِيرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ وَيَتَمَيَّزُ السَّاتِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِكَوْنِهِ الْغَالِبَ كَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ وَصُفْرَةِ عُطَارِدَ، وَبَيَاضِ الزُّهْرَةِ، وَزُرْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَكُدُورَةِ زُحَلَ كَمَا أَنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ. وَكَوْكَبَ عُطَارِدَ يَكْسِفُ الزُّهْرَةَ، وَالزُّهْرَةَ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ الْقَمَرِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ فَوْقَهَا لِأَنَّهَا لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالٍ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ عِنْدَ طُلُوعِهَا فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرُوا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الزُّهْرَةَ كَشَامَةٍ فِي صَحِيفَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي وَجْهِ الشَّمْسِ شامة كما أن حَصَلَ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ الْمَحْوُ، الثَّانِي: اخْتِلَافُ المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة وغير مَحْسُوسٍ لِلْمِرِّيخِ وَالْمُشْتَرِي وَزُحَلَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا أَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ قَالَ فِي «تلخيصه لفصول الفرغاني» : إن اختلاف المنظر لا يُحَسُّ إِلَّا فِي الْقَمَرِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ وَبَقِيَ مَوْضِعُ الشَّمْسِ مَشْكُوكًا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ وَأَرْبَابَ الْهَيْئَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تِسْعَةٌ، فَالسَّبْعَةُ هِيَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْفَلَكُ الثَّامِنُ هُوَ الَّذِي حَصَلَتْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ الثَّابِتَةُ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَلَكُ التَّاسِعُ فَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ يتحرك في كل يوم وليلة دورة واجدة بِالتَّقْرِيبِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ بِأَنَّا وَجَدْنَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ حَرَكَاتٍ بَطِيئَةً وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ فَلَكِهَا وَالْأَفْلَاكُ الْحَامِلَةُ لِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ سَرِيعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ آخَرَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً وَيَكُونُ هُوَ الْحَامِلَ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ ضَعِيفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْكَوَاكِبُ تَتَحَرَّكُ بِأَنْفُسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي جِسْمٍ آخَرَ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَفْسُدُ إِلَّا بِإِفْسَادِ الْمُخْتَارِ/ وَدُونَهُ خَرْطُ الْقَتَادِ. وَثَانِيهَا:
سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي مُمَثِّلَاتِ السَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ مَرْكُوزَةٌ فِي حَوَامِلِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَلَكُ تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ فَيَكُونُ تَحْتَ كُرَاتِ السَّيَّارَاتِ لَا فَوْقَهَا فَإِنْ قِيلَ إِنَّا نَرَى هَذِهِ السَّيَّارَاتِ تَكْسِفُ هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَالْكَاسِفُ تَحْتَ الْمَكْسُوفِ لَا مَحَالَةَ قُلْنَا هَذِهِ السَّيَّارَاتُ إِنَّمَا تَكْسِفُ الثَّوَابِتَ الْقَرِيبَةَ مِنَ الْمِنْطَقَةِ فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقُطْبَيْنِ فَلَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْمِنْطَقَةِ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ وَهَذِهِ الثَّوَابِتُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْقُطْبَيْنِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْكِسَافُهَا بِالسَّيَّارَاتِ مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ أُخْرَى تَحْتَ كُرَةِ الْقَمَرِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا دَافِعَ لَهُ، ثُمَّ نَقُولُ هَبْ أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ التِّسْعَةَ فَمَا الَّذِي دَلَّكُمْ عَلَى نَفْيِ الْفَلَكِ الْعَاشِرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّصْدَ مَا دَلَّ إِلَّا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ إِلَّا أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَدْلُولِ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَا تَبَيَّنَ لِي إِلَى الْآنِ أَنَّ كُرَةَ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كُرَاتٌ مُنْطَوٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَأَقُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، لِأَنَّ الَّذِي يستدل به على وجدة كُرَةِ الثَّوَابِتِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ حَرَكَاتِهَا مُتَشَابِهَةٌ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ غَيْرُ يَقِينِيَّتَيْنِ. أَمَّا الْأُولَى:
فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِسِّ وَاحِدَةً وَلَكِنْ لَعَلَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدَةً، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَالْآخَرُ يُتَمِّمُ الدَّوْرَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِنُقْصَانِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا وَزَّعَنَا ذَلِكَ النُّقْصَانَ عَلَى هَذِهِ السِّنِينَ كَانَ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ جُزْءٍ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ بَلِ الْعَشْرُ سِنِينَ وَالْمِائَةُ وَالْأَلْفُ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِهِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا سَقَطَ الْقَطْعُ الْبَتَّةَ عَنِ اسْتِوَاءِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِأَسْرِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ فِي مُمَثِّلَاتِ أَكْثَرِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّهَا في حركاتها مساوية لفلك الثوابت فكذا هاهنا.
وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِفَلَكِ الثَّوَابِتِ فَلَعَلَّ الْجِرْمَ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ لَيْسَ جِرْمًا وَاحِدًا بَلْ أَجْرَامًا كَثِيرَةً إِمَّا مُخْتَلِفَةَ الْحَرَكَاتِ لَكِنْ بِتَفَاوُتٍ قَلِيلٍ لَا تَفِي بِإِدْرَاكِهَا أَعْمَارُنَا وَأَرْصَادُنَا وَإِمَّا مُتَسَاوِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّ تَسَاوِيَهَا لَا يُوجِبُ وِحْدَتَهَا، وَمِنْ أَصْحَابِ الْهَيْئَةِ مَنْ قَطَعَ بِإِثْبَاتِ أَفْلَاكٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ التِّسْعَةِ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ وَجَدَ مِقْدَارَ الْمَيْلِ أَعْظَمَ فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ «لَحَّ يَا» «1» ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ «كَحَّ لَهُ» ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ/ الْمَأْمُونِ قَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَنْطِقَتَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيِ كُرَةِ الْكُلِّ وَتَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة الْبُرُوجِ، وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى إِلَى الجنوب عند ما يَرْتَفِعُ قُطْبُ فَلَكِ الثَّوَابِتِ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَارَةً إِلَى الشَّمَالِ. كَمَا هُوَ الْآنَ. الثَّانِي: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ سَيْرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي «كُتُبِ النُّجُومِ» حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرَخِيسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْعَوْدَةَ تَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي بَعْضِ أَقَاوِيلِهِ: إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، وفي بعضها: إنها متساوية في إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَةِ الاعتدال لاختلاف بعدها عن الأوج...

3-وقال في تفسير قوله تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
القسم الْأَوَّلُ: فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الدَّلَائِلِ: الِاسْتِدْلَالُ/ بِأَحْوَالِ السموات وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] ولنذكر هاهنا نَمَطًا آخَرَ مِنَ الْكَلَامِ:
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْحُسَامِ كَانَ يَقْرَأُ كِتَابَ الْمِجِسْطِيِّ عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا: مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ: أُفَسِّرُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بُنْيَانِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ السموات عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مُرَتَّبٌ فِي فُصُولٍ:

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْلَاكِ
قَالُوا: أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، ثُمَّ كُرَةُ الثَّوَابِتِ، ثُمَّ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَبْحَاثًا:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ذَكَرُوا فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: السَّيْرُ، وَذَلِكَ أن الكواكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكواكب الْأَعْلَى فَإِنَّهُمَا يُبْصَرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ، وَيَتَمَيَّزُ السَّائِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِلَوْنِهِ الْغَالِبِ، كَصُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ، وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَوَدَّةِ زُحَلَ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ، وَكَثِيرًا مِنَ الثَّوَابِتِ فِي طَرِيقِهِ فِي مَمَرِّ الْبُرُوجِ، وَكَوْكَبُ عُطَارِدٍ يَكْسِفُ الزُّهَرَةَ، وَالزُّهَرَةُ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَهَذَا الطَّرِيقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَمَرِ تَحْتَ الشَّمْسِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ، لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ تَحْتَهَا، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالِ أَضْوَائِهَا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، فَسَقَطَ هَذَا الطَّرِيقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ. الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَنْظَرِ فَإِنَّهُ مَحْسُوسٌ لِلْقَمَرِ وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَقَلِيلٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ بَيِّنٌ جِدًّا لِمَنِ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَنْظَرِ الْكَوَاكِبِ، وَشَاهَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمَارِسْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَلِّدًا فِيهِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ وَهُوَ أُسْتَاذُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ فِي تَلْخِيصِهِ لِفُصُولِ الْفَرْغَانِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنْظَرِ لَا يُحَسُّ بِهِ إِلَّا فِي الْقَمَرِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَطْلَيْمُوسُ: إِنَّ زُحَلَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْمِرِّيخَ تَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ فِي جَمِيعِ الْأَبْعَادِ، وَأَمَّا عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَبْعُدَانِ عَنِ الشَّمْسِ بَعْدَ
التَّسْدِيسِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَبْعَادِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّمْسِ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْقَمَرِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ كُلَّ الْأَبْعَادِ، مَعَ أَنَّهُ تَحْتَ الْكُلِّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي أَعْدَادِ الْأَفْلَاكِ، قَالُوا إِنَّهَا تِسْعَةٌ فَقَطْ، وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّصْدَ لَمَّا دَلَّ عَلَى هَذِهِ التِّسْعَةِ أَثْبَتْنَاهَا، فَأَمَّا مَا عَدَاهَا، فَلَمَّا لَمْ يَدُلَّ الرَّصْدُ عَلَيْهِ، لَا جَرَمَ مَا جَزَمْنَا بِثُبُوتِهَا وَلَا بِانْتِفَائِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِينَا فِي الشِّفَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ أَنَّ كُرَةَ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ كُرَاتٌ مُنْطَبِقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَقُولُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، لِأَنَّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وَحْدَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَرَكَاتِهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ضَعِيفَتَانِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَلِأَنَّ حَرَكَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي حَوَاسِّنَا مُتَشَابِهَةً، لَكِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَعَلَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا يُتِمُّ الدَّوْرَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْآخَرُ يُتِمُّ هَذَا الدَّوْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يَنْقُصَانِ عَاشِرَةً، إِذَا وَزَّعْنَا تِلْكَ الْعَاشِرَةَ عَلَى أَيَّامِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، لَا شَكَّ أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ كُلِّ سَنَةٍ، بَلْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا لَا يَصِيرُ مَحْسُوسًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ الْقَطْعُ بِتَشَابُهِ حَرَكَاتِ الثَّوَابِتِ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهَا لَمَّا تَشَابَهَتْ فِي حَرَكَاتِهَا وَجَبَ كَوْنُهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَيْضًا لَيْسَتْ يَقِينِيَّةً، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ لَا يُسْتَبْعَدُ اشْتِرَاكُهَا فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَقُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي كُرَةِ الثَّوَابِتِ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الْكُرَاتِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى وَحْدَةِ كُلِّ كُرَةٍ لَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَزَيَّفْنَاهُ، فَإِذَنْ لَا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فعلها كُرَاتٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ جِدًّا لَا تَفِي بِضَبْطِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ أَعْمَارُنَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْمُمَثَّلَاتِ وَالْحَوَامِلِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ كُرَةً فَوْقَ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، وَتَحْتَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَاحْتَجُّوا مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاصِدِينَ لِلْمَيْلِ الْأَعْظَمِ وَجَدُوهُ مُخْتَلِفَ الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ رَصْدُهُ أَقْدَمَ كَانَ وِجْدَانُ الْمَيْلِ الْأَعْظَمِ أَعْظَمَ، فَإِنَّ بَطْلَيْمُوسَ وَجَدَهُ. (كج نا) ثُمَّ وُجِدَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ (كج له) ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ الْمَأْمُونِ وَقَدْ تَنَاقَصَ بِدَقِيقَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُطْبَيْنِ أَنْ يَقِلَّ مَيْلُهُمَا تَارَةً وَيَكْثُرَ أُخْرَى، وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ كُرَةِ الْكُلِّ، وَكُرَةِ الثَّوَابِتِ كُرَةٌ أُخْرَى يَدُورُ قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ كُرَةِ الْكُلِّ، وَيَكُونُ كُرَةُ الثَّوَابِتِ يَدُورُ أَيْضًا قُطْبَاهَا حَوْلَ قُطْبَيْ تِلْكَ الْكُرَةِ فَيَعْرِضُ لِقُطْبِهَا تَارَةً أَنْ يَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الشَّمَالِ مُنْخَفِضًا، وَتَارَةً إِلَى جَانِبِ الْجَنُوبِ مُرْتَفِعًا فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْطَبِقَ مُعَدَّلُ النَّهَارِ على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أُخْرَى إِلَى الْجَنُوبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَرْصَادِ اضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا فِي مِقْدَارِ مَسِيرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، حَتَّى إِنَّ بَطْلَيْمُوسَ حَكَى عَنْ أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي أَنَّ هَذَا السَّيْرَ يَكُونُ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ أَوْ مُخْتَلِفَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَوْجَ الشَّمْسِ/ مُتَحَرِّكًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي يَلْحَقُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَخْتَلِفُ عِنْدَ نُقْطَتَيِ الِاعْتِدَالَيْنِ لِاخْتِلَافِ بُعْدِهِمَا مِنَ الْأَوْجِ، فَيَخْتَلِفُ زَمَانُ سَيْرِ الشَّمْسِ مِنْ أَجْلِهِ. وَثَانِيهُمَا: قَوْلُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَبَابِلَ، وَأَكْثَرِ قُدَمَاءِ عُلَمَاءِ الرُّومِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ: إن السبب فيه انتقال فلك البروج، وارتفاع قطبيه وانحطاطه، وحكى أَبْرِخْسَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ، وَذَكَرَ باربا الإسكنداني أَنَّ أَصْحَابَ الطَّلْسَمَاتِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّ قُطْبَ فَلَكِ الْبُرُوجِ يَتَقَدَّمُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَيَتَأَخَّرُ ثَمَانِ دَرَجَاتٍ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْتِدَاءَ الْحَرَكَةِ من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها:
أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ رَصَدَ الثَّوَابِتَ فَوَجَدَهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَاحِدَةً وَالْمُتَأَخِّرُونَ رَصَدُوهَا فَوَجَدُوهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَنِصْفًا، وَهَذَا تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْآلَاتِ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْمَهَرَةُ فِي الصِّنَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ازْدِيَادِ الْمَيْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْفَلَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي فَلَكٍ فَوْقَ أَفْلَاكِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَقَالُوا: شاهدنا لهذا الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ حَرَكَاتٍ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَاتِ هَذِهِ الثواب، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ سِوَى هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، يَدُورُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً وَاحِدَةً بِالتَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَاتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ قَدْ تَكْسِفُ تِلْكَ الثَّوَابِتَ، وَالْكَاسِفُ تَحْتَ الْمَكْسُوفِ، فَكُرَاتُ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دُونَ كُرَاتِ الثَّوَابِتِ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نسلم أن الكواكب لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا بَنَوْا عَلَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ دَلَائِلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ مِنْ كُرَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُرَاتِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ الْفَلَكُ الْمُمَثَّلُ وَأَنَّ هَذِهِ الْمُمَثَّلَةَ بَطِيئَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى وِفْقِ حَرَكَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الثَّوَابِتُ مَرْكُوزَةٌ فِي هَذِهِ الْمُمَثَّلَاتِ الْبَطِيئَةِ الْحَرَكَةِ، فَأَمَّا السَّيَّارَاتُ فَإِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْحَوَامِلِ الَّتِي هِيَ أَفْلَاكٌ خَارِجَةُ الْمَرْكَزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كُرَةٍ أُخْرَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كُرَتَانِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، وَالْأُخْرَى دُونَ كُرَةِ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ إِلَّا بِالثَّوَابِتِ الْوَاقِعَةِ فِي مَمَرِّ تِلْكَ السَّيَّارَاتِ، فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْمُقَارِبَةُ لِلْقُطْبَيْنِ فَإِنَّ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا تُكْسِفُهَا، فَالثَّوَابِتُ الَّتِي تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ هَبْ أَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، أَمَّا الَّتِي لَا تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ فَكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ دُونَ السَّيَّارَاتِ فَثَبْتَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ بَلِ احْتِمَالِيٌّ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ حَرَكَتُهُ أَسْرَعُ الْحَرَكَاتِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَرِيبًا مِنْ دَوْرَةٍ تَامَّةٍ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ.
وَأَمَّا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي تَحْتَهُ فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْبُطْءِ حَتَّى إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً عِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَعِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً دَرَجَةً، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ عَلَى عَكْسِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا لَمَّا رَصَدْنَا هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَجَدْنَا لَهَا حَرَكَةً عَلَى خِلَافِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَامَّةً، وَالْفَلَكَ الثَّامِنَ أَيْضًا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً إِلَّا بِمِقْدَارٍ نَحْوَ عُشْرِ ثَانِيَةٍ فَلَا جَرَمَ نَرَى حَرَكَةَ الْكَوَاكِبِ فِي الْحِسِّ مُخْتَلِفَةً عَنِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ فِي خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكواكب الثَّابِتَ يَرْجِعُ بِحَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ إِلَى خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، وَهُمْ مَا أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى إِبْطَالِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ بُرْهَانِيٌّ، أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ الثَّامِنِ لَوْ كَانَتْ إِلَى خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لَكَانَ حِينَمَا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ إِلَى جِهَةٍ إِمَّا أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ إِلَى خِلَافِ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ لَا يَتَحَرَّكُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمُقْتَضَى حَرَكَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَحَرِّكًا إِلَى جِهَتَيْنِ، وَالْحَرَكَةُ إِلَى جِهَتَيْنِ تَقْتَضِي الْحُصُولَ فِي الْجِهَتَيْنِ دُفْعَةً وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ لَزِمَ انْقِطَاعُ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ نِهَايَةَ الْحَرَكَةِ حَاصِلَةٌ لِلْفَلَكِ الْأَعْظَمِ، وَنِهَايَةَ السُّكُونِ حَاصِلَةٌ لِلْأَرْضِ، وَالْأَقْرَبُ إلى العقول أن يقال: كل مَا كَانَ أَقْرَبَ مِنَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ كَانَ أَسْرَعَ حَرَكَةً، وَكُلُّ مَا كَانَ أَبْعَدَ كَانَ أَبْطَأَ حَرَكَةً، فَفَلَكُ الثَّوَابِتِ أَقْرَبُ الْأَفْلَاكِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحَرَكَتَيْنِ إِلَّا بِقَدْرٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنِ اجْتِمَاعِ مَقَادِيرِ التَّفَاوُتِ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَلِيهِ فَلَكُ زُحَلَ فَإِنَّهُ أَبْطَأُ مِنْ فَلَكِ الثَّوَابِتِ فَلَا جَرَمَ كَانَ تَخَلُّفُهُ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّ مَقَادِيرَ التَّفَاوُتِ إِذَا اجْتَمَعَتْ بَلَغَتْ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً إِلَى تَمَامِ الدَّوْرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ كَانَ أَبْطَأَ حَرَكَةً، فَكَانَ تَفَاوُتُهُ أَكْثَرَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى فَلَكِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَبْطَأُ الْأَفْلَاكِ حَرَكَةً، فَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً، فَلَا جَرَمَ يُتَمِّمُ دَوْرَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْفَلَكِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ السُّكُونِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مُخْتَلٌّ ضَعِيفٌ وَالْعَقْلُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَفْلَاكِ
الْقَوْمُ وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُقْدِّمَتَيْنِ ظَنِّيَّتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حَرَكَاتِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ مُتَسَاوِيَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تُبْطِئُ مَرَّةً وَتُسْرِعُ أُخْرَى، وَلَيْسَ لَهَا رُجُوعٌ عَنْ مُتَوَجِّهَاتِهَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ بِذَاتِهَا بَلْ بِتَحَرُّكِ الْفَلَكِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مُقَدِّمَةً أُخْرَى فَقَالُوا: الْفَلَكُ الَّذِي يَحْمِلُ الْكَوَاكِبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكَزُهُ مَرْكَزَ الْأَرْضِ أَوْ لَا يَكُونَ، فإن كان مركزه مركز الأرض، فإما أن يكون الكواكب مَرْكُوزًا فِي ثِخَنِهِ أَوْ مَرْكُوزًا فِي جِرْمٍ مَرْكُوزٍ فِي ثِخَنِ ذَلِكَ الْفَلَكِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اسْتَحَالَ أَنْ يَخْتَلِفَ قُرْبُ الْكَوْكَبِ وَبُعْدُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْ يَخْتَلِفَ قَطْعُهُ لِلْقِسِيِّ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ وَالْأَعْرَاضُ الِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ، أَوْ حَرَكَةِ الْكَوْكَبِ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ الْبَتَّةَ، فَبَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون الكوكب مركوزا في جرم كري مُسْتَدِيرِ الْحَرَكَةِ، مَغْرُوزٍ فِي ثِخَنِ الْفَلَكِ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ، وَذَلِكَ الْجِرْمُ نُسَمِّيهِ بِالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِضُ بِسَبَبِ حَرَكَتِهِ اخْتِلَافُ حَالِ الْكَوْكَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ تَارَةً بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَتَارَةً بِالرُّجُوعِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَارَةً بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْمَنْظَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ لَيْسَ مَرْكَزُهُ مُوَافِقًا لِمَرْكَزِ الْأَرْضِ، فَهُوَ الْفَلَكُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ فِي أَحَدِ نِصْفَيْ فَلَكِ الْبُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الْفَلَكِ أَعْظَمَ مِنَ النِّصْفِ، وَفِي نِصْفِهِ الْآخَرِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ: الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الأرض، وأن يقطع أحد نصفي فلك الْبُرُوجِ فِي زَمَانٍ أَكْثَرَ مِنْ قَطْعِهِ النِّصْفَ الْآخَرَ، فَظَهَرَ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فِي صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَسُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، وَقُرْبِهَا وَبُعْدِهَا، مِنَ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، أَعْنِي التَّدْوِيرَ، وَالْفَلَكَ الْخَارِجَ الْمَرْكَزِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْصِيلِ قَوْلُهُمْ فِي الْأَفْلَاكِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْأَفْلَاكُ التِّسْعَةُ، مِنْهَا مَا هُوَ كُرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ، وَفَلَكُ الثَّوَابِتِ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى كُرَتَيْنِ، وَهُوَ فَلَكُ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْهُ فَلَكٌ آخَرُ مَرْكَزُهُ غَيْرُ مَرْكَزِ الْعَالَمِ، بِحَيْثُ يَتَمَاسُّ سَطْحَاهُمَا الْمُحَدَّبَانِ عَلَى نُقْطَةٍ تُسَمَّى الْأَوْجَ، وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ مِنَ الْفَلَكِ الْمُنْفَصِلِ، وَيَتَمَاسُّ سَطْحَاهُمَا الْمُقَعَّرَانِ عَلَى نُقْطَةٍ تُسَمَّى الْحَضِيضَ، وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ مِنْهُ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَكٌ وَاحِدٌ، مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَلَكٌ آخَرُ، إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: فَلَكَانِ، تَوَسُّعًا، وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ:
الْفَلَكَ الْمُمَثّلَ، وَالْمُنْفَصِلُ الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ فَلَكَ الْأَوْجِ، وَجِرْمُ الشَّمْسِ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحُهُ سَطْحَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ، وَهِيَ أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ وَالزُّهَرَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما فليكن مِثْلَ فَلَكِ الشَّمْسِ، وَفَلَكًا آخَرَ مَوْقِعُهُ مِنْ خَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ مَوْقِعِ جِرْمِ الشَّمْسِ مِنْ فَلَكِهِ وَيُسَمَّى: فَلَكَ/ التَّدْوِيرِ وَالْكَوْكَبُ مُغْرَقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَمَاسُّ سَطْحَهُ وَيُسَمَّى الْخَارِجُ الْمَرْكَزِ: الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهَا مَا يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعِ أُكَرَ وَهُوَ فَلَكُ عُطَارِدٍ وَالْقَمَرِ، أَمَّا عُطَارِدٌ فَإِنَّ له فليكن مِثْلَ فَلَكَيِ الشَّمْسِ وَيَنْفَصِلُ مِنَ الثَّانِي فَلَكٌ آخَرُ انْفِصَالَ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ عَنِ الْمُمَثَّلِ بِحَيْثُ يَقَعُ مَرْكَزُهُ خَارِجًا عَنِ الْمَرْكَزَيْنِ وَبُعْدُهُ عَنْ مَرْكَزِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ مِثْلُ نِصْفِ بُعْدِ مَا بَيْنَ مَرْكَزَيِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَالْمُمَثَّلِ وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ الْفَلَكَ الْمُدِيرَ وَالْمُنْفَصِلُ الْفَلَكَ الْحَامِلَ، وَمِنْهُ فَلَكُ التَّدْوِيرِ وَعُطَارِدٌ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْكُرَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ فَلَكَهُ يَنْقَسِمُ إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الْفَلَكُ الْمِثْلُ وَالصُّغْرَى الْفَلَكُ الْمَائِلُ وَيَنْقَسِمُ الْمَائِلُ إِلَى ثَلَاثِ أُكَرَ كَمَا فِي الْكَوَاكِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلُّ فَلَكٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَلَكٌ آخَرُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي عَرَفْتَهَا فِي فَلَكِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مِنَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ كُرَتَانِ مُخْتَلِفَتَا الثِّخَنِ يُسَمَّيَانِ مُتَمِّمَيْنِ لِذَلِكَ الْفَلَكِ الْمُنْفَصِلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ يَتَحَرَّكُ عَلَى مَرْكَزِهِ حَرَكَةً دَائِمَةً مُتَّصِلَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَالنَّاسُ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْكُرَاتِ بِنَاءً عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَحَّ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِيهَا .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَقَادِيرِ الْحَرَكَاتِ
قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ تَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ سِوَى الفلك الأعظم، والمدبر لِعُطَارِدٍ وَالْفَلَكِ الْمُمَثَّلِ وَالْمَائِلِ وَالْمُدِيرِ لِلْقَمَرِ فَالْحَرَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ تُسَمَّى: الْحَرَكَةَ إِلَى التَّوَالِي وَالْغَرْبِيَّةُ إِلَى خِلَافِ التَّوَالِي، وَالْفَلَكُ الْأَعْظَمُ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ دَوْرَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيِ الْعَالَمِ وَيُحَرِّكُ جَمِيعَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ يَقَعُ لِلْكَوَاكِبِ الطُّلُوعُ وَالْغُرُوبُ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الْأُولَى، وَفَلَكُ الثَّوَابِتِ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً بَطِيئَةً فِي كُلِّ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ دَرَجَةً وَاحِدَةً عَلَى قُطْبَيْنِ يُسَمَّيَانِ قُطْبَيْ فَلَكِ الْبُرُوجِ، وَهُمَا يَدُورَانِ حَوْلَ قُطْبَيِ الْعَالَمِ بِالْحَرَكَةِ الْأُولَى وَتَتَحَرَّكُ عَلَى وِفْقِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ جَمِيعُ الْأَفْلَاكِ الْمُتَحَرِّكَةِ، وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةِ تَنْتَقِلُ الْأَوْجَاتُ عَنْ مَوْضِعِهَا مِنْ فَلَكِ الْبُرُوجِ وَتُسَمَّى الْحَرَكَةَ الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت وَالثَّوَابِتُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ ثَوَابِتَ لِأَسْبَابٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا بَطِيئَةً لِأَنَّهَا بِإِزَاءِ السَّيَّارَةِ تُشْبِهُ السَّاكِنَةَ. وَثَانِيهَا: السَّيَّارَةُ تَتَحَرَّكُ إِلَيْهَا وَهِيَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَى السَّيَّارَةِ فَكَأَنَّ الثَّوَابِتَ ثَابِتَةٌ لِانْتِظَارِهَا. وَثَالِثُهَا: عُرُوضُهَا ثَابِتَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ لَا يَتَغَيَّرُ. وَرَابِعُهَا: أَبْعَادُ مَا بَيْنَهَا ثَابِتَةٌ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ لَا تَتَغَيَّرُ الصُّورَةُ الْمُتَوَهَّمَةُ عَلَيْهَا مِنَ الصُّوَرِ الثَّمَانِي وَالْأَرْبَعِينَ. وَخَامِسُهَا: الْأَزْمِنَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ عَوَامِّ الأمم منوطة بِطُلُوعِهَا وَأُفُولِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَفَاوَتُ إِلَّا فِي الْقُرُونِ وَالْأَحْقَابِ.
وَأَمَّا الْأَفْلَاكُ الْخَارِجَةُ الْمَرْكَزِ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ يَوْمٍ هَكَذَا: زُحَلُ (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزُّهَرَةُ (نط ج) عُطَارِدٌ (نط ح) وَالْقَمَرُ (يج يج مو) وَتُسَمَّى حَرَكَةَ الْمَرْكَزِ، وَحَرَكَةَ الْوَسَطِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ أَفْلَاكِ التَّدَاوِيرِ وَمَرْكَزِ الشَّمْسِ وَالْأَفْلَاكُ التَّدَاوِيرُ تَتَحَرَّكُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ زُحَلُ (نرح) الْمُشْتَرِي (ند ط) الْمِرِّيخُ (كرمب) الزُّهَرَةُ (لونط) عُطَارِدٌ (ج وكد) الْقَمَرُ (يج ج ند) وَتُسَمَّى: الْحَرَكَةَ الْخَاصَّةَ، وَحَرَكَةَ الِاخْتِلَافِ وَهِيَ حَرَكَاتُ مَرَاكِزِ الْكَوَاكِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يَعْرِضُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِلْقَمَرِ مَثَلًا أَبْعَادٌ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ وَالْأَنْوَاعُ الْمَضْبُوطَةُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَيُقَالُ لَهُ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ وَثَلَاثُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ بِالتَّقْرِيبِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَقْرَبُ لِلْأَبْعَدِ وَهُوَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ فَلَكِ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ لِلْأَقْرَبِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنْ فَلَكِ التَّدْوِيرِ وَمَرْكَزُ التَّدْوِيرِ عَلَى الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ مِنَ الْفَلَكِ الْخَارِجِ الْمَرْكَزِ وَهُوَ الْبُعْدُ الْأَبْعَدُ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ مَرَّةً مِثْلَ نِصْفِ قُطْرِ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ النُّقَطِ الْأَرْبَعَةِ الْأَحْوَالُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَا أَتَى عَلَى شَرْحِهَا أَبُو الرَّيْحَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْكَوَاكِبِ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّمْسِ ارْتِبَاطًا مَا، فَأَمَّا الْعُلْوِيَّةُ فَإِنَّ بُعْدَ مَرَاكِزِهَا عَنْ ذُرَى أَفْلَاكِ تَدَاوِيرِهَا أَبَدًا تَكُونُ بِمِقْدَارِ بُعْدِ مَرْكَزِ الشَّمْسِ عَنْ مَرَاكِزِ تَدَاوِيرِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُحْتَرِقَةً وَمَتَى كَانَتْ فِي الْحَضِيضِ كَانَتْ فِي مُقَابَلَتِهَا وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُقَابِلَةً لِلشَّمْسِ وَذَلِكَ يُقَارِنُ الشَّمْسَ فِي مُنْتَصَفِ الِاسْتِقَامَةِ وَيُقَابِلُهَا فِي مُنْتَصَفِ الرُّجُوعِ وَقِيلَ: إِنَّ نِصْفَ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِ الْمِرِّيخِ أَعْظَمُ مِنْ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ مُمَثَّلِ الشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ يَكُونُ بُعْدُ مَرْكَزِهِ عَنْ مَرْكَزِ الشَّمْسِ أَعْظَمَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُقَابِلًا لَهَا، وَأَمَّا السُّفْلِيَّاتُ فَإِنَّ مَرَاكِزَ أَفْلَاكِ تَدْوِيرِهَا أَبَدًا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلشَّمْسِ فَيَلْزَمُ أَنْ تُقَارِنَ الشَّمْسُ الذُّرْوَةَ وَالْحَضِيضَ فِي مُنْتَصَفَيِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالرُّجُوعُ غَايَةُ بُعْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ قُطْرِ فَلَكِ تَدْوِيرِهِمَا، وَهُوَ لِلزُّهَرَةِ (مه) وَلِعُطَارِدٍ (كه) بِالتَّقْرِيبِ وَأَمَّا الْقَمَرُ فَإِنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ أَبَدًا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ بُعْدِهِ الْأَبْعَدِ وَبَيْنَ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِبُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ عَنِ الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ الْبُعْدُ الْمُضَاعَفُ لِأَنَّهُ ضِعْفُ بُعْدِ مَرْكَزِ تَدْوِيرِهِ مِنَ الشَّمْسِ فَلَزِمَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ مَرْكَزُ تَدْوِيرِهِ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلشَّمْسِ أَوْ مُقَارِنًا لَهَا، وَمَتَى كَانَ فِي الْبُعْدِ الْأَقْرَبِ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي تَرْبِيعِهِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ وَاسْتِقْبَالُهُ فِي الْبُعْدِ الْأَبْعَدِ وَتَرْبِيعُهُ مَعَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْرَبِ.
 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

وبعد، فمعالجة الموضوع بهذا المنوال ، لا يفيد التفسير في شيء . فكفانا من التحجير على العباد . فلكل علم رجاله ، ولو كانوا غير مسلمين . وكلام الله هو كلام خالق الكون . والإنسان بنظرياته العلمية المختلفة يصيب ويخطئ ، وتبقى الحقيقة القرآنية فوق كل اعتبار .
إن وجود باحثين إسلاميين يواكبون العلوم المعاصرة ، ويترجمون النظريات العلمية ويقارنونها بالحقائق القرآنية اجتهادا ، لا يضر التفسير في شيء .
فكيف نصف النظريات العلمية بالإسرائيليات المعاصرة في زمن العلم للجميع .
من قبل كان اليهود والنصارى يوصفون بأهل الكتاب ، في الوقت الذي كان فيه العرب آنذاك من الأميين حيث لا يمتلكون كتابا سماويا . أما الآن ونحن في عصر العلم ونمتلك كتابا سماويا مهيمنا على جميع الكتب السماوية ، فلا حجة لأحد أن يتخلف عن الركب ، بواسطة الريادة والمشاركة والمواكبة والنقد العلمي المبني على الحقائق القرآنية الثابتة والشاهدة والفارقة بين الحق والباطل . يقول الله تعالى : {... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد:17]
 
معالجة الموضوع بهذا المنوال ، لا يفيد التفسير في شيء . فكفانا من التحجير على العباد . فلكل علم رجاله ، ولو كانوا غير مسلمين . وكلام الله هو كلام خالق الكون .
إن وجود باحثين إسلاميين يواكبون العلوم المعاصرة ، ويترجمون النظريات العلمية ويقارنونها بالحقائق القرآنية اجتهادا ، لا يضر التفسير في شيء . فكيف نصف النظريات العلمية بالإسرائيليات المعاصرة في زمن العلم للجميع
بوركت الأنامل التى سطرت هذا الكلام
وما أحكم وأصدق قولك : كلام الله هو كلام خالق الكون
ويبدو أن الكثيرين ينسون ذلك أو يتجاهلونه أو لا يفكرون فيه أصلاً وفيما يلزم عنه من نتائج
جزاك الله خيرا أخانا عبد الكريم وزاد من الحكماء من أمثالك
 
اسرائيليات العصر هي ما ثبت بالدليل القاطع فمن ينكر كروية الارض او حركتها ؟؟
لقد اورد الاخ الكريم من كلام الفخر الرازي رحمه الله طوام علمية بينة الخلل وخاطئة الفهم قطعا فهل نقدمها على حقائق علمية ؟؟
فالفخر الرازي ينكر مثلا دوران الارض وحركتها بناءا على تحليل عقلي وليس بناءا على معطيات علمية ثم يأتي من يطالب بنقض الحقائق العلمية المشاهدة والركون للتحليلات العقلية الظنية ، ويأتي ليقول آلات وادوات التفسير ، اذا كان هذا المنهج من ادوات التفسير فلاحاجة لنا به

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ فِرَاشًا مَشْرُوطٌ بِأُمُورٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا سَاكِنَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ حَرَكَتُهَا إِمَّا بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ بِالِاسْتِدَارَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالِاسْتِقَامَةِ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَنْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَاوِيَةٌ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هَاوٍ، وَالْأَرْضُ أَثْقَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا وَالْأَبْطَأُ لَا يَلْحَقُ الْأَسْرَعَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هَاوِيَةً لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا بِالِاسْتِدَارَةِ لَمْ يَكْمُلِ انْتِفَاعُنَا بِهَا،

المصدر: http://vb.tafsir.net/tafsir33493/#ixzz2B43jEmv3

اما جملة ما ورد للفخر الرازي رحمه الله فأقل ما يوصف به انه كلام فارغ
 
الأستاذ أبو عبد المعز
الإخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله

أعجبنا هذا الطرح في مسألة "التفسير العلمي للقرآن" من الأستاذ (أبو عبد المعز) رغم قسوته، وسبب الإعجاب أن الطرح جديد نوعياً، إلا أننا لا ندعم ما جاء فيه، ولنا رأي يخاصم رأي صاحبه. وربما يتبدل رأيه إذا علم أن "التفسير العلمي للقرآن " ليس دائماً كما ظن، من أنه وحيد الاتجاه، من العلم الحديث إلى القرآن! بل أنه يجب أن يكون ثنائي الاتجاه، وهذا ما نحاول الدعوة إليه من خلال مدونتنا التي جاءت مقدمتها لتأتم بمنهجية علمية مقترحة في مسألة "التفسير العلمي لآيات القرآن" ، جاء نصها كالآتي:

[هناك علاقة وثيقة بين القرآن والعلم. ونقصد بالعلم كل علم موافق للمعلوم نافي للجهالة. وحيثما يتوفر في العلوم الحديثة هذان الشرطان، فالقرآن يدعمه ويحض عليه، بل ويستشهد به على أنه كتاب الله الحق. ولا يعني توثيق العلاقة بين القرآن والعلم الحديث الدعم الكامل لكل مقولات العلوم الحديثة بالقرآن، ووضعها في منزلة تضاهي كتاب الله تعالى. فهذا منطق الأتباع والمريدين الذين يدورون في فلك الغرب، ويتخذونهم وأعمالهم شركاء لله. تعالى الله عن ذلك وتجلّى في عليائه. بل المقصود العلم ذاته، سواء وافقته المقولات الغربية أو لم توافقه. وهذا يعني أن الأعمال العلمية للغربيين ستوضع تحت الاختبار، ولن تقارن بنصوص كلام الله تعالى، بل بتأويل كلامه سبحانه على ما يمكن فهمه بأدوات الاجتهاد المعتبرة. ومعنى ذلك أن المقابلة ستكون بين المفهوم من كلام الله تعالى والمفهوم من ظواهر واقعية. أو بمعنى آخر: بين استنطاق كلام الله بلغة بشرية تفسيرية، واستنطاق الظواهر الواقعية بلغة بشرية تفسيرية، حتى ولو شملت الرياضيات. ومن ثم يكون وجهي المقابلة بشريين. وما من حرج عندئذ يتحرج منه المؤمنون. أما كلام الله تعالى فلا يقابل إلا مع خلقه سبحانه على ما أبدعه الله. ومن ثم يكون وجهي المقابلة في شأن الله عزَّ وجل: كلامه العلي، وخلقه البهي.]
ورابط المدونة هو: kazaaber.blogspot.com

ونرى أن تعميم الأحكام (ومنها الحكم المجمل الذي أطلقه الأستاذ أبو عبد المعز) شديد الخطورة. والأصوب في رأيي أن ندعم المعالجة العلمية التي تتصدى لعيون المسائل، وذلك لأن التعميم يطمس الفروق الدقيقة بين المسائل المختلفة، فتخرج الأحكام مجملة! فتجرف في طريقها الحق فيضيع في عبثيات الباطل، أو تطوى الباطل تحت جناح الحق، فيلتبسا معاً دون أن يدري أصحاب الحق أنهم يدعون إلى باطل مع حقهم الظاهر. ومعلوم أن القرآن فرقان، أي أن منهجيته التي يجب أن يتمثلها المؤمنون به أن يفرقوا دائما بين الحق والباطل، وعلى كل المستويات، العموم والخصوص، ولا يتقدم أحدهما على الآخر، ويجب أن يتحققا جميعاً. ومعلوم أيضاً أنه من أرقى تعريفات العلم المعتبرة أنه [التفريق بين المختلفات والجمع بين المتشابهات]، وليس هناك من مختلفات عند المؤمن أشد أهمية في التمييز بينهما من الحق والباطل.

لذلك، جاءت معالجتنا للمسائل العلمية التي تناولناها في مدونتنا – حتى الآن – مسألة مسألة، وقد غلب عليها روح النقد البناء، وكشف الباطل في الدعاوى التي تتناول القرآن وتفسيره الإعجازي على الخصوص.

لذا، يهمنا سماع رأي الأستاذ (أبو عبد المعز) في [معالجة موضوع التفسير العلمي للقرآن على مستوى المسائل، وفي إطار المنهجية الذي اقترحناها أعلى]، ومن ثم إعادة نظره في طرحه القاسي على (التفسير العلمي للقرآن)

عزالدين كزابر
 
النظر للموضوع من هذه الزاوية مفيد حقا ، وكنت أوردته في لقاء مع الأستاذ الدكتور زغلول النجار وفقه الله فسخر مني حينها ، فقلتُ له : ما الذي يثبت لي ولأمثالي صحة هذه النظريات التي تذكرون في الفلك وفي الجيولوجيا وغيرها والتحقق من ذلك صعبٌ جدا على جمهورنا . فقال : ألا تثق بكلامي في هذا ؟ فقلتُ : هذه مسألة فلكية وأنا أعرف أنك متخصص في الجيولوجيا ، فغضب حفظه الله ، وتجاهل السؤال ، وأخذنا في الحديث عن موضوعات أخرى .
شيخنا الكريم هل هذا اللقاء مسجّل ؟.
 
سنبدأ هذا البحث –على خلاف معتاد الكاتبين-بذكر خاتمته أوثمرته،مراعاة للمتعجلين من القارئين ,وأما الذين لا تضيق صدورهم بالاسترسال في القراءة ،فلهم أن يحسبوا هذه الخاتمة انتصابا لدعاوى يتحسسون لها الأدلة في ثنايا البحث..
هي ثلاث حقائق جلية:
-فأما الأولى فعن الوضع الابستملوجي للعلم الطبيعي..حيث يترسم العلم غير قابل للانفصال عن"النسبية" أو"الاحتمال" أو"اللاتعين"...وهذه الحالات الثلاث هي أكثر من صفات، هي مقومات العلم وحدوده..فادعاء العلم الحقيقة المطلقة -مثلا -يرفع عنه صبغة العلم ليصبح دينا أو ميتافزيقا..وهذا الشرط لا يفرضه المناوؤون للعلم من الخارج، وإنما عليه إجماع المشتغلين بالعلم أنفسهم من داخل مختبراتهم.
-وأما الثانية فعن القرآن الذي لا يأتيه الباطل، المنزل من لدن من لا يبدل عنده القول..وهذه لا تحتاج إلى ذكر أو تذكير...
-وأما الثالثة فهي بديهية ،فلا يمكن ربط النسبي بالمطلق ولا تفسير الثابت بالمتحرك..لما يترتب عن ذلك من تناقض وانقلاب في الطبائع..فلو زعمت أن هذا "الكشف" العلمي يفسر تلك الآية القرآنية فإن اللازم هو انهيار الحقيقتين، الأولى والثانية:
-لأن الكشف العلمي حينئذ سيضحى حقيقة مطلقة ثابتة إلى الأبد (فهو الآن معنى الآية)..وهذا لا يدعيه أحد حتى أصحاب الغلو في تقدير العلم..
-لأن التطور العلمي، الذي هو ضربة لازب، سينشأ عنه تعاقب التفسيرات المختلفة والمتضادة على الموضع الواحد في القرآن، فيأتي الباطل حتما!
وحاصل هذه الحقائق الثلاث أنه لا فرح بما يسمى التفسير العلمي...!!
فإن كان لا بد فليكن على سبيل الاستئناس والتحديث عن "بني إسرائيل" الذي لا حرج فيه.. أما جعل المعنى العلمي تعيينا للدلالة القرآنية، أو ترجيحا لها، أو تأسيسا لها، فهذا تصديق أو تكذيب لتلك الروايات، وقد نهينا شرعا عن ذلك!!
هذا والأمر يتعلق فقط ب"التفسير العلمي" ، أما "الإعجاز العلمي " فهو كما ترى!!!
 
السلام عليكم
والحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد:
أرجوا الله أن توافقونى على مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل لأهميته الكبرى.
و أقترح البدء في تعريف المصطلحات التي بين أيدينا و الاتفاق بيننا على معناها و استعمالاتها من مصادر الشريعة : القرآن و السنة و الإجماع. , وأرجوا الله أن يقدم كل منا ما يفهم عن ما يلي :
أولاً : ما هو المصطلح ؟
ثانياً: ما هو العلم ؟
ثالثاً : ما هو الإعجاز ؟
رابعاً : ...... أضف ما عندك
 
التشبيه هنا قياسي فقط ويفيد التشابه بين طريقة استعمال المفسرين للاسرائيليات وطريقة استخدام الاعجازوعلميين للمقولات العلمية. من هذه الناحية (إسرائيليات العصر) مصطلح تم إختياره بدقة. وإذا اخترنا الموقف الايجابي من الاسرائيليات وهو جواز التأويل بالإسرائيليات ما لم تتعارض مع الإسلاميات، فإنا هنا بصدد (التأويل العلمي الحديث للآيات الكونية القرآنية ) وليس (التأويل العلمي الحديث للقرآن) فضلا عن (الإعجاز العلمي)!!
أولاً : ما هو المصطلح ؟
ثانياً: ما هو العلم ؟
ثالثاً : ما هو الإعجاز ؟
رابعاً : ...... أضف ما عندك
المصطلح إسم وضعي يوضع بهدف إصلاح وتحسين التواصل داخل إصدار معرفي معين وكذلك بين المشتغلين والباحثين في هذه المنظومة المعرفية.
العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه حسب قدرة وطاقة العارف بهذا الشيء الموضوع للدراسة.
والإعجاز إثبات عجز الآخر من خلال طلب تتقدم به إليه.
والإعجازوعلمية مذهب إعجازي في تأويل آيات قرآنية كونية بمقولات وبيانات علمية حديثة، وهو المذهب الذي يعتنقه على سبيل المثال الزغلوليين و الزندانيين.
 
يخلط كثير من الناس بين "الخطاب العلمي"و "الخطاب التمجيدي للعلم" مع ملاحظة أن أكثر من اصطنع التفسير العلمي وتحمس له هم أصحاب الخطاب "التمجيدي"
والفرق بين الخطابين واضح جدا بحيث لا يمكن للمرء أن يلتبس عليه هوية المشتغلين بكل خطاب أو يخلط بين ذرائعهم ومقاصدهم المتباينة أو بين أساليبهم واصطلاحهم في نسج الخطاب :
-فالخطاب الأول يصنعه العلماء
والخطاب الثاني يصنعه الأدباء
-أسلوب الخطاب العلمي يتحرى الدقة ويستعمل جملا عند حدود درجة الصفر في الكتابة .
أما أسلوب التمجيد فيزخر بالاستعارات والصور المجازية ويتجه نحو التضخيم واستعمال صيغ التفضيل( ومازلنا نذكر تلك العبارات التي كانوا يلقنونها لنا في الصفوف الأولى من التعليم الابتدائي:
"بالعلم غزونا الفضاء"،"بالعلم أجرينا الماء في الصحراء")
-الخطاب العلمي علمي محايد..
الخطاب التمجيدي إيديولوجي ذو مآرب
ومن مآربه الخطيرة الاصطياد للثقافة الغربية باستخدام طعم العلم ..وقد وقع بالفعل ما كان أبو حامد الغزالي رحمه الله يحذر منه في سياق يكاد يكون شبيها ..قال في المنقذ من الضلال بعد أن قسم علوم الفلاسفة:
"أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق منه شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاًِ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان: الأولى: من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجورهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر ولا مستند له سواه".
وهذا ما حدث فعلا في نهضتنا (المزعومة أو المجهضة..)فلتلميع صورة الغرب كان يوظف العلم ،ولكنهم لا يأخذون منهم العلم، بل يأخذون غيره من الأخلاق والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ...
فهاهو العلم للاستدراج ...
وهنا تلحظ بالضبط الفرق بين اليابانيين والعرب فقد ذهبت البعثات الطلابية من الفريقين إلى أوروبا في وقت واحد فعاد اليابانيون بالعلم وعاد العرب بالتمجيد!!
عاد الطالب الياباني بشهادة في صناعة السفن، وعاد الطالب المصري بدكتوراه في الحقوق أو في الأدب العربي !!
والناتج كما ترى!!
وقد صاغ هذا الخطاب التمجيدي طائفة من الصحفيين والكتاب، أغلبهم من نصارى الشام ومصر، مثل فرح أنطون وسلامة موسى وجرجي زيدان وغيرهم..فأسسوا صحفا ومجلات يعلمون النشأ تمجيد العلم دون أن يعلموه حرفا واحدا من أبجدية العلم..
ثم امتدت عدوى تمجيد العلم إلى الشعراء أنفسهم -وهم أبعد الناس عن الخطاب العلمي-فكنت ترى شاعرا من حجم أحمد شوقي أومعروف الرصافي أو فوزي المعلوف ...يدبجون قصائد -لا حس فيها- ويعتقدون أن دخولهم العصر رهين بوصف القاطرة والطائرة والباخرة فجاؤوا بكلام غث أحسن منه بكثير وصف الأعشى لناقته والفرزدق لذئبه..!
ولعلك تستغرب إذا قارنت بين شعراء الغرب وشعراء العرب..فالغربيون كانوا يتوجسون من العلم ومن مصنوعاته وكان رد فعلهم مذاهب أدبية معادية للعلم وأكثر إنسانية وعاطفية كالرومنتيكية والرمزية والسوريالية، أما العرب فاستقبلوا ما أخاف الغربيين بكل ابتهاج وحبور..فكان الشاعر منهم يصف القاطرة بفرح يكاد يكون صبيانيا..!والسر في هذا الاختلاف هو المناخ الثقافي الذي يتنفس فيه كل فريق:
فالغربيون يتنفسون خطاب العلم
والشرقيون يتنفسون خطاب تمجيد العلم ...
ومن هذا المناخ هبت رياح، وكانت وجهتها القرآن!
 
يمكن التمييز بين الأديب والعالم في الممارسة التطبيقية للعلم أما في الإصدار العلمي فلا يكاد الفرق يظهر لأن الغالب المستحوذ هو التصادم بمذهب فلسفي من المذاهب، وهذا واضح مثلا في التعريفات الموضوعه للعلم حيث ترى الفرق في التعريفات بين تعريف وصفي يستخدم مادة العلم (الطبيعة مثلا) والمنهج، ثم تعريف وصفي يستخدم المنهج دون مادة هذا العلم، وتعريف نقدي، وتعريف أدبي، وتعريف فلسفي علمي .. أعتقد أن فريدمان، حاصل على نوبل في الفيزياء، هو من قال أن العلم إيمان - أي تسليم - العوام بجهل العلماء.

ما يسمى بالإعجاز العلمي فيه سلبيات وإيجابيات ومن بعض إيجابياته المهمة جدا بعد تعديل المصطلح إلى (التأويل العلمي للآيات الكونية القرآنية) أنه يقف على الطرف النقيض لتاريخية وتاريخانية القرآن. ولكن لابد من ضبط هذا المبحث لتقليص وتحديد السلبيات.
 
ما يسمى بالإعجاز العلمي فيه سلبيات وإيجابيات ومن بعض إيجابياته المهمة جدا بعد تعديل المصطلح إلى (التأويل العلمي للآيات الكونية القرآنية) أنه يقف على الطرف النقيض لتاريخية وتاريخانية القرآن.
لننظر إلى كلام المرحوم الجابري محمد عابد في هذا الموضوع لتتضح الفكرة أكثر:
القرآن والعلوم الكونية

نسمع بين حين وآخر عن صدور بحث أو كتاب في موضوع "القرآن والعلوم الكونية" يضاف إلى سلسلة الكتب التي أخذت تظهر بين حين وآخر منذ القرن التاسع عشر والتي كان أشهرها وأعمها تفسير طنطاوي جوهري. ولا شك أن مقصود هؤلاء المؤلفين مقصود لا تشوبه شائبة إذ يهدفون إلى إبراز شمولية القرآن الكريم ببيان أنه سبق إلى الكشف، أو على الأقل إلى الإشارة، إلى كثير من الحقائق التي لم يستطع العلم الوصول إليها إلا حديثا، مما يشكل مظهرا جديدا من مظاهر إعجازه.

ومع نبل هذا المقصد وشرفه فالمسألة في تقديري فيها نظر، وهذه بعض من وجوهه :

1- أن يقوم علماء الغرب بالكشف عن حقيقة علمية، في الأرض أو في السماء، انطلاقا من مبادئ فكرية وفرضيات منهجية لا علاقة لها إطلاقا لا بالقرآن ولا بالدين، أي دين -ومنهم من لا يؤمن بالله أو على الأقل لا ينطلق من إيمانه الديني في عملية البحث العلمي- أقول أن يكتشف علماء الغرب حقائق علمية ثم يأتي أحدنا، نحن الذين لم نكتشف شيئا، ويقول : هذا "موجود" عندنا في القرآن الكريم، ثم يعمد إلى تأويل آيات وألفاظ في القرآن بالصورة التي تخدم غرضه وبطريقة لا تخلو في أغلب الأحيان من تعسف، ضاربا صفحا عن آيات أخرى يخالف ظاهرها ما يريد أن يثبته بالتأويل - أعود فأقول أن يفعل أحدنا هذا وأكثر، فهذا ما لا يخدم أية قضية من قضايانا، وهذا ما لسنا في حاجة إلى تكلفه؛ بل قد ينقلب الأمر علينا فيسألنا سائل ممن له قضية تناقض قضيتنا قائلا: "وأين كنتم؟ ولماذا لم تزيلوا الستار عن هذه الحقائق العلمية وهي لديكم في كتابكم كما تزعمون؟"، إلى غير ذلك من الاعتراضات والإحراجات التي تزرع الشكوك، والتي نحن أصلا في غنى عنها، لأن قضيتنا أصلا في غنى عن تأييد أو عدم تأييد "الحقائق" العلمية لكتابنا المقدس.

2- وهذا يقودنا إلى وجه آخر من وجوه النظر في هذه المسألة: ذلك أن الحقائق العلمية، هي دائما وأبدا، حقائق نسبية، وفي الغالب مؤقتة، لأن العلم ينمو ويتجدد ويتجاوز نفسه باستمرار، بحيث أن كل حقيقة يكتشفها هي معرضة أصلا لأن يتجاوزها اكتشاف علمي آخر يجعل منها نظرية باطلة أو "حقيقة" لم تعد نافعة ولا مفيدة لكون العلم لم يعد في حاجة إليها. وإذن فربط آية من آي الذكر الحكيم بكشف من الكشوف العلمية ينطوي على مجازفة خطيرة، لأنه لا أحد يضمن أن هذا الكشف العلمي سيظل يشكل بالنسبة إلى العلم والعلماء حقيقة علمية، حتى ولو كان واضحا وضوح النهار، ذلك لأن العلم لا يحترم وجهة النظر البيانية القائلة : "وهل يحتاج النهار إلى دليل؟". إن الشغل الشاغل للعلم هو إقامة الدليل باستمرار على أن "النهار" هو بالفعل "نهار"!

3- ونتأدى من هنا إلى وجه آخر من وجوه النظر في هذه المسألة: ذلك أن القرآن "بيان للناس". والناس الذين خاطبهم القرآن بلغتهم هم عرب الجزيرة العربية، وقد خاطبهم بطريقتهم البيانية وعلى معهودهم وقدرتهم على الفهم والمعرفة فلفت نظرهم إلى ظواهر الكون التي تَبِين بنفسها لمن تبَيَّن: لفت نظرهم "إلى الأرض كيف سطحت" كما تبدو في شكلها الظاهري للعين المجردة، والتي يراها الإنسان مسطحة سواء كان واقفا أو ماشيا أو راكبا دابة، متجها شمالا أو جنوبا، شرقا أو غربا، طال به السفر أو قصر. ولفت نظرهم إلى حركة الشمس الظاهرة، أي كما تبدو لهم كل يوم وهي "تجري لمستقر لها" وهو مكان غروبها حيث تبدو وكأنها قد استقرت بعد أن غربت... مثل هذا الفهم البياني الذي هو من نوع "وهل يحتاج النهار إلى دليل؟" هو الأنسب، لأنه في متناول الإنسان مهما كانت درجة تطوره الفكري، إنه فهم يقوم على المشاهدة الظاهرية للشيء، وهو يفي بالغرض، في هذا الموضوع، غرض "الاعتبار" والانتقال من المشاهدة إلى طرح السؤال المطلوب. والسؤال المطلوب هنا ليس من قبيل "كيف يحدث هذا النظام الكوني؟"، بل السؤال المطلوب هو : "من خلق هذا؟".

وإذن، فالعمل الذي يقوم به المؤلفون المحدثون في موضوع "القرآن والعلوم الكونية"، والذي يعتمد كما قلنا على تأويلات وأحيانا على تحليلات غير ناجحة في الغالب، هو عمل فيه تكلف كبير ومظنة لإثارة الشكوك. نعم أنا أستثني من ذلك ما قام به طنطاوي جوهري في تفسيره، لأن الدافع الأساسي الذي كان وراء تفسيره القرآن بتوظيف العلوم الطبيعية إلى أبعد حد –كما كانت متداولة في عهده- هو في ما أعتقد دافع آخر مختلف تماما، ومشروع تماما، وكانت نهضة المسلمين في حاجة إليه. لقد كان الرأي السائد آنذاك عند الجمهور وعند كثير من الفقهاء أن الاشتغال بالعلوم الطبيعية حرام. وهذا رأي كرسه الغزالي بكتابه "تهافت الفلاسفة". وبما أن "العلم الطبيعي" الذي أفتى الغزالي بتحريم بعض مسائله هو "العلم" الذي كان يوظفه الباطنيون (الإسماعيليون) في إثبات عقائدهم المخالفة لعقائد أهل السنة، والمبتعدة كثيرا عن منطوق القرآن ومفهومه البياني ابتعادها عن معهود العرب، وبما أن هذا "العلم" قد بقي هو كل ما يعرفه الفقهاء، فقد ظلوا ينظرون إلى العلوم الطبيعية الحديثة، بل إلى كل علم لا يدخل في دائرة علوم الدين وعلوم اللغة، نظرة ملؤها الحذر والحيطة، وبالتالي نهوا الناس عن الاشتغال بها. ومن هنا قام طنطاوي جوهري بتفسير "جديد" للقرآن الكريم مبينا أن العلوم الطبيعية الحديثة تختلف في طبيعتها ومقاصدها عما كان يتصوره الفقهاء من كونها قد تجر إلى "الكفر"، وأنها بالعكس من ذلك تشهد بصدق القرآن، والقرآن يشهد بصحتها. ومن السهل بعد هذا استنتاج ما كان يرمي إليه طنطاوي وهو أن تعلمها واجب ضروري، خصوصا وهي قد أصبحت سبيلا لاكتساب القوة والمنعة. كان هدف طنطاوي جوهري خدمة قضية كانت مطروحة في عصره. وقد نجح هو وأمثاله في إقناع من لم يكن مقتنعا بأن تعلم العلوم الطبيعية ليس مباحا فحسب بل هو فرض في العصر الحاضر. وبما أن هذه القضية أصبحت الآن منتهية فالمحاولات والاجتهادات في موضوع "القرآن والعلوم الكونية" قد صارت اليوم غير ذات موضوع.

أما أن يكون المؤلفون المعاصرون يهدفون إلى إثبات أن "العلم" يزكي القرآن، فهذا ما لسنا في حاجة إليه، ولا كان القرآن في يوم من الأيام في حاجة إليه. إنها عملية إيديولوجية، إذا قبلناها وسلمنا بفائدتها، كان علينا أن نقبل توظيفا إيديولوجيا مماثلا للقرآن الكريم عرفه التاريخ الإسلامي، وهو التأويل الإسماعيلي. وكما هو معروف فالمذهب الإسماعيلي يقوم كله على تأويل القرآن وفق،"الحقائق العلمية" التي كانت سائدة في ذلك العصر (القرون الثالث والرابع والخامس الهجري ) "حقائق" الفلسفة الدينية الهرمسية. لقد بنوا عقيدتهم على "حقائق" يحكم العلم اليوم ببطلانها ثم عملوا على تأويل القرآن بالشكل الذي يزكي تلك الحقائق ثم قلبوا الأمر فقالوا إن مذهبهم هو وحده الصحيح لأنه "يشهد" له القرآن و"العلم" معا.

وقد رد أهل السنة عليهم ردودا... منها رد الغزالي المشار إليه. غير أن معظم تلك الردود كانت تستند إلى حجج "كلامية" وتعتمد أساليب المتكلمين، أساليب الجدل، وهي أساليب لا تحسم الموقف، وكل ما تستطيع فعله هو إثارة الشكوك في دعاوى الخصم بإفساد حججه. أما الرد الحاسم والقول الفصل، في نظري، فقد جاء في إطار محاولة جريئة ترمي حسب قول صاحبها إلى "تأصيل الأصول"، محاولة الفقيه الأصولي أبي اسحاق الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790 هـ الذي دعا إلى بناء أصول الشريعة على مقاصدها. فالشارع (الله) وضع الشريعة بقصد أن يفهمها الناس الذين خاطبتهم فجعلها على قدر أفهامهم. وبما أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا أمة أمية - يقول الشاطبي - فإن "هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح"، أي أن "الشريعة التي بُعث بها النبي الأمي عليه السلام إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما" هي "على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية" وهو"معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلافُ ما وقع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذن أمية".

ثم يمضي الشاطبي في استعراض علوم العرب في الجاهلية ومنها "علم النجوم وما يختص به من الاهتداء في البر والبحر"، و"علم الأنواء وأوقات نزول المطر" الخ، ليقرر أن العلوم التي يجب أن يفهم بها القرآن هي هذه العلوم التي كانت لدى العرب والتي خاطبهم القرآن في إطارها فأقر بعضها وأبطل بعضها الآخر (كالكهانة والسحر)... ثم يتعرض للحديث عن أناس "تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم (= الرياضيات ) والمنطق" ويقول: "وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح"، أي إذا نظرنا إليه من منظور مقاصد الشرع وجدناه عملا لا يدخل في إطارها وبالتالي فهو تجاوز على ا لقرآن.

وبعد ألا يصدق هذا على عمل معاصرينا من مؤلفي الكتب في موضوع "القرآن والعلوم الكونية"؟

سؤال نطرحه للتأمل.
 
ثم كان هناك تخليط آخر بين العلم والتقانة (التكنولوجيا) ،فجعلوا الإنجازات التقنية والاختراعات المادية هي العلم نفسه ،ومن ثم لم يكونوا ليستسيغوا التشكيك في العلم ،أو جعله تحت المساءلة النقدية، مادام يوفر الدواء والغذاء والمركوب والملبوس..مع أن أجدادنا القدامى كانوا على وعي بالفروق، فسموا التقانة "علم الحيل" وميزوه اسما وموضوعا عن "علم الهيئة"(الفزياء) مثلا.
صحيح إن التقانة مرتبطة بالعلم على اعتبار أن النظرية العلمية قد توجه التقني إلى اختراع مادي-وليس دائما- ولكن يبقى الفرق شاسعا بينهما في منظور فقه العلم...
فالتقانة فن تسخير
والعلم نظرية تفسير
وشتان بين الأمرين...لكن القوم خلطوا بينهما، ونسبوا ما تحقق للناس من دعة ورفاهية بفضل الوسائل والمخترعات إلى العلم، مع أنها من "التقانة".. ونتذكر مرة أخرى ذلك التمجيد الصبياني:
"بالعلم غزونا الفضاء"،"بالعلم أجرينا الماء في الصحراء"
فنرى الخطأ المزدوج: الخطأ الإديولوجي في التمجيد، والخطأ المعرفي في الخلط بين التقانة والعلم..
ومما يزيل الخلط بين المفهومين كلية أن التقانة عند المساءلة النقدية تحاسب بمعيار" النفع والضرر"..أما العلم فيحاسب بمعيار "الحق والباطل"
فالأمصال والسيارات والقنابل الذرية والنيلون والمصابيح الكهربائية ليست حقا ولا باطلا وإنما هي ضارة أو نافعة..والذين يقولون إن العلم الحديث خرب العالم بالتلوث وأسلحة الدمار هم أيضا مخطؤون، فهذه مسؤولية التقانة، أما العلم فوظيفته تنحصر في تفسير العالم، فيقدم نظريات عن نشأة الكون، وأصل الأرض ،وبنية المادة، ومستقبل السماوات ..وهذه النظريات تمحص بمعيار الحقيقة والبطلان لا غير...
وعندما نعترض أو نتحفظ على التفسير العلمي للقرآن فإننا نقصد هذا المعنى وحده...لا سيما وأن القرآن له تفسيره الخاص لتلك الظواهر الكونية فلا نقبل أن يزاحمه الخطاب العلمي، ولا نقبل أن تؤول حقائق القرآن وفق قواعد الخطاب العلمي..إلا إذا كنا نرى أن الخطاب العلمي أرقى من الوحي ودون ذلك خرط القتاد!
 
نلخص التنبيهين السابقين لأهميتهما:
-تمجيد العلم ليس علما بل إديولوجيا..فلا مناص من طرح هذا التمجيد ليتم مساءلة العلم ونقده في حجمه الحقيقي.
-الانبهار بالتقانة وملاحظة دقتها و"ملموسيتها"وفعاليتها في إنجاز وظائفها لا يؤخذ منها حكم عن صدق العلم أو كذبه من جهة الابستملوجيا ،ومن جهة الشرع توكل التقانة إلى الفقه وأصوله ليتم تكييفها الشرعي في باب المصالح المرسلة فيقبل منها ويرد بحسب سلم النفع والضرر..وهذه التقانة لا علاقة لها بتفسير القرآن إلا ما يزعم بعضهم من إعجاز علمي في مطابقة الآيات لبعض المخترعات العصرية..
أما العلم المفسِّر للكون فيوكل لتمحيصه إلى قواعد الشرع العامة (عقدية ومنهجية..) وإلى قواعد التفسير الخاصة ...ومقصدنا من هذه البحوث أن نثبت أن النظريات العلمية العامة مجرد ظنون...فيترتب عنه نسف ما يسمى الإعجاز العلمي لأن الإعجاز الذي هو دليل القرآن للمرتابين فيه لا يمكن أن يستند إلى مرجعية من الظن.ويبقى بعد ذلك تفسير الآية علميا مثل أي تفسير بلاغي أو فقهي يقبل أو يرد بحسب رجحان الظن أو مرجوحيته..مع فرق واضح في كون البلاغة والفقه داخلة في مجالنا التداولي فنحن أعلم بخفاياها وأسرارها وأقدر على التمييز فيها بين ما يمج وما يستساغ..لكن العلم الطبيعي في نظرياته العصرية خارج عن مجالنا التداولي ونحن منه في مقام التقليد لذلك سميناه "إسرائيليات العصر" باعتبار عدم القدرة على التأكد من صحتها -في ذاتها أولا وبالنسبة إلينا ثانيا-فلا نصدق ولا نكذب كما علمنا المنهج النبوي .
 
[FONT=&quot]هناك خلط ثالث بين خطاب في" التفسير العلمي" وخطاب في "الإعجاز العلمي" ،وعدم التمييز بينهما يفضي حتما إلى كثير من المغالطات.ومنشأ الخلط- فيما نراه- الانخداع باتحاد الموضوع ،أواقتران الخطابين على قاعدة السببية:فالتفسير العلمي يفضي إلى ادعاء الإعجاز العلمي.لكن المعتبرفي "أصول العلم" المنهجُ لا الموضوع، ولهم هنا قاعدة تنص على أن "المنهج يخلق الموضوع وليس العكس" ألا ترى أن الجسم موضوع واحد مشترك بين الفزياء والطب والهندسة ،وهي علوم متباينة عجز أن يوحدها الموضوع المشترك وفرق بينها اختلاف زاوية النظر أي المنهج!!..وعلى هذا الأساس سنميز بين "التفسير" و"الإعجاز" لنبني على الفروق المنهجية اختلاف الأحكام فنقلل عندئذ من حجم التخليط:[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]
[FONT=&quot]1-اعتبار مقاصد الخطابين يجعل "التفسير العلمي" من الفروع و "الإعجاز العلمي" من الأصول- ونحن نحمل الفروع والأصول هنا على اصطلاح المتكلمين-فنعني بالفروع اندراج التفسير العلمي ضمن الفقه العام (أو التفقه في الدين) على اعتبار التفسير(بكل أنواعه، علمي أوغير علمي ) محاولة لفهم كلام رب العالمين ...ونعني بالأصول الجانب الاستدلالي الذي قد يسمى علم التوحيد (عند المتكلمين ) أو علم أصول الدين..والفرق بين المفهومين واضح جدا فالتفسير العلمي يسعى إلى الاستدلال بالأية القرآنية، أما الإعجاز فهويرمي إلى الاستدلال عليها ![/FONT]
[FONT=&quot]ولنقل بعبارات واضحات إن المفسر يريد أن يفهم الآية ،أما الإعجازي فيريد أن يثبت أن هذه الآية منزلة من الله .[/FONT]
[FONT=&quot]2-"التفسير العلمي" خطاب تأويلي،و"الإعجاز العلمي" خطاب حجاجي..ومن ثم يشتغل في الأول بالمنطق اللغوي ،ولا يشتغل في الثاني إلابالمنطق العقلي وحده..فتكون النتيجة :مطالبة المفسر بالظني ومطالبة الإعجازي بالقطعي(على نحو ما يكتفى بالظني في "علم الفقه " ولا يكتفي في "علم التوحيد" بأقل من القطعي)[/FONT]
[FONT=&quot]ولا حاجة إلى التنبيه على أن مطلق الظن غير مقبول ( لا في فقه ولافي تفسير) ،بل لابد من تقييده بصفة الرجوح من بعد عرضه على معايير العلماء في تمييزهم بين التفسير بالرأي الجائز والرأي الممنوع!![/FONT]
[FONT=&quot]وفي مجال الحجاج إما أن يكون الدليل قطعيا وإما السكوت !![/FONT]
[FONT=&quot]لأن الحجة الضعيفة توريط للقضية ![/FONT]
[FONT=&quot]وفي موضوعنا تكون الحجة الضعيفة قوة للطاعن في القرآن وللمرتاب فيه..[/FONT]
[FONT=&quot]ولو كان المحتج للقرآن يعي هذا الأمر لأدرك أن السكوت كان خيرا له..وقد انتبه إلى هذه الآفة ابن تيمية –رحمه الله-عندما قرر أنه عند الاحتجاج لا بد من قطع أصول المخالف ونسفها نسفا ، فانتقد على المتكلمين ضعف حججهم ورأى- عن حق –أن خصومهم من الفلاسفة لن ينسبوا هذا الضعف إلى المتكلمين بل إلى الشريعة نفسها.ومن ثم ينقلب المقصود على المتكلمين أرادوا الانتصار للشرع فأوهنوه!![/FONT]
[FONT=&quot]بناء على هذا التقرير لا نقبل من الإعجازيين إلا القطع،بل القطع المزدوج،[/FONT]
[FONT=&quot]قطع بالمنطوق العلمي (على قواعد الابستملوجيا) وقطع في التنزيل على المنطوق القرآني (على قواعد اللغة وعلم التفسير) ودون ذلك خرط القتاد كما سنبين إن شاء الله..[/FONT]
 
السلام عليكم ورحمة الله

أوافق أبو عبد المعز في هذه المداخلة الأخيرة تماما الموافقة، بل إني أعتبرها تمثل مضمون منهجي في عدد غير قليل من الدراسات أنشرها منذ سنوات، وأُدرجها تباعاً في مدونة أنشأتها خصيصاً لهذا لأمر : القرآن والعلم
أو لنقل، أني أعتبر بعض الدراسات التي نشرتها على هذه المدونة أمثلة فجة لأخطاء الإعجاز العلمي، لم يحط بعض أصحابه علماً بما يتكلمون فيه، سواء في معاني آيات القرآن ولا المعاني الطبيعية التي توهموها، فتناقضوا وارتدت أخطائهم لتنال مما يحتجون له.
ثم خشيت أن ينعكس ذلك على مبدأ علاقة القرآن بعيون الموضوعات الطبيعية التي أساءوا لحديث القرآن عنها، فقمت بالانتصار للتفسير العلمي المستبصر. أي الذي يقدم الفهم والترجيح. ونشرت بعض الدراسات التي تنتصر لذلك، وأظني - أدعو الله تعالى- على ذلك حفيظ عليم، كما قال يوسف عليه السلام.

أما تشبيه التفسير العلمي بالإسرائيليات، فهذا تشبيه في غير محله، لأن الإسرائليات غير ممكن الوقوف على صدقها إن لم يمكن محاكمتها بالقرآن. أما العلم الحديث فالوقوف على (درجة) صدق كل مقولاته في متناول اليد لمن تأهل له واقتحم العقبة. أما من أتى من مقولات الغربيين بكل كلامهم يظنه علماً، فهذا لغو من ناقل يحمل الغث مع السمين، وسامع لا يميز بين حق وباطل. وهذا لا يبرر تشبيه "التفسير العلمي المستبصر" بالإسرائيليات، إلا أمكن تشبيه "الفقه" عند من "لا يفقه" بأنه من الإسرائيليات أيضاً.

يسعدني قبول الرأي والنصيحة من المخالفين، ولا يعجبني الإعراض عن الرد!
عزالدين كزابر
 
.. قمت بالانتصار للتفسير العلمي المستبصر. أي الذي يقدم الفهم والترجيح. ونشرت بعض الدراسات التي تنتصر لذلك، وأظني - أدعو الله تعالى- على ذلك حفيظ عليم، كما قال يوسف عليه السلام.
حبذا لو تعطينا أمثلة على تلك الدراسات
أما تشبيه التفسير العلمي بالإسرائيليات ، فهذا تشبيه في غير محله
أوافقك تمام الموافقة
كما أعجبنى تعليلك لخطأ هذا التشبيه ، والمتمثل فى قولك :
لأن الإسرائيليات غير ممكن الوقوف على صدقها إن لم يمكن محاكمتها بالقرآن . أما العلم الحديث فالوقوف على (درجة) صدق كل مقولاته في متناول اليد لمن تأهل له واقتحم العقبة
صدقت ، بارك الله فيك
 
السلام عليكم ورحمة الله
شكراً لك أخي العزيز،
الدراسات التي سألتني عنها أنشرها تباعاً على نفس رابطة المدونة التي أشرت إليها أعلى،
أقصد: القرآن والعلم
تحت تصنيف ............................................... (أطروحات جديدة في التفسير العلمي)
هذا بالإضافة إلى نقد أخطاء الإعجاز والمُدرج تحت تصنيف ....(أطروحات متهافتة في التفسير العلمي)
وما يغلب عليه الطابع اللغوي منهما جمعته تحت تصنيف ........(دراسات لُغوية في التفسير العلمي)

مع خالص التحية
 
لا، بل هناك وجه تشابه سيدي الفاضل عزالدين،
هناك تشابه بين إسرائيليات القدامى وإسرائيليات المعاصرين وإذا كانت إسرائيليات العصر قابلة للتفنيد فإن هذا ينطبق أيضا على إسرائيليات القدامى بسبب وجود إسرائيليات معارضة للمعلوم من الدين بالضرورة أو معارضة للمحكمات أو معارضة للإجماع، وطبعا هذا لا ينطبق على كل إسرائيليات القدامى ونفس الشيء يسري على إسرائيليات المعاصرين وإذا نظرنا إلى حشو المهتمين بما يسمى الإعجاز العلمي رأينا كل ما هب ودب من فرضيات ونظريات ناهيك عن تجاوزات لا تطاق في تفسير معطيات النظريات إلى جانب التجاوزات في تفسير معاني كتاب الله لغويا. ومن المعلوم أن المحاولات التفسيرية لا يمكن الوقوف على صدقها لأن النظرية، فضلا عن التخمين، مجموعة من النماذج إضافة إلى المطالبة المستمرة بمواقفة النماذج للواقع (بأدوات كل جديد في إكتساب المعطيات الحسية وإجراء التجارب). هذه الإستمرارية إلى جانب الطبيعة الحيوية للنظرية (أي إجرائيتها في مجال يرفع دائما من إحتمال الإستمرارية الفعّالة) هو الأمر الذي يميز بين مراتب النظرية، إذن منطقيا لا يمكن الوقوف على صدق النظرية، أما من الناحية العملية فإن النظرية التي تتقوى كلما إستمرت في التكيف مع الجديد في حيويتها ترتفع إلى مستوى الظن المعتبر بسبب الإجماع حولها أو بسبب قوة مناعتها ضد عدد كبير من التجارب والمعطيات التي تستهدف تقويضها.

وعليه فإن الذي لا نرفضه من جهة المبدأ هو المعطيات الحسية (empirical data) التي يصل إليها الإنسان بإستخدام إبتكارات آلية جديدة وأي دراسة تحاول أن توافق بين آي القرآن وهذه المعطيات نسميها "موافقات" (جريا على إصطلاح مالك بن نبي رحمه الله) لا إعجازيات، وهذه الموافقة من الأعلى إلى الأدنى: القرآن يثبت المعطيات الجديدة. بهذا التعبير لأنه مهم جدا.
أما النظريات القوية يأخذ بها الباحث الذي يفهم لغة القرآن ولغتي العلم الطبيعي (observational non-logical terms و non-observational non-logical terms) بها من زاوية "الإجتهاد" دون الإخلال بشروط التفسير العلمي القرآني ولا التفسير العلمي النظري، وبدون رد الإجتهادات الأخرى التي نشأت بمناهج مختلفة، هذا إذا قرر الباحث أن لا يأخذ بالآراء النقدية لمثل هذه التفاسير.
 
تشابه ؟؟؟
مانراه هو وصم بالتطابق التام بين الاعجاز العلمي والاسرائيليات وليس تشابه (حسب اعتقاد القائلين بذلك) وأول دليل على ذلك هو تسميتها بالاسرائيليات فهذا كافٍ في نظري لقراءة الموقف الحقيقي والذي اعتبره غير علمي وغير موضوعي بصورته هذه برغم مآخذي العديدة على ما يسمى الاعجاز العلمي ولكن توصيف ما افضيتم اليه هو (الشطط)
 
أخي العزيز / الأستاذ زاوشثتي
السلام عليكم ورحمة الله

مرة أخرى، أرى أن التشابه المحكي عنه لا وجه له ، وهذه المرة لسبب مختلف عن الأول، ويُضاف إليه.

في رأي أبو عبد المعز، يعود التشابه مع الإسرائيليات لعلة عدم وقوفنا على حسم صحة التفسير العلمي كما هو الحال في الإسرائيليات (أي أننا ننقل المعنى العلمي الحديث عن غيرنا – ومنهم اليهود – بغرض تفسير القرآن)

وفي رأيك في مداخلتك # 23 – أخي الفاضل – يعود التشابه مع الإسرائليات لعلة عدم وقوفنا على حسم صحة التفسير العلمي لاحتمالية صحة التفسير وعدم القطع به، كما هو الحال في الإسرائليات كما ظننت أنت.

وأُفصِّل الأمر كالآتي:
تعود تسمية الإسائيليات لما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: [ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم]، أي أن إسم الإسرائليات – إن أريد نقله - أصبح علماً فقط على ما لا يمكن الوقوف على صحته على التأبيد.

فما قالوه وصدقهم فيه القرآن أو النبي، أو كذبهم فيه القرآن أو النبي لم يعد من الإسرائليات، بل أصبح حقاً بإحقاق القرآن أو النبي له، أو كذباً بتكذيبه، وخرج من فئة الإسرائليات التي قصدها الحديث، والتي يُستأنس بها فقط في كتب التفسير.

فإذا أُريد حمل الإسم على فئة من المسائل غير عين ما رواه بنو إسرائيل المجهول الصحة على التأبيد، وجب أن تتوفر لكل مسائل تلك الفئة علة التسمية، أي: الجهل بصحة تلك المسائل على التأبيد. فإن خلت العلة من التأبيد، وكان من الجائز أن تعرف الصحة في المستقبل مهما طال أمده، لم يعد حمل الإسم جائزاً. وهذا ما يجعل كل من تشبيه أبو عبد المعز، وتشبيهك غير صحيح.

أما الفرق بين تشبيه أبو عبد المعز وتشبيهك، فهو أن أبو عبد المعز أجاز التسمية لعلة النقل العلمي عن بني إسارئيل – ومعهم النصارى – وقال: ["إذا ما قصد بـ (المروي عن بني إسرائيل في علم الفلك أو في علم الأرض ، ...) تفسير آية قرآنية أو تعيين دلالة في حديث نبوي فإن ذلك المروي سيغدو من" الإسرائيليات"]، فكان المحك عنده هو "نقل عن مجهول الصدق"، وهذا يتضمن أن كل الكشوف العلمية أصبحت عند المسلمين نقل، فإذا استخدموها في تفسير القرآن أصبحت "إسرائليات"، ولهذا اعترضت على هذا التصور، وقلت في المشاركة # 20: [ أما العلم الحديث فالوقوف على (درجة) صدق كل مقولاته في متناول اليد لمن تأهل له] وقصدت بذلك أن الاجتهاد في العلم الحديث هو الأصل، وأن التفسير العلمي القائم عليه – والذي سميته التفسير العلمي المستبصر تأسياً بالآية "عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي"- لن يهبط لمستوى الإسرائليات. وزدت الأمر وضوحاً وقلت: [لا يبرر تشبيه "التفسير العلمي المستبصر" بالإسرائيليات، إلا أمكن تشبيه "الفقه" عند من "لا يفقه" بأنه من الإسرائيليات أيضاً] بحكم أن ناقل فقهاً عن جهالة به ليس فقيهاً، فيستوي هو ومن ينقل العلوم الحديثة غير الواقف على صدقها. فيكون الفقه المنقول بواسطة جهلاء غير عالمين بتأصيله من الإسرائليات رغم أنه قابل للتأصيل لو تأهل له الناقلون. ولأن هذا غير صحيح، فعلة التسمية التي استخدمها أبو عبد المعز غير صحيحة. لأن جهل الناقل بصدق المنقول وعدم قدرته على الزود عنه لا تبرر تسمية المنقول إسرائليات.

أما تشبيهك، فأراك قد أحلت التسمية إلى احتمالية صدق المنقول، وهذا غير صحيح لغياب مسألة التأبيد كما ذكرت، لأن النظريات العلمية على المنهج العلمي الحديث - مهما طال عليها الأمد – فسيظهر أنها صحيحة، أو راجحة، أو مرجوحة أو فاسدة، وذلك بحكم المتابعة الدؤوب عليها. وإذا تأمل العلماء المسلمون في البحث العلمي الحديث، مزيد من العلم في شيء منه، لاستخدامه في التفسير العلمي، أخرجه ذلك من البداية من علة التشابه مع الإسرائليات.

ومثلما كان تشبيه أبو عبد المعز يطال تشبيهه ناقل الفقه الجاهل بعلله، في وصم فقهه بالإسرائليات، فكذلك يمثل تشبيهك خطورة أخرى وهي أن محض الاحتمال لتفسيرٍ ما، يدخله في الإسرائليات، وهذا سيطال كل وجوه التفسير المبثوثة في كتب التفسير وبما تشمل أقوال الصحابة رضي اله عنهم. !!! نعم، فالكثير من أقوالهم جاءت على سبيل الاحتمال اللغوي لمعاني الآيات. ومثال ذلك قول ابن عباس في العاديات أنها الخيل، وقول علي ابن أبي طالب أنها الإبل يوم عرفه، وهما تفسيران لا يلتقيان أبدا. وقد رجَّحت خطأ هذين التفسيرين في مقال لي صغير – على المدونة - بعنون "حول ضبح العاديات، وموران قدحها، ..."

هكذا إذا يكون التشبيه إذا لم يقم على العلة الصحيحة (تأبيد عدم العلم بصدق المنقول لما يُسمَّى إسرائيليات) انفك عنه الصواب، بل وألحقه بفئات (نقل الجاهل لفقه صحيح يمكن الوقوف على صحته)، أو (وجه تفسيري محتمل مُتأمل في حسمه مع الزمن).

وإذا صدق تشبيه أبو عبد المعز وتشبيهك في آن واحد، فحتماً يكون البحث العلمي المعاصر بقضه وقضيضه من إسرائيليات العصر !!! ولا يعفيه من هذا الاسم كونه من خارج الدين، كما أشار أبو عبد المعز في قوله " لا حرج أن يسلك عموم المروي عن بني إسرائيل في علم الفلك أو في علم الأرض.. ولكن إذا ما قصد به تفسير آية قرآنية أو تعيين دلالة في حديث نبوي فإن ذلك المروي سيغدو من" الإسرائيليات" وليس من علم الفلك .."، فالعبرة في العلم "صدقه فيما يحكي عنه" فإن حل الشك والتخبط فقول الله تعالى " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " هو الراية الهادية لأتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم. ولأن العلم الحديث مليء بالصدق الممكن الوقوف عليه، فالتنظير المؤدي إلى كونه إسرائيليات بالضرورة (أقصد تنظير أبو عبد المعز وتنظيرك)، تنظير واجب المراجعة.

والحق يقال أن هذا الحكم اللازم عن تشبيهاتكم وصمة تبخيسية شديدة للعلم، والمنهج العلمي: صالحه وفاسده، وفي خبطة واحدة، وهذا كله قائم على تشبيه لُغوي خاطئ، ظاهره التنظير، وباطنه الالتباس، وإسقاط أحكام معياريه تكشف حال أغلب المُنَظِّرين في الحكم على أطنان من المسائل العلمية بحكم مجمل واحد. والحكم المجمل أخطر ما يطلق في المسائل العلمية كما قال ابن تيمية في مجموع فتاويه، لأنه إن أحل حلالاً فسيحل معه حراما، وإن حرم حراماً فسيحرم معه حلالا. وها نحن نراه هنا يُحرِّم التفسير العلمي – عندما جعله ابتداع إسرائيليات عصرية؛ أي قول بلا علم- رغم أن مبدأ التفسير العلمي والكثير من مسائله المطروحة صحيح. وليس هناك أشنع من حكمٍ هذا شأنه. وهذا ما دعاني في المداخلة # 8 إلى (دعم المعالجة العلمية التي تتصدى لعيون المسائل) دون المعالجات العامة التي تطمس الفروق، فيلتبس الصالح بالطالح]

لكل ما سبق، يُعد حمل مُسمّى "إسرائليات العصر" على "التفسير العلمي" غير صحيح. ولا يصح إلا لما كان مجهول الصحة على التأبيد. وأمثال ذلك، تاريخ الأمم على الرواية والتي تدخل الآن في علم الأساطير mythology، أما "التفسير العلمي المستبصر للقرآن وصحيح السنة"، و"العلم الحديث المحقق" فلا وألف لا.

مع التحية
 
أستاذي أبو عبدالمعز
وماكان يضير طرحك لو أنك تركت مصطلح ( الإسرائيليات ) على دلالته الأصلية دون أن تلحق به دلالات مخترعة ، وقمت بحصر ماذكر أنه تفسير علمي لبعض آي القرآن وتناولته بالنقد وكشفت بطلانه ، وفتحت المجال لإخوانك لمناقشة نقدك ، بل وحاولت الإتفاق معهم على ضوابط علمية يمرر عليها كل قول من هذا القبيل لقبوله أو رده ، ألا يظن فضيلتكم أن ذلك كان أولى وأجدى ؟
ولو أن كل مصطلح علمي شرعي أجزنا عليه التغييرات والإضافات في دلاته لما بقي للمسلمين مصطلح علمي شرعي على دلالته الأصلية !
وأرى أن المصطلحات من ----أدوات العلم ---- التي ينبغي المحافظة عليها وعدم العبث بها!
جزاكم الله خيرا على ماتقدمون ونفعني والمسلمين بعلمكم .
 
أساتذتي الكرام عدنان، عزالدين ومحمد عبدالله،،
شكرا على تعقيباتكم وبارك الله فيكم.

شخصيا لا أستخدم "إسرائيليات العصر" كمصطلح أو كمفهوم بل كتمثيل (فأي تطابق في التمثيل؟) وقد بينت وجها من التشابه وفي نقطة معيّنة لا أتفق مع الأستاذ الكريم عزالدين في محاولته لإسقاط أقسام الإسرائيليات ثم الحفاظ على قسم واحد. هناك إسرائيليات مستغنى عنها وأخرى متوقف فيها والثالثة مرفوضة. ودون التفاصيل لأن القسم المستغنى عنه هو المضمون الذي يوافق ما عندنا لكن السؤال كيف ذلك يؤدي إلى تفاصيل. هنا وجب الإشارة إلى أخذي بالتمثيل: ليس لأن القرآن العظيم جاء مصدقا لما بين يدي أهل الكتاب معناه نأخذ كل شيء منهم (وفيما لا يتعارض مع الإسلام هناك مواقف مختلفة من الأخذ بالإسرائيليات) وكذلك ليس لأن القرآن الكريم يصدق العلم معناه نأخذ كل شيء يقال بإسم العلم لنشرح به كلام الله.

وقولك أخي عزالدين (أن النظريات العلمية على المنهج العلمي الحديث - مهما طال عليها الأمد – فسيظهر أنها صحيحة، أو راجحة، أو مرجوحة أو فاسدة، وذلك بحكم المتابعة الدؤوب عليها) قول غير صحيح بالكامل. وجب إستبدال جملة "فسيظهر أنها صحيحة" بجملة "فسيظهر أنها مازالت قائمة" لأن النظرية جملة من النماذج والنماذج (مثل الرياضيات) إذا تطابقت مع الواقع لم تعد نماذج بل تصبح مجموعة من المعطيات تنقلب بدورها وحدة تفتقر إلى تفسير وبالتالي إلى نظرية مثلما حصل مع الخلية التي إنتقلت من تصورات فتخمينات فنظرية ثم مجموعة من المعطيات ومن هنالك عودة إلى النظرية، إذن عندما نتحدث اليوم عن الخلية فإننا نتكلم عن نظرية هي نظرية الخلية كما نقصد الخلية وهي وحدة من المعطيات. إذا كان هذا ممكن الحصول مع نظريات تفسر "الواقع" فإنه مستحيل في نظريات تفسر "تاريخ الواقع".

حياكم الله
 
عودة
أعلى